الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بعض المظاهر الإجتماعية
مبلغ الجهد في هذا المقام أن نقتصر على دراسة المظاهر الإجماعية التي تلقي أضواء مباشرة على الأدب، ولكن الألتزام بما يمكن أن تسيره المصادر يجعل الكلام في هذه المظاهر المقدمة على سواها ملاحظ متناثرة، لا تتمتع باحاطة أو شمول:
الجلاء: وأخطر تلك المظاهر؟ في رأيي - ما يمكن أن أطلق عليه اسم " الجلاء "، وهي فكرة تنقض الثبوت اللازب الذي نتصوره دائما لمجتمعات القرون الوسطى، إذ لم تعد حركة الأنتقال قاصرة على الرحلة العلمية أو التجارية أو على النجعة في سبيل الأرتزاق، بل أصيب المجتمع بتموجات متحركة كانت احيانا تخل من توازنه، وتترك فيه آثارا نفسية عميقة. وقد بدأ هذا الجلاء الذي يضرب على المستقريين بيد الشتات في حادثة الفتنة البربرية أولا وانسياح كثير من أهل قرطبة فرارا بأرواحهم في نواحي الأندلس المختلفة، ثم تزايدت حركة الجلاء أثر سقوط بعض المدن في الحروب الداخلية وكان على أشد احواله عندما تسقط مدينة في يد العدو الأجنبي، وربما حدث شيء من ذلك نفسه عندما سقطت
إمارات الطوائف في يد يوسف بن تاشفين، ثم في حركة الانتقال الإرادي الذي تم بتشجيع من أمراء المرابطين ليعمر علماء الأندلس بلاط مراكش.
ولم يكن هذا الجلاء متصلا فحسب بالحروب والفتن، بل كان من أسبابه أيضا طلب الرزق أو الهرب من الضرائب والظلم. وقد اجتمع هذان العاملان معا في حال بلنسية وشاطبة؟ مثلا - عندما تولى أمرهما الفتيان العامريان، مظفر ومبارك، فقد اشتطا في تحصيل الضرائب، " حتى تساقطت الرعية وجلت أولا فأولا، خرجت عن أقاليمها آخرا " ولكنهما لما كانا فتيين صقلبيين، فقد لحق بهما لأول أمرهما كثير من موالي المسلمين، من أجناس الصقلب والإفرنجة والبشكنس، حتى لحق ببلنسية ونواحيها من هؤلاء الأصناف فوارس برزوا في البسالة والثقاف، وانفتح بباب الأندلس باب شديد في إباقة العبيد، إذ فزع اليهما كل شريد طريد وكل عاق مشاق، ولحق بهم كل عريف، ورئيس كل صناعة معروف، فنفق سوق المتاع لديهم، وجلبت كل ذخيرة إليهم؟ واستوطنها [أي بلنسية] جملة من جالية قرطبة القلقة الاستقرار، فألقوا بها عصا التيسار (1) . ولما كان السيد القنبيطور يحاول أخذ بلنسية " انقطع إليه من أشرار المسلمين وأرذالهم وفجارهم وفسادهم، وممن يعمل بأعمالهم خلق كثير، وتسمى بالدوائر [؟] فكانوا يشنون على المسلمين الغارات، ويكشفون الحرمات، يقتلون الرجال ويسلبون النساء والأطفال، وكثير منهم أرتد عن الإسلام؟ "(2) .
وكان من أسباب هذا الجلاء أيضا الصراع العنصري، فإن تغلب
(1) الذخيرة - القسم الثالث (المخطوط) : 4 - 5.
(2)
Abbadidarum 2: 25 - 26
البربر بعد الفتنة على مناطق واسعة أخرج أهل تلك المناطق وأزاحهم عن ملكيتها (1) . كما أن استبداد الجند بالأمور واطلاق أيديهم بالتصرف جعلهم يتجاوزون كل الحدود " حتى فشا في المواشي ما ترون من الغارات وثمار الزيتون وما تشاهدون من استيلاء البربر والمتغلبين على ما بأيديهم، إلا القليل التافه "(2) وهذه الحال من فقدان الأمن والأطمئنان تضطر المضطهدين إلى الهجرة والنزوح.
وفي هذا الجو المتقلب المتموج برزن شخصية الرجل القلق المغامر الذي يتجول من بلد إلى بلد عارضا مهارته على من يقدرها حق قدرها، يستوي في هذا مختلف ذوي المهارات المطلوبة من جندي وكاتب وشاعر ومعماري وصاحب أي حرفة أخرى، ولم يكن اختلاف الدين حاجزا في هذه الأمور فكان السيد القنبيطور يخدم المصلحة، فتارة يحارب من أجل امير مسلم وتارة من أجل أمير نصراني؛ ولما سقطت طليطلة في يد النصارى حلق الفقيه أبو القاسم بن الخياط وسط رأسه وشد الزنار وأخذ يعمل كاتبا عند الأذفونش (3) وهذا وان كان الغاية الشاذة في إيثار المصلحة الفردية فان له بعض الدلالة العميقة على شيء من التهاون في المقايس العامة اذا هي تعارضت مع مصلحة الفرد. وانموذج هذه الشخصية من الجانب الاسلامي - في مقابل القنبيطور - شخصية الشاعر ابن عمار، فقد نشأ فقيؤا محروما، ولكنه كان مشربا بالطموح، انتهازيا، مكيافلليا مستعدا لأن يركب إلى غايته كل واسطة، مؤمنا بالصداقة بمقدار ما تبلغه أهدافه، حتى قال فيه احد
(1) الرد على ابن التغريلة: 176.
(2)
المصدر نفسه.
(3)
المغرب 2: 22.
الدارسين (1) : " كان ابن عمار وصوليا؟ إذا صح هذا التعبير - مع أخلص أصدقائه، فقد خان المعتمد صديقه وولي نعمته، واستغل ضعف ابن طاهر، رغم ما بينهما من علاقات وثيقة ليوقع به كما لم يسلم من لسانه السليط، أمير بلنسية، عبد العزيز بن أبي عامر؛ والمعتصم ابن صمادح أمير دانية الذي كانت تربطه بالشاعر أوثق الصلات غضب عليه واستنكر أعماله؟. ". هذا إلى أنه وثق علاقاته بالفونس السادس، لكي يستعين به على تحقيق نآربه. ويقول الدكتور صلاح خالص في تصويره لانتشار المغامرين في الأندلس من أمثال ابن عمار:" لقد كان هؤلاء المغامرون منتشرين آنذاك في كل جوانب الأندلس، ولا سيما في بلاطات الملوك وقصور الأمراء يتلمظون بانتظار فرصة يانحة وصفقة رابحة ولقمة سائغة "(2) .
2 -
طبقة الفقهاء: وقد شملت هذه الروح الانتهازية عددا كبيرا من طبقة الفقهاء، حتى حين كان الفقيه مشهودا له بسلامة اليد واللسان وجر ذلك إلى اختلال في القيم عامة، وسر ذلك أن الفقهاء كانوا ذوي شأن كبير في الحياة الأندلسية، قال عبد الله بن بلقين في مذكراته:" ولم تزل الأندلس قديما وحديثا عامرة بالعلماء والفقهاء وأهل الدين، واليهم كانت الأمور مصروفة إلا ما يلزم الملك من خاصته وعبيدة وأجناده؟ وأما ماكان بينهم من مظلمة أو قضية وكل حكم يرجع للسنة فأنما كان لقاضي البلدة "(3) .
ومع ذلك لم يكن الفقهاء والقضاة في طليعة المغامرين عندما سقطت
(1) محمد بن عمار الأندلسي: 79.
(2)
المصدر السابق: 81.
(3)
مذكرات الأمير عبد الله: 17 - 18.
الدولة الأموية؟ باستثناء القاضي ابن عباد. فلم تأخروا عن تسليم زمام المبادرة يومئذ؟ أغلب الظن أن سلطتهم المعنوية كانت ما تزال تقتصر إلى تأييد عسكري، ولذلك استأثر بالموقف مغامرون من طراز آخر، منهم فرسان الصقالبة والبرابرة. ثم إن هؤلاء الفقهاء والقضاة لم يكونوا قد ألفوا يومئذ ادعاء الإمامة لأنفسهم إلا أن يكونوا من قريش، ومن العسير ان يتسوروا على الامارة دون سند، وهذا احد الاسباب التي دعت فقيه اشبيلية؟ ابن عباد - إلى أن يدعى أن هشاما " الخليفة القريشي " ما زال حيا.
ولكن ليس معنى هذا انهم تخلفوا عن مراكزهم الاولى بعد الفتنة البربرية، أو تنازلوا عنها، فقد اشتركت مصالحهم مه مصالح الثائرين في غير مكان، وكان منهم أصحاب الأمر والنهي إلى جانب الحكام انفسهم، كما كانت الحال في قرطبة أيام بني جهور، وكذلك كانت شئون دولة بني ذي النون بطليطلة موكولة إلى الفقيه ابي بكر بن الحديدي، كما ان بلنسية أسلمت أمرها في أحدى مراحل تاريخها إلى القاضي ابن جحاف. ويقول ابن الخطيب في خبر زهير العامري:" إنه كان يشاور لبفقهاء ويعمل بقولهم "(1) كذلك فان مجاهداالعامري نصب بمحل ملكه خليفة دعا الناس إليه وهو الفقيه المعيطي أحد من أزعجته الفتنة من رجال الأشراف بقرطبة، وكان في عدد الفهاء المشاورين بها، فنصبه خليفة واخذ له على الناس البيعة " فاستبد المعيطي بالناس واستأثر بالفيء وجاهر بالمعاصي (2) ". وهذه امثلة فحسب، ولو تتبعنا مقامات الفقهاء ممن يلي هؤلاء في المكانة السياسية لوجدناهم ما يزالون مقدمين عندئذ. ومن
(1) اعمال الأعلام: 216.
(2)
اعمال الأعلام: 220.
اجل ذلك حملهم ابن حيان مسئولية التضييع واشركهم في ذلك مع الأمراء حين قال: " ولم تزل آفة الناس منذ خلقوا في صنفين هم كالملح فيهم: الأمراء والفقهاء، فلما تتنافر أشكالهم، بصلاحهم يصلحون وبفسادهم يفسدون، فقد خص الله تعالى هذا القرن الذي نحن فيه من اعوجاج صنفيهم لدينا، بما لا كفاية له ولا مخلص منه، فالأمراء القاسطون قد نكبوا بهم عن نهج الطريق ذيادا عن الجماعة، وجريا إلى الفرقة، والفقهاء أثمتهم صموت عنهم، صدوف عما أكده الله تعالى عليهم من التبين لهم، قد أصبحوا بين آكل من حلوائهم، وخابط في أهوائهم، وبين مستشعر مخافتهم، آخذ في التقية في صدقهم "(1) .
وربما الذي كان يعنيه ابن حيان، هو هذه المؤازرة الاجتماعية، أو السلبية المطلقة في سلوك الفقهاء " كجماعة "، غير انه وجد بعض افراد من الفقهاء، من ذوي اليقظة والحرص على مصالح الرعية، ومن دعاة التآلف والتآزر، كالفقيه ابي حفص عمر بن الحسن الهوزني، الذي وقف جهده للتنبيه على ما دهم من حادث بربشتر، وللحض على الجهاد (2) ، والفقيه ابي الوليد الباجي الذي أخذ يدعو إلى التآزر بين أمراء الطوائف لما رأى فرقتهم وتنابذهم بعد عودته من المشرق، ومضى يحاول أن يصل " ما انبت من تلك الاسباب فقام مقام مؤمن آل فرعون لو صادف اسماعا واعية، بل نفخ في عظم ناخرة، وعكف على أطلال دائرة، بيد انه كلما وفد على ملك منهم في ظاهر أمره، لقيه بالترحيب وأجزل حظه للتأنيس والتقريب، وهو في الباطن يستجهل نزعته، ويستقل
(1) الذخيرة - القسم الثالث (المخطوط) : 58، ونفح الطيب 6: 196، والبيان المغرب 2:254.
(2)
الذخيرة - القسم الثاني (المخطوط) : 33 وما بعدها.
طلعته (1)". ولم يكن مقدورا للباجي أن ينجح في مهمته، لأنه لم يكن يرفض عطايا الأمراء، ومن نشب في أعطياتهم فقد أضعف أثر دعوته من أن يبلغ قلوبهم، قال القاضي عياض "" كثرت القالة في أبي الوليد لمداخلته للرؤساء "(2) . ولما وافق ابن هود على دفع ضريبة للروم شكا الناس ذلك إلى فقيه صالح يسكن في قرية من عمل ابن هود، فقال الفقيه:" هذا لا يكون وانا حي في الدنيا ". ثم ركب إلى ابن هود ووعظه، فقتله ذلك الأمير خوفا من ان يتجاسر غيره على ان يفعل مثل فعله (3) .
فلما كانت دولة المرابطين، وأساسها ديني، وخلفاؤها الثلاثة ذوو زهد وتبتل وعبادة، قربوا اليهم الفقهاء، ليمنحوا الدولة الصبغة التي يؤثرونها، فارتفع شأن هؤلاء اكثر من ذي قبل. قال المراكشي في وصف حكومة علي بن يوسف:" وكان لا يقطع امرا في جميع مملكته دون مشاورة الفقهاء، فكان إذا ولى احدا من قضاته، كان في ما يعهد إليه ألا يقطع أمرا ولا يبت حكومة في صغير من الأمور ولا كبير إلا بمحضر أربعة من الفقهاء، فبلغ الفقهاء في أيامه مبلغا عظيما لم يبلغوا مثله في الصدر الأول من الأندلس "(4) .
ونال الفقهاء من تلك الاسباب ثروات ضخمة، أثارت حفائظ الشعب، ولذلك أعلنوا ذممهم وتهكموا بهم وبأسيادهم المرابطين، وتحينوا الفرص ليشفوا منهم الغليل عن طريق الغمز واللمز. وقد نالت رسالة لأبي مروان بن ابي الخصال شهرة واسعة في الأندلس، لا لشيء إلا لأن فيها سبا لجند المرابطين الذين تخاذلوا في قتال العدو، وفيها يقول:
(1) المصدر السابق: 39.
(2)
تذكرة الحفاظ: 1181 والنفح 2: 273.
(3)
البيان المغرب 3: 229.
(4)
البيان المغرب 3: 229.
" أي بني اللئيمة وأعيار الهزيمة، إلام يزيفكم الناقد ويردكم الفارس الواحد فليت لكم بارتباط الخيول، ضأنا لها حالب قاعد، لقد آن أن نوسعكم عقابا، وإلا تلوثوا على وجه نقابا، وأن نعيدكم إلى صحرائكم، ونطهر الجزيرة من رحضائكم "(1) .
وكان من الطبيعي، لهذا المقام الذي احرزه الفقهاء، أن يكونوا أول المغامرين حين ضعفت الدولة المرابطية، وأن يعلن كل واحد منهم الاستقلال في بلدة، وتعود الحال إلى ما كانت عليه عندما سقطت الدولة الأموية مع فرق واحد، وهو أن المنتزيين الآول من طبقات الفرسان والجند في الغالب، أما الثائرون عند انهيار المرابطين، فاكثرهم من القضاة.
3 -
مظاهر الترف في عهد الطوائف:
كانت الضرائب التي فرضها الأمراء على الناس باهظة ثقيلة لحاجتهم إليها في سد ثغرات فتحوها على انفسهم؛ واكبر الثغرات ثلاث: الضريبة السنوية التي يتقاضاها الاذفونش، ومقدارها خاضع للمساومة متأثر بحال الرضى والغضب ولكنها على أي حال ضريبة ثقيلة تحصل من الرعية توا في أغلب الأحيان، ففي بعض السنوات فرض على عبد الله بن بلقين مبلغ عشرة آلاف دينار كما فرض على حفيد ابن ذي النون مائة وخمسين ألف مثقال طيبة وخمسمائة مدي طعام له ولجنوده كل ليلة يقيمها (2) . وقد ترك لنا ابن بسام وثائق هامة عن كيفية جمع الضريبة من رقاع رآها بأحد بيوت الأشراف خوطب بها العمال في استعجال قبض. تلك الأموال، فما
(1) المعجب: 114.
(2)
مذكرات: 76، 77.
كتب إلى قواد البلاد على لسان المعتمد: " الحال مع العدو قصمه الله بينة لا تحتاج إلى جلاء ولا كشف، معروفة لا تفتقر إلى نعت ولا وصف، ومن لا يمكن مقاواته ومخاشنته، فليس إلا مداراته وملاينته، وكان؟ فل الله حده وفص جنده - قد اعتقد الخروج في هذا العام إلى بلادنا، عصمها الله، بأكثف من جموعه في العام الفارط وأحفل، وأبلغ في استعداده وأكمل، إلا أن الله تعالى يسر من إنابته إلى السلم ما يسر، ونظر لنا من حيث لا نستطيع أن ننظر، ووقع الاتفاق معه على جملة من المال، تقدم إليه ويستكف بها الشر المرهوب لديه. فكم حال كانت بخروجه نتلف، ونعمة بأيدي طاغية تنتسف، والرعية حاطها الله في هذا العام على ما يقتضيه، ما عم البلاد من الفساد، وشملها من جائحة القحط والجراد "(1) . وبما أن حال الرعية سيئة لما دهمها من الجراد والقحط، فهو يطلب في رسالته هذه أن يقوم بالدفع أناس سمى أسماءهم في رسالته ومقدار ما يدفعه كل واحد منهم.
ثم الضريبة المفروضة لدفع مرتبات الجند، وترتفع كلما كانت الحروب والفتن دائرة بين الأمراء أنفسهم، وهي في الاحوال العادية " جزية " على الرؤوس تسمى - القطيع - وتؤدي مشاهرة، وضريبة على الاموال من الغنم والبقر والدواب والنحل؟ وقبالات على كل ما يباع في الاسواق، وعلى اباحة بيع الخمر من المسلمين في بعض البلاد (2) . وقد بلغت الضريبة التي كان يتقاضاها مظفر ومبارك عن بلنسية وشاطبة مائة وعشرين الف دينار كل شهر، سبعون تحصل من بلنسية وخمسون من شاطبة (3) . اما
(1) الذخيرة - القسم الثاني (المخطوط) : 103.
(2)
الرد على ابن النغريلة: 176
(3)
الذخيرة - القسم الثالث (المخطوط) : 4
في تقدير نفقات الحروب الداخلية فيكفي أن نذكر أن المظفر ابن باديس أنفق لأخذ وادي آش ستة بيوت من المال دراهم ثلثية في البيت الواحد منها مليون دينار ثلثية (1) . ويشبه هذا النوع من الضريبة إعطاء القرى لمتقبلين من حاشية الأمير ليستخرجوا منها أقصى ما يمكن استخراجه، كي يوفروا لأنفسهم ما يزيد على قيمة القبالة. وفي هذا كله تعرض الرعية لضروب من التنكيل والعسف. ومن هذه الضريبة ومن غيرها من طرق الجباية يوفر الأمراء ما يسدون به الثغرة الثالثة، أعني انفاقعم على بناء القصور والدور واقتناء فاخر الاثاث ورفيع الرياش وسائر صنوف الترف. والناظر إلى هذه الطبقات يرى ثراء واسعا يجوز حد التخيل. ومن الطبيعي أن يكون إلى جانبه حرمان عسير شامل لطوائف كثيرة من الناس، وأن تنتشر الكدية على نطاق واسع.
وكانت الدار تكلف بعض الأغنياء مائة الف دينار، وأقل منها وفوقها (2) . ودفع هذيل بن رزين صاحب السهلة في شراء قينة حاذقة ثلاثة آلاف دينار (3) . ولما نزل الأمير عبد الله بن بلقين صاحب غرناطة ليوسف بن تاشفين عن أمواله كانت؟ فيما يبدو - مقادير جسيمة. وقد حاول أن يستبقي لنفسه ما ينفع به، فاحتفظ بسفط ذهب فيه عشرة عقود من أنفس الجوهر ويذهب مبلغ ستة عشر الف دينار مرابطية وخواتم، وحاولت امه أن تسكت على نحو خمسة عشر عقدا ومقادير من الذهب، إلا أن المرابطين حالوا دون ذلك كله (4) . ومن جملة ما وجد لديه سبحة
(1) المذكرات: 56.
(2)
الذخيرة - القسم الثالث (المخطوط) : 5.
(3)
المصدر السابق: 34.
(4)
المذكرات: 156، 158.
فيها اربعمائة جوهرة قدرت كل جوهرة بمائة دينار، ومن الجواهر ما له قيمة جليلة، إلأآ غير ذلك من الثياب والعدد (1) .
ولم يكن هذا الثراء خاصا بذوي القصور والأمراء، بل كان يشمل طبقات أخرى من الناس، من أبرزهم التجار، وبخاصة تجار الرقيق، والمقربون من الحكام، وطبقات الفقهاء، والمنتفعون بالمغامرة. حكى تاجر يهودي كيف عهد إليه أحد وجهاء بربشتر أن يفدي بعض بنائه ممن سباهن؟ وهو رومي - فلما عرض على الرومي عينا كثيرا وأقمشة قال له: كأنك تشهيني ما ليس عندي. يا بجة (يريد يا بهجة فيغير الكلمة لعجمته) ، قومي فاعرضي عليه أنواع ما في ذلك الصندوق، فقامت إليه، واقبلت ببدر الدنانير، وأكياس الدراهم وأسفاط الحلي؟ حتى كادت تواري شخصه، ثم قال لهل: أدني الينا من تلك التخوت، فأدنت منه عدة قطع من الوشي والخز والديباج الفاخر؟ ثم قال لقد كثر هذا عندي ما أستلذه "، وكان مما غنمه الروم يوم دخلوا مدينة بربشتر (2) . ومدينة بربشتر إذا قيست بغيرها من المدن تعد صغيرة قليلة الحظ من الأتساع، وهذا نصيب واحد من الذين شاركوا في غزوها ونهبها.
وهذا الجانب المترف القائم على الأبداع في شئون القصور والحدائق هو الجانب الحضاري الذي تتوجه إليه أخيلتنا كلما تذكرنا مجد الأندلس في ذلك العصر، وهو الجانب الذييستنبط ويتطاول حتى يحول بيننا وبين رؤية جوانب الضعف والتخلف في المظاهر الأخرى.
وحين يتنافس الأمراء فيما بينهم في بناء القصور وأتخاذ الأبهة وانتحال
(1) Abbadidarum 2:39
(2)
الذخيرة - القسم الثالث (المخطوط) : 60 - 61.
ضروب التفخيم يرتفع من حولهم؟ في العادة - فئتان، فئة الكبار من رجال الدولة لإتحاد المنفعة، وللأشتراك في طرق الكسب والجمع، وفئة تجار الكماليات الذين تنفق سلعهم؟ في مثل تلك الأحوال - بما يقدمونه من فاخر الأثاث والملبوسات المزخرفة والعطور والجواري. قال ابن حيان يصف ما استحدثه مظفر ومبارك في بلنسية:" واتخذوا البساتين الزاهرة والرياضيات الناضرة، وأجروا خلالها المياه المتدفقة، وسلك مبارك ومظفر سبيل الملوك الجبارين في إشادة البناء والقصور، والناهي في عليات الأمور، إلى أبعد الغايات ومنتهى النهايات، بما أبقيا شأنهما حديثا لمن بعدهما. واشتمل هذا الرأي أيضا على جميع أصحابهما ومن تعلق بهما من وزرائهما وكتابهما، فاحتذوا فعلهما في تفخيم البناء؟ فنفق سوق المتاع بعقرهم، وبعثر عن ذخائر الأملاك لقصرهم، وضرب تجارهما أوجه الركاب نحوهم، حتى بلغوا من ذلك البغية، فما شءت من طرف رائع ومركب ثقيل وملبس رفيع جليل، وخادم نبيل، وآلات متشاكلة وامور متقابلة "(1) .
ويحفل الشعر الأندلسي بوصف قصور المعتمد وغيره من الأمراء. وكانت القصور التي بناها بنو ذي النون في طليطلة مضرب المثل في روعتها، وإلى ابن حيان نرجع مرة أخرى لنتصور شيئا من حالها، فقد وصف هذا المؤرخ النافذ النظر والقلم كيف فرش احد ابهائها بالديباج التستري المرقوم بالذهب، وسدلت فوق حناياه ستور من جنسه، تكاد تلتمع الابصار بنصاعة ألوانها واشراق عقيانها، وأن مجلس أحد القصور المسمى " المكرم " قد زين بصور البهائم وأطيار وأشجار ذات ثمار، وقد تعلق كثير من تلك التماثيل المصورة بما يليها من أفنان الاشجار وأشكال الثمر،
(1) الذخيرة - القسم الثالث (المخطوط) : 5.
ما بين جان وعابث، وعلق بعضها بعضا بين ملاعب ومثاقف،؟. وقد فصل هذا الإزار عما فوقه كتاب نقش عريض التقدير، مخرم محفور دائر بالمجلس الجليل من داخله؟ وفوق هذا الكتاب الفاصل بحور منتظمة من الزجاج الملون الملبس بالذهب الإبريز، وقد أجريت فيه أشكال حيوان وأطيار، وصور أنعام وأشجار، وأرض هذه الابحار مدحوة من أوراق الذهب الابريز؟. قال: ولهذه الدار بحيرتان قد نصت على اركانهما صور اسود مصوغة الذهب البريز احكم صياغة، تتخيل لمتأملها كالحة الوجوه فاغرة الشدوق، ينساب من أفواهها نحو البحيرتين الماء هونا كرشيش القطر أو سحالة اللجين، وقد وضع في قعر كل بحيرة منها حوض رخام يسمى المذبح، محفور من رفيع المرمر كبير الجرم غريب الشكل بديع النقش قد أبرزت في في جنباته صور حيوان وأطيار وأشجار وينحر منها في شجرتي فضة عاليتي الأصلين غريبتي الشكل، محكمي الصنعة، قد غرزت كل شجرة منهما وسط كل مذبح بأدق صناعة (1) ؟
وكانت دور الأغنياء من غير الطبقة الحاكمة تزدان بعجائب من غالي الأثاث. حدث أحدهم انه دخل احدى تلك الدور ببلنسية فرأى من اثاثها ما لم يره في قصور الامويين ايام عزهم، واخبر أنه شاهد هنالك مجلسا مفروشا: " بمطارح من صلب الفنك الرفيع، مطرزة كما تدور بسقلاطوني بغدادي، وأنه كان يقابل ذلك المجلس شكل ناعورة مصوغة من خالص اللجين، من أغرب صنعة، يحركها ماء جدول يخترق الدار أبدع حركة إلى اشياء تطابق هذا السرو من
(1) الذخيرة 4/1:101 - 104 (باختصار) .
إكرامهم، فإذا تلثم عبيدهم ظنهم الناس من المرابطين أنفسهم فسعوا إلى برهم. هذا إلى الملثمين كانوا يستغلون اللثام في ضروب الإساءة والتعدي.
ويبين ابن عبدون أن كثيرا من ضروب الظلم الواقعة على الناس كانت توسم بأسم السلطان، فالمتقبل يحصل مكوسا عالية على السلع، ويحتج الوزير بأن هذا كله " لمنفعة السلطان ". ومن لباقة ابن عبدون هنا محاولته الفصل بين السلطان وما يأتيه الموظفون من شطط إذ يقول: " وعياذا بالله يأمره السلطان أو يقول له: انه مالي، ويدعي ما ليس له، بل أنه [أي المتقبل] يعرق أنه محاسب عليه، مسؤول عنه، فهو الملعون بحق (1) . فاذا تذكرنا كيف أسف ابن عبدون لفقدان السلطان العادل الذي يراعي الناس، أدركنا انه يعتمد اللباقة فحسب حين يبرىء السلطان من الجور الواقع بأسمه على الرعية.
وتقدم لنا رسالة ابن عبدون معلومات هامة عن بعض المظاهر العمرانية والاجتماعية في المدن الأندلسية؟ وبخاصة مدينة اشبيلية؛ فنعرف من هذه الرسالة كيف كانت المدن ذات أسوار تقفل ليلا، ولأبوابها بوابون يدفع الناس لهم مبلغا من المال عند جوازهم بها، ويتهم ابن عبدون أولئك البوابين بالجشع والشطط والمخرقة، ويرى أن يكون لهم أجر مقرر من الدولة، يدفعه صاحب الأحباس والمواريث، وأن لا يعطيهم الناس شيئا من الضريبة بل على سبيل التكرم. وفي خارج الأبواب فئات من الناس تبيع جلود البقر ولحومها. ويوصي ابنعبدون أن يبحث في شأن هذه المبيعات فإنها مسروقة عادة. أما في الداخل فللمدينة حرس مرتبطون يطوفون فيها ليلا ويأخذون من يتهمونه، ويصفهم الكاتب بالشدة
(1) المصدر نفسه: 31.
والتعدي وانهم يكشطون الثياب ويغيرون الأشكال ويروعون الأنفس (1) .
ومع أن المدن الأندلسية تلتقي في كثير من صور الحياة الاجتماعية إلا أن بينها؟ ولا بد - فروقا ملحوظة، فمدينة نهرية مثل أشبيلية يتصل أكثر ضروب نشاطها بالنهر ففي جانب منه ترسو السفن، وعلى النهر معدون ينقلون الناس بين الضفتين ويشحنون البضائع. ويوصي ابن عبدون بأن تحمى ضفة الوادي الذي هو مرسى المدينة للسفن وأن لا يباع منها شيء ولا يبني فيها، لأن ذلك الموضع عين البلد، وموضع اخراج الفوائد مما يخرجونه التجار، ومأوى الغرباء، وموضع اصلاح السفن. ومن هذا النهر يستقي السقاءون من سقاية خاصة، ولذلك كان من الضروري ان تمنع النساء من أن يغسلن من موضع السقاية أو ان تهرق الزبول والأقذار على ضفة الوادي. هذه حال اشبيلية؛ اما قرطبة فتميز مثلا بأن أهلها لا يخرصون الثمار؟ أي يقدرون الضريبة عليها - إلا في الفشقار، ولذلك فإن ابن عبدون يرى ان تتخذ قرطبة قدوة في هذه المسألة، هذا إذا لم يمنع الخرص منعا باتا لأنه ظلم صريح، والفقهاء الذين رخصوا فيه انما تملقوا بذلك رؤساءهم. وتتميز غرناطة باعتمادها الكبير على فصل العصير، وفي هذا الفصل يترك أهل غرناطة دورهم ناقلين معهم ما يلزمهم من الأثاث والمتاع هم وعائلاتهم متخذين معهم من الأسلحة ما يردون به العدوان (2) .
ويؤكد ابن عبدون اهمية الزراعة في حياة الأندلس، " فالفلاحة هي العمران، ومنها العيش كله والصلاح جله، وفي الحنطة تذهب النفوس والأموال، وبها تملك المدائن والرجال، وببطالتها تفسد
(1) المصدر نفسه: 18.
(2)
الإحاطة 1: 144.
الأحوال وينحل كل نظام " (1) . وهو؟ كما ترى - يخصص زراعة الحنطة بالأهتمام الأكبر، إلا ان نقدره للزراعة عامة امر واضح، ولعله كان ينظر إلى طبيعة الحضارة الاندلسية - وهي تعتمد إلى حد كبير على الزراعة؟ ويشهد ما كان يصيب الناس من اثار التخريب الذي تجره الحروب وتعطيل المواسم في عهود الفتن. ولعله كان يفكر ايضا بما اصبح يعرف في اشبيلية بأسم " سنة الجوع الاكبر "، وهي مجاعة اجتاحت الناس عام 448 وقد قال من شهد تلك الحادثة بأشبيلية: " كان الناس يدفنون الثلاثة والاربعة في قبر واحد "، والمساجد مربوطة بالخزم، لا يوجد لها من يؤم بها ولا من يصلي فيها "(2) . وقد حدث ابن عبدون كيف كان تجار الحنطة يغلون سعرها، وذلك ان التاجر يأتي إلى دلال الحنطة، فيتفق معه على ان يشتري منه مقدارا كبيرا منها فيذهب الدلال إلى متجره، ويكيل للتاجر ما اراده؟ وهو غائب - لا يشهده احد. فيحتكر التاجر مقدارا كبيرا من الحنطة ويتلاعب بسعرها في السوق؛ ويرى ابن عبدون ان يمنع بيع الحنطة إلى من عرف انه احتكر اكثر من قفيز (3) .
وبما ان عبدون يبغي الاصلاح لذلك نجده يتقصى السيأت ويصور احوال الفساد في المجتمع؛ على ان تجربته العامة في الحياة قد جعلته متشائما: " وبالجملة فأن الناس قد فسدت اديانهم؛ وأنما؟ الدنيا الفانية والزمان على اخره؟ ولا يصلح هذه الامور الا نبي بأذن الله،
(1) ثلاث رسائل: 5.
(2)
الذيل والتكملة: 12
(3)
ثلاث رسائل: 42
فأن لم يكن زمن نبي فالقاضي مسؤول عن ذلك كله (1) . ولذلك كانت عينه مسلطة على نقائص المجتمع، فمقبرة إشبيلية يذهب فيها اناس يشربون الخمر، وفي أيام العيد يجلس فيها الشبان لاعتراض النساء، والحساب فساق، سواء جلسوا في أفنية المقبرة أو جلسوا في دورهم ولذلك يجب ان يمنعوا من الانفراد مع النساء، والدارات موضع أوكار ولا سيما في فصل الصيف، وقت القيلولة، فلا بد من تفتيشها، وضروب الغش في المصنوعات والمبيعات كثيرة، وكذلك صنوف الحيل ونقص الذمة في البيع والشراء، والرشوة وأخذ الجعائل وأخذ الصيرفيين للربا.
5 -
الغناء:
لم يتح للغناء الأندلسي رجل مثل ابي الفرج الأصفهاني، يحدثنا حديثا صافيا مستوفى عن الغناء، وطبائع الألحان، وطبقات القيان والمغنين، ولكنا نقدر أن الأصول التلحينية التي وضعها زرياب وتلامذته ظلت أساسا للغناء الأندلسي، وربما جدت تفريعات في شؤون الألحان، اقتضتها طبيعة الموشحات والأزجال. وقد ذكر ابن سناء الملك عند حديثه عن الموشحات ان أكثرها مبني على تأليف الارغن، وأن الغناء بها على غير الارغن مستعار وعلى سواه مجاز (2) .
ويقول ابن بسام ان الشاعر ابن الحداد القيسي الف كتابا في العروض مزج فيه بين الانحاء الموسيقية والاراء الخليلية، ورد فيه على السرقسطي
(1) المصدر نفسه:60
(2)
دار الطراز:35
المنبوز بالحمار، ونقض كلامهم فيما تكلم عليه من الاشطار (1) . ولكنا لا نستطيع، وهذا الكتاب مما لم يصلنا، ان نتصور طبيعة " الانحاء الموسيقية " التي يشير إليها ابن بسام.
وتغفل المصادر ذكر شيء واضح عن الناحية الموسيقية حتى عصر المرابطين وظهور ابن باجة فيلسوف الأندلس وامامها في الألحان (2) ، وكان وزيرا لأبي بكر بن تيفلويت صاحب سرقسطة، فلما توفي نظم ابن باجة قصائد في رثائه، وغنى بها في ألحان مبكية (3) . ومن نماذج تلك القصائد:
سلام وريحان وروح ورحمة
…
على الجسد النائي الذي لا أزوره وعلى يد ابن باجة تخرج بعض التلامذة، ونعرف منهم أبا عامر محمد ابن الحمارة الغرناطي، الذي برع في علم الألحان، واشتهر عنه انه كان يعمد للشعراء فيقطع العود بيده، ويصنع منه عودا للغناء، وينظم الشعر ويلحنه ويغني به (4) ومنهم إسحاق بن شمعون اليهودي القرطبي " أحد عجائب الزمان في الاقتدار على الألحان " وكان يغني ويضرب بالعود (5) ، وأخذ طرائق عن كلب النار (6) ، وهذا؟ فيما يبدو - كان من حذاق العارفين بطرائق الموسيقى، ولكنا لا نعرف عنه شيئا واضحا كذلك.
أما المغنون والمغنيات فقد عرفنا بعض أسمائهم وبعض ما كانوا يتغنون
(1) الذخيرة 1⁄2:201
(2)
المغرب: 120.
(3)
المصدر نفسه:
(4)
المغرب 2: 120.
(5)
المغرب 1: 127.
(6)
المصدر نفسه.
به. فكان الحكيم النديم أبو بكر ابن الاشبيلي مغنيا بقصر الرشيد ابن المعتمد (1)، وكان محمد بن الحمامي مغنيا عند بني حمود وقد غنى في مجلس العالي يوما بشعر ابن المعتز:
هل يزيل البين المحتال
…
أن غدت للبين أجمال وغنى في مجلس آخر بشعر محدث أوله:
إذا بلغني يا ناقتي المسمي إدريسا (2)
…
ولكنا لا نعلم كيف كانت هذه الأغاني تلحن.
وكان اقتناء امرا متصلا بطبيعة الترف في قصور الأمراء ودور الأثرياء، وهم يغالون في اثمانهن إذا أحسنت الجارية فنونا متنوعة من علم وخط وشعر؟ الخ. فقد حرص المعتضد على شراء قينة عبد الحليم الوزير من قرطبة إثر وفاته لما وصفت له بالحذق في صنعتها (3) ، وأهدى مجاهد العامري من دانية إلى المعتضد جارية عرفت باسم العبادية، وكانت ظريفة أديبة كاتبة شاعرة ذاكرة لكثير من اللغة (4) ، وكان هذيل بن رزين صاحب السهلة يبتاع الجواري المغنيات المحسنات، ويطلبن بكل جهة، فكانت ستارته ارفع ستائر الملوك. وقد دفع في جارية ابن الكتاني المتطبب ثلاثة آلاف دينار، وكانت واحدة القيان في وقتها من
(1) الذخيرة - القسم الثاني (المخطوط) : 154.
(2)
الذخيرة 1⁄2: 355.
(3)
الذخيرة - القسم الثاني (المخطوط) : 12.
(4)
Abbadidarum 2: 235
حيث الجمال وطيب الغناء وجودة الكتابة والمعرفة بالعلوم (1) ويبدو أن ابن الكتاني هذا كان شخصية غريبة، وانه كان تاجر رقيق إذ يقول في فصل له:" فانا منبه الحجارة فضلا عن أهل الفدامة والجهالة، واعتبر ذلك بأن في ملكي الآن روميات، كن بالأمس جاهلات وهن الآن عالمات حكيمات منطقيات هندسيات موسيقاويات اسطرلابيات معدلات نجوميات نحويات عروضيات تأدبيات خطاطات، يدل ذلك لمن جهلهن، الدواوين الكبار التي ظهرت بخطوطهن في معاني القرآن وغريبه وغير ذلك من فنونه وعلوم العرب من الأنواء والاعاريض والإنحاء وكتب المنطق والفلسفة، وهن يتعاطين اعراب كل ما ينسخنه ويضبطنه فهما لمعانيه ولكثرة تكرارهن فيه "(2) وظاهر أن على كلام ابن الكتاني مسحة من تبجح دلالي الرقيق وتجاره.
ومن الغريب أن لا نسمع الشيء الكثير عن تلاحين الموشحات والأزجال واشتغال المغنين بها، إذ أكثر مل يقترن بالقصص المروية عن مجالس الغناء إنما هو من القصيد لا من الموشح، إلا في احوال قليلة كأن يقال أن موشحات ابن ارفع رأسه كان يغني بها في بلاد المغرب (3) أو أن ابن باجة ألقى على إحدى القينات موشحة له فتغنت بها.
وقد كان الغناء وسيلة من وسائل نقل التلاحين العربية إلى ما وراء الحدود الإسلامية بالأندلس، وطريقا إلى التأثير العربي عامة، وفي هذه الناحية من ضروب الإختلاط الحضاري يمكن أن نقدر أثر العرب في البلاد المجاورة، ذلك أن الغناء العربي والألحان العربية كانت تسمع
(1) الذخيرة - القسم الثاني (المخطوط) : 34، والبيان المغرب 3:308.
(2)
الذخيرة - السابق: 108.
(3)
المغرب 2: 18.
وتستساغ في البلاطات الأجنبية ويحدثنا ابن الكتاني؟ الآنف الذكر - عن مجلس غنار عند بنت شانجة ملك البشكنس، زوجة شانجة بن غرسيه ابن فرذلند فيقول: انه كانت في المجلس عدة قينات مسلمات في اللواتي وهبهن له سليمان بن الحكم أيام إمارته بقرطبة فأومأت بنت شانجة إلى جارية منهن، فأخذت العود وغنت بهذه الأبيات:
خليلي ما للريح تأتي كأنما
…
يخالطها عند الهبوب خلوق
أم الريح جاءت من بلاد أحبتني
…
فأحسبها ريح الحبيب تسوق إلى آخر هذه الأبيات (1) .
ولمح هذا الأثر الغنائي الموسيقي الباحثون الذين اعتمدوا المقارنة بين الطريقة العربية وما تأثر بها. فذهب الأب خوان اندريس منذ القرن الثامن عشر إلى موسيقى التروبادور وآراء الفونسو العالم في هذا الفن عربية كلها (2) وتوصل الاستاذ ريبيرا إلى القول بأن نظام الزجل ظل باقيا في صناعة الألحان الموسيقية ولا سيما في هذا النوع من الألحان المعروفة بالروندو rondo وهي ترجمة للفظة العربية " نوبة " أي نظام نعاقب فريق من العازفين على عزف قطعة موسيقية، فيعزف عازف لحنا موسيقيا يقابل الخرجة نرمز له بالحرفين أب ثم يلي ذلك غصن موسيقي من ثلاثة ألحان متشابهة يليها لحن في نفس نغم الخرجة فيصبح وزن الغصن اااب ويجيء بعد الخرجة الأولى (3) ؛ وهذا
(1) الذخيرة - القسم الثالث (المخطوط) : 197 - 108.
(2)
تاريخ الفكر الأندلسي: 536.
(3)
المصدر نفسه: 617.
يلقي ضوءا على أهمية " النوبة " الغنائية التي استحدثها زرياب في الأندلس ويعيننا على تفسير بعض التطورات التي حدثت في الموشحات والأزجال لدى العرب أنفسهم، لتشابه المحاولتين.