الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التعريف بالشراح والمعلقين والمحقق:
ترجمة الشيخ عبد الله دراز
1:
ولد الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد بن حسنين دراز بمحلة دياي "من أعمال مركز دسوق على الفرع الغربي للنيل" في 12 يناير سنة 1874، وبعد أن حفظ القرآن لازم دروس اللغة العربية وعلوم الشريعة التي كان يلقيها بالمسجد العمري في البلدة نفسها، والده الشيخ محمد، وعمه الشيخ أحمد، وجده الشيخ حسنين دراز، وغيرهم، والتي كان يؤمها الطلاب من البلدة ومن أطراف البلاد المجاورة على طبقات متفاوتة بين مبتدئين ومتوسطين ومنتهين، وكانوا يتلقونها في مواعيد منظمة تتخللها أجازات دورية، وكانت تعار لهم بعض الكتب العلمية التي وقفها جده الشيخ حسنين على أولاده وذريته.
وكان رحمه الله أكثر انتفاعًا بدروس جده وأطول ملازمة له؛ لأن والده وعمه توفيا في حياة والدهما. فلما توفى جده؛ قصد إلى القاهرة فأكمل دراسته في الأزهر، وكان من شيوخه الأزهريين في التفسير
1 ترجمته مأخوذة من "الفتح المبين في طبقات الأصوليين: 3/ 173 وما بعدها"، بتصرف.
الشيخ محمد عبده، وفي الحديث الشيخ سليم البشري، وفي التوحيد الشيخ محمد بخيت، وفي الفقه الشيخ أحمد الرخامي، وفي أصول الفقه الشيخ محمد أبو الفضل، وفي المنطق والحكمة والحساب والجبر الشيخ محمد البحيري، وكان ممن اقتبس عنهم الإنشاء والأدب الشيخ أحمد مفتاح الأديب المشهور، من أساتذة دار العلوم إذ ذاك، وكان من أساتذته في الرياضة محمد بك إدريس، وفي تقويم البلدان "الجغرافيا" إسماعيل بك علي وحسن صبري باشا، وفي ذلك العهد لم تكن قد وضعت بعد خرائط جغرافية باللغة العربية فتعلم رحمه الله اللغة الانجليزية ليدرس بها المصورات الجغرافية ويطبق عليها معلوماته بدقة.
وقد ظهر نبوغه بصفة ممتازة في هذا العلم، فما إن حصل على شهادته العالمية في صيف سنة 1900م وعلى شهادة الرياضة عقبها حتى أسند إليه تدريس مادة الجغرافيا في الأزهر في أول سنة 1901 إلى جانب دروسه في المواد الأزهرية الأساسية التي كان يؤمها الجم الغفير من الطلاب في مسجد محمد بك أبي الذهب حتى كان يغص المسجد بطلابه الحريصين على الاستفادة من علمه وأدبه ومنهجه التعليمي المبتكر.
وكان له منذ نشأته شغف بالشعر والأدب، وله مساجلات معروفة في الأندية الأدبية، وله شعر جيد يجمع إلى رقة الخيال وسلاسة الأسلوب وجزالة اللفظ وغزارة المادة اللغوية، من ذلك قصيدته التي أنشدها بين يدي أستاذه البحيري عند ختم كتاب "السعد" في البلاغة سنة 1898 أي قبل تخرجه بعامين ومطلعها:
يهيم وحراس الخدود تدافعه
…
ويخفي وقد نمت عليه مدامعه
وما كان يهوى بل يعنف ذا الهوى
…
نعم كان يهواه الوغى ومعامعه
ومنها:
وعهدي به ثبت الجنان شموسه
…
يبيت ومصقول السيوف يضاجعه
فما باله حتى استكان مذلة
…
وأمسى وغيداء الظباء تصارعه
ومنها:
خذوا أيها الغزلان عني جانبا
…
برئت من التشبيب من ذا يطاوعه
وبوأت نفسي للمكرام والعلا
…
وكلفتها مرقى تعز مطالعه
ومنها:
وقد سألتني ذات يوم فما الذي
…
تريد وما القصد الذي أنت تابعه
فقلت لها شيخا تفرد في العلا
…
وفي العلم حتى عز في الناس شافعه
ومنها:
لأنت فؤادي بل أعز وكيف لا
…
وطالع سعدي في يديك أطالعه
ولما أنشئ معهد الإسكندرية الديني النظامي في يناير سنة 1905 وعين الشيخ محمد شاكر الجرجاوي شيخًا له، اختير الشيخ عبد الله دراز في أربعة من أفاضل العلماء، وهم المشايخ عبد المجيد الشاذلي، وعبد الهادي مخلوف، وإبراهيم الجبالي، ليكونوا النواة الأولى في هذا المعهد الناشئ، وكان يوم فراق الشيخ دراز لأبنائه الأزهريين عند عزمه على السفر إلى الإسكندرية يومًا مشهودًا سكبت فيه دموع الوداع الحارة
غزارا. ولم يكن نصيبه منها بأقل من نصيب أبنائه مما يدل على عمق الصلة الروحية المتبادلة بين الشيخ وتلاميذه. وحين استقر به المقام في المعهد الجديد توسم فيه الشيخ شاكر مواهب إدارية بارزة إلى جانب كفايته العلمية فأتخذه عضده الأيمن في إرساء مناهج الدراسة واختيار الكتب والإشراف على سير التعليم ووضع أسئلة الامتحان وفي 20 يناير سنة 1907 عينه مفتشًا للمعهد إلى جانب دروسه الأزهرية والرياضية التي كان يلقيها للفرقة العليا في المعهد إذ ذاك، "وهي طبقة التصريح والسعد" والي جانب اشتغاله بتأليف الكتب النافعة للطلاب في السيرة النبوية وتقويم البلدان وغير ذلك.
ثم اتجهت رغبة أولي الأمر إلى إعادة هذه التجربة الناجحة، ونقل صورة من هذا النظام الذي جرب في معهد الإسكندرية إلى الجامع الأحمدي بطنطا، ورأى الخديوي عباس الثاني أن يقوم الشيخ عبد الله دراز بهذا العبء. فعينه وكيلًا لمشيخة الجامع الأحمدي في 26 مارس سنة 1908، وقد حقق الشيخ ما علق عليه من الآمال فما لبث أن عادل بين العلوم الأزهرية والعلوم المدرسية حتى لا يبغي بعضها على بعض، وقد اغتبط الجانب العالي الخديوي بهذا الفتح المبين الذي تم على يد الشيخ دراز، فقلده الوسام العثماني تقديرًا لجهوده الصادقة الموفقة، والذي يلفت النظر بوجه خاص أنه على الرغم من اتساع مجال الإصلاح أمامه وثقل العبء الإداري في معهد لا عهد له بالنظام؛ لم ينصرف عن مزاولة العلم والتعليم بنفسه، فكان يشتغل بتفسير القرآن الكريم لطلبة القسم العالي، وفي الوقت نفسه يضع المؤلفات المبتكرة في العلوم الجديدة؛ كـ "تاريخ أدب اللغة العربية"، وغيره.
وفي 10 سبتمبر سنة 1912 عين وكيلًا لمعهد الإسكندرية عودًا على بدء. وهنا أيضا لم يشغله توجيه دفة الأعمال الإدارية والإشراف الجدي على سير التعليم عن الإفادة العلمية الحقيقية.
وقد اتخذت إفادته العلمية هنا صورة أرقى من سابقتها، فكان يجمع العلماء المدرسين ومحبي العلم من غيرهم فأفاضل الأطباء لمدارسة القرآن الكريم والسنة النبوية، ووقع اختياره من كتب السنة على "الشفاء" للقاضي عياض، وكتاب "مشكاة المصابيح"، وكتاب "تيسير الوصول"؛ فأتمها كلها في عدة سنين.
وفي 26 أغسطس 1924 عين شيخًا لمعهد دمياط، فوضع في تنظيمه طرفًا مما وضعه في تنظيم الجامع الأحمدي، وهناك أيضا تابع السير على هذه السنة الحميدة الجامعة بين الإدارة الحازمة والإفادة العلمية، فكان تجمع العلماء لدراسة السنة النبوية والكتب الدينية وقد وجه عناية خاصة لكتاب "الموافقات في أصول الفقه" للشاطبي، وبعد أن قرأه مرارًا وضع عليه مقدمة وشرحًا، وأخرجه للناس في هذه الحلة الجديدة التي نراها اليوم. وهذه بعض آثار الفقيد من الوجهة العلمية، أما ثمرات قلمه في إصلاح التعليم وإدارة المعاهد؛ فلا تتسع لبيانها العجالة ونكتفي بأن نحيل القارئ على قماطر إدارات المعاهد، فهي تنوء بتقاريره وتعليماته في كل مرحلة من مراحل عمله.
وبالجملة فقد صرف أوقاته في خدمة العلم إفادة واستفادة، وكانت أيامه كلها خيرًا وبركة على العلم ومعاهده حتى إنه بعد أن اعتزل الأعمال الإدارية في 13 يونيو 1913 لم يفتر عزمه عن متابعة الإفادة العلمية من طريق الكتابة والتعقيب على المؤلفات الدينية
الحديثة. وكان لكتاب "الفقه على المذاهب الأربعة" الذي عملته وزارة الأوقاف وكتاب "محمد المثل الكامل" لجاد المولي بك حظ من هذا الجهد المبارك، فأعيد طبعهما مصححين منقحين وفقا لإرشاداته الحكيمة كما تدل عليه مقدمة الطبعة الثانية لهذين الكتابين.
والناظر في كتابات الشيخ قديمها وحديثها يروقه منها دائما ديباجة أسلوبه الأدبي الذي نشأ عليه والذي يبدو طابعه في كل ما خطه قلمه في العلم أو الأدب أو الاجتماع أو السياسة أو غيرها، كما أن الذين كان لهم الحظوة بمجالسته ومعاشرته يذكرون دائمًا ما كان لأسلوبه الوضعي والقصصي من جاذبية روحية عجيبة تتعانق فيها طلاوة اللغة بحسن الأداء في صوت ندي هادئ لا تصنع فيه ولا ترفع، وقد كان رحمه الله كثير الاطلاع على التاريخ وأحوال العصر، جيد الحافظة، قلما يغيب عن ذاكرته حادث عالمي أو محلي مر به مهما طال عهده، فإذا سرده على السامعين؛ سرده في ترتيل يسترعي الأسماع والقلوب.
كان رحمه الله وئيد المشية في رزانة تحوطها المهابة، باسم الوجه، في جد ووقار، أسمر اللون، ربعة متوسط السمن، حسن البزة، نفيس الثياب، وكان يحب التروض ساعة في كل يوم سيرًا على القدم.
وكان قليل السهر ينام مبكرًا ويستيقظ سحرًا، فيقوم من آخر الليل ما تيسر ثم يضطجع قليلًا بعد صلاة الصبح.
وكان في فترة اشتغاله بشئون المعاهد يختم القرآن في كل شهر مرة على الأقل، فلما اعتزل الخدمة؛ كان يملأ به كل أوقات فراغه، كما كان يفعل في رمضان دائمًا، وكان يحب في كل مناسبة أن يجمع
إخوانه على طعام ولا سيما طعام الغذاء؛ لأنه كان لا يتعشى إلا نادرًا خفيفًا ولم يتعود منبهًا ولا مسكنًا ولا ملهاة قط.
وكان أصحابه وزواره يعرفون ميعاد نومه المبكر، فيستأذنون في الانصراف من المجلس أحب ما يكون السمر إليهم، فلا يلح عليهم في المكث؛ لأنه رحمه الله كان لا يعرف المواربة ولا الملق قط، وكانت صرامته في الحق مع فرط دماثة خلقه وغلبة صمته من الأسباب التي مكنت له في قلوب الخلق مزيجًا من المهابة والمحبة.
ثم كانت خاتمة أعماله أداء فريضة الحج المبرور، في أوائل سنة 1932، ولم يلبث إلا قليلًا عقب عودته من الحجاز حتى ألم به المرض الأخير، وهو أتم ما يكون صحة وقوة، فمات رحمه الله في ليلة الخميس 23 يونيو سنة 1932، وصلي عليه في الجامع الأزهر، ودفن بمدافن الأسرة بقرافة العفيفي بقرب العباسية، ورثاه الشعراء وبكاه كل من اغترف من علمه أو ذاق حلاوة عشرته أو لمس صلابة دينه وصفاء سريرته وأكبر فيه عزة نفسه وعلو كرامته أو ناله بره من قريب أو بعيد.
طيب الله ثراه وأسكنه مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقًا.