المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌الْمُقَدِّمَةُ الْأُولَى 1 إِنَّ أُصُولَ الْفِقْهِ2 فِي الدِّينِ قَطْعِيَّةٌ لَا ظَنِّيَّةٌ، - الموافقات - جـ ١

[الشاطبي الأصولي النحوي]

الفصل: ‌ ‌الْمُقَدِّمَةُ الْأُولَى 1 إِنَّ أُصُولَ الْفِقْهِ2 فِي الدِّينِ قَطْعِيَّةٌ لَا ظَنِّيَّةٌ،

‌الْمُقَدِّمَةُ الْأُولَى

1

إِنَّ أُصُولَ الْفِقْهِ2 فِي الدِّينِ قَطْعِيَّةٌ لَا ظَنِّيَّةٌ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهَا

1 نحو ما عند المصنف تحت هذه المسألة في "مجموع فتاوى ابن تيمية""19/ 228-234، و20/ 62-64".

2 "قوله: "أصول" جمع أصل، وهو في الاصطلاح ما يبنى عليه غيره عكس الفرع؛ فإنه ما ينبني على غيره.

والفقه لغة: الفهم، وفي الاصطلاح: الأحكام الشرعية التي طريقها طريق المجتهدين والدين والجزاء والعبادة، وهو المراد هنا.

والقطعي: الذي لا شك فيه، وتراها وتبصرها.

وظنية: منسوبة إلى الظن، وهو الراجح من الأمر، والمرجوح يسمى وهما، والمستوي يسمى شكا". "ماء".

وكتب "د" ما نصه: "تطلق الأصول على الكليات المنصوصة في الكتاب والسنة كـ "لا ضرر ولا ضرار"، و {لا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} ، و {مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} ، "إنما الأعمال بالنيات"، "من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة"، وهكذا، وهذه تسمى أدلة أيضا؛ كالكتاب، والسنة، والإجماع

إلخ. وهي قطعية بلا نزاع، وتطلق أيضا على القوانين المستنبطة من الكتاب والسنة، التي توزن بها الأدلة الجزئية عند استنباط الأحكام الشرعية منها، وهذه القوانين هي فن الأصول؛ فمنها ما هو قطعي باتفاق، ومنها ما فيه النزاع بالظنية والقطعية؛ فالقاضي ومن وافقه على أن من هذه المسائل الأصولية ما هو ظني، والمؤلف بصدد معالجة إثبات كون مسائل الأصول قطعية بأدلته الثلاثة الأول وبالأدلة الأخرى التي جاء بها في صدد الرد على المازري في اعتراضه على القاضي، ثم قرر أخيرا أن ما كان ظنيا يطرح من علم الأصول؛ فيكون ذكره تبعيا لا غير".

ص: 17

رَاجِعَةٌ إِلَى كُلِّيَّاتِ الشَّرِيعَةِ، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ؛ فَهُوَ قَطْعِيٌّ1.

بَيَانُ2 الْأَوَّلِ ظَاهِرٌ بِالِاسْتِقْرَاءِ الْمُفِيدِ لِلْقَطْعِ3.

وَبَيَانُ الثَّانِي مِنْ أَوْجُهٍ:

أحدُها4: أَنَّهَا تَرْجِعُ إِمَّا إِلَى أُصُولٍ عَقْلِيَّةٍ5، وَهِيَ قَطْعِيَّةٌ، وإما إلى

1 خفي الوجه الذي بسطه المصنف في هذه المقدمة على بعض الكاتبين في الأصول؛ فقال: من أصول الفقه ما ليس بقطعي؛ كحجية الاستصحاب، ومفهوم المخالفة، وستطلع إن شاء الله على أن من قرر أصلا كالاستصحاب أو سد الذرائع أو المصالح المرسلة؛ إنما انتزعه من موارد متعددة من الشريعة حتى قطع بأنه من الأصول المقصودة في بناء الأحكام. "خ".

قال "ماء": "قطعية أبدا في جميع الدهر ولا تكون ظنية".

قلت: الخلاف في هذه المسألة يبدو أنه راجع إلى عدم تحرير محل النزاع فقط؛ فالقائلون بأن "أصول الفقه" قطعية لا تحتمل الظنيات -ومنهم المصنف-؛ يقصدون "أصول" الأدلة، والقواعد الكلية للشريعة، ويعتبرون ما سوى ذلك من المباحث التفصيلية والاجتهادات التطبيقية ليس من "أصول" الفقه، وإن بُحث في علم "أصول الفقه" وكتبه، وأما القائلون بأن أصول الفقه تشتمل على كثير من الظنيات؛ فإنما يتكلمون عن "علم أصول الفقه"، حيث أدرجت فيه كثير من الظنيات، ودليل ظنيتها كثرة الخلاف فيها، وهو ما سعى المصنف إلى إقصائه من "أصول الفقه"، وافتتح كتابه بالتأكيد على أن "أصول الفقه" قطعية لا ظنية، تأمل اعتراض أستاذنا الدريني في "بحوث مقارنة في الفقه الإسلامي وأدلته""1/ 20" تجد مصداق التوجيه السابق، وقد ذكره الأستاذ أحمد الريسوني في "نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي""ص140".

2 في "م": "وبيان".

3 فإنا إذا تصفحنا جميع مسائل علم الأصول نقطع بأنها مبنية على كليات الشريعة الثلاث، واستقراء جميع الأفراد فيه ممكن؛ فإنها مسائل محصورة "د".

4 حاصله أن كليات الشريعة مبنية؛ إما على أصول عقلية، وإما على استقراء كلي من الشريعة، وكلاهما قطعي؛ فهذه الكليات قطعية، فما ينبني عليها من مسائل الأصول قطعي "د".

5 أي: راجعة إلى أحكام العقل الثلاثة كما سيذكره في المقدمة الثانية تفصيلا. "د".

ص: 18

الِاسْتِقْرَاءِ الْكُلِّيِّ1 مِنْ أَدِلَّةِ الشَّرِيعَةِ، وَذَلِكَ قَطْعِيٌّ أَيْضًا، وَلَا ثَالِثَ2 لِهَذَيْنِ إِلَّا الْمَجْمُوعُ مِنْهُمَا، وَالْمُؤَلَّفُ مِنَ الْقَطْعِيَّاتِ قَطْعِيٌّ، وَذَلِكَ أُصُولُ الْفِقْهِ.

وَالثَّانِي3: أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ ظَنِّيَّةً؛ لَمْ تَكُنْ رَاجِعَةً إِلَى أَمْرٍ عَقْلِيٍّ؛ إِذِ الظَّنُّ لَا يُقْبَلُ فِي الْعَقْلِيَّاتِ، وَلَا إِلَى كُلِّيٍّ شَرْعِيٍّ لِأَنَّ الظَّنَّ إِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِالْجُزْئِيَّاتِ4؛ إِذْ لَوْ جَازَ تَعَلُّقُ الظَّنِّ بِكُلِّيَّاتِ الشَّرِيعَةِ؛ لَجَازَ تَعَلُّقُهُ بِأَصْلِ الشَّرِيعَةِ لِأَنَّهُ الْكُلِّيُّ الْأَوَّلُ5، وَذَلِكَ غَيْرُ جائز عادة6 -وأعني بالكليات7 هنا: الضروريات،

1 لا يتأتى عادة أن يكون المستنبطون لقاعدة "أن الأمر للوجوب" مثلا وقفوا على كل أمر صدر من الشارع حتى يتحقق الاستقراء الكلي المعروف الموجب لليقين، لكن المطلوب هنا القطع؛ أي: الجزم، ويكفي لذلك الكثرة المستفيضة الإفراد من كل نوع من أنواع الأمر الواردة في مقاصد الشريعة الثلاثة: الضروريات والحاجيات والتحسينيات، ومثل هذا كافٍ في عده استقراء كليا يوجب القطع؛ لأن ما لم يطلع عليه المستنبط من الأوامر لا يخرج عن كونه فردا من أنواع الأوامر التي اطلعوا عليها؛ فلا يترتب عليه إخلال بالقاعدة.

2 سيأتي في المقدمة الثانية زيادة: العادي؛ فلعله توسع هنا بإدراجه في العقلي "د".

3 إثبات للمطلوب بإبطال نقيضه؛ لأنه يترتب على كونه ظنية حصول ما لا يجوز عادة، وهو تعلق الظن بأصل الشريعة، وأيضا حصول الشك فيها، وأيضا جواز تبديلها، وكلها باطلة "د".

قلت: وانظر في هذا "مجموع فتاوى ابن تيمية""13/ 112-126".

4 لا الكليات الشرعية بدليل قوله: "إذ لو جاز

"؛ فهو روح الدليل "د".

5 أي: بملاحظة أنها جاءت بعد الاستقراء الكلي؛ فيصح قوله: "لجاز

" إلخ، وأصل الشريعة المقطوع بها هي الكلي الأول الذي تفرعت عنه القوانين والكليات الأخرى، وحيث كان الأصل الأول مقطوعا به، وكان التفريع عليه بطريق الاستقراء الكلي؛ فحكم الفرع حينئذ يكون حكما للأصل، والعكس "د".

6 لأنه بعد قيام الدليل على الأصل والقطع به يستحيل عادة أن يحصل فيه ظن بدل القطع، ولم يقل عقلا؛ لأنه لا يمنع العقل حصول الظن للشخص في شيء بعد القطع بالدليل؛ فإنه لا يلزم من عرض ذلك محال عقلا. "د".

7 أي: التي قلنا: إنها مرجع لمسائل الأصول "د".

ص: 19

وَالْحَاجِيَّاتِ، وَالتَّحْسِينِيَّاتِ1-، وَأَيْضًا لَوْ جَازَ تَعَلُّقُ الظَّنِّ بِأَصْلِ الشَّرِيعَةِ؛ لَجَازَ تَعَلُّقُ الشَّكِّ بِهَا، وَهِيَ لَا شَكَّ فِيهَا، وَلَجَازَ تَغْيِيرُهَا وَتَبْدِيلُهَا، وَذَلِكَ خِلَافَ مَا ضَمِنَ اللَّهُ عز وجل مِنْ حِفْظِهَا.

وَالثَّالِثُ:

أَنَّهُ لَوْ جَازَ جَعْلُ الظَّنِّيِّ2 أَصْلًا فِي أُصُولِ الْفِقْهِ؛ لَجَازَ جَعْلُهُ أَصْلًا فِي أُصُولِ الدِّينِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بِاتِّفَاقٍ، فَكَذَلِكَ هُنَا؛ لِأَنَّ نِسْبَةَ أُصُولِ الْفِقْهِ مِنْ أَصْلِ الشَّرِيعَةِ كَنِسْبَةِ أُصُولِ الدِّينِ، وَإِنْ تَفَاوَتَتْ فِي الْمَرْتَبَةِ؛ فَقَدِ اسْتَوَتْ فِي أَنَّهَا كُلِّيَّاتٌ مُعْتَبَرَةٌ3 فِي كُلِّ مِلَّةٍ، وَهِيَ دَاخِلَةٌ فِي حِفْظِ الدِّينِ مِنَ الضَّرُورِيَّاتِ.

وَقَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ: لَا سَبِيلَ إِلَى إِثْبَاتِ أُصُولِ الشَّرِيعَةِ بِالظَّنِّ؛ لِأَنَّهُ تَشْرِيعٌ، وَلَمْ نُتَعبد بِالظَّنِّ إِلَّا فِي الْفُرُوعِ4، ولذلك لم يعد القاضي ابن الطيب

1 في "م": "الظن".

2 استدلال خطابي؛ لأنه لا يتأتى اعتبار ذلك في جميع مسائل الأصول؛ حتى ما اتفقوا عليه منها، إنما المعتبر في كل ملة بعض القواعد العامة فقط، وكان يجدر به وهو في مقام الاستدلال العام على قطعية مسائل الأصول ومقدماتها ألا يذكر مثل هذا الدليل "خ".

3 "أما الضروريات؛ فَمَعْنَاهَا: أَنَّهَا لَا بُدَّ مِنْهَا فِي قِيَامِ مَصَالِحِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا، بِحَيْثُ إِذَا فُقِدَتْ لَمْ تَجْرِ مَصَالِحُ الدُّنْيَا عَلَى اسْتِقَامَةٍ بَلْ عَلَى فساد وتهارج، وهي خمس: حفظ الدين، والنفس، والنسل، والمال، والعقل.

وَأَمَّا الْحَاجِيَّاتُ؛ فَمَعْنَاهَا: أَنَّهَا مُفْتَقَرٌ إِلَيْهَا مِنْ حيث التوسعة ورفع التضيق؛ كالرخص، وإباحة الصيد، والتمتع بالطيبات مما هو حلال.

وأما التحسينيات؛ فمعناها: الأخذ بما يليق من محاسن العادات، وتجنب الأحوال المدنسات التي تأنفها العقول الراجحات؛ كإزالة النجاسة، وستر العورة، وأخذ الزينة" "ماء".

4 ذهبت طائفة إلى أن الأحكام الشرعية لا تثبت إلا بالطرق المفيدة للعلم، متمسكين بقوله تعالى:{وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} ، وقوله:{وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} ، وأجاب الجمهور عن الآيتين بأنهما من قبيل العام المخصوص بالأدلة القائمة على العمل بما يفيد الظن في الفروع؛ كأدلة العمل بخبر الآحاد، أو أن العمل بمثل خبر الآحاد حيث كان يستند إلى الدلائل الموجبة للعمل عند ظن الصدق كان وجوبه معلوما قطعا؛ فالظن واقع في طريق الحكم، وقد انضمت إليه الدلائل القاطعة على وجوب العمل بمقتضى هذا الظن؛ فلم يكن العامل بما يفيده خبر الآحاد مثلا متبعا لمجرد الظن، بل مستندا إلى ما يفيد العلم بأن ذلك الحكم المنتزع بطريق مظنون هو ما ناطه الشارع بعهدته "خ".

ص: 20

مِنَ الْأُصُولِ تَفَاصِيلَ الْعِلَلِ، كَالْقَوْلِ فِي عَكْسِ الْعِلَّةِ، وَمُعَارَضَتِهَا، وَالتَّرْجِيحِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ غَيْرِهَا، وَتَفَاصِيلَ أَحْكَامِ الْأَخْبَارِ، كَأَعْدَادِ الرُّوَاةِ، وَالْإِرْسَالِ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِقَطْعِيٍّ.

وَاعْتَذَرَ ابْنُ الْجُوَيْنِيِّ1 عَنْ إِدْخَالِهِ فِي الْأُصُولِ بِأَنَّ التَّفَاصِيلَ الْمَبْنِيَّةَ عَلَى الْأُصُولِ الْمَقْطُوعِ بِهَا دَاخِلَةٌ بِالْمَعْنَى2 فِيمَا دَلَّ عَلَيْهِ الدَّلِيلُ الْقَطْعِيُّ.

قَالَ الْمَازِرِيُّ: وَعِنْدِي أَنَّهُ لَا وَجْهَ لِلتَّحَاشِي عَنْ عَدِّ هَذَا الْفَنِّ مِنَ الْأُصُولِ وَإِنْ كَانَ ظَنِّيًّا، عَلَى طَرِيقَةِ الْقَاضِي فِي أَنَّ الْأُصُولَ هِيَ أُصُولُ الْعِلْمِ3؛ لِأَنَّ تِلْكَ الظَّنِّيَّاتِ قَوَانِينُ كُلِّيَّاتٍ وُضِعَتْ لَا لِأَنْفُسِهَا4، لَكِنْ ليُعْرَض عَلَيْهَا أَمْرٌ غَيْرُ مُعَيَّنٍ مِمَّا لَا يَنْحَصِرُ. قَالَ: فَهِيَ فِي هَذَا كَالْعُمُومِ5 وَالْخُصُوصِ. قال: ويحسن

1 في "البرهان""1/ 85-86".

2 لا يخفى أن اعتبار مثل هذا يؤدي إلى دعوى أن الفروع قطعية أيضا "د".

3 أصول العلم قوانينه التي يتألف منها؛ ككون الإجماع أو القياس حجة، والمطلق يحمل على المقيد والعام يقبل التخصيص، ودلالته على جميع أفراده قطعية أو ظنية، أما الأصول بمعنى الأدلة؛ فهي الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس، والاستدلال. فقوله تعالى:{وَآتَوُا الزَّكَاةَ} أصل بمعنى الدليل، وقولك بعد:"والأمر للوجوب" أصل من أصول العلم "خ".

4 أي: لا لتعتقد حتى يلزم فيها ثبوتها على وجه قطعي "د".

5 لعله يريد أن القاعدة بالنسبة لجزئيات الأدلة كالعام بالنسبة لجزئياته، وحيث إن جزئيات الأدلة يلحقها الظن في دلالتها؛ فلا مانع أن تكون الكليات التي تنطبق عليها كانطباق العام على الخاص يلحقها الظن أيضا "د".

ص: 21

مِنْ أَبِي الْمَعَالِي أَنْ لَا يَعُدَّهَا مِنَ الْأُصُولِ؛ لِأَنَّ الْأُصُولَ عِنْدَهُ [هِيَ الْأَدِلَّةُ، وَالْأَدِلَّةُ عِنْدَهُ] 1 مَا يُفْضِي إِلَى الْقَطْعِ، وَأَمَّا الْقَاضِي؛ فَلَا يَحْسُنُ بِهِ إِخْرَاجُهَا مِنَ الْأُصُولِ، عَلَى أَصْلِهِ الَّذِي حَكَيْنَاهُ عَنْهُ. هَذَا مَا قَالَ.

وَالْجَوَابُ2: أَنَّ الْأَصْلَ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَقْطُوعًا بِهِ؛ لِأَنَّهُ إِنْ كان مظنونا تطرق إليها احْتِمَالُ الْإِخْلَافِ، وَمِثْلُ هَذَا لَا يُجْعَلُ أَصْلًا فِي الدِّينِ عَمَلًا بِالِاسْتِقْرَاءِ، وَالْقَوَانِينُ الْكُلِّيَّةُ لَا فَرْقَ بَيْنَهَا3 وَبَيْنَ الْأُصُولِ الْكُلِّيَّةِ الَّتِي نُصَّ عَلَيْهَا، وَلِأَنَّ الْحِفْظَ الْمَضْمُونَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] ، إِنَّمَا الْمُرَادُ بِهِ حِفْظُ أُصُولِهِ الْكُلِّيَّةِ الْمَنْصُوصَةِ4، وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [الْمَائِدَةِ: 3] أَيْضًا، لَا أَنَّ الْمُرَادَ5 الْمَسَائِلُ الْجُزْئِيَّةُ؛ إِذْ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ؛ لَمْ يَتَخَلَّفْ عن الحفظ جزئي من

1 ليست في الأصل.

2 أي: عن القاضي؛ أي: إن القاضي وإن قال: إن الأصول هي تلك القوانين؛ فهذا لا ينافي أنه يقول: إنها قطعية؛ لأن كل ما كان ظنيا لا يعد من الأصول؛ فسواء أريد بالأصول الأدلة من الكتاب والسنة

إلخ أو أريد بها تلك القواعد؛ لا بد أن تكون قطعية، ومنه يُعلم أن قوله: "لأن تلك الظنيات

إلخ" من كلام المازري لا من كلام القاضي، ومعلوم أن الغرض من جلب كلام القاضي والمازري تصفية المقام ورد شبهة المازري ليتم له أن أصول الفقه على أي تقدير في معناها قطعية، سواء كانت هي القواعد أو الأدلة من الكتاب والسنة، أو الكليات الشرعية المنصوصة. "د".

3 مجرد دعوى؛ إلا أن يجعل تفريعا على ما قبله فتكون الفاء ساقطة "د".

4 مسلم، ولكنك تعمم في المستنبطة الصرفة أيضا "د".

وانظر في معنى الآية: "مجموع فتاوى ابن تيمية""27/ 447"، و"المحرر الوجيز""3/ 351-352" لابن عطية.

5 سيأتي له ما يخالف هذا؛ إذ يقول في المقدمة التاسعة: "ولذا كانت الشريعة محفوظة أصولها وفروعها"، ويمكن الجمع بين كلاميه بأن مراده هنا نفي حفظ الفروع بذاتها، وهناك إثبات حفظها بنصب أدلتها الكافية لمن توجه إليها بفهم راسخ، فإن أخطأها بعض؛ أصابها بعض آخر، فهي محفوظة في الجملة "د".

ص: 22

جُزْئِيَّاتِ الشَّرِيعَةِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّا نَقْطَعُ بِالْجَوَازِ، وَيُؤَيِّدُهُ الْوُقُوعُ؛ لِتَفَاوُتِ الظُّنُونِ، وَتَطَرُّقِ الِاحْتِمَالَاتِ فِي النُّصُوصِ الْجُزْئِيَّةِ، وَوُقُوعِ الْخَطَأِ فِيهَا قَطْعًا؛ فَقَدْ وُجد الْخَطَأُ فِي أَخْبَارِ الْآحَادِ وَفِي مَعَانِي الْآيَاتِ؛ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالذِّكْرِ الْمَحْفُوظِ مَا كَانَ مِنْهُ كُلِّيًّا1، وَإِذْ ذَاكَ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ أَصْلٍ قَطْعِيًّا.

هَذَا عَلَى مَذْهَبِ أَبِي الْمَعَالِي، وَأَمَّا عَلَى مَذْهَبِ الْقَاضِي، فَإِنَّ إِعْمَالَ الْأَدِلَّةِ الْقَطْعِيَّةِ أَوِ الظَّنِّيَّةِ إِذَا كَانَ مُتَوَقِّفًا عَلَى تِلْكَ الْقَوَانِينِ الَّتِي هِيَ أُصُولُ الْفِقْهِ2؛ فَلَا يُمْكِنُ الِاسْتِدْلَالُ بِهَا إِلَّا بَعْدَ عَرْضِهَا عَلَيْهَا، وَاخْتِبَارِهَا بِهَا، وَلَزِمَ أَنْ تَكُونَ مِثْلَهَا، بَلْ أَقْوَى مِنْهَا؛ لِأَنَّكَ أَقَمْتَهَا مُقام الْحَاكِمِ عَلَى الْأَدِلَّةِ، بِحَيْثُ تُطرح الْأَدِلَّةُ إذا لم تجز عَلَى مُقْتَضَى تِلْكَ الْقَوَانِينِ؛ فَكَيْفَ يَصِحُّ أَنْ تُجعل الظَّنِّيَّاتِ قَوَانِينَ لِغَيْرِهَا3؟

وَلَا حُجَّةَ فِي كَوْنِهَا غَيْرَ مُرَادَةٍ لِأَنْفُسِهَا حَتَّى يُسْتَهَانَ بِطَلَبِ الْقَطْعِ فِيهَا؛ فَإِنَّهَا حَاكِمَةٌ عَلَى غَيْرِهَا؛ فَلَا بُدَّ مِنَ الثِّقَةِ بِهَا فِي رُتْبَتِهَا، وَحِينَئِذٍ يَصْلُحُ أَنْ تُجعل قَوَانِينَ، وَأَيْضًا، لَوْ صَحَّ كَوْنُهَا ظَنِّيَّةً؛ لَزِمَ مِنْهُ جَمِيعُ مَا تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ الْمَسْأَلَةِ، وَذَلِكَ غَيْرُ صَحِيحٍ، وَلَوْ سُلِّمَ ذَلِكَ كُلُّهُ؛ فَالِاصْطِلَاحُ اطَّرَدَ عَلَى أَنَّ الْمَظْنُونَاتِ لَا تُجعلُ أُصُولًا، وَهَذَا كافٍ فِي اطراح الظنيات من الأصول بإطلاق، فما

1 كليا منصوصا كما قال أولا؛ فيمنع قوله بعد: يلزم أن يكون كل أصل قطعيا، فإذا كان غرضه تقرير مذهب أبي المعالي، وأن القطع إنما هو في الكليات المنصوصة في الشريعة بدون تعرض للقوانين المستنبطة؛ لا يكون لذكره هنا فائدة تعود على غرضه من قطعية مسائل الأصول، وإذا كان يقيس القوانين على النصوص كما هو المفهوم من قوله:"لا فرق بينها وبين الأصول التي نص عليها"؛ فهو قياس لم يذكر له علة صحيحة "د".

2 في "ط": "أصول العلم".

3 أي: من القطعيات التي تعرض فيما يعرض عليها، وقد يقال: إنها جعلت قوانين لاستخراج الفروع من القطعيات والظنيات، وليست قوانين لنفس القطعيات، والفروع المستنبطة بها ظنية ولا ضير في هذا "د".

ص: 23

جرى1 فيها مما ليس بقطعي تفريعا عليه بالتبع، لا بالقصد الأول2.

1 رجوع عن قسم عظيم مما شملته الدعوى، ولكنه مقبول ومعقول؛ فإن من مسائل الأصول ما هو قطعي مجمع عليه، ومنها ما هو محل للنظر، وتشعب وجوه الأدلة إثباتا وردا، راجع "الأسنوي على المنهاج" في تعريف الأصول على أنه -بهذه الخاتمة التي طرح بها كثيرا من القواعد المذكورة في الأصول جزافا دون تحديد لنوع ما يطرح- صار لا يُعرف مقدار ما بقي قطعيا وما سلم فيه أنه ظني، وهذا يقلل من فائدة هذه المقدمة. "د".

2 بعد ختم "ماء" هذا الفصل قال: "تنبيه: اعلم أني ذكرت في النظم تبعا للأصل أن أصول فقه الدين قطعية، ولا تكون ظنية، وتقدم ما تقدم من الكلام، ثم إني أقول: إن أصول الفقه عرفها صاحب "جمع الجوامع" أعني السبكي بقول: أصول الفقه: دلائل الفقه الإجمالية، وقيل: معرفتها، والأصولي: العارف بها وبطرق استفادتها ومستفيدها، والفقه: العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسب من أدلتها التفصيلية".

وقال في تعريفها سيدي عبد الله ابن الحاج إبراهيم العلوي في "مراقي السعود""أصوله دلائل الإجمال"، قال في شرحه: "يعني أن أصول الفقه أدلته الإجمالية؛ لأن الأصل في الاصطلاح هو الدليل أو الأمر الراجح

والدليل الإجمالي هو الذي لا يعين مسألة جزئية كقاعدة "مطلق الأمر والنهي".

وفعله صلى الله عليه وسلم والإجماع، والقياس، والاستصحاب، والعام والخاص، والمطلق والمقيد، والمبين والمجمل، والظاهر والمؤول، والناسخ والمنسوخ، وخبر الواحد

" إلى أن قال: "والقاعدة قضية كلية تعرف منها أحكام جزئياتها نحو مطلق الأمر للوجوب ومطلق النهي للتحريم، والإجماع والقياس والاستصحاب حجة، والعام يقبل التخصيص والخاص يقضي على العام

إلى غير ذلك من كلامهم في كتبهم، جزاهم الله خيرا" "ماء".

ص: 24