المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ محمد بن إسحاق المطلبي - أوائل المؤلفين في السيرة النبوية

[عبد الشافى محمد عبد اللطيف]

الفصل: ‌ محمد بن إسحاق المطلبي

3-

‌ محمد بن إسحاق المطَّلبي

1:

إذا نحن وصلنا إلى ابن إسحاق فقد وصلنا إلى إمام الأئمة وأكبر علماء السير والمغازي على الإطلاق، وفي كل العصور، ومن عليه كان اعتماد كل من كتب في السيرة النبوية ومغازي الرسول صلى الله عليه وسلم ممن جاءوا بعده.

فهو فارس هذا الميدان دون منازع، ولقد شهد له بذلك جمع من العلماء، منهم أستاذه، محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، حيث قال:"من أراد المغازي فعليه بابن إسحاق". وقال عنه الإمام الشافعي: "من أراد التبحر في المغازي فهو عيال على ابن إسحاق". ويقول عنه ابن خلِّكان -وهو راوي هذه الأخبار: "وأما في المغازي والسير فلا تجهل إمامته". وسئل يحيى بن معين عن ابن إسحاق فقال: "قال عاصم بن عمر بن قتادة: لا يزال في الناس علم ما عاش ابن إسحاق". وقال سفيان بن عيينة: "لا يزال

1 انظر فيما يتعلق بابن إسحاق وأخباره ومكانته العلمية وآراء العلماء فيه، المصادر الآتية: 1- الطبقات الكبرى لابن سعد، ج4 ص321- 322 - طبعة دار صادر بيروت. 2- الجرح والتعديل لابن أبي حاتم، القسم الثاني من المجلد الثالث ص191- 194 - دار الكتب العلمية - بيروت. 3- تاريخ بغداد للخطيب البغدادي - دار الكتاب العربي بيروت. 4- الفهرست لابن النديم - دار المعرفة بيروت. 5- تذكرة الحفاظ للذهبي ج1 ص172. 6- لسان الميزان لابن حجر، ج5، ص72 - مؤسسة الأعلى للمطبوعات، بيروت.

ص: 40

في المدينة علم ما عاش هذا الغلام -يقصد ابن إسحاق". وقال عنه الذهبي -وهو معروف بتحريه ودقته وصرامته في الحكم على الرجال: "والذي تقرر عليه العمل أن ابن إسحاق إليه المرجع في المغازي والأيام النبوية.. وكان أحد أوعية العلم، حبرًا في معرفة المغازي والسير"1. وأقوال العلماء فيه مستفيضة، وكلها مجمعة على إمامته في المغازي والسير، لذلك رأينا أن نخصه بمزيد من التقصي والتفصيل لأخباره حتى يعرف المسلمون علماءهم، وأصحاب الفضل في إيصال أخبار وسير ومغازي وجهاد رسولهم وصحابته إليهم، فمن هو ابن إسحاق؟

هو: محمد بن إسحاق بن يسار بن خيار -وقيل يسار بن كوتان- المطلبي بالولاء، المديني؛ نسبة إلى مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم وكان يكنى بأبي بكر، وقيل بأبي عبد الله، وكان جده يسار من أهل قرية عين التمر بالعراق، وقد وقع في أسر المسلمين عندما فتح خالد بن الوليد رضي الله عنه عين التمر فيما فتح من أرض العراق سنة 12هـ في خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه 11- 13هـ وأرسل يسار بن خيار مع غيره من الأسرى إلى المدينة المنورة، عاصمة الدولة الإسلامية في ذلك الوقت. ولا يعرف على وجه

1 انظر تذكرة الحفاظ للذهبي، ج1، ص172.

ص: 41

اليقين ما إذا كانت أسرته عربية أم أعجمية، وإن كان ليس بعيدًا أن تكون عربية مسيحية، وصار ولاء يسار إلى قيس بن مخرمة ابن المطلب، وقد أسلم فأعتقه مولاه، ومن ثم نسب إليهم فلقب بالمطلبي.

وكان ليسار بن خيار ثلاثة أولاد؛ أحدهم إسحاق، والد عالمنا الذي نتحدث عنه والذي طبقت شهرته الآفاق، وهو محمد بن إسحاق الذي ولد في المدينة المنورة، حوالي عام 85هـ ونشأ بها، وقد سبق أن أشرنا كثيرًا إلى بيئة المدينة وفضلها وصلاحها وحركتها العلمية الواسعة في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم ولا ينكر أحد فضل البيئة والوسط المحيط وتأثيرهما في تنشئته الناشئة، وأي بيئة أفضل من بيئة مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته وتابعيهم، ولم تكن البيئة والجو العام الذي أحاط بابن إسحاق هو الذي أثر فيه فقط، بل كانت بيئته الخاصة ذات تأثير فيه كذلك، فأبوه إسحاق بن يسار كان من العلماء وكان محدثًا وفقيهًا، روى عنه ابنه محمد، وكثيرًا ما نجده يقول: حدثني أبي إسحاق بن يسار.

وقد أدرك ابن إسحاق بعض الصحابة ممن طالت أعمارهم، فقد رأى أنس بن مالك صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وخادمه المشهور رضي الله عنه وتتلمذ على كبار التابعين، من أعيان علماء المدينة المنورة وفقهائها المعدودين المشهورين، ومنهم القاسم بن محمد

ص: 42

ابن أبي بكر الصديق، وأبان بن عثمان بن عفان -وهو من رجال الطبقة الأولى من علماء المغازي والسير، كما سبق القول عنه- ومنهم محمد بن علي بن الحسين بن علي

ابن أبي طالب، وأبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، ونافع مولى عبد الله بن عمر بن الخطاب، وعاصم بن عمر ابن قتادة بن النعمان الأنصاري. وعبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري، وغيرهم.

وقد سبق القول أن أستاذه الأكبر، والذي كان أثره فيه أكبر وأوضح من غيره، هو محمد بن مسلم بن شهاب الزهري.

رحلته إلى مصر:

لم يكتف ابن إسحاق بأنه ولد ونشأ في مدينة الرسول، وتنفس هواءها المعطر بأريج النبوة، وعطر الصحابة الكرام، بل أراد أن يتزود من علم الصحابة الآخرين، الذين تفرقوا في الآفاق ونزلوا وسكنوا الأمصار المفتوحة، فمن المعلوم أن جمعًا كبيرًا من حملة العلم النبوي من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم قد شاركوا في الفتوحات الإسلامية، بدءًا من عهد الخليفة الأول أبي بكر الصديق رضي الله عنه -ومرورًا بعهود الخلفاء الراشدين الثلاثة الآخرين، عمر بن الخطاب 13- 23هـ وعثمان بن عفان 23- 35هـ وعلي

ص: 43

ابن أبي طالب 35- 40هـ رضي الله عنهم جميعًا- وكثير من هؤلاء الصحابة لم يعودوا إلى المدينة، وإنما استوطنوا البلاد المفتوحة، وعاشوا حياتهم كلها فيها، وأصبحوا معلمين، ولهم مدارس، وتلاميذ، فأراد ابن إسحاق أن يتزود من علم هؤلاء ومن علم تلاميذهم، وأن يطلع على اتجاه مدارسهم وأفكارها فكانت رحلته الأولى إلى مصر، التي أصحبت منذ أن تم فتحها على يد الفاتح الكبير البطل الجليل عمرو بن العاص

، سنة 21هـ مركزًا من مراكز العلوم الإسلامية، فقد أسس الفاتح عمرو بن العاص مدينة الفسطاط سنة 21هـ أي عند تمام الفتح، وأسس مسجده العتيق -أو تاج الجوامع- الذي يعتبر أول مسجد يؤسس في قارة إفريقيا والذي أصبح مركزًا للدراسات الإسلامية، ومدرسة من أشهر المدارس، أساتذتها هم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم سواء الذي جاءوا مع جيش الفتح مجاهدين، أو الذي لحقوا بهم وجاءوا بعد تمام الفتح وطاب لهم المقام في أرض الكنانة، وعلى ضفاف النيل واستقروا فيها، وقد ازدهرت المدرسة المصرية في الدراسات الإسلامية، وذاع صيتها، وأصبحت لها مكانة علمية رفيعة، فتاقت نفوس علماء الأقطار الأخرى إلى زيارتها وملاقاة علمائها والأخذ عنهم وإعطائهم أيضًا، فالعلم أخذ وعطاء، فما من عالم كبير في المشرق -في ذلك الوقت- سواء في مكة المكرمة، أو المدينة المنورة،

ص: 44

أو الكوفة أو البصرة أو دمشق، أو بغداد، إلا وتراه قد زار مصر، وتعرف على علمائها وأخذ عنهم وأعطاهم.

وكان من الطبيعي أن يتطلع طالبُ علمٍ نابهٌ مثل ابن إسحاق إلى زيارة بلد مثل مصر، فشد رحاله إليها، وهو في شرخ شبابه وفي مرحلة القوة والفتوة والقدرة على السفر، والشد والترحال، وحدة الذهن والقدرة على الحفظ والاستيعاب، فقد بدأ زيارته لمصر عام 115هـ، أي عندما كان في حوالي الثلاثين من عمره، وقد تجول في أقاليم مصر، وزار مدينة الإسكندرية -التي كانت عاصمة مصر منذ أسسها الإسكندر الأكبر المقدوني، في الثلث الأخير من القرن الرابع قبل الميلاد إلى الفتح الإسلامي في منتصف القرن السابع الميلادي أي أنها ظلت عاصمة مصر قرابة ألف عام وكانت بها مدرسة علمية لها شهرة عالمية، في علوم الطب والفلك والهندسة والرياضيات والكيمياء والفلسفة.

فكان من الطبيعي أن يزور ابن إسحاق الإسكندرية ما دام قد حل بأرض مصر.

وقد التقى ابن إسحاق بكثيرين من علماء مصر، وفي مقدمتهم عالمها الأكبر، يزيد بن أبي حبيب، وروى عنه كثيرًا، وقد أشرنا فيما سبق -ونحن نتحدث عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري شيخ ابن إسحاق -إلى الوثيقة التي رواها ابن إسحاق عن يزيد

ص: 45

ابن أبي حبيب، ثم عرضها على شيخه الزهري؛ ليتأكد من صحة المعلومات التي جاءت بها، ثم التقى بعبد الله ابن جعفر، والقاسم بن قزمان، وعبيد الله بن المغيرة وغيرهم. وبعد أن تزود من علم علماء مصر -وتأثر بهم وأثر فيهم، واطلع على اتجاهات المدرسة المصرية في الدراسات الإسلامية، عاد إلى المدينة؛ ليواصل دراسته على أيدي أساتذته فيها. ولم يغادرها بصفة نهائية -على ما يرجح- إلا في رحلته الأخيرة إلى العراق بعد قيام الدولة العباسية سنة 132هـ، حيث عاش بقية حياته فيها.

رحلته إلى العراق:

عاش ابن إسحاق في المدينة بصفة مستمرة حوالي نصف قرن، ولم يغادرها إلا للحج إلى مكة المكرمة، وزيارته لمصر سنة 115هـ -والتي يبدو أنها لم تطل- ويبدو أن من الأسباب التي جعلت ابن إسحاق يلزم المدينة المنورة ولم يغادرها كثيرًا أن صلته لم تكن ودية مع دولة بني أمية، فلم نسمع أنه قام بزيارة لعاصمتهم دمشق، وذلك عكس أستاذه محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، الذي كان على علاقة وطيدة مع خلفاء بني أمية ومنحوه ثقتهم، خاصة أصلحهم وأعلمهم عمر بن عبد العزيز، وقد رأينا فيما سبق ثناء عمر بن عبد العزيز على الزهري. أما تلميذه

ص: 46

ابن إسحاق فلم نسمع منه أنه اتصل بأحد من خلفاء بني أمية، ولعل موقف ابن إسحاق هذا من الدولة الأموية كان منسجمًا مع موقف عامة أهل المدينة الذين كانوا لا يحملون ودًّا لبني أمية، ولم تنطوِ قلوبهم على حب لدولتهم وخلفائها ورجالها -باستثناء عمر بن عبد العزيز -الذي كان موضع حب وإعجاب وثقة جميع المسلمين على اختلاف اتجاهاتهم ومشاربهم لسلوكه القويم وصلاحه وتقواه وعدله وطهارة سيرته- أما بقية خلفاء بني أمية فلم يحظوا بحب أهل المدينة ولا رضاهم، أو قل إن موقف أهل المدينة من خلفاء بني أمية كان أقرب إلى العداء والبغضاء منه إلى الولاء والحب والود.

ولعل أهل المدينة لم ينسَوْا قط يوم الحرة أو موقعة الحرة التي جرت بينهم وبين جيش الخليفة الأموي يزيد بن معاوية سنة 63هـ على أثر ثورتهم ضده التي قادها عبد الله بن حنظلة، والتي انتهت بهزيمتهم وقتل الكثيرين منهم.

ونسب للجيش الأموي أعمال فظيعة، إذا صحت تكون كارثة؛ لأنها تخالف مبادئ الإسلام، وآداب الحرب فيه، حتى مع غير المسلمين، فكيف مع مسلمين يعيشون في جوار رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! على أية حال لم ينسَ أهل المدينة ذلك اليوم ولم تصفُ نفوسهم لبني أمية، وظلت

ص: 47

ذكرى ذلك اليوم الحزين عالقة في نفوسهم، وكان ابن إسحاق واحدًا منهم، شاركهم في مشاعرهم تلك وليس هذا غريبًا.

لقد أطلت في توضيح صلة أهل المدينة -بصفة عامة- ببني أمية ومحمد بن إسحاق بصفة خاصة؛ لأن العلاقات السياسية كانت ذات تأثير على معظم أوجه الحياة، ورضا رجال السياسة عن العلماء كان يعطيهم فرصة أكبر في حرية الحركة والتجوال في البلاد وزيارة المراكز العلمية..

وتصديقًا لذلك ما إن سقطت دولة بني أمية سنة 132هـ وقامت دولة بني العباس حتى رأينا ابن إسحاق يشد رحاله مغادرًا المدينة -التي لم يكد يبرحها قرابة نصف قرن- إلى العراق ويتجول في أرجائها من الكوفة إلى الجزيرة، وأخيرًا يلقى عصا تسياره في المدينة المدورة أو مدينة السلام أو مدينة المنصور -بغداد- تلك المدينة التي أخذت -منذ نشأتها سنة 145هـ- تخلب الألباب وتخطف الأبصار فهي مقام الخلافة، وحاضرة الإسلام، ومركز الأضواء والشهرة، ومقر العلماء والشعراء والأدباء، فليس غريبًا أن يطيب المقام لابن إسحاق في مدينة لها كل تلك المميزات.

وقد اتصل ابن إسحاق -لعلمه وشهرته- بقمة الدولة ورأس الهرم الاجتماعي، الخليفة الذائع الصيت، ومؤسس بغداد، بل

ص: 48

المؤسس الحقيقي للدولة العباسية، أبي جعفر المنصور، وتوثقت الصلة بين الرجلين، حتى أشيع أن كتاب المغازي -أو ما عرف بسيرة ابن إسحاق وهو سبب شهرته- قد وضعه بناءً على طلب المنصور، لابنه محمد الذي سيعرف بالخليفة المهدي فيما بعد.

وقد عاش ابن إسحاق ما تبقى من حياته في كنف الخليفة المنصور في بغداد حتى وافته منيته سنة 151هـ على أرجح الأقوال.

علاقة محمد بن إسحاق بمالك بن أنس وهشام بن عروة:

لا يكتمل الحديث عن ابن إسحاق إلا إذا عرفنا تلك الشخصية من مختلف جوانبها وفي كل أحوالها، خاصة علاقته برجلين من كبار رجالات المدينة المنورة، ومن ذوي النفوذ العلمي والكلمة المسموعة فيها، وهما: مالك بن أنس الأصبحي، الإمام المشهور، ورأس المذهب الفقهي المعروف الذي ينسب إليه، وثانيهما: هو هشام بن عروة بن الزبير بن العوام، فمعظم المصادر التي تناولت حياة ابن إسحاق وترجمت له تحدثت عن خلاف وقع بينه وبين كل من مالك بن أنس وهشام بن عروة. ولقد بالغ بعض الباحثين المُحْدَثين1 في أمر ذلك الخلاف حتى جعلوه أحد الأسباب

1 انظر: "المغازي الأولى ومؤلفوها" ص78.

ص: 49

التي حملت ابن إسحاق على مغادرة مسقط رأسه -المدينة المنورة- إلى العراق. ونحن لا ننكر أمر الخلاف الذي كان بين ابن إسحاق، وبين كل من مالك بن أنس وهشام بن عروة، فهذا الخلاف مشهور، ومسطور في معظم المصادر الموثوق منها.

ولكننا لا نرى أنه وصل إلى حد العداوة التي حملت ابن إسحاق على مغادرة موطنه، فالخلاف بين بعض العلماء -والقائم في معظمه على اختلاف وجهات النظر في المسائل العلمية- لم يكد يخلو منه جيل ولا قبيل من العلماء، وهذه طبيعة البشر في كل زمان ومكان، والمعاصرة حجاب كما يقولون.

ورغم ذلك لم نسمع أن عالمًا ترك وطنه ورحل إلى غيره من أجل خلاف حدث بينه وبين بعض أقرانه، ثم لو كان ذلك الخلاف هو سبب مغادرة ابن إسحاق المدينة المنورة، فلماذا بقي فيها نصف قرن قبل مغادرتها عند سقوط الدولة الأموية.

وبعد: فعلك أيها القارئ الكريم قد تاقت نفسك إلى معرفة شيء من أمر هذا الخلاف الذي وقع بين هؤلاء الرجال الكبار والعلماء الأفذاذ، ولا تثريب علينا في إيراد ذلك الخلاف ومعرفته، فهؤلاء ليسوا ملائكة، وإنما هم بشر، يختلفون ويحبون ويكرهون بل ويتعادون، وليس في ذلك خروج على طبائع الأشياء بشرط ألا يحمل ذلك أحدهم على الفحش والفجور في حق من يخالفه

ص: 50

أو يخاصمه، وأعتقد أن الأمر بينهم لم يصل إلى شيء من هذا، وحاشا لله أن يصل إلى هذا؛ وهم من هم علمًا وتقى وصلاحًا، ونحن نورد أمر هذا الخلاف لما كان له من أثر على موقف بعض العلماء من ابن إسحاق، خاصة في روايته للحديث.

وفيما يتعلق بالخلاف بين ابن إسحاق ومالك بن أنس تتحدث المصادر فتذكر أن ابن إسحاق كان يطعن في نسب الإمام مالك بن أنس الأصبحي -الذي ينسب إلى قبيلة أصبح العربية اليمنية- ويزعم أنه مولى من موالي بني تميم، ولا ندري كيف يقول ابن إسحاق ذلك عن مالك في مقام الانتقاص منه، وهو نفسه مولى، وكون الإنسان مولى لا ينتقص من قدره، خاصة في أوساط العلماء، والولاء هنا هو ولاء المحالفة والمودة، وليس ولاء العبد للحر.

وقد كان هناك رجال من الموالي العلماء الذين حازوا احترام كل الناس من عرب وعجم، مثل الحسن البصري؛ الذي قيل: إنه عندما توفي سنة 110هـ في البصرة، خرج الناس جميعًا يشيعون جنازته، حتى لم يوجد في البصرة من يقيم صلاة العصر، وكذلك كانت نظرة الناس لمحمد بن سيرين وغيره من الموالي -لهذا الأثر في أن ما نسب لابن إسحاق في ذلك صحيح، لأنه لو كان في الولاء نقص لعاد عليه هو نفسه.

ص: 51

أما الذي يمكن أن يكون سببًا من أسباب الخلاف، فهو كثرة انتقاد ابن إسحاق لعلم مالك، فقد روى عنه أنه كان يقول:"ائتوني ببعض كتب مالك؛ حتى أبين عيوبه، أنا بيطار كتبه". فلما سمع مالك ذلك حنق على ابن إسحاق، وحمل عليه، وسفَّه علمه.

وقد روى الخطيب البغدادي عن أحد تلاميذ ابن إسحاق؛ وهو عبد الله بن إدريس أنه قال: قلت لمالك بن أنس -وقد ذكر المغازي: قال ابن إسحاق: أنا بيطارها. فقال: هو قال لك: أنا بيطارها، نحن نفيناه من المدينة. ويضيف العلماء سببًا آخر للخلاف والجفاء بين ابن إسحاق، والإمام مالك بن أنس، فيقولون: إن ابن إسحاق كان يتهم بالتشيع، فعاداه مالك بن أنس -وهو إمام من أكبر أئمة أهل السنة -من أجل ذلك1. وإذا كان ذلك الاتهام صحيحًا فمن الجائز أن يكون أيضًا وراء الجفاء وعدم المودة بين ابن إسحاق والدولة الأموية. هذا عن الخلاف -وأسبابه- بين ابن إسحاق والإمام مالك بن أنس.

أما خلاف ابن إسحاق مع هشام بن عروة بن الزبير، فترجعه المصادر التي تناولته إلى أن ابن إسحاق كان يروي الحديث عن فاطمة بنت المنذر -زوج هشام بن عروة- فأغضب ذلك هشامًا وأثار غيرته وحفيظته، وقال: "متى دخل عليها، ومتى سمع

1 انظر، تاريخ بغداد للخطيب البغدادي ج1 ص223- 224.

