المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المقدمة الثالثة عشرة: - الموافقات - جـ ١

[الشاطبي الأصولي النحوي]

الفصل: ‌المقدمة الثالثة عشرة:

‌المقدمة الثالثة عشرة:

كُلُّ أَصْلٍ عِلْمِيٍّ يُتَّخَذُ إِمَامًا فِي الْعَمَلِ؛ فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَجْرِيَ بِهِ الْعَمَلُ عَلَى مَجَارِي الْعَادَاتِ فِي مِثْلِهِ، بِحَيْثُ لَا يَنْخَرِمُ مِنْهُ رُكْنٌ وَلَا شَرْطٌ، أَوْ لَا، فَإِنْ جَرَى؛ فَذَلِكَ الْأَصْلُ صَحِيحٌ، وَإِلَّا؛ فَلَا.

وَبَيَانُهُ أَنَّ الْعِلْمَ الْمَطْلُوبَ إِنَّمَا يُرَادُ -بِالْفَرْضِ- لِتَقَعَ الْأَعْمَالُ فِي الْوُجُودِ عَلَى وَفْقِهِ مِنْ غَيْرِ تَخَلُّفٍ، كَانَتِ الْأَعْمَالُ قَلْبِيَّةً أَوْ لِسَانِيَّةً، أَوْ مِنْ أَعْمَالِ الْجَوَارِحِ، فَإِذَا جَرَتْ فِي الْمُعْتَادِ عَلَى وَفْقِهِ مِنْ غَيْرِ تَخَلُّفٍ؛ فَهُوَ حَقِيقَةُ الْعِلْمِ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ، وَإِلَّا؛ لَمْ يَكُنْ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ عِلْمًا لِتَخَلُّفِهِ، وَذَلِكَ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ انْقِلَابِ الْعِلْمِ جَهْلًا.

وَمِثَالُهُ فِي عِلْمِ الشَّرِيعَةِ الَّذِي نَحْنُ فِي تَأْصِيلِ أُصُولِهِ: أَنَّهُ قَدْ تَبَيَّنَ فِي أُصُولِ الدِّينِ1 امْتِنَاعُ التَّخَلُّفِ فِي خَبَرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَخَبَرِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم وَثَبَتَ فِي الْأُصُولِ الْفِقْهِيَّةِ امْتِنَاعُ التَّكْلِيفِ بِمَا لَا يُطاق، وَأُلْحِقَ2 بِهِ امْتِنَاعُ التَّكْلِيفِ بِمَا فِيهِ حَرَجٌ خَارِجٌ عَنِ الْمُعْتَادِ، فَإِذًا؛ كَلُّ أَصْلٍ شَرْعِيٍّ تَخَلَّفَ عَنْ جَرَيَانِهِ عَلَى هَذِهِ الْمَجَارِي، فَلَمْ يَطَّرِدْ، وَلَا اسْتَقَامَ بِحَسَبِهَا فِي العادة؛ فليس بأصل يعتمد عليه.

1 في الأصل و"ط": "الأصول الدينية".

2 في الأصل و"ط": "لحق".

ص: 155

وَلَا قَاعِدَةٍ يُسْتَنَدُ إِلَيْهَا.

وَيَقَعُ ذَلِكَ فِي فَهْمِ الْأَقْوَالِ، وَمَجَارِي1 الْأَسَالِيبِ، وَالدُّخُولِ فِي الْأَعْمَالِ.

فَأَمَّا فَهْمُ الْأَقْوَالِ؛ فَمِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} [النِّسَاءِ: 141] ، إِنْ حُمل عَلَى أَنَّهُ إِخْبَارٌ؛ لَمْ يَسْتَمِرَّ مُخْبَرُهُ لِوُقُوعِ سَبِيلِ الْكَافِرِ عَلَى الْمُؤْمِنِ كَثِيرًا بِأَسْرِهِ وَإِذْلَالِهِ؛ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى إِلَّا عَلَى مَا يُصَدِّقُهُ الْوَاقِعُ وَيَطَّرِدُ عَلَيْهِ، وَهُوَ تَقْرِيرُ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ؛ فَعَلَيْهِ يَجِبُ أَنْ يُحمل2.

1 معطوف على الأقوال، والأول معناه أن القول في ذاته بقطع النظر عن أقوال أخرى سبقته أو لحقته يختلف الفهم فيه بين صحيح وغيره، أما الفهم في مجاري الأساليب؛ فإنه ينظر فيه إلى أن فهمه على صحته يقتضي التوفيق بين المساق جميعه وعدم مخالفته السابق واللاحق. "د".

2 كتب بعض الفضلاء* في التعليق على هذا الموضع أنه: "يجوز بقاء الآية على معنى الخبر، ويكون المراد من المؤمنين: جماعة المسلمين العاملين بما يقتضيه الإيمان الراسخ؛ من الاستعداد، والاتحاد، والثبات"، وقال:"إن التاريخ يشهد بأن المسلمين لا يغلبون على أمرهم ما داموا كذلك"**.

ولكن هذا يقتضي أمورا قد لا تسلم؛ منها أنهم يعطون من ذلك ما لم يعطه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في حياته، وأنت تعلم ما حصل لهم في مكة، وانفرادهم في شعب أبي طالب، وإذلال الكثير منهم، وهجرتهم إلى الحبشة، وغيرها.

ومنها: أن تاريخ الحروب الصليبية -وكان في عز الإسلام واستمر قرونا- كان الأمر فيه تارة للمسلمين وتارة عليهم بأخذ بلادهم، والاستيلاء على بيت المقدس، وانكماش دولتهم، وآية: =

_________

* هو الشيخ محمد الخضر حسين، رحمه الله تعالى.

