المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌المقدمة العاشرة: إِذَا تَعَاضَدَ النَّقْلُ وَالْعَقْلُ عَلَى الْمَسَائِلِ الشَّرْعِيَّةِ؛ فَعَلَى شَرْطِ - الموافقات - جـ ١

[الشاطبي الأصولي النحوي]

الفصل: ‌ ‌المقدمة العاشرة: إِذَا تَعَاضَدَ النَّقْلُ وَالْعَقْلُ عَلَى الْمَسَائِلِ الشَّرْعِيَّةِ؛ فَعَلَى شَرْطِ

‌المقدمة العاشرة:

إِذَا تَعَاضَدَ النَّقْلُ وَالْعَقْلُ عَلَى الْمَسَائِلِ الشَّرْعِيَّةِ؛ فَعَلَى شَرْطِ أَنْ يَتَقَدَّمَ النَّقْلُ فَيَكُونَ مَتْبُوعًا، وَيَتَأَخَّرَ الْعَقْلُ فَيَكُونَ تَابِعًا، فَلَا يَسْرَحُ الْعَقْلُ فِي مَجَالِ النَّظَرِ إِلَّا بِقَدْرِ مَا يُسَرِّحُهُ النَّقْلُ1، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أُمُورٌ:

الْأَوَّلُ:

أَنَّهُ لَوْ جَازَ لِلْعَقْلِ تَخَطِّي مَأْخَذَ النَّقْلِ؛ لَمْ يَكُنْ لِلْحَدِّ الَّذِي حَدَّهُ النَّقْلُ فَائِدَةٌ؛ لِأَنَّ الفَرَض أَنَّهُ حَدَّ لَهُ حَدًّا، فَإِذَا جَازَ تَعَدِّيهِ؛ صَارَ الْحَدُّ غَيْرَ مُفِيدٍ، وَذَلِكَ فِي الشَّرِيعَةِ بَاطِلٌ، فَمَا أَدَّى إِلَيْهِ مِثْلُهُ.

وَالثَّانِي:

مَا تَبَيَّنَ فِي عِلْمِ الْكَلَامِ وَالْأُصُولِ مِنْ أَنَّ الْعَقْلَ لَا يُحَسِّنُ وَلَا يُقَبِّحُ2، وَلَوْ فَرَضْنَاهُ مُتَعَدِّيًا لِمَا حَدَّهُ الشَّرْعُ؛ لَكَانَ مُحَسِّنًا ومقبحا، هذا خلف.

1 تكلم شيخ الإسلام ابن تيمية على هذه المسألة بما لا مزيد عليه في "درء تعارض العقل والنقل"، وكذا في المجلد الأول من "مجموع الفتاوى"، وأيضا فيها "13/ 64 وما بعدها".

وللمصنف كلام رائع في "الاعتصام""2/ 318-322، 327-334" حيث قسم العلوم من حيث إدراك العقل لها إلى ثلاثة أقسام، وتكلم عليها بإسهاب.

ولابن القيم في "إعلام الموقعين""1/ 331 وما بعدها و2/ 3 وما بعدها، 47 وما بعدها"، و"الصواعق""3/ 796 إلى نهاية الجزء الرابع"، و"مختصره""1/ 129 وما بعدها" كلام مسهب قيم متين في هذا الموضوع.

2 هذه مسألة مشهورة في علم الكلام وفي علم أصول الفقه، وهي معروفة بمسألة =

ص: 125

.........................................................................

= "التحسين والتقبيح"، ولم ينج المصنف من بعض الآثار السلبية لها، أعني بالذات تأثره بالنظرة الأشعرية إلى الموضوع، ولننطلق من الشاطبي -فهو منطلق البحث كله- لنرى بعض مظاهر أشعريته في الموضوع، ومن خلاله ستتضح معالم النظرية الأشعرية في التحسين والتقبيح*.

وأفضل الكلام على هذه المسألة في هذا الموطن، جامعا الكلام فيها، ولا سيما كلام الشاطبي؛ فأقول: هذه المسألة لها جوانب اتفاق وافتراق بين العلماء.

أما محل الاتفاق؛ فالعقل يدرك الحسن والقبح فيما هو ملائم لطبع أو مضاد له، فإذا لاءم الغرض الطبع؛ فحسن؛ كاللذة والحلاوة، وإذا نافره فهو قبيح؛ كالألم والمرارة، وهذا القدر معلوم بالحس والعقل والشرع مجمع عليه بين الأولين والآخرين، بل هو معلوم عند البهائم**.

أما محل الافتراق والتنازع؛ فهو في الحسن والقبح المتعلق بالشرع، بمعنى كون الفعل سببا للذم والعقاب أو المدح والثواب، وهل يعلم ذلك بالعقل أم لا يعلم إلا بالشرع، أم يعلم بهما معا***؟ وحاصل أقوال الناس في هذه المسألة على سبيل الإجمال ثلاثة أقوال أساسية، هي:

القول الأول:

وهو قول جهم والأشعري ومن تابعه من المنتسبين إلى السنة وأصحاب مالك والشافعي وأحمد؛ كالقاضي أبي يعلى، وأبي الوليد الباجي، وأبي المعالي الجويني وغيرهم، وهو قول عموم الأشاعرة، وحاصل هذا القول:"إن الأفعال لا تتصف بصفات تكون بها حسنة ولا سيئة ألبتة، وكون الفعل حسنا وسيئا إنما معناه أنه منهي عنه أو غير منهي عنه، وهذه الصفة إضافية لا تثبت إلا بالشرع"****، أي: إنهم ينفون الحسن والقبح العقليين ويقولون: إن ذلك لا يعرف إلا بالشرع فقط، مع أنه "من المحال أن يكون الدم والبول والرجيع مساويا للخبز والماء والفاكهة ونحوها، وإنما =

_________

* "نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي""ص216".

** انظر: "مجموع فتاوى ابن تيمية""8/ 90، 308، 309"، و"مفتاح دار السعادة""2/ 44"، و"مدارج السالكين""1/ 230"، و"إرشاد الفحول""7".

*** "مجموع فتاوى ابن تيمية""8/ 309".

**** انظر: "درء التعارض""8/ 492"، ونحوه في "مجموع الفتاوى""11/ 676-677 و8/ 90"، و"مفتاح دار السعادة""2/ 5"، و"مدارج السالكين""1/ 91، 230"، و"شفاء الغليل""435 وما بعدها".

ص: 126

...........................................................................

= الشارع فرق بينهما؛ فأباح هذا وحرم هذا مع استواء الكل في نفس الأمر، وكذلك أخذ المال بالبيع والهبة والوصية والميراث، لا يكون مساويا لأخذه بالقهر والغلبة والغصب والسرقة والجناية؛ حتى يكون إباحة هذا أو تحريم هذا راجعا إلى محض الأمر والنهي المفرق بين المتماثلين

"*.

إلا أن هذا هو مذهب الأشاعرة الذي يصرحون به في كتبهم الاعتقادية والأصولية؛ ففي "المواقف" يقول الإيجي: "القبيح ما نهي عنه شرعا والحسن بخلافه، ولا حكم للعقل في حسن الأشياء وقبحها، وليس ذلك عائدا إلى أمر حقيقي في الفعل يكشف عنه الشرع، بل الشرع هو المثبت له والمبين، ولو عكس القضية، فحسن ما قبحه وقبح ما حسنه؛ لم يكن ممتنعا وانقلب الأمر"**.

وفي "الإرشاد""228" للجويني: "العقل لا يدل على حسن شيء ولا قبحه في حكم التكليف، وإنما تلقى التحسين والتقبيح من موارد الشرع وموجب السمع".

وهذا ما ردده الشاطبي هنا؛ فهو يقول: "إن العقل لا يحسن ولا يقبح"، ويؤكد هذا المعنى في سياق آخر، وعلى وجه أوضح؛ فيقول "3/ 28":"الأفعال والتروك -من حيث هي أفعال وتروك- متماثلة عقلا بالنسبة إلى ما يقصد بها؛ إذ لا تحسين للعقل ولا تقبيح"، وعلى الرغم من مرور الشاطبي على المسألة مرورا سريعا على خلاف ما يفعله المتكلمون والأصوليون؛ فإن التأثير الأشعري بادٍ على كلامه، قارن كلامه السابق بقول الجويني في "الإرشاد" "ص259":"فليس الحسن صفة زائدة على الشرع مدركة به، وإنما هو عبارة عن نفس ورود الشرع بالثناء على فاعله، وكذلك القول في القبح، فإذا وصفنا فعلا من الأفعال بالوجوب أو الحظر؛ فلسنا نعني بما نثبته تقدير صفة للفعل الواجب يتميز بها عما ليس بواجب، وإنما المراد بالواجب الفعل الذي ورد الشرع بالأمر به إيجابا، والمراد بالمحظور: الفعل الذي ورد الشرع بالنهي عنه حظرا وتحريما".

واقرأ له قوله الآتي "2/ 534-535": "

كون المصلحة مصلحة تقصد بالحكم والمفسدة =

_________

* "مفتاح دار السعادة""2/ 5".

** "المواقف""323"، وانظر:"إتحاف المريد""32-33"، و"الاقتصاد في الاعتقاد""102-110" للغزالي، و"أصول الدين""262-263" للبغدادي، و"أصول الدين" للرازي "92-94".

ص: 127

.........................................................................

= مَفْسَدَةٌ كَذَلِكَ مِمَّا يَخْتَصُّ بِالشَّارِعِ، لَا مَجَالَ للعقل فيه، بناء على قاعدة نفي التحسين والتقبيح، فإذا كان الشارع قد شرع الحكم لمصلحة ما؛ فهو الواضع لها مصلحة، وإلا؛ فكان يمكن عقلا أن لا تكون كذلك؛ إذ الأشياء كلها بالنسبة إلى وضعها الأول متساوية لا قضاء العقل فيها بحسن ولا قبح، فإذًا؛ كون المصلحة مصلحة هو من قبل الشارع بحيث يصدقه العقل وتطمئن إليه النفس".

وهذا بالضبط هو كلام الجويني وغيره من أئمة الأشاعرة، ولهذا القول لوازم فاسدة قد التزموها وقالوا بها، منها كما يقول ابن القيم في "مفتاح دار السعادة" "2/ 42-52": إنه يجوز ظهور المعجزة على يد الكاذب، وإنه ليس بقبيح، وإنه يجوز نسبة الكذب إلى أصدق الصادقين، وإنه لا يقبح منه، وإنه يستوي التثليث والتوحيد قبل ورود الشرع، وإنه لا يقبح الشرك ولا عبادة الأصنام، ولا مسبة المعبود سبحانه، وإنه لا يقبح الزواج بالأم والبنت، وغير ذلك من اللوازم التي انبنت على أن هذه الأشياء لم تقبح بالعقل، وإنما جهة قبحها السمع فقط.

وهذه كلها لوازم فاسدة تدل على فساد الملزوم، بل ويلزم على قولهم هذا أنه يصح أن يأمر الله بالشرك؛ فلا يكون قبيحا، وبالزنى والسرقة والظلم وسائر المنكرات؛ فلا يكون ذلك قبيحا، ويجوز عندهم أن ينهى سبحانه عن التوحيد والعفة والصدق والعدل؛ فتكون هذه كلها قبيحة، كما قال الإيجي في "المواقف" "323":"ولو عكس القضية، فحسن ما قبحه وقبح ما حسنه؛ لم يكن ممتنعا وانقلب الأمر".

القول الثاني:

وهو مذهب المعتزلة على اختلاف بينهم في التفصيلات، وكثير من أصحاب أبي حنيفة، وهذا القول يقع في مقابل القول الأول؛ إذ الحسن والقبح عند هؤلاء عقليان، لا يتوقف في معرفتهما وأخذهما عن الدليل السمعي، ويجعلون الحسن والقبح صفات ذاتية للفعل لازمة له، ويجعلون الشرع إلا كاشفا عن تلك الصفات لا سببا لشيء من الصفات، ترى تفصيل ذلك في "مجموع الفتاوى""8/ 431 و11/ 677"، و"درء تعارض العقل والنقل""8/ 492"، و"مدارج السالكين""1/ 238"، و"مفتاح دار السعادة""2/ 8، 39، 105"، و"شرح الأصول الخمسة""41، 46"، و"سلم الوصول شرح نهاية السؤل""1/ 83"، و"إرشاد الفحول""7".

ورتب المعتزلة على هذا الأصل أمورا عديدة، منها: أن القبح في العقل يترتب عليه الذم والعقاب في الشرع، والحسن في العقل يترتب عليه المدح والثواب في الشرع، وأن الله سبحانه وتعالى يجب عليه أن يفعل ما استحسنه العقل ويحرم عليه أن يفعل ما استقبحه العقل، وأن =

ص: 128

.........................................................................

= المصلحة تنشأ من الفعل المأمور به فقط؛ كالصدق، والعفة، والإحسان، والعدل؛ فإن مصالحها ناشئة منها، وغير ذلك من الأمور المترتبة على هذا الأصل الفاسد واللوازم الملازمة له، كما بينه ابن القيم في "مفتاح دار السعادة""2/ 59-60 و105".

القول الثالث:

هو القول الوسط بين هاتين الطائفتين، والطريق القاصد بين الطريقين الجائرين، إذ قال أصحابه، كما في "مفتاح دار السعادة" "2/ 57":"ما منكم أيها الفريقان إلا من معه حق وباطل، ونحن نساعد كل فريق على حقه ونصير إليه، ونبطل ما معه من الباطل ونرده عليه؛ فنجعل حق الطائفتين مذهبا ثالثا يخرج من بين فرث ودم، لبنا خالصا سائغا للشاربين".

وحاصل هذا القول:

أن الحسن والقبح يدركان بالعقل، ولكن ذلك لا يستلزم حكما في فعل العبد، بل يكون الفعل صالحا لاستحقاق الأمر والنهي، والثواب والعقاب من الحكيم الذي لا يأمر بنقيض ما أدرك العقل حسنه، أو ينهى عن نقيض ما أدرك العقل قبحه؛ لأن ما أدرك العقل حسنه أو قبحه راجح ونقيضه مرجوح، بمعنى أن صفة الحسن في الفعل ترجح جانب الأمر به على جانب الأمر بنقيضه القبيح، وصفة القبح في الفعل ترجح جانب النهي عنه على جانب النهي عن نقيضه الحسن، عملا في ذلك بمقتضى الحكمة التي هي صفة من صفات الله سبحانه؛ فلا حكم إلا من الخطاب الشرعي، ولا أمر ولا نهي إلا من قبل الشارع الحكيم.

وهذا هو قول عامة السلف وأكثر المسلمين؛ كما في "مجموع فتاوى ابن تيمية""11/ 677"، وأهل هذا القول يوافقون الأشاعرة في أنه لا حكم بالثواب والعقاب والأمر والنهي في الفعل إلا جهة الوحي، وأن الحجة إنما تقوم على العباد بالرسالة، وأن الله لا يعذبهم قبل بعثة الرسل، ولا يطالبهم إلا بما بلغهم من أمر، ولا يعاقبهم إلا على ارتكاب ما نهاهم عنه.

ويوافقون المعتزلة في أن العقل يحكم بحسن الشيء أو قبحه، وأن الحسن والقبح صفات ثبوتية للأفعال معلومة بالعقل والشرع، وأن الشرع جاء بتقرير ما هو مستقر في الفطر، والعقول من تحسين الحسن والأمر به وتقبيح القبيح والنهي عنه، وأنه لم يجئ بما يخالف العقل والفطرة، ويوافقونهم في إثبات الحكمة لله تعالى، وأنه سبحانه لا يفعل فعلا خاليا عن الحكمة، بل كل أفعاله مقصودة لعواقبها الحميدة وغاياتها المحبوبة.

ومن الجدير بالذكر أن القول بإدراك العقل للمصالح والمفاسد لا يعني أن إدراكه تام مطلق، بل إنه يدرك ويعجز، ويصيب ويخطئ

وقد بين ابن القيم هذه النقطة؛ فقال في "مفتاح دار =

ص: 129

...........................................................................

= السعادة" "2/ 117": "

بل غاية العقل أن يدرك بالإجمال حسن ما أتى الشرع بتفصيله أو قبحه؛ فيدركه العقل جملة، ويأتي الشرع بتفصيله، وهذا كما أن العقل يدرك حسن العدل، وأما كون هذا الفعل المعين عدلا أو ظلما؛ فهذا مما يعجز العقل عن إدراكه في كل فعل وعقد، وكذلك يعجز عن إدراك حسن كل فعل وقبحه.

فتأتي الشرائع بتفصيل ذلك وتبينه، وما أدركه العقل الصريح من ذلك تأتي الشرائع بتقريره، وما كان حسنا في وقت قبيحا في وقت، ولم يهتد العقل لوقت حسنه من وقت قبحه أتت الشرائع بالأمر به في وقت حسنه، وبالنهي عنه في وقت قبحه، وكذلك الفعل يكون مشتملا على مصلحة ومفسدة، ولا تعلم العقول مفسدته أرجح أم مصلحته؟ فيتوقف العقل في ذلك، فتأتي الشرائع ببيان ذلك، وتأمر براجح المصلحة، وتنهى عن راجح المفسدة، وكذلك الفعل يكون مصلحة لشخص مفسدة لغيره، والعقل لا يدرك ذلك؛ فتأتي الشرائع ببيانه؛ فتأمر به من هو مصلحة له، وتنهى عنه من هو مفسدة في حقه، وكذلك الفعل يكون مفسدة في الظاهر، وفي ضمنه مصلحة عظيمة، لا يهتدي إليها العقل؛ فلا تعلم إلا بالشرع؛ كالجهاد والقتل في الله، ويكون في الظاهر مصلحة، وفي ضمنه مفسدة عظيمة لا يهتدي إليها العقل، فتجيء الشرائع ببيان ما في ضمنه من المصلحة والمفسدة الراجحة، هذا مع أن ما يعجز العقل عن إدراكه من حسن الأفعال وقبحها ليس بدون ما تدركه من ذلك؛ فالحاجة إلى الرسل ضرورية، بل هي فوق كل حاجة؛ فليس العالم إلى شيء أحوج منهم إلى المرسلين، صلوات الله عليهم أجمعين

".

وقد تعرض الشاطبي مرارا لبيان هذا القصور في إدراك العقل للمصالح والمفاسد، ترى ذلك في "الاعتصام""2/ 321-322"، وكما سيأتي "ص537 و2/ 77 و3/ 210".

انظر بسط المسألة في: "مفتاح دار السعادة""2/ 2-118"، و"مدارج السالكين""1/ 230-257، 91 و3/ 407، 488، 492"، و"شفاء الغليل""435"، و"مجموع فتاوى ابن تيمية""8/ 90، 91 و428-432 و3/ 114-115 و11/ 675-687 و75/ 8 و16/ 235-363"، و"درء تعارض العقل والنقل""8/ 492-493"، و"شرح الكوكب المنير""1/ 300، 322"، و"لوامع الأنوار""1/ 284-291"، و"روح المعاني""14/ 94 و15/ 37-42"، و"تيسير التحرير""1/ 283-387"، و"حقيقة البدعة وأحكامها""2/ 127-133"، و"نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي""ص216-229".

ص: 130

وَالثَّالِثُ:

أَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ؛ لَجَازَ إِبْطَالُ الشَّرِيعَةِ بِالْعَقْلِ، وَهَذَا مُحَالٌ بَاطِلٌ، وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ مَعْنَى الشَّرِيعَةِ أَنَّهَا تَحُدُّ لِلْمُكَلَّفِينَ حُدُودًا؛ فِي أَفْعَالِهِمْ، وَأَقْوَالِهِمْ، وَاعْتِقَادَاتِهِمْ، وَهُوَ جُمْلَةُ مَا تَضَمَّنَتْهُ، فَإِنْ جَازَ لِلْعَقْلِ تَعَدِّي حَدٍّ وَاحِدٍ؛ جَازَ لَهُ تَعَدِّي جَمِيعِ الْحُدُودِ؛ لِأَنَّ مَا ثَبَتَ لِلشَّيْءِ ثَبَتَ لِمِثْلِهِ، وَتَعِدِي حَدٍّ وَاحِدٍ هُوَ مَعْنَى إِبْطَالِهِ؛ أَيْ: لَيْسَ هَذَا الْحَدُّ بِصَحِيحٍ، وَإِنْ جَازَ إِبْطَالُ وَاحِدٍ؛ جَازَ إِبْطَالُ السَّائِرِ، وَهَذَا لَا يَقُولُ بِهِ أَحَدٌ لِظُهُورِ مُحاله.

فَإِنْ قِيلَ: هَذَا مُشْكِلٌ؛ مِنْ أَوْجُهٍ:

الْأَوَّلُ:

أَنَّ هَذَا الرَّأْيَ هُوَ رَأْيُ الظَّاهِرِيَّةِ1؛ لِأَنَّهُمْ وَاقِفُونَ مَعَ ظَوَاهِرِ النُّصُوصِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ، وَحَاصِلُهُ عَدَمُ اعْتِبَارِ الْمَعْقُولِ جُمْلَةً، وَيَتَضَمَّنُ نَفْيَ الْقِيَاسِ الَّذِي اتَّفَقَ الْأَوَّلُونَ عَلَيْهِ.

وَالثَّانِي:

أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ لِلْعَقْلِ التَّخْصِيصُ حَسْبَمَا ذَكَرَهُ الْأُصُولِيُّونَ فِي نَحْوِ: {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 284]، و {عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} [الْأَنْعَامِ: 102] ، وَ {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الرَّعْدِ: 16] ، وَهُوَ نَقْصٌ مِنْ مُقْتَضَى الْعُمُومِ؛ فَلْتَجُزِ الزِّيَادَةُ لِأَنَّهَا بِمَعْنَاهُ2، وَلِأَنَّ الْوُقُوفَ دون حد النقل كالمجاوزة

1 هم أصحاب داود بن علي الأصفهاني، ولكن الذي صح عن داود أنه يحتج بالقياس الجلي وينكر القياس الخفي فقط، والذي أنكر القياس مطلقا -خفيه، وجليه- طائفة من أصحابه زعيمهم أبو محمد علي بن حزم الأندلسي "خ".

2 في أن كلا منهما تصرف، ومن له النقص له الزيادة، هكذا يفهم هذا الاستدلال مجملا حتى يكون للدليل بعده فائدة جديدة، وهي أنهم* يشتركان في المعنى الخاص المطلوب بناء الإشكال عليه في قوله، ولما لم يعد

إلخ؛ إلا أن تكون الواو في قوله: ولإن زائدة في النسخ، ثم يبقى النظر في أن أصل الدعوى هي تعدي حد الشرع وإبطاله بالعقل، سواء في ذلك النقص =

_________

* في المطبوع: "أنها".

ص: 131

لَهُ؛ فَكِلَاهُمَا إِبْطَالٌ لِلْحَدِّ عَلَى زَعْمِكَ، فَإِذَا جَازَ إِبْطَالُهُ مَعَ النَّقْصِ؛ جَازَ مَعَ الزِّيَادَةِ، وَلَمَّا لَمْ يُعَدَّ هَذَا إِبْطَالًا لِلْحَدِّ؛ فَلَا يُعَدُّ الْآخَرُ.

وَالثَّالِثُ:

أَنَّ لِلْأُصُولِيِّينَ قَاعِدَةً قَضَتْ بِخِلَافِ هَذَا الْقَضَاءِ، وَهِيَ أَنَّ الْمَعْنَى الْمُنَاسِبَ إِذَا كَانَ جَلِيًّا سَابِقًا لِلْفَهْمِ عِنْدَ ذِكْرِ النَّصِّ؛ صَحَّ تَحْكِيمُ ذَلِكَ الْمَعْنَى فِي النَّصِّ بِالتَّخْصِيصِ لَهُ وَالزِّيَادَةِ عَلَيْهِ، وَمَثَّلُوا ذَلِكَ بِقَوْلِهِ، عليه السلام:"لَا يَقْضِي الْقَاضِي وَهُوَ غَضْبَانُ" 1؛ فَمَنَعُوا -لِأَجْلِ مَعْنَى التَّشْوِيشِ2- الْقَضَاءَ مَعَ جَمِيعِ الْمُشَوِّشَاتِ، وَأَجَازُوا مَعَ مَا لَا يُشَوِّشُ مِنَ الْغَضَبِ؛ فَأَنْتَ تَرَاهُمْ تَصَرَّفُوا بِمُقْتَضَى الْعَقْلِ فِي النَّقْلِ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ، وَذَلِكَ خِلَافُ مَا أَصَّلْتَ، وَبِالْجُمْلَةِ؛ فَإِنْكَارُ تَصَرُّفَاتِ الْعُقُولِ بِأَمْثَالِ هَذَا إِنْكَارٌ لِلْمَعْلُومِ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ.

فَالْجَوَابُ: أَنَّ مَا ذَكَرْتُ لَا إِشْكَالَ فِيهِ عَلَى مَا تقرر.

= والزيادة، وعليه؛ فكان المفهوم أنه يجعل نفس النقص مما يقتضيه العموم تعديا أيضا يعترض به، ويقول: إن ما أصلته هنا ينافيه أصل آخر، وهو تخصيص العقل؛ لأنه نقص، ثم يبني على تخصيص العقل، وكونه نقصا مما حده الشرع، الإشكال بالزيادة على الطريق الذي قرره كما راعى الإشكال بالزيادة والنقص في الإشكال الثالث، وقد وجه همته في الجواب عن الإشكال الثاني إلى طرف النقص فأبطله، ثم قال:"فلا يصح قياس المجاوزة عليه"، وهو يقتضي أنه راعى الاعتراض بالنقص مدرجا في قوله:"وهو نقص" يعني، وهذا إشكال، ثم أخذه مقدمة؛ فقال: فلتجز الزيادة". "د".

1 سيأتي تخريجه "ص411"، والحديث في "الصحيحين" وغيرهما.

2 أنكر هذه الكلمة جماعة من علماء اللغة؛ كأبي منصور، والحريري، وصاحب القاموس، وقالوا: إنها مولدة وصوابها التهويش، ومن المتأخرين من أجاز استعمالها وثوقا بذكر الجوهري لها في "صحاحه"؛ إذ هو مثبت فيقدم على النافي والمتحري للعربية الفصحى لا يكفيه في صحة الكلمة متى أنكرها طائفة من أئمة اللغة ولم يظفر لها بشاهد صحيح أن ترد في كتاب "الصحاح" الذي تركه مؤلفه في المسودة حتى يبيضه تلميذه إبراهيم بن صلاح الوراق، وتسربت فيه أغلاط كثيرة. "خ".

ص: 132

أَمَّا الْأَوَّلُ:

فَلَيْسَ الْقِيَاسُ1 مِنْ تَصَرُّفَاتِ الْعُقُولِ مَحْضًا، وَإِنَّمَا تَصَرَّفَتْ فِيهِ مِنْ تَحْتِ نَظَرِ الْأَدِلَّةِ، وَعَلَى حَسَبِ مَا أَعْطَتْهُ مِنْ إِطْلَاقٍ أَوْ تَقْيِيدٍ، وَهَذَا مُبَيَّنٌ فِي مَوْضِعِهِ مِنْ كِتَابِ الْقِيَاسِ، فَإِنَّا إِذَا دَلَّنَا الشَّرْعُ عَلَى أَنَّ إِلْحَاقَ الْمَسْكُوتِ عَنْهُ بِالْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ مُعْتَبَرٌ، وَأَنَّهُ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي قَصَدَهَا الشَّارِعُ، وَأَمَرَ بِهَا، وَنَبَّهَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْعَمَلِ بِهَا؛ فَأَيْنَ اسْتِقْلَالُ الْعَقْلِ بِذَلِكَ؟ بَلْ هُوَ مهتدٍ فِيهِ بِالْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ، يَجْرِي بِمِقْدَارِ مَا أَجْرَتْهُ، وَيَقِفُ حَيْثُ وَقَفَتْهُ.

وَأَمَّا الثَّانِي:

فَسَيَأْتِي فِي بَابِ الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ2 إِنْ شَاءَ اللَّهُ أَنَّ الْأَدِلَّةَ الْمُنْفَصِلَةَ لَا تُخَصَّصُ3، وَإِنْ سُلِّمَ أَنَّهَا تُخَصَّصُ؛ فَلَيْسَ مَعْنَى تَخْصِيصِهَا أَنَّهَا تَتَصَرَّفُ فِي اللَّفْظِ الْمَقْصُودِ بِهِ ظَاهِرُهُ، بَلْ هِيَ مُبَيِّنَةٌ أَنَّ الظَّاهِرَ غَيْرُ مَقْصُودٍ فِي الْخِطَابِ، بِأَدِلَّةٍ شَرْعِيَّةٍ دَلَّتْ عَلَى ذَلِكَ؛ فالعقل مثله، فَقَوْلُهُ:{وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الْبَقَرَةِ: 284] خَصَّصَهُ الْعَقْلُ بِمَعْنَى أَنَّهُ لَمْ يُرَدْ فِي الْعُمُومِ دُخُولُ ذَاتِ الْبَارِئِ وَصِفَاتِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مُحَالٌ4، بَلِ الْمُرَادُ جَمِيعُ مَا عَدَا ذَلِكَ؛ فلم

1 تأمل لتأخذ جواب أصل الإشكال الأول؛ لأنه أوسع من إنكار القياس الذي تصدى للجواب عنه صراحة، أي؛ فالعقل تابع للأدلة وخادم لها، وهو ما ندعيه. "د".

2 انظر: "4/ 44".

3 ادعى المصنف فيما يأتي أن الشارع نقل ألفاظ العموم عن مدلولاتها اللغوية إلى معانٍ أخر، وصار له في هذه العمومات عرف يخالف عرف اللغة؛ فيكون العام الذي يراه الأصوليون مخصوصا بمنفصل مستعملا عنده في المراد منه فقط، وبهذا يخرج عن العام الذي دخله التخصيص، وستطلع إن شاء الله تعالى على ما يطعن في هذه الدعوى. "خ".

4 ودل الاستقراء للشريعة على أنها لا تصادم العقل بقلب الحقائق، وجعل المحال جائزا أو واجبا، وبذلك يكون العقل آخذا تصرفه في التخصيص من النقل وتحت نظره، أما مجرد قياس العقل على الأدلة الشرعية بدون هذه المقدمة؛ فإنه تسليم للإشكال، ونقض للأصل الذي أصله في المسألة؛ فتأمل. "د".

ص: 133

يَخْرُجِ الْعَقْلُ عَنْ مُقْتَضَى النَّقْلِ بِوَجْهٍ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ؛ لَمْ يَصِحَّ قِيَاسُ الْمُجَاوِرَةِ1 عَلَيْهِ.

وَأَمَّا الثَّالِثُ:

فَإِنَّ إِلْحَاقَ كُلِّ مُشَوِّشٍ بِالْغَضَبِ مِنْ بَابِ الْقِيَاسِ، وَإِلْحَاقَ الْمَسْكُوتِ عَنْهُ بِالْمَنْطُوقِ بِهِ بِالْقِيَاسِ سَائِغٌ، وَإِذَا نَظَرْنَا إِلَى التَّخْصِيصِ بِالْغَضَبِ الْيَسِيرِ؛ فَلَيْسَ مِنْ تَحْكِيمِ الْعَقْلِ، بَلْ مِنْ فَهْمِ مَعْنَى التَّشْوِيشِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْغَضَبَ الْيَسِيرَ غَيْرُ مُشَوِّشٍ؛ فَجَازَ الْقَضَاءُ مَعَ وُجُودِهِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مَقْصُودٍ فِي الْخِطَابِ.

هَكَذَا يَقُولُ الْأُصُولِيُّونَ فِي تَقْرِيرِ هَذَا الْمَعْنَى، وَأَنَّ مُطْلَقَ الْغَضَبِ يَتَنَاوَلُهُ اللَّفْظُ، لَكِنْ خَصَّصَهُ الْمَعْنَى.

وَالْأَمْرُ أَسْهَلُ مِنْ غَيْرِ احْتِيَاجٍ إِلَى تَخْصِيصٍ؛ فَإِنَّ لَفْظَ غَضْبَانَ وَزْنُهُ فَعْلَانُ، وَفَعْلَانُ فِي أَسْمَاءِ الْفَاعِلِينَ يَقْتَضِي الِامْتِلَاءَ مِمَّا اشْتُقَّ مِنْهُ؛ فَغَضْبَانُ إِنَّمَا يُسْتَعْمَلُ فِي الْمُمْتَلِئِ غَضَبًا؛ كَرَيَّانَ فِي الْمُمْتَلِئِ رِيًّا، وَعَطْشَانَ فِي الْمُمْتَلِئِ عَطَشًا، وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ، لَا أَنَّهُ يُسْتَعْمَلُ فِي مُطْلَقِ مَا اشْتُقَّ مِنْهُ2، فَكَأَنَّ الشَّارِعَ إِنَّمَا نَهَى عَنْ قَضَاءِ الْمُمْتَلِئِ غَضَبًا؛ حَتَّى كَأَنَّهُ قَالَ: لَا يَقْضِي الْقَاضِي وَهُوَ شَدِيدُ الْغَضَبِ، أَوْ مُمْتَلِئٌ مِنَ الْغَضَبِ، وَهَذَا هُوَ الْمُشَوِّشُ، فَخَرَجَ الْمَعْنَى عَنْ كَوْنِهِ مُخَصِّصًا، وَصَارَ خُرُوجُ يَسِيرِ الْغَضَبِ عَنِ النَّهْيِ بِمُقْتَضَى اللَّفْظِ، لَا بحكم

1 كذا في الأصل، وفي النسخ المطبوعة "المجاوزة" بالزاي.

2 ممن صرح بهذا المعنى عز الدين ابن جماعة؛ فقال في "كشف المعاني""ص85" موجها تقديم الرحمن على الرحيم في البسملة: إن فعلان صيغة مبالغة في كثرة الشيء وعظمه والامتلاء منه، ولا يلزم منه الدوام؛ كغضبان، وسكران، ونومان، وصيغة فعيل لدوام الصفة ككريم، وظريف؛ فمعنى الرحمن الرحيم: العظيم الرحمة، الدائمها.

قلت: انظر: "نظم الدرر""1/ 26" للبقاعي.

ص: 134

الْمَعْنَى، وَقِيسَ عَلَى مُشَوِّشِ الْغَضَبِ كُلُّ مُشَوِّشٍ؛ فَلَا تَجَاوُزَ لِلْعَقْلِ إِذًا.

وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ؛ فَالْعَقْلُ لَا يَحْكُمُ عَلَى النَّقْلِ فِي أَمْثَالِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ، وَبِذَلِكَ ظَهَرَتْ صِحَّةُ مَا تَقَدَّمَ.

ص: 135