المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌الواقدي: هو محمد بن عمر بن واقد، الملقب بلقبه المشهور «الواقدي» - أوائل المؤلفين في السيرة النبوية

[عبد الشافى محمد عبد اللطيف]

الفصل: ‌ ‌الواقدي: هو محمد بن عمر بن واقد، الملقب بلقبه المشهور «الواقدي»

‌الواقدي:

هو محمد بن عمر بن واقد، الملقب بلقبه المشهور «الواقدي» ، وهو مولى من الموالي، قيل مولى بني هاشم، وقيل مولى بني سهم ابن أسلم.

يعتبر الواقدي -عند العلماء-1 الثاني بعد ابن إسحاق في سعة العلم بالمغازي والسير. وقد ولد الواقدي بالمدينة المنورة سنة 130هـ وتوفي سنة 207هـ ببغداد، ودفن في مقابر الخيزران، حسب رواية تلميذه محمد بن سعد، وقد لقي كثيرًا من الشيوخ وأخذ عنهم العلم مثل معمر بن راشد، ومالك بن أنس -الإمام المشهور- وسفيان الثوري، ومن أشهر شيوخه في السير والمغازي والتاريخ أبو معشر السندي، الذي وصفه الإمام أحمد بن حنبل بأنه كان بصيرًا بالمغازي2.وقد ألف فيها كتابًا ذكره ابن النديم في الفهرست، اقتبس منه ابن سعد في كتابه الطبقات الكبرى في الجزء الخاص بالسيرة النبوية وكذلك الطبري. وقد استفاد الواقدي كثيرًا

1 انظر ضحى الإسلام، جـ2، ص333.

2 انظر ضحى الإسلام جـ2، ص333.

ص: 75

من علم أبي معشر خاصة في المغازي والتاريخ عندما تتلمذ عليه وهو في المدينة1.

وقد اتصل الواقدي بالخلفاء العباسيين، بدءًا من هارون الرشيد عن طريق علمه وسعة معلوماته عن الغزوات ومشاهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد روي أن أمير المؤمنين هارون الرشيد لما حج في أول سنة من خلافته سنة 170هـ. قال ليحيى بن خالد البرمكي:"ارتد لي رجلًا عارفًا بالمدينة والمشاهد، وكيف كان نزول جبريل عليه السلام على النبي صلى الله عليه وسلم ومن أي وجه كان يأتيه، وقبور الشهداء، فسأل يحيى ابن خالد عن العالم الذي تتوفر فيه تلك الصفات التي طلبها الخليفة فدله الناس على الواقدي، وذلك حسب قوله هو -أي الواقدي- فقد قال: "كلهم دله علي، فبعث إلي فأتيته، وذلك بعد العصر، فقال لي يا شيخ؛ إن أمير المؤمنين -أعزه الله- يريد أن تصلي العشاء الآخرة في المسجد، وتمضي معنا إلى هذه المشاهد، فتوقفنا عليها، ففعلتُ، ولم أدع موضعًا من المواضع، ولا مشهدًا من المشاهد إلا مررت بهما -يعني: الخليفة هارون الرشيد ووزيره يحيى بن خالد البرمكي- عليه. ومنحاه مالًا كثيرًا وطلب إليه يحيى بن خالد البرمكي -الذي كانت كلمته نافذة في الدولة العباسية كلها في ذلك الوقت- أن يصير إليه في العراق، ففعل، وتوطدت صلته

1 انظر ضحى الإسلام، جـ2، ص333.

ص: 76

به وأغدق عليه كثيرًا من الأموال وأخلص هو في حبه للبرامكة، حتى إنه بعد نكبتهم المشهورة سنة 187هـ، كان كثير الترحم على يحيى بن خالد كلما ذكر اسمه.

ورغم صلة الواقدي القوية بالبرامكة إلا أن مكانته في بلاط خلفاء بني العباس ظلت كما هي، ولم ينله ضرر بسبب تلك الصلة بعد نكبتهم، بل ازدادت مكانته وثقة الخلفاء فيه إلى الحد الذي جعل المأمون يوليه القضاء في عسكر الهدى، وهي المحلة المعروفة بالرصافة في شرق بغداد، وكان المأمون كثير الإكرام له، ويداوم على رعايته وظل في منصب القضاء حتى وفاته سنة 207هـ على أرجح الأقوال.

وقد نبغ الواقدي في علم المغازي والسير والتاريخ الإسلامي بصفة عامة، قال عنه البغدادي:"وهو ممن طبق شرق الأرض وغربها ذكره، ولم يخف على أحد عرف أخبار الناس أثره، وسارت الركبان بكتبه في فنون العلم؛ من المغازي والسير والطبقات، وأخبار النبي صلى الله عليه وسلم والأحداث التي كانت في وقته، وبعد وفاته صلى الله عليه وسلم وكتب الفقه، واختلاف الناس في الحديث وغير ذلك"1. وحدث هو عن نفسه فقال: "ما أدركت رجلًا من أبناء الصحابة وأبناء الشهداء ولا مولى لهم إلا سألته، هل سمعت أحدًا من أهلك

1 انظر تاريخ بغداد، جـ3، ص1.

ص: 77

يخبرك عن مشهده وأين قتل؟ فإذا أعلمني مضيت إلى الموضع فأعاينه، ولقد مضيت إلى المريسيع فنظرت إليها، وما علمت غزاة إلا مضيت إلى الموضع حتى أعاينه"1.

وكان الواقدي غزير الإنتاج كثير التأليف حتى عد له ابن النديم ما يقرب من أربعين كتابًا معظمها في المغازي والسير والتاريخ -تاريخ الفتوح بصفة خاصة- وقال ابن النديم: "خلف الواقدي بعد وفاته ستمائة قمطر كتبًا، كل قمطر منها حمل رجلين، وكان له غلامان مملوكان، يكتبان الليل والنهار، وقبل ذلك بيع له كتب بألفي دينار"2.

وكانت كتب الواقدي مصدرًا أصيلًا لكل المؤرخين الذين جاءوا بعده فما من مؤرخ إلا واقتبس من كتبه، مثل اقتباسات الطبري من كتاب التاريخ الكبير.

ولكن لسوء الحظ ضاعت معظم هذه الثروة العلمية التي خلفها الواقدي ولم يبق من كتبه إلا عدد قليل، منها كتاب فتوح الشام، وكتاب المغازي، وقد ذكر في أوله شيوخه الذين أخذ عنهم علم المغازي فأوصلهم إلى خمسة وعشرين شيخًا، ومعظمهم من أهل المدينة.

1 المصدر السابق، ج3، ص6.

2 الفهرست لابن النديم، ص144.

ص: 78

ومغازي الواقدي أكثر إخبارًا عن سيرة النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة وهو أميل في أخباره إلى الفقه والحديث من ابن إسحاق، وهو أحيانًا يرجع إلى مادة علمية مكتوبة في صحف رآها واعتمد عليها. فقد قال تلميذه وكاتبه ابن سعد: "قال الواقدي حدثني عبد الله بن جعفر الزهري قال: وجدت في كتاب أبي بكر بن عبد الرحمن بن المسور.. وقال محمد بن عمر -الواقدي- نسخت كتاب أهل أذرح فإذا فيه.. إلخ. ويمتاز عمن سبقه بالدقة في تعيين تاريخ الحوادث1. ومن المآخذ التي أخذها العلماء على الواقدي أن صلته بالخلفاء العباسيين قد أثرت في أمانته العلمية، فأعرض عن ذكر الأحداث التي تغضبهم، أو لا يرضون عنها، ومن أمثلة ذلك حذف اسم العباس بن عبد المطلب عم النبي صلى الله عليه وسلم من جملة أسماء الذين شاركوا في معركة بدر من مشركي مكة، ووقعوا أسرى في يد المسلمين.

رأي العلماء في الواقدي:

اختلف علماء الحديث حول الواقدي اختلافًا كبيرًا، بين معدِّل له وبين مجرِّح، وقد حكى الخطيب البغدادي أقوالهم2 على

1 ضحى الإسلام، جـ2، ص336.

2 انظر تاريخ بغداد، جـ3، ص7.

ص: 79

اختلافها، وملخصها أن الإمام مالك بن أنس كان يثق في رواياته -بينما كان لا يثق في روايات ابن إسحاق كما سبق ذكره- وكذلك كان يثق في الواقدي من فقهاء الحنفية: محمد بن الحسن الشيباني، بل لقبه بأمير المؤمنين في الحديث، وذلك قبل أن يصبح هذا اللقب مقصورًا على الإمام البخاري فيما بعد. ووثق به من فقهاء الشافعية: القاسم بن سلام.

أما الذين طعنوا عليه فمنهم، علي بن محمد المديني، ومن أقواله فيه:"عند الواقدي عشرون ألف حديث لم يسمع بها". وقال عنه يحيى بن معين: "أغرب الواقدي على رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرين ألف حديث". وقال عنه أحمد بن حنبل: "الواقدي يركب الأسانيد".

والظاهر أن مطاعن المحدثين عليه كمطاعنهم على غيره من كتاب المغازي والسير؛ لاختلاف المنهج بين الطائفتين. فهو لم يكن يتقيد بمذهبهم من ناحتين:

الأولى: أنه كان يأخذ من الصحف، ويعتمد على الكتب، وثقات المحدثين كانوا يكرهون تلك الطريقة أشد الكراهية، ويرون أنه لا يصح للمحدث أن يحدث بحديث إلا إذا كان قد سمعه بأذنه ممن روى عنه. الثانية: أنه كان يجمع الأسانيد المختلفة ويجيء بالمتن واحدًا، مع أن جزءًا من المتن لبعض الرواة، وجزءًا آخر

ص: 80

لرواة آخرين، وكان المحدثون يعدون هذا عيبًا، وقد عابوا ذلك على الزهري وتلميذه ابن إسحاق من قبل.

وكان عذر الواقدي لاستعماله تلك الطريقة، أنه لو أفرد كل حديث بسنده لطال الأمر جدًّا، فقد روي أنه لما طالبه تلاميذه بإفراد كل حديث بسنده، أراد أن يبرهن لهم على سلامة منهجه، فجاءهم بالأحاديث الخاصة بغزوة أحد باتباع إفراد كل حديث بسنده فاستكثروا ذلك؛ وقالوا: ردنا إلى الأمر الأول1.

والخلاصة، أنه مهما كان من أمر اختلاف العلماء حول الواقدي -والناس لا يختلفون عادة إلا على الأشياء الكبيرة- فقد كان واسع العلم بالمغازي والسير، كما كان عالمًا بالفقه والحديث والتفسير، وكان من أكبر المصادر التي عول عليها واعتمدها كبار المؤرخين، خاصة الطبري. وقد سبق أن ابن النديم عد للواقدي ما يقرب من أربعين كتابًا في مختلف العلوم الإسلامية، أشهرها في السير والمغازي، والفتوح، كفتوح الشام، وفتوح العراق. فرحمه الله وجزاه عن العلم خير الجزاء.

1 انظر تاريخ بغداد جـ3 ص7، وضحى الإسلام جـ2 ص337.

ص: 81