ص: 52

منها؟! "1. ويبدو أن رواية ابن إسحاق عن فاطمة بنت النذر صحيحة، أكدها سفيان الثوري حين سئل: أكان ابن إسحاق قد جالس فاطمة بنت المنذر وسمع منها؟ فقال: "أخبرني ابن إسحاق أنها حدثته وأنه دخل عليها"2. وهذا الخبر في حد ذاته ليس غريبًا ولا مستنكرًا، إنما الغريب حقًّا هو غضب هشام بن عروة من ابن إسحاق، وحملته عليه بسببه، فرواية الرجال عن النساء وقعت وتقع كثيرًا، ولم يستغربه أو ينكره أحد من علماء المسلمين، وقد روى الصحابة والتابعون عن أمهات المؤمنين أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ولم يستنكر ذلك أحد. بل إن ابن إسحاق نفسه روى عن زوجة أستاذ آخر من أساتذته، وهي فاطمة بنت عمارة الأنصارية؛ زوج عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري، ولم ينكره ولم يعترض عليه، بل يروى أن زوجها نفسه -عبد الله بن أبي بكر- هو الذي طلب منها أن تحدث ابن إسحاق وقال لها: "حدثي محمدًا ما سمعت من عمرة بنت عبد الرحمن، فقالت له -أي لابن إسحاق: "سمعت عمرة تقول: سمعت عائشة تقول

إلى آخر الحديث". فرواية ابن إسحاق إذًا عن فاطمة بنت المنذر -زوج هشام بن عروة- ليست حدثًا فريدًا نادر الوقوع، بل هو أمر مألوف في تراثنا

1 انظر، الفهرست لابن النديم، ص136.

2 تاريخ بغداد، ج1، ص221.

ص: 53

الإسلامي ولا غبار عليه. وفوق ذلك فإن فارق السن بين فاطمة بنت النذر وبين تلميذها ابن إسحاق كبير وينتفي معه أي سبب للغيرة -التي هي شيء طبيعي في طبائع الناس لو كان لها ما يبررها- فقد ولدت فاطمة -زوج هشام- عام 48هـ. وأما ابن إسحاق فقد ولد عام 85 هـ كما سبق ذكره، فهي تكبره بسبع وثلاثين سنة.

مكانة ابن إسحاق العلمية:

سبق الحديث عن مكانة ابن إسحاق العلمية وإمامته في علم المغازي والسير ولا يكاد يوجد خلاف -بل هناك إجماع- على أنه إمام ورائد في ذلك الفن، وكتابه في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم عمدة في ذلك العلم الجليل، وعليه اعتمد ومنه أخذ ونهل كل من كتب بعده في سيرة الرسول ومغازيه، وإليك آراء العلماء في مكانة ابن إسحاق، ودرجة الثقة به في الحديث الشريف عن رجال الجرح والتعديل.

فمن المعلوم أن العلماء -خاصة رجال الجرح والتعديل أو من يسمون بعلماء الرجال- يتشددون للغاية في الحكم على الرجال الذين يأخذون عنهم الحديث، أكثر من تشددهم في الحكم على رجال المغازي والسير ورواة التاريخ والأخبار، وذلك لأن الحديث الشريف هو المصدر الثاني من مصادر الشريعة الإسلامية -بعد القرآن الكريم- وينبني عليه معرفة الحلال والحرام، وأحكام

ص: 54

العبادات والمعاملات. لذلك وضع علماء الجرح والتعديل شروطًا قاسية لرجال السند -سند الحديث- وهم سلسلة الرواة، وليس هنا مكان تفصيل ذلك.

ورغم كل ذلك فإن معظم علماء الحديث يكادون يجمعون على توثيق حديث ابن إسحاق، فقد سئل يحيى بن معين -وهو من هو في علم الرجال- فقال:"كان ثقة حسن الحديث"1. وقال شعبة بن الحجاج: "محمد بن إسحاق أمير المؤمنين في الحديث"، وقال: "لو سوِّد أحد في الحديث لسود ابن إسحاق"2. وسئل على بن المديني عن ابن إسحاق: كيف حديث محمد بن إسحاق عندك، صحيح؟ قال:"نعم، حديثه عندي صحيح"3. وقال أبو بكر بن الأثرم: سألت أحمد بن حنبل عن محمد بن إسحاق كيف هو؟ فقال: "هو حسن الحديث"4.

وقد روي عن الزهري -شيخ ابن إسحاق- وقد خرج إلى قرية له وقد سار خلفه طلاب الحديث يسألونه فالتفت إليهم قائلا: "قد خلفت فيكم الغلام الأحول"5 -يعني محمد بن إسحاق-

(1، 2، 3، 4، 5) راجع في كل ذلك: تاريخ بغداد جـ1 ص218- 229.

ص: 55

وذكر الساجي أن أصحاب الزهري كانوا يلجأون إلى محمد بن إسحاق فيما يشكون فيه من حديث الزهري؛ ثقة منهم بحفظه1.

هذه هي منزلة الرجل، وتلك هي مكانته عند علماء الحديث، فقد وثقه وأثنى عليه شيوخه، مثل الزهري وعاصم ابن عمر، كما أثنى عليه تلاميذه، مثل شعبة بن الحجاج وسفيان بن عيينة، كما وثقه وأثنى عليه اللاحقون من كبار رجال الحديث، وعلماء الجرح والتعديل، مثل يحيى بن معين وأحمد بن حنبل، وهما من أكثر العلماء تشددًا في قبول الأحاديث.

والجهة الوحيدة التي جاء منها تجريح لابن إسحاق، وتوهين من شأنه في رواية الحديث، هي جهة الإمام مالك ابن أنس، من أجل الخلاف الذي كان بينهما -والذي وضحناه فيما سبق.

ولعل الذين توقفوا عن رواية الحديث عن ابن إسحاق، كانوا متأثرين في ذلك بموقف الإمام مالك بن أنس من ابن إسحاق، ومالك كان صاحب نفوذ علمي كبير لا يخفى على أحد، وهو الوحيد الذي لقب بإمام دار الهجرة، وقد ذاع وشاع القول المأثور الذي صار مثلًا:"لا يفتى ومالك في المدينة" وكان ذلك القول صحيحًا ولم ينكره أحد من العلماء.

1 انظر، وفيات الأعيان، ج4، ص276- 277.

ص: 56

فقد روي عن ابن وهب أنه قال: "سمعت مناديًا ينادي بالمدينة ألا لا يفتي الناسَ إلا مالكُ بن انس وابن أبي ذؤيب"1.

وأهل المدينة هم الذين أمسكوا عن ابن إسحاق، ولم يقبلوا أحاديثه؛ مجاملة لإمامهم؛ مالك بن أنس، واستمر ذلك الموقف حتى بعد وفاة مالك بزمن طويل. فقد روي عن مفضل بن غسان أنه قال:"حضرت يزيد بن هارون، في سنة ثلاث وتسعين ومائة بالمدينة، وهو يحدث بالبقيع، وعنده ناس من أهل المدينة يسمعون، فحدث بأحاديث، حتى حدثهم عن محمد بن إسحاق، فأمسكوا، وقالوا: "لا تحدثنا عنه، نحن أعلم به، فذهب يزيد يحاولهم، فلم يقبلوا منه، فأمسك بزيد2. ويزيد بن هارون هذا من تلاميذ ابن إسحاق.

وبيد أنه كان من أثر موقف مالك من ابن إسحاق أن الإمام البخاري لم يخرج له أحاديث، بينما خرج له الإمام مسلم حديثًا واحدًا، من أجل طعن مالك فيه3.

ولكن رغم كان ذلك فإن ابن إسحاق سيظل جليل القدر، عظيم المكانة عند العلماء.

1 المصدر السابق، ج4، ص135.

2 تاريخ بغداد، ج1، ص226.

3 وفيات الأعيان، ج4، ص277.

ص: 57

آثار ابن إسحاق العلمية:

ينسب ابن النديم في الفهرست1 لابن إسحاق كتابين؛ أحدهما، كتابه المشهور، ويسميه ابن النديم كتاب: السيرة والمبتدأ والمغازي، والثاني يسميه كتاب الخلفاء، وهو مفقود، ولم يصل إلينا حتى الآن، أما الكتاب الأول فهو الذي وصلنا في صورة تكاد تكون كاملة، عن طريق عبد الملك بن هشام، برواية زياد بن عبد الله البكائي، والذي أصبح مشهورًا في أوساط العلماء بسيرة ابن هشام. وبينما يسمي ابن النديم هذا الكتاب؛ كتاب السيرة والمبتدأ والمغازي، نجد محمد بن سعد، وهو أسبق من ابن النديم -يسميه كتاب المغازي فقط، ولعل مرجع ذلك الاختلاف في التسمية، هو أن المسلمين كان اهتمامهم في مبدأ الأمر منصبًّا على مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان الصحابة يعلمون أولادهم مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم كما يعلمونهم سور القرآن الكريم؛ وذلك لأهمية المغازي عندهم، ولما فيها من جهاد وتضحيات كبيرة، ولما فيها من تشريع وأحكام وقواعد فقهية وآداب وسلوك أخلاقي عظيم من الرسول صلى الله عليه وسلم ومن صحابته الكرام، فكانت القدوة في كل ذلك عظيمة، ومن ثم كان حرص الصحابة -رضوان الله عليهم- على تعليم أولادهم مغازي

1 ص136.

ص: 58

الرسول وكل ما يتعلق بها من أحكام وتشريع وآداب. فلما بدأ عهد التدوين كانت المغازي أول ما حظي بالاهتمام الأكبر من العلماء، وبدأوا في تدوينها مستقصين كل أخبارها، ومتتبعين خطى رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل غزواته، حتى إن بعضهم -محمد بن عمر الواقدي، على سبيل المثال -كان يحرص على مشاهدة مواقع الغزوات بنفسه، ويتفقد الميادين التي شهدت جهاد الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه.

بل إن الاهتمام بمغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يبقَ مقصورًا على مؤلفات علماء المغازي والسير، فعلماء الحديث من أصحاب الصحاح والسنن والمسانيد وغيرهم قد ضمنوا كتبهم أبوابًا عن مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم لهذا -ربما- اكتفى محمد بن سعد بأن سمى كتاب ابن إسحاق كتاب المغازي. ثم أخذت فكرة الكتاب في هذا المجال تنمو وتتطور حتى شملت حياة الرسول كلها والتأريخ للدعوة والدولة الإسلامية في عهده صلى الله عليه وسلم وهذا ما يفهمه الناس الآن؛ إذا تحدثوا عن السيرة النبوية.

متى ألف ابن إسحاق؟:

الرواية المشهورة أن محمد بن إسحاق ألف كتابه -السيرة والمبتدأ والمغازي- في العراق بتكليف من الخليفة العباسي المشهور أبي جعفر المنصور، فالبغدادي في تاريخ بغداد،

ص: 59

وابن خلكان في وفيات الأعيان1 وغيرهما ممن ترجموا لابن إسحاق، يروون أنه وفد على أبي جعفر المنصور، في الحيرة، وذلك قبل أن يتم بناء بغداد وينتقل إليها المنصور -ولقد انتقل المنصور إلى بغداد واتخذها عاصمة لدولته سنة 145هـ- وبينما كان ابن إسحاق عند المنصور، دخل عليه محمد بن المنصور -الذي لقب بالمهدي بعد أن أصبح خليفة بعد وفاة أبيه- فقال المنصور لابن إسحاق؛ أتعرف هذا يا ابن إسحاق؟ قال: نعم؛ هذا ابن أمير المؤمنين. قال: اذهب فصنف له كتابًا منذ خلق الله آدم عليه السلام إلى يومنا هذا، فذهب فصنف له هذا الكتاب، فقال المنصور: لقد طولته يا ابن إسحاق، فاذهب فاختصره، فاختصره، فهو هذا الكتاب المختصر، وألقى الكتاب الكبير في خزانة أمير المؤمنين.

معنى هذا أن سيرة ابن هشام التي بين أيدينا، والتي هي تلخيص لسيرة ابن إسحاق الأصلية، هي تلخيص التلخيص، أو مختصر المختصر، وأن الكتاب الأصلي كان كبير الحجم جدًّا ولم يصل إلينا -لسوء الحظ- حتى تلخيص ابن إسحاق الأصلي لم يصل إلينا كاملًا حتى الآن، وإن كنا سمعنا أنهم عثروا عليه مخطوطًا في المملكة المغربية، ولكنهم يتكتمون أمره، وحتى الآن

1 انظر: تاريخ بغداد، ج1، ص220 - ووفيات الأعيان، ج4، ص277.

ص: 60

لا نعرف ما إذا كانوا عثروا عليه حقيقة أم لا، وإذا كانوا عثروا عليه فهل نشروه أم لا. وكل ما نعرف منه هو ما جاءنا عن طريق ابن هشام والذي يعرفه الناس الآن بسيرة ابن هشام، والرواية السابقة عن تكليف أبي جعفر المنصور لابن إسحاق بكتابة كتاب في التاريخ من بدء الخليقة إلى وقته هي المشهورة، ومع شهرتها فإن النفس لا تطمئن إليها، بل يمكننا أن نقول: إن محمد بن إسحاق قد ألف كتابه، أو وضع أصوله على الأقل قبل أن يغادر المدينة المنورة إلى العراق وذلك للأسباب الآتية:

أولًا:

تنص تلك الرواية المشهورة -التي أوردها البغدادي وابن خلكان وغيرهما- على أن الخليفة أبا جعفر المنصور طلب من ابن إسحاق أن يؤلف لابنه وولي عهده -محمد المهدي- كتابًا منذ خلق الله آدم إلى وقته الذي هو فيه، وذلك الوقت وإن لم يحدد بدقة، فهو بالتأكيد بعد سنة 136هـ، وهي السنة التي تولى فيها أبو جعفر المنصور الخلافة -بعد وفاة أخيه أبي العباس السفاح- وإذا كان الأمر كذلك، فلماذا توقف ابن إسحاق بالكتاب عند وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يضمنه شيئًا سوى سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم إلا ما كان من حديثه عن مؤتمر السقيفة، وبيعة الخليفة الأول أبي بكر الصديق رضي الله عنه وهي أمور من النتائج المباشرة لوفاة الرسول صلى الله عليه وسلم.

ص: 61

ثانيًا:

إن كتاب ابن إسحاق الأصلي الذي اختصره ابن هشام كان يحتوي عل أخبار ما كان يرضى عنها العباسيون؛ بل كانوا يستاءون منها، مثل مشاركة جدهم العباس بن عبد المطلب في معركة بدر في صفوف المشركين ضد النبي صلى الله عليه وسلم ووقوعه في الأسر، وفداؤه نفسه بقدر كبير من المال، ورغم ما روي من أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال عن العباس إنه خرج مكرهًا، بل نهى عن قتله -إلا أن العباسيين كانوا يستاءون جدًّا من تلك القصة- التي ذكرها ابن إسحاق في كتابه الأصلي -ونحن عرفنا ذلك من رواية العلماء الذين أخذوا عن الأصل -مثل الطبري- ولذلك حذفها ابن هشام عند تلخيصه لسيرة ابن إسحاق إرضاءً للعباسيين، وتحاشى ذكرها في كتاباته كل من محمد بن عمر الواقدي، وكاتبه محمد بن سعد لنفس السبب؛ وهو كراهية العباسيين لذكرها.

لذلك لو كان ابن إسحاق قد ألف كتابه بأمر أبي جعفر المنصور لكان من المستبعد أن يذكر هذه القصة، وهو يعلم أن الخليفة يستاء من ذكرها. لذلك نرجح أن أصول الكتاب وضعت في المدينة.

ص: 62

ثالثًا:

إننا نجد من بين تلاميذ محمد بن إسحاق الذين رووا عنه كتاب المغازي، تلميذًا مدنيًّا؛ هو إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، الإمام الحافظ، قاضي المدينة1.

ولم يعرف عنه أنه غادر المدينة إلى العراق وأقام بها إقامة طويلة مكنته من رواية ونسخ كتاب أستاذه. والأقرب إلى المنطق -والحالة هذه- أن يكون إبراهيم بن سعد قد روى عن أستاذه أصول الكتاب، وهو في المدينة، وقبل أن يغادرها إلى العراق. ومن الطبيعي أن يكون محمد بن إسحاق قد حمل معه نسخة من كتابه في رحلته إلى العراق، حيث رواه عنه تلاميذه العراقيون، ومنهم زياد بن عبد الله البكائي، الذي روى عنه عبد الملك بن هشام السيرة ولخصها ونسبت إليه، بل طغت تلك النسبة على صاحب الكتاب الأصلي، وعرفه الناس بسيرة ابن هشام.

رابعًا:

لم يروِ ابن إسحاق في كتابه عن أحد من علماء العراق -وهم كثيرون في ذلك الوقت- إذ يتضح من قائمة الرواة الذين روى عنهم، وذكرهم بأسمائهم بل بأنسابهم، أنه ألف كتابه واستقى مادته

1 انظر تذكرة الحفاظ للذهبي ج1 ص252- 253.

ص: 63

العلمية على أساس الأحاديث والروايات التي جمعها في المدينة خاصة على أساس الأحاديث والمعلومات التي جمعها في مصر -عندما زارها- فقد حرص على الأخذ من علماء مصر؛ خصوصًا أشهرهم يزيد بن أبي حبيب، وسجل ذلك. وبالمقابل لو كان ألف كتابه في العراق، لكان من المحتمل جدًّا أن يجد هناك من العلم ما يستحق أن يضيفه ويسجله في كتابه -كما فعل في مصر- ولكنه لم يفعل، فدل خلو الكتاب من أي ذكر لعلماء العراق على أنه كتب في المدينة المنورة، وقبل أن يغادرها ابن إسحاق إلى العراق، ويلتقي بالخليفة أبي جعفر المنصور ويتلقى منه الأمر بالتأليف. والله أعلم.

محتويات الكتاب:

ذكرنا فيما سبق أن كتاب ابن إسحاق لم يصل إلينا بنصه الأصلي، ولم يطبع حتى الآن -حسب علمنا- وإنما وصل إلينا برواية عبد الملك بن هشام عن رواية زياد بن عبد الله البكائي عن ابن إسحاق.

وابن هشام عندما تناول كتاب ابن إسحاق لم ينقله كما هو، وإنما أجرى فيه تعديلات كثيرة؛ بالحذف تارة، وبالإضافة تارة أخرى -وأحيانًا- بتغيير العبارة. وندع ابن هشام نفسه يوضح لنا صنيعه في الكتاب؛ فهو يقول: "وأنا -إن شاء الله- مبتدئ

ص: 64

هذا الكتاب بذكر إسماعيل بن إبراهيم -ومن ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم من ولده وأولادهم لأصلابهم؛ الأول فالأول، من إسماعيل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وما يعرض من حديثهم، وتارك ذكر غيرهم من ولد إسماعيل على هذه الجهة، للاختصار، إلى حديث سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتارك بعض ما ذكره ابن إسحاق في هذا الكتاب، مما ليس لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيه ذكر، ولا نزل فيه من القرآن شيء، وليس سببًا لشيء من هذا الكتاب، ولا تفسيرًا له، ولا شاهدًا عليه، لما ذكرت من الاختصار، وأشعارًا ذكرها لم أرَ أحدًا من أهل العلم بالشعر يعرفها، وأشياء بعضها يشنع الحديث به، وبعض يسوء بعض الناس ذكره -ولعل ابن هشام يقصد بذلك مثل حادثة حضور العباس بن عبد المطلب معركة بدر في صفوف المشركين مما كان يستاء منه العباسيون، وقد أشرنا إلى ذلك من قبل- وبعض لم يقر لنا البكائي بروايته، ومستقصٍ إن شاء الله ما سوى ذلك، بمبلغ الرواية له، والعلم به1.

هذه هي خطة ابن هشام ومنهجه في تناوله لسيرة ابن إسحاق، كما شرحه بنفسه. ولابن هشام الفضل كل الفضل، في حفظ هذا السفر الخالد عن سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومغازيه، إذ لولاه لكان من

1 سيرة ابن هشام ج1، ص2، تحقيق فضيلة الشيخ المرحوم محمد محيي الدين عبد الحميد.

ص: 65

المحتمل أن تفقد تلك الثروة العلمية الكبيرة عن موضوع من أجل وأعظم موضوعات العلوم الإسلامية، فعلى كل طالب علم مسلم أن يحيي ابن هشام وأن يستغفر الله له ويطلب له الرحمة على هذا العمل الجليل، وتلك المكرمة العلمية التي طوق بها أعناق العلماء.

وإذا كان ابن هشام قد اضطر -كما قال- لحذف أشياء من أصل الكتاب -للدواعي والأسباب التي ذكرها- فإنه لمن حسن حظنا أن كثيرًا مما حذفه ابن هشام، ذكره المؤرخون الآخرون في كتبهم -وبصفة خاصة عمدة المؤرخين المسلمين وإمامهم محمد بن جرير الطبري- وقد قام أحد الباحثين الأوروبيين المحققين؛ وهو الأستاذ يوسف هوروفيتش بتلخيص محتويات سيرة ابن إسحاق الأصلية، في ضوء نص سيرة ابن هشام، إضافة إلى النصوص التي ذكرها المؤرخون الآخرون، في كتابه المعنون:"المغازي الأولى ومؤلفوها" وهذا الكتاب القيم هو مرجعنا الأساسي في تلك المعلومات، فمؤلفه يقول: "وإذا عنينا بهذا الفقرات المحفوظة، في مقتطفات ليست في نص ابن هشام، وصلنا إلى الصورة التالية لمنهج ابن إسحاق.

أ- التاريخ الجاهلي: وهو القسم الأول من كتاب ابن إسحاق، والذي يسميه المبتدأ، والذي ينقسم إلى أربعة فصول، يتناول أولها الوحي قبل الإسلام، منذ خلق الله العالم، حتى عيسى

ص: 66

عليه السلام، وقد لقي هذا الفصل الحظ الأوفر من إعراض ابن هشام.

ولما كان ابن إسحاق معنيًّا في كل مكان بالتاريخ السنوي، أعد هذا الفصل أيضًا مثل هذا الإحصاءات، وعني بروايات وهب بن منبه، وروايات ابن عباس، وأخبار الأدباء اليهود والمسيحيين، ونص الكتاب المقدس نفسه، إلى جانب رجوعه للقرآن. ويظهر فيه -إلى جانب رجال الكتاب المقدس- القبائل العربية، من عاد وثمود بالذين أرسل الله إليهم رسله، كما يقول القرآن الكريم، ولكنه يذكر أيضًا طسمًا وجديسًا؛ وهما غير مذكورتين في القرآن.

ويتناول الجزء الثاني من المبتدأ الذي حفظت مادته في كتاب ابن هشام، والذي يمكن تكميله من الطبري أيضًا تاريخ اليمن في العصور الجاهلية.

ويتناول الفصل الثالث من المبتدأ القبائل العربية وعبادتها الأصنام. ويتناول الفصل الرابع أجداد النبي صلى الله عليه وسلم والديانات المكية.

ب- المبعث:

ويشمل تاريخ حياة النبي صلى الله عليه وسلم في مكة، والهجرة، وربما شمل العام الأول من نشاطه في المدينة، ويكثر في هذا الجزء عدد الأسانيد وجل اعتماد ابن إسحاق فيه على روايات أساتذته المدنيين،

ص: 67

التي يبرزها في نظام سنوي، وهو يقدم الأخبار الفردية بموجز حاوٍ لمحتوياتها في الغالب، وفي هذا الجزء إلى جانب القصص التي يوردها بإسناد أو بغير إسناد، توجد وثيقة على جانب كبير من الأهمية دوَّنها ابن إسحاق وحده، ولم يذكرها أحد من كتاب المغازي الأولين، تلك الوثيقة هي معاهدة المدينة المشهورة -التي وقعها النبي صلى الله عليه وسلم مع قبائل المدينة، وهي المسماة بنظام مجتمع المدينة ويسميها بعض الكتاب المحدثين، دستور المدينة، وكذلك يوجد بهذا الجزء من سيرة ابن إسحاق مجموعات كاملة من القوائم بأسماء الرجال، منها قائمة بأسماء المؤمنين الأولين، وقائمة بأسماء المسلمين الذين هاجروا إلى الحبشة، وقائمة بأسماء أول من أسلم من الأنصار، وقائمة بأسماء الذين اشتركوا في بيعة العقبة، وقائمة بأسماء المهاجرين والأنصار، الذين تلقوهم في المدينة، وقائمة بأسماء المهاجرين والأنصار الذين آخى بينهم النبي صلى الله عليه وسلم.

ج- المغازي:

الجزء الثالث والأخير من كتاب ابن إسحاق -والذي يسمى المغازي هو تأريخ لحياة النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة منذ أول يوم إلى أن لحق بالرفيق الأعلى في الثاني عشر من ربيع الأول سنة 11هـ إضافة إلى بعض الأحداث التي ترتبت على وفاته صلى الله عليه وسلم؛ مثل مؤتمر

ص: 68

سقيفة بني ساعدة، الذي ناقش فيه الصحابة من المهاجرين والأنصار مسألة الخلافة، والذي انتهوا فيه إلى بيعة أبي بكر الصديق خليفة لرسول الله صلى الله عليه وسلم في حكم الأمة الإسلامية. ولم يكد ابن إسحاق يترك شيئًا من أعمال النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة، بدءًا من تأسيس مسجده والمؤاخاة بين المهاجرين والأنصار -طبعًا جل المؤاخاة كانت بين المهاجرين والأنصار- لكن كانت إلى جانب ذلك مؤاخاة بين مهاجر ومهاجر، ومؤاخاته صلى الله عليه وسلم مع علي بن أبي طالب، وكمؤاخاة عمه حمزة بن عبد المطلب مع مولاه زيد بن حارثة -وهم مهاجرون- إضافة إلى معاهدة المدينة، وهذه الثلاثة -بناء المسجد والمؤاخاة والمعاهدة- يعتبرها المؤرخون أهم أركان وأسس الدولة الإسلامية، التي أقامها الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة بعد الهجرة، ثم تنتشر في هذا الجزء من كتاب ابن إسحاق أخبار غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم بشكل تفصيلي وكل ما يتعلق بذلك من تشريع أخبار وأحكام، كما تنتشر فيه أيضًا أخبار النبي الشخصية؛ خاصة أزواجه وعلاقاته بهن، وهكذا إلى أن وصل إلى مرض ووفاة النبي صلى الله عليه وسلم فعالج كل ذلك بتفصيل وافٍ، والقاعدة الرئيسة هنا هي وجود الإسناد، ومصادر ابن إسحاق في كل ذلك شيوخه المدنيون، وأهمهم محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، وعاصم بن عمر بن قتادة الأنصاري، وعبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري؛ الذي يدين له

ص: 69

ابن إسحاق بالنظام السنوي في ترتيب الأحداث، وإضافة إلى هؤلاء الشيوخ الكبار فإن ابن إسحاق أخذ كثيرًا عن غيرهم، خاصة من أقارب الرجال والنساء الذين اشتركوا في الحوادث، وسمعوا منهم، وأدوا ما سمعوه لابن إسحاق وغيره، ويستخدم ابن إسحاق منهجًا واضحًا ومحددًا في عرض غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم فيقدم ملخصًا للمحتويات في المقدمة، ثم يتبع ذلك بخبر جماعي مؤلف من أقوال وروايات أوثق شيوخه، ثم يكمل هذا الخبر الرئيس بالأخبار الفردية التي حصل عليها من مصادر أخرى، وقوائم الأسماء في هذا الجزء من الكتاب كثيرة، ويوردها غالبًا باكتسابها، ففيه قائمة وافية بأسماء الذين اشتركوا في غزوة بدر الكبرى، وقائمة بأسماء الذين استشهدوا من المسلمين، وقائمة بأسماء الذين قتلوا من المشركين، وأخرى بأسماء الأسرى. وقائمة بأسماء قتلى أحد والخندق وخيبر والطائف، وقائمة بأسماء المهاجرين الذين رجعوا من الحبشة مع جعفر ابن أبي طالب رضي الله عنه.

كيف وصل إلينا كتاب ابن إسحاق؟:

ذكرنا -آنفًا- أننا نرجح أن ابن إسحاق قد كتب كتابه -أو وضع أصوله على الأقل- في المدينة المنورة، وقبل أن يغادرها إلى العراق، وقلنا: إن أحد تلاميذه المدنيين- وهو إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف- روى عنه الكتاب، ولكن

ص: 70

كان لابن إسحاق حوالي خمسة عشر تلميذًا آخرين، كلهم رووا كتاب شيخهم، منهم: مسلمة بن الفضل المتوفى عام 191هـ والذي اعتمد عليه الطبري كثيرًا فيما يرويه عن ابن إسحاق، ومنهم: يونس بن بكير المتوفى عام 199هـ، والذي اعتمد على روايته عن ابن إسحاق، كل من الحاكم في المستدرك في الفصل الخاص بالمغازي، وابن الأثير في أسد الغابة، وابن حجر في الإصابة، ويبدو أن كل النسخ التي كتبها تلاميذ ابن إسحاق العراقيون أو كانت عندهم قد ضاعت، أو تلقت ما عدا نسخة واحدة، هي نسخة زياد بن عبد الله البكائي التي كتب لها الخلود على يدي عبد الملك بن هشام. ويبدو كذلك أن الكتاب الأصلي لابن إسحاق ظل مصدرًا للأخذ منه والاعتماد عليه عدة قرون، فرغم سرعة وسعة انتشار ملخص ابن هشام -الذي أخذه من رواية زياد البكائي- لدرجة أن اليعقوبي؛ المتوفى سنة 292هـ قد استخدمه، فإن الكتاب الأصلي ظل متداولًا بعد ذلك طويلًا، إلى وقت ابن حجر العسقلاني المتوفى سنة 852هـ؛ فزياد بن عبد الله البكائي هو الذي أسدى إلينا هذه الخدمة الجليلة وحفظ كتاب أستاذه ابن إسحاق وأتاح لابن هشام أن يوصله لنا، فمن حقه علينا أن نعرف به لتعرفه الأجيال.

فهو: زياد بن عبد الله بن الطفيل بن عامر القيسي، البكائي العامري، وكان يكنى

ص: 71

بأبي محمد، ويقال بأبي يزيد الكوفي، ولد وعاش وتوفي في الكوفة، ونسبه إلى عامر بن صعصعة1.

روى عن عبد الملك بن عمير، وحميد الطويل، وعاصم الأحول، والأعمش، ومحمد بن إسحاق، وروى عنه جماعة من الأعلام، وأكابر العلماء والمحدثين؛ منهم: الإمام أحمد بن حنبل، وأحمد بن عبده الضبي، وأبو غسان المهدي، وإسماعيل بن توبة، ويوسف بن حماد، وعمرو بن زرارة، وعبد الملك بن هشام السدوسي النحوي، صاحب السيرة، وقد أثنى على البكائي طائفة من العلماء، وأجمعوا على أن روايته لكتاب المغازي عن ابن إسحاق هي من أصح الروايات.

قال يحيى بن آدم عن ابن إدريس: "ما أحد أثبت في ابن إسحاق منه، لأنه أملى عليه إملاء مرتين". وقال صالح ابن محمد: ليس كتاب المغازي عند أحد أصح منه عند زياد.. وذلك أنه باع داره وخرج يدور مع ابن إسحاق، حتى سمع منه الكتاب"2. هذا باختصار شديد هو زياد بن عبد الله البكائي، ويكفي أنه من حبه

1 انظر ترجمة زياد البكائي في تهذيب التهذيب لابن حجر، جـ3، صـ ووفيات الأعيان لابن خلكان، جـ2، صـ338.

2 انظر سيرة ابن هشام، جـ1، صـ29 من ترجمة المحقق فضيلة الشيخ المرحوم محمد محيي الدين عبد الحميد لابن هشام.

ص: 72

للعلم -خاصة مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم قد باع بيته وفرغ نفسه لرواية سيرة النبي، من رائدها الأول؛ محمد بن إسحاق، وقد توفي البكائي -رحمه الله تعالى سنة 183هـ- بعد أن أدى الكتاب إلى من أوصله إلينا، والذي من حقه علينا كذلك أن نخصه بكلمة تقدير وتحية، وهو أبو محمد عبد الملك بن هشام بن أيوب المعافري البصري المصري؛ فقد ولد ابن هشام في مدينة البصرة بالعراق، وفيها نشأ ودرج، وتتلمذ على علمائها ونهل من علمهم، وبعد أن تزود من علم علماء العراق، وتوج ذلك برواية السيرة عن أستاذه زياد بن عبد الله البكائي الذي أملاها عليه بنفسه؛ بعد ذلك رحل إلى مصر، التي كانت الحركة العلمية فيها آنذاك في أوج ازدهارها، بجهد علمائها، ومن وفد إليهم من علماء الأقطار الأخرى، وعندما وصل ابن هشام إلى مصر كانت سماؤها قد ازدانت بنجم ثاقب من نجوم العلم والفقه؛ وهو عالم قريش، الذي ملأ طباق الأرض علمًا: محمد بن إدريس الشافعي، الذي التقى به عبد الملك بن هشام، وتدارس معه العلم والأشعار، فقد كان كلاهما شاعرًا، فوق تبحرهما في العلوم الأخرى.

وقد قضى ابن هشام في مصر بقية حياته، وقد أثرى -رحمه الله تعالى- المدرسة المصرية في علوم كثيرة؛ مثل: النحو واللغة وعلم الأنساب، ناهيك عن درته الخالدة، سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك

ص: 73

الكتاب القيم، الذي ظل مخطوطًا إلى أن قيض الله له الأستاذ وستنفيلد فقام على تحقيقه وطبعه في مدينة جوتنجن بألمانيا سنة 1859م. ومنذ أن ظهر مطبوعًا عرف الناس قيمته، وتوجهت إليه أنظار الباحثين والمهتمين بسيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وانتشر انتشارًا واسع النطاق في ربوع العالم الإسلامي من أقصاه إلى أقصاه.

وتوالت طبعاته بعد ذلك، فطبع في مطبعة بولاق، وظهرت له أكثر من طبعة محققة، من أهمها تلك التي حققها فضيلة الشيخ المرحوم محمد محيي الدين عبد الحميد -عميد كلية اللغة العربية الأسبق- وأحد كبار العلماء، ومن الذين لهم في مجال التحقيق باع طويل. كذلك من الطبعات المحققة تحقيقًا جيدًا تلك التي قام بتحقيقها الأستاذ مصطفى السقا وزملاؤه.

وبعد؛ فهذا هو محمد بن إسحاق -أحد أعلام الطبقة الثالثة- بل رأس تلك الطبقة من كتاب المغازي والسير، والرائد الأول للكتابة المنظمة المنهجية في سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا هو كتابه الخالد الذي لم يسبقه أحد إلى مثله، والذي أصبح الأصل الأصيل لكل من كتب في السيرة النبوية منذئذ إلى وقتنا هذا، وسيظل هو المرجع الأساسي في علوم السيرة.

ولا أظن أن هذا البحث يكتمل دون أن يتضمن تعريفًا بعلمَيْن آخرين من أعلام كتابة المغازي والسير؛ وهما: محمد ابن عمر الواقدي، وتلميذه وكاتبه محمد بن سعد.

ص: 74