الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
النقد الأدبي
لم يصل مؤلف نقدي كامل مستقل بمثل اتجاها واضحا في النقد الأندلسي لهذا العصر سوى كتاب " أحكام صنعة الكلام " لمحمد بن عبد الغفور الكلاعي وهو ممن صحب ابن بسام وكان من طبقته (1)، بل ولم تكن هنالك نظرات نقدية جامعة كالتي وجدناها عند ابن شهيد وابن حزم إلا أن المادة النقدية التي نسمع عن تداولها هي: مؤلف في نقد الشعر لأبي بكر حزم بن محمد أهذه عنه سليمان بن راشد اللخمي بطليطلة، كتبه سنة 457، كما روى عن ابن شرف كتابه أعلام الكلام (2) ، واختصر محمد بن عبد الملك الشنتريني (- 545) كتاب العمدة لابن رشيق ونبه على أغلاطه (3) .
ولذلك فان مصادرنا إذا شئنا تصور الحركة النقدية في هذا العصر تقع في أربع فئات:
(1) التكملة: 468.
(2)
التكملة: 324.
(3)
التكملة: 472.
1 -
الروايات المتنائرة التي تمثل آراء جزئية مبنية على التذوق المحض.
2 -
المقامة النقدية ولدينا منها " أعلام الكلام " لابن شرف، ورسالة لابن فتوح في معارضتها، والمقامتان والخمسون من المقامات اللزومية للسرقسطي.
3 -
كتاب إحكام صنعة الكلام للكلاعي.
4 -
الآراء النقدية التي بني عليها مؤرخو الشعر (أو الشعراء) أحكامهم وفي طليعة ذلك كتاب الذخيرة لابن بسام وكتابا الفتح بن خاقان القلائد والمطمح؟ ومقدمة ابن خفاجة التي صدر بها ديوانه.
فمن الروايات المتناثرة؟ مثلا - ان نقرأ كيف مدح الحجازي الكبير المعتمد بن عباد وبعد أن سمع منه القصيدة تناول البطاقة فأخذ ينظر فيها، قال الحجازي: " وانا مترقب لنقده، لكونه في هذا الشأن من أتمته، وكثيرا ما كان الشعراء يتحامونه لذلك، إلا من عرف من نفسه التبريز، ودقق بها إلى أن انتهى إلى قولي:
ولا سقاهم على ما كان من عطش
…
إلا ببعض ندى كف ابن عباد فقال: لأي شيء بخلت عليهم أن يسقوا بكفه؟ (1) ". وواضح من هذه الرواية ان مفهوم النقد هو التعليق على المعنى ومدى ملائمته للمدح وللمقام أو عدم ملائمته.
ومما يلحق بهذه الروايات المتناثرة تلك المجالس الأدبية التي كان يشهدها مثل بلاط المعتمد. ومن ذلك أن ابن عمار كتب إليه قصيدته:
سجاياك أن عافيت أندى وأسجح
…
وعذرك أن عاقبت أجلى وأوضح
(1) Abbadidarum2:148
وختمها بقوله:
وبين ضلوعي من هواه تميمة
…
ستنفع لو أن الحمام يجلح فجعل من بالحضرة من أعداء ابن عمار ينتقدون الشعر ويطلبون له عيبا ويقولون: أي معنى أراد؟ ما قال شيئا ولا كاد: فقال لهم المعتمد: مهما سلبه الله من المروءة والوفاء، فلم يسلبه الشعر، إنما قلب بيت الهذلي:
وإذا المنية أنشبت أظفارها
…
ألفيت كل تميمة لا تنفع فسكبت القوم إلا أبا سالم العراقي فانه جعل يتمضغ بقوله في القصيدة:
ولم لا وقد أسلفت وداً وخدمة
…
يكران في ليل الخطايا فيصبح ويقول: ما معناه، وهلا بدل هذا اللفظ بسواه، فتعبث به المعتمد متحديا أن يغير العبارة (1) . والحكاية تصور إيمان المعتمد بشاعرية ابن عمار ودفاعه عنها، ومعرفته بنواحي الجودة في الشعر، دون أن تؤثر العداوة السياسية في أحكامه، كما تصور حال الانتهازيين الذين يتخذون من النقد وسيلة البلوغ إلى رضى المعتمد، وهو يعلمون ما بينه وبين صديقه القديم من " ود مفقود ".
وتتشابه المقامات النقدية في إرسال أحكام مجملة حول عدد من الشعراء، وفي كل وقفة قصيرة عند شاعر إثر شاعر يختار الناقد؟ مؤلف المقامة - ان يقول في عبارة مسجوعة أبرز ما عرف عن ذلك الشاعر وشهر به،
(1) الذخيرة - القسم الثاني (المخطوط) : 169 - 170.
وإنما تفاوت المقامات إحداهما عن الأخرى بعدد من يتصدى الكاتب لنقدهم، ولنمثل على ذلك بما يقوله كل من اشرف والسرقسطي في المتنبي:
يقول ابن شرف: " وأما المتنبي فقد شغلت به الألسن، وسهرت في أشعاره الأعين، وكثر الناسخ لشعره والآخذ لذكره، والغائص في بحره، والمفتش في قعره عن جمانه؛ وقد طال فيه الحلف وكثير عنه الكشف، وله شيعة تغلو في مدحه، وعليه خوارج تتعايا في جرحه، والذي أقول: إن له حسنات وسيئات، وحسناته اكثر عددا وأقوى مددا، وغرائبه طائرة، وأمثاله سائرة، وعلمه فسيح، وميزه صحيح، يروم فيقدر، ويدري ما يورد ويصدر (1) .
ويقول السرقسطي فيه: " قلت فالكندي أبو الطيب؟ قال ذو الطبع الصيب، والكلم الطيب، ألم يتقدم ذكره، وشهر عرفه ونكره؟ لهجت بأمثاله الأفواه، وعذبت بأشعاره الأمواه، وسارت بذكره الرفاق، ووقع على تفضيله الاصفاق، أغص القائلين وأشرق، وأضاء كوكب فأشرق "(2) .
ومن مقارنة هذين المثالين يتضح تقاربهما في تأكيد شهرة المتنبي وقدرته وإعجازه لمن يريدون تقليده، ومثل هذا الأحكام يمس السطح مسا دون أن يكون حقيقا بأسم النقد. على ان مقامة ابن شرف تمتاز عن مقامة السرقسطي في أنها تصدت لذكر بعض الأندلسيين بينا أغفلهم السرقسطي تماما. ومن الأندلسيين المذكورين فيها ابن عبد ربه القرطبي وابن هانيء والقسطلي. وهذه الناحية هي التي اهتم بها ابن فتوح في القطعة التي
(1) الذخيرة4/1: 164
(2)
المقامات اللزومية:75
تبقت لدينا مقامته بحيث أعطى أحكاما سريعة في أدباء عصره وبلده فقال: " فقال من أعذبهم لفظا وأرجحهم وزنا؟. الرقيق حاشية الظرف، الأنيق ديباجة اللطيف أبو حفص بن برد قال: فمن أقواهم استعارات وأصحهم تشبيهات؟ قلت البحر العجاج والسراج الوهاج أبو عامر بن شهيد. قال: فمن أذكرهم للأشعار وأنظمهم للأخبار؟ قلت: الحلو الظريف، البارع اللطيف، أبو الوليد ابن زيدون. قال: فمن أكلفهم للبديع، وأشغفهم بالتقسيم والتنبيع؟ قلت: الرائع في روضة الحسب، المستطيل بمرجة الأدب أبو بكر بن إبراهيم الطبني "(1) .
وفي الحق أن جميع هذه المصادر لا تسعفنا بالعثور على أحكام نقدية ذات وزن سوى " الذخيرة " لابن بسام أما كتابا الفتح بن خاقان فقد بنيا على التقريظ والثناء المسجوع على طريقة المقامة النقدية. فإذا سمعنا قوله في أبي القاسم بن الجد: " وله أدب لو تصور شخصا، لكن بالقلوب مختصا، ولو كان له السماك نجدا والمجرة غورا "(2) . لم نفرق بين هذا القول وبين الأحكام الموجزة التي تتضمنها المقامات، وإن أعجبنا بصوره ملكته الأسلوبية. وكذلك هي حال الفتح إذا ذم، فقال في ابن باجة:" رمد جفن الدين، وكمد نفوس المهتدين، اشتهر سخفا وجنونا، وهجر مفروضا ومسنونا "(3) ، فكل هذا حديث عن الشاعر لاعن الشعر؛ غير انا نقدر فيه جنوحه إلى الإنصاف حين يقول في شعر
(1) الذخيرة 1⁄2:287 - 288.
(2)
القلائد: 109
(3)
المصدر نفسه: 300
ابن باجة: " وله؟ مدائح انتظمت بلبات الأوان، ونظمت كل شتيت من الإحسان "(1) .
وأما احكام صغة الكلام لابن عبد الغفور فأنه لاحق بكتب البلاغة لا بكتب النقد في جملته، وفيه يظهر طغيان شخصية أبي العلاء المعري على نثر الأندلس - وهذا ما سأعرض له في موضع آخر - ويتحدث الكتاب عن أحكام الكتاب والخطابة والتوقيعات والحكم المرتجلة والأمثال أي عن القواعد الشكلية في ميدان النثر وفنونه المختلطة من ترسل وتوقيع ومقامة ووثائق وأكثر الأمثلة فيه مشرقة مع قليل من النثر الأندلسي. ويحتاج المصطلح الذي يستعمله ابن عبد الغفور إلى أن يعرض على المصطلح المشرقي ليظهر مدى مباينته له، فهو يقسم السجه مثلا في ثلاثة أقسام: المنقاد والمستجلب والمشكل. وهناك نوع من الكتابة سماه " المغصن " ولعله استوحى هذه التسمية من التوشيح الأندلسي، قال:" وسميانا هذا النوع المغصن لأنه ذو فروع وأغصان، وقلما يستعمله إلا المحدثون من أهل مصرنا، وهو نحو قولي: وقد يكون من النعم والإحسان، ما يصدر من الفم واللسان، ومن النعماء والمعروف ما ييسر بالأسماء والحروف، فقابلت سجعتين، كل سجعة موافقة لصاحبها، وقد يقابل في هذا الفصل ثلاث بثلاث؟. "(2) .
وإذا كان ابن بسام هو الناقد الذي يستأثر باهتمامنا في هذه الفترة فعلينا، لكي نتفهم موقفه، أن نعود فتتمثل الدعوة النقدية التي دعا إليها ابن حزم. ويمكننا أن نقول على وجه الإيجاز إن دعوته كانت ذات شقين الأول: موقف دفاعي عن تراث الأندلس الفكري عامة؟ والأدبي
(1) المصدر نفسه: 301
(2)
احكام صنعة الكلام: 40.
خاصة - والثاني: نظرة أخلاقية في الحكم على فنون الشعر.
ويمثل ابن بسام هذين العنصرين ويزيد عليهما عناصر أخرى تطبيقية. فالفكرة التي قام عليها كتاب " الذخيرة " هي إفهام الأندلسيين ان لديهم موروثا يستحق ان يعتزوا به ويفاخروا سواهم. ولأول مرة نسمع ناقدا أندلسياً يندد بأهل بلده لأنهم ينظرون إلى المشرق نظرة تقليد: " إلا أن أهل هذا الأفق أبوا إلا متابعة أهل الشرق، يرجون إلى أخبارهم المعتادة، رجوع الحديث إلى قتادة، حتى لو نعق بتلك الآفاق غراب، أو طن بأقصى الشام والعراق ذباب، لجثوا على هذا صنما، وتلوا ذلك كتابا محكما. وأخبارهم الباهرة وأشعارهم الثائرة مرمى القصية، ومناخ الرذية، لا يعمر بها خلد، ولا يصرف فيها لسان ولا يد، فغاظني منهم ذلك، وأنفت مما هنالك، وأخذت نفسي بجمع ما وجدت من حسنات دهري، وتتبع محاسن أهل بلدي وعصري، غيره لهذا الأفق الغريب ان تعود بدوره أهله، وتصبح بحاره ثمادا مضمحلة "(1) .
وقد وقع ابن بسام عند التطبيق في خطأين: أولهما انه بعد ان عاب التقليد في أهل بلده عاد في أثناء كتابه يعرض أشعارهم وأساليبهم ومعانيهم في نثرهم على أشعار المشارقة وكتابتهم، ليدل على الأخذ والمحاكاة فكان يثبت لديهم مظاهر التقليد فيما هو يحاول أن يبرز ما لديهم من طارف جديد. والخطأ الثاني كامن في أساس نظرته النفسية إلى الشعر، فهو يجهد نفسه في الاختيار والتقليب بينا هو يرى ان الشعر:" جده تمويه وتخيل، وهزلة تدليه وتضليل، وحقائق العلوم اولى بنا من أباطيل المنثور والمنظوم "(2) .
(1) الذخيرة 1/1: 2.
(2)
المصدر نفسه 1/1: 7.
ويقف ابن بسام في وصف الدعوة الخلقية التي نادى بها ابن حزم؟ سواء أكان تأثره به مباشرا أو غير مباشر - وذلك حين يحاول ان يخلي كتابه من الهجاء: " ولما صنت كتابي هذا عن شين الهجاء، وأكبرته أن يكون ميدانا للسفهاء، أجريت هاهنا طرفا من ملح التعريض ". ثم قسم ابن بسام الهجاء في قسمين: قسم يسمى هجو الاشراف، وهو ما لم يبلغ أن يكون سبابا مقذعا، ولا هجرا مستسشعا، والقسم الثاني هو السباب الذي أحدثه جرير وطبقته، وقد آثر ابن بسام أن يورد أمثلة من النوع الأول (1) ولكن تجنب ابن بسام لإيراد الهجاء في كتابه أمر نظري، إذ أن طبيعة بعض الأشعار والحكايات المتصلة بها لا تمكنه من أن يبر بوعده تماما. ومن الطريف أن التعفف عن الهجاء وجد طريقه إلى الشاعر لا إلى الناقد فحسب، فصدف عنه ابن خفاجة وابن حمديس، ومهما نقل بعجز الشاعر عن مزاولة هذا الفن بد من أن نجد له أساسا دينيا في نفسه، أما لدى ناقد يؤرخ أدب عصره مثل ابن بسام فقد نفترض عاملا آخر في إقصاء الهجاء، وذلك هو حرص الناقد على المواضعات والعلاقات الاجتماعية وهو يؤرخ للأحياء من معاصريه.
غير أننا نجد قوة العامل الديني لدى ابن بسام في موضع آخر وهو مقته لمعاني الإلحاد في الشعر وحملته على بعض الشعراء الذين يتفلسفون في افكارهم، أو يستعملون المصطلح الفلسفي، فعندما أورد قصيدة للسميسر جاء فيها:
يا ليتنا لم نكُ من آدم
…
أورطنا في شبه الأسر
ان كان قد أخرجه ذنبه
…
فما لنا نشرك في الأمر
(1) المصدر نفسه 1⁄2: 61 - 63.
حمل عليه بشدة وقال: والسميسر في هذا الكلام ممن اخذ الغلو بالتقليد، ونادى الحكمة من مكان بعيد، صرح عن ضيق بصيرته، ونشر مطوي سيرته، في غير معنى بديع، ولا لفظ مطبوع، ولعله أراد أن يتبع أبا العلاء، فيما كان ينظمه من سخيف الآراء، وهبة ساواه في قصر باعه وضيق ذراعه. اين هو من حسن إبداعه ولطف اختراعه؟ (1) .
وأورد أبياتاً فلسفية لأبي عامر بن نوار الشتريني يقول فيها:
يا لقومي دفنوني ومضوا
…
وبنوا في الطين فوقي ما بنوا
ليت شعري إذ رأوني ميتا
…
وبكوني أي جزأي بكوا
ما أراهم ندبوا في سوى
…
" فرقة التأليف " إن كانوا دروا فشفعها بهذا التعليق: " وهذا معنى فلسفي، قلما عرج عليه عربي، وإنما فزع إليه المحدثون من الشعراء، حين ضاق عنهم منهج الصواب، وعدموا رونق كلام الاعراب، فاستراحوا إلى هذا الهذيان، استراحة الجبان، إلى تنقص أقرانه، واستجادة سيفه وسنانه. وقد قال بعض أهل النقد: انه عيب في الشعر والنثر أن يأتي الشاعر أو الكاتب بكلمة من كلام الأطباء، أو بألفاظ الفلاسفة القدماء، وأني لأعجب من أبي الطيب على سعة نفسه، وذكاء قبسه، فأنه أطال قرع هذا الباب، والتمرس بهذه الأسباب، وكذلك المعري: كثر به انتزاعه، وطال إليه إيضاعه، حتى قال فيه أعداؤه وأشياعه، وحسبك من شر سماعه، وإلى الله مآله، وعليه سؤاله ". ثم نقل في أثر ذلك أبياتاً لأبي غسان المتطبب وقال:
(1) الذخيرة 1⁄2: 378.
" وهذا كلام من الإلحاد، على غاية الاضمحلال والفساد (1) "
ويلحق بهذه النزعة الدينية سخط ابن بسام على الشعر حين يبتعد به صاحبه عن " الصدق " الواقعي، فقد أورد أبياتاً لأبي بكر الداني يتحدث فيها الشاعر عن تضحية ممدوحه في سبيل الدين:
في نصرة الدين لا أعدمت نصرته
…
تلقى النصارى بما تلقى فتنخدع
تنيلها نعما في طيها نقم
…
سيستضر بها من كان ينتفع أي أن الممدوح يدفع الجزية للروم من اجل نصرة الدين فيخدعهم بها ويطيعهم اياها في شكل نعمة وهي في حقيقتها نقمة عليهم. فيثور ابن بسام لهذا الادعاء الفاجر ويقول: " وهذا مدح غرور، وشاهد زور، وملق معتف سائل، وخديعة طالب نائل، وهيهات! بل حلت الفاقرة بعد بجماعتهم، حين أيقن النصارى بضعف المنن، وقويت أطماعهم بافتتاح المدن، واضطرت في كل جهة نارهم، ورويت من دماء المسلمين أسنتهم وشفارهم "(2) .
لذلك نرى في ابن بسام ناقدا يسلك محجة المحافظة والتمسك بالمقاييس الموضوعة، فهو يأبى أن يدرج الموشحات في كتابه، وينفر من الاستعارات البعيدة لدى شعراء عصره:" كيف لو سمع الصاحب استعارات أهل وقتنا، كقول المهدوي ابن الطلاء: " بقراط حسنك لا يرثي على عللي " وقول حسان بن المصيصي:
إذا كانت جفانك من لجين
…
فلا شك الغنى فيها ثريد
(1) الذخيرة - القسم الثاني (المخطوط) : 295 - 196.
(2)
المصدر نفسه: 102.
وقد قدح أهل النقد في المتنبي بخروجه في الاستعارة إلى حيز البعد كقوله:
مسرة في قلوب الطيب مفرقها
…
وحسرة في قلوب البيض واليلب (1) وهو يحس معنى الشذوذ في الجمع بين التعزية والمدح الكثير للمغزى فيقول: " وليس من عادة أئمة الشعراء المقتدى بها الإكثار من مدح المعزى في تأبين حميمه المتوفى، وإنما يلمون به إلماماً بعد التوفر على ندبة ميته والإشباع في ذكر ما فقد من خصاله، ثم الكر على تستكين جأشه، وحضه على التعزي اتقاء لربه؟ هذه طريقة قدماء الشعراء "(2) .
ويتكئ ابن بسام في اكثر نقده على إظهار اطلاعه في ميدان الشعر، ولذلك تجده يرد المعاني إلى أصولها، ويحسن استكشاف الأخذ والسرقة مهما تكن دقيقة، ولا يزال يعتقد؟ مع ابن شهيد - أن أفضل ضروب الأخذ ما غير فيه الشاعر الآخذ القافية والروي بحيث يخفى معناه (3) . ويستحق الشاعر لديه الثناء الكثير إذا وقع له بيت أحسن توليده؟ أورد بيتا لحسان بن المصيصي ثم قال:" وهذا البيت لحسان من حسنات شعره، وأبين آيات ذكره، فيه توليد، شهد انه شاعر مجيد "(4) . وله على بعض الأبيات تعليقات فذة، فمن ذلك قوله معلقا على بيت لشاعر يصف فيه قصيدته التي قدمها للممدوح:
عليك أبا عبد الإله خلعتها
…
لها البدر طوق والنجوم غلائل
وما هي الا الدهر في طول عمرها
…
وإن لم يكن فيها الضحى والأصائل
(1) الذخيرة 1⁄2: 335 - 336.
(2)
الذخيرة 1⁄2: 318.
(3)
الذخيرة 1/1: 276.
(4)
الذخيرة - القسم الثاني (المخطوط) : 76.
" فيا لهذا البيت ما أحسن مذهبه، وأبدع مثواه ومنقلبه، إلا إنه أتى بالدهر مسلوب الضحى والأصائل، فلم يزد على أن جلاه في زي عاطل، وأبرزه في مسوح شوهاء ثاكل، وليت شعري أي شيء أبقى للدهر المطلوم، بعد صحاه الناصعة الأديم، وآصاله المعتلة النسيم، هل بقي إلا ليله الأسود الجلباب، وهجيره السائل اللعاب! ولو قال لممدوحه: وتلك العلى فيها الضحى والاصائل، لأبرز قصيدته رفافة البرود شفافة العقود (1) ".
وأثنى على قصيدة لأبي الحسن بن اليسع فدل على المقياس العام الذي يحكم به على الشعر إذ قال: " وهذا رداء الديباج الخسرواني، ورونق العصب اليماني، ولمثله فلتنشرح الصدور، ويتشوف السرور، ويذعن المنظوم والمنثور، ألا ترى ما آنق استعاراته وأرشق إشاراته، وأقدره على الإتيان بالتشبيه دون أداته (2) ".
وفي كل خطوة نحس أن ابن بسام يأخذ بأسباب الإنصاف محققا بذلك قوله في المقدمة: " وما قصدت به، علم الله، الطعن على فاضل ولا التعصب على قائل "(3) كما انه يصرف اهتمامه إلى ناحيتين، بشكل خاص، هم: البديع " الذي هو قيم الأشعار وقوامها، وبه يعرف تفاضلها وتباينها "(4) والوقوف عند مظاهر البديهة والارتجال " فهي نحوي في هذا المجموع الذي انتحيت، وطلقي الذي إليه جريت "(5) ، وانا لنشهد إنصافه
(1) المصدر السابق نفسه: 253.
(2)
الذخيرة 1⁄2: 320 - 321.
(3)
الذخيرة 1/1: 5.
(4)
الذخيرة 1/1: 6.
(5)
الذخيرة 4/1: 3.
ودقة حكمه حين أورد أمثلة من بدائه المشارقة وشفعها بمرتجلات للأندلسيين ثم أكد " أن البديه والارتجال في هذه الأشعار الأندلسية لم يلحق بالأشعار المشرقية، ولا فيها كبير طائل "(1) .
ولسنا نستطيع أن نحدد عند غير ابن بسام؟ على قصور في آرائه جملة - " موقفا " نقديا ذا شمول إلا أن ابن خفاجة كان أوضح الشعراء مذهبا قي النقد حين وقف يدافع عن مذهبه الشعري؛ فهو يقرر أن الشعر، وأن جوده صاحبه، منقسم في طرفين ووسط، وأن كلال الشاعر يظهر في الطرف الثاني أي خاتمة القصيدة. ويقول:" والشعر يأتلف من معنى ولفظ وعروض وحرف روي، فقد يتعاصى في بعض الأمكنة جزء من هذه الأجزاء أو أكثر، فطورا ينظم البيت وآونة ينثر "(2) . ويرى ابن خفاجة أن الشعر، جيدا كان أم رديئا، يجد من يطعن عليه، سواء أكان الطاعن منصفا أو متحيفا. ويذكر أن في بلده ناسا ليس لديهم مقياس نقدي سوى مقياس " الجزالة "، وأنهم يستعملون هذا المقياس وحده في كل موضوع مدحا كان أو غزلا أو مجونا، ويدافع ابن خفاجة عن الرقة التي استمدها من محاكاة عبد المحسن الصوري والشريف الرضي ومهيار الديلمي، كما يقر بأنه حاكى أبا الطيب في بعض شعره، إلا أن له أشعاراً أخرى أصيلة ساقها على غير مثال.
ويحاول في بعض المواقف أن يشير إلى المصدر الذي استقى منه هذا المعنى أو ذاك فيقول ان قوله: " ونزلت اعتنق الأراك مسلما " ينظر إلى قول أبي الطيب:
نزلنا عن الاكوار نمشي كرامة
…
لمن بان عنه ان نلم به ركبا
(1) المصدر السابق نفسه.
(2)
ديوان ابن خفاجة: 9.
وينتقد لفظة " من " في بيت المتنبي، ويتعذر عنه بأنه كان يحفل بالمعنى ولا يبالي بالألفاظ، ويخشى ان يظن ظان انه يفضل نفسه على المتنبي فيستدرك قائلا:" وربما حمل علينا حامل فقال ان هذا الرجل يتعاطى رتبة في الشعر فوق رتبة المتنبي، وليس الأمر كذلك، لأنه لم يعترضه في جملة شعره وإنما اعترضه في لفظة، وهذا ليس بمستنكر ولا مستكبر "(1) ويبدو لنا أن ابن خفاجة شديد الإحساس بما يتطلبه نقاد عصره، فهو لا يكاد يأخذ في الرقة حتى يتلافاها:" بأوصاف الجزالة وألفاظ البسالة والجلالة، تلافيا أرسى قواعدها، وقوى معاقدها "(2) .
تلك صورة مجملة لما تيسره المصادر عن حياة النقد الأدبي في هذا العصر الذي نؤرخه، ومنها يتبدى لنا أن النقد الأندلسي لم يستقل بكيان واضح، شأنه في ذلك شأن النقد في العصر السابق، وأن المسؤول عن ضعفه انحياز مؤرخي الأدب إلى جانب المقامة في إظهار براعتهم الأسلوبية، وتأثره بالقواعد الأخلاقية والدينية وثورته على الإلحاد والفلسفة واللفظة " غير الشعرية ". وما يزال هذا النقد يدور حول تعميم الأحكام أو معالجة البيت الواحد بل اللفظة الواحدة، ولكنه؟ على أي حال - اعتمد بعض مصطلحات جديدة ووضح موقفه من المقاييس المعتمدة، فأنكر الاستعارات البعيدة وأعلى من قيمة البديع ومن عمل البديهة، وحاول ان يترسم الموروث. ووقع في صراع مع تعميم مقياس واحد كالجزالة أريد فرضه على كل موضوع شعري.
(1) ديوان ابن خفاجة: 285.
(2)
المصدر نفسه: 296.