المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ   ‌ ‌تمهيد شهد القرن الثاني الهجري ظهور الحركة الصوفية، - الموفي بمعرفة التصوف والصوفي

[كمال الدين الأدفوي]

الفصل: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ   ‌ ‌تمهيد شهد القرن الثاني الهجري ظهور الحركة الصوفية،

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

‌تمهيد

شهد القرن الثاني الهجري ظهور الحركة الصوفية، حين بدأ إعراضُ النَّاس عن السبيل السويّ من مراقبةِ اللَّه وخشيته وذكره في السِّرّ والعلَن والزهد في الدُّنيا. فقد هالَ جماعةَ الصالحين تكالبُ النَّاس على الدُّنيا. واستباقهم للانهماكِ في الملذّاتِ والملاهي، فانتحوا جانبًا متجهين إلى الحقِّ سبحانَه، متبتِّلينَ، يتلُونَ كتاب اللَّه، ويقومونَ الليلَ تهجدًا وتهليلًا بالسرِّ والعلَن.

وأخذَ جماعةٌ من هؤلاءِ على أَنفسهم تبيين السلوك العملي للصوفيّة، فوصف المحاسبي في كتابه "الرعاية لحقوق اللَّه تعالى" سلوك الصوفية بأسلوب علمي.

وكانت مسالك الصوفية حتَّى القرن السادس الهجري بصورة عامةٌ قريبةٌ إلى الزهد، مع ما خَالَطَها في بعض الأحيان من ابتعادٍ عن جادة الصواب.

غير أن الأحداثَ الجسامَ التي تعاقبت على الدولة الإسلامية منذ أواخر القرن السادس الهجري وأوائل القرن السابع الهجري، أَوجدت ردة فعل معاكسة، فانصرف بعضهم عن الحياة وشؤونها ومالوا إلى التواكل، وغدا الزهد في أعرافهم نوعًا من اللامبالاة يصل لدرجة الخنوع.

ص: 5

لقد كانت البداية حين عقد الأيوبيون العزمَ على التصدّي لتيار الفكر الشيعي إثر انهيار الدولة الفاطمية؛ إذ أنشأ الأيوبيون العديد من المدارس ودور الحديث في مصر والشام واستدعي علماء وفقهاء السُّنَّة ليقوموا بدورهم في تلك المؤسسات، فأصبحت مدن إسلامية كثيرة مثل الإسكندرية، والقاهرة، وقوص، وأسيوط، والقدس، وحلب، ودمشق، وطرابلس، مراكزَ نابضة لعلوم السنَّة والفكر السنِّي.

ثم جاءت الهجمة الصليبية الشرسة لتُضيف أعباءً أُخرى، حيث ألقت بكاهلها على صلاح الدِّين، فعمل على تثبيت عروبية وإسلامية البلاد التي كانت مطمع الغزاة الجدد، فأقام الخوانق والرُّبط والزوايا والتكايا، إضافة إلى المساجد والمدارس ودور الحديث والبيمارستانات، وكان هدف صلاح الدِّين من وراء ذلك النهوض بالشعور الديني عند المسلمين، ورفع استعدادات الأمة الإسلامية لمقاومة الأخطار التي تتهددها.

واحتل جماعة من الناس تلك الأماكن، امتهنوا الذكر وقراءة القرآن. وسلكوا السبيل القويم، وكانوا نماذج خيرة للأتقياء والعبَّاد. ولكن تلك الأماكن ما لبثت أن أصبحت ملجأً وملاذًا لكل طالبة راحة، حيث يجد فيها ضالته من الطعام واللباس والشراب دون عناء يذكر، وتلا ذلك ازدياد أعداد المنتظمين في سلك الصوفية، لا سيما بعد تضخم عدد الخانقات والرُّبط والزوايا والتكايا، ومبالغة الناس في حبس الأوقاف عليها، وتباري السلاطين والأمراء والأغنياء في تقديم الأموال والهدايا لمرتاديها. فسهلت حياة المتصوفة ونعموا بعيشة مترفة باذخة، قادت إلى تفشي البدع فيما بعد.

وإزاء ذلك فقد كثر ادّعاء التصوف، بقصد التعيش، فأمّ العديدون الخانقات، ولبسوا الصوف، وحلقوا الرؤوس، ولكنهم لم يتخلقوا بأخلاق

ص: 6

الزهاد أو الصوفية، وغدا الصوفي على الأغلب، رجلًا أكولًا، كثير الفضول، يُضرب بتطفُّله المثل، فقالوا:"نعوذ باللَّه من النَّار، ومن الصوفي إذا عرف باب الدار". وفي وصفٍ آخر لحالهم بأنهم "أكلة، بطلة، سطلة، لا شغل لهم ولا مشغلة".

وعرَّف كثير من الفقهاء جماعة المتصوفة "بأنهم رجال يظهرون الإسلام، ويبطنون فاسد العقيدة، في أرجلهم جماجم وعذباتهم من قدام"

(1)

.

ومما زاد في تكالب جماعات من النَّاس على الانضواء في سلك الصوفية، وقوع الهجمة التترية المغولية المدمرة على العالم الإسلامي، وما أورثته في النفوس من شعور بالمرارة وخيبة الأمل، وما أتصف به ذلك العصر من شظف في العيش نتيجة القحط والجدب فاستدامت المجاعات، وانتشرت الأمراض السارية كالطاعون والجُدري وغير ذلك من الأمراض الفتاكة. ووجد هؤلاء في الخانقات بسطةً في العيش، وسَعة في الحال، بل وترفًا في المأكل والمشرب والملبس، ذلك أن العديد من المصالح والمنشآت، كالبساتين والدكاكين والحمامات والأسواق قد وقفت على الصوفية، فخانقاه سعيد السعداء بمصر التي أنشئت سنة 569 هـ = 1173 م، أوقفت عليها جملة من المصالح لينفق من ريعها على فقراء الصوفية، من جملتها بستان الحبانية وقيسارية شراب، وكان يخصص لكل صوفي فيها ثلاثة أرغفة زنتها ثلث رطل في مرق، ويعمل لصوفيتها الحلو كل شهر، ويفرق عليهم الصابون

(2)

. أما صوفية خانقاه ركن الدِّين بيبرس، فقد أُلحق بها مطبخ، يوزع منه على المجاورين اللَّحم والطعام وثلاثة أرغفة كل يوم إضافة إلى

(1)

سلام: الأدب في العصر المملوكي، 1/ 202، ووردت الأوصاف في الرسالة، 7 أ.

(2)

المقريزي: المواعظ، 2/ 416.

ص: 7

الحلوى، ولصوفية خانقاه شيخو علاوة على ما ذكر، الزيت والصابون

(1)

.

أما صوفية خانقاه سرياقوس فلهم كل سنة ثمن كسوة وتوسعة في كل رمضان والعيدين والمواسم، فوق ما كان لهم من طعام شهي وخبز نقي إضافة إلى الحلوى وزيت الزيتون والصابون وثمن الفواكه، هذا عدا ما في الخانقاه من سكر وألوان من الشراب وأنواع الأدوية.

كما أُلحق بالخوانق الحمامات والمطابخ والمدافن، ومدت أرضيتها بالفرش وآلات النحاس والكتب والقناديل وغيرها من الأدوات النفيسة، التي لا يقتنيها إلا الملوك والأمراء.

إنَّ من يطلع على وقفيات الخوانق والزوايا والأربطة يدرك مدى العبء الاقتصادي الذي عاناه المجتمع بسبب ضيق القاعدة التي تستفيد من المصالح الاقتصادية المحبوسة على الصوفية دون غيرهم من شرائح المجتمع.

وكدليل على حياة البذخ والترف التي نعم بها الصوفيون، نقدّم أنموذجين السماعين عقدا في مصر والشام سنة 659 هـ = 1261 م.

"قال المولي قطب الدِّين رحمه الله: حكى لي بعض الناصرية، قال: لما دخلنا الدِّيار المصرية، اتفق أن بعض أكابر الأمراء عمل سماعًا، وحضر بنفسه إلى الأمير جمال الدِّين ودعاه، فوعده بالمضي إليه والحضور عنده، فلما كان عشاء الآخرة، مضي ونحن معه -جماعة من مماليكه وخواصه- إلى دار ذلك الأمير، فلما دخل وجد جماعةً من الأمراء جلوسًا في إيوان الدار، وجماعةً من الفقراء في وسط الدار، فوقف، ولم يدخل، وقال لصاحب الدار: أخطأتم فيما فعلتم، كان ينبغي أن يقعد الفقراء فوق وأنتم

(1)

المرجع السابق، 1/ 283.

ص: 8

في أرض الدار، ولم يجلس حتى تحول الفقراء إلى مكان الأمراء، والأمراء إلى مكان الفقراء، وقعد هو ونحن بين الأمراء، فلما غنّى المغني، قام أحدهم والدف بيده يستعطي، وهذه كانت عادة المغاني في الدِّيار المصرية، فلما رآه الأمير جمال الدِّين انتهره، وقال: والك".

وتمضي الرواية في شرح حال الصوفية وهم يرقصون ويجمعون النقود من الذهب والفضة من الأمراء، ثم أكلهم ما لذ وطاب من المطعم والمشرب

(1)

. وإنصرافهم فرحين جذلين.

كما أورد قطب الدِّين اليونيني في "ذيله" على "مرآة الزمان" لسبط ابن الجوزي عرضًا دقيقًا، وصف فيه إحدى تلك الليالي الراقصة، جاءت في ترجمة لاجين بن عبد اللَّه الأمير حسام الدِّين الجوكنداري (ت 662 هـ/ 63 - 1264 م).

حيث قال: ". . . وكان له في الفقر والصالحين عقيدة حسنة، ويكثر من الإحسان إليهم والبر بهم، وافتقادهم بالنفقة والكسوة وغير ذلك، وكان يعمل لهم السماعات، ويحضر فيها من المآكل والمشاريب والأرابيح الطيبة والشموع ما يبهر العقل ويتجاوز الحد، فكان يقدر ما يغرمه على السماع الواحد تقريبًا ثمانية آلاف درهم

(2)

. . . إلخ.

ويمضي اليونيني في وصف ليلة سماع حضرها هو بنفسه في دارة لاجين الكائنة بالعُقَيبة بدمشق أواخر سنة 659 هـ، ذلك أن الدار أضيئت

(1)

حبيب الزيات: ليلة رقص وسماع أميرية للفقراء، مجلة المشرق العدد 43 سنة 1939 م، نقلًا عن الدر المنتخب في تكملة تاريخ حلب - مخطوط بالمكتبة الأحمدية بحلب المحفوظة الآن بمكتبة الأسد بدمشق رقم 1214، الأوراق من 270 - 271 من الجزء الأول.

(2)

اليونيني: "ذيل مرآة الزمان" خ أكسفورد POC.OR.132 الأوراق 112 - 113.

ص: 9

بالشموع الكافورية في أنوار (شمعدانات) الفضة، والمطعمة بصنوف الجواهر والأحجار الكريمة.

حتى إذا قضيت صلاة المغرب مدَّ للفقراء سماطًا اشتمل على قريب مئة زبدية عادلية، في كل زبدية خروف صحيح رضعي، وحوالي ثلاث مئة زبدية في كل واحدة ثلاثة طيور دجاج وغير ذلك من أنواع الطعام، وبعد العشاء وإتمام الصلاة شرع الحاضرون في الغناء والرقص، حتى إذا ما تعبوا مَدَّ سماطًا من الحلوى والقطائف الرطبة والمقلوة المصنوعة بالسكر المصري والفستق والمسك ثم رقصوا وغنوا جميعًا، ومن ثم مُد سماطًا عظيمًا من الفواكه النادرة في غير موسمها من سفرجل وتفاح وكمثرى ورمان وبطيخ، وبعدها عادوا إلى الرقص والغناء، ومن ثم مَدَّ سماطًا من المكسرات على أنواعها من قصب عراقي وفستق وبندق وزبيب، والكعك المحشو والخشكنان (أقراص من الدقيق والحلوى)، والبقسماط وغيرها، وكان شرابهم مصنوعًا بالثلج والسكر وعاء الخلافه (نوع من الصفصاف المصري المستقطر)، وماء الورد، إضافة إلى المباخر المعمرة بالند والعنبر والعود الهندي حتى إذا كان وقت السحر دخلوا حمامًا مجاورًا لدار لاجين، فاستحمّوا وأُلبسوا القمصان والثياب الجدد، وبعد الحمام عادوا إلى الدار فأُشربوا الأشربة التي تناسب الحمام، ومن ثم مد لهم سماطًا من الحلوى الساخنة، وبعدها ينصرفون.

والتقدير حالة الناس آنذاك، فقد علّق اليونيني على وقوع هذا السماع، بأنه أقيم، والناس في ضنك، فغرارة القمح بدمشقي ثمنها ثلاث مئة درهم، ورطل اللحم بالدمشقي ثمنه سبعة دراهم، والدجاجة ثمنها ثلاثة دراهم. وجميع الأشياء غالية جدًا.

فانظر أي ترف ورخاء، عاش فيه صوفية ذلك العصر؟

ص: 10

ولم يقتصر دور الصوفية على التخريب الاقتصادي، بل تعداه إلى التأثير في الأحداث السياسية والاجتماعية، وذلك من خلال تغلغل الحركة في أوساط العامة والخاصة، ومن ثم فإنَّ الدولة اعترفت بمؤسسات الصوفية وقربت مشايخ الصوفية، حتى إن السلاطين كانوا يفاخرون ببناء الأربطة والخوانق والزوايا لجماعة الصوفية، لاعتقادهم أن بإمكان الفقراء المتصوفة الإتيان بالخوارق، وكشف الضّرّ عن السلاطين، والادعاء بالمكاشفة ومشاهدة الحق

(1)

. ولذا فإن فقراء الصوفية كثيرًا ما دعوا ليرفعوا الضَّرر عن مصاب، أو ليدعوا بالعافية لمريض

(2)

.

وقد بلغ من تأثير شيخ شيوخ خانقاه سعيد السعداء أن نجح في إبعاد ابن تيمية عن مصر إلى الشام سنة 707 هـ = 1307 م، حيث حُبس في الشام، بدعوى تكلمه على مشايخ الطريقة، وكان شيخ سعيد السعداء قد جمع فوق خمس مئة صوفي من صوفية الخانقاه وسار بهم في تظاهرة إلى القلعة، وكانت جماعات غفيرة من العامة قد انضمت إلى المظاهرة، وفي القلعة، شكوا للسلطان ابن تيمية، الذي أحالهم بدوره إلى القاضي الشافعي فدفعهم عنه إلى تقي الدِّين علي بن الزواوي المالكي، والذي أصدر بدوره الحكم الذي أشرنا إليه

(3)

.

وفي دمشق أيضًا عُنِّف ابنُ رمضان الشاهد، لأنه تكلم في حق الفقراء

(4)

. وضُرِب حتى طلبة التوبة والاستغفار.

بل إن الصوفية كثيرًا ما قاموا بإراقة الخمور والبوزة لأنها محرمة على

(1)

الكلاباذي: التعرف لمذهب أهل التصوف، 16.

(2)

الصقاعي: تالي وفيات الأعيان، 151.

(3)

ابن طولون: مفاكهة الخلان، ج 1 ص 21.

(4)

المرجع السابق ج 1 ص 9، 7، حوادث سنة 885 هـ.

ص: 11

غيرهم، وقد يخرجون إلى الشوارع لإطلاق سراح أحدهم من السجن، وأمورًا أخرى كثيرة.

وسدر الصوفية في مفاسدهم، حتى إن بعضهم أفتى بحرام الكسب إِلَّا عند الضرورة، لأن الكسب في عرفهم ينفي التوكل على اللَّه أو ينقص منه، وقد أمرهم اللَّه بالتوكل، ورزقهم في السماء وما يوعدون

(1)

.

ثم إن بعض الصوفية كانوا لا يقيمون الصلاة أبدًا، مدعين أنهم لا يقومون بأدائها إِلَّا في الأماكن المقدسة فقط

(2)

.

لقد عمَّ الفساد حياة الصوفية في عادتهم وأخلاقهم ورسومهم وسننهم وملابسهم وأزيائهم ومشاربهم ومآكلهم، واشتهر المتفقرون من المتصوفة بالجشع في الأكل والشرب، والولع بالرقص والتهافت على السماع والغناء.

حتى قال فيهم الشاعر الطاهر: [الوافر]

أرى جيلَ التصوف شرَّ جيلِ

فقل لهمُ وأَهونُ بالحلولِ

أَقالَ اللَّهُ حين عبدتموه

كلوا أكل البهائم وارقصوا لي

(3)

وعليه فإن أبرز مظاهر الفساد في حياة المتصوفة علاوة على ما ذكر، يمكن إيجازها بما يلي:

(1)

الشيباني: الكسب، 37 العيني: عقد الجمان، ج 33/ 38 أ، الكلاباذي: التعرف، 102.

(2)

الشعراني: اليواقيت والجواهر، 1/ 125.

(3)

وردت الأبيات في النص المنشور من رسالة ابن القارع، علي منصور الحلبي، الذي كان معاصرًا لأبي العلاء المعري، والتي جاءت رسالة الغفران ردًا على رسالة ابن القارح لأبي العلاء، وقد جاء في الشطر الأول من البيت الثاني: أقال اللَّه حين عشقتموه ولعله الأصوبه، لأن الصوفية تعشق بينما العبادة لكل البشر، انظر: أبو العلاء المعري: رسالة الغفران، ومعها نص محقق من رسالة ابن القارح، تحقيق د. بنت الشاطئ، ط. السادسة، دار المعارف، 1977 ص 36 - 37، بنت الشاطئ: جديد في رسالة الغفران، ط. بيروت 1972، ص 51.

ص: 12