** ونص عبارته الثانية: "والتاريخ الصادق يشهد بأن الممالك الإسلامية لا تزال تتمتع باستقلالها آمنة من أن يغلبها العدو على أمرها وينشب مخالبه في مقاتلها؛ إلا حيث ينفضون أيديهم من وسائل الدفاع، أو يسري بينهم داء التفرق، أو يخالط قلوبهم الفزع واليأس". "خ".

ص: 156

وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} [الْبَقَرَةِ: 233] ، إِنْ حُمل عَلَى أَنَّهُ تَقْرِيرُ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ؛ اسْتَمَرَّ وَحَصَلَتِ الْفَائِدَةُ، وَإِنْ حُمل عَلَى أَنَّهُ إِخْبَارٌ بِشَأْنِ الْوَالِدَاتِ؛ لَمْ تَتَحَكَّمْ فِيهِ فَائِدَةٌ زَائِدَةٌ1 عَلَى مَا عُلم قَبْلَ الْآيَةِ.

وَأَمَّا مَجَارِي الْأَسَالِيبِ؛ فَمِثْلُ قَوْلِهِ: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا} إِلَخْ [الْمَائِدَةِ: 93] .

فَهَذِهِ صِيغَةُ عُمُومٍ تَقْتَضِي بِظَاهِرِهَا دُخُولَ كُلِّ مَطْعُومٍ، وَأَنَّهُ لَا جُنَاحَ فِي اسْتِعْمَالِهِ بِذَلِكَ الشَّرْطِ، وَمِنْ جُمْلَتِهِ الْخَمْرُ، لَكِنْ هَذَا الظَّاهِرُ يفسد جريان2

= {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ}

[النور: 55] لا تدل على المعنى الذي يراد تحميله لهذه الآية، وما في هذه الآية الأخيرة قد أعطيه عليه السلام وأصحابه في حياته وبعد وفاته والمسلمون بعدهم؛ لأن تمكين الدين وتبديل الخوف أمنا لا يلزمه كل ما يراد من الآية الأولى باعتبار المعنى الذي يراد تحميلها إياه، وأنت ترى أن آية الوعد قيدت الإيمان بعمل الصالحات؛ بخلاف الآية المذكورة؛ فليس فيها إلا مجرد الإيمان المقابل للكفر، على خلاف آيات الوعد في القرآن؛ فإنها مقيدة بعمل الصالحات، ولا يخفى أن مجرد الإيمان كاف في تطبيق حكم أنه لا يتولى الكافر شئون المسلم في العقود وغيرها؛ فيكون هو الذي ينبغي تنزيل الآية عليه "د".

1 لم يقل: "لم يستمر"؛ لأن الاستمرار حاصل على كلا الفهمين، غايته أنه على الفهم الثاني لم توجد فيه فائدة زائدة؛ لأنه يكون مجرد إخبار بمجرى العادة المعروفة للناس بدون هذه الآية، فلتحقق الفائدة يلزم أن يكون إنشاء لتقرير ما جرت به العادة حكما شرعيا يرجع إليه في تقرير النفقات وغيرها؛ إلا أنه يبقى الكلام في التمثيل به لما ذكره؛ فإنه بصدد التمثيل لما يقتضي تخلف خبر الله ورسوله، أو لما يلزم عليه تكليف بما لا يطاق، أو بما فيه حرج زائد عن المعتاد، وليس في هذا واحد من هذه الثلاثة، بل شيء آخر، وهو أنه لم يفد فائدة جديدة، فلو زاد على الأمور الثلاثة أنه يلزم في خبر الله ورسوله أن يفيد فائدة جديدة؛ لم تكن معروفة، ثم فرع عليه هذا المثال لكان ظاهرا "د".

2 لأن آية تحريم الخمر السابقة في نفس الموضوع تقتضي تحريم الخمر نصا، وهذا =

ص: 157

الْفَهْمِ فِي الْأُسْلُوبِ، مَعَ إِهْمَالِ السَّبَبِ الَّذِي لِأَجْلِهِ نَزَلَتِ الْآيَةُ بَعْدَ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا حَرَّمَ الْخَمْرَ؛ قَالَ:{لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا} [المائدة: 93] ، فَكَانَ هَذَا نَقْضًا لِلتَّحْرِيمِ، فَاجْتَمَعَ الْإِذْنُ وَالنَّهْيُ مَعًا؛ فَلَا يُمْكِنُ لِلْمُكَلَّفِ امْتِثَالٌ.

وَمِنْ هُنَا خَطَّأَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ مَنْ تَأَوَّلَ فِي الْآيَةِ أَنَّهَا عَائِدَةٌ إِلَى مَا تَقَدَّمَ مِنَ التَّحْرِيمِ فِي الْخَمْرِ، وَقَالَ لَهُ:"إِذَا اتَّقَيْتَ اجْتَنَبْتَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ"1.

إِذْ لَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ لِلْمُكَلَّفِ: "اجْتَنِبْ كَذَا"، وَيُؤَكَّدُ النَّهْيُ بِمَا يَقْتَضِي التَّشْدِيدَ فِيهِ جِدًّا، ثُمَّ يُقَالُ:"فإن فعلت؛ فلا جناح عليك".

= الظاهر ينافيها؛ فلا ينتظم السياق إلا بعدم دخول الخمر في العموم الظاهر؛ لئلا يلزم نقض التحريم، واجتماع النهي والإذن؛ فيكون تكليفا بما لا يطاق فضلا عن إهمال السبب في النزول، وهو أنهم قالوا لما نزل تحريم الخمر:"كيف بأصحابنا وقد ماتوا يشربون الخمر؟ ". فنزلت: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا} إلخ، يعني: ليس عليهم وزر لأنهم آمنوا واتقوا وما تعدوا ولا فعلوا ذلك بعد التحريم، وفضلا أيضا عن معارضة النص بالظاهر، ومعلوم أن النص هوالمقدم، ويكفي للتمثيل بالآية أن يكون فيها عدم جريان الفهم في الأسلوب، وإن كان هناك أسباب أخرى، كما أشار إليه بقوله:"مع إهمال السبب"، وبقوله:"بعد"، وأيضا؛ فإن الله أخبر، وكما أشرنا إليه في تقديم النص على الظاهر وتخصيص النص له. "د".

1 أي: ومنه الخمر التي تقتضي صحة الأسلوب تقرير حرمته، ولما كان هذا ضمن الوجوه التي يصح أن يني عمر عليها أن التقوى لا تكون إلا باجتنابها لتقرر تحريمها وعدم دخولها في هذا الظاهر؛ قال:"ومن هنا"، ولم يجزم فيقول:"ولذلك قال عمر"؛ فتأمل "د".

قلت: وأثر عمر أخرجه ابن أبي شيبة "9/ 546"، وابن المنذر بنحوه؛ كما في "الدر المنثور""3/ 174"، وسيأتي عند المصنف بأطول من هذا "ص272"، وأفاد هناك أنه عند القاضي إسماعيل في "الأحكام" وأخرجه ابن شبة في "تاريخ المدينة""3/ 842-844"، والبيهقي في "الكبرى""8/ 315"، وابن سعد في "الطبقات الكبرى""5/ 56"، والطحاوي في "شرح معاني الآثار""3/ 154".

ص: 158

وَأَيْضًا؛ فَإِنَّ اللَّهَ أَخْبَرَ أَنَّهَا تَصُدُّ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ، وَعَنِ الصَّلَاةِ، وَتُوقِعُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ بَيْنَ الْمُتَحَابِّينَ فِي اللَّهِ، وَهُوَ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ التَّحْرِيمِ كَالْمُنَافِي1 لِقَوْلِهِ:

{إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [الْمَائِدَةِ: 93] ؛ فَلَا يُمْكِنُ إِيقَاعُ كَمَالِ التَّقْوَى بَعْدَ تَحْرِيمِهَا إِذَا شُرِبَتْ؛ لِأَنَّهُ مِنَ الْحَرَجِ أَوْ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطاق.

وَأَمَّا الدُّخُولُ فِي الْأَعْمَالِ؛ فَهُوَ الْعُمْدَةُ فِي الْمَسْأَلَةِ، وَهُوَ الْأَصْلُ فِي الْقَوْلِ بِالِاسْتِحْسَانِ وَالْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ إِذَا أَدَّى الْقَوْلُ بِحَمْلِهِ عَلَى عُمُومِهِ إِلَى الْحَرَجِ2 أَوْ إِلَى مَا لَا يُمْكِنُ شَرْعًا أَوْ عَقْلًا؛ فَهُوَ غَيْرُ جَارٍ عَلَى اسْتِقَامَةٍ وَلَا اطِّرَادٍ، فَلَا يَسْتَمِرُّ الْإِطْلَاقُ، وَهُوَ الْأَصْلُ أَيْضًا لِكُلِّ مَنْ تَكَلَّمَ فِي مُشْكِلَاتِ الْقُرْآنِ أَوِ السُّنَّةِ، لِمَا يَلْزَمُ فِي حَمْلِ مَوَارِدِهَا عَلَى عُمُومِهَا أَوْ إِطْلَاقِهَا مِنَ الْمُخَالَفَةِ الْمَذْكُورَةِ، حَتَّى تُقَيَّدَ بِالْقُيُودِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلِاطِّرَادِ وَالِاسْتِمْرَارِ فَتَصِحَّ، وَفِي ضِمْنِهِ تَدْخُلُ أَحْكَامُ الرُّخَصِ، إِذْ هُوَ الْحَاكِمُ فِيهَا، وَالْفَارِقُ بَيْنَ مَا تَدْخُلُهُ الرُّخْصَةُ وَمَا لَا.

وَمَنْ لَمْ يُلَاحِظْهُ فِي تَقْرِيرِ الْقَوَاعِدِ الشَّرْعِيَّةِ؛ لَمْ يَأْمَنِ الْغَلَطَ، بَلْ كَثِيرًا مَا تَجِدُ خَرْمَ هَذَا الْأَصْلِ فِي أُصُولِ الْمُتَّبِعِينَ لِلْمُتَشَابِهَاتِ، وَالطَّوَائِفِ الْمَعْدُودِينَ فِي الْفِرَقِ الضَّالَّةِ عَنِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، كَمَا أَنَّهُ قَدْ يَعْتَرِي ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الْمُعْتَبَرِينَ وَالشُّيُوخِ الْمُتَقَدِّمِينَ.

وَسَأُمَثِّلُ لَكَ بِمَسْأَلَتَيْنِ وَقَعَتِ الْمُذَاكَرَةُ بِهِمَا مَعَ بَعْضِ شيوخ العصر3:

1 أي: من حيث الكمال؛ كما يفيده كلامه "د".

2 تقتضي قاعدتا تعيين قدر المبيع في البيع وتحديد مدة الانتفاع بالمحل في الإجارة أن لا يجوز الدخول للحمام إلا بشرط تحديد مدة المكث به، وبيان مقدار ما يستعمل من الماء، ولكن وقع استثناء هذه المسألة وأعطيت حكم الإباحة بإطلاق لما في تقدير الماء المستعمل في الحمام، وتحديد مدة المقام به من المشقة القاضية بالرخصة والتيسير. "خ".

3 أفاد التنبكي في "نيل الابتهاج""ص48" أن الشاطبي "تكلم مع كثير من الأئمة في =

ص: 159

إِحْدَاهُمَا: أَنَّهُ كَتَبَ إِلِيَّ بَعْضُ شُيُوخِ الْمَغْرِبِ1 فِي فَصْلٍ يَتَضَمَّنُ "مَا يَجِبُ عَلَى طَالِبِ الْآخِرَةِ النَّظَرُ فِيهِ، وَالشُّغْلُ بِهِ"، فَقَالَ فِيهِ:"وَإِذَا شَغَلَهُ شَاغِلٌ عَنْ لَحْظَةٍ فِي صَلَاتِهِ؛ فَرَّغَ سِرَّهُ مِنْهُ، بِالْخُرُوجِ عَنْهُ، وَلَوْ كَانَ يُساوي خَمْسِينَ أَلْفًا كَمَا فَعَلَهُ الْمُتَّقُونَ".

فَاسْتَشْكَلْتُ هَذَا الْكَلَامَ، وَكَتَبْتُ إِلَيْهِ بِأَنْ قُلْتُ2: أَمَّا أَنَّهُ مَطْلُوبٌ بِتَفْرِيغِ السِّرِّ مِنْهُ؛ فَصَحِيحٌ، وَأَمَّا أَنَّ تَفْرِيغَ السِّرِّ بِالْخُرُوجِ عَنْهُ وَاجِبٌ؛ فَلَا أَدْرِي مَا هَذَا الْوُجُوبُ؟ وَلَوْ كَانَ وَاجِبًا بِإِطْلَاقٍ؛ لَوَجَبَ عَلَى جَمِيعِ النَّاسِ الْخُرُوجُ عَنْ ضِيَاعِهِمْ، وَدِيَارِهِمْ، وقُراهم، وَأَزْوَاجِهِمْ، وَذُرِّيَّاتِهِمْ، وَغَيْرِ ذَلِكَ3 مما يقع لهم

= مشكلات المسائل من شيوخه وغيرهم؛ كالقباب، وقاضي الجماعة الفشتالي، والإمام ابن عرفة، والولي الكبير أبي عبد الله بن عباد؛ فجرى له معهم أبحاث ومراجعات أجلت عن ظهوره فيها"، وأفاد ناسخ الأصل كما سيأتي أن ابن عرفة كتب للشاطبي في مسألة "مراعاة الخلاف"، ونقل عن "نوازل البرزالي" ذلك.

قلت: وفي "المعيار المعرب""6/ 387" ما يدل عليه وعلى أن أبا العباس القباب باحثه في ذلك، ثم وجدت في "الاعتصام" "2/ 146" قوله: "فأجابني بعضهم بأجوبة منها الأقرب والأبعد، إلا أني راجعت بعضهم بالبحث، وهو أخي ومفيدي أبو العباس بن القباب -رحمة الله عليه- فكتب إلي ما نصه

".

وأورد الونشريسي في "المعيار""12/ 293" مراسلة بين المصنف والشيخ أبي عبد الله محمد بن إبراهيم بن محمد بن مالك بن إبراهيم بن يحيى بن عباد النفزي النفري في علم التصوف ومدى ضرورة الشيخ في ذلك.

1 هو ابن القباب كما صرح به الونشريسي في "المعيار المعرب""11/ 20".

2 في "ط": "قلت له".

3 وهذا منتهى الحرج للأفراد، وتكليف الجميع به تكليف بما لا يطاق، وهو أيضا مخالف لما يقصده الشرع من المحافظة على الضروريات والحاجيات

إلخ؛ فهو جار على غير استقامة. "د". وانظر رد المصنف على القشيري في مسألة الاشتراط على المريد أن يخرج من ماله في: "الاعتصام""1/ 214-215".

ص: 160

بِهِ الشُّغْلُ فِي الصَّلَاةِ، وَإِلَى هَذَا فَقَدْ يَكُونُ الْخُرُوجُ عَنِ الْمَالِ سَبَبًا لِلشُّغْلِ فِي الصَّلَاةِ أَكْثَرَ مِنْ شُغْلِهِ بِالْمَالِ.

وَأَيْضًا؛ فَإِذَا كَانَ الْفَقْرُ هُوَ الشَّاغِلُ؛ فَمَاذَا يَفْعَلُ؟ فَإِنَّا نَجِدُ كَثِيرًا مِمَّنْ يَحْصُلُ لَهُ الشَّغْلُ بِسَبَبِ الْإِقْلَالِ، وَلَا سِيَّمَا إِنْ كَانَ لَهُ عِيَالٌ لَا يَجِدُ إِلَى إِغَاثَتِهِمْ سَبِيلًا، وَلَا يَخْلُو أَكْثَرُ النَّاسِ عَنِ الشُّغْلِ بِآحَادِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ؛ أَفَيَجِبُ عَلَى هَؤُلَاءِ الْخُرُوجُ عَمَّا سَبَّبَ لَهُمُ الشُّغْلَ فِي الصَّلَاةِ؟ هَذَا مَا لَا يُفْهَمُ، وَإِنَّمَا الْجَارِي عَلَى الْفِقْهِ وَالِاجْتِهَادِ فِي الْعِبَادَةِ طَلَبُ مُجَاهَدَةِ الْخَوَاطِرِ الشَّاغِلَةِ خَاصَّةً، وَقَدْ يُندب إِلَى الْخُرُوجِ عَمَّا شَأْنُهُ أَنْ يَشْغَلَهُ، مِنْ مَالٍ أَوْ غَيْرِهِ، إِنْ أَمْكَنَهُ الْخُرُوجُ عَنْهُ شَرْعًا، وَكَانَ مِمَّا لَا يُؤَثِّرُ فِيهِ فَقْدُهُ تَأْثِيرًا يُؤَدِّي إِلَى مِثْلِ مَا فَرَّ مِنْهُ أَوْ أَعْظَمَ، ثُمَّ يُنْظَرُ بعدُ فِي حُكْمِ الصَّلَاةِ الْوَاقِعِ فِيهَا الشُّغْلُ: كَيْفَ حَالُ صَاحِبِهَا مِنْ وُجُوبِ الْإِعَادَةِ، أَوِ اسْتِحْبَابِهَا، أَوْ سُقُوطِهَا؟ وله موضع غير هذا. ا. هـ حَاصِلُ الْمَسْأَلَةِ.

فَلَمَّا وَصَلَ إِلَيْهِ ذَلِكَ؛ كَتَبَ إِلَيَّ بِمَا يَقْتَضِي التَّسْلِيمَ فِيهِ، وَهُوَ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّ الْقَوْلَ بِإِطْلَاقِ الْخُرُوجِ عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ غَيْرُ جَارٍ فِي الْوَاقِعِ عَلَى اسْتِقَامَةٍ؛ لِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ النَّاسِ؛ فَلَا يَصِحُّ اعْتِمَادُهُ أَصْلًا فِقْهِيًّا أَلْبَتَّةَ.

وَالثَّانِيَةُ: مَسْأَلَةُ الْوَرِعِ بِالْخُرُوجِ عَنِ الْخِلَافِ1؛ فَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ يَعُدُّونَ الْخُرُوجَ عَنْهُ فِي الْأَعْمَالِ التَّكْلِيفِيَّةِ مَطْلُوبًا، وَأَدْخَلُوا فِي الْمُتَشَابِهَاتِ المسائل المختلف فيها.

1 انظر في هذه المسألة: "مجموع ابن تيمية""10/ 644، 522 و20/ 138، 139"، و"الاعتصام""1/ 214 و2/ 146"، و"بدائع الفوائد""3/ 257"، و"تهذيب السنن""1/ 60"، و"إغاثة اللهفان""1/ 129-130" -كلها للإمام ابن القيم- و"الإحكام" لابن حزم "6/ 745"، و"إيضاح السالك" للونشريسي "160"، و"فتح الباري""1/ 27"، و"الفواكه العديدة""2/ 136"، و"الورع" للصنهاجي "ص37"، و"تمام المنة""159"، و"رفع الحرج" ليعقوب الباحسين "ص137-182"، وما سيأتي "5/ 107 وما بعدها".

ص: 161

وَلَا زِلْتُ مُنْذُ زَمَانٍ اسْتَشْكِلُهُ؛ حَتَّى كَتَبْتُ فِيهَا إِلَى الْمَغْرِبِ، وَإِلَى إِفْرِيقِيَّةَ؛ فَلَمْ يَأْتِنِي جَوَابٌ بِمَا يَشْفِي الصَّدْرَ، بَلْ كَانَ مِنْ جُمْلَةِ الْإِشْكَالَاتِ الْوَارِدَةِ؛ أَنَّ جُمْهُورَ مَسَائِلِ الْفِقْهِ1 مُخْتَلَفٌ فِيهَا اخْتِلَافًا يُعْتَدُّ بِهِ، فَيَصِيرُ إِذًا أَكْثَرُ مَسَائِلِ الشَّرِيعَةِ مِنَ الْمُتَشَابِهَاتِ، وَهُوَ خِلَافُ2 وَضْعِ الشَّرِيعَةِ.

وَأَيْضًا؛ فَقَدْ صَارَ الْوَرَعُ مِنْ أَشَدِّ الْحَرَجِ؛ إِذْ لَا تَخْلُو لِأَحَدٍ فِي الْغَالِبِ عِبَادَةٌ، وَلَا مُعَامَلَةٌ، وَلَا أَمْرٌ مِنْ أُمُورِ التَّكْلِيفِ، مِنْ خِلَافٍ يُطْلَبُ الْخُرُوجُ عَنْهُ، وَفِي هَذَا مَا فِيهِ.

فَأَجَابَ بَعْضُهُمْ3: بِأَنَّ الْمُرَادَ بِأَنَّ الْمُخْتَلَفَ فِيهِ مِنَ الْمُتَشَابِهِ، الْمُخْتَلَفُ

1 جمهور الشيء أكثره، وهي دعوى تحتاج لإحصاء مسائل الشريعة مسألة مسألة، والوقوف على حصول خلاف في أكثرها بين مجتهدين مسلم لهم في الاجتهاد، ومنقول لنا خلافهم بطريق صحيح، ويكون الخلاف معتدا به كما يقول، وسيذكر في كتاب الاجتهاد أن هناك عشرة أسباب تجعل كثيرا من الخلافات غير معتد به خلافا، على أن الورع بعد هذا كله في مراعاة شرط أو ركن لم يقل به آخر، أو في تحريم شيء لم ير حرمته آخر، أو إيجاب شيء لم ير وجوبه آخر، أما الخلافات بين مباح ومندوب، وبين سنة ومباح، وبين طلب تقديم شيء وتأخيره، وهكذا من أمثال هذا الذي لا يترتب عليه حرمة ولا بطلان عبادة؛ فليس مما يقصد دخوله في ورع الخروج من الخلاف، وإذًا؛ فهل بقي بعد هذا أن الورع في ذلك من أشد أنواع الحرج؟ ذلك ما يحتاج إلى دقة نظر. "د".

2 سيأتي بيانه في المتشابه والمحكم في فصول ضافية. "د".

3 كتب ناسخ الأصل هنا ما نصه: "المراد بهذا البعض هو الشيخ الإمام ابن عرفة التونسي، كما يعلم ذلك بمراجعة أوائل "البرزالي"؛ فإنه ذكر ورود السؤال من بعض فقهاء غرناطة -يعني: المصنف- عن الشيخ ابن عرفة في مسائل عديدة، من جملتها هذه المسألة؛ فذكر عن السائل المذكور البحث فيها من سبعة أوجه:

أحدها:

أن الورع إما لتوقع العقاب أو ثبوت الثواب، وإلا؛ فليس بورع، أما الأول؛ فالإجماع على عدم تأثيم المخطئ في الفروع، وإذا قلنا: إن كل مجتهد مصيب؛ فالأمر واضح. =

ص: 162

فِيهِ اخْتِلَافًا دَلَائِلُ أَقْوَالِهِ مُتَسَاوِيَةٌ أَوْ مُتَقَارِبَةٌ، وَلَيْسَ أَكْثَرُ مَسَائِلِ الْفِقْهِ هَكَذَا، بَلِ الْمَوْصُوفُ بِذَلِكَ أَقَلُّهَا، لِمَنْ تَأَمَّلَ مِنْ مُحَصِّلِي مَوَارِدِ1 التَّأَمُّلِ، وَحِينَئِذٍ لَا يَكُونُ الْمُتَشَابِهُ مِنْهَا إِلَّا الْأَقَلَّ، وَأَمَّا الْوَرَعُ مِنْ حَيْثُ ذَاتِهِ، وَلَوْ فِي هَذَا النَّوْعِ فَقَطُّ؛ فَشَدِيدٌ مُشِقٌّ، لَا يُحَصِّلُهُ إِلَّا مَنْ وَفَّقَهُ اللَّهُ إِلَى كَثْرَةِ استحضار لوازم فعل المنهي

= وأما الثاني:

فلأن المخطئ مأجور كالمصيب، وإذا قلنا: إن المصيب أكثر أجرا؛ فلعل الخطأ في الجهة التي إليها المتورع إذ المخطئ غير متعين.

وثانيها: أن هذا الخروج لا يتصور، فإن المتورع إذا انكب عن الفعل المختلف فيه بالحل والحرمة؛ فقد رجع "الصحيح لغة: رجح" الضرب المحرم؛ إذ لم ينكب إلا خوف الإثم؛ فإن المنكب لأمر آخر ليس بورع.

وثالثها: أن المتورع إن كان مجتهدا يعرض ما أداه إليه اجتهاده، فإن تعارضت الأدلة؛ فالترجيح، وإلا؛ فالوقف أو التخيير، وإن كان مقلدا؛ فإن قلد أحد المجتهدين لم يتمكن له في قضيته تلك أن يقلد الآخر، ولا أن يجمع بينهما لأنهما متضادان، ولا له أن ينظر لأنه ليس من أهل النظر.

ورابعها: أن الورع بمثل هذا لم يثبت عن الصحابة والتابعين أنهم استعملوه، بل حديث "أصحابي كالنجوم" 1 مطلق في الاقتداء بهم، من غير تقييد ولا تنبيه على جهة الورع إذا اختلفوا على المقتدي.

خامسها: أن ترجيح المتورع لأحد القولين فممنوع؛ لأنه إن كان بدليل فهو منصب المجتهد وحينئذ يكون عملا بأحدهما أو بالقول الثالث، وإن كان بغير دليل؛ فلا يصح باتفاق.

سادسا: ما ذكره المصنف هنا وهو أن جمهور مسائل الفقه

إلخ.

سابعها: لأن عامل الورع في مسائل الخلاف الآخذ بالأشد وتتبع الأشد أبدا لمذهب لا يقصر عمن تتبع الرخص في الذم.

فإن كان تتبع الرخص غير محمود، بل حكى ابن حزم الإجماع على أنه فسق لا يحل؛ فتتبع الشدائد غير محمود أيضا؛ لأنه تنطع ومشادة في الدين، وأجاب الإمام ابن عرفة عن هذه الأوجه كلها وأجاد في بعضها كل الإجادة، رحمه الله تعالى ونفعنا به، آمين. ا. هـ.

1 في النسخ المطبوعة الثلاث: "مواد".

_________

1 الحديث منكر، كما سيأتي تفصيله "4/ 452".

ص: 163

عَنْهُ، وَقَدْ قَالَ عليه السلام:"حُفَّتِ الْجَنَّةُ بِالْمَكَارِهِ" 1، هَذَا مَا أَجَابَ بِهِ.

فَكَتَبْتُ إِلَيْهِ: بِأَنَّ مَا قَرَّرْتُمْ مِنَ الْجَوَابِ غَيْرُ بَيَّنٍ؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَجْرِي فِي الْمُجْتَهِدِ وَحْدَهُ، وَالْمُجْتَهِدُ إِنَّمَا يَتَوَرَّعُ عِنْدَ تَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ، لَا عِنْدَ تَعَارُضِ الْأَقْوَالِ؛ فَلَيْسَ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ، وَأَمَّا الْمُقَلِّدُ؛ فَقَدْ نَصَّ صَاحِبُ هَذَا الْوَرَعِ الْخَاصِّ عَلَى طَلَبِ خُرُوجِهِ مِنَ الْخِلَافِ إِلَى الْإِجْمَاعِ، وَإِنْ كَانَ مَنْ أَفْتَاهُ أَفْضَلَ الْعُلَمَاءِ الْمُخْتَلِفِينَ، وَالْعَامِّيُّ -فِي عَامَّةِ أَحْوَالِهِ- لَا يَدْرِي مَنِ الَّذِي دَلِيلُهُ أَقْوَى مِنَ الْمُخْتَلِفِينَ وَالَّذِي دَلِيلُهُ أَضْعَفُ، وَلَا يَعْلَمُ: هَلْ تَسَاوَتْ أَدِلَّتُهُمْ أَوْ تَقَارَبَتْ أَمْ لَا؛ لِأَنَّ هَذَا لَا يَعْرِفُهُ إِلَّا مَنْ كَانَ أَهْلًا لِلنَّظَرِ، وَلَيْسَ الْعَامِّيُّ كَذَلِكَ، وَإِنَّمَا بُنِيَ الْإِشْكَالُ عَلَى اتِّقَاءِ الْخِلَافِ الْمُعْتَدِّ بِهِ، وَالْخِلَافُ الْمُعْتَدُّ بِهِ مَوْجُودٌ فِي أَكْثَرِ مَسَائِلِ الشَّرِيعَةِ، وَالْخِلَافُ الَّذِي لَا يُعْتَدُّ بِهِ قَلِيلٌ2؛ كَالْخِلَافِ فِي الْمُتْعَةِ3، وَرِبَا النَّسَاءِ، ومحاش4 النساء، وما أشبه ذلك.

1 أخرجه البخاري في "صحيحه""كتاب الرقاق، باب حجبت النار بالشهوات، 11/ 320/ رقم 6487"، ومسلم في "صحيحه""كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب منه 4/ 2174/ رقم 2823" من حديث أبي هريرة، رضي الله عنه.

2 أشرنا آنفا إلى أنه أكثر مواضع الخلاف، رجوعا إلى ما سيقرره في موضعه، وأن القليل هو الذي يعتد به خلافا. "د".

3 أبيحت المتعة في صدر الإسلام بداعية قلة النساء وطول مدة الاغتراب في سبيل الجهاد، ثم حرمت تحريما مؤبدا بقوله عليه الصلاة والسلام كما في "صحيح مسلم" "رقم 1406 بعد 21":"قد كنت أذنت لكم في الاستمتاع من النساء، وإن الله قد حرم ذلك إلى يوم القيامة"، ومن حكمة تحريمه أنه يحط من شأن المرأة، ويجعلها كالأدوات المبتذلة يتناولها الرجال واحدا بعد آخر، ثم إن المقصد الأعظم من النكاح التناسل، ومصلحة الولد تستدعي أن يتربى بين أبوين يرتبطان بعاطفة وداد روحي وإخلاص في المعاشرة، وهذه الرابطة لا تستقيم حيث يعقد النكاح لأمد معلوم. "خ".

4 جمع محشة، وهي من الألفاظ المكنى بها عن الاست، ومنه حديث ابن مسعود:"محاش النساء عليكم حرام""خ".

ص: 164

وَأَيْضًا؛ فَتَسَاوِي الْأَدِلَّةِ1 أَوْ تَقَارُبُهَا أَمْرٌ إِضَافِيٌّ بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَنْظَارِ الْمُجْتَهِدِينَ، فَرُبَّ دَلِيلَيْنِ يَكُونَانِ عِنْدَ بَعْضٍ مُتَسَاوِيَيْنِ أَوْ مُتَقَارِبَيْنِ، وَلَا يَكُونَانِ كَذَلِكَ عِنْدَ بَعْضٍ؛ فَلَا يَتَحَصَّلُ لِلْعَامِّيِّ ضَابِطٌ يَرْجِعُ إِلَيْهِ فِيمَا يَجْتَنِبُهُ مِنَ الْخِلَافِ مِمَّا لَا يَجْتَنِبُهُ، وَلَا يُمْكِنُهُ الرُّجُوعُ فِي ذَلِكَ إِلَى الْمُجْتَهِدِ؛ لِأَنَّ مَا يَأْمُرُهُ بِهِ مِنَ الِاجْتِنَابِ أَوْ عَدَمِهِ رَاجِعٌ إِلَى نَظَرِهِ وَاجْتِهَادِهِ، وَاتِّبَاعُ نَظَرِهِ وَحْدَهُ فِي ذَلِكَ تَقْلِيدٌ لَهُ وحده، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَخْرُجَ عَنِ الْخِلَافِ، لَا سِيَّمَا إِنْ كَانَ هَذَا الْمُجْتَهِدُ يَدَّعِي أَنَّ قَوْلَ خَصْمِهِ ضَعِيفٌ لَا يُعْتَبَرُ مِثْلُهُ، وَهَكَذَا الْأَمْرُ فِيمَا إِذَا رَاجَعَ الْمُجْتَهِدَ الْآخَرَ؛ فَلَا يَزَالُ الْعَامِّيُّ فِي حَيْرَةٍ إِنِ اتَّبَعَ هَذِهِ الأمور، وهو شديد جدا، و "من يُشَادَّ هَذَا الدِّينَ يَغْلِبْهُ" 2، وَهَذَا هُوَ الَّذِي أَشْكَلَ عَلَى السَّائِلِ، وَلَمْ يَتَبَيَّنْ جَوَابُهُ بَعْدُ.

وَلَا كَلَامَ فِي أَنَّ الْوَرَعَ شَدِيدٌ فِي نَفْسِهِ، كَمَا أَنَّهُ لَا إِشْكَالَ فِي أَنَّ الْتِزَامَ التَّقْوَى شَدِيدٌ؛ إِلَّا أَنَّ شِدَّتَهُ لَيْسَتْ مِنْ جِهَةِ إِيقَاعِ ذَلِكَ بِالْفِعْلِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ عَلَيْنَا فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ، بَلْ مِنْ جِهَةِ قَطْعِ مَأْلُوفَاتِ النَّفْسِ وَصَدِّهَا عَنْ هَوَاهَا خَاصَّةً.

وَإِذَا تَأَمَّلْنَا مَنَاطَ الْمَسْأَلَةِ؛ وَجَدْنَا الْفَرْقَ بَيْنَ هَذَا الْوَرَعِ الْخَاصِّ وَغَيْرِهِ مِنْ أَنْوَاعِ الْوَرَعِ بَيِّنًا، فَإِنَّ سَائِرَ أَنْوَاعِ الْوَرَعِ سَهْلٌ فِي الْوُقُوعِ، وَإِنْ كَانَ شَدِيدًا فِي مُخَالَفَةِ النَّفْسِ، وَوَرَعُ الْخُرُوجِ مِنَ الْخِلَافِ صعب في الوقوع قبل النظر في

1 يدفع بهذا ما يتوهم وروده على قوله: "ولا يعلم هل تساوت أدلتهم

" إلخ؛ فقد يقال: يرجع في ذلك إلى المجتهد ليعرف التساوي والتقارب؛ فقال هنا: إنه لا يتأتى الرجوع في ذلك له. "د".

2 قطعة من حديث أوله: "إن الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه

"؛ أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الإيمان، باب الدين يسر، 1/ 93/ رقم 39" عن أبي هريرة، رضي الله عنه.

ص: 165

مُخَالَفَةِ النَّفْسِ؛ فَقَدْ تَبَيَّنَ مَقْصُودُ السَّائِلِ بِالشِّدَّةِ والحرج، وأنه ليس ما أشرتم إليه. ا. هـ. مَا كَتَبْتُ بِهِ، وَهُنَا وَقَفَ الْكَلَامُ بَيْنِي وَبَيْنَهُ.

وَمَنْ تَأَمَّلَ هَذَا التَّقْرِيرَ؛ عَرَفَ أَنَّ مَا أَجَابَ بِهِ هَذَا الرَّجُلُ لَا يَطَّرِدُ1، وَلَا يَجْرِي فِي الْوَاقِعِ مَجْرَى الِاسْتِقَامَةِ لِلُزُومِ الْحَرَجِ فِي وُقُوعِهِ؛ فَلَا يَصِحُّ أَنْ يُسْتَنَدَ إِلَيْهِ، وَلَا يُجْعَلَ أَصْلًا يُبْنَى2 عَلَيْهِ3.

وَالْأَمْثِلَةُ كَثِيرَةٌ؛ فَاحْتَفِظْ بِهَذَا الْأَصْلِ؛ فَهُوَ مُفِيدٌ جِدًّا، وَعَلَيْهِ يَنْبَنِي كَثِيرٌ مِنْ مَسَائِلِ الْوَرِعِ، وَتَمْيِيزِ المتشابهات، وما يعتبر من وجوه الِاشْتِبَاهِ4 وَمَا لَا يُعْتَبَرُ، وَفِي أَثْنَاءِ الْكِتَابِ مسائل تحققه إن شاء الله.

1 لأنه إنما يجري في المجتهد لا في المقلد، وإجراؤه في المقلد الذي هو أصل السؤال مؤد إلى الحرج "د".

2 في "خ": "ينبني".

3 أنكر جماعة من الفقهاء دخول الورع في بسملة المالكي في الصلاة بحجة أنه لا يخرج من خلاف الإمام الشافعي؛ إلا أن يقرأ البسملة معتقدا وجوبها، كما أنكروا دخوله في مسح الشافعي جميع رأسه خروجا من خلاف المذهب المالكي؛ لأنه لا يتخلص من خلاف هذا المذهب إلا أن يمسح الجميع باعتقاد الوجوب، وحاول شهاب الدين القرافي في "قواعده" تصوير الجمع بين المذهبين في الفرع الثاني؛ فلم يهتد إلى وجه مرضي، ومن المتعذر عليه وعلى غيره أن يجمع بين حكمين متضادين مثل الندب والوجوب في عبادة واحدة "خ".

4 تعارض الأدلة على المجتهد لا تعارض الأقوال على المقلد؛ فلا يلزم عليه الحرج.

نعم، سيأتي له أن على المقلد إذا تعارضت عليه الأقوال أن يرجح واحدا منها، ولكنه اعتبر في الترجيح أمورا واضحة لا يبقى معها اشتباه، كأن يأخذ بقول من عرف بأنه يعمل بعلمه مثلا "د".

ص: 166