الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ما يطلقُ على منْ يَلبَسُ لِبْسةً مخْصوصةً منْ دَلِقٍ
(1)
أو فُرْجِيَّة
(2)
أو (جلنك)
(3)
، ولَهُ عِمامَةً لَطيفَةٌ يُرخي مِنْهَا عَذْبَةً
(4)
قصيرَةً منْ قُدّامِهِ، ويحضُرُ في الخَانقَاه بَعدَ العصْرِ ليحضُرَ القِراءَة والذِّكرَ، غيرُ متعاطٍ للحِرَفٍ الدَّنِيئَةِ منَ الحِياكَةِ والحِجَامةِ وشِبْهِهَا، غَيرُ موصوفٍ بالثَّروةِ.
المطلب الثالث:
من يستحقُّ من الوقفِ والوصيةِ للصُّوفية:
إذا صحَّحْنَا ذلك، فإنَّه من الفُقَهاءِ مَنْ قالَ: لا يَصِحُّ لِعَدَمِ ضَبْطِهِ ووقوفه عندَ حَدٍّ، ولا شَكَّ أنَّ هذا هوَ الظّاهِرُ، إذا جعلَنا التصوفَ راجعًا إلى الأخلاق وصِفَاتِ النَّفسِ المحمودَةِ، فإنّا لا مطلَعَ لَنا على البَوَاطِنِ والظواهِرِ التي تدلُّ على ذلكَ، قد تكونُ مطابِقَةً لمَا في الباطِنِ، وقد لَا تكونُ، كما قالَ:"إنَّ الرّجلَ ليعملُ بعملِ أهلِ الجنَّةِ فيما يبدُو للنَّاسِ، وهو منْ أهلِ النّارِ"
(5)
.
(1)
الدلق: سبق شرحه في ص 21 حاشية (3).
(2)
فرجيه: ثوب فضفاض، له كمان واسعان طويلان يتجاوزان قليلًا أطراف الأصابع، وقد يكون لها ذيل يُرخى من فوق الرأس. انظر دوزي: الملابس، المنشور في اللسان العربي، ص 166 - 169، ماير: الملابس المملوكية، 930، ابن الفرات: تاريخ، ج 9 ص 460.
(3)
كلمة غير مقروءة ورسمها "حلنك" ولعلها "جلباب" أو حلتك، ويكون عادة من صوف الخرفان.
(4)
عذبة أي طرف تسترسل على الملابس، انظر السيوطي: حسن المحاضرة، 2/ 218.
(5)
قطعة من حديث طويل رواه البخاري رقم (3208) في بدء الخلق: باب ذكر الملائكة، ومسلم رقم (2643) في القدر: باب كيفية التخلق الآدمي في بطن أمه، وانظر تتمة تخريجه والتعليق عليه في كتابي "شرح الأربعين النووية" طبع دار ابن كثير بدمشق ص (23 - 25)(م).
ولم يَرِدْ لَنَا من الشَّرعِ في ذلك حتّى نُنيطَ الحُكَم بالأسباب الظَّاهِرَةِ، وقد بينَّا أنَّ اسمَ الصّوفِيّةِ حادثٌ بعدَ النبيّ والصَّحابةِ والتَّابعينَ وأتباعِ التَّابعين، والأصل في الأحكام الشّرعيّةِ أن تُنَاط بأمرٍ منضَبِط، وإنَّما يخرجُ عنْ هذا حيثُ طلبَ الشرعُ منَّا فِعلًا ووجدناهُ لا يرتبِطُ بأمرٍ مضبوطٍ، فننيطُ الحكمَ بأمرٍ يدلُّ على ذلك دلالةً طيِّبةً لأجلِ طلبِ الشّارعِ، ولم يَرِدْ في الشرعِ الوقفُ على الصُّوفيةِ ولا الوصيَّةُ لهُم. ولعلَّه حدثَ بعد انقراضِ الأعصارِ المبارَكةِ، وذهابِ أئمَّةِ الاجتهادِ، فلَا وقفتُ عليهِ لأحدٍ قبلَ الأربعِ مئة.
ثم إنَّ ما نربِطُه بهِ منَ الظَّاهرِ لا يرفَعُ التَّنازُع والاختلافَ لاضطرابِهِ، فبعضُهُم يقولُ: هذا القدرُ كافٍ، وبعضُهْم يقولُ: لا يكفي، بل لا بدَّ من اعتبار أمورٍ، وذلكَ مبطلٌ، كما إذا اضطربَ العُرفُ في مسائلِ الإِجارة والمساقاةِ، فإنَّه يجبُ البيانُ وإلّا بَطُلَ.
ومنْ ذلكَ مسألةُ الحبرِ، هلْ هُوَ على النَّاسخِ أم لَا؟ وشَبَهُه.
ومن صحَّ في غالبِ الأوقاتِ، هل المرادُ اللَّيلُ أو النهارُ، أو الليلُ والنهارُ، والجزمُ بواحدٍ منها يحتاجُ إلى تحريرٍ، وهذا سببٌ يقتضي البُطلَانَ، فإنَّ القولَ بالبطلانِ متَّجهٌ
(1)
، وَهُو اختيارُ الشيخِ أبي محمّد الجُوَيني
(2)
وبعضِ الحنفيَّةِ.
وبعض الحنفيَّةِ أيضًا يقولُ: إنَّ الأوصافَ التي ينطبِقُ علَيْها اسمُ
(1)
متجه أي له وجه.
(2)
أبو محمد الجويني: هو عبد اللَّه بن يوسف بن عبد اللَّه الجويني (ت 438 هـ)، والد إمام الحرمين، ولد في جوين، له معرفة بالأصول والنحو والفقه والتفسير والأدب، انظر، السبكي: طبقات، 5/ 73، ابن خلكان: وفيات، 2/ 250، الأشعري: تبيين كذب، 257، ابن كثير: البداية والنهاية 2/ 55.
الصوفي في عُرفهِم، لَا يصحُّ الوقفُ على المتَّصِف بها، ومثلُ هذا محكيٌّ عَنِ الشَّافعي، رحمه الله، رأيتُ في جزءٍ من كلام المُزَنيّ
(1)
أنَّ الشافعيَّ سُئِلَ عنِ الصُّوفي، فقالَ: رجُلٌ أكولٌ جَهولٌ، كَثيرُ الفُضُولِ، وفي بعض طُرُقِهِ نؤوم.
وقدْ ساقَ مثلَهُ الحافظُ، أبو عبدِ اللَّه بنُ النَّجّارِ
(2)
عن الشَّافعيّ: ". . . والوقفُ على المتَّصفِ بهذه الصِّفات والوصيَّةُ لَهُ لا تَصحّ".
وأمَّا منْ قال يصحّ، فاختَلَفتْ آراؤُهم في المُستحِقّ.
فقالَ القاضي الحسينُ الشافعي في "تعليقته"
(3)
، إذا وُقفَ على الصُّوفيَّة صحَّ، ويصرف إلى المشتغل بالعبادَةِ في غالبِ الأوقَاتِ، فأمَّا منْ يشتغلُ بالأكلِ والسَّماعِ والرَّقصِ فَلَا. وتبعَهُ على ذلك أبو سعيدٍ المتَولّي
(4)
(1)
المزني هو إسماعيل بن يحيى، أبو إبراهيم ت 264 هـ، له مختصر المزني في فروع الشافعية طبع بهامش كتاب الأم للشافعي سنة 1321 هـ/ 1913، بالمطبعة الميرية الكبرى ببولاق انظر، ابن خلكان: وفيات، 2/ 217 (ترجمة 93)، الحسيني، أبو بكر هداية اللَّه، طبقات الشافعية، 20.
(2)
هو الحافظ، محب الدين، أبو عبد اللَّه، محمد بن محمود بن الحسن، المعروف بابن النجار البغدادي ت 643 هـ، انظر ترجمته في، الذهبي: تذكرة الحفاظ، 4/ 212 (ط. حيدر أباد)، ابن العماد الحنبلي: شذرات الذهب، 5/ 226، ابن الفوطي: الحوادث الجامعية، 205، الكتبي: فوات الوفيات، 2/ 522 (ط، القاهرة).
(3)
القاضي الحسين: هو أبو علي، الحسين بن محمد بن أحمل المروروذي (ت 462 هـ)، من كبار أصحاب القفال، يلقب بحبر الأمة، ومن كبار فقهاء الشافعية، له التعليقة المشهورة في الفقه، انظر، السبكي: طبقات 3/ 155، ابن العماد الحنبلي: شذرات الذهب، 3/ 310، ابن خلكان: وفيات الأعيان، 2/ 134، ابن خلدون: العبر، 3/ 249.
(4)
هو أبو سعيد، عبد الرحمن بن مأمون بن علي بن إبراهيم النيسابوري (المتولي) =
وزاد، فقالَ: يُصرفُ إلى كلّ منْ كانَ مشتغِلًا بالعباداتِ في غَالبِ أحوالهِ، ويكونُ معرِضًا عنْ أُمورِ الدُّنيا، وتبعَهُ الرَّافعي
(1)
.
وقَالَ قاضي القضاةِ، أبو محمَّدٍ الحارثي الحنبليّ الحافظ
(2)
، في "شرح المقنع":"يصحُّ الوقفُ على الصُّوفيَّة، وهمْ المنقَطِعونَ للعبادةِ وتصفِيَةِ النَّفسِ من الأخلاقِ المذمُومةِ، ولم يعتبرْ هؤلاءِ الفقرَ والزي ولبسَ الخرقةِ منْ يدِ شيخٍ، ولا مخالطةَ الصوفيَّةِ في مساكنهِم في الخانقَاه، بل اقتصروا على ذكرِ ما ذَكرتُ، بل صرَّحَ الحارِثي فيهم، أنّ الغِنى والزيّ ولبس الخرقةِ من يدِ الشيخِ لا تُعْتَبر".
وقالَ بعضُ الحنفيَّةِ: "يصحُّ الوقفُ، ويُصرفُ إلى مَنْ لا يملِكُ نصابَ الزَّكاةِ".
= ت 478 هـ، فقيه، مناظر، عالم بالأصول، درس بالنظامية، صنف في الفوائد ومسائل الخلاف، وله التتمة، انظر، ابن العماد الحنبلي: شذرات الذهب، 3/ 358، السبكي: طبقات، 5/ 106.
ابن خلكان: وفيات، 3/ 133، الحسيني: طبقات الشافعية 176، ابن الجوزي: المنتظم، 9/ 18.
(1)
الإمام الرافعي: هو شيخ الإسلام، عبد الكريم بن محمد بن الفضل القزويني (ت 624 هـ)، من كبار فقهاء الشافعية، مفسر، محدث، له فتح العزيز في شرح الوجيز وشرح مسند الشافعي وغيرها انظر، ابن العماد: شذرات، 5/ 108، السبكي: طبقات، 5/ 119، ابن شاكر الكتبي: فوات الوفيات، 2/ 7، الحسيني: طبقات، 218 - 220.
(2)
هو مسعود بن أحمد بن مسعود بن زيد بن عياش الحارثي، الحافظ، قاضي القضاة، أبو محمد (ت 711 هـ) ولد سنة 653 هـ، سمع من البرهان الحراني والرضى ابن البرهان، وجماعة من أصحاب الجوهري، شرح سنن أبي داود، وشرح قطعة من المقنع، والحارثي: نسبة إلى قرية الحارثية الواقعة غربي بغداد، انظر الأدفوي: الطالع السعيد، 113، ابن رجب: طبقات الحنابلة، 4/ 262 - 264، والمقنع هو كتاب المقنع في الفقه للمحاملي (أحمد بن محمد بن أحمد الضبي)(ت 415 هـ)، =
وقالَ الغزالي في الإحياء
(1)
: "التصوُّف أمر باطنٌ، لا يُطَّلَعُ عليهِ، فلا يمكنُ ربطُ الحُكْمِ بهِ، بل بأُمورٍ ظاهرةٍ يعولُ عليْها أهلُ العرفِ في إطلاقِ اسمِ الصُّوفيّ. قالَ: "والضابطُ الكلِّي أن كل من هو بصفة إذا نزلَ الخانقاه التي للصُّوفيَّةِ.
لَم يكنْ نزولُهُ فيها واختلاطُه بِهمْ منكرًا عندَهم، فهوَ داخلٌ في غِمارِهم"
(2)
، وهذا الذي ذكرَهُ الغزالي لا يُناسِبُ تحقيقَهُ، لأنَّ كتاب الإحياءِ ليس موضوعًا للتحقيق على طريقَةِ الفقهِ، وأكثرُهُ أو كثيرٌ منهُ مبنيٌّ على كلام صوفي، وتصنيفُه في الفقه بعدَ ذلك، وقد أَحالَ في كتبِهِ الفقهية على أشياءَ ذكرَها في الإحياء، فقوله، أنه يُعدّ منكرًا عندَهُم، والكلامُ في أنّ الصوفيّ منْ هُوَ حتّى إذا عرفْنَاه اعتبرنَا إنكاره، وهوَ لم يبيّنْهُ قبلُ، وأحالَ عليهِ، فهوَ عجيبٌ منهُ".
قالَ: "وأمّا من حيثُ التفصيلُ فيُلاحظُ فيه خمسُ صفاتٍ: الصلاحُ والفقرُ وزيُّ الصوفيَّةِ، وأنْ لَا يكونَ مشتغِلًا بحرقَةٍ، وأنْ يكونَ مخالِطًا لهم بطريقِ المساكنَةِ في الخانقاه"
(3)
.
قال: "ثم بعضُ هذهِ الصفاتِ مِنْها
(4)
يوجِبُ زوالُها زوالَ الاسمِ، ومنها ما ينجبرُ بعضُه بالبعضِ، فالفسقُ يمنعُ الاستحقاقَ، فإنَّ الصوفي في
= السيوطي: حسن المحاضرة، 1/ 358، ابن العماد: الحنبلي: شذرات، 6/ 28.
(1)
الغزالي: هو محمد بن محمد، أبو حامد (ت 505 هـ)، فيلسوف، متصوف، معروف، والإحياء هو كتاب إحياء علوم الدين، انظر، ابن العماد الحنبلي: 4/ 10 - 13، الأشعري: تبيين: 291 - 306، الصفدي: الوافي بالوفيات، 4/ 101 - 182، الحسيني: طبقات الشافعية، 192.
(2)
وردت في إحياء علوم الدين، 2/ 153.
(3)
المرجع السابق نفس الصفحة.
(4)
في الإحياء "مما يوجب".
الجملةِ عبارةٌ عنْ رجلٍ منْ أهلِ الصّلَاحِ بصفةٍ مخصوصةٍ، فالذي يظهرُ فسقُه، وإنْ كانَ على زيِّهِمْ لا يستحقُّ ما وُصِّي بهِ للصُّوفيةِ، ولسنَا نعتبرُ فيهِ الصَّغائرَ.
وأمّا الحرفةُ والاشتغالُ بالكتبِ فيمنعُ الاستحقاق، فالدهقانُ والعاملُ والتاجرُ والصايغُ
(1)
في حانوتهِ أو دارِهِ، والأجيرُ الذي يخدمُ بأجرهِ، كلُّ هؤلاءِ لا يستحقُّونَ من الموقوفِ على الصوفيَّةِ وَلا ينجَبِرُون بالزيّ والمخالَطَةِ.
وأمَّا الوراقهُ والخياطةُ وما يقربُ منهُمَا ممَّا يَلِيقُ بالصُّوفيَّةِ تعاطيهَا، فإذا تعاطَاها لا في حانوتٍ ولا على جهةِ اكتسابٍ وحرفةٍ، فذلكَ لا يمنعُ الاستحقاقَ وينجبرُ بالمساكنَةِ معَ الاتِّصافِ ببقيةِ الصفاتِ، والقدرةِ علَيها منْ غير مباشَرَةٍ لا تَمنَع.
وأمَّا الوعظُ والتدريسُ، فَلا يُنافي اسمَ التصوُّفِ إذا وُجِدَت بقيَّةُ الأوصافِ منَ الزِّيّ والمساكَنَةِ والفَقرِ، إذ لَا يتناقَضُ صوفيٌّ مُقْرِئٌ، واعظٌ، عالمٌ، مدرِّسٌ
(2)
، كلُّ هذا لا يتناقَضُ، ويتناقَضُ أن يُقَالَ دهقانٌ أو تاجِرٌ أو عامِلٌ.
وأما الفَقْرُ، فإنْ زالَ بِغِنًى مفرطٍ يُنسبُ الرجلُ بهِ إلى الثَّروةِ الظَّاهِرَةِ، فَيُمْنَعُ الاستحقاق وإنْ كانَ لَهُ مالٌ، ولكنْ لا يفي دخلُهُ بخرجِهِ، أو لَهُ مالٌ قاصِرٌ عن وجوبِ الزَّكاةِ. وإنْ لم يَكُنْ لَه خرجٌ لمْ يُمْنَع الاستِحقَاق.
قالَ: وهذهِ أُمورٌ لَا دليلَ علَيْهَا إلَّا العَادَاتُ
(3)
.
(1)
في الإحياء "الصانع".
(2)
في الإحياء 2/ 153 "وصوفي واعظ وصوفي عالم أو صوفي مدرس".
(3)
الإحياء 2/ 153.
وأمَّا المُخالَطَةُ والمُساكَنَةُ فَلَهُ أثرٌ، ولكنْ منَ لَا يُخالِطهم وهوَ في دارِهِ أو في مسجدٍ وَهَو على زيِّهم ومتخلِّقٌ بأخلاقِهِمْ فهوَ شَريكٌ لهُمْ فِي الاستحقاقِ، وكانَ تركُ المخالطةِ يجبرُهُ (مُلازَمَةَ)
(1)
الزيّ، فإنْ لمْ يَكُنْ على زَيِّهم، ووُجِدَتْ بقيةُ الصِّفْات فَلَا يستحِقُّ إِلَّا أن يكون يُساكِنُهُم في الرُّبط فينسحبُ عليهِ حكمُهُم بالتَّبَعِيَّةِ.
قال: وأما لبس المرقَّعِ منْ يدِ شيخٍ منْ مَشَايِخِهمْ فليسَ شرطًا في الاستحقاقِ وعدمهِ لَا يضرُّ مع وجود بقيَّةِ الشرائط المذكُورة.
والسهروردي
(2)
أيضًا قال: الغزالي جعل لبس الخرقَةِ من شيخٍ وعدمِهِ سيَّان ثمَّ قالَ الغزالي: وأما المتأَهِّلُ المتَردّدُ بين الرباطِ والمسكنِ فَلا يخرجُ عن جُملَتِهم
(3)
.
قال: وللفقيه أن ينزلَ عندَهُم إذا كان على زيِّهم وأخلاقهِمْ، وليسَ الجهلُ شرطًا في التَّصوُّفِ عندَ مَنْ يعرِفُ التَّصوُّفَ.
قال: ولا يُلتَفَتُ إلى خُرافاتِ بعضِ الحمْقى، إنَّ العلمَ حجابٌ، فالجَهلُ هوَ الحِجابُ"
(4)
.
-هذا تمامُ كلامِ الغَزَالِيّ-.
(1)
الإضافة من الإحياء، 2/ 153.
(2)
هو عبد القاهر بن عبد اللَّه بن محمد البكري الصدّيقي، أبو النجيب السهروردي (ت 563 هـ)، فقيه شافعي، واعظ، متصوّف، سكن بغداد وبنيت له عدة ربط فيها، وتوفي بغداد، له آداب المريدين، عوارف المعارف، انظر ابن خلكان: وفيات الأعيان، 1/ 294، السبكي: طبقات الشافعية، 4/ 356، الشعراني: طبقات، 1/ 140، حاجي خليفة: كشف الظنون، 1/ 43، الذهبي: العبر، 4/ 181، ابن العماد الحنبلي: الشذرات، 4/ 208.
(3)
انظر إحياء علوم الدِّين، 3/ 154.
(4)
المرجع السابق، الصفحة نفسها.
وهوَ في كثيرٍ منهُ لمْ يَجْرِ على القواعد الفِقهيَّة، وإنَّما مشى فيهِ على الرسوم المُحدَثةِ للصوفيَّةِ، وقد اعترفَ أنَّه لا دليلَ عليه إِلَّا العاداتُ، فإن ادعى أنَّ ذلك عادةٌ مطَّرِدَةٌ في الأَزمِنَةِ والأَمكِنَةِ فلَا دَليلَ عليْهَا، وما قالَهُ غيرُ مسلَّمٍ به، وإنِ ادَّعى عادةَ خاصَّةَ بزمانٍ أو مكانٍ فهوَ عرفٌ خاصٌّ، والعرفُ الخاصُّ لَا اعتبارَ بهِ عندَ أهلِ الفَتْوى.
أَلا تَرى أنَّ المساقاةَ عندَ أصحابنَا محمولةُ على العُرفِ، وجعلُوا البقرَ على المالكِ اعتبارًا بالعُرْفِ العامِ في استِقْرَائِهِم.
ثم إنَّ عُرفَ بلادِنا قاطبةً أنَّها على العاملِ، ولم يَلتفِتْ إلى هذا الخاص، بل نَصُّوا على أَنَّها إذَا شُرِطَت على العاملِ بَطُلَ العقد، وأشباهُ ذلكَ كثيرٌ في أبوابٍ متَفرِّقَة.
ثم إنَّ العرفَ إذا وُجِدَ إنَّما يُعتَبَرُ حيثُ كانَ موافِقًا لِمَا دلَّت الأدِلَّةُ على اعتبارهِ، وينتفي المعارِضُ عنهُ من شرعٍ أو لغةٍ، ويكون عامًّا عندَ تلكَ الطَّائفةِ، وما ذكرهُ حادثٌ بعد الأربعِ مئة، وبعدَ مُضِيّ أهلِ الحقائقِ منْ هذِه الطَّائفةِ الصُّوفيَّةِ، وأرباب الرُّسوم المرعيَّةِ، ولا اعتبارَ بمن حَدَث فَأَحدث حدثًا، ونحن نَتكلَّمُ على تفاصيلِ ما ذكرهُ وفصَّلهُ وقرَّرهُ وأصَّلَهُ، فقولُه: إنَّه يعتبرُ الزيَّ، لا أصل لهُ من الشَّرع ولم يقل ذلك، ولا نقلَ عن الأقدَمِين المعتَبَرِينَ، بل الاقتصارُ عليهِ مخالفٌ، لما كانَ عليه وأصحابُه، فقدْ لبِسَ جبَّةً ضيِّقَةَ الكُمَّيْنِ، ولبسَ حُلَّةً، وكانَ يتعمَّم بعِمَامةٍ ويُرخي طَرفَهَا بينَ كَتِفَيْه، وتَحنّكَ أيضًا بالعِمامةِ، ولبِسَ عِمَامةٌ سوداءَ، وتردَّى بِرِداء.
وكذلك الصَّحابة لبِسُوا أنواعًا مُختلِفَةً وتَطَيْلَسَ منهُم جماعةٌ، منهُم،
جابرُ بنُ عبدِ اللَّه
(1)
وجُبيرُ بنُ مُطعمِ
(2)
.
وذكرَ الحافظُ أبو عُمرَ النمري
(3)
أنَّ بعض الصَّحابة كانَ يَتَطَيْلَسُ بِطَيْلَسَانٍ
(4)
أخضرَ، ووردَ التَّقنُّعُ أيضًا، وهو جعلُ الرِّداءِ على الرَّأْسِ.
وأخرج التّرمذيُّ في "جامعِهِ" عن جُبير بن مُطْعِم، أنَّه قَالَ: "ركبتُ الحمارَ، ولبِستُ الشَّملَةَ
(5)
وحلبْتُ الشاةَ". بلْ قَالَ: قالَ رسولُ اللَّه من فعلَ هذا، فليسَ فيه منَ الكِبْرِ شيءٌ"
(6)
. وقالَ: حديثٌ حسنٌ.
وقال السُّهرَوَرديُّ: ومن النَّاسِ منْ لا يَقْصِدُ لُبْسَ ثوبٍ بعَيْنهِ لا لِخُشونةٍ
(1)
هو جابر بن عبد اللَّه بن عمرو بن حرام بن ثعلبة الأنصاري، من أهل بيعة الرضوان (ت 77 هـ أو 78 هـ). انظر، خليفة بن خياط: الطبقات ترجمة 623، ابن الأثير: أسد الغابة، 1/ 256، الذهبي: سير أعلام النبلاء، 3/ 489.
(2)
جبير بن مطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف بن قصي، شيخ قريش في زمانه، من الطلقاء الذين حسن إسلامهم (ت 58 هـ أو 59 هـ)، انظر ابن حبيب: المحبر، 67، 69. ابن الأثير: أسد الغابة، 1/ 323، الذهبي: سير أعلام النبلاء، 3/ 95.
(3)
هو ابن عبد البَرّ النمري: يوسف بن عبد اللَّه بن محمد بن عبد البر بن عاصم النمري القرطبي، أبو عمر (ت 463 هـ) من كبار حفاظ الحديث، مؤرخ، أديب، بحاثة، له الاستيعاب، وبهجة المجالس، وغيرها، انظر ابن خلكان: وفيات، 7/ 66، الضبي: بغية الملتمس، 474، الزركلي: الأعلام، 8/ 240، الذهبي: العبر، 3/ 255، ابن العماد الحنبلي: شذرات الذهب، 3/ 314.
(4)
الطيلسان: قطعة قماش تلبس على الكتفين وتتدلى على شكل ذؤابتين وتكون طويلة، انظر دوزي: معجم الملابس - مادة طيلسان، ياقوت: معجم الأدباء، 1/ 373، 5/ 261.
(5)
الشملة: مثل الكساء، تلف حول الجسم كالإزار، وتكون طويلة أو قصيرة، انظر ابن منظور: لسان - مادة شمل، أبو الفرج الأصفهاني: الأغاني، 4/ 83.
(6)
قطعة من حديث رواه الترمذي رقم (2002) في البرِّ والصلة: باب ما جاء في الكِبْر، وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب، وقال والدي حفظه اللَّه عقب تخريجه في "جامع الأصول" (10/ 623): وهو كما قال. (م).
وَلا لنعُومةٍ، بل يلبَسُ ما يدخلُ عليهِ الحقُّ ويكونُ بحُكمِ الوقتِ، وَهذا حَسَنٌ
(1)
.
قال: وكانَ شيخُنَا أبو النّجيبِ يلبَسُ ما اتَّفقَ، ولَا يتقيَّدُ بهيئةٍ من الملبُوسِ وكانَ يلبَسُ العمامة بعشرة دنانيرٍ، ويلبس العِمامةَ بقليلٍ.
قال: وكانَ الشيخُ عبدُ القادرِ
(2)
يلبَس هيئةَ مَخْصوصةً ويَتَطَيْلَسُ.
قال: وكان الشيخُ أبو السعودِ
(3)
يُساقُ إليه ثوبٌ ناعمٌ فَيلبَسهُ، فيُقالُ: ربَّما يُنكَرُ علَيكَ، فيقولُ: لا نَلْقى إِلَّا أحد رَجلَيْنِ، رجلٍ يطالِبُنا بظاهِرِ الشَّرعِ، فَنَقولُ لَهُ: هل تَرى الشَّرعَ يكرهُ هذا، ورجلٍ يُطالِبُنا بحقائقِ القَومِ، فنَقولُ لهُ: هلْ ترى لَنا فيمَا لَبِسْنَا اخْتيارًا
(4)
فالاقتصارُ على زيٍّ واحدٍ لا يفعلُ غَيرُهُ فعلَ مَردودٍ على فاعِلِهِ محكومٍ ببُطلانِ أواخرِهِ وأوائِلِهِ، وليسَ فيهِ قُربَةً حتّى يُعتَبَرَ في الوقفِ على الجهةِ العامةِ.
وإمّا اشتراطُهُ الخِلطَةَ والمُساكنةَ، فأَيُّ شيءٍ دلَّ علَيْهِ؟ فإِنَّ
(1)
وردت في عوارف المعارف، 356.
(2)
هو عبد القادر بن موسى بن عبد اللَّه بن جنكي دوست الحسني، محيي الدِّين الجيلاني (ت 561 هـ)، مؤسس الطريقة القادرية، زاهد، متصوف، ولد في جيلان -طبرستان- انتقل إلى بغداد، برع في الوعظ، انظر، ابن تغري بردي: النجوم الزاهرة، 5/ 371، الشعراني: الطبقات، 1/ 126، الكتبي: فوات الوفيات، 2/ 2، ابن العماد الحنبلي: شذرات، 4/ 198.
(3)
المقصود الشيخ، أبو السعود بن أبي العشائر بن شعبان بن الطيب الباذيني (ت 644 هـ)، من واسط بالعراق - انتقل إلى مصر، وكان من أجلاء صوفية مصر، انظر الشعراني: طبقات، 1/ 162. السيوطي: من المحاضرة، 1/ 297، ابن الملقن: طبقات الأولياء، 406.
(4)
وردت في عوارف المعارف 357 "ولكن بتصرف عند الأُدفوي".
اسمَ التصوُّفِ والصُّوفيّ صادقُ بدونِ ذلكَ، وَلَا يَقُل
(1)
إنَّ الأَقدَمِينَ اتَّصَفُوا بِها.
أمَّا المُساكنَةُ فلم تكُنْ ثَمَّ خانْقات
(2)
ولا رُبُطٌ للصُّوفيَّة، وإنَّما حدثَ ذلكَ بعدَ الأربعِ مئة وأمَّا المخالَطَةُ، فالسَّلَفُ اختلَفُوا في أنَّ العُزلةَ أفضَلُ أم لَا؟ .
قال أبو سعيد الخُدْريّ: سُئِلَ رسولُ اللَّه، أيُّ النَّاس أفضلُ؟ قالَ:"رجلٌ مجاهدٌ في سبيل اللَّه". قالُوا: ثُمَّ. قالَ: "ثُمَّ رجلٌ مؤمنٌ في شُعَبٍ مِنَ الشِّعاب يَشْقَى بِهِ، ويدَعُ النَّاسَ من شرِّه"(حديث صحيح)
(3)
.
ومنْ رجَّحَ مخالطَةَ النَّاسِ، لم يَقصُرْهُ على طائفةٍ مخصوصَةٍ، بلْ لا شكَّ أنَّ العُزلَةَ أرجحُ من مخالَطَةِ مَنْ أحدَثَ رُسُومًا، وجعلَهَا شَرعًا، وأيُّ شاهدٍ اعتبارُ منْ يلبسُ جُمجُمًا
(4)
في رجلَيْهِ ويُصَيِّرُ عذَبتَهُ بين يديه أو لَهُ طَرطُورٌ طَويلٌ كأنَّهُ زَلُّومَةُ فيلٍ.
وقد ثبت في "صحيحِ مسلمٍ" أنَّ رسُولَ اللَّهِ، قال:"إنَّ اللَّهَ لَا ينظُرُ إلى صورِكُم وأموالِكُمْ ولكِنْ ينظُرُ إلى قُلوبِكُم وأعمالِكُم"
(5)
. فَشَيءٌ لا ينظرُ اللَّه إليه لا يكونُ شرطًا لاستحقاقِ ما يُتَقَرَّبُ بِهِ إليهِ.
(1)
المرجع السابق ونفس الصفحة.
(2)
الأصح "خوانق".
(3)
رواه الإمام أحمد في "المسند"(3/ 56) وقد ذكره المؤلف بالمعنى وباختصار، وهو حديث ضعيف. (م)
(4)
الجمجم: ضرب من المكاييل، انظر اللسان -مادة- جمجم.
(5)
رواه مسلم رقم (2564) في البر والصلة: باب تحريم الظن والتجسس والتنافس من حديث أبي هريرة. (م).
ثم إنَّ الزيَّ مختلِفٌ، قومٌ منهمْ لَهُمْ زيٌّ، وآخرون زيٌّ. وهكذا دائمًا في أماكِنَ مُختلِفَةٍ، فأَيُّها المُعتَبرُ. وإذا اعتبرنا كلَّ إقليمٍ بِزِيِّهِ، فإذا وردَ أهلُ ذاكَ الإِقليمِ إلى إقليمٍ آخرَ، هل يُلْزَمُون باتِّباعِ إقليمِهِمْ أو بالإقليمِ الذي انتَقَلُوا إليهِ؟ ويتسلسلُ، وكلُّ ذلكَ دليلٌ عليهِ. وأمَّا اشتِراطُ الفقرِ، فاللَّفظُ لا دلالَةَ لَهُ عَلَيْهِ، ولكِنَّ العُرْفَ مُشعِرٌ بهِ، فيخرُجُ على ما إذا وَصّى للأيْتَامِ.
وقد قالَ الماوردي
(1)
: "والرِّواياتُ فيهِ أنّه إنْ وصَى لأيتامِ قَبيلةٍ معيَّنةٍ ولا يَشْترِطُ الفقرَ في أيتامِ تلكَ القبيلةِ، وإلّا فوجهانِ، يُنْظَرُ في أحَدِهِما إلى اللَّفظِ، والآخرُ إلى العُرْفِ. فإنَّ العادةَ جاريةٌ في أنَّ الإِنسانَ لا يُوصي للأيتامِ الَّذينَ لهمْ ثَروةٌ. وكذلكَ إذَا وَصَّى لأرامل قبيلةٍ، فَفِيهِ ما ذكرنَاهُ. وكذلكَ الوصيَّةُ للزَّمْنَى، وقطعَ بَعضُهُم بأنَّه لا يشترِطُ الفَقْرَ، ومنهمْ منْ أجرى الخِلَافَ.
وإنْ جعلْنا الصوفيةَ منسوبِينَ إلى أهلِ الصُّفَةِ لمُشابَهَتِهم لَهُمْ في الأفعالِ والأحوالِ.
واشتراطُ الفقْرِ ظاهرًا، مُرادُهُ، كانَ حالَ أهلِ الصُّفةِ الفَقْرُ، وكَذا إذَا جَعلْنَاهُم منسوبينَ إلى لُبسِ الصُّوفِ، فإنَّ لُبسَ الصُّوفِ في الغالبِ كانَ لأهلِ الفاقَةِ والمُتَقلِّلِينَ من الدُّنيا، الراغِبينَ عَنْها.
(1)
الماوردي: (أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب ت 450 هـ)، ولد بالبصرة وتفقه بها، نبغ في الفقه بعد ارتحاله إلى بغداد، كان قاضي القضاة سنة 429 هـ، كان موضع ثقة ملوك بني بوية حول مسيرته انظر:
ابن الجوزي: المنتظم، 8/ 151، ابن الأثير: اللباب في تهذيب الأنساب، 3/ 90. البغدادي: تاريخ بغداد، 12/ 102، السبكي: طبقات 5/ 267، ابن كثير: البداية، 11/ 80. ياقوت: معجم البلدان 5/ 406، الاسنوي: طبقات الشافعية (تحقيق عبد اللَّه الجبوري، ط. بغداد سنة 1971 م).
وأَمَّا الفُقَهاءُ والمُحدِّثونَ والمقرِئُونَ وغيرُهم ممَّا هوَ في مَعناهُمْ، فلا يشترطُ الفقر فيهِم، إذ لَا نعرفُ فيهِ خِلافًا، بل يُعطى مَنْ شملَهُ الاسمُ، فالصُّوفيُّ حقيقةً، أنَّه مُتَخلِّقٌ بأَخلاقٍ نفسانِيّةٍ. والغَزاليُّ وافقَ على ذلكَ، ولتلكَ الأخلاقِ أشياءٌ في الظَّاهرِ تدلُّ عليْها، والفقرُ لَا يدلُّ عليهَا ولَا داخِلًا في حقيقَتِها العُرْفِيّةِ.
وهذهِ الطائِفةُ قد استندتْ في طريقِها إلى عليِّ بن أبي طالبٍ رضي الله عنه، وقَدْ ذكر الحافِظُ أبو محمّدِ بنِ حزمٍ
(1)
، أَنَّهُ كان غنيًّا، وأنَّه ما ماتَ إلّا عن ثروةٍ. وآخرُ شيوخِ الطَّائفةِ، الإِمامُ أَبو حفْصٍ، عمرُ السُّهروَردي
(2)
. وقد ذكرَ النَّاسُ، أَنَّهُ كانَ منْ أهلِ الثَّروةِ، وأنفقَ أموالًا في وجوهِ البِرّ، وتولَّى مواضِعَ، وأرسلَ رسولًا عنِ الخِلَافةِ وغيرَ ذلكَ، ولكنَّ العُرْفَ مُخَصَّصٌ، وَظاهِرُ الوقفِ عليهِم، فَضْلَةُ الفقرِ.
وأَمَّا الحِرَفُ والاكتِسابُ، فالحِرَفُ مختلِفَةٌ، مِنْها ما هُوَ ممدوحٌ، كالتَّدريسِ وأشباهِهِ، فلا يُخْتَلَفُ في أنَّ هذا لا يمنعُ الاتِّصافُ بهِ الاستِحقَاقَ، ومنهَا ما يُنسَبُ مُتَعاطِيهِ في العُرْفِ إلى دناءَةٍ كالحجَّامِ والقَمَّامِ، وهذا قد يُقالُ في الصُّوفيّ: إنَّ اختيارَهُ حِرفةً دنيئةً يُنافي التصوُّفَ، وقد اعتبرَ
(1)
هو علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الأندلسي، أبو محمد ت 456 هـ، فقيه، أديب، أصولي، محدث، حافظ، متكلم، أديب مشارك في التاريخ والأنساب والنحو واللغة والشعر والطب والمنطق والفلسفة، معروف مشهور، انظر، ياقوت: معجم الأدباء، 12/ 235، كحالة: معجم المؤلفين، 7/ 16، الذهبي: سير أعلام النبلاء، 8/ 184، القفطي: تاريخ الحكماء 232، ابن خلكان: وفيات الأعيان، 3/ 325.
(2)
هو شهاب الدين، أبو حفص عمر بن محمد بن عموية السهروردي ت 632 هـ، شافعي المذهب، تخرج عليه خلق كثير من الصوفية، صحب أبا النجيب السهروردي (عمه) والشيخ عبد القادر الجيلاني، صاحب عوارف المعارف، انظر، أبو الفيض: جمهرة الأولياء 2/ 200، الأسنوي: طبقات الشافعية 2/ 63.
الفقهاءُ ذلكَ في الشهادةِ؛ فقد رجَّح جماعةٌ منهُم قبولَ شَهادَةِ منْ يتعاطَى حرفةً دنيئةً، وفيهِ وُجوهٌ وتفاصيلُ، مذكورةٌ في كتب الفقهِ.
ومنهَا ما هوَ مُتوسِّطٌ بينهُما كالوِرَاقةِ والخِيَاطَةِ وشَبَهِهِمَا، ولكنَّ القيامَ بِها من فروضِ الكِفايةِ، وليسَ تَعاطِيها دَناءَةً، فالمُتَّصِفُ بِها لا يَخلو مِنْ أمرَيْن:
إمَّا أَن يكونَ مستغنيًا عنْها بأَنْ يكونَ لَهُ غِنًى أو معلومٌ في الخانقاه، أو في وظائفِ، العلمِ تُغنِيهِ عنْ تعاطيها أو يكونَ محتاجًا إليها للقيامِ بنفسه إنْ كانَ منفرِدًا أو بِعيالِهِ، فإنْ كانَ مستغنيًا فتعاطِيها في الحَانُوتِ أو الكسبِ بها يُؤَثِّر في منعِ الاستِحقاقِ لأنَّ فيهِ طلبًا لِزيادَةِ مالٍ، والتصوُّفُ مبناهُ على التَّقلُّل منَ الدُّنيا، وقد قالَ:"اللَّهُمَّ اجعلْ رزقَ آلِ محمدٍ قوتًا"
(1)
، وقال:"يدخُلُ الفقراءُ قبلَ الأغنياءِ الجنةَ بخمسِ مئة عامٍ"
(2)
.
وإنْ كانَ محتاجًا إليهَا، فالشَّرعُ طلبَ منهُ الاكتسابَ، وقالَ:"لأنْ يأخُذَ أحدُكُمْ حبلةً عَلى عَاتِقِهِ فَيحتَطِبَ خيرٌ لهُ"
(3)
-الحديث-.
وَقالَ: "كفى المرءَ إثمًا أن يُضيِّعَ من يَقُوتُ"
(4)
. وفي لفظٍ: "من
(1)
رواه البخاري (11/ 250) في الرقاق: باب كيف كان عيش النبي صلى الله عليه وسلم، ومسلم رقم (1055) في الزهد، وانظر تتمة تخريجه في "جامع الأصول"(4/ 671). (م).
(2)
رواه الترمذي رقم (2354) في الزهد: باب ما جاء أن فقراء المهاجرين يدخلون الجنة قبل أغنيائهم، وهو حديث حسن، وانظر "جامع الأصول"(4/ 673). (م).
(3)
رواه البخاري رقم (1470) في الزكاة: باب الاستعفاف عن المسألة، و (1480) باب قول اللَّه تعالى:{لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} [البقرة: 273] و (2074) في البيوع: باب كسب الرجل وعمله بيده، و (2374) في المساقاة: باب بيع الحطب والكلا، ومسلم رقم (1042) في الزكاة: باب كراهة مسألة الناس. (م).
(4)
حديث صحيح رواه مسلم رقم (996) في الزكاة: باب فضل النفقة على العيال، وأبو داود رقم (1692) في الزكاة: باب صلة الرحم. ورواه أحمد في "المسند" (2/ 160 =
يعول"
(1)
.
وقالَ: "خيرُ ما أكلَ المرءُ من كسبِ يدهِ"
(2)
.
فهذا عامٌّ في الكسبِ فَلَا يتَّجِهُ منعُهُ منَ الاستِحقَاقِ بذلكَ، وَكذَا قوله في الأجير إنَّه يُمنَعُ الاسِتحقَاقَ، كلامٌ ساقِطٌ إذَا كان محتاجًا إلى ذلك. كيفَ وَقَدْ أَجَّرَ موسى نَفسَهُ، والنبيُّ قال، إنَّهُ كانَ يرعى لأهلِ مكة على قراريطَ قبلَ النُّبُوَّةِ، وعليٌّ أجّر نفسَهُ.
وذكرَ القُشَيريُّ عن كَبيرِ الطَّائفةِ، إبراهيمَ بنِ أدهمَ
(3)
، أنَّهُ كانَ يأكلُ من عملِ يدهِ من الحصَادِ وحفظِ البَساتين
(4)
.
= و 193 و 194 و 195) والبيهقي في "السنن الكبرى"(7/ 467) والحاكم في "المستدرك"(1/ 415) من حديث عبد اللَّه بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما. ورواه البيهقي في "السنن الكبرى"(9/ 25) من حديث جابر بن عبد اللَّه رضي الله عنه. ورواه الطبراني في "المعجم الكبير" من حديث عبد اللَّه بن عمر رضي الله عنه كما في "مجمع الزوائد" والنسائي في "عِشرة النساء" من "السنن الكبرى" رقم (295) المطبوع في القاهرة. (م).
(1)
رواه بهذا اللفظ النسائي في "عشرة النساء" من "السنن الكبرى" رقم (294) المطبوع في القاهرة، والحاكم في "المستدرك"(4/ 500) من حديث عبد اللَّه بن عمرو بن العاص رضي الله عنه (م).
(2)
رواه ابن ماجه رقم (2138) في: التجارات: باب الحث على المكاسب من حديث المقدام بن معدي كرب الزّبيدي رضي الله عنه ولفظه عنده: "ما كسب الرجل كسبًا أطيب من عمل يده. . . " الحديث وقد ذكره المؤلف بالمعنى. (م).
(3)
إبراهيم بن أدهم بن منصور، من كورة بلخ، رحل في العراق والشام والحجاز (من كبار الصوفية)، القشيري: الرسالة، 1/ 63، الكلاباذي: التعرف، 37، الشعراني: الطبقات، 1/ 69، أبو نعيم: حلية الأولياء، 7/ 367 - 395، ابن العماد الحنبلي: شذرات، 1/ 255، الكتبي، فوات الوفيات، 1/ 3، السُّلمي: طبقات الصوفية، 30.
(4)
وردت في الرسالة القشيرية، 1/ 64.
وقالَ السُّهروردي عن هذه الطَّائِفَةِ: إنَّ منهمْ منْ كانَ يكتسِبُ، ومنهمْ منْ كانَ يسألُ، وجعلَ ذلكَ بحسبِ الحالِ، واستقصاءُ ذلكَ يطولُ.
فهذا الكلامُ على تفصيلِ ما فصَّلَ، وقدْ بينَّا بُطلانَهُ منْ جهةِ الاستدلالِ من حيثُ النَّقلُ فهوَ مخالِفٌ لِمَا في كُتبِ الأحكامِ لطَوائفِ فُقَهَاء الحُكَّامِ، الذينَ نَصُّوا على المسألةِ والسَّلام.
وقدْ استَدَلَّ بعضُهم على أَنَّ الغنيَّ لا يمنع، فحديثُ الأغنياء حَيْثُ جاءَ الفُقَراءُ إلى رسولِ اللَّهِ فقالَ:"ذَهَب أهلُ الدُّثورِ بالأُجورَ والدَّرجَاتِ العُلى والنَّعيمِ المقيمِ"
(1)
. -الحديث- فقالَ المُستَدِلّ: الغني يحصُلُ الثَّوابُ والفَضْلُ ونحوُه ممَّا ذُكِرَ، واستدلالُهُ غيرُ متَّجِهٍ كأَنَّه ليسَ الكلامَ في أَنّ الغني يحصُلُ بهِ الخيرُ أم لَا؟ ولا أَنَّهُ نَقْصَ في الشخصِ ولَا أَنَّ غيرَهُ أفضلُ منهُ. وإنّما الكلامُ، أَن هذا الاسمَ الذي هو التصوفُ يُنافِيهِ الغِنى أم لَا؟ . فإن الوقفَ على الصُّوفيّ يُشعِرُ بالفَقْرِ من حيثُ العُرفُ.
فإنَّه يقصِدُ بالوقوف على الصُّوفِيَّةِ إعانتَهُمْ على التَخلِّي لِلعبادةِ، فيكفيهم المُؤُونةَ المحوجةَ إلى الكسب، وتعاطي الأسبابِ، ولا يمنعُ أن يكونَ غَيرُهم أعلمَ وأفضلَ وأكثرَ ثوابًا وأجزلَ، فَلَو وقفَ شخصٌ على الفُقَهاءِ صُرِفَ إلى مسلمِ بنِ خالدٍ الزّنجي
(2)
والحجاجِ بنِ أرطاةَ
(3)
، ولا يُصرفُ
(1)
رواه مسلم رقم (1006) في الزكاة: باب بيان أن اسم الصدقة يقع على كل نوع من المعروف، وهو عند غيره من الأئمة أيضًا بألفاظ وروايات مختلفة، انظرها مع تخريجها في "جامع الأصول"(9/ 218 - 221). (م).
(2)
هو مسلم بن خالد بن سعيد بن جُرْجةِ، من أهل الشام، وهو مولى لآل سفيان بن عبدِ الأسد المخزومي، فقيه، عابد، ت بمكة سنة 180 هـ، في خلافة هارون الرشيد، انظر، ابن سعد: الطبقات، 5/ 499، 2/ 307.
(3)
الحجاج بن أرطاة بن ثور بن شراحيل بن كعب مفتي الكوفة، من بحور العلم، وولي =
لبعضِ مَن أُدرِجَ في الصَّحابةِ ممَّنْ لَا فِقْهَ لهُ، وإنْ كانَ أكثرَ فضلًا وفخرًا وأكبرَ ذِكرًا وقدرًا.
وكذلك لَو وَصَّى للشافعيَّة، صُرِفَ إلى ابنِ الأنصاري
(1)
وَلا يُصرفُ للطَّحاوِي
(2)
وأَبي يَعلى الفرّاء
(3)
وأمثالِ ذلك.
ثُمَ إنَّ المال مَطيَّة الطغيان والافْتِتَانِ، وسببُ يُتَوَصَّلُ بهِ إلى العصيان.
قال اللَّهُ تعالى {كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى}
(4)
.
وقالَ تَعالى: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ}
(5)
.
= قضاء البصرة (ت 149 هـ)، الذهبي: سير أعلام النبلاء، 7/ 68، ابن سعد: الطبقات، 6/ 359، ابن خلكان: وفيات الأعيان، 2/ 54 - 56.
(1)
سلمان بن ناصر الأنصاري: أبو القاسم (ت 512 هـ)، تلميذ إمام الحرمين، كان فقيهًا في علم الكلام والتفسير، زاهدًا ورعًا، راسخًا في علم التصوف، شرح الإرشاد لإمام الحرمين، له تصانيف في الفقه، انظر، السبكي: طبقات الشافعية، 4/ 222، ابن العماد الحنبلي: شذرات الذهب، 4/ 34.
(2)
المقصود أبو جعفر الطحاوي (ت 321 هـ) هو أحمد بن محمد ابن سلامة بن سلمة الأزدي الطحاوي، فقيه انتهت إليه رئاسة الحنفية بمصر، ابن أُخت المُزني، كان شافعيًا ثم تحول إلى الحنفية، انظر، ابن حجر: لسان الميزان، 1/ 274 - 282، ابن العماد الحنبلي: شذرات، 2/ 306. اليافعي: مرآة الجنان، 2/ 289، ابن الأثير: اللباب، 2/ 17.
(3)
هو محمد بن الحسين بن محمد بن خلف بن الفراء، أبو يعلى (ت 458 هـ)، عالم في الأصول والفروع وأنواع الفنون بغدادي، ولاه القائم دار الخلافة والحريم، من تصانيفه، الأحكام السلطانية، الإيمان وغيرها، كان شيخ الحنابلة، انظر، ابن أبي يعلى: طبقات الحنابلة، 2/ 193، الخطيب البغدادي: تاريخ بغداد، 2/ 256، الكتبي: الوافي بالوفيات، 3/ 7.
(4)
سورة العلق، آية:6.
(5)
سورة التغابن، آية:15.
وفي "الصحيحين": أنه لَمَّا قَدِمَ أبو عبيدةَ بمالِ البحرينِ، فسمعتْ الأنصارُ، فَوَافُوا صلاةَ الفجرِ - الحديث. وفيه: أنَّ النبيّ، قالَ: "ما أخشَى عليكُم الفقرَ، ولكنْ أخشى عليكُم أنْ تُبْسَطَ الدُّنيَا عليكُم كمَا بُسِطَتْ على مَنْ كانَ قبلَكُم، فتنافَسُوها كما تَنافَسوها فَتُهلكُكُمْ كَما أهلَكَتهُم
(1)
".
وفي رواية: "فتلهيكُم كما أَلهتهُم"
(2)
.
وفي حديث كعبة بن عياض: (سمِعتُ رَسُولَ اللَّه، يقولُ: "إِنَّ لِكلِّ أُمَّةٍ فتنَةً، وفتنةُ أُمّتي المالُ" (أخرجه الترمذي)، وقالَ: حسن صحيح
(3)
.
وفي "صحيح البُخاري": أنَّ النبيَّ، لمَّا رأَى على بابِ فاطِمةَ سترًا موشِيًّا، ورَجَعَ -الحديث- وفيهِ قالَ:"مَالي ولِلدُّنيا"
(4)
.
وفي حَديثِ أبي أُمامة: أنَّ النبيَّ، قالَ: "يا بنَ آدمَ، إِنَّكَ إنْ تَبذُلِ الفضلَ
(1)
قطعة من حديث رواه البخاري رقم (3157) في الجزية: باب الجزية والموادعة مع أهل الذمة والحرب، و (4015) في المغازي: باب رقم (12)، ومسلم رقم (2961) في الزهد والرقائق، في فاتحته، والترمذي رقم (2462) في صفة القيامة: باب رقم (28)، وابن ماجه رقم (3997) في الفتن: باب فتنة المال، وأحمد في "المسند"(4/ 137 و 327) من حديث المِسْوَر بن مخرمة رضي الله عنه. (م).
(2)
قطعة من حديث رواه البخاري رقم (6425) في الرقاق، باب ما يُحذر من زهرة الدنيا والتنافس فيها، ومسلم رقم (2962)(. . .) في الزهد والرقائق، في فاتحته.
(3)
رواه الترمذي رقم (2336) في الزهد: باب ما جاء أن فتنة هذه الأُمة في المال، وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب إنما نعرفه من حديث معاوية بن صالح. قلت: ومعاوية بن صالح، هو معاوية بن صالح بن حُدَير الحضرمي أبو عمرو وأبو عبد الرحمن الحمصي قاضي الأندلس، صدوق له أوهام كما قال الحافظ ابن حجر في "تقريب التهذيب" ص (538). ورواه أيضًا أحمد في "المسند"(4/ 160)، والحاكم في "المستدرك"(4/ 318). وصححه ووافقه الذهبي. (م).
(4)
رواه البخاري رقم (2613) في الهبة: باب هدية ما يُكرَهُ لُبسُها، وقد أورده المؤلف مختصرًا وبالمعنى، من حديث عبد اللَّه بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما. (م).
خيرٌ لكَ، وإنْ تُمسِكهُ شَرٌّ لكَ، وَلَا تُلامُ علَى كفافٍ، وابدأْ بمَنْ تعولُ
(1)
. (أخرجه الترمذي، وقال: حسن صحيح).
وأَخرجَ أبو نُعَيم الحافظ بسندِهِ: أنهُ قيلَ (لأَبي بكرٍ الصِّدِّيق: يا خَليفَةَ رسولِ اللَّه، أَلَا تَستعمِل أهلَ بدرٍ؟ قَالَ:"إني أرى مكانَهُم، ولكني أكرهُ أن أُدنَّسهُم بالدُّنيا"
(2)
.
وَلَا شَكَ أنَّ التَّقلُّلَ منَ الدُّنيا شعارُ الصَّالحينَ وَمُنتمى الزُّهادِ والعَارِفينَ.
فالوقفُ والوصيةُ للصوفيّ مشعرٌ بالفقرِ لَا محالةٌ، ولكنْ هُنا فَرعٌ، وهوَ أنَّا إذا شرطنَا الفقرَ، فهلْ يَقبلُ الذي يدَّعي التَّصوُّفَ، أنَّه صوفيّ؟.
لا شكَّ أنَّ الوقفَ والوصيَّةَ على الفقهاءِ لا يقبلُ فيهِ منْ يدَّعي الفقهَ، وكذا الحديث وأشباه ذلك وإذا وقفَ على الأغنياءِ فلا بدَّ من إثباتِ ذلك. وإذا أُوقِفَ على الفقراءِ قُبِلَ قولَ مدَّعي الفَقرِ.
والصُّوفيُّ مُتَردِّدٌ بينَ ذلك، فإنْ جعلنَا التَّصوُّفَ عبارةً عن الصفاتِ النَّفسانيَّةِ فلا شكَّ أنّه يُقبلُ قولَه، كما إذا قالَ لزوجتهِ: إن حضتِ فأنتِ طالقٌ، يقبل قولها، بل ذلك أولى بالقَبولِ، فإنَّ الحيضَ يمكنُ إقامةُ البيِّنةِ عليهِ، وعلمُ الزوجِ له وبالرؤيةِ والقرائنِ، وكذا إذا قُلنا: الصوفيُّ المشتغلُ بالعباداتِ في الغالبِ فإنا لا نُريدُ بالعباداتِ إلّا ما زادَ على
(1)
رواه الترمذي رقم (2343) في الزهد: باب رقم (32) وهو عند الإمام مسلم رقم (1036) في الزكاة: باب بيان أن اليد العليا خير من اليد السفلى، وأحمد في "المسند"(5/ 262) من حديث أبي أُمامة رضي الله عنه. (م).
(2)
ذكره أبو نُعَيم في "حلية الأولياء"(1/ 37) في أواخر ترجمة أبي بكرٍ الصِّدِّيق رضي الله عنه.
وبه تم تخريجنا لأحاديث هذا الكتاب النافع في غرة شهر رجب المعظم من عام (1408) هـ، والحمد للَّه الذي بنعمته تتم الصالحات، وأسأل اللَّه عز وجل أن يجزي مؤلفه ومحققه وناشره خير الجزاء. (م).
المفروضاتِ، وأكثرُها مما نُدبَ الشرعُ إلى إخفائهِ. كما في النوافل حيثُ طلبَ فِعلَها في البيتِ وأشباهِها، ولا تقولُ بظهرها ليُقيمَ البيِّنة عليْها، فإنَّه ضِدُّ المُرجَّحِ في نظرِ الشَّارعِ.
وكذَا منْ قالَ: الوقفُ على الصوفِيّةِ، يُصرفُ للفَقيرِ، يُقبَلُ قولُه، حيثُ يُقبلُ قولُ الفَقيرِ.
وأمّا على طَريقةِ الغَزالي في الزيّ والخِلطَةَ والمساكنةِ، فَهذا يظهرُ فيهِ أنَّه لا بدَّ من البيِّنَةِ، فإنَّه لا يشُقُّ ولا يَعسُرُ إقامةُ البيِّنَةِ عليهِ، وهوَ من الأفعالِ الظاهرةِ، فأُلْحِقَ بما هو في معناه.
هذا تمامُ ما لخَّصتُهُ وآخرُ ما حرَّرتُه بحسبِ علمي ومنتهى فهمي. ونختمهُ بخاتمةٍ، فأقولُ:
خاتمة:
اشتُهِرَ بين المتأَخِّرين الذينَ أدرجُوا أنفسَهُمْ في الصوفيَّةِ أنَّ طريقَهم مبايِنَةُ لطريقِ الفُقَهاءِ قولًا وفعلًا، فوقعَ بسبب ذلك تَنافرُ أوجبَ كلامَ بعضِهِمْ في بعض، ونحنُ نذكرُ من كلامِ أئمتِهمْ والقدوَةِ عندَهُم، ما يُعرِّفُكَ أنَّ التصوُّفَ اتِّباعُ السنَةِ التي الفُقَهاءُ يتَّصِفُونَ بِها، فذكرَ الأستاذُ أبو القاسم القُشيري -أحدُ شيوخهِم الأعيانِ، والمُقتَدى بهِ في هذا الشأنِ- جملةً من مقالاتِهمْ في التَّوحيدِ، وأُصولِ العقائدِ في رسالَتهِ.
وقالَ: إنَّه إنَّما ذكرَهَا ليُعْلَمَ أنَّ عقائِدَهم على وفقِ الكِتابِ والسنَّةِ، فلا نُطوِّلُ الكلامَ بِذكرِها
(1)
. وذكرَ منْ أقوالِهم ما نذكرُ بعضَه ليكونَ حجةً عليهِم، فإنهم قُدوتُهم
وأولُ راضٍ سيرةً من سيرها [*]. فحكى أولًا عن أبي عبد اللَّه بنِ
(1)
انظر الرسالة القشيرية، 1/ 32 - 55.
[*] قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: من شاهد مشهور لشعراء الهذليين، وهو قول خالد بن زهير لخاله أبي ذؤيب:
فَلَا تَجْزَعَنْ مِن سنّة أَنتَ سِرْتَهَا
…
فَأَوَّلُ رَاضٍ سنّة مَنْ يَسِيرُهَا
يقول: أنت جعلتها سائرة في الناس [لسان العرب 4/ 390]
خفيفٍ
(1)
، أنَّه قالَ: اقتَدُوا بخمسةٍ من شُيوخِنَا، وسلِّمُوا للبّاقي في أحوالِهم، فذكرَ الحارثَ بنَ أسدٍ المحُاسبيّ
(2)
والجُنيدَ بنَ محمدٍ، وأبا محمدِ رُوَيم
(3)
وأبا العبّاسِ بنَ عطاء
(4)
وعمرَو بنَ عثمانَ المكيّ
(5)
.
(1)
هو محمد بن خفيف الشيرازي، أبو عبد اللَّه (ت 371 هـ)، كان من الأمراء، أقام بشيراز، تصوف وغدا شيخ الشيوخ، انظر، القشيري: الرسالة، 1/ 212 - 213، الشعراني: الطبقات، 1/ 120 السلمي: طبقات الصوفية، 462، أبو نُعيم: حلية الأولياء، 10/ 385، ابن العماد الحنبلي: شذرات الذهب، 3/ 76.
(2)
الحارث بن أسد المحاسبي (ت 243 هـ)، أبو عبد اللَّه، أول متصوف سني تتضح من مؤلفاته ثقافة كلامية متكاملة (معروف مشهور) حول سيرته انظر ابن النديم: الفهرست، 184 القشيري: الرسالة، 1/ 89، الكلاباذي: التعرف، 45، الشعراني: الطبقات، 1/ 75، أبو نعيم: حلية الأولياء، 10/ 73، السلمي: طبقات، 56، ابن خلكان: وفيات، 1/ 157، ابن العماد الحنبلي: شذرات، 2/ 102، الخطيب البغدادي: تاريخ بغداد، 8/ 211.
(3)
أبو محمد، رويم بن أحمد (ت 303 هـ)، بغدادي من أجِلَّة المشايخ، كان مقرئًا وفقيهًا، على مذهب داود الظاهري انظر، القشيري: الرسالة، 1/ 144، الكلاباذي: التعرف، 43 الشعراني: الطبقات، 1/ 88، السلمي: طبقات الصوفية، 180، أبو نُعيم: حلية الأولياء 10/ 296، ابن الجوزي: المنتظم، 6/ 136.
الخطيب البغدادي: تاريخ بغداد، 8/ 130، ابن كثير: البداية والنهاية، 11/ 125.
(4)
أبو العباس أحمد بن محمد بن سهل بن عطاء الآدمي (نسبة لبيع الأدم، الجلد) ت 309 هـ، من كبار مشايخ الصوفية انظر، القشيري: الرسالة، 1/ 168، الشعراني: الطبقات، 1/ 95، الكلاباذي: التعرف، 43، ابن الجوزي: المنتظم، 6/ 160، أبو نعيم: حلية الأولياء، 10/ 302، ابن العماد الحنبلي: شذرات، 2/ 257.
(5)
عمرو بن عثمان المكي (أبو عبد اللَّه) ت 291 هـ، شيخ القوم إمام الطائفة في الأصول والطريقة، مات ببغداد، انظر، القشيري: الرسالة، 1/ 150، الكلاباذي: التعرف، 43، الشعراني: الطبقات، 1/ 89، السلمي: طبقات الصوفية، 202، أبو نعيم: حلية، 1/ 291، الخطيب البغدادي: تاريخ بغداد، 12/ 223، ابن العماد الحنبلي: شذرات الذهب، 2/ 225.
قال: فهؤلاءِ يُقْتدى بهم لأنهم جَمَعوا بينَ العلم والحَقائقِ.
وقال أبو يزيد البسطامِيّ
(1)
: عملتُ في المجاهدة ثلاثينَ سنةً، فما وجدتُ شيئًا أشدَّ عليَّ من العلمِ ومتابعتهِ، ولَولا اختلافُ العلماءِ لأفتَيْتُ، واختلافُ العلماءِ رحمةٌ إِلَّا في التَّوحيدِ
(2)
.
وقال: إذا نظرتُم إلى رجلٍ أُعطيَ منَ الكَراماتِ حتَّى يتربّع في الهواءِ فلا تغتَرُّوا به حتّى تنظُروا كيفَ تجدونَهُ عندَ الأمرِ والنهيِّ وحفظِ الحدودِ واداء الشريعةِ
(3)
.
وقالَ: أبو حفصٍ عمرُ الحدادُ
(4)
: منْ لمْ يزنْ أحوالَهُ وأفعالَهُ في كُلِّ وَقتٍ بالكِتابِ والسنَّةِ فَلَا يُعدُّ في ديوانِ الرّجالِ.
(1)
أبو يزيد بن طيفور بن عيسى البسطامي (ت 261 هـ)، من كبار المتصوفة، انظر القشيري: الرسالة، 1/ 100، الكلاباذي: التعرف، 1 ع، الشعراني الطبقات، 1/ 76، السلمي: طبقات الصوفية، 67، أبو نُعيم: حلية الأولياء، 10/ 33، ابن خلكان: وفيات الأعيان، 2/ 531، ابن العماد الحنبلي: شذرات، 2/ 143، المناوي: الكواكب (الطبقات)، 1/ 244.
(2)
في الرسالة القشيرية 1/ 100 ورد "عملت في المجاهدة ثلاثين سنة، فما وجدت شيئًا أشد عليَّ من العلم ومتابعته، ولولا اختلاف العلماء لفتيت واختلاف العلماء رحمة إلا في "تجريد التوحيد".
(3)
المراد بالنص الحث على اتباع الكتاب والسنة، وعدم الخروج عن السنن.
(4)
أبو حفص، عمر بن سلمة الحداد (ت 260 هـ ونيف)، من قرية كورد أباذ على باب مدينة نيسابور على طريق خراسان، أول من أظهر التصوف هنالك، انظر، القشيري: الرسالة، 1/ 118 - 119، الكلاباذي: التعرف 41، الشعراني: الطبقات، 1/ 82، أبو نعيم: حلية الأولياء: 10/ 229، ابن العماد الحنبلي: شذرات الذهب، 2/ 150، السلمي: طبقات الصوفية، 1/ 115 - 122.
وقال أُستاذ الطائفةِ الجُنيدُ: الطُّرق كلُّها مسدودةٌ عن الخلقِ إِلَّا من اقتَفى أثرَ الرَّسولِ
(1)
. . . .
وقال أيضًا: من لمْ يقرأ القُرآنَ ولمَ يكتبِ الحديثَ لا يُقتدى بهِ
(2)
في هذا الأمر، لأن علمَنا قصيرٌ بالكتابِ والسنَّةِ.
وقال أيضًا: عِلمُنا هذا مسندٌ
(3)
بحديثِ رسولِ اللَّهِ.
وقال أبو عثمانَ، سعيدُ بنُ إسماعيلَ: منْ أمَّرَ السنَّةَ على نفسهِ قولًا وفعلًا نطقَ بالحكمةِ، ومن أمَّر الهوى نطقَ بالبِدعَةِ
(4)
.
وَقالَ أبو الحسين النُّوريّ: من رأيتَهُ يدَّعي مع اللَّهِ حالًا تُخرجُهُ عن حدِّ العلمِ الشرعيّ فَلا تَفِرَّ منهُ.
وقال أبو حمزةَ البغدادي: لا دليلَ على الطَّريق إلى اللَّه إِلَّا مُتَابعةُ الرَّسولِ في الأحوالِ والأفعالِ
(5)
.
وقالَ أبو القاسمِ، إبراهيمُ بنُ محمدٍ النَّصرأبادي
(6)
شيخُ خُراسانَ في وقتهِ:
(1)
وردت في الرسالة القشيرية، 1/ 134.
(2)
في الأصل "بهم".
(3)
في الرسالة القشيرية 1/ 135 "مشيد".
(4)
وردت في الرسالة القشيرية، 1/ 139، أبو نصر السراج الطوسي: اللمع، 144.
(5)
وردت في الرسالة القشيرية، 1/ 173.
(6)
إبراهيم بن محمد، أبو القاسم النصرأبادي (ت 369 هـ)، من أئمة المتصوفة، شيخ خراسان في وقته، يرجع إليه في أنواع العلوم من حفظ السنن وجمعها، كثير الرواية انظر المناوي: الكواكب الدرية، 2/ 6، القشيري: الرسالة، 1/ 222، الشعراني: الطبقات، 1/ 122، ابن العماد الحنبلي: شذرات الذهب، 3/ 58، ابن الجوزي: المنتظم، 484، السلمي: طبقات، 484، الصفدي: الوافي، 6/ 117.
أصلُ التَّصوَّف ملازمةُ الكتابِ والسُنَّةِ، وَتركُ الأهواءِ والبدعِ، وتركُ ارتكابِ الرُّخَص والتَّأويلاتِ
(1)
.
وقال السّهرَوَرْديّ: كُلُّ حقيقةٍ مُباينةٍ للشريعةِ فهي زندقةٌ.
فهذا كلامُ مشايخِ الطريقةِ، ومن تُنسبُ إليهم المعرفةُ والحقيقةُ والمتمثلُ قولهم عند الخليقة.
وفي الكتابِ العزيزِ والسنةِ النبويةِ من تعظيم العلمِ الشرعيِّ وحَمَلَتِهِ ما لا يخفى عن ذوي الألباب ولا يجحُدُه إِلَّا أهل الحِجابِ، والمنتسبونَ إلى التصوفِ أقسام:
قسم اتبعوا ما جاء في الشرعِ، وَوَقفوا مع ما قالَه علماءُ السنة من أهل الأصل وأرباب الفرع، فهمُ الذين يستحقون التعظيمَ ويستوجبون التبجيلَ والتكريمَ.
وقسمٌ حصل لهم غُلوُّ في طريق ابتدعوها وعقائدَ اخترعوها، ووقفوا مع ألفاظ مزخرفةٍ جمعوها، فأُدخلوا في جُملة الكفار وحكم عليهم باستحقاق النار.
وقد ذكر القاضي عياض
(2)
. في الشفا وغيره: وقسم غلب عليهم
(1)
وردت عند الأدفوي بصورة مختصرة، أما في طبقات الصوفية للسلمي 488، والكواكب الدرية، للمناوي 2/ 6 فكانت "بعد البدع" وتعظيم حرمات المشايخ، ورؤية أعذار الخلق - وحسن صحبة الرفقاء والقيام بخدمتهم واستعمال الأخلاق الجميلة والمداومة على الأوراد وترك الرخص والتأويلات.
(2)
القاضي عياض: عياض بن موسي بن عياض بن عمرون اليحصيبي ت 544 هـ، عالم المغرب وإمام أهل الحديث في وقته، عليم بكلام العرب وأنسابهم، مشهور معروف، من تصانيفه، الشفا، انظر، ابن خلكان: وفيات، 1/ 392 الضبي: بغية الملتمس 425، الحُميدي: جذوة المقتبس، 377، الذهبي: سير أعلام النبلاء، 2/ 212، =
الجهلُ، والوقوف مع ما أحدث من رسوم، وتركوا النظرَ في المعارفِ والعوارفِ والعلومِ.
فاستحوذَ عليهم الشيطانُ، وغلبَ عليهمُ الطغيانُ والعصيانُ. فاحتفلوا بالرقصِ والسماعِ والشهواتِ التي تثيرُها الطباعُ لا يقتفون شرعًا، ولا يجتنبون أمرًا بِدْعًا، فهم الأخسرون أعمالًا، {الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا}
(1)
.
وقالَ أبو حفص الحدّادُ: إذا رأيتَ المُريدَ يُحِبُّ السماعَ، فاعلَمْ أنَّ فيهِ بقيَّةً لِلبَطالَة
(2)
، وسُئِلَ أبو عليّ الرُّوذبارِي
(3)
، الإِمامُ العالمُ المحقِّقُ عمّن يسمعُ المَلاهي، ويقولُ هيّ لي حلالٌ، لأني قد وصلتُ إلى درجةٍ لا تؤثِّرُ فيهِ
(4)
اختلافُ الأحوالِ.
فقالَ أبو عليٍّ: نَعَمْ وصلَ إلى سقَر.
نسأَلُ اللَّه العافيةَ والسلامةَ والحمدُ للَّه الذي والى علينَا إنعامَهُ.
والصلاةُ على المخصوصِ بِالمَقامِ المحمودِ يومَ القيامةِ.
حسبُنَا اللَّهُ ونعمَ الوكيلُ.
= ابن الأثير: تهذيب، 2/ 43، ابن كثير، البداية: 12/ 225.
(1)
سورة الكهف، آية 104.
(2)
انظر الرسالة القشيرية، 1/ 185، السهروردي: عوارف، 187.
(3)
هو أبو علي، أحمد بن محمد الروذباري ت 322 هـ، بغدادي أقام بمصر، صحب الجُنيد والنوري وابن الجلاء، انظر، القشيري: الرسالة 1/ 185، الكلاباذي: التعرف، 44، الشعراني: الطبقات، 106.
(4)
في الرسالة "في" وهو الأصح.