الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[بحث شرط اللقاء]
[82]
ولي
بحثٌ في اشتراط اللقاء
أحببت أن ألخِّصه هنا، فأقول:
الأصل في الرواية أن تكون عما شاهده الراوي أو أدركه، فتأمل هذا، وافرض أمثلة بريئة عن القرائن من الطرفين:
كأن تكون ببلدة، فتسمع برجل غريب جاءها، وبعد أيام تلقاه، فيخبرك عن أناس من أهل تلك البلدة: أن فلانًا قال كذا، وفلانًا قال كذا، من دون أن يصرح بسماع، ولا علمت لقاءه لهم، ولكنك تعتقد أنه لا مانع له من لقائهم.
ثم توسَّع في الأمثلة ولاحِظ أنها واقعة في عصر التابعين، حين لا برق ولا بريد ولا صحافة ولا تأليف، وإنما كان يُتَلقّى العلم من الأفواه، والناس مشمِّرون لطلب العلم، ولاسيما للقاء أصحاب نبيهم صلى الله عليه وآله وسلم. ثم لاحِظ أنه لم يكن يوجد منهم إلا نادرًا من لم يزر الحرمين، وفيهما يمكن اجتماع الراوي بالمروي عنه، إذا كانا متعاصِرَين. وبهذا يندفع ما يوهمه تباعد البلدين من عدم اللقاء.
فإذا كان الحال ما ذُكِر، وثبت أن أحد المتعاصِرَين روى عن الآخر بلا تصريحٍ بسماع ولا عدمه، كان المتبادر السماع، فكيف إذا لاحظت أن كثيرًا من السلف كان يزور الحرمين كلَّ عام، فكيف إذا كان أحدهما ساكن أحد الحرمين، فكيف إذا ثبت أن الآخر زارهما؟ وكذا إذا كان أحد الشخصين ببلدٍ قد زاره الآخر، فأما إذا كانا ساكنين بلدًا واحدًا، فإنه يكاد يقطع باللقاء.
وزد على هذا أن الإسناد كان شائعًا في عهد السلف، لا تكاد تجد أحدًا إلا وهو يقول: عن فلان أن فلانًا أخبره عن فلان، مثلًا، مع أن السلف كانوا
أهل تثبُّت واحتياط.
[ص 83] إذا تقرر هذا، فما المانع من الأخذ بهذه الدلالة الظاهرة المحصّلة للظن، المستوفية لنصاب الحجية؟
إن قيل: كان اصطلاح السلف خلاف ما يقتضيه الأصل، بدليل شيوع الإرسال فيهم.
قلت: أما الإرسال الجلي فمُسَلَّم، ولكن أقل من الإسناد، كما يعلم بالاستقراء، فهو كالمجاز، لا يقدح شيوعه في تقديم الحقيقة عليه.
وأما الخفيّ؛ فقليلٌ، حتى إنه أقل من التدليس.
فإن قيل: فإن ذهاب ابن المديني والبخاري رحمهما الله تعالى إلى اشتراط اللقاء، يدل على شيوع الإرسال الخفي في السلف.
قلت: الاستقراء أقوى من هذا الاستدلال، مع أن مسلمًا رحمه الله نقل في مقدمة صحيحه الإجماع على عدم اشتراط اللقاء، أي: قبلهما، كما أشار إليه بالتشنيع على بعض معاصريه.
فقيل: إنه أراد به البخاري، ولا مانع من أن يريده وشيخه ابن المديني، فقد كان أيضًا معاصرًا له، فلا يخدش خلافهما وخلاف من عاصرهما أو تبعهما في الإجماع السابق.
على أن أقل ما يثبت بنقل مسلم أن الغالب في عهد السلف أن تكون الرواية على السماع، والبخاري وشيخه لا ينكران أن الظاهر من الرواية السماع، بدليل تصحيحهما لعنعة الملاقي غير المدلس، فلولا وفاقهما على أنّ الظاهر من الرواية السماع، لكانا إنما يعتمدان مجرَّد اللقاء، فيلزمهما أن
يثبتا لكل من لقي شخصًا أنه سمع منه جميع حديثه، وهذا كما ترى.
[ص 84] وإنما اشترطا ثبوت اللقاء؛ لأن الدلالة معه تكون أقوى وأظهر، وهذا صحيح غالبًا، ولكنه لا يقتضي إهدار الدلالة الحاصلة مع عدم ثبوت اللقاء، ما دامت دلالة ظاهرة محصِّلة للظن، مستكملةً النصاب كما مر.
قد ألزمهما مسلم رحمهم الله عدم تصحيح المعنعن أصلًا؛ لأنه كما أن عنعنة من لم يثبت لقاؤه تحتمل عدم السماع، فكذلك من ثبت لقاؤه.
وأجيب: بأن احتمال السماع في الثاني أقوى.
ويردُّ: بأن احتمال السماع في الأول قويٌّ ظاهرٌ محصلٌ للظن، فلا عبرة بزيادة الثاني، إذ هي زيادة على النصاب، مع أن لنا أمورًا تجبر هذه الزيادة:
منها: قلة الإرسال الخفي في السلف.
ومنها: أنه أقبح وأشنع من التدليس، كما سيأتي.
فالثقة أشد تباعدًا عنه، تدينًا وخوفًا من نقد النقاد الذين كانوا يومئذٍ بالمرصاد، بخلاف التدليس، فإنه أشد خفاءً على الناقد.
وأجيب أيضًا: بأن احتمال العنعنة لعدم السماع مع ثبوت اللقاء، اتهامٌ للراوي بالتدليس، والفرض سلامته منه، بخلاف احتمالها له مع عدم ثبوت اللقاء، فإنما فيه اتهامه بالإرسال الخفي فقط.
ويردُّ: بأنه قد نقل محققون من أهل الفن أن الإرسال الخفي تدليسٌ، منهم ابن الصلاح والنووي والعراقي، وقال: إنه المشهور بين أهل العلم بالحديث.
ولنا بحث في تحقيق ذلك، والإجابة عما ذكره [ص 85] الحافظ رحمه الله، لا حاجة لإثباته هنا؛ لأن الخلاف لفظي، للاتفاق على أن في الإرسال الخفي إيهامًا، فاتهام الراوي به كاتهامه بالتدليس، فإذا اتهمتم الراوي بأنه يرسل خفيًّا ــ وإن لم يوصف به ــ فليزمكم أن تتهموا الراوي بأنه يدلس وإن لم يوصَف به.
فإن قلتم: إن الأصل في الثقة عدم التدليس؟
قلنا: وكذا الإرسال الخفي.
فإن قلتم: الإيهام في الإرسال الخفي أضعف منه في التدليس، فهو أقرب إلى اتصاف الثقة به.
قلنا: مُسَلَّم غالبًا، ولكن هذا لا يقتضي أن لا يكون الأصل في الثقة عدمه، ما دام فيه إيهامٌ وتغرير وغشٌّ منافٍ لكمال الثقة، مع أن الإيهام في الإرسال الخفي لأمرين، كلاهما خلاف الواقع: السماع لذلك الحديث، واللقاء.
بخلاف التدليس، فإنه وإن دل على الأمرين، فاللقاء موافقٌ للواقع، فتبين أن الإرسال الخفي أقبح وأشنع من التدليس، كما قاله ابن عبد البر في "التمهيد"
(1)
، ونحوه ليعقوب بن شيبة. انظر "فتح المغيث"
(2)
(ص 74 - 75).
وعليه، فالثقة أشدّ بعدًا عنه؛ تدينًا وخوفًا من نقد النقاد، كما مرّ.
(1)
(1/ 27 - 28).
(2)
(1/ 210 - 211).
فإذا اتهمتم الثقة به من غير أن يوصَفَ به، لزمكم من باب أولى اتهام الثقة بالتدليس، وإن لم يوصَف به.
فإن قيل: لعل السامع يكون عالمًا بعدم اللقاء، فلا إيهام، فلا إرسال خفيًّا.
[ص 86] قلنا: وكذلك لعل السامع يكون عالمًا بعدم السماع مطلقًا، أو لذلك الحديث، فلا إيهام، فلا تدليس.
والتحقيق: أنه لو كان الراوي يعلم بعدم اللقاء، أو عدم السماع، وهو ثقةٌ غير مدلس، لبينه لمن يأخذ عنه، ولو فُرِضَ أن الثاني كان عالمًا بذلك، فاستغنى عن التبيين، فيلزم الثاني أن يبينه للثالث، وهكذا.
فإذا جاءنا الحديث من رواية الثقات غير الموصوفين بالتدليس، أو الإرسال الخفي إلى ثقةٍ كذلك روى بالعنعنة عمّن عاصره، وأمكن لقاؤه له، ولم ينص أحدٌ من رجال السند ولا غيرهم على عدم اللقاء، فهو كما جاءنا الحديث من رواية الثقات غير الموصوفين بالتدليس إلى ثقة كذلك روى بالعنعنة عمّن لقيه، وأمكن سماعه لذلك الحديث منه، ولم ينصّ أحدٌ من رجال السند أو غيرهم على عدم السماع، ففي قبول الأول احتمال اللقاء والسماع، وفي رده اتهام الثقة بإيهام اللقاء والسماع، وفي قبول الثاني احتمال السماع فقط، وفي ردّه اتهام الثقة بإيهام السماع فقط، فهذه بتلك.
فإذا لاحَظْنا قلة الإرسال الخفي في السلف، واعتيادهم [ص 87] للإسناد، وخوفهم من نقد النقاد، كان الأمر أوضح، فكيف إذا اعتبرنا القرائن الدالة على اللقاء، كما سبق بيانها أول البحث؟
فالمختار ما قاله مسلم رحمه الله: أن ثبوت اللقاء ليس بشرط الصحة.
ولم نختره لما ذكره من الإجماع والإلزام، بل لما قدمنا أن الدلالة حينئذٍ دلالة ظاهرة، محصِّلة للظن، مستكملة لنصاب الحجِّية. والله أعلم.
وقد رأيت عن الحافظ رحمه الله ما يوافق ما قلنا. قال تلميذه السخاوي في "فتح المغيث"
(1)
(ص 62): "ولكن قيَّده ابنُ الصيرفي بأن يكون صرح بالتحديث ونحوه. أما إذا قال: عن رجل من الصحابة، وما أشبه ذلك، فلا يقبل.
قال: لأني لا أعلم أسَمِعَ ذلك التابع منه، أم لا؟ إذ قد يُحَدِّث التابعي عن رجل وعن رجلين عن الصحابي، ولا أدري هل أمكن لقاء ذلك الرجل، أم لا؟ فلو علمت إمكانه فيه لجعلته كمدرك العصر.
قال الناظم (العراقي): وهو حَسَن مُتَّجِه، وكلام من أطلق محمولٌ عليه.
وتوقَّف شيخُنا (الحافظ) في ذلك؛ لأن التابعي إذا كان سالمًا من التدليس حُمِلَت عنعنته على السماع، وهو ظاهر.
قال: ولا يقال: إنما يتأتَّى هذا [ص 88] في حقِّ كبار التابعين الذين جُلّ روايتهم عن الصحابة، بلا واسطة. وأما صغار التابعين الذين جُلّ روايتهم عن التابعين، فلا بد من تحقُّق إدراكه لذلك الصحابي، والفرض أنه لم يسمعه حتى نعلم هل أدركه، أم لا؟ لأنا نقول: سلامته من التدليس كافية في ذلك، إذ مدار هذا على قوة الظن، وهي حاصلةٌ في هذا المقام" اهـ.
(1)
(1/ 178).
أقول: وإذا كان هذا مع احتمال عدم إدارك المعنعن للصحابي، فضلًا عن لقائه، ففي مسألتنا أولى وأظهر؛ لأنه قد ثبت الإدراك، وربما قامت عدة قرائن تدل على اللقاء، كم مر.
والعجب من الحافظ رحمه الله، كيف مشى معهم في ترجيح ردِّ عنعنة من عُلِمت معاصرته دون لقائه، ولو مع قيام القرائن على اللقاء. وتوقف عن ردّها، بل احتجّ لقبولها في حق من لم تُعْلَم معاصرته أصلًا، فسبحان من له الكمال المطلق!
وإنما ذكرنا هذا، ليعلم صحة ما ذكرناه: من أن الدلالة ظاهرةٌ مستكملةٌ نصاب الحجية. والله أعلم.
[حديث أم سلمة]
[ص 89] الإمام أحمد "مسند"
(1)
(جزء 6/ ص 299): ثنا حسن ثنا ابن لهيعة ثنا يزيد بن أبي حبيب عن ناعم مولى أم سلمة عن أم سلمة قالت: "نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يُبْنى على القبر أو يُجَصَّص".
ثنا علي بن إسحاق ثنا عبد الله أخبرنا ابن لهيعة حدثني يزيد بن أبي حبيب عن ناعم مولى أم سلمة: "أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى أن يُجَصَّص قبر، أو يُبنى عليه، أو يُجْلَس عليه". قال أبي: ليس فيه أم سلمة. اهـ.
وهذه الجملة: "قال أبي
…
" إلخ، من قول عبد الله بن الإمام أحمد.
أقول: في ابن لهيعة كلام كثيرٌ.
فأطلق بعضُهم الثناء عليه، وقال جماعةٌ، منهم ابن مهدي، والإمام أحمد، وأحمد بن صالح: سماع المتقدمين عنه صحيح.
وقال الحافظ عبد الغني والساجي: إذا روى العبادلة عن ابن لهيعة فهو صحيح.
وقال أحمد بن صالح: كان ابن لهيعة صحيح الكتاب، طلّابًا للعلم.
وقال أبو زُرْعة: سماع الأوائل والأواخر منه سواء، إلا ابن المبارك وابن وهب، كانا يتتبعان أصولَه، وليس ممن يحتجُّ به.
(1)
رقم (26566، 26567).
[ص 90] وأطلق جماعةٌ توهينه.
وقال ابن معين: هو ضعيف، قبل أن تحترق كتبه، وبعد احتراقها.
وفَصْل الخطاب في حقه ما ذكره الذهبي في "الميزان"
(1)
. قال: "قال ابن حبان: قد سبرتُ أخباره من رواية المتقدمين والمتأخرين، فرأيت التخليط في رواية المتأخرين عنه موجودًا، وما لا أصل له في رواية المتقدمين كثيرًا، فرجعت إلى الاعتبار، فرأيته كان يدلس عن أقوام ضعفاء، على أقوام رآهم ابن لهيعة ثقات، فألزق تلك الموضوعات بهم". اهـ.
أقول: فكأنَّ مَنْ أطلق الثناءَ عليه نَظَر إلى صِدْقه وعدالته، وسَعة علمه. ومن قال بصحة سماع المتقدمين، نظر إلى أن الرجل كان ضابطًا حينئذٍ، فالسماع منه صحيح، وإن كان يدلس. ومن خصَّ العبادلة، فلأنهم من المتقدِّمين المتحَرِّين.
وأما أبو زُرْعة؛ فكأنه علم أن كتابه صحيح، كما قال أحمد بن صالح، فصحَّح سماع من كان يتبع أصوله.
ولما رأى أن ما لا أصل له كثيرٌ في رواية المتقدمين، أي ممن لم يتبع كتابه، ظهر له أن الرجل لم يكن ضابطًا أولًا وآخرًا، فأطلق قوله:"وليس ممن يحتج به"، ولو اعتبر كما اعتبر ابن حبان لظهر له ما ظهر له.
[ص 91] وأما من أطلق التوهين؛ فنظر إلى الظاهر، ولم يعتبر.
وعلى كل حال، فلم يتكلم أحدٌ في صحة كتابه، وقد صرح الجمهور بأنه صحيح، وتدليسه عن الضعفاء لا يقدح في صحة كتابه، مع أن الظاهر أنه
(1)
(3/ 189 - 197).
لم يكن يعلم بضعفهم، مع أنهم قد وثقوا كثيرًا ممن كان يدلس عن الضعفاء، كما يُعْلَم بمراجعة تراجم المدلّسين، انظر ترجمة "بقية" في "الميزان"
(1)
.
إذا تقرر هذا، فالرواية الأولى لحديث الباب، وهي الموصولة، هي من رواية المتأخرين عن ابن لهيعة، فهي ضعيفة.
والرواية الثانية هي المرسلة، من رواية عبد الله وهو ابن المبارك وهو من المتقدمين، ومن العبادلة، وممن كان يتتبع أصول ابن لهيعة، وقد صرح بالسماع من ابن لهيعة، فهي صحيحة.
فالزيادة والنقص في سند الرواية الأولى ومتنها من تخليط المتأخرين، والرواية الثانية هي الصحيحة، فالحديث مرسلٌ صحيحٌ.
وناعم مع إدراكه كثيرًا من الصحابة، قليل الحديث، لم يحدث إلا عن مولاته أم سلمة
(2)
، فالظاهر أن إرساله مما سمع من الصحابة.
(1)
(1/ 331).
(2)
زاد في النسخة الأخرى: "وعن عبد الله بن عَمرو".
[ص 93] آثار
(1)
البخاري تعليقًا
(2)
: "ورأى ابن عمر رضي الله عنه فُسطاطًا على قبر عبد الرحمن، فقال: انزعه يا غلام، فإنما يظله عمله" اهـ.
البيهقي في "السنن"
(3)
: "وروينا عن أبي موسى في وصيته: "ولا تجعلن على قبري بناءً"، وعن أبي سعيد الخدري: "لا تضربن عليّ فسطاطًا"، وعن أبي هريرة كذلك" اهـ.
(1)
قال المؤلف في أول الورقة (93) بعد أن ساق أحاديث: "ينقل إلى الفصل الأول، ويجعل ههنا حديث: لا تجعلوا بيوتكم مقابر". لكنه لم يذكر هذا الحديث في الرسالة لا في هذه النسخة ولا في (المسوّدة).
(2)
(2/ 95 ــ الميرية). كتاب الجنائز باب الجريد على القبر.
(3)
(4/ 4).