المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌دراسة مظاهر التطور الأدبي - تاريخ الأدب الأندلسي (عصر الطوائف والمرابطين)

[إحسان عباس]

الفصل: ‌دراسة مظاهر التطور الأدبي

‌دراسة مظاهر التطور الأدبي

نظرة عامة:

شهد الأدب في هذا العصر تطورا واسعا من نواحيه المختلفة، حتى ليصح القول بأن صور الأدب الأندلسي في عهد الطوائف والمرابطين، قد اكتملت أو كادت، وبلغت مرحلة من التطور لا بد لها بعدها من جنوح أو هبوط أو جمود. فقد اتسع النطاق المكاني لهذا الأدب وتعددت أسماء الأدباء الذين يستوقفون الدارس الأدبي، وبعد أن كانت قرطبة من قبل هي الدائرة الكبرى التي ينجذب إليها الأدباء من شتى النواحي، تكاثرت المراكز الأدبية، وكثر الممدوحون وحماة الأدب ورعاته، وكثرت دواوين الإنشاء، وتعدد الوزراء الكتاب الشعراء، وأصبحت المنافسة أشد وأقوى. على أنا يجب أن نحذر في هذا المقام من الخلط بين النوع والكم في حال الأدب حينئذ، فتلك الزيادة المستفيضة في كميته لم يلازمها اطراد في جودة النوع. وقد نفينا من قبل أن تكون الجودة وليدة التشجيع " الرسمي " وحده، بل لعل التطور الطبيعي للأدب، إنما تم

ص: 107

تحت وطأة الظروف المحلية والمؤثرات الخارجية على نحو لا يحتاج إلا قليلا من التشجيع، فالحركة الطبيعية في لتطور هي رائدنا في تقدير ما بقي لدينا من أدب ذلك العصر، وإبراز معالم الجدة أو التغير هو سبيلنا إلى دراسة ذلك التطور، وهذا يعني أننا قد نقف في الأكثر عند المعالم الجديدة أو الأخرى التي أصابها ضرب من التحول بأكثر من وقوفنا عند العناصر الثابتة التي يعتورها تبدل أو تجدد.

- 1 -

التطور في الشكل

أو

الصراع بين طريقة العرب وطريقة المحدثين

حاولت في كتاب سابق أن أترسم حال المذهب الأدبي العام بين ما سماه الأندلسيون طريقة المحدثين وما سموه طريقة العرب، وبينت كيق أن التنافس اشتد بين المذهبين، وبخاصة بعد أن كثر تلامذة القالي في الأندلس، وكان من ثمرات ذلك التنافس أن شهد هذا العصر الذي أؤرخه هنا اشتداد مذهب العرب في مبنى الشعر وموضوعه. ويقوم مذهب العرب من حيث مبناه على قاعدتين هامتين تتصلان بموسيقاه العامة وهما: الجزالة وشدة التدفق؛ ومن ثم نفهم قول ابن بسام إن أكثر أهل وقته وجمهور

ص: 108

شعراء عصره يذهبون إلى طريقة ابن هانيء وعلى قالبه يضربون (1) فليست تعدو طريقة ابن هانيء؟ من حيث المبني - الركنين المذكورين من جزالة وتدفق. على أنه إن كانت طريقة ابن هانيء مشمولة بجلبة لفظية عامة حتى شبه المعري شعره برحى تطحن قرونا، فليس معنى ذلك أن اجتماع الجزالة والتدفق يفترض دائما ان تكون الموسيقى المدوية جوفاء ليس وراءها طائل كثير. وقد استطاعت طريقة العرب أن تمسح عن اكثر الشعر الأندلسي ما وجدناه؟ من قبل - من خشونة في التركيب ناجمة عن عدم خلوص التعبير من اصطناع التقليد المباشر، كما أنها أكسبت الشعر الجديد خشونة الموضوع البدوي، مما قد لا يتلاءم وطبيعة الاتجاه الحضاري الذي كانت الأندلس آخذة بأسبابه، ولكن الشعر في هذا المجال يمثل جانبا من الثورة على الإغراق في الحضارة، فإذا لم نعد ذلك ثورة صريحة عددنا تكاملا لا بد منه من أجل خلق التعادل بين منحيين متطرفين.

ولنا أن نعزو هذا الاتجاه إلى طبيعة الدراسات التي جنحت إليها مدرسة القالي، وهذا يتجلى بوضوح من مراجعة الكتب التي اهتمت بتدريسها وشرحها وتقريبها للطلبة، وكلها من النوع الذي يقدم نماذج من طريقة العرب أو نماذج تحتذيها. هذا الاعلم الشنتمري شرح الأشعار الستة، وشرح أبو عبيد البكري أمالي القالي نفسها، وتوفر البكري وغيره على شرح الأمثال، واخذ ابن السيد البطليموسي إلى جانب شروحه اللغوية بشرح سقط الزند لأبي العلاء وديوان المتنبي. وقد كانت هذه الشروح تقريرا لطريقة العرب في الشعر.

وكان أن خضع الشعر نفسه لقوة مؤثر خارجي جديد تمثل في ديوان

(1) الذخيرة - القسم الثاني (المخطوط) : 306.

ص: 109

المتنبي وشعر المعري، وهما اللذان ارتدا إلى المعين البدوي ومزجا ما اغترفا منه بالتجربة العميقة والآراء الفلسفية، فكان ما حققاه في هذا المجال تجديدا من داخل المحافظة على الشكل القديم. وكان لهذين الأديبين مكانة سامية في نفوس الأندلسيين في هذا العصر الذي أؤرخه. ومن تصفح الذخيرة لابن بسام استطاع أن يرى مدى اتكاء الشعراء الأندلسيين في توليد المعاني على هذين الشاعرين، فأما معارضة قصائدهما فشيء واضح للعيان. وقد أصبحت معارضة المتنبي محكما للجودة عند الأندلسيين منذ أيام ابن شهيد وظلت كذلك حتى عهود متأخرة، حتى أن ابن شرف طلب في مجلس المأمون ابن ذي النون أن يشير المأمون إلى أي قصيدة شاء من شعر أبي الطيب ليعارضه بقصيدة " تنسي اسمه وتعفي رسمه، فتثاقل ابن ذي النون عن جوابه، علما بضيق جنابه، وإشفاقا من فضيحته وانتشا به " ولكنه بعد إلحاح طلب إليه أن يعارض: " لعينيك ما يلقى الفؤاد وما لقي " - وفيها البيت:

إذا شاء أن يلهو بلحية أحمق

أراه غباري ثم قال له الحق (1) والقصة تروى أيضا بمثل هذا النحو في المشرق، ولا يبعد أن تكون البيئة الأندلسية هي مصدرها فإن مكانة المتنبي في الأندلس لم تكن لتقل عنها في المشرق.

وأشد الشعراء الأندلسيين نسجا على طريقة المتنبي في السياق والبناء مع استقلال غير ضئيل في العناصر الذاتية: أحدهما هو عبد المجيد ابن عبدون الذي عاش في كنف المتوكل صاحب بطليموس، بعد أن حاول الحظوة لدى المعتمد بن عباد، فلم يجد لديه قبولا، فلما انتهى

(1) الذخيرة 4/1: 14.

ص: 110

عهد الطوائف قضى بقية حياته ببلده يابرة (1) .

فمن شعره الذي يذكر بطريقة أبي الطيب:

هيهات لا أبتغي منكم هوى بهوى

حسبي أكون محبا غير محبوب

فما أراح لذكرى غير عالية

ولا ألذ بحب دون تعذيب

ولا أصالح أيامي على دخن

ليس النفاق إلى خلقي بمنسوب

يا دهر أن توسع الأحرار مظلمة

فاستثني إن غيلي غير مقروب

ولا تخل أنني ألقاك منفردا

إن القناعة جيش غير مغلوب ذلك إنه يبنيه على القوة، ويستأنف بعد قطع الكلام بإرسال الحكمة والمثل، إلا أنه قد يخالف المتنبي في فلسفته إذ يقول:" ولا ألذ بحب دون تعذيب "، كما يخالفه ويبتعد عن طريقه في قوله:" إن القناعة جيش غير مغلوب "، ولكن السياق العام في القصيدة فيه احتذاء شديد لأبي الطيب.

ومن نغماته التي يعيد فيها بعض التدفق في أسلوب المتنبي قوله (2) :

فما أبقوا ولا هموا ببقيا

ونقل الطبع ليس بمستطاع

فلو سقت السماء الشري أريا

لما احلولت مراعيه لراع

بدهر ضاعت الأحساب فيه

ضياع الرأي في السر المذاع

فبعتهم بتاتا لا بثنيا

ولا شرط ولا درك ارتجاع

ولم أجعل قرابي غير بيتي

وحسبي ما تقدم من قراع

(1) الذخيرة - القسم الثاني (المخطوط) : 265.

(2)

المصدر نفسه: 282.

ص: 111

والفرق بينه وبين أبي الطيب ليس في النغمة العامة، وإنما في ان فلسفة تقوم على قوة نفسية مستمدة من الزهد في الناس ومن القناعة وليس هذا من مذهب المتنبي.

وإذا كان ابن عبدون يترسم مبنى المتنبي وحده دون فلسفته فان ابن وهبون يترسم الاثنين معا في مثل قوله (1) :

وإني لفي دهر قرائس أسده

سدى عبثت فيها نيوب كلاب

أتخفى على الأيام غر مناقبي

وقد بز شأوي شأو كل نقاب

ويركبني رسم الخمول وقد غدت

خصال العلا والمجد طوع ركابي

سأرقى بهماتي قصارى مراتبي

وإن كان أدناها يطيل طلابي

لتعلم أطراف الأسنة أنني

كفيل لها عند الصدا بشراب

وتشهد أطراف اليراعات أنني

بهن مصيب فصل كل خطاب

وليس نديمي غير أبيض صارم

وليس سميري غير شخص كتابي

مضمخة لا بالمخلوق أناملي

مزعفرة بابعير حرابي

ولكن بنفح بخجل الروض زاهرا

ولكن بدعس في كلى ورقاب

ومن لم يخضب رمحه في عداته

تساوت به في الحي ذات خضاب

ومن لم يحل السيف من بهم العدا

تحلى بخزي في الحياة وعاب

إذا ورق الفولاذ هز تساقطت

ثمار حتوف أو ثمار رقاب

ومن يتخذ غير الحسام مخالبا

فما هو إلا وارد بسراب

ومن غره من ذا الأنام تبسم

فبالعقل قد أضحى أحق مصاب

(1) المصدر نفسه: 203.

ص: 112

ولا ريب في أن عبد الجليل أقل عنفا من المتنبي، ولكن حديثه عن أطراف الأسنة وعن صديقيه الحسام والكتاب وعن المخدوعين بالتبسم إنما هو ترديد لمعاني أبي الطيب، أو إن شئت فقل إنه يرى انعكاس صورة أبي الطيب في مرآة أبي فراس الحمداني.

وأما أثر العلاء فواضح كل الوضوح في الاتجاه الفلسفي العام؟ الذي سأتحدث عنه في موضعه - ولكن الأندلسيين أنفسهم يشهدون بمدى إقبالهم على شعره ونثره ومعارضتهما. ولنقف مرة أخرى عند محمد ابن عبد الغفور الكلاعي الذي أورد في كتابه " أحكام صفة الكلام " ثبثا بأسماء ما كان يتداوله الأندلسيون من كتب أبي العلاء. فيحدثنا ابن عبد الغفور كيف اجتمع وصديقا له في بعض المجالس، وأخذا في ضروب الفصاحة فاتهمه صاحبه بأنه لا يعرف كيف يكتب في السلطانيات، فحمله ذلك علي تأليف كتاب على مثال " السجع السلطاني " لأبي العلاء. وكيف تذاكر هو وصاحبه ما لأبي العلاء من تواليف بديعة فقال صاحبه أن ابا العلاء لا يجارى ولا يبارى ولا يعارض في واحد منها، فأحب ابن عبد الغفور ان يثبت تفوقه فكتب رسالة " الساجعة والغربيب " معارضة لرسالة " الصاهل والشاحج " لأبي العلاء، ثم عارضه بتأليف سماه " ثمرة الألباب " مضاهيا بذلك " سقط الزند "، وعرضه في خطبة كتاب الفصيح وهذا جهد معجب واحد من المعجبين بأبي العلاء وهناك آخرون غيره منهم ابن الخصال الذي عارضه في ملتقى السبيل، والسرقسطي الذي تأثر خطاه في المقامات فبناها على لزوم ما لا يلزم، وتأثره ابن خفاجة من حيث الشكل حين استعمل اللزوم في شعره. وليس من السهل ان نمثل على تأثر الأندلسيين بالمبنى الشعري عند ابي العلاء فأن سقط الزند الذي استأثر باهتمامهم فيه الشيء من اثر المتنبي نفسه.

ص: 113

ولكن ليس من العسير أن نمثل على الجو البدوي العام الذي اخذ يتنفس فيه الشعر الأندلسي في ذلك العهد، ذلك لأنا نجد أمثلته حاضرة عند كثيرين من الشعراء، وبخاصة في مقدمات المدائح، فمن ذلك قول ابن حصن أحد شعراء المعتضد (1) :

ما هاج برج الهوى إلا مطوقة

كأنها من نحول شفها جيم

أيا حمامة ذا الوادي أثرت جوى

تنقض منقدة منه الحيازيم

إن لا يكن واديا حلت ركابهم

به فما وإلا فما واديك مأموم

نغشى بهن بنات الوخد سابحة

تهوي وقد هم بالمسار تهويم يقيم سرى الليل تأويب النهار وللهجير من لهب الرمضاء تضريم

والآل عند هيام القيظ مضطرب كأنه في بساط القاع محموم

يزاحم الليل والخرقاء موضعه

والقفز مثل طراد السيف ديموم

مرقته وثرياه تلوح كما

لاحت بأنمل زنجي حواتيم ومن شعر يحيى بن بقي وهو يصف رحلته إلى الممدوح على ناقة ينقل لنا جوا صحراويا في نغمة جزلة بدوية (2) :

أوضعت بي إليه وجناء حرف

أكلتها السفار أكل القضيم

تترك الريح خلفها وهي حيرى

بين إيضاعها وبين الرسيم

ظلت أطوي القفار منها بلام

طبعتها بالميم بغد الميم

فأتته والمرو قد نال منها

فهي تخطو على وظيف رثيم

(1) الذخيرة - القسم الثاني (المخطوط) : 76.

(2)

المصدر نفسه: 252.

ص: 114

وقليلا تمتعت في الفيافي

بسنام كالعارض المركوم

فأنخنا إلى فناء جواد

ماله نهبة لكل عديم ومن شعر عبد الرحمن بن مقانا الأشبوني قصيدة افتتحها بوصف الأطلال والأماكن المشرقية (1) :

لمن طلل دارس باللوى

كحاشية البرد أو كالردا

رماد ونؤي ككحل العروس

ورسم كجسم براه الهوى

غدا موسما لوفود البلى

وراح مراحا لسرب المها

عجبت لطيف خيال سرى

من السدر أنى إلي اهتدى

وكيف تجاوز جوز الحجاز

وجوز الخميس وسدر المنى

ولم يثنه حر نار الضلوع

وبحر الدموع وريح النوى

نذكر ايامنا بالعقيق

وليلتنا بهضاب الحمى ولابن البين قصيدة يذكر فيها شيئا من هذا الجو البدوي الحافل بالغزلان ورحلة الجمال (2) :

أفي كلل الأضعان غزلان رملة

أم احتملت فيها جاذر وجرة

ولما تولت بالجمال جمالهم

تولى جميل الصبر يوم تولت

بوادي الكرى لاقيتها وهي عاطل

فأرسلت در العين لما تجلت

إذا نسمت ريح الصبا في جنابها

ستنكر في سلسالها طعم عبرتي وإذا مضينا في اختيار الأمثلة كثرت وطالت، فحسبنا هذا القدر.

(1) المصدر نفسه: 301.

(2)

المصدر نفسه: 317.

ص: 115

وفي بعض تلك القصائد ما يذكرنا بذلك الاتجاه الذي انتحاه الشريف الرضي في قصائد " الحجازيات " تلك القصائد المبنية على نوع من الحنين المبهم مع الإشارة إلى الأماكن البدوية. وقد اقر ابن خفاجة انه نسج بعض قصائده على منوال قصائد الشريف ومهيار، فمما قاله ناظرا إلى الأول (1) :

ألا ليت أنفاس الرياح الرواسم

يحيين عني واضحات المباسم

ويلثمن ما بين الكثيب إلى الحمى

مواطئ أخفاف المطي الرواسم

ويرمين أكناف العقيق بنظرة

تردد في تلك الربى والمعالم

فما أنسه يوما بذي النقا

أطلنا به للوجد عض الأباهم ومن قوله ناظرا إلى شعر الثاني:

ويا بانة الوادي بمنعرج اللوى

أتصغي على شطح النوى فأقول

ويا نفحات الريح من بطن لعلع

ألا جاد من ذاك النسيم بخيل

ويا خيم نجد دون نجد تهامة

ونجد ووخد للسرى وذميل ويقول ابن خفاجة في التعليق على ذكره لأسماء هذه الأماكن: " وأما اسماء تلك البقاع، وما انقسمت إليه من انقسمت إليه من صفة نجد أو قاع، فإنما جاء بها على أنها خيالات تنصب ومثالات تضرب، تدل على ما يجري مجراها، من غير ان يصرح بذكرها "(2) ، يعني بذلك انه اتخذها رمزا لا حقيقة للإيماء إلى منازل يهواها وأشخاص يوليهم ثقته وحبه

(1) ديوان ابن خفاجة: 14.

(2)

ديوان ابن خفاجة: 204

ص: 116

ولم يكن وحده مجالا لهذا الطبع البدوي، بل كان النثر كذلك ميدانا لصورة، وابرز حشد الأمثال في الرسائل على نحو من الإغراق. وما رسالة ابن زيدون الهزلية إلا مثل واحد من عدة أمثلة، كلها يعتمد على إيراد الأمثال الكثيرة.

وإذا كان هذا هو الأثر الذي أصاب المبنى، فأن الأثر البدوي - أو طريقة العرب - لم تقف عند ذلك بل تجاوزته إلى الموضوع، وخاصة موضوع الرثاء، وسنرى حين ندرس معالم التطور في الموضوع مدى ذلك كله. وليس معنى هذا أن طريقة العرب قد طمست ما عداها في الاتجاه الشعري - مبنى وموضوعا - فقد بقيت طريقة المحدثين وعمادها التجديد في الاستعارة - أو الاهتمام بالصورة - واضحة في الشعر، وبخاصة شعر الوصف. وقد حاول ابن خفاجة ان يجمع في القصيدة الوصفية بين التدفق والجزالة من ناحية والصور المحدثة من ناحية أخرى فخرج بضرب من الشعر في الطبيعة، مثقل متزاحم بين الموسيقى القوية والصورة البعيدة. ٍ

- 2 -

التطور في الموضوع

1 -

الرثاء:

هو أوضح موضوع تجلد فيه أثار " طريقة العرب "، وتلك ظاهرة لمحها ابن بسام ووضح رأيه فيها، فقال معلقا على قصيدة لأبي محمد بن عبدون: " وهذه القصيدة طويلة، سلك فيها أبو محمد طريقته في الرثاء

ص: 117

إلى الإشارة والإيماء بمن أباده الحدثان من ملوك الزمان، وقد نسق ذكرهم على توالي أزمانهم؟ واقتفى أبو محمد أثر فحول القدماء من ضربهم الأمثال في التأبين والرثاء بالملوك الأعزة وبالوصول الممتنعة في قلل الجبال والأسود الخادرة في الغياض وبالنسور والعقبان والحيات في طول الأعمار وغير ذلك مما هو في أشعارهم موجود، فأما المحدثون فهم إلى غير ذلك أميل، وربما جروا أيضا على السنن الأولى " (1) . والحق أيضا أن هذه الطريقة قد جرى عليها المعري في نثره وشعره حين كان يرثي أو يعزي، وما رسالته إلى أبي علي بن أبي الرجال يعزيه في ولده أبي الأزهر إلا من هذا النسق؛ ومن أمثلة هذه الطريقة في شعر ابن عبدون:

سلني عن الدهر تسأل غير إمعة

فألق سمعك واستجمع لأيرادي

نعم هو الدهر ما أبقت غوائله

على جديس ةلا طسم ولا عاد

ألقت عصاها بنادي مأرب ورمت

بآل مامة من بيضاء سنداد

وأسلمت للمنايا آل مسلمة

وعبدت للرزايا آل عباد ومن هذا الضرب قصيدته المشهورة المعروفة بالبسامة وهي التي قالها في رثاء بني الأفطس وسرد فيها مصارع المشهورين من الماضين فقال (2) :

هوت بدار أوفلت طائله

وكان عضبا على الأملاك ذا أثر

واسترجعت من بني ساسان ما وهبت

ولم تدع لبني يونان من أثر

واتبعت أختها طمسا وعاد على

عاد وجرهم منها ناقص المدر

وما أقالت ذوي الهيئات من يمن

ولا أجارت ذوي الغايات من مضر

(1) الذخيرة 1⁄2: 315.

(2)

الذخيرة - القسم الثاني (المخطوط) : 286.

ص: 118

وقد جاراه أيضا في هذا الاتجاه الشاعر الكفيف أبو جعفر التطيلي، فقال من قصيدة (1) :

وأعلن صرف الدهر لابني نويرة

بيوم تناء غال كل تداني

وكانا كندماني جذيمة حقبة

من الدهر لو لم تنصرم لأوان

فهان دم بين الدكادك واللوى

وما كان في أمثالها بمهان

ومال على عبس وذبيان ميله

فأودى بمجني عليه وجان

فعوجا على جفر الهباءة واعجبا

لضيعة أعلاق هناك ثماني وفي أمثال هذا الشعر نحس دائما صوت الرجل " الحكيم " الذي يتمثل العبرة المجسمة في حقيقة الموت ويربط في ذلك بين الماضي والحاضر وربما لم يكن في هذا الاتجاه الشعري شيء من تصوير التأثر الذاتي للحادثة المباشرة وإنما فيه أسى عميق على العظماء من بني الإنسان، فهو بكاء على " العظمة " من خلال تصوير عظمة الموت، رجاء التأسي. ويقترب من هذا الاتجاه نحو آخر تأملي قائم على التفلسف مستوحى أيضاً من أبي العلاء في مثل قصيدته " غير مجد في ملتي واعتقادي " وسنقف عنده أثناء دراسة الاتجاه الفلسفي في هذا العصر.

وليس هذا هو اللون الوحيد من الرثاء بل لعله إلا يكون اللون الغالب، ولكنه ظاهرة موجودة تستدعي الالتفات، وهناك إلى جانب الاتجاه الذي يذهب إلى التهويل في الندب والتفجع؟ دون استحضار العبرة، اتجاه آخر يمثل ما يمكن أن نسميه البكاء على زوال " الرقة

(1) ديوانه، الورقة: 101 - 104 والذخيرة، المصدر السابق: 287 وقلائد العقيان: 274.

ص: 119

والجمال " أن كان النوع الأول يمثل البكاء على " العظمة ".

وغالبا ما يتصل هذا اللون ببكاء " الزوجة " وهو بكاء يمتد من فقد الزوجة بالطلاق إلى فقدانها بالموت، وهو لون ذاتي خالص، يعتمد على ميل أصيل في نفس الشاعر إلى البوح، كأنه ترجمة ذاتية قصيرة، فها هنا يطلق الشاعر الأندلسي للعاطفة - التي قد يتحرج كثير من الناس عن التلويح بها - العنان، فيتحدث عن الجمال وحلاوة العشرة، وعن سهره وحزنه، ويمثل في رثائه وبكائه دور المحب المشغوف، وإذا قدرنا هذا السبب الذاتي في صمبم التركيب النفسي لصاحبه، لم نعدم أن نجد هنا لموقف الشاعر الأندلسي تفسيرات اجتماعية، أثارت هذا اللون من الرثاء على نطاق غير قليل، ومن تلك التفسيرات شعور الأندلسي بقيمة المرأة وتقديره لدورها، وقد مر بنا من قبل كيف ان هذا الشعور قد قوي في أيام المرابطين بسبب من نظامهم الاجتماعي، وأسباب ذلك أيضا ذلك التزلزل الذي أصاب شعور الأندلسي المرهف، وجعله يحس في الفقد لا معنى الفقد المباشر نفسه، بل حاجته إلى سكن يأوي إليه، وتمثل المرأة في حياته هذا السكن على نحو عميق، لأنها كانت؟ في الغالب - تشاركه صعوبات الحياة. ومهما تكن أسباب هذه النزعة العميقة الواضحة فأنها ليست قاصرة على وضع حضاري خاص، وفي شعراء البدو من كرس حياته يبكي زوجته ويتحسر لفقدها (1) ، بل هي نزعة مقرونة بأسبابها الفردية والجماعية في كل بيئة على حدة.

ومن نماذج هذا الشعر في حال الفراق بالطلاق قصيدة لابن هند الداني

(1) يحضرني في هذا المقام شعر نمر العدوان أحد شعراء البادية المحدثين، وكل ما حفظته الأيام من قصائده إنما كان في البكاء على زوجته " وضحا ".

ص: 120

يقول فيها (1) :

أبديت سري مذ كتمت سراك

وعصيت صبري مذ أطعت هواك

ونشرت أسلاك الدموع معرضا

أني بحيث سلكت لا أسلاك

أرخيمة الألفاظ، غير رحيمة

ألدل دلك أم نهاك نهاك

لا در در صباك لاستحلاله

ما لا يحل ودر در صباك

هبت ضحى فهببت نحو نسيمها

حتى عرفت بعرفها مثواك

لما أسروا البين أسروا والدجى

متلفع الأرجاء بالأفلاك

فطفقت أنشدهم وأنشد بعدهم

" يا دار جادك وابل وسقاك " ويبلغ به وجد المحب حدا بعيدا حين يقول:

هلا بعثت ولو بفرع بشامة

عند الترحل أو بعود أراك

وقرأت حين قريت ربعك أدمعي

معنى الجوى والشوق في مغناك والقصيدة نتاج مشكلة اجتماعية، فالشاعر يحب هذه المرأة، ولكن يبدو أنه وقع ضحية يمين، أكد الشهود صدورها عنه، ووافق ذلك هوى في نفس أهلها، فأخذوها منه. والقصة على هذا النحو لا تدل على ان المرأة كانت؟ دائما - ذات رأي في مصير نفسها أو حق في اختيار ما تريد.

أما رثاء المرأة التي يسلبها الموت فلعل صورته الكبرى تتجلى في ديوان كامل من الشعر والموشح نظمه ابن جبير في رثاء زوجه أم المجد، وهذا الشاعر يقع في عصر تال للعصر الذي ندرسه وإنما نذكره ليكون

(1) الذخيرة - القسم الثالث (المخطوط) : 281 - 282.

ص: 121

شاهدا واضحا على هذه الظاهرة في الأندلس. أما في عصر الطوائف والمرابطين فنلتقي ثلاثة شعراء وقفوا هذا الموقف الحزين، وأولهم أبو إسحاق الالبيري الشاعر الزاهد في قصيدة له راثية (1) :

عج بالمطي على اليباب الغامر

وأربع على قبر تضمن ناظري

فستستبين مكانه بضجيعه

وينم منه عرف العاطر

فلكم تضمن من تقي وتعفف

وكريم أعراض وعرق طاهر

واقر السلام عليه من ذي لوعة

صدعته صدعا ما له من جابر

فعساه يسمح لي بوصل في الكرى

متعاهدا لي بالخيال الزائر

فأعلل القلب العليل بطيفه

علي أوفيه ولست بغادر

إني لأستحييه وهو مغيب

في لحده فكأنه كالحاضر

أرعى أذمته وأحفظ عهده

عندي فما يجري سواه بخاطري

إن كان يدثر جسمه في رمسه

فهواي فيه الدهر ليس بداثر

قطع الزمان معي بأكرم عشرة

لهفي عليه من أبر معاشر

ما كان إلا ندرة لا أرتجي

عوضا بها فرثيته بنوادر

ولو أنني أنصفته في وده

لفضيت يوم قضي ولم أستأخر

وشققت في خلب الفؤاد ضريحه

وسقيته ابدا بماء محاجري

أجد الحلاوة في الفؤاد بكونه

فيه وأرعاه بعين ضمائري وصدور هذه القصيدة عن قلب رجل زاهد يمنحها لونا خاصا، فإن كون الوفاء فيه أمرا طبيعيا لا ينقصها حظها من هذا البوح الودي الذي يلحق بمعارج العشق والتوله. وليس يخل فنيا بقصيدة الالبيري إلا استطراده فيها لذكر الحور العين وضروة العبادة لمن كان مثله كي ينالهن، وحديثه

(1) ديوان الالبيري: 132.

ص: 122

" حديثا جنسيا " عن طبيعة الرضى الذي يجده إذا هو قرأ القرآن، ثم انحاؤه على نفسه باللائمة، وانثناؤه إلى مجال الأخلاق وكراهية الثرثارين.

وقد بكى ابن حمديس الصقلي أم ولد له تسمى جوهرة، غرقت في البحر، فتغزل كثيرا بجمالها (1) :

أيا رشاقة غصن البان ما هصرك

ويا تألف نظم الشمل من نثرك

ويا شؤوني وشأني كله عجب

فضي يواقيت دمعي واحبسي دررك

ما خلت قلبي وتبريحي يقلبه

إلا جناح قطاة في اعتقال شرك

لا صبر عنك وكيف الصبر عنك وقد

طواك عن عيني الموج الذي نشرك

هلا وروضة ذاك الحسن ناضرة

لا تلحظ العين فيها ذابلا زهرك ويقول الشاعر مخاطبا البحر:

هلا نظرت إلى تفتير مقلتها

إني لأعجب منه كيف ما سحرك ولم يكن ابن حمديس على " جوهرة " حزنا عارضا، بل عاد إليه غير مرة، مما قد يدل على عمق أثر ذلك الفقد في نفسه.

وأشد الثلاثة حزنا وتفجعا هو الأعمى التطيلي وأول قصيدته (2) :

ونبئت ذاك الوجه غيره البلى

على قرب عهد بالطلاقة والبشر ويمتاز في هذه القصيدة إلى جانب الصدق الواري في عاطغته بأنه شديد التمثل بما يريد أن يقوله، بارع في استقصاء كثير من معاني الحزن الخفية:

(1) ديوان ابن حمديس: 212.

(2)

ديوان ابن حمديس: 212.

ص: 123

أمخبرتي كيف استقرت بك النوى

على أن عندي ما يزيد على الخبر

وما فعلت تلك المحاسن في الثرى

فقد ساء ظني بين أدري ولا أدري

يهون وجدي أن وجهك زهرة

وأن ثراها من دمعي على ذكر

ويحزنني أني شغلت ولم أكن

أسأل عما يفعل الدمع بالزهر

دعيني أعلل فيك نفسي بالمنى

فقد خفت ألا نلتقي آخر الدهر

وإن تستطيبي فابدئيني بزورة

فأنك أولى بالزيارة والبر

منى أتمناها ولا يد لي بها

سوى خطرات لا تريش ولا تبرى

وأحلام مذعور الكرى كلما اجتلى

سرورا رآه وهو في صورة الذعر وما نزال نجد في هذه القصيدة كما وجدنا في القصائد المشابهة تنويها خاصا بذكر جمال المرثية حيث يقول:

وهل لعبت تلك المعاطف بالنهى

كسالف عهدي في مجاسدها الحمر

ونبئت ذاك الجيد أصبح عاطلا

خذي أدمعي إن كنت غضبى على الدر

خذي فانظميها أو كليني بنظمها

حليا على تلك الترائب والنحر

ولا تخبري كور الجنان فربما

غصبنكه بين الخديعة والمكر وتتراوح القصيدة بين المبالغة والحديث العاطفي المباشر، ولكن الجانب العاطفي أقوى وأوضح من الجانب المتكلف. وللأعمى التطيلي قصائد في رثاء نساء ذوات سلطان ونقوذ من نساء المرابطين إلا أنها لا يمكن أن تكون كهذه القصيدة التي استوحاها؟ أو استوحى اكثرها - من موقف عاطفي ذاتي.

ص: 124

2 -

الاتجاه الفلسفي

مر الاتجاه الفلسفي حتى هذا العصر في ثلاث مراحل: مرحلة إنكاره ومقاومته ووقوف الشعر ضده؟ كما صورت ذلك في كتاب سابق - ومرحلة التملح بالآراء الفلسفية، بالإيماء إليها في الشعر أو نظمها شعرا، وذلك ما يمثله ابن حزم في مثل قوله (1) :

إذا ما وجدنا الشيء علة نفسه

فذاك وجود ليس يفنى على الأبد ومثل قوله (2) :

ترى كل ضد به قائما

فكيف تحد اختلاف المعاني

فيا أيها الجسم لا ذا جهات

ويا عرضا ثابتا غير فان

نقضت علينا وجوه الكلام

فما هو مذ لحت بالمستبان ولكن ابن حزم لم يستطع أن يصهر النظرات الفلسفية في شعره بحيث تصبح صدى للتشرب العميق لها، بل ظلت تبدو مستمدة من ثقافته الجدلية.

ثم تجيء الثالثة، وهي مرحلة تم فيها إخضاع الشعر للفكرة الفلسفية، ولا ريب في أن ذلك ناجم عن عاملين: الحرية النسبية في التعبير عن الاتجاه الفكري أولاً ثم تأثير شعر أبي العلاء المعري ثانيا. وقد عاش الاتجاهان الثاني والثالث في هذا العصر الذي ندرسه، فكان ابن

(1) الطوق: 7.

(2)

الطوق: 10.

ص: 125

السيد البطليموسي يصوغ بعض الأفكار الفلسفية شعرا، فيقول مثلا (1) :

تتيه وقد أيقنت أنك ممكن

فكيف لو استيقنت أنك واجب

وهل لك من عدن إذا مت أو لظى

محيص يرجى أو عن الله حاجب ويقول أيضا في علم الله للجزيئات:

يا واصفا ربه بجهل

لم يقدر الله حق قدره

كيف يفوت الإله علم

بسر مخلوقه وجهره

وهو محيط بكل شيء

وكله كائن بأمره ومن هذا الباب أيضا تلك المقدمات التي أدرجها أبو طالب عبد الجبار الملقب بالمتنبي في ارجوزته، وضمنها أدلة المعرفة والاستدلال على الصانع تعالى من الصنعة (2) :

والجسم ليس فاعلا في الجسم

قال بهذا القول أهل العلم

وليس أولى برسم العقل

من ذاك لما استويا في المثل

أف لقول الفئة البصرية

أهل الهوى والقرقة الغوية

دانوا معا بقدم الحوادث

سوف يجازون بخزي كارث وفيها يقول:

وكل شيء جوهر أو عرض

إلا الذي الطوع له مفترض

(1) الحدائق: 31.

(2)

الذخيرة 1⁄2: 407.

ص: 126

وتذكرنا هذه الأرجوزة بمنهج ابن حزم في إيراد المقدمات الأولى في علم المنطق كما صوره كتاب " التقريب "، كذلك تذكرنا بقصيدة لابن حزم مطلعها (1) :

لك الحمد يا رب والقول ثم

ويختلط هذا الاتجاه بالمذهب التعليمي من جهة والمذهب الزهدي من جهة أخرى ويتوشح ببعض الآراء الكلامية.

أما التيار القائم على التفلسف فقد وجد أيضا أنصاره وبخاصة في مجال الرثاء، وشيخ هذا الاتجاه في ذلك الفن هو عبد الجليل بن وهبون المرسي أحد شعراء الدولة العبادية، وقد انقطع إلى الأستاذ أبي الحجاج الأعلم، مؤدب ولد المعتمد، وقربه المعتمد فاختص هو به ولم يرحل إلى ملك سواه، إلا انه كان يعود كل عام لزيارة أهله في مرسية، فلما خلع صاحبه حاول الخلاص من اشبيلية، وقبل أن يصل مرسية قابلته قطعة من خيل النصارى فلقي منيته حينئذ (حوالي 484) . وقد توفي الأعلم الشنتمري يوم كان عبد الجليل ما يزال في كنف المعتمد فرثاه بقصيدة ملأها بالتفلسف حول مشكلة الحياة والموت وهو يجمع فيها اثر المتنبي والمعري معا (2) :

نفسي وجسمي إن وصفتهما معا

آل يذوب وصخرة خلقاء

لو تعلم الأجيال كيف مآلها

علمي لما امتسكت لها أرجاء

انا لنعلم ما يراد بنا فلم

تعيا القلوب وتغلب الأهواء

طيف المنايا في أساليب المنى

وعلى طريق الصحة الأدواء

(1) انظر الملحق: 3 من كتابي " تاريخ الأدب الأندلسي - عصر سيادة قرطبة ".

(2)

الذخيرة - القسم الثاني (المخطوط) : 194.

ص: 127

يتعاقب الأضداد مما قد ترى

جلبت عليك الحكمة الشنعاء

أيغرني أن يستطيل بي المدى

وأبي بحيث تواضت الغبراء

لم ينكر الإنسان ما هو ثابت

في طبعه لو صحت الآراء

ونظير موت المرء بعد حياته

أن تستوي من جسمه الأعضاء

دنف يبكي للصحيح وإنما

أمواتنا؟ لو نشعر - الأحياء

وسواء أن تجلى اللحاظ من القذى

أو تنتضى من شخصها الحوباء

ما النفس إلا شعلة سقطت إلى

حيث استقل بها الثرى والماء

حتى إذا خلصت تعود كما بدت

ومن الخلاص مشقة وعناء

كذبت حياة المرء عند وجودها

وجد الحمام ومنه كان الداء وبعد هذه المقدمة يخرج عبد الجليل إلى رثاء شيخه الأعلم، ومن الواضح مبلغ الصلة بين هذه القصيدة وقصيدة المعري التي أشرت إليها آنفا، إلا أن عبد الجليل أكثر اتكاء على النظريات الفلسفية حين تحدث عن أن النفس شعلة (عنصر) يحملها عنصران آخران هما الماء والتراب، وحين ذهب إلى أن حقيقة الموت مائلة في الحياة، وأن الأموات حقا هم الأحياء. والقصيدة بعد ذلك مضطربة الإشارات، وإظهار " التفلسف " فيها أمر مقصود لذاته، ولكنها تمثل محاولة جديدة في الشعر الأندلسي.

ومما يجري في مضمارها، ويرتكز على التفلسف في حال النفس والجسد قول أبي عامر الشنتريني (1) :

يا لقومي دفنوني ومضوا

وبنوا في الطين فوقي ما بنوا

ليت شعري إذ رأوني ميتا

وبكوني أي جزأي بكوا

(1) الذخيرة - القسم الثاني (المخطوط) : 194.

ص: 128

أنعموا جسمي فقد صار إلى

" مركز التعيين " أم نفسي نعوا

كيف ينعمون نفوسا لم نزل

قائمات بحضيض وبجو

ما أراهم ندبوا في سوى

" فرقة " التأليف إن كانوا دروا وهذه القطعة ادنى في المستوى الشعري من قصيدة عبد الجليل، إلا أنها أدق أخذاً بالمشكلة الفلسفية والمصطلح الفلسفي. على أن هذا الاتجاه لم يعجب ناقدا مثل ابن بسام فوصفه بالهذيان؟ حسبما تقدم القول -. ووقف ابن بسام نفسه من بعض أشعار السميسر التي ذهب فيها إلى التشكك الفلسفي. وقد كان السميسر صاحب مقطعات، وهو يعد في شعراء الهجاء، وتشبه مقطعاته ان تكون نوعا مما يسمى في اللاتينية " الابجرام " epigram اللاذع المستدير، سواء أقصد بها قصد الهجاء العام أو التعبير عن نظرة فلسفية فمن ذلك قوله:

لا تغرنك الحياة

فموجودها عدم

ليس في البرق متعة

لامرئ يخبط الظلم وهو في هذا اللون من التفلسف يلحق بالاتجاه الزهدي العتاهي ولكنه لا يعدم في أثناء ذلك مسحة فلسفية شكية في مثل قوله، يعني ما بعد الموت:

هذا على مذهبنا ثم قد

قيلت مقالات ولا أدري

لقد نشبنا في الحياة التي

نوردنا في ظلمة القبر

يا ليتنا لم نك من آدم

أورطنا في شبه الأسر

إن كان قد أخرجه ذنبه

فما لنا نشرك في الأمر

ص: 129

3 -

الاتجاه الزهدي:

عرف الأندلسي الاتجاه الزهدي في العصر السابق على يد ابن أبي زمنين، وكان حينئذ يلتبس كثيرا بالشعر التعليمي أو يصدر عن دواعي الشيخوخة وما تحدثه من خوف الموت وما بعده. أما في هذا العصر فكانت بواعثه مختلفة بعض الاختلاف، فقد شحذته فوضى الحياة السياسية، وزادت في حب الخلاص لدى الفرد من غوائل الحياة، وشجعته على طلب النجاة لنفسه حين كان يرى الأوضاع الاجتماعية تزداد سوءا، واصبح الزهد لدى بعض أصحابه مذهبا أدبيا أخلاقيا معا، كما كان عند أبي العتاهية في المشرق، وانتحاه بعضهم لشعره بالنقمة على حظه من الدنيا وثورته على الناس من حوله. ويعد السميسر، الذي ورد ذكره آنفا، من هذا الصنف الأخير، فقد كان منحرفا في ميوله هجاء للناس؛ وهو إلى ذلك " صاحب مزدوج كأنه حذا فيه حذو منصور الفقيه "(1) ولم يكن امرءا عاملا بمبادئه الزهدية، ومن أمثلة شعره في هذا الاتجاه قوله (2) :

جملة الدنيا ذهاب

مثلما قالوا سراب

والذي فيها مشيد

فخراب ويباب

وأرى الدهر بخيلا

أبدا فيه اضطراب

سالب ما هو معط

فالذي يعطي عذاب

(1) الذخيرة 1⁄2: 372.

(2)

المصدر نفسه: 377.

ص: 130

وليوم الحشر أنعام سؤال وجواب

وصراط مستقيم

يوم لا يطوى كتاب

فاتق الله وجنب

كل ما فيه حساب وهو يدعو إلى القناعة والرضى بالكفاف في قوله:

دع عنك جاها ومالا

لا عيش إلا الكفاف

قوت حلال وأمن

من الردى وعفاف

وكل ما هو فضل

فإنه إسراف ولكن هذه النزعة لديه متصلة بسوء ظنه في الناس وعدم الاطمئنان اليهم، ولذلك فهو يرى منافرتهم والابتعاد عنهم، وقد صرح عن هذا الفهم في قوله:

تحفظ من ثيابك ثم صنها

وإلا سوف تلبسها حدادا

وميز عن زمانك كل حين

ونافر أهله تسد العبادا

وظن بسائر الأجناس خيراً

وأما جنس آدم فالبعادا وقد كانت الفلسفة؟ لا التقوى - أحيانا مصدر هذا الزهد، ونحن نعلم ذلك من حال الشاعر ابن الحداد الذي اختص بمدح بني صمادح واستوطن المرية اكثر عمره، وكان شغوفا بالثقافة الفلسفية، ولما اخرج عن المرية ونفض يده من ممدوحيه بني صمادح قال (1) :

لزمت قناعتي وقعدت عنهم

فلست أرى الوزير ولا الأميرا

وكنت سمير أشعاري سفاها

فعدت لفلسفياتي سميرا

(1) الذخيرة 1⁄2: 201

ص: 131

وهو صاحب قصيدة سماها " حديقة الحقيقة " ويبدو انه عرض فيها لفلسفته الزهدية، وقد اورد ابن الابار منها هذه الأبيات الثلاثة وفيها المطلع (1) :

ذهب الناس فانفرادي لأنيسي

وكتابي محدثي وجليسي

صاحب قد أمنت منه ملالا

واختلالا وكل خلق بئيس

ليس في بحي ولكن

يلتقي الحي منه بالمرموس وصنف آخر من شعر الزهد يصدر عن علماء أتقياء عاملين يعلمهم مثل ابن الريوالي الفقيه المحدث، وله في مذهبه شبه بابن حزم فقد كان لا يرى التقليد وانما يختار ما يراه الاصلح، ويقول بالعلة المنصوص عليها ولا يقول بالمستنبطة، ومضى ليه دهر وهو يقول بدليل الخطاب ثم نبذه وطرحه (2) وقد قال فيه الحميدي انه فقيه مشهور عالم زاهد وله أشعار كثيرة في الزهد وغيره (3) ونموذج شعره قوله:

يا معجبا بعلائه وغنائه

ومطولا في الدهر حبل رجائه

كم ضاحك أكنافه منشورة

ومؤمل والموت من تلقائه وقوله (4) :

ايام عمرك تذهب

وجميع سعيك يكتب

ثم الشهيد عليك منك

فأين أين المهرب

(1) التكملة: 399

(2)

الصلة: 448

(3)

الجذوة: 366

(4)

الصلة: 447

ص: 132

وهذا نظم يراد به التذكير، وحظه من حرارة الانفعال الذاتي ضئيل. ومن هذه الطبقة احمد الاقليشي (1) الزاهد العازف عن العازف عن الدنيا وله معشرات في الزهد حملت عنه وكتبها الناس، وله قصيدة في صورة مناجاة ذاتية يحاسب فيها نفسه على التورط في الذنوب:

ثلاثون عاما قد نولت كأنها

حلوم تفضلت أو بروق خواطف

وجاء المشيب المنذر المرء أنه

إذا رحلت عنه الشبيبة تالف

فيا أحمد الخوان قد أدبر الصبا

وناداك من سن الكهولة هاتف

فهل أرق الطرف الزمان الذي مضى

وأبكاه ذنب قد قدم سالف

فجد بالدموع الحمر جزنا وحسرة

فدمعك ينبي أن قلبك آسف ولأبي بكر العبدري أحد الزهاد معشرات في الغزل كفرها بمثلها في الزهد وشرحها في سفر ضخم (2) . وهذا يذكرنا بما فعله ابن عبد ربه في القصائد الممحصات وبما شاع في الموشح نفسه من تكفير حتى اصبح احد ضروب الموشح يسمى المكفر.

ومن هذا الفريق من الصلحاء علي بن إسماعيل الفهري القرشي وهو اشبوني شقباني الأصل يكنى بأبي الحسن الطيطل: " قرأ العلم بقرطبة واخذ عن علمائها واكثر من حفظ الآداب والأشعار حتى ليقال انه حفظ شعر عشرين امرأة أعرابية، وكان من الأدباء النبلاء والشعراء المحسنين مطبوع الأغراض سمح القريحة مشاركا في الحديث والفقه، انفذ في التلبس بذلك صدرا من عمره ثم مال إلى النسك والتقشف، ونظم في تلك المعاني أشعارا

(1) التكملة: 61.

(2)

التكملة: 511.

ص: 133

رائقة وضروبا من الحكمة تناقلها الناس وحفظوها عنه واتخذ لنفسه رابطة في رقعة من جنة له على بحيرة شقبان عرفت برابطة الطيطل؟ إلى الآن - ولزم العبادة بها إلى أن توفي " (1) وفيه يقول ابن بسام: " ممن نظم الدر المفصل لا سيما في الزهد فان أهل أوانه، كانوا يشبهونه بأبي العتاهية في زمانه " (2) وأورد له ابن عبد الملك وابن بسام قصيدة في وصف النملة يتأمل في دقة خلفتها بما يشهد على قدرة الله الذي هيأ لها رزقها، ومن قصائده الزهدية قوله (3) :

يا غافلا شأنه الرقاد

كأنما غيرك المراد

والموت يرعاك كل حين

فكيف لم يجفك المهاد

ما حال سفر بغير زاد

والأرض قفر ولا مزاد

ضمر جوادا ليوم سبق

لمثله يرفع الجواد

أين فلان وكم فلان

قد غيبوا في الثرى فبادوا

لا تبغ دنيا فان عنها

المؤمن المتقي يذاد

فأين بها بالتقى بروجا

تأمن إذا روع العباد

واعتبر الأرض كيف مدت

فهي لهذا الورى مهاد

ثم السماء التي أظلت

قد رفعت مالها عماد

كما بناها يبني سواها

كما بدأنا كذا نعاد

(1) الذيل والتكملة: 45.

(2)

الذخيرة - القسم الثاني (المخطوط) : 305

(3)

الذخيرة - القسم الثاني (المخطوط) : 306.

ص: 134

على أن فارسي ميدان الزهد اللذين جريا فيه إلى نهايته وجعلا منه فنا هما ابن العسال وأبو اسحق الألبيري:

أما ابن العسال فكان زاهد طليطلة المشهور بالكرامات واجابة الدعوات ولما سقطت طليطلة رحل عنها وسكن غرناطة وتوفي بها (- 487) وكان قبره فيها مكرما والناس يزورونه في عصر ابن سعيد (1) وليس كثيرا ما وصلنا من شعره الزهدي ولكن ربما كان من أقوى نماذجه قوله (2) :

انظر الدنيا فان أبصرتها شيئا يدوم

فاغد منها في أمان إن يساعدك النعيم

وإذا أبصرتها منك على كره تهيم

فاسل عنها واطرحها وارتحل حيث تقيم

وأما أبو اسحق الالبيري فهو إبراهيم بن مسعود التجيبي الغرناطي (- 460) وكان من أهل العلم والعمل معروفا بالصلاح، وقد نفي إلى البيرة فأصبح يعرف بالالبيري، وهو يمثل حلقة الوصل المتوسطة في تاريخ الزهد الأندلسي، فقد روى هو مؤلفات ابن أبي زمنين وأشعاره ثم تشبه به ابن العسال وعلى طريقته جرى، وكانا معا فرسي رهان في ذلك الزمان صلاحا وعبادة (3) ومن اللافت للنظر أن هذين الزاهدين كانا من أشد الناس إحساسا بسوء الأوضاع السياسية في وطنهما، فبكى ابن العسال سقوط بريشتر ثم سقوط طليطلة، وكان الالبيري صاحب الدعوة إلى

(1) المغرب 2: 21.

(2)

النفح 4: 195، 213.

(3)

التكملة: 126.

ص: 135

ثورة صنهاجة ضد تسلط اليهود بعامة وابن النغريلة بخاصة في شئون دولة بني زيري، وكانت قصيدته:

ألا قل لصنهاجة أجمعين

بدور الزمان وأسد العرين الشرارة التي اذكت نار الثورة يومئذ، وبسبب صراحته ووقوفه وقفة صلبة كان باديس قد نفاه قبل تلك الحادثة من غرناطة إلى البيرة.

ولئن وصلتنا نتف يسيرة من شعر ابن العسال، فان لأبي إسحاق ديوانا كاملا قد وصلنا، وهو يحوي اثنين وثلاثين بين مقطوعة وقصيدة، وقد وجدت له مقطعات أخرى لم يحوها ديوانه مما يدل على انه لا يمثل جميع ما خلفه الالبيري من نتاج شعري. وفي قصائده واحدة يعرض فيها بأحد الفقهاء، لأنه كان يطلب الكيمياء وأخرى في رجل يجر ثيابه خيلاء وثالثة يندب فيها خراب البيرة ورابعة يرثي فيها زوجه واثنتان في المدح واثنتان يرد فيهما على تهجم من عاب اثنين من أصدقائه وواحدة في تحريض صنهاجة على اليهود، وكل ذلك يدل على مدى مشاركته في الحياة الاجتماعية يومئذ مثلما يدل على ان انقطاعه الزهدي لم يكن عزلة سالبة الطابع.

وقد يكون في قصائده الزهدية تذكير ووعظ وتخويف من الموت ونصح بالتخلي عن المال والجاه، ولكن ذلك لا يقف أبدا في مقابل العنصر الذاتي والتلوم النفسي واستشعار الانقسام بين قوة الموت وحب الحياة، في كثير من قصائده. وعندي أن الالبيري قد وصل بشعره الزهدي في الأدب العربي؟ لا في الأندلسي فحسب - إلى قمة، بما أضفى عليه من حرارة الوجد والانفعال والإقرار بالضعف الإنساني أمام مغريات الحياة ومكافحة الشهوة العارمة. فإذا بكى نفسه أحسست بأنه ينتزع

ص: 136

انتزاعا من هذا العالم الأرضي ويفارقه وروحه معلقة به (1) :

فيا إخوتي مهما شهدتم جنازتي

فقوموا لربي واسألوه نجاتي

وجدوا ابتهالا في الدعاء وأخلصوا

لعل إلاهي يقبل الدعوات

وقولوا جميلا إن علمتم خلافه

وأغضوا على ما كان من هفواتي

ولا تصفوني بالذي أنا أهله

فأشقى، وحلوني بخير صفات

ولا نتنا سوني ذكرتكم

وواصلتكم بالبر طول حياتي

بالرغم فارقت الأحبة منكم

ولما تفارقني بكم زفراتي والحق أن الالبيري كان فنانا في مجاله، فكان يخرج على العرف الشعري المألوف في القافية ويصنع قصائده على نحو من " التسبيحة "، فيبني القصيدة جميعها على قافية واحدة لا يغيرها، فقصيدة بناها على لفظ الجلالة (2) :

يا أيها المغتر بالله

فر من الله إلى الله

ولذ به واسأله من فضله

فقد نجا من لاذ بالله

وقم له والليل في جنحه

فحبذا من قام لله

واتل من الوحي ولو آية

تكسى بها نورا من الله وهكذا حتى يبلغ بقصيدته ثلاثة وخمسين بيتا، وقصيدة أخرى في ثمانية وثلاثين بيتا بناها على لفظة " النار " (3) :

(1) ديوان الالبيري: 99.

(2)

ديوان الالبيري: 114.

(3)

المصدر نفسه: 144.

ص: 137

ويل لأهل النار في النار

ماذا يقاسون من النار

تنقذ من غيظ فتغلي بهم

كمرجل يغلي على النار

فيستغيثون لكي يعتبوا

ألا لعا من عثرة النار

وكلهم معترف نادم

لو تقبل التوبة في النار وليس هذا فحسب، بل إنه سخر أصنافا كثيرة من الصور في إبراز المعاني الزهدية، فكان احتفاله بالتجديد في هذا الاتجاه واضحا، فهو يستغل الصور الحربية في قوله (1) :

لو كنت في ديني من الأبطال

ما كنت بالواني ولا البطال

ولبست منه لأمة فضفاضة

مسرودة من صالح الأعمال

لكني عطلت أقواس التقى

من نبلها فرمت بغير نبال

ورمى العدو بسهمه فأصابني

إذ لم أحصل جنة لنضال حتى الصور الجنسية نراه يستغلها لتصوير مدى الصراع النفسي بين الواجب الديني والمرأة (2) :

حسبي كتاب الله فهو تنعمي

وتأنسي في وحشتي بدفاتري

أفتض أبكارا بها يغسلهن من

يقتضهن بكل معنى طاهر ومن صوره الغريبة تشبهه لسان الثرثار بالناقوس:

ولقد عجبت لمؤمن في شدقه

جرس كناقوس ببيعة كافر

(1) المصدر نفسه: 80.

(2)

المصدر نفسه: 132.

ص: 138

على أنه أحيانا يبلغ حد السذاجة في الاعتراف النفسي حين يقول:

ولقد أصبت من المطاعم حاجتي

ومن الملابس فوق ما هو ساتري

وانا لعمرك مكرم في جيرتي

ومعظم ومبجل بعشائري إلا أن روح الاعتراف هي التي تتحكم في كثير من شعره وتجعله محبوبا حين تجعله سليما من التكلف، وان بلغت منه السذاجة مبلغا كبيرا.

4 -

الهجاء والنقد الاجتماعي:

كان مجال الهجاء واسعا في هذا العصر، ولكن ابن بسام وهو المؤرخ الأدبي للحقبة التي ندرسها تذمم من ادراج أشعار الهجاء في كتابه، ولذلك فان صورة الهجاء لا تعد مستوفاة أو واضحة. ولكنا نذكر أهاجي ولادة في ابن زيدون، وأهاجي مهجة القرطبية في صديقتها ولادة، وكلها من النوع الذي ينحو منحى الإفحاش المقذع.

واذا صح القياس على ما تم في الحقبة التالية؟ أي عصر الموحدين -.

قلنا إن الهجاء ربما أخذ يقل؟ نسبيا - في الشعر التقليدي، ويحتل مكانه هامة في الزجل لأنه ينظم للعامة ويكون أوقع في النفوس وأبعد أثرا.

وكان في عصر الطوائف شاعران شهرا بالهجاء هما ابن سارة الشنتريني والسميسر. فأما ابن سارة، فان ابن بسام يذكر أنه " أولع بالقصار فأرسلها أمثالا ورشق بها نبالا لا سيما قوارع كدرها على مردة عصره، وسم بها أنوف أحسابهم، وتركها مثلا في أعقابهم ". وقال أيضا: " ورأيت له عدة مقطوعات في الهجاء تربي على حصى الدهناء، وهو فيه

ص: 139

صائب السهم نافذ الحكم " (1) . وقد أورد ابن بسام أمثلة من هجائه في كتابه الذي سماه " ذخيرة الذخيرة "، وهو كتاب لم يصلنا، ويفهم من كلام الفتح بن خاقان (2) أن ابن سارة أقلع عن الهجاء بعد فترة من الزمن. ويتصل هجاء ابن سارة بالحاجة المادية، فقد كان محارفا كثير التنقل في طلب الرزق، وكان محترفا لتعليم العربية، ولما سكن أشبيلية تعيش فيها بالوراقة (3) . وأكثر ما أوردته المصادر من شعره يقع في موضوعات الوصف والمدح والغزل بالغلمان والشكوى من حال الدنيا.

ويشبه السميسر صاحبه ابن سارة في انه انتحى المقطوعة واتخذها أداة للهجاء، وكان كثير الهجاء وله كتاب سماه " شفاء الأمراض في اخذ الأعراض " (4) ؛ وله أهاج فردية منها قوله في ابي عبد الله بن الحداد (5) :

قالوا ابن حداد فتى شاعر

قلت وما شعر ابن حداد

أشعاره مثل فراخ الزنى

فتش تجد أخبث أولاد وقد رد عليه ابن الحداد بهجاء مقذع.

ونمي إلى المعتصم أن السميسر هجاه، فاحتال في طلبه حتى حصل في قبضته، فاستنشده ما هجاه به، فحلف أنه ما هجاه وإنما قال:

(1) الذخيرة - القسم الثاني (المخطوط) : 323.

(2)

القلائد: 260.

(3)

التكملة: 816.

(4)

النفح 5: 246.

(5)

الذخيرة 1⁄2: 382.

ص: 140

رأيت آدم في نومي فقلت له

أبا البرية إن الناس قد حكموا

إن البرابر نسل منك قال إذن

حواء طالقة إن كان ما زعموا وهما في هجاء بلقين صاحب غرناطة، فاباح بلقين دمه، فهرب لاحقا ببلد ابن صمادح فزعم السميسر ان بلقين دس على لسانه كلاما في هجاء ابن صمادح ليبلغه فيقتل الشاعر، وعندئذ سأله المعتصم عما قاله في هجاء بلقين خاصة فقال: لما رأيته مشغوفا بتشييد قلعته التي يتحصن فيها بغرناطة قلت:

يبني على نفسه سفاها

(1) كأنه دودة الحرير هذه رواية. غير أن السلقي في معجمه جاء برواية أخرى عن موقف السميسر فقال: كان لباديس بن حبوس (والد بلقين) وزير يهودي فهلك واستوزر بعده نصرانيا فقال أبو القاسم خلف بن فرج اللبيري المعروف بالسميسر ثلاثة أبيات وكتب بها نسخا عدة ورماها في شوارع البلد والطرقات، وسار من ساعته إلى المرية معتصما بالمعتصم بن صمادح، وطارت الأبيات في أقطار الأندلس ولما عليها باديس أرسل وراءه أصحاب الخيل ففاتهم ولم يلحقوه (2) . أما الأبيات ففيها من الإقذاع ما يحول دون إثباتها.

واكثر شعر السميسر في الهجاء تعميمي المنزع يدل على قلق وعدم ارتياح لبعض ما يراه من أوضاع كقوله متوقعا تغير الحال (3) :

(1) النفح 4: 380 - 381

(2)

معجم السفر للسلفي، الورقة: 265 (133 نسخة عارف حكمت)

(3)

الذخيرة 1⁄2: 364.

ص: 141

رجوناكم فما انصفتمونا

وأملناكم فخذلتمونا

سنصبر والزمان له انقلاب

وأنتم بالأشارة تفهمونا ومن ذلك أيضا قوله (1) :

خنتم فهنتم وكم أهنتم

زمان كنتم بلا عيون

فأنتم تحت كل تحت

وانتم دون كل دون

سكنتم يا رياح عاد

وكل ريح إلى سكون ويجري على هذا النسق من التشفي في قوله (2) :

وليتم فما أحسنتم مذ وليتم

ولا صنتم عمن يصونكم عرضا

وكنتم سماء لا ينال منالها

فصرتم لدى من لا يسائلكم أرضا

سترجع الأيام ما أقرضتكم

ألا إنها تسترجع الدين والقرضا وقد كان السميسر في إرسال هذا الضرب من الشعر متأثرا بنقمة فلسفية عامة وشيء من الحقد الذاتي. ولكنه فيه أقرب إلى الروح الناقدة منه إلى الهجاء. ويؤكد هذا الذي أقول أن السيميسر كان يعلن أحيانا عن ثورته في وجه أمراء زمانه بمثل قوله (3) :

ناد الملوك وقل لهم

ماذا الذي أحدثتم

أسلمتم الإسلام في

أسر العدا وقعد تم

وجب القيام عليكم

إذ بالنصارى قمتم

(1) النفح 5: 246

(2)

النفح 5: 247

(3)

الذخيرة 1⁄2: 374.

ص: 142

لا تنكروا شق العصا

فعصا النبي شققتم ولما انتهت أيام الطوائف وجاء عهد المرابطين اشتد النقد الاجتماعي عامة لسببين: أن قدوم المرابطين أنفسهم إلى الأندلس لم يلبث ان أصبح عبئا على الأندلسيين، فكانت مقاومتهم لذلك تتمثل من بعض جوانبها بالنقد والتندر بأصحاب اللثام؛ وكذلك ارتفع شأن الفقهاء في ايامهم، فأقبل الشعراء على ذم الفقهاء واتهامهم بالرياء لأنهم أصبحوا يجرون اليهم الدنيا متسترين وراء المظهر الديني، فمن شعر ابن خفاجة في نقد الفقهاء (1) :

درسوا العلوم ليملكوا بجدالهم

فيها صدور مراتب ومجالس

وتزهوا حتى أصابوا فرصة

في أخذ مال مساجد وكنائس وقال ابن البني فيهم (2) :

أهل الرياء لبسوا ناموسكم

كالذئب أدلج في الظلام العاتم

فملكوا الدنيا بمذهب مالك

وقسمتموا الأموال بابن القاسم

وركبتموا شهب الدواب بأشهب

وبأصبغ صبغت لكم في العالم وقد نسب صاحب النفح هذه الأبيات للشاعر المدعو بالأبيض (3) ، وأنه قالها في الفقهاء المرائين، وأورد له قطعة أخرى شبيهة بها وهي قوله:

(1) النفح 4: 281.

(2)

المعجب: 110

(3)

النفح 4: 410.

ص: 143

قل للأيام سنا الأئمة مالك

نور العيون ونزهة الأسماع

لله درك من همام ماجد

قد كنت راعينا فنعم الراعي

فمضيت محمود النقيبة طاهرا

وتركتنا فنصا لشر سباع

أكلوا بك الدنيا وأنت بمعزل

طاوي الخشا متكفت الأضلاع

تشكوك دنيا لم تزل بك برة

ماذا رفعت بها من الأوضاع والحق أن الأبيض واليكي هما شاعرا الهجاء في عهد المرابطين، وقد مدح اليكي المرابطين أولا ثم هجاهم بمثل قوله (1) :

ان المرابط باخل بنواله

لكنه بعياله يتركم

الوجه منه مخلق لقبيح ما

يأتيه فهو من آجله يتلثم وقال يهجوهم أيضا (2) :

في كل من ربط اللثام دناءة

ولو انه يعلو على كيوان

لا تطلبن مرابطا ذا عفة

واطلب شعاع النار في الغدران وقد أفرط اليكي في هجاء أهل فاس، فتعسفوا عليه وقدموا من شهد عليه بدين، فسبق إلى السجن سوقا عنيفا وحبس مدة من الزمن، إلا أنه لم يكف عن الهجاء حتى قال فيه صاحب المسهب:" هو ابن رومي عصرنا وحطيئة دهرنا لا تجيد قريحته إلا في الهجاء، ولا تنشط به في غير ذلك من الانحاء "(3) . وأكثر أهاجيه بذي فاحش.

(1) النفح 4: 193.

(2)

المغرب 2: 267.

(3)

المغرب 2: 266.

ص: 144

وأما عصريه أبو بكر محمد بن أحمد الأنصاري المعروف بالأبيض فأصله من قرية همدان، وقد درس باشبيلية وقرطبة، وكان إلى جانب شهرته بالشعر من مشهوري الوشاحين. سئل مرة عن كلمة فلم يعرفها، فآلى ان يقيد نفسه ولا يفك قيده حتى يحفظ كتاب " الغريب المصنف "(1) ، وقد نشب في الهجاء وشهر به، وكانت اكثر اهاجيه في الزبير أحد أمراء الملثمين بقرطبة ومن أهاجيه فيه:

عكف الزبير على الظلالة جاهدا

ووزيره المشهور كلب النار

ما زال يأخذ سجدة في سجدة

بين الكؤوس ونغمة الأوتار

فإذا اعتراه السهو سبح خلفه

صوت القيان ورنة الأوتار وكان الأبيض جريئا قوي النفس. أحضره الزبير ووبخه على الهجاء وقال له: ما دعاك إلى هذا؟ فقال له: إني لم أر أحق بالهجو منك ولو علمت ما أنت عليه من المخازي لهجوت نفسك إنصافا ولم تكلها إلى أحد، فلما سمع الزبير ذلك قامت قيامته وأمر بقتله (2) .

ولم يكن صوت النقد الموجه ضد الحكام قويا جهيرا في أيام ملوك الطوائف مما قد يدل على انسياق الأدب شعره ونثره في ركاب كل واحد من أولئك الأمراء، ولذلك انحصر الأدب بولاء إقليمي قاصر النظرة محدود الأفق، ففقد قوة الحدس التي تتمتع بها النظرة الشاملة العميقة. وكانت ابرز مظاهره النقدية تلك اللذعات التي يوجهها أمثال السميسر في مقطعاتهم القليلة، أو تلك الحسرات المبهمة التي يرددها الأتقياء الزهاد عن سوء الأحوال السياسية والاجتماعية. أما في أغلب الأحوال فان ثورة

(1) النفح 5: 36 والمغرب 2: 127.

(2)

النفح 5: 37.

ص: 145

الشاعر على الجور أو الإهمال كان فردية. ولابن عبدون قصيدة يتذمر فيها من ملوك زمانه، ولكنا حالما نقرؤها نلمس أن الدافع فيها ذاتي، وان ثورة ابن عبدون إنما انفجرت لان الملوك اغفلوا شأنه (1) :

فسلني عن ملوك الأرض تسأل

خبيرا فاقض حق الإسماع

علمت عليهم نفسي ونفسي

لأوضح غبنهم عند البياع

فما اتبعوا دليلا في اجتنابي

ولا سلكوا سبيلا في اصطناعي وكان رد ابن عبدون على هذه المعاملة ان باعهم ولزم بيته:

فبعتهم بتاتا لا بثنيا

ولا شرط ولا درك ارتجاع

ولم أجعل قرابي غير بيتي

وحسبي ما تقدم من قراع ولعل أشد مظهر أثار نقمة الشعر يومئذ هو تسلط اليهود في دولة غرناطة على الناس وقيامهم بحكم الجماعات الإسلامية وجمع الضرائب وهذا هو الذي دفع بابن الجد إلى إن يقول (2) :

تحكمت اليهود على الفروج

وتاهت بالبغال وبالسروج

وقامت دولة الأنذال فينا

وصار الحكم فينا للعلوج

فقل للأعور الدجال هذا

زمانك إن عزمت على الخروج وهذه الحساسية تجاه قيام أهل الذمة بتحصيل الضرائب من المسلمين كانت ذات أثر عميق في النفوس لأنها كانت تصور لهم انعكاس الوضع الطبيعي في قوانين الدولة، ولم يحاول أحد منهم أن يتمثل لنفسه بأن

(1) الذخيرة - القسم الثاني " المخطوط ": 282.

(2)

المصدر السابق: 221.

ص: 146

هذه الضرائب إنما تذهب إلى خزينة الدولة لا إلى جيوب الجباة. وقد أحس الشاعر أبو حفص الزكرمي العروضي بالمشكلة من ناحيتين: أولاً لان الذي طالبه بدفع الضريبة جاب يهودي، وثانيا لأنه كان يأمل أن يأخذ لا أن يعطي؛ ولذلك نسمعه يقول في إحدى قصائده (1) :

يا أهل دانية لقد خالفتم

حكم الشريعة والمروة فينا

مالي أراكم تأمرون بضد ما

أمرت، ترى نسخ الإله الدينا

كنا نطالب لليهود بجزية

وأرى اليهود بجزية طلبونا

ما إن سمعنا مالكا أفتى بذا

لا لا. ولا من بعده سحنونا

هذا ولو أن الأئمة كلهم

- حاشاهم - بالمكس قد أمرونا

ما واجب مثلي يمكس عدله

لو كان يعدل وزنه " قاعونا "

ولقد رجونا ان ننال بمدحكم

رفدا يكون على الزمان معينا

فالآن نقنع بالسلامة منكم

لا تأخذوا منا ولا تعطونا وتسلط اليهود هو ما أثار أبا إسحاق الالبيري الزاهد أيام وزارة ابن النغريلة اليهودي في غرناطة وجعله ينظم قصيدته؛ التي ساعدت على الثورة في ذلك البلد (2) :

ألا قل لصنهاجة أجمعين

بدور الندى واسود العرين

لقد زل سيدكم زلة

تقر بها أعين الشامتين

تخير كاتبه كافرا

ولو شاء كان من المسلمين

(1) معجم السلفي: 41 (نسخة عارف حكمت) .

(2)

ديوان الالبيري: 151.

ص: 147

فعز اليهود به وانتخوا

وتاهوا وكانوا من الأرذلين

ونالوا مناهم وجازوا المدى

فحاق الهلاك وما يشعرون وقد اتبع الفقيه الزاهد في هذه القصيدة هذا الأسلوب النثري السهل ليبلغ كلامه الإفهام، ومدح باديس ليكسب ثقته، ثم تحدث عما رآه رأي العين في غرناطة:

واني احتللت بغرناطة

فكنت أراهم بها عابثين

وقد قسموها وأعمالها

فمنهم بكل مكان لعين

وهم يقبضون جباياتها

وهم يخضمون وهم يقضمون ثم عرج على ذكر الترف الذي انصرف إليه الوزير اليهودي فقال:

ورخم قردهم داره

وأجرى إليها نمير العيون

فصارت حوائجنا عنده

ونحن على بابه قائمون

ويضحك منا ومن ديننا

فانا إلى ربنا راجعون والبيت الأخير ربما كان يشير إلى ابن النغريلة عمل رسالة ينتقد فيها بعض ما زعمه تناقضا في القرآن الكريم. وقد تلمس الالبيري كل وسيلة لإثارة النفوس وحرض على قتل اليهودي وافتى بأن ذلك لا يعد عذرا ولتلك الفتوى قيمتها إذ تصدر عن فقيه زاهد:

فبادر إلى ذبحه قربة

وضح به فهو كبش سمين

ولا ترفع الضغط عن رهطه

فقد كنزوا كل علق ثمين

ولا تحسبن قتلهم غدرة

بل الغدر في تركهم يعبثون

ص: 148

وقد نقدر أن حرية التعبير في عصر الطوائف كانت ضيقة الحدود، وان الخوف ألجم الناقمين والمتذمرين عن الإفصاح بما كانوا يحسونه، اذ لم يكد بشعر بعضهم أن وجه المنقذ يطل عليهم من وراء آثام البطل المرابطي حتى اخذوا يتحدثون عن عيوب حكامهم في صراحة. وقد جرت الأحوال المتقلبة بالناس في ظل الحكومات المتعاقبة على استجداء رضى القائمين الجدد والشماتة بالذاهبين، سمة من سمات النفاق في الحياة السياسية تومئ إلى نقصان في الشجاعة النفسية والى أزمة عميقة في الأخلاق، وأمثالها في الحديث والقديم كثيرة. ولا ندري هل نبرى منها أبا الحسن ابن الجد حين وقف يمدح أمير المسلمين يوسف بن تاشفين ويقول (1) :

في كل يوم غريب فيه معتبر

نلقاه أو يتلقانا به خبر

أرى الملوك أصابتهم بأندلس

دوائر السوء لا نبقي ولا تذر

قد كنت أنظرها والشمس طالعة

لو صح للقوم في أمثالها النظر

ناموا وأسرى لهم تحت الدجى قدر

هوى بأنجمهم خسفا وما شعروا

وكيف يشعر من في كفه قدح

تحدو به مذهلات الناي والوتر

صمت مسامعه من غير نغمته

فما تمر به الآيات والسور

تلقاه كالعجل معبودا بمجلسه

له خوار ولكن حشوة خور

وحوله كل مغتر وما علموا

أن الذي زخرفت دنياهم غرر ولكن من الطبيعي أن تستيقظ النقمة الدينية في نقد الأمراء والملوك لدى قدوم الحكام الجدد الذين جاءوا يحملون معهم دعوة لبعث ديني.

(1) الذخيرة - القسم الثاني (المخطوط) : 105.

ص: 149

5 -

الاتجاه الهزلي:

قلما كان الشعر في العصر الأموي؟ السابق - ممثلا للفكاهة الاندلسية، وكان المشهورون من الأندلسيين بالفكاهة إذا تندروا هجوا. ولما كتب ابن شهيد " شجرة الفكاهة " أو رسالته المعرفة بالتوابع والزوابع لم يكن للفكاهة فيها حظ كبير يناسب مقدار ما فيها من عجب وزهو ذاتيين. أما في هذا العصر - عصر الطوائف والمرابطين - فقد احتلت الفكاهة مكانة واسعة في الشعر والنثر، وزاد الأندلسيين بطبقة القضاة والفقهاء، واستوى لهم في بعض النواحي ما وصلهم من هزليات أبي الشمقمق وأبي الرقعمق وأحيانا مجونيات ابن سكرة وابن حجاج، ففتح ذلك لهم بابا واسعا من الاتباع، وأصبحت طريقة الجاحظ في السخرية مطلبا يحاولون بلوغه.

ومن اشهر السلكين لهذا السبيل الأديب أبو عبد الله محمد بن مسعود ويرى ابن بسام انه انتحى في هذه الطريقة منحى ابن حجاج بالعراق فقصر عنه، وقد كان له ابن توجه إلى الغرب، وخلع هنالك عذاره في البطالة والشراب، فكتب إليه أبوه رسالة هزلية يتهكم فيها به على نحو ما تهكم الجاحظ بأحمد بن عبد الوهاب في رسالة التربيع والتدوير. وتبدو المجاكاة في القطعة التالية احتذاء واضحا إذ قال: " وصف لي موقع الشمس في العين الحمئة، وكيف كان مخلصك من تلك البلاد الوابئة وكيف رأيت مدينة يونس وجنة رام، والبركان المونس وجزيرة الغنم، والزاوية، وصخرة العقاب وبئر الهاوية؟ وإيوان كسروان وكفر توثى

ص: 150

والهرمين والمنار، وحكام اللكام والغاز، وغانة السودان وغرائب البلدان " (1) . وقد مارس ابن مسعود الهزل في ضروب مختلف من الأشكال الأدبية فجعله تارة نثرا وتارة في أراجيز وثالثة شعرا من النوع الخفيف السهل. فمن هزلياته في المزدوج أرجوزة خاطب بها الوزير ابن بقنة على لسان جارية كان أهداها إليه، وفيخا تقول الجارية واصفة فقر ابن مسعود وسوء حله:

جعلتني أسيرة مملوكه

لطلعة هائلة صعلوكه

يعز - على الفال - إلى مسعود

وهو شقي ليس بالمحمود

ألحن في أشعاره من تيس

أعجز في البيت من الضر يس

ولو ترى يا ذا الندى مثواه

لقلت سبحان الذي بلاه

قطعه لبد دارس الآثار

قد طرحت حول مكان النار وواضح ان غاية ابن مسعود من هذا التصور الهزلي لنفسه استعطاف الوزير ليرق الحال، ويمنح من العطاء ما يكفل للجارية عيشا حسنا وله قصيدة كأشعار أبي الرقعمق يصور نفسه فيها طبيبا حاذفا عرف الأدوية وبلغ من الحذق ما لم يبلغه السحرة (2) .

هذا الطبيب المداوي

هذا الحكيم المعاني

انا أبط بحذق

نغانغ الصبيان

(1) الذخيرة1/2:67.

(2)

المصدر نفسه، وقارن هذا بإحدى مقامات السرقطي، وما يقوله " المحتال المكدي " فيها، في الفقرة الخاصة بالمقامات من هذا الكتاب.

ص: 151

انا أشق بلطف

مني على السرطان

انا المرجى المسمى

مشمر الأجفان

انا دللت البرايا

على خفي المعاني

انا تكلفت صيد

العنقاء بالورشان ويتحدش في اخرى عن شهوته إلى المطاعم الطيبة فيقول:

وإذا قيل لي بمن انت صب

وعلام انسكاب دمع المافي

قلت بالسكباج والجمليات

ورخص الشوا معا بالرقاق

وجشيش السميذ أعذبُ عندي

من ضاب الحبيب عند القناق ويؤخذ مما قاله ابن بسام ان شعرابن مسعود هذا غزير في التندر من حالته البائسة وشكوى الفقر، وهو شعر شبيه بشعر الكدائين في المرق. واذا كان لهذا الظاهرة من معنى. فانها تدل على حال بعض تلك الطبقة من الشعراء التي جعلت الشعر وسيلة للكسب وعصا في التجواب. لكن يبدو ان النثر في هذا العصر كان أحفل بالسخرية من الشعر، - أو مما وصلنا من شعر على وجه الدقة - فكان الاديب أبو عبد الرحمن ابن طاهر، وكان صاحب مرسية فترة من الزمن، من أقدر الناس على النادرة، وله " عدة نوادر أحر من الجمر وأدمغ من الصخر " وله رسائل " في الدعابة والهزل "(1) أورد ابن بسام مقتطفات منها، ولكن روح السخرية فيها غير قوية. ولعل الاجتزاء ببعضها في الاختيار هو الذي أبهم ما فيها من مداعبات، ومن أوضحها تهكمه بصديق له حضر محاضرة شاطبة: " وحدثت انه دعيت نزال فكنت اول نازل، فقلت

(1) الذخيرة - القسم الثالث (المخطوط) : 8، 20.

ص: 152

لمحدثي: أمجد أنت أم هازل؟ سيدي أشد بأسا، وأعز نفسا من ان يرى يوم جلاء إلا ظهر جواد، فان لبس زغفا هزم ألفا، وأن تقلد صمصامة، لم يبق هامة، ولكن أذكره بهذه الشهامة قول أبي دلامة:

ولو أن برغوثا على ظهر نملة

(1) يكر على صفي تميم لولت وجرت بين أحمد بن عباس الكاتب وابي المغيرة ابن حزم مفاكهات حول رسول أرسله ليؤدي رسالة للأول، وقد تفنن ابن عباس في التصوير الهزلي لذلك الرسول صورة مضحكة كاريكاتورية دقيقة، فمن ذلك قوله فيها:" أنهى الي كتابك رجل طويل القامة، صعل الهامة، بعينيه ليانة، وعلى أسنانه طرامة، وفي شاشيته وضارة، وفي منطقة لكنه صعبة، وعلى أنفه عقدة كالكبة، وفي أطواقه سعة يخرج منكاه من أقطاره، كأنها ثياب واله، أو شبارق راهب تائه، وفي مشيته تفحج قبيح كأنه عائم في يبس، وعليه غفارة شفافة شبكية السيدارة، وأظن العمالقة غزلت صوفها زمن الفطحل؟. "(2) .

ويمعن عباس في الإضافة حواشي هذه الصورة ليخرجها اكثر غرابة واشد إضحاكاً فيقول: " فوحق الطرب، وحرمة الأدب لقد هممت أن أوفي الشطارة حقها، واسم الخلاعة وسمها، فأجعل في يده عكاز قصبة خضراء، وفي رأسه قلنسوة بيضاء، وأضع على عاتقه خرجا بنخالة، وأقيم من نفسي ومن حضر عرافة وآلة، وآخذ به من طرق بني مردخاي، واقلده سيف الباجي أبي القاسم "(3) أي انه يريد ان يجعله في

(1) المصدر نفسه: 22.

(2)

الذخيرة 1⁄2: 154.

(3)

المصدر السابق: 155.

ص: 153

زي لعاب حاو من الحواة.

ويجيبه أبو المغيرة مستغربا أن يكون صاحبه المرسل على هذا النحو من الوصف لأنه يعرف أن " جبينه كالصفحة الصقيلة، وخذه كمرآة الغريبة، وعينيه كناظر صقر طاو على مقرب، وضفدع ينظر من خلال طحلب "؟؟ " فكيف انقلبت العين، وانسلخت من ذلك الزين، وصارت آبدة تلهي، ونادرة تجري "، ولم يكن أبو المغيرة مهيأ النفس للإجابة على الدعابة بمثلها نسقا، فاعتذر عن ذلك في آخر رسالته. على أن للمرء أن يسأل: ما هي غاية ابن عباس من دعابته تلك؟ يبدو أن لا غاية له وراء محض الدعابة وإظهار صورة مضحكة.

وقد شهرت لدى المشارقة رسالة لابن زيدون عرفت بالرسالة الهزلية كتبها على لسان ولادة إلى ابن عبدوس منافسة في حبها، ولست ادري من أطلق ذلك الاسم على تلك الرسالة، فان ابن بسام لم يشر إليها في الذخيرة، ولعل الناس من تعارفوا على أنها هي الهزلية تميزا لها عن رسالة أخرى جدية كتبها ابن زيدون إلى ابن جهور من السجن، واعتقد أن ابن زيدون قصد ان يحقق منها غايتين الأولى: معارضة الجاحظ في رسالة التربيع والتدوير، والثانية: عرض معارضة ونواحي ثقافة، وان شخصية ابن عبدوس لم يأت في هذه الرسالة إلا لخدمة هذين الغرضين، ولم يكن ابن زيدون يهتم كثيرا؟ فيما ارى - بأن تجد الرسالة طريقها إلى الشخص المهجو فيها، وإنما كان يرسم أنموذجا أدبياً يدل به مقدرته واتساع معارفه. ولذلك بنى الرسالة على الإشارات التاريخية والاستشهاد بالمروي من الشعر وحل الأبيات وحشد ما حفظه من أمثال المشارقة، وما تلقاه من أسماء ومصطلحات في ثقافته الفلسفية المنطقية: " وأن هرمس أعطى بلينوس ما اخذ منك، وأفلاطون

ص: 154

أورد على ارسطوطاليس ما نقل عنك، وبطليموس سوى الاصطرلاب بتدبيرك، وصور الكرة على تقديرك،؟.. وانك الذي أقام البراهين، ووضع القوانين، وحد الماهية، وبين الكيفية والكمية، وناظر في الجوهر والعرض، وميز الصحة من المرض، وفك المعمى، وفصل بين الاسم والمسمى؟ ".

وليس في الرسالة سخرية بالمعنى الدقيق إلا من جانب واحد هو التكثير من نسبة الأشياء البعيدة المطلب وإثباتها في غير موضعها إلى شخص واحد، كأنما اجتمعت فيه ضروب المقدرة والمعرفة والإحاطة والشمول، وهذا هو عين ما جرى عليه الجاحظ في التربيع والتدوير فأما اكثر الرسالة فانه سباب محض، أو هو سباب متراوح تتخلله استطرادات يبرز بها الكاتب مدى اطلاعه. وأول الرسالة منبئ عن طبيعة الغيظ القاتم التي تتخللها:" أما بعد ايها المصاب بعقله، المورط بجهله، البين سقطه، الفاحش غلطه، العاثر في ذيل اغتراره، الاعمى عن شمس نهاره، الساقط سقوط الذباب على الشراب، المتهافت تهافت الفراش على الشهاب ". وفي تضاعيف الرسالة قسط وافر من مثل هذا السب أو اشد مثل: " هجين القذال، ارعن السبال، طويل العنق والعلاوة، مفرط الحمق والغباوة، سيء الجابة والسمع، يغيض الهيئة، سخيف الذهاب والجيئة ".

على أن الرسالة، بعد ذلك، مبنية بناء متعمدا، ولبست قائمة على الفوضى، وان أوهمت أنها كذلك؟ إلا انه بناء مقارب لا دقيق متلاحم في دقته: فبعد الفاتحة تجيء الإشارات إلى أشخاص من أبناء الأمم القديمة كيوسف وقارون وكسرى وقيصر والاسكندر واردشير، ثم إشارات إلى ملوك الجاهلية ورجالاتها كجذيمة وبلقيس وكليب والسليك وقيس بن زهير - وع بعض التجوز في ذكر شخصيات إسلامية - ثم يعرج على ذكر أسماء

ص: 155

العلماء والفلاسفة القدماء اولا ويتبعهم ذكر بعض المشهورين من علماء العرب. وإذا استشهد بالشعر ذكر بيتا لأبي نواس ثم بيتا لأبي تمام وثالثا للمتنبي، مراعيا في ذلك التدرج الزمني. ثم يجيء قسم مبني على مجموعة من الأمثال والأبيات التي يحلها أو يستشهد بها؛ ومن تأمل الرسالة على هذا النحو وجد بين الفاتحة والخاتمة قسمين كبيرين: قسم الإشارات إلى أشخاص ذوي اتجاهات متعددة ومنازل متباينة، وقسم أكثره سرد للأمثال وربط بينها لتظهر في وحده كلية. ولم يكن إبراز الثقافة وقفا على ابن زيدون في هذه الرسالة، فهذه الطريقة قد شاعت في النثر الأندلسي حتى اصبح عماده أحياناً حل الشعر وإيراد المثل وتضمين أبيات.

ويبدو من هذه النماذج التي أوردتها أن السخرية في الأدب الأندلسي عادت فتبددت بين رغبة في التصوير ورغبة في الهجاء. ولكن مهما يكن من شيء فان اثر الجاحظ في الرسائل ما يزال فيها ظاهرا وسيتجلى جانب آخر من هذه السخرية عندما ندرس الرسائل في فصل مستقل عن النثر، كما أن اتجاها هزليا في الشعر يقف الشاعر عليه جهده وقريحته وربما لم يتعده إلى سواه.

6 -

الغزل:

لم يكن للغزل في العصر الأموي السابق شاعره المتفرد، ولكن الشعر الغزلي كان غزيرا، وكتاب " الحدائق " لابن فرج يمثل هذه الغزارة، وتسيطر على ذلك الغزل كثرة التذلل والشكوى وذكر الدموع والسهر وامتحان صدق الحب بتمني الموت وإظهار الغيرة الشديدة وغير ذلك من المظاهر التي منحها ابن حزم في " طوق الحمامة " دراسة قائمة على شيء من التجربة والتفلسف. وقد دلنا ابن حزم عل شيء من نظرة الأندلسيين؟ في عصره

ص: 156

إلى الحب والغزل، وعلى شيء من عوائدهم وأساليبهم فيهما، وحدثنا عن غرام بعضهم بالجمال الأشقر، وعن اتخاذ الحمائم لتبليغ الرسائل، وعن التهادي بخصل الشعر مبخرة بالعنبر مرشوشة بماء الورد وقد جمعت في اصلها بالصطكي وبالشمع الأبيض المصفى ولفت في تطاريف الوشي والخز وما أشبه لتكون تذكرة للمحبين، وحدثنا عن ضروب من الحب عندهم أدت إلى الجنون وأخرى أدت إلى الانتحار. ويستشف من أقوال ابن حزم سيطرة الجارية على دنيا الغزل، في الأكثر، وقد يكون من الأخبار ذات الدلالة العميقة قوله: ان المنصور بن أبي عامر قتل جارية تغنت بغزل قيل فيه " صبح " أم مؤيد، وان آلا مغيث استؤصلوا ولم يبق منهم إلا الشريد الضال لأن أحمد بن مغيث تغزل بإحدى بنات الخلفاء (1) ، مما يدل على قيام حدود صارمة تجعل نساء الأشراف في منزلة خاصة لا تتطاول إليها، أولاً يجب أن تتطاول، عيون الشعراء المتغزلين.

على ان ابن حزم ربط الحب في رسالته بالنظرة الأفلاطونية أو قل وثق العلاقة بينه وبين الاخلاق، ولم يكن جاريا في هذا على طبيعته المتدينة فحسب، بل كان أيضاً يصور تيارا قويا في شعر الحب بالأندلس، وجد قبل ان يكتب طوق الحمامة. إذ كانت علاقة الشعر بالأخلاق قد أخذت تتحدد لا على نحو رومنطيقي إعرابي كما حدث في نسيب المشارقة إبان العصر الأموي بل على نحو من الإيمان بالعفاف عند المقدرة وانه سمة أخلاقية ملازمة للفتوة نفسها، تلك الفتوة النابعة أيضاً من النظرة الدينية. وكان ابن فرج صاحب الحدائق نفسه من خير من يمثلون هذا الاتجاه في مقطوعتين من شعره وصلتا إلينا، يقول في إحداهما:

(1) الطوق: 38.

ص: 157

وطائعة الوصال صددت عنها

وما الشيطان فيها بالمطاع

بدت في الليل سافرة فبانت

دياجي الليل سافرة القناع

فملكت الهوى جمحات شوقي

لأجري في العفاف على طباعي

وبت بها مبيت الطفل يظمأ

فيمنعه الفطام عن الرضاع

كذاك الروض ما فيه لمثلي

سوى نظر وشم من مناع

ولست من السوائم مهملات

فاتخذت الرياض من المراعي ويقول في الأخرى:

بأيهما أنا في الحب بادي

بشكر الطيف أم شكر الرقاد

سرى فازداد بي أملي ولكن

عففت فلم أنل منه مرادي

وما في النوم من حرج ولكن

جريت من العفاف على اعتيادي ومن الغريب أن يذهب في هذا الاتجاه نفسه شاعر كالرمادي، وصورته لدينا في الإقبال على اللذات والاستهتار صورة واضحة تلحقه بالنواسي؛ فهو يقول في إحدى مقطوعاته:

وكان في تحليل أزراره

أقود لي من ألف شيطان

فتحت الجنة من جيبه

فبت في دعوة رضوان

مروة في الحب تنهى بأن

يجاهر الله بعصيان وقد فلسف ابن حزم هذا الصراع بين الشهوات والإقلاع عنها، فذهب إلى القول بأن في الإنسان طبيعتين متضادتين: إحداهما هي العقل وهو الذي يشير بخير ويحض عليه، والثانية هي النفس وهي التي لا تشير

ص: 158

إلا الشهوات، والروح واصل بين هاتين الطبيعتين وموصل ما بينهما وحامل الالتقاء بهما (1) . وأنكر ابن حزم قول الناس في عصره وبلده، إن الوفاء في قمع الشهوات في الرجال دون النساء، وقال: الرجال والنساء في الجنوح إلى هذين الشيئين سواء (2) .

وذهبت هذه النظرة في هذا الموقف " الحبي " بعد عصر الرمادي وابن فرج، في ازدواج، فأصبح الشاعر في هذا العصر الذي نتحدث عنه يتخذ من التحدث عن العفاف أو عن التمكن من الشهوات مذهبا أدبيا، دون أن يعبر في ذلك عن حقيقة أخلاقية مائلة في نفسه. وممن سلك هذه الخطة فقسم شعره بين مذهبي العفاف والمجون الشاعر أبو جعفر أحمد بن الابار أحد شعراء دولة المعتضد، فقد عبر عن القناعة في الحب في مقطوعات كثيرة منها قوله (3) :

حتى اذا غازلت أجفانه سنة

وصيرته يد الصهباء طوع يدي

أردت توسيده خدي وقل له

فقال: كفك عندي أفضل الوسد

فبات في حرم لا غدر بذعره

وبت ظمآن لم يصدر ولم أرد وتنسب هذه القطعة أيضا لإدريس بن اليمان ومن تلك المقطعات قول أبي جعفر بن الأبار (4) :

حتى إذا ما السكر مال بعطفه

وعتا يحكم الوصل في نشواته

هصرت يدي منه بغصن ناعم

لم أجن غير الحل من ثمراته

(1) الطوق: 122.

(2)

المصدر نفسه: 123.

(3)

الذخيرة - القسم الثاني (المخطوط) : 52.

(4)

المصدر نفسه: 56.

ص: 159

وأطعت سلطان العفاف تكرما

والمرء مجبول على عاداته ويقول في مقطوعة ثالثة:

فورعت عن جني الجنى

وكففت عن فوق الكفاف

وعصيت سلطان الهوى

وأطعت سلطان العفاف هذا، مع أن لأبي جعفر بن الابار قطعا مجونية فاحشة جرى على منواله في بعضها عبد الجليل بن وهبون وأبو بكر الداني والمتنبي الاشبيلي وغيرهم، وهذا يؤكد انقسام الغزل في هذا العصر، في الاتجاهين المذكورين عند الشاعر الواحد، إلى جانب انقسامه منذ عهد مبكر بين غزل بالمؤنث وآخر بالمذكر.

ومما يميز الغزل في هذا العصر الذي ندرسه؟ بالنسبة للعصر السابق - وضوح شخصيات بعض النساء اللواتي يدور حولهن الغزل أو؟ في الأقل - دوران الغزل حول امرأة معروفة. فمثلا كان ابن السراج المالفي شاعر بني حمود يتعشق جارية تدعى " حسن الورد " وجارية أخرى تدعى " أزهر " وله فيهما عدة مقطوعات اوردما ابن بسام في الذخيرة (1) وكان ابن الحداد قد شغف في صباه بصبية نصرانية ذهبت بلبه كل مذهب، وركب إليها اصعب مركب، وكان يسميها في شعره " نويرة " واسمها على الحقيقة " جميلة "(2) وقد تضمنت أشعاره فيها الإشارات الكثيرة إلى الطقوس والشعائر المسيحية، كما أن فيها ألغازاً كثيرة باسمها. ومن شعره فيها:

ورأت جفوني من نويرة كاسمها

نارا تضل وكل نار ترشد

(1) الذخيرة 1⁄2: 363.

(2)

المصدر نفسه: 201 - 202.

ص: 160

والماء أنت وما يصح لقابض

والنار أنت وفي الحشا تتوقد وله فيها ايضا:

عساك بحق عيساك

مريحة قلبي الشاكي

فان الحسن قد ولاك

إحيائي وإهلاكي

وأولعني بصلبان

ورهبان ونساك

ولم آت الكنائس عن

هوى فيهن لولاك ويتلاعب ابن الحداد بالمعاني المستمدة من الجو المسيحي من تثليث واعتراف وزنار وأنجيل ومحبة، ويبدو في ما اختاره ابن بسام من شعره، انه كان جادا في حبه صادقا في التعبير عن عاطفته، وان نصيب شعره من حرارة الوجد يتميز على كثير من سائر الغزل الأندلسي.

وقد تظهرنا المقارنة بين قصة ابن الحداد وصاحبته " نويرة " وبين قصة ابن زيدون وصاحبته " ولادة "(والقصة الثانية من أشهر قصص الحب في الأندلس) على فروق كثيرة، فقد أصبحت صورة ابن زيدون وولادة طاغية على ما سواها من قصص الحب والغزل الأندلسيين، وسبب ذلك أنها قصة تمثل العلاقة الأرستقراطية بين اثنين من السادة، أحدهما مخزومي النسب، وصاحبته أموية من بيت الخلافة، ولذلك خلدت قصة ابن زيدون ونسي ابن الحداد. ثم إن ابن الحداد كان قد تورط في حب فتاة على دين غير دينه، وأكثر في شعره من التحدث عن المعاني المتصلة بذلك الدين، وما أظن أن مثل ذلك الشعر يحدث صدى كبيرا في بيئة محافظة. هذا إلى فرق كبير في ما أحرزه الرجلان من الطريقة الشعرية: فابن زيدون بحتري الموسيقى والسياق سهل سائغ، أما ابن

ص: 161

الحداد فانه يمثل الشاعر المثقف الفلسفية والعلمية، وفي شعره ميل إلى التعمق الفكري يبعد به عن المستوى العام الذي يألفه الناس ويتطلبونه. ثم إن لولادة شخصية واضحة لأنها تكمل قصة الحب بالاستجابة الفنية من جانبها. أما نويرة، فنكاد لا نعرف شيئا من موقعها سوى الصد المطلق أو السلبية الكاملة، وهذا ترك أثرا في شعر كل من الرجلين، فقصائد ابن الحداد، زفرات ملتاع يشكو ويتشبث بالوصول ويتحرق بالوجد، فالحب فيها من جانب واحد، أما قصائد ابن زيدون فأنها غيوم أسى احتشدت بعد الفراق والتغير، فهي حسرة على ما فات، وبكاء على عهود انقضت وأحلام تبددت، أي هي حكاية قصة كاملة ذات طرفين.

ويبدو أن ابن زيدون أضفى على هذا الحب شيئا حين سجله في مذكرات أو ترجمة ذاتية، أو رواه متلذذا بذكريات الماضي، فقد قال ابن بسام راويا عنه: " قال أبو الوليد: كنت في أيام الشباب، وغمرة التصاب، هائما بغادة، تدعى ولادة، فلما قدر اللقاء، وساعد القضاء، كتبت إلي:

ترقب إذا جن الظلام زيارتي

فأني رأيت الليل أكتم للسر

وبي منك ما لو كان بالبدر ما بدا

وبالليل ما أدجى وبالنجم لم يسر (1)" ويحكي ابن زيدون حكايات أخرى تدل على غيرة ولادة، حين سأل المغنية وهو في بيتها أن تعيد الغناء دون اذن منها " فخبأ منها برق التبسم وبدا عارض التجهم " (2) ، وأنهما باتا على العتاب في غير اصطحاب،

(1) الذخيرة 1/1: 377.

(2)

المصدر نفسه: 378.

ص: 162

حتى إذا كان الصبح وبادر هو إلى الانصراف كتبت إليه أبياتا تقول فيها:

لو كنت تنصف في الهوى ما بيننا

لم تهو جاريتي ولم تتخير وكل هذا إنما أورده لأدل على ان ابن زيدون نفسه جعل من ذلك الحب قصة مكتوبة أو مروية في نطاق آخر مستقل عن نطاق ديوانه.

والقصة قد أضحت مشهورة شهرة تغنينا عن سردها في إسهاب، فقد دخلت شخصية ابن عبدوس فيها في صورة منافس لابن زيدون، وبعث ابن زيدون لصديقه قصيدة عنيفة، بعض العنف، يعاتبه فيها على التغير، ويذكر ولادة معرضا بقوله:

وغرك من عهد ولادة

سراب تراءى وبرق ومض

هي الماء يأبى على قابض

ويمنع زبدته من مخض (وبعد ذلك أبيات حذفها ابن بسام فيما يبدو هجاء لاذع في ولادة نفسها) وهذا يومئ إلى حرص ابن زيدون على استبقاء الصداقة بينه وبين ابن عبدوس بعد إذ خاب ظنه في الحب، وقد تم هذا بعد الرسالة الهزلية التي كان ابن زيدون يحرص فيها على استبقاء الحب وان أدى به إلى فقد الصديق. وقبل أن تنفصم روابط الحب كان ابن زيدون قد كتب لولادة قصيدته الثائرة التي تشبه " الجرس " الأخير في حياة حبهما:

ألم أوثر الصبر كيما أخف

ألم اكثر الهجر كي لا أمل

ألم ارض منك بغير الرضا

وابدي السرور بما لم أنل

ألم أغتفر موبقات الذنوب

عمدا أتيت بها أم زلل

ص: 163

ولم يدر قلبك كيف النزوع

إلى أن رأى سيرة فامتثل

وليت الذي قاد عفوا إليك

أبي الهوى في عنان الغزل

يحيل عذوبة ذاك اللمى

ويشفي من السقم تلك المقل وانصرفت ولادة عن ابن زيدون إلى ابن عبدوس، وظل المحب الثاني يكفل لها العيش اللين بجوده بعد إذ تحيف الدهر المستطيل حالها وطال عمرها وعمر أبي عامر حتى أربيا على الثمانين (1) .

فشخصية ولادة هي التي رسمت الطريق لغزل ابن زيدون بتقلبها وشدة غيرتها، ومن قوة الحادثة نفسها استمد غزله القوة والجيشان، وبخاصة بعد أن وقع في حال هي بين الأمل واليأس، ففي تلك الفترة أطلق الشاعر شحنة قوية من الحرارة في قصائده عندما أحس بأن " شخصه " قد اصبح مقصى عن تلك المجالس وان الإيثار قد وقع على غيره. وإذا كانت غيرة ولادة سببا في سوء ظنها بابن زيدون نفسه ثم تحولها عنه فان في شخصية ابن زيدون نفسه سببا آخر، إذ كان شابا مغرورا بجماله وفتونه، نرجسيا في نظرته لذاته، وكان مبتلى بمثل الغيرة التي لدى صاحبته، ولذلك كان استمرار العلاقة بينهما أمرا عسيرا. ولم يستطع ابن زيدون؟ رغم إعجابه بنفسه - أن يتغلب على شعوره بالنقص تجاه ولادة من حيث انها أشرف نسبا وأعلى مقاما وقد عبر عن هذه الحقيقة الكامنة في دخيلته بقوله:

ما ضر أن لم نكن أكفاءه شرفا

ففي المودة كاف من تكافينا غير انه أن أجاز لنا أن نفسر انتهاء هذه العلاقة بتفسيرها للعوامل الدخيلة في طبيعة الشخصيتين فلا يجوز لنا بحال أن نرسم من كل

(1) المصدر نفسه: 379.

ص: 164

شعر ابن زيدون الغزلي صورة قصة واحدة تدور كلها حول علاقته بولادة. فذلك الحب إنما استثار قصائد معدومة. ولم يكن ابن زيدون بالذي يجعل حياته كلها وقفا على علاقة حب واحد؛ هذا وان الاغراق في الحكم على شخصيتهما من القصص القليلة المتصلة بهما ونسبة الشذوذ الجنسي إلى هذا أو ذاك منهما إنما هو من التجوز؟ بل من التعدي - الذي لا تقره الدراسة المنصفة القائمة على الشواهد فقد وصف ابن بسام ولادة - مثلا " بطهارة الأثواب " ثم قال بعد ذلك بسطر: " وأوجدت إلى القول فيها السبيل بقلة مبالاتها ومجاهرتها بلذاتها (1) فما الذي يوفق بين طهارة الأثواب والمجاهرة باللذات؟ وما معنى قول أبي عبد الله بن مكي شيخ ابن بسكوال " لم يكن لها تصاون يطابق شرفها؟ " (2) وما الصورة التي تتركها أهاجيها في تقديرنا لشخصيتها؟ مفهوم هذا كله يتجلى لنا إذ نتذكر أن ولادة كانت صاحبة " صالون " أدبي، وأنها كانت تستقبل أصنافاً من الناس فتحادث هذا وتمازح ذاك وتقبل بالحب على واحد دون آخر، فلم تكن " متصاونة " حسبما تحجب نساء الاشراف، ولم تكن تتعقق في القول لميلها إلى الدعابة حتى وان جاءت مكشوفة، وفي كل ذلك تفصل الرواية القديمة بين القول والعمل فيما تنسبه إليها.

وقد يظن أن ابن زيدون اتهمها في معرض التهكم بابن عبدوس حين قال على لسانها في الرسالة الهزلية، وعلاقته بها ما تزال قوية:" وكم بين من يتمدني بالقوة الظاهرة والشهوة الوافرة والنفس المصروفة الي واللذة الوقوفة علي وبين آخر قد نضب غديره ونزحت بيرة "؟ وهذا كلام أن لم يحمل على المقارنة بين محض رغبة المرأة؟ أي المرأة - في

(1) الذخيرة 1/1: 376.

(2)

الصلة: 657.

ص: 165

الشاب دون الشيخ، فانه مما قد يؤخذ سببا لتعليل غضب ولادة على ابن زيدون، إذ أنها أنفت من أن يتهمها هذا الاتهام في سبيل ان يرجح كفته على ابن عبدوس، فاختارت ابن عبدوس نكاية به وتقريعا له ودفعا لهذه التهمة.

ما حصيلة ذلك كله والحديث عن الغزل؟ من حيث هو فن - رائد هذه الفقرة لا الحديث عن حب ولادة وابن زيدون وشخصيتهما؟:

ظاهرة هامة تركت طابعها على شعر ابن زيدون في الغزل؟ وفي غير الغزل أيضا - حين أصبحت قصة الحب وما جرته من ذيول حادثة ملهمة له وتلك هي ان القصيدة قد أصبحت " رسالة " تكتب، لا وصفا للمرأة ولا كلفا بالمناجاة الذاتية. وكان من دواعي هذا الموقف ان تتخذ سياقا عاطفيا وفكريا محددا بحدود الرسالة نفسها، فقصيدته " أضحى التنائي بديلا من تدانينا " وقصيدته " أني ذكرتك بالزهراء مشتاقا " وقصيدته " لئن قصر اليأس منك الأمل " وتلك التي خاطب بها ابن عبدوس " أثرت هزبر الشرى إذ ربض " وغير هذه القصائد إنما هي جميعا في قالب رسائل.

حادثتان اذن تشابهتا في أن فرضتا على ابن زيدون مسلكا واحدا هما حادثة الحب وحادثة السجن، وفي كلتيهما نرى ابن زيدون محتجبا وراء المسافة، يكتب رسائل، محددة المعالم مرتبة الأفكار، متراوحة بين الاعتدال والثورة، مزودة بقوة الانتقاء اللفظي وحلاوة الجرس الموسيقي.

فإذا أضفت إلى هاتين الحادثتين عمله الديواني تبين لك ابن زيدون " كتابا " في كل حالة، كاتبا ناجحا، ورسالته شعرية حينا نثرية حينا آخر، حتى انك لو أطلقت على عظم ديوانه اسم " رسائل ابن زيدون " لما كنت بعيدا عن الصواب. وقد كان المتوقع أن تقوى في شعره؟ وفي

ص: 166

الغزلي منه بخاصة - المظاهر القصصية، وهي قد ظهرت فيه حقل ولكنها لم تكن بالقوة المتوقعة.

يتضح من هذا الحديث عن الغزل في هذا العصر انه دون شاعر " متخصص " فيه يقف عليه كل جهوده مثلما كان عمر بن أبي ربيعة أو العباس بن الأحنف في المشرق ولم يبلغ في رومنطقيته مبلغ شعر المجنون وكثير عزة ونسابي الاعراب. ولكنه انقسم قسمة مصطنعة عامدة بين الإلحاح في شأن العفاف أو الانسياق في المجون، واصبح شعر ابن زيدون ذا لون يدور حول علاقة حية غير مبهمة، وبذلك يمثل صفحة جديدة فيها من حداثة الصورة ما يجعلها متميزة في النفوس لا لأنها تعبر فحسب عن اللقاء في المستوى العاطفي بل لأنها تمثل المستوى الاجتماعي وشيئا من التقارب في الصعيد الفكري وتتصل قوتها بقوة " القصة " نفسها فليس فيها من سمات فارقة في طبيعة الغزل بمقدار ما هنالك من سمات جذابة في قصة الحب. وإذا كانت قصة ابن زيدون وولادة تقاربا بين مستويين في مجتمع أرستقراطي فان قصة ابن الحداد ونويرة تقارب بين بيئتين متجاورتين تنفرد كل منهما بدينها، وتتعايشان معا على ارض الأندلس.

7 -

وتر شيعي

ظلت الأندلس في عصر قرطبة أموية الهوى سنية المذهب في الجملة، حتى إذا كان عصر الطوائف ومن بعدهم من المرابطين لم يكن للتشيع مجال سياسي اللهم إلا في دولة بني حمود أصحاب قرطبة ومالقة والجزيرة الخضراء، وما ذلك إلا لان بني حمود ينسبون إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، ولكنهم

ص: 167

- فيما يبدو - كانوا معتدلين أو بالأحرى لم يكن لهم مذهب كامل واضح المعالم ولا فقه خاص يميزهم (1) ؛ كذلك كان حكمهم قصيرا ولهم ينتشر نفوذهم إلا في رقعة محدودة، وكان كل ما يظهر لهم من اثر في الشعر الأندلسي أن مدحهم بعض الشعراء كابن دراج وابن شهيد بانتسابهم إلى الرسول. وقد ظهرت إمارات من ميول شيعية لدى عبادة ابن ماء السماء الذي كان يمدح بني حمود بمثل قوله (2) :

فها أنا ذا يا ابن النبوة نافث

من القول اريا غير ما ينفث الصل

وعندي صريح من ولائك معرق

تشيعه محض وبيعه بتل

ووالى ابي (قيس) أباك على العلا

فخيم في قلب (ابن هند) له غل وكان شاعر الحموديين المقدم لديهم هو ابن مقانا الاشبوني، وهو صاحب القصيدة المشهورة " البرق لائح من اندرين "(3) وفيها يمدح إدريس بن يحيى الحمودي، ومن ابياتها:

وكأن الشمس لما أشرقت

فانتثت عنها عيون الناظرين

وجه إدريس بن يحيى بن علي

ابن حمود أمير المؤمنين

خط بالمسك على أبوابه

ادخلوا بسلام آمنين

وينادي الجود في آفاقه

يمموا قصر أمير المسلمين

ملك ذو هيبة لكنه

خاشع لله رب العالمين

(1) انظر مقالة الدكتور محمود مكي عن التشيع في الأندلس في صحيفة المعهد المصري: 133 (1954) .

(2)

الذخيرة 1⁄2: 9.

(3)

الذخيرة - القسم الثاني (المخطوط)303.

ص: 168

ويمدح الحموديين لصلتهم بالرسول فيقول:

يا بني أحمد يا خير الورى

لأبيكم كان وفد المسلمين

نزل الوحي عليه فاحتبى

في الدجى فوقهم الروح الأمين

خلقوا من ماء عدل وتقى

وجميع الناس من ماء وطين

انظرونا نقتبس من نوركم

إنه من نور رب العالمين ولولا البيت الأخير لكانت القصيدة عادية في المدح لا تخرج عن ذلك، وهذه القصيدة وأبيات عبادة اكثر شعر أمعن في التقرب إلى الحموديين على نحو من شعور أصيل أو منتحل بالتشيع لهم، أو للقضية العلوية. أما أشعار غير هذين ممن التف حول الحموديين مثل غانم بن وليد (1) وعبد الله بن السراج المالقي (2) فليس في أشعارهم التي وصلتنا ما يوحي بسيء من التشيع، سوى ان غانم بن وليد يسمي ممدوحه العالي إدريس بن يحيى في شعره " إمام الهدى ".

اذن فالشعر لم يتمذهب بالشيعية في الأندلس، إلا أن ظاهرة جديدة تبرز فيه أيام المرابطين وهي نظم القصائد في رثاء الحسين، وممن فعل ذلك الشاعر الكاتب أبو عبد الله بن أبي الخصال، فان له قصيدتين في مدح الحسين (3) ، وقد أصبح هذا الشعور أمرا ميسرا للتعبير بعد ان أصبحت روح التدين في ظل المرابطين دافعا قويا في الشعر، وغدا التوسل إلى الرسول وإرسال القصائد إلى الروضة الشريفة موضوعا واسعا من موضوعات الشعر الأندلسي يميز العصور التالية. وقد شارك ابن أبي الخصال

(1) الذخيرة 1/1: 345.

(2)

المصدر نفسه: 266.

(3)

فهرست ابن خير: 421، ومقالة الدكتور مكي:145.

ص: 169

في هذا الموضوع ايضا، فله رسالة يحمل فيها " بعث الإيمان ووفد الرحمن " تحياته إلى الرسول ويقول:" فهل انتم للأمانة مؤدون، ولأخيكم بالدعاء له في تلك المواقف ممدون، وبلسان ضميره متكلمون، وبحيته على خاتم الرسل صلى الله عليه وسلم مسلمون، ولتربته عنه بشفاهكم مصافحون؟ " ثم يشفع ذلك كله بثلاث مقطعات توسلية يشكو فيها ثقل ذنوبه ويتشفع بجاه الرسول الكريم وبقول إحدى تلك المقطوعات:

يا رسول المليك نفسي تتقون

وذنوبي مثبطات تعوق

كم تعرضت للقبول ولكن

ليس للزائف المبهرج سوق كلما قلت قد خلصت إلى البر ادعاني بتشاهديه العوق

وبعيد أن تستجيب إلى الرشد قلوب للغي فيها حقوق

قيدتني الذنوب بل أسكرتني

(1) فصبوح لا ينقضي وغبوق ولذلك أرى أن رثاءه للحسين لا يدل على نزعة شيعية وإنما هو داخل في حبه العام للرسول الكريم وآله.

9 -

نزعة شعوبية:

وكانت الدولة الأموية تمثل رابطة مروانية عربية معا، فلما زالت تلك الدولة ظهرت بوادر العربية ضعفت في ظل بعض الدول المستقلة من صقالبة وبرابرة، وقد رأينا في العصر الأموي كيف كان الصراع بين المولدين والعرب مجالا للمناقضات الشعرية، ولا بد من ان نفترض ان الشعور الشعوبي كان موجودا هنالك في نفوس

(1) الترسل، الورقة: 82 - 83.

ص: 170

المولدين، وانه لم يجد التعبير الكافي عنه يومئذ في غير المماحكات القائمة على العصبية؛ في ذلك العصر ألف بعضهم كتابا سماه " الاستظهار والمغالبة على من أنكر فضل الصقالبة " ولكنا لا الاسم، ولعله إنما كان دفاعا لا هجوما، فأما حين استقلت دولت الطوائف، فقد اصبح التصريح بالثورة العنصرية على العرب أمراً ممكنا، وكانت الرسالة النثرية هي القالب الذي استغل للتعبير عن تلك الثورة؛ ففي ظل أبي الجيش مجاهد العامري أحد الموالي الصقالبة نشأ أبو عامر احمد بن غرسية، أقوى صوت شعوبي في الأندلس، بل لعله الصوت الوحيد الذي سمعناه وكان أبو عامر نفسه حسما ذكر ابن سعيد، من أبناء نصارى البشكنس سبي صغيرا وأدبه مجاهد مولاه (1) ، وظل على موالاته لابن مجاهد الملقب إقبال الدولة (2) ، وكانت بينه وبين أبي جعفر بن الجزار صحية أوجبت أن استدعاه من خدمة المعتصم بن صمادح ملك المرية، منفندا رأيه في ملازمة مدحه وتركه ملك بلاده (3) . وفي رسالته هذه إليه أعلن عن شعوبيته فذم العرب وافتخر بالعجم بني قومه، وأغلب الظن أن الجزار رد عليه، ونقض كلامه، ففسدت الصداقة بينهما حتى هجاه ابن غرسية بقوله:

بطرفة تعلم أصلا له

عربت فسلها فما تنكر

ومثل بها وضما مائلا

وشفرة جزر ولا أكثر

(1) المغرب 2: 406 - 407.

(2)

المغرب 2: 355.

(3)

المغرب 2: 408

ص: 171

تجر ذيول العلي تأثما

وجدكم الجازر الأكبر (1) ولم تكن رسالة ابن غرسية مثارا لرد الجزار الذي نقدر صدوره عنه بل رد عليه آخرون برسائل مطولة، ومنهم من كان من معاصريه ومنهم من جاء بعد عصره، فمن معاصريه - عدا الجزار - آبو جعفر احمد بن اللدودين ألب لنسي وابن من الله القروي سمي رده " حديقة البلاغة " وابن آبى الخصال، في رسالة سماها:" خطف البارق وقذف المارق في الرد على ابن غرسية الفاسق ". وممن رد عليه بعد زمن طويل آبو يحيى بن مسعودة في عصر الموحدين والفقيه آبو مروان عبد الملك بن محمد الاوسي وابن الفرس وعبد الحق بن فرج وأبو الحجاج اليلوي (2) وهنالك رد لمجهول نحسبه معاصرا لابن غرسية.

ويتجلى من هذا ان قيمة رسالة ابن غرسية في الأدب الأندلسي ليست قيمة في ذاتها وإنما هي بمقدار ما أثارته حولها من ردود، وتدل كثرة الردود من جانب واحد على رسالة واحدة، ان الشعور بالعروبة كان قويا في الأندلس على مدى الزمن، وان السند الشعوبي لم يكن على شيء من القوة الأدبية.

ويستهل ابن غرسية رسالته متهكما بابن الجزار " ذي الروي المروي، الموقوف قريضه على حللة أرش اليمن بزهيد الثمن، كأن ما في الأرض من إنسان إلا من غسان أو من آل حسان ". ويتهمه بأنه إنما انقطع

(1) في بعض المصادر ان اسمه " الجزار " ولكن هجاء ابن غرسية هذا يدل على ان " الجزار " هو الصواب.

(2)

انظر المجموعة الثالثة من نوادر المخطوطات 236 - 240، وقد نشر الأستاذ عبد السلام هارون رسالة ابن غرسية والردود عليها في هذه المجموعة اعتمادا على مخطوطة الاسكوريال، وقد راجعت هذه المخطوطة نفسها وهي التي يشار في المصادر باسم " رسائل اخوانية ".

ص: 172

لمدح الأمراء من العرب إزراء منه على " الصهب الشهب [الذين هم] ليسوا بعرب ذوي أينق جرب ". ولا يميز ابن غرسية في فخره بين مختلف العناصر غير العربية، فهو يفخر بالأكاسرة وبني الأصفر وبقومه أنفسهم ذوي الأرومة الرومية والجرثومة الاصفرية، ويفتخر بقدومهم وسري أنسابهم لم يحترفوا الحرف المهنية ويتجمد بشجاعتهم " إذا قامت الحرب على ساق وأخذت في اتساق " وانهم فخر النادي " شدهوا برنات السيوف وبربات الشنوف وبركوب السروج عن الكلب والفروج " ويذكر انهم ذوو نزعة أرستقراطية في ملبسهم ومسلكهم، فلا هم رعاة غنم، ولا غراس فسيل، وينسب إليهم العلوم الفلسفية، " ذوو الآراء الفلسفية الأرضية، والعلوم المنطقية الرياضية، كحملة الاسترولوميقي والموسيقى، والعلمة بالارتماطيقى والجومطريقى، والقوة بالالوطيقى والبوطيقى "؟.. " ما شئت من تدقيق وتحقيق، حبسوا أنفسهم على علوم البدنية والدينية، لا على وصف الناقة الفدنية ". ويصغر في مقابل ذلك من شأن العرب فينعتهم بأنهم رعيان يجلبون المواشي، حرفهم دنيئة، يهتمون بالخمر والقيان، يلبسون الخشن من الثياب، ويأكلون اردأ المطاعم. ولا ينسى في النهاية أن يفخر بالنبي العربي:" لكن الفخر بابن عمنا، الذي بالبركة عمنا، الإبراهيمي النسب، الإسماعيلي الحسب " ويقول: " بهذا النبي الأمي لفاخر من تفخر، وأكاثر من تقدم وتأخر، الشريف السلفين، والكريم الطرفين ". ويختم الرسالة بمثل ما بدأها به من الإنحاء على ابن الجزار لأنه لا يفقه وجه الصواب ويقول له: " فأذهب يا غث المذهب، وابتغ في الأرض نفقا، أو في السماء مرتقى، فهذه ألية جلبت عليك بلية ".

ونلحظ في أسلوب الرسالة أن ابن غرسية جعله مسجعا تتفاوت فقراته في الطول، حتى تختلف أحياناً كل سجعتين، وانه كان يبدأ اكثر فقراته فيها بكلمتين مسجوعتين، ثم يأخذ في التفصيل، كأن يقول: بصر صبر..

ص: 173

شمخ بذخ.. وضح رجح.. حلم علم.. " وهكذا، وبهذه الفواتح المزدوجة قيد الذين ردوا عليه واضطرهم إلى تناولها واحدة اثر واحدة. ومهما يكن من شيء فان السياق العام في هذه الرسالة يجعلها غريبة الوقع والموسيقى بالنسبة للنثر الأندلسي قي ذلك العصر.

ولما رد عليه ابن الدودين البلنسي، افتتح رسالته بالسباب فقال: خسأ أيها الجهول المارق، والمرذول المنافق، اين امك، ثكلتك أمك وما علمت انك سحبت من عقالك لعقالك، وقدمت أول قدمك، لسفك دمك، وبسطت مكفوف كفك لسلطان حتفك؟. " ويرى ابن الدودين أن غرسية لا يستحق الصلب، ويأسى على انه ليس في حضرته اقيال ورجال ذوو حمية ليعاقبوه على ما تورط فيه " لكنك بين همج هامج ورعاع مائج " ويهدده بأنه سيعيد عليه فسحة الأرض العريضة ضيقة، ويرده إلى قومه وهو محلوق القفا محتزم بالزنار.

ثم يأخذ في توجيه الأوصاف التي اسبغها ابن غرسية على قومه وصرفها عن مواضعها، فان كان قال فيهم:" رجح وضح " قال له ابن الدودين: " رجح الاكفال، وضح كذوات ربات الحجال "؟ وان قال: " علم حلم " وجه ابن الدودين هذا بقوله: " علم بالتداوي من القرم ومنافع القلم، حلم عن كل مجاوز الحلم ". ثم يذمهم بعدم الغيرة وإباحة الفروج، ويرد إليه المعايب التي الصقها بالعرب واحدة بعد واحدة. فإذا قال أن العرب حاكة برود اتهمه بأن قومه هم كذلك:" فناهيك من الغفارة الإفرنجية إلى الديباجة الرومية والنسبتان بذلك تشهدان "؛ وإذا عير العرب بسوء المطعم نفى ذلك وأردفه بقوله: " على ان لا افتخار في مشرب ولا في مطعم لعرب ولا لعجم ". وحتى يأخذ مأخذ الأنصاف يقر لهم بعلم الطبائع وينكر عليهم علم

ص: 174

الشرائع، ويصحح مفهوماته في بعض ما نسبه للعرب، وينزع عن قوم ابن غرسية صفات الفروسية التي الحقا بهم، ويضيفها إلى العرب:" مجالسهم السروج، وريحانهم الوشيح، وموسيقاهم رنات الردينيات، وطوبيقاهم السريجيات "، ويوغل في هذا إذ يجد مجال القول ذا سعة، ويختم رسالته بان يعيب ابن غرسية لانه جاهل كشف عورات آله الأعاجم بضعف نظره وقصور منطقه.

وعندها رد عليه ابن من الله القروي اظهر له فضل العرب حين ربته وليدا وعنيت بتخريجه وحسنت من ثقافته وعلمته اللغة التي بها يصول على العرب ويجول، وهذه مسألة لم يتنبه لها صديقه ابن الدودين في رده. ويحاول ابن من الله ان ينفذ إلى أمور دقيقة حين يذهب إلى ان ليس للسخاء بالرومية اسم ولا للوفاء في العجمية رسم، ويبتكر صفات مسجوعة لقومه العرب كالتي زعمها ابن غرسية لقومه من العجم، جاعلا صفاتهم مزدوجة في كلمتين فهم مثلا " سمر قمر ". ثم يتحدث عن بأس العرب وتغلبهم على الاكاسرة والقياصرة وعن غزو القسطنطينية ويجري مجرى ابن الدودين في توجيه الصفات التي ذكرها ابن غرسية لقومه وفي صرفها عن وجهها. فإذا قال ابن غرسية ان قومه " ملس لمس " قال ابن من الله:" انتم كما وصفت ملس لمس، لا تغيرون ولا تغارون، ولا تمنعون ولا تمتنعون، قلوبكم قواء، وأفئدتكم هواء، وعقولكم سواء، قد لانت جلودكم، ونهدت نهودكم، واحمرت خدودكم، تحلقون اللحى والشوارب، وتتهادون القبل في المشارب ". وواضح كيف ألح كل من الرجلين ابن الدودين وابن من الله على ناحية الغيرة وعلى غمز ابن غرسية في هذه الناحية غمزات لاذعة.

ويكاد ابن من الله يتفوق على صاحبه ابن الدودين في شدة التدقيق

ص: 175

والاستقصاء، وفي النفاذ إلى الأمور فيدل بذلك على قوة ملكه وسعة اطلاعه، إلا أنه حين يصل إلى الفخر بالعلم يسقط سقطة شديدة، إذ يقول:" وفخرت بالرياضية والأرضية، صدقت ونبت عني في الجواب، هي كالرياض سريعة الذبول، كثيرة الجفول؟. وكالأرض الأريضة، ذات العرصة العريصة؟ وأما الاسترلوميقي الهندسية، فعلم عملي مبني على التقاسيم والتراسيم، وكله آلات للحالات، وأدوات للذوات، ومساحات للساحات ". وإذ كان هذا العلم كذلك فهو في رأي ابن من الله علم أصحابه من العمال الممتهنين، والعرب بعيدة من المهنة. ولا يفرق القروي بين علم الهيئة وعرافة العرب، فيدعي أنه علم لهم فيه اليد الطولى، ويبين فضل العرب في معرفة الشهور والأيام وانهم جمعوا علم الطب في كلمتين، ثم يتحدث عن ميزتهم في الغناء واللحون ليثبت فضلهم في الموسيقى. " وأما الالوطيقى واللوطيقى فهنالك جاءت الأحموقى والاخروقى وظهر عجز القوم وبان أنهم أغمار ليس فيهم إلا حمار ".

ويبين هذا الموقف القائم على المناظرة افتتات كل فريق، وتحيله بشتى ضروب الحيل لتوجيه الأمور وجهة تلائم نظرته ومنطقه، وإذا كان من شيء في هذا الضرب من الجدل، فهو تنكبه جادة المنطق والذهاب مع التعميم والتمويه، والسفسطة واللجوء إلى الغمز واللمز والسباب المكشوف. وقد اصبح الموضوع معرضا لإظهار البراعة في الرد، حين تناوله الناس بعد عصر ابن غرسية، ومجالا للتجارب الأسلوبية، فأما ما عدا الرسالتين السابقتين فلا نتعرض له في هذا المقام لأنه يلحق بعصر آخر.

ص: 176

9 -

الأدب الأندلسي صدى النكبات الكبرى:

من حق هذا الفصل أن أصور فيه تمثيل الأدب الأندلسي لحركت التقدم في الأوضاع التاريخية هنالك قبل أن اذهب إلى تصوير الذي يمثل النكبات أو حالات التراجع. فأما سياق التقدم فأنه يظهر في متابعة الأدب للانتصارات والإشادة بجهود الأمراء في مواقف متعددة، ربما كان أبرزها المد الجهادي الذي طغى بقدوم المرابطين، والتضحيات التي بذلت في الزلاقة ولبيط، الا ان هذا النوع من الأدب - على ما فيه من روح موجبة مندفعة - قد اختلط بالمدح حتى خالط المدح فيه الروح والعصب وليس فيه من جديد في الروح الطريقة.

وخير صورة وأنبلها غاية في عصر الطوائف تلك الصورة التي نحس فيها دعوة إلى الوحدة وائتلاف الكلمة أمام الخطر المشترك، ولكن هذه النغمة ضعيفة في أدب ذلك العصر، وانا لنلمس صداها في رسالة صدرت عن قلم الكاتب أبي محمد بن عبد البر يقول فيها (1) :

" ورد كتابك يحض على ما أمر الله به تعالى من الألفة واتفاق الكلمة وإطفاء نار الفتنة، وجمع شمل الأمة، في هذه الجزيرة المنقطعة عن الجماعة، فلله رأيك الاصيل، وسعيك الجميل، ومذهبك الكريم، وغيبك السليم، ما صدق قيلك، وأهدى دليلك، واضح في سبيل البر سبيلك، وقد كنت علم الله جانحا إلى ما جنحت إليه، ويلوح لي ما يلوح إليك من أنا على طرف إلا ما كفى الله وعلى قلة إلا ما وقي الله ".

وهي رسالة رسمية، تعتبر قضاء لواجب الرد، ولم تكن دعوة تتجاوز

(1) الذخيرة: القسم الثالث (المخطوط) : 55.

ص: 177

هذا البيان. ولذلك نترك الجانب الذي يصور بعض مظاهر التقدم، لنتوجه نحو الأدب الذي يصور التراجع، فهو الذي يمثل الحقيقة التاريخية للأندلس اكثر مما يمثله النوع الأول، وهذا الأدب لا يعني إقرار اليأس دائما وإنما هو في الغالب صور حزينة تنجم عن كارثة أو نكبة، وهو في أحيان أخرى تنبيه وتذكير، ولسنا نستطيع ان نستوفي كل جوانبه ومظاهره، ولذلك اكتفى بعرض ما اتصل منه بالأحداث الأربعة الخطيرة التي ألمحت إليها في المقدمة، وهي سقوط بربشتر وسقوط طليطلة وسقوط بلنسية وذهاب دولة بني عياد.

وأولى تلك الكوارث سقوط بربشتر (456) على يد الاردمانيين (النورمانيين) وقد أثارت تلك الحادثة مشاعر الفقيه الزاهد ابن العسال، فصور في إحدى قصائده ما حل يومئذ تصويرا عاما من النوع المألوف المكرر في ذكر ضروب الفواجع التي نزلت بالناس (1) :

ولقد رمانا المشركون بأسهم

لم تخط لكن شأنها الاصماء

هتكوا بخيلهم قصور حريمها

لم يبق لا جبل ولا بطحاء

جاسوا خلال ديارهم فلهم بها

في كل يوم غارة شعواء

باتت قلوب المسلمين برعبهم

فحماتُنا في حربهم جبناء

كم موضع غنموه لم يرحم به

طفل ولا شيخ ولا عذراء

ولكم رضيع فرقوه من أمه

فله إليها ضجة وبغاء

لرب مولود أبوه مجدل

فوق التراب وفرشه البيداء

ومصونة في خدرها محجوبة

قد أبرزوها ما لها استخفاء

(1) الروض المعطار: 40 - 41.

ص: 178

وربما كان من الكثير أن نتطلب من ابن العسال إظهار تفاعله مع الحادثة، وتعدي المجال الخارجي في تصويرها، فقصيدته تدل على تنبه النفسي لمعنى النكبة، وهو يعرف موطن الداء حين يقول:" فحماتنا في حربهم جبناء ". ثم انه بحكم موقفه الزهدي الديني ينسب ما حل ببربشتر إلى ذنوب المسلمين وانهم لا يتورعون عن المجاهرة بالكبائر " فالذنوب الداء "؟ كما يقول - وهذه مشكلة تعترضنا كثيرا في الأدب الذي يمثل النكبات العامة.

وكان اشد الناس عارضة بالإلحاح على ما دهم تلك المدينة هو أبو حفص عمر بن الحسين الهوزني صديق عباد المستقل بأمر اشبيلية، وقد استأذن صديقه في سكنى مرسية، فلما حلت المصيبة بمدينة بربشتر، وكانت من أولى المصائب ذات الأثر البعيد في نفوس الأندلسيين، اخذ يراسل عبادا ويحثه على الجهاد والتنبيه للأمر الداهم. ومن رسائله إليه في هذا الشأن (1) :

أعباد حل الرزء والقوم هجع

على حالة من مثلها يتوقع

فلق كتابي من فراغك ساعة

وان طال، فالموصوف للطول موضع؟ وكتابي عن حالة يشيب لشهودها مفرق الوليد، كما يغبر لورودها وجه الصعيد، بدؤها ينسف الطريف والتليد، ويستأصل الوالد والوليد، تذر النساء أيامي، والأطفال يتامى؟ طمت حتى خيف على عروة الإيمان الانتقاض، وطغت حتى خشي على عمود الإسلام منها الانتقاض، وسمت حتى توقع على جناح الدين الانهياض؟ كأن الجميع في رقدة أهل الكهف، أو على وعد صادق من الصرف والكشف.

(1) الذخيرة - القسم الثاني (المخطوط) : 34.

ص: 179

أعباد ضاق الذرع واتسع اخرق

ولا غرب في الدنيا إذا لم يكن شرق " ومن فصول تلك الرسالة أيضا: " وما زلت اعتدك لمثل هذه الجولة وزرا، وادخرك في ملحها ملجأ وعصرا، لدلائل أوضحت فيك الغيب وشواهد رفعت من أمرك الريب، فالنهار من الصباح، والنور من المصباح ولئن كان ليل الفساد مما دهم قد اغدت جلبابه، وصباح الصلاح بما ألم قد أهابه، فقد كان ظهر قديما من اختلال الأحوال ما أيأس، وتبين من فساد التدبير ما ابلس، حتى تدارك فتق ذلك سلفك، فرتقه جميل نظرهم ورأبه، وصرفه مشكور أثرهم وشعبه ". ويبدو أنها رسالة طويلة، اكتفى ابن بسام بإيراد فصول مختارة منها، وكان جواب عباد عليها ان شجع الهوزني إلى بلده، وقتله بيده، إذ كان يخشى منافسته له في أمر السيادة. ولعل عبادا ظن ان حض الهوزني له على الجهاد لم يكن إلا نوعا من التوريط، فإذا حارب واخفق كسرت هيبته لدى ملوك الطوائف، وإذا لم يحارب كشف عن تقاعسه في الدفاع عن حوزة الدين.

ودخلت مشكلة بربشتر في طور " رسمي " فتناولها ابن عبد البر في " منشور " كتب على لسان أهل بربشتر ووزع على أنحاء الأندلس تعميما للشعور بالمشكلة واستنهاضا وتنبيها. وبعد التحميد يقول على لسانهم: " فأنا خاطبناكم مستنفرين، وكاتبناكم مستغيثين، وأجفاننا قرحى، وأكبادنا جرحى، ونفوسنا منطبقة، وقلوبنا محترقة "؛ ثم يحاول ان يستثير الهمم لنصرة بربشتر فيصف الفواجع التي حلت بها وبأهلها: " وذلك أنه أحاط بنا عدونا كإحاطة القلادة بالعنق، وحاربنا حتى ظفر بنا، فانا لله وانا إليه راجعون، على ما تراءت منا العيون، من انتهاب

ص: 180

تلك النعم المدخرات. وهتك ستر الحرم المحجبات، والبنات المخدرات، وما كشف من تلك العورات المستترات. فلو رأيتم؟ معشر المسلمين - إخوانكم في الدين، وقد غلبوا على الأموال والاهلين، واستحكمت فيهم السيوف، واستولت عليهم الحتوف، وأثخنتهم الجراح، وعبثت بهم زرق الرماح، وقد كثر الضجيج والعويل، ودماؤهم على أقدامهم تهيل، سيل المطر بكل سبيل، ورؤسهم قدامهم تطير، ولا مغيث ولا مجبر، وقد صمت الآذان بصراخ الصبيان ونياح النسوان وبكاء الولدان، وعلت الأصوات، وفشت المنكرات؟. وما ظنكم معشر المسلمين وقد سيقت النساء والولدان، ما بين عارية وعريان، قودا بالنواصي إلى كل مكان، طورا على المتون، وطورا على البطون، مقرنين بالحبال، مصفدين في السلاسل والاغلال، مقتادين في الشعور والسبال، ان استرحموا لم يرحموا، وان استطعموا لم يطعموا، وان استسقوا لم يسقوا، وقد طاشت أحلامهم، وذهلت أوهامهم؟. فيا ويلاه ويا ذلاه ويا قرآناه ويا محمداه ".

ويضرب ابن عبد البر على نغمة الوحدة والائتلاف في هذا المنشور حين يقول على لسان أهل بربشتر: " ولو كان شملنا منتظما، وشعبنا ملتئما، وكنا كالجوارح اشتباكا، وكالأنامل في اليد اشتراكا، لما طاش لنا سهم، ولا ذل لنا حزب، ولا فل لنا غرب، ولا روع لنا سرب؟ فتنبهوا قبل ان تنبهوا، وقاتلوهم في أطرافكم قبل ان يقاتلوكم في أكنافكم، وجاهدوهم في ثغوركم قبل أن يجاهدوكم في دوركم، ففينا متعظ لمن اتعظ وعبرة لمن أعتبر ".

ولقد ذهب رسالة ابن عبد كلاما يزجى فلا يجد سميعا، ولعل

ص: 181

المعتضد المشير بكتابتها - أو غيره ممن خدمهم هذا الكاتب بقلمه - أول من لم يحرك ساكنا في سبيل بريشتر، وإنما كان التنبيه سياسة المبادر للخروج من حيز الملامة، ثم تطوي الأيام كل فورة وتحيلها إلى همود، وتتجدد النكبات، فلا تذكر الوحدة والائتلاف والحذر من الخطر إلا عند الأزمات، وتتلاشى الأصداء كأنها لم تكن. وحين كانت مشكلة كنكبة بربشتر تدخل نطاق التداعي " الرسمي "، فقد دخلت منطقة اللؤم والمخادعة وتربص الواحد بالآخر، والتستر وراء الكلمات الغرارة.

ولأبي عبد الرحمن بن طاهر في هذه الحادثة نفسها رسالة يرد فيها على من كتب له يذكر ما جرى على بربشتر (1) :

" ورد كتابك بالخطب الأبقع، والحادث الأشنع، الجاري على المسلمين، نصر الله مقامهم. وجمع على الائتلاف مذاهبهم، في بربشتر، وكان صدرا في القلاع المنيفة، وعينا من عيون المدائن الموصوفة، إلى ما سبق قبل في القلعة القلهرية وغيرها من مهمات الدور والمعاقل، وخطيرات الحصون والمنازل، فأطارت الألباب، وطأطأت الرقاب، وصرم الأمل والهمم، وأسلم من المذلة والقلة إلى ما قصم، وأنك رأيت الحال في معرض جلائها للنواظر عيانا، ووصل بينها وبين الخواطر أسبابا واشطانا، فما شئت من دمع مسفوح مراق، ونفس مترددة بين لهاة وتراق، وأسى قد قرع حصيات القلوب فرفضها، وعدل عن مضاجع بالجنوب فأقضها؟ ".

وإنما أورد هذه الأمثلة لأقدم صورة عن ما أحدثته نكبة بربشتر من امتداد في الصدى والأثر، وذلك أنها كانت من أولى النكبات، فكان استعثار الخطر من جرائها كثيرا، هذا على أنها قد تكون حادثة صغيرة

(1) الذخيرة - القسم الثالث (المخطوط) : 28.

ص: 182

بالنسبة للأحداث التي تلت من بعد.

أما الكارثة الثانية فهي سقوط طليطلة (478) وهي من حيث نتائجها اعظم خطرا من سابقتها بكثير، وبها يرتبط التحول الخطير الذي تم في التاريخ الأندلسي فأدى إلى دخول المرابطين ثم إلى سقوط دول الطوائف واندثارها. وفي هذه الكارثة نعود فنسمع مرة أخرى صوت ابن العسال الزاهد، فطليطلة بلدة ومسقط رأسه ومنها أخرج عندما استولى عليها الروم، ولكن صوته في هذه المرة غريب اجش في الأسماع، لأنه بدلا من أن يبكي على ما حل ببلده، يحذر الأندلسيين من الإقامة في بلدهم ويدق لهم ناقوس الخطر، ويقول لهم: الرحيل الرحيل:

يا أهل أندلس حثوا مطيكم

فما المقام بها من الغلط

الثوب ينسل من أطرافه وأرى

ثوب الجزيرة منسولا من الوسط

ونحن بين عدو لا يفارقنا

كيف الحياة مع الحيات في سفط ولو كنا نحاسب ابن العسال حسب ظاهر كلامه لقلنا انه قد آثر موقفا انهزاميا، ودعا فيه قومه إلى الجلاء عن أوطانهم لأن طليطلة سقطت وهي في وسط البلاد، والثوب إذا نسل من وسطه فقد انتهى امره، ولكن هذا اللون السلبي من التعبير عن الحقيقة كان يومئذ مبالغة في التنبيه والتذكير.

وقد احتفظ لنا المقري صاحب النفح بقصيدة طويلة (72 بيتا) لشاعر لم يذكر اسمه يندب فيها طليطلة:

لثكلك كيف تبتسم الثغور

سرورا بعدما بئست ثغور

ص: 183

طليطلة أباح الكفر منها

حماها، إن ذا نبأ كبير

فليس مثالها إيوان كسرى

ولا منها الخورنق والسدير

محصنة محسنة بعيد

تناولها ومطلبها عسير

ألم تك معقلا الدين صعبا

فذلله كما شاء القدير وبعد ان يصور الشاعر انقلاب الأوضاع ويتفجع على ما أصاب الحرائر المصونات نراه وكأنما ينتدب نفسه للرد على تلك الأفكار التي كان يوردها ابن العسال، مثل قوله آن المصائب تحل بسبب الذنوب، فهذا الشاعر المجهول يقف عند هذه المسألة مترددا مشككا حين يقول:

فإن قلنا العقوبة ادركتكم

وجاءهم من الله النكير

فأنا مثلهم واشد منهم

نجور، وكيف يسلم من يجور

أنا من ان يحل بنا انتقام

وفينا الفسق أجمع والفجور ولا ينكر الشاعر العلاقة بين الذنب والمصائب، إلا انه يتخذ من الفكرة حافزا خلقيا لينبه الناس إلى ان ذنوبهم أيضا كثيرة، وأنها قد تجرهم إلى مصير مشبه لمصير آهل طليطلة. وبعد ذلك يهيب الشاعر بالناس للانتقام واخذ الثأر ويدعوهم إلى الموت؟ لا الهرب من ديارهم كما فعل ابن العسال:

وموتوا كلكم فالموت أولى

بكم من أن تجاروا أو تجوروا

أصبرا بعد سبي وامتحان

يلام عليهما القلب الصبور فإذا بلغ الحد تذكر ذل حكام الأندلس ذل حكام الأندلس بمداراتهم واصطناعهم للأذفونش ورهطه، وذل الناس الذين أعطوا الدنية ورضوا بالخنوع

ص: 184

للحاكم الأجنبي أما لفقر أو لحرص على رزق أو لاستهانة بأمور الدين:

تجاذبنا الأعادي باصطناع

فينجذب المخول والفقير

فباق في الديانة تحت خزي

تثيطه الشويهة والبعير

وآخر مارق هانت عليه

مصائب دينه، فله السعير ولذلك تراه يثور عارمة على اهل طليطلة أنفسهم الذين آثروا البقاء تحت الاشرقاق قائلين: اين نفر ولا أملاك لنا ولا دور، دعونا في مدينتنا فانها فاكهة طرية وماء نمير، وهؤلاء المحتلون أحمى لحوزتنا ونحن ندفع لهم الجزية:

كفى حزنا بأن الناس قالوا:

إلى اين التحول والمسير

أنترك دورنا ونفر عنها

وليس لنا وراء البحر دور

ولا ثم الضياع تروق حسنا

نباكرها فيعجبنا البكور

وظل وارف وخرير ماء

فلا قر هناك ولا حرور

ويؤكل من فواكهها طري

ويشرب من جداولها نمير

يؤدى مغرم في كل شهر

ويؤخذ كل صائفة عشور

فهم أحمى لحوزتنا وأولى

بنا وهم الموالي والعشير

لذهب اليقين فلا يقين

وغر القوم بالله الغرور

رضوا بالرق يا الله! ماذا

رآه وما أشار به مشير!! ومع أن الشاعر يتردى في هوة اليأس، ويرى الليل هما والنهار شرا مسيطرا إلا انه لا يفقد تفاؤله ورجاءه في النصر:

ونرجو أن يتيح الله نصرا

عليهم، إنه نعم النصير

ص: 185

تلك هي القصيدة، وهي في جملتها سهلة سائغة بارئة من التكلف والافتعال، وتعتمد البساطة والمراوحة بين الإثارة والتفجع والسرد القصصي، ولتعدد الوسائل الفنية فيها كانت حقيقة بالوقوف عندها، وقد خلت من زخارف الصور حتى كأنها في بعض أجزائها قطعة نثرية بسيطة وكأنها لالتزامها الواقع أحيانا " فقرة " تاريخية لا قصيدة.

ويجيء استيلاء الكنبيطور على بلنسية (487 - 495) ثالثا بين النكبات العدوانية التي منيت بها الأندلس. وقد أثارت هذه الحادثة مواطن بلنسية أبا عبد الله بن علقمة الصدفي (- 509) فدونها في تاريخ خاص، سماه " البيان الواضح في الملم الفادح " كتبه الناس عنه، وأفاد منه ابن الأبار في التكملة (1) ، وابن عذاري في البيان المغرب.

ولما استولى السيد على بلنسية، أحرق بعض الأشخاص من أهلها ومنهم القاضي ابن جحاف الثائر بها، وأحمد بن عبد الولي البتي الشاعر (- 488)(2) . ويقول فيه ابن الابار إنه كان كاتبا شاعرا بليغا مطبوعا كثير التصرف مليح التظرف قائما على الآداب وكتب النحو واللغة والأشعار الجاهلية والإسلامية؛ ولم يذكر سبب إحراق الكنبيطور له، ولعله من المحرضين عليه بشعره أو ترسله، أو لعله كان ذا صلة بابن جحاف.

وقد شهد أبو عبد الرحمن بن طاهر حال بلنسية أيام ثورة ابن جحاف فيها، ولك يكن راضيا تماما عن هذا الثائر، إذ كان ابن جحاف يظنه منافسا له، وعاش حتى شهد محنة بلنسية على يد السيد، وكان من الأسرى عام 488 ومنها كتب إلى بعض إخوانه يصف حال المدينة (3) :

(1) التكملة: 411.

(2)

التكملة: 24.

(3)

الذخيرة - القسم الثالث (المخطوط) : 29.

ص: 186

" فلو رأيت قطر بلنسية، نظر الله إليه، وعاد بنوره عليه، وما صنع الزمان به وبأهليه، لكنت تنديه وتبكيه، فلقد عبث البلى برسومه، وعدا على أقماره ونجومه، فلا تسأل عما في نفسي، وعن نكدي ويأسي ".

وعاش ابن طاهر هذا حتى استرجع أمير المسلمين مدينة بلنسية في شهر رمضان عام 495، فكتب رقعة إلى الوزير ابن عبد العزيز يذكر له أمر ذلك الفتح، ويحمد الله على استرجاعها (1) .

وممن تأثر لما حل ببلنسية ابن خفاجة، فقال يرثيها (2) :

عاثت بساحتك العدى يا دار

ومحا محاسنك البلى والنار

فإذا تردد في جناحك ناظر

طال اعتبار فيك واستعبار

أرض تقاذفت الخطوب بأهلها

وتمخضت بخرابها الأقدار

كتبت يد الحدثان في عرصاتها

" لا أنت أنت ولا الديار ديار " وأقدر أن قصيدة ابن خفاجة كانت اكثر أبياتاً، ولم يبق منها إلا هذه الأربعة، ذلك أن بلنسية كانت جزءا من معاهد الشاعر وعهوده وأم وطنه " شقر "، فلا بد ان يكون ضياع بلنسية قد حز في نفسه، ولذلك لم يكد يعلم أن النية معقودة على استرجاعها حتى غمره البشر والاستبشار، وهنأ نفسه بما سيحدث قبل حدوثه فقال (3) :

الآن سح غمام النصر فانهملا

وقام صغو عمود الدين فاعتدلا

ولاح للسعد نجم قد خوى فهوى

وكر للنصر عصر قد مضى فخلا

(1) الذخيرة - القسم (المخطوط) : 32.

(2)

المصدر نفسه: 32 وديوانه: 354.

(3)

ديوان ابن خفاجة: 208.

ص: 187

وبين النكبتين الثانية والثالثة؟ نكبة طليطلة وبلنسية - حدثت واقعة لا نعدها نكبة من سياق ما وصفناه، ولكن كثيرا من الأندلسيين عدها كذلك، ونعني بها انهيار دول الطوائف عامة ودولة بني عباد خاصة، وبما أن سائر دول الطوائف لم تحظ من بكاء الشعراء ونأسفهم على زوالها بسيء كثير (سوى مراثي ابن عبدون في بني الأفطس أصحاب بطليموس) ولما كانت دولة بني عباد هي التي استأثرت بأكثر الأسى والتفجع فلا بد من ان تقصر الحديث عليها:

لقد كان افول نجم المعتمد يمثل في نفوس طائفة كبيرة من الناس حقيقة المأساة اكثر مما تمثله النكبات المتلاحقة التي تخطفت المدن وزعزعت السيادة العربية عامة. وإذا تأملنا هذا الموقف وجدنا ان قصة انهيار " البطل " الحامي للأدب والشعر كانت أعمق أثراً في النفوس من سواها، إذا نحن حكمنا على ذلك من مدى الحزن في الشعر المتصل بها. ويبدو ان قصة " العزيز الذي ذل " كانت تثير العواطف اكثر مما تثيرها ضياع أجزاء عزيزة من الوطن، وما ذلك إلا لان الشاعر الأندلسي ربط " مقدراته " بالفرد الحامي، فلما فقد هذا الفرد أدركه اليأس الغالب. ولسنا ننكر الإخلاص في هذا الموقف ولكنا نريد أن نؤكد حقيقة هامة، وهي ان سقوط بربشتر أو بلنسية أو طليطلة لم يثر من الشعر والنثر فلا قدرا يسيرا إذا قسمناه إلى ما أثاره سقوط المعتمد، أي ان النكبة الجماعية لم تكن ذات تأثير عميق كالنكبة الفردية، لا من حيث الكم ولا من حيث النوع في الأدب المستثار. وربما لم نجد في الشعر الأندلسي عاطفة اعمق غورا وأشد لهبا عاطفيا من تلك القصائد التي قالها ابن اللبانة وابن حمديس وابن عبد الصمد في نكبة المعتمد.

ما السر في ذلك؟ هل هو تحدد الصلة بين الفرد الشاعر وراعيه

ص: 188

بحيث احتجت عن عينيه القيم الجماعية، كما احتجت عنه إمكان سقوط العظمة التي يستظل بظلها فلما تقلص الظل أصيب الشاعر " بضربة " المفاجأة الحادة؟ هل كان المعتمد رمزا للبطولة والفروسية والفتوة الكاملة فكان انهياره مأساويا لأنه كان يعني انهيار الرمز الكبير؟ هل أحس أولئك الشعراء انهم يودعون صورة " السيادة " العربية في الأندلس إلى الأبد؟ هل كان بكاؤهم على صاحبهم نفورا طبيعيا من السادة الجدد ونحن نعلم أن الشعراء الثلاثة تحاسوا سلطان المرابطين من بعد، ولم يتصلوا بهم؟ . لم لا نقول أن سقوط " العزيز "؟ الصديق - الراعي - الشاعر؟ يستدعي الأسى مثلما يستدعي الوفاء؟

وقد كان المعتمد نفسه كأحد هؤلاء الأوفياء في إحساسه بالتغيير المخيف الذي لحقه بعد السرير والصولجان، حين اصبح أسيراً مقيدا " وحمل في السيفين، وأحل في العدوة محل الدفين، تنبذه منابره واعواده، ولا يدنو منه زواره ولا عواده "(1)، فتمثل قصوره: المبارك والوحيد والزاهي ورأى التاج والنهر وكل ما ألفه في أيام ملكه تندبه وتبكيه، واستشهر الغربة والإذلال في كل خطوة، فسجل مشاعره الحزينة وهو يقارن بين حالتيه، وتخير اللحظات التي يحس الإنسان فيها بالبون الواسع بين معالم البهجة والأسى كأيام العيد، فصور ما آل إليه وما آلت إليه بناته من جوع وفقر (2) :

فيما مضى كنت بالأعياد مسرورا

فجاءك العيد في اغمات مسرورا

ترى بناتك في الاطمار جائعة

يغزلن للناس لا يملكن قطميرا

(1) القلائد: 23 - 24.

(2)

ديوان المعتمد: 100 - 101.

ص: 189

برزن نحوك للتسليم خاشعة

أبصارهن حسيرات مكاسيرا وعاش المعتمد ما بقى من عمره في مقارنة مستمرة بين ماضبه وحاضره من جميع الوجوه، وكان بالغ شجيا مؤثرا، فلا غرو أن يكسب نكبته طبيعة المأساة الحزينة بما نظمه حولها من شهر، وان يرى فيه الذين وفوا له صورة الانهيار الشامل وان يستمدوا من الحادثة عبرة كبرى عن تقلب الأيام.

ولعل ابن اللبانة أوضحهم وفاء فقد تتبع مصير المعتمد منذ نقله في السفينة إلى اغمات حتى وفاته بالمراثي الجياشة بالدموع، مما حدا بعض مترجميه أن يلقبه " سموأل الشعراء " والف في الدولة العبادية كتابا سماه " سقيط الدرر ولقيط الزهر ". ومن قصائده يصور كيف نقل بنو عباد في السفينة (1) :

نسيت إلا غداة النهر كونهم

في المنشآت كأموات بألحاد

والناس قد ملأوا العبرين واعتبروا

من لؤلؤ طافيات فوق ازباد

حط القناع فلم تستر مخدرة

ومزقت أوجه تمزيق ابراد

حان الوداع فضجت كل صارخة

وصارخ من مقداة ومن فادي

سارت سفائنهم والنوح يصبها

كأنها إبل يحدو بها الحادي

كم سال في الماء من دمع وكم حملت

تلك القطائع من قطعات أكباد وقد تمثل هذه القطعة صورة خارجية للمنظر الحزين دون أن تعبر إلا قليلا عن الحزن الذاتي لدى ابن اللبانة، ولكن هذه الطريقة

(1) القلائد: 23.

ص: 190

غالبة في طلب الإثارة بتعريض القارئ نفسه لتصور موقف الحزن، هذا إلى ان الحزن الذاتي كامن في كلماتها.

وقد يجنح ابن اللبانة إلى المبالغات العامة، ولكنه يمنحها جزالة قوية يغلف بها حزنه العميق في مثل قوله (1) :

انفض يديك من الدنيا وساكنها

فالأرض قد أقفرت والناس قد ماتوا

وقل لعالمها قد كتمت

سريرة العالم العلوي أغمات

طوت مظلتها لا بل مذلتها

من لم تزل فوقه للعز رايات

من كان بين الندى والبأس انصله

هندية، وعطاياه هنيدات غير ان اللحن العام فيها مشبع أيضا بالحزن وكأنما هو ينش بالدموع ومهما تكثر هذه المبالغات في شعره فأنها لا تفاجئنا بالتكلف، لشدة كلفه بهذا الموضوع وإخلاصه الدفين له، ولن نطيل في إيراد أمثلة كثيرة من شعر ابن اللبانة فأنها وافرة، ويكفينا أن نعرض لمثلين آخرين يدلان على وفاء ابن عبد الصمد وابن حمديس.

أما أبو بكر ابن عبد الصمد فانه زار قبر المعتمد في يوم عيد " فطاف بالقبر والنزمه، ثم خر على تربه ولثمه وأنشد قصيدته الدالية "(2) :

ملك الملوك أسامع فأنادي

أم قد عدتك عن السماع عوادي

لما خلت منك القصور ولم تكن

فيها كما قد كنت في الأعياد

أقبلت في هذا الثرى لك خاضعا

وتخذت قبرك موضع الإنشاد

قد كنت أحسب ان تبدد أدمعي

نيران حزن أضرمت بفؤادي

(1) القلائد: 29.

(2)

القلائد: 31.

ص: 191

وتذكر ابن عبد الصمد ذلك المجد الزائل، وبكاه بدموع مخلصة في مطولته هذه " فانحشر الناس إليه وأجفلوا، وبكوا لبكائه وأعولوا، وأقاموا أكثر نهارهم مطيفين به طواف الحجيج، مديمين البكاء والعجيج "(1) .

ويشبه ابن حمديس صديقيه هذين في شدة الحزن واللوعة على صاحبه وولي نعمته. إلا انه يفترق عنهما في شيء من التأميل العابر، والتفاؤل العارض الذي كان ينظر به إلى مأساة المعتمد، فهو يعزيه بما يصيب الأسد حين تحبس ويقول:

وقد تنتخي السادات بعد خمولها

وتخرج من بعد الكسوف بدور إلا انه لا يلبث أن ينسى؟ عند نهاية القصيدة - هذا الشهور بالتفاؤل، ويحس ان حادثة المعتمد تعني نوعا من دنو القيامة:

ولما رحلتم بالندى في أكفكم

وقلقل رضوى منكم وثبير

رفعت لساني بالقيامة قد أتت

ألا فانظروا هذي الجبال تسير (2) وكلا الشاعرين، ابن اللبانة وابن حمديس، تصور القيامة ونهاية " العالم السفلي " في حادث المعتمد، ولم يكن هذا محض مبالغة شعرية، بل هو ذو دلالة على طبيعة استشعارهما للتغير المفاجئ؟ الذي لم يكونا يتوقعانه - فأصابهما بهزة نفسية عنيفة،. وقد وقف ابن حمديس مرة أخرى عند هذا المعنى في أول قصيدة رثى بها المعتمد " وهو حي "؟ " فانك حي تستحق المراثيا " فقال:

(1) القلائد: 31.

(2)

ديوان ابن حمديس: 267 - 168، والقصيدة جواب على قصيدة المعتمد مطلعها " غريب بأرض المغربين أسير ".

ص: 192

أقول واني مهطع خوف صيحة

يجيب بها كل إلى الله داعيا

أسير جبال وانتثار كواكب

دنا من شروط الحشر ما كان نائيا ولكن ما حسبه هذان الشاعران الوفيان من " أشراط الساعة " لم يكن إلا تحولا صغيرا في تاريخ الناس. نعم مات المعتمد الذي استحق الرثاء وهو حي، ثم انصرف كل واحد منهما يطلب من جديد في ظل ممدوح جديد، لا من نسيان أدركهما وإنما هي طبيعة الحياة الإنسانية، تعثر بالموت لتجدد وتمضي في طريق الاستمرار. فأما ابن حمديس فلجأ إلى زيري بأفريقية، وأما ابن اللبانة فانحاز إلى مبشر ابن سليمان صاحب ميورقة. وبينما كان هذان الشاعران يذرفان الدموع على الصديق المحبوب كان شعراء آخرون يرحبون بالسلطان المرابطي في قصائد تحمل كل معاني الفرحة والاستبشار والشماتة معا. ولكن هذا الشعر الرومنطيقي الذي وقف يحيي العظمة الزائلة سيظل أقوى صورة حزينة في الأدب الأندلسي أثارها الوفاء لا الرجاء، وبعثتها صدمة الموت لا انفتاح الحياة! ولقد كانت المشكلة التي تلح على خيال الفرد الأندلسي بقوة الوضع الإنساني عامة والوضع الأندلسي القلق على حافة التغير والتشرد والموت، هي مشكلة المصير النهائي. وفي هذا المجال قدم الأدب الأندلسي نماذجه الكبرى من مراث متفلسفة وبكاء على المدن الزائلة، وتوجع للعظمة المندثرة، والصداقة المتلاشية، والجمال الآيل إلى نضوب.

10 -

وصف الطبيعة:

كان وصف الطبيعة في العصر السابق نوعا من الاحتذاء لبعض أشعار

ص: 193

المشارقة، ولكن الأندلسيين تميزوا بالإكثار من وصف الأزهار، حتى ألف حبيب الحميري كتابه " البديع في وصف الربيع " يحدوه إلى ذلك إهمال أهل بلده في تسجيل شعرهم وجمعه، وشيء من سأم لما قرأ في هذا الباب من أشعار المشارقة، واعجابه بالتشبيهات التي تمت لأهل بلده، في مدى قصير من الزمان، إذا قيس بعمر الشعر في المشرق؛ وقد عاش حبيب في عصر المعتضد بن عباد، وتوفي وهو ابن اثنتين وعشرين سنة فهو يمثل الفترة السابقة مثلما يمثل أوائل عهد الطوائف. وترتيب كتابه يدلنا على الاتجاه العام الذي سلكه شعر الأندلس؟ حتى عهده - في وصف الطبيعة. فالفصل الأول فيه يتناول موضوع وصف الربيع عامة، والثاني: ما فيه وصف لعدة أزهار، وفي هذا الفصل تتجلى القضية التي أثارها ابن الرومي في المفاضلة بين الأزهار. ولحبيب نفسه رسالة يرد فيها على ابن الرومي، في تفضيل البهار على الورود؛ ثم قطع في تفضيل الخيري على البنفسج، أما الباب الثالث فمخصص للقطع التي تختص كل واحدة منها بنوع واحد من النوار كالآس والياسمين والنيلوفر ونور اللوز ونور الباقلاء والكتان وهكذا.

ويتجلى من القطع التي حشدها حبيب أنا لم تنظم خصيصا لوصف الطبيعة، وإنما كان بعضها مقدمة لقصيدة المدح، وكان بعضها محض صورة اجتزئت من قصيدة طويلة. فمن وصف الربيع في مقدمة قصيدة مدح قول ابن الابار؟ وغرضه التخلص لمدح الحاجب - (1) .

لبس الربيع الطلق برد شبابه

وافتر عن عتباه بعد عتابه

ملك الفصول حبا الثرى بثرائه

متبرجا لوهاده وهضابه

(1) البديع: 24.

ص: 194

فأراك بالأنوار وشي بروده

وأراك بالأشجار خضر قبابه

أمسى يذهبها بشمس أصيلة

وغدا يفضضها بدمع حبابه

عقل العقول فما تكيف حسنه

وثنى العيون جنائبا بجنابه

بالحاجب المأمول أضحك ثغره

فرحا وأنطلق جهرنا بصوابه ومثل هذه القطعة قطع أخرى كثيرة نكتفي منها بقطعة مرحة الوزن للوزير ابي عامر بن مسلمة جعلها مقدمة لقصيدة في مدح القاضي ابن عباد (1) :

وروضة مشرقة

بكل نور مجتنى

فبها بهار باهر

ونرجس يشكو الضنى

وياسمين أرضه

ونوره تلونا كاليل مخضرا ولكن بالنجوم زينا

فاجتن وردا واردا

وسوسنا ملسنا

وحوله نيلوفر

فتنة ران إن رنا

تجاله مضاربا

من المها تروقنا

والآس آس كاسمه

بنوره قد حسنا

تنويره جواهر

من غير بحر تقتني

وحبه من سبج

أو سندس قد لونا وقد بدا فيها البنفسج الندي الغض الجنى

وأرضه مطاف

خضر أتتنا بالمنى

طابت بطيب ماجد

فاق سناء وسنا ويرى حبيب ان هذه القطعة " تضمنت من تشبيهات غريبها ومن الصفات

(1) المصدر نفسه: 38.

ص: 195

عجيبها ". وتدل هذه القصائد مجتمعة على قيمة اتخاذ وصف الطبيعة " مقدمة " فحسب في القصائد بدلا من الغزل التقليدي، ويبدو ان الأندلسيين أكثروا منها حتى عصر حبيب، وكانوا يجدون التشجيع من الممدوحين أنفسهم، فان حبيبا نفسه أنشد المعتضد قصيدة ضادية يحاكي بها قصيدة للفقيه أبي الحسن بن علي في الموضوع نفسه، فلما سمعه المعتضد أمره ان يحضر أبا بكر بن القوطية صاحب الشرطة، وأبا جعفر ابن الأبار وأبا بكر بن نصر وأمرهم بمعارضتها (1) . وعرف الوزير الكاتب أبو الأصبغ بما حدث فصنع شعرا على الهيئة تلك في معناه وغرضه واتصلت المعارضة من واحد إلى آخر. وهذه " السلاسل " مألوفة في الأدب الأندلسي: قصيدة واحدة تثير عدة معارضات، أو رسالة تثير عدة رسائل، أو كتاب يستدعي كتبا تذيل عليه.

ولم يقتصر هذا الميل الحضري للأزهار على الشعر بل شمل الرسائل النثرية، فكتب أبو حفص ابن برد رسالة إلى أبي الوليد بن جهور يصف فيها خمسة أصناف من النواوير، وغرضه تفضيل الورد بينها. وكانت رسالته تمثل " مجمعا " ضم هذه النواوير وهي بعد الورد: النرجس الأصفر والبنفسج والبهار والخيري النمام. ومن الطريف في هذه الرسالة ان قام كل نور بعد ما سمع كلام الورد فاعترف له بالأفضلية، وأقر على رأسه بالتأخر، ثم اتفقت الأزهار جميعا على ