المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الثالثشرح حديث علي رضي الله عنه - آثار عبد الرحمن بن يحيى المعلمي اليماني - ٥ أ

[عبد الرحمن المعلمي اليماني]

الفصل: ‌الفصل الثالثشرح حديث علي رضي الله عنه

‌الفصل الثالث

شرح حديث علي رضي الله عنه

قد مر معنى التسوية في حديث فَضَالة

(1)

، والإشراف: هو الارتفاع.

وما زعمه بعضهم أنه يحتمل أن يراد بـ"مشرف": مسنّم أخذًا من شَرَف البعير، أي: سنامه، فلا وجه له؛ لأنه لم يُسْمَع اشتقاق فعل من "شرف البعير"، ولو سُمِع لكان إطلاقه على القبر مجازًا، والأصل الحقيقة.

وقد ورد إطلاقه على القبر في حديث القاسم المار في الفصل الأول، وفيه:"فكشفت لي عن ثلاثة قبور، لا مشرفة، ولا لاطئة"

(2)

.

مع أنه قد مرَّت أدلة قاضية بأن السنة هي التسنيم، فكيف يؤمر بإزالته؟!

بقي ما قيل: إن الظاهر أن تلك القبور قبور كفار، ويدل عليه ذِكْر الصنم.

والجواب: أنَّ هذا وإن احْتُمل في بعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم لعلي رضي الله عنه، لا يحتمل في بعث علي لصاحب شُرْطَته؛ لأن عليًّا رضي الله عنه كان بالكوفة، وبَعْثه لعامل شرطته إنما يكون في الكوفة نفسها؛ لأن عامل الشرطة إنما يؤمر على ما يقرب من الأمير، والكوفة إنما بُنيت في الإسلام، فالقبور التي فيها إن لم يكن كلها قبور مسلمين فغالبها، فأَمْر عليّ بتسويتها مطلقًا يدل أبلغ دلالة على أحد أمرين:

(1)

(ص 26 وما بعدها). وحديث عليّ تقدم (ص 50).

(2)

تقدم تخريجه.

ص: 109

1 -

أن يكون في القبور التي بعثه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بتسويتها قبور مسلمين ماتوا قبل مقدمه صلى الله عليه وآله وسلم، فدُفِنوا ورُفِعت قبورهم. وربما يستأنس لهذا بما في رواية أبي محمد الهذلي:"أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان في جنازة حين بعث عليًّا"

(1)

، فيشبه أن يكون صلى الله عليه وآله وسلم علَّم أصحابه أن لا يرفعوا القبر الذي هو حنيئذٍ حاضر الدفن فيه، فأُخْبِر بأنهم رفعوا قبور الذين ماتوا من المسلمين قبل مقدمه، عملًا بعادتهم في رفع القبور، فبعث عليًّا لتسويتها مع غيرها.

2 -

أن يكون عَلِم من النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه لا فرق في وجوب التسوية، ولا أصرح في عدم الفرق من قوله:"أبعثُك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم"، وعليٌّ رضي الله عنه هو الذي تلقى الأمر من النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فهو أعلم بحقيقته.

ولا يخفى أن الإشراف هنا المراد به الارتفاع فوق الشبر، لمقابلته بالتسوية، والتسوية: جعله على الهيئة المشروعة، ومن الهيئة المشروعة: الرفع نحو شبر فقط، وسواءٌ أكان الإشراف بتراب، أو رمل، أو حصى، [ص 98] أو حَجَر أو مدر، أو خشب، كالتوابيت، أو غير ذلك.

ومنه البناء الذي يكون على جوانب القبر القريبة، بحيث يطلق على البناء قبر، وما لم يتناوله الإشراف بعمومه من الأشياء الزائدة على الهيئة الشرعية التي مرَّ بيانُها في خاتمة الفصل الثاني، فإنه يتناولها الدليل بطريق القياس.

(1)

في "مسند أحمد" رقم (1176). وقد سبقت (ص 67 - 68).

ص: 110

فكل قبر أُخْرِج عن الهيئة المشروعة فهو مأمور بتسويته، أي: بردِّه إلى الهيئة المشروعة.

وقد قال قائل

(1)

: ليت شعري! لو كان المقصود من القبور التي أمر عليّ عليه السلام بتسويتها، هي عامة القبور على الإطلاق، فأين كان عليه السلام ــ وهو الحاكم المطلق يومئذٍ ــ عن قبور الأنبياء التي كانت مشيَّدة على عهده، ولا تزال مشيَّدة إلى اليوم في فلسطين وسورية، والعراق، وإيران .. الخ.

والجواب: أن هذا كذبٌ من ثلاثة أوجه:

الأول: إثبات معرفة قبور الأنبياء، وقد مر أنه لا يُعْلَم قبر أحدٍ منهم غير نبينا صلى الله عليه وآله وسلم.

الثاني: إثبات البناء على قبورهم في عهد عليّ رضي الله عنه، وهذا لا يثبت، وإنما كان في الكوفة شيءٌ من ذلك من فِعْل الأعاجم القريبي عهد بالإسلام، فأمر رضي الله عنه بإزالته، ولو ثبت وجود شيءٍ يومئذٍ في غير الكوفة، فلم يعلم به رضي الله عنه، ولم يَفْرَع للبحث عن ذلك.

الثالث: إدخال سورية وفلسطين تحت حكم عليّ رضي الله عنه، ولا أصرح من هذا الكذب؛ إذ هو صادرٌ من رجلٍ شيعي يستحيل أن يجهل من تاريخ أمير المؤمنين رضي الله عنه ما يتعلق بأساس التشيع، بل لا يكاد يوجد عاقلٌ ــ فضلًا عن مسلم ــ إلا وهو عالمٌ أن الشام كانت بيد معاوية.

(1)

نقله حسن الصدر في "الرد على فتاوى الوهابية"(ص 74) عن بعض المعاصرين من الرافضة.

ص: 111

ثبت الأمر بأن تُرَدّ القبور إلى الهيئة المشروعة إذا جعلت على خلافها.

ابن حبيب: قد تقدم أنه إذا صح، كان قوله:"بالأرض" من زيادة بعض الرواة. والله أعلم.

وفيه أن عمر رضي الله عنه كان مُحْييًا لهذه السنة.

أثر عثمان: فيه أن عثمان كان عاملًا بهذه الأدلة.

فكان هذا الحكم قائمًا معمولًا به في عصر الخلفاء الراشدين. والله أعلم.

[ص 99] حديث جابر وأبي سعيد وناعم: فيها النهي عن البناء على القبر وتجصيصه، والجلوس عليه.

وفي حديث جابر: النهي عن الزيادة عليه والكتابة.

* * * *

ص: 112

الكتابة

بعد أن صححها الحاكم على شرط مسلم قال: "وليس العمل عليها، فإن أئمة المسلمين من الشرق إلى الغرب مكتوبٌ على قبورهم، وهو عملٌ أخذ به الخلف عن السلف"

(1)

. اهـ.

تعقبه الذهبي فقال: ما قلتَ طائلًا، ولا نعلم صحابيًّا فعل ذلك، وإنما هو شيءٌ أحدثه بعض التابعين، فمن بعدهم، ولم يبلغهم النهي. اهـ.

وتعقبه ابن حجر الهيتمي

(2)

بقوله: "ويُردّ بمنع هذه الكلية وبفَرْضها، فالبناء على قبورهم أكثر من الكتابة عليها في المقابر المُسَبَّلة، كما هو مشاهد، لا سيما بالحرمين ومصر ونحوها، وقد علموا بالنهي، فكذا هي.

فإن قلت: هو إجماعٌ فِعْلي، فهو حجة كما صرَّحوا به.

قلت: ممنوعٌ، بل هو أكثريٌّ فقط، إذ لم يُحْفَظ ذلك حتى عن العلماء الذين [لا]

(3)

يرون منعه. وبفرض كونه إجماعًا فعليًّا، فمحل حجيته ــ كما هو ظاهر ــ إنما هو عند صلاح الأزمنة، بحيث ينفَّذ فيها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد تعطَّل ذلك منذ أزمنة"

(4)

. اهـ.

(1)

"المستدرك": (1/ 370) ووقع في الأصل: "السلف عن الخلف" سبق قلم. وكلام الذهبي في "تلخيص المستدرك" بهامشه.

(2)

في "تحفة المحتاج": (3/ 197 مع حواشي الشرواني والعبادي).

(3)

زيادة يستقيم بها السياق.

(4)

وقال المؤلف معلقًا على كلام ابن حجر في المسوّدة الثانية (ص 53 ــ 56) ما نصّه: "أقول: وهذا صحيح، وقد مضت عدة قرون لا تكاد تسمع فيها بعالم قائم بالمعروف لا يخاف في الله لومة لائم، بل لا تجد رجلًا من أهل العلم إلا وهو حافظ لحديث: "حتى إذا رأيت هوى متَّبعًا وشُحًّا مطاعًا وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك بخويصة نفسك ودع عنك أمر العامة" يعتذر به عن نفسه ويعذل به من رآه يتعرّض لإنكار شيءٍ من المنكر.

وقد وُجد ذلك في آخر عصر الصحابة بعد الثلاثين سنة، فكان أبو سعيد الخدري رضي الله عنه واحد عصره في التجاسُر على إنكار المنكر بقدْرِ الإمكان، حتى شدّد في ذلك عبد الملك بن مروان، خطب على منبر وقال: "والله لا يقول لي أحدٌ: اتق الله، إلا ضربت عنقه

" ثم توارثها الملوك والأمراء إلا مَن شاء الله.

ولهذا عَظم عند الناس ابن طاووس وعمرو بن عبيد وغيرهما ممن كان يتجاسر على النهي عن المنكر.

وعلى كل حال فالمعروفون من العلماء بذلك أفراد يعدون بالأصابع والجمهور ساكتون. وأما في القرون المتأخرة فشاعت المنكرات بين الملوك والأمراء والعلماء والعامة ولم يبق إلا أفراد قليلون لا يجسرون على شيء، فإذا تحمّس أحدهم وقال كلمةً، قالت العامة: هذا مخالف للعلماء ولما عرفنا عليه الآباء.

وقال العلماء: هذا خارق للإجماع مجاهر بالابتداع.

وقال الملوك والأمراء: هذا رجل يريد إحداث الفِتن والاضطرابات، ومن المحال أن يكون الحق معه، وهؤلاء العلماء ومن تقدمهم على باطل، وعلى كلٍّ فالمصلحة تقتضي زجره وتأديبه!

وقال بقية الأفراد من المتمسكين بالحق: لقد خاطر بنفسه وعرّضها للهلاك، وكان يسعه ما وَسِع غيره!

وهكذا تمَّت غُربة الدين، فإنا لله وإنا إليه راجعون!

ص: 113

أقول: النهي عن الكتابة لم يرد إلا في الروايات التي عنعن فيها ابن جُريج، وهو مدلّس كما تقدم، ولكن يؤخذ النهي عنها من الأحاديث بطريق القياس.

* * * *

ص: 114