الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[ص 100]
الزيادة على القبر
(قد مر الكلام عليها في الفصل الأول)
(1)
.
* * * *
الجلوس على القبر
اختلف فيه؛ فقال مالك ومن تبعه: لا بأس به
(2)
.
وتأولوا الأحاديث بأن المراد القعود لقضاء الحاجة، واستدلوا:
أولًا: بأن في بعضها التقييد به، فحُمِلَ عليه الباقي، حملًا للمطلق على المقيد.
وثانيًا: بحديث وضع الجريد على القبر، إذ هو وضع شيءٍ على القبر، فيقاس عليه الجلوس، كما أشار إليه البخاري، ونبهنا عليه في أثر خارجة
(3)
.
وثالثًا: بآثار رويت عن بعض الصحابة، أنهم كانوا يجلسون على القبور، ويقولون: إنما نُهِي عن القعود لقضاء الحاجة.
وقد مرَّ بعض هذه الآثار، في أثر خارجة بن زيد
(4)
.
(1)
(ص 44 - 45).
(2)
انظر "عقد الجواهر": (1/ 272)، و"مواهب الجليل":(2/ 75).
(3)
(ص 105 - 106).
(4)
(ص 105).
قالوا: وأما ما في بعض الروايات بلفظ: "وأن توطأ" فمِنْ تصرُّف الرواة، ظن الراوي أن النهي عن الجلوس على إطلاقه، فعبر بالوطء؛ لأنه أشد منه.
وقال الجمهور: بل هو ممنوع
(1)
. واستدلوا بالأحاديث المطلقة، وبحديث أحمد بإسنادٍ صحيح عن عَمْرو بن حزم قال:"رآني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم متكئًا على قبر، فقال: لا تؤذِ صاحب هذا القبر، أو لا تؤذه"
(2)
.
فأما من لا يقول بحَمْل المطلق على المقيّد، فاستدلاله واضح.
وأما من يقول بالحمل ــ كالشافعية ــ فيجاب من طرفهم بأنَّ حديث أحمد نصٌّ لا يحتمل التقييد؛ لأن الاتكاء لا يكون مع قضاء الحاجة.
وعليه، فيتعين بقاء الأحاديث المطلقة على إطلاقها، كما هو المقرر في المطلق الدائر بين قيدين متضادين. انظر كتب الأصول.
ويجاب عن القياس الذي أشار إليه البخاري: بأن لوضع الجريد حِكْمة خاصة، كما يعلم من الحديث، لا يعلم وجودها في غير الجريد، فلا يتم القياس، ولو فُرِض صحة القياس، فهو مصادم للنص بحديث أحمد.
ويجاب عن الآثار المروية عن بعض الصحابة رضي الله عنهم: بأنها لا تصلح لمعارضة الدليل الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، مع أننا لا ننكر أنهم لا يرون ما رأوه إلا متمسكين بدليل، ولكن ليس لنا أن نترك دليلًا قد علمناه وتحققناه، ونأخذ بدليل نظن أنهم ظنوه.
(1)
انظر "المغني": (3/ 516)، و"روضة الطالبين":(2/ 139).
(2)
أخرجه أحمد رقم (24009/ 39). قال الحافظ في "الفتح": (3/ 266): إسناده صحيح. وانظر "السلسلة الصحيحة"(2960).
هذا، مع أن قولهم معارضٌ بقول صحابة آخرين، كعَمْرو بن حزم.
وقد يتأول الأولون حديث عَمْرو بن حزم بأن يقال: لعل المراد [ص 101] بصاحب القبر فيه وليّ المدفون، فإنه قد يتأذَّى من جلوس الأجنبي على قبر ميِّته، فيكون النهي إذًا لأجل تأذِّي الحي، لا لأجل القبر.
ويُجاب عن هذا: بأنه خلاف الظاهر، مع أن القبور إنما كانت في ذلك العهد في غير الملك.
وعليه، فإن كان تأذي الولي بمجرد أنه يرى أن قبر مَيِّته، كالمستحق له، فلا عبرة بذلك؛ لأن الاستحقاق إنما هو للميت، بالنظر لباطن الحفرة، فأما ظاهرها فإنه باقٍ على الإباحة على قضية مذهبكم.
وإن كان لظنه أن في الاتكاء انتهاكًا لحرمة الميت، أو أنه يتأذى بذلك، فإما أن يكون ظنه خطأً، فلا عبرة به، وكان الأولى أن يبين الحال للأولياء بأن ذلك الظن باطل، مع أنكم لم تقيدوا الإباحة بما إذا لم يتأذَّ الحي، ولا نُقِل عمن كان يرى الإباحة من السلف ما يدل على هذا القيد.
وإما أن يكون صوابًا، فيلزم أن يكون الاتكاء منهيًّا عنه لذاته، فرجعنا إلى المعنى الظاهر، فلم يبق فائدة لهذا التأويل، إلا تأكيد النهي، لدلالته على أن في الاتكاء إيذاء الحي والميت.
وقد يتأولونه أيضًا بأنه لعله كان القبر قبرًا لبعض أقارب عَمْرو، فاتكأ عليه يبكي عليه، فيكون إيذاؤه للميت بالبكاء عليه، لما ورد "أن الميت يعذَّب ببكاء أهله"
(1)
.
(1)
أخرجه البخاري رقم (1290)، ومسلم رقم (927) من حديث عمر. وأخرجه البخاري رقم (1286)، ومسلم رقم (928) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
والجواب: أن هذا خلاف الظاهر، فقول عَمْرو بن حزم:"على قبر" يدل أنه قبر مُطلق ليس له مزية تناسب النهي عن الاتكاء، ودعوى خلاف ذلك تمحُّل لا وجه له.
فإن قيل: يدلّ عليه ذهاب بعض الصحابة إلى جواز الجلوس المطلق، وتقييد النهي عن الجلوس بأن يكون لقضاء الحاجة.
قلت: كل هذا بعيد.
أما الأول؛ فلأننا متعبَّدون بظاهر ما بلغنا عن الشارع، لا ندعه إلا إذا بلغنا عن الشارع ما يخالفه، وقول بعض الصحابة ليس قولًا للشارع، فإنه قد يخفى عليهم الدليل، فيجتهدون ويخطئون، مع أن قولهم معارض بقول غيرهم من الصحابة كما مر. [ص 102] ولم يقل أحدٌ: إن ذهاب بعض الصحابة إلى حكمٍ يوجب تأويل ما يخالفه مما ثبت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وأما الثاني؛ فلأن التقييد إنما ورد في التعليق على إثم خاصٍّ، فغايته أن يفهم أن ذلك الإثم بخصوصه لا يكون مع مطلق الجلوس.
فأما أن يفهم عدم الإثم أصلًا فلا، مع أن دلالة حديث عَمْرو بن حزم منطوق، وهو مقدَّم على المفهوم مطلقًا.
وتأول بعض الأجلة
(1)
الجلوس المنهي عنه، بالجلوس للاستشفاع بصاحب القبر، والسؤال منه. والكلامُ عليه يعلم مما قبله، مع أن ظاهر الأدلة ولاسيما حديث عَمْرو بن حزم الإطلاق. والله أعلم.
(1)
جاء في بعض مسوّدات المؤلف الإشارة إلى أن قائل ذلك أحد المعاصرين.
ثم اختلف الجمهور؛ فقال بعضهم: النهي للتحريم. وقال آخرون: بل هو للكراهية.
احتج الأولون: بأن الأصل في النهي التحريم، ولا صارفَ عنه.
ولم يأت الآخرون بشيءٍ، إلا أنهم ربما
(1)
ذكروا ما تمسَّك به القائلون بالإباحة، وقد مرَّ الكلام عليه.
قال الشوكاني في "نيل الأوطار"
(2)
: " (وأن يقعد عليه) فيه دليلٌ على تحريم القعود على القبر، وإليه ذهب الجمهور
…
" إلخ.
وقال النووي في "شرح مسلم"
(3)
: "وفي هذا الحديث كراهية تجصيص القبر والبناء عليه، وتحريم القعود، والمراد بالقعود: الجلوس عليه، هذا مذهب الشافعي، وجمهور العلماء
…
قال أصحابنا: تجصيص القبر مكروه، والقعود عليه حرام، وكذا الاستناد إليه، والاتكاء عليه
…
" إلخ.
وتُعقِّب بأن الذي عليه الشافعي والجمهور كراهة ذلك تنزيهًا، وقد يُناقَش ما ذكره النووي رحمه الله بأنه يلزمه الجمع بين الحقيقة والمجاز في لفظ النهي، [ص 103] وذلك أن كون النهي على حقيقته ــ وهي التحريم ــ تقتضي حُرمة البناء والتجصيص والقعود، فالقول به في بعضها دون بعض حملٌ للكلمة على الحقيقة والمجاز معًا.
واختيار جوازه أو القول بأن هذا ليس منه، بل من عموم المجاز. يردُّه أنه يحتاج إلى دليل، وإلا فالمجاز البسيط أولى منه، فضلًا عن الحقيقة.
(1)
الأصل: "ربهم" ولعلها ما أثبت، أو تكرر قول المؤلف "أنهم".
(2)
(5/ 169 ــ ت طارق عوض).
(3)
(7/ 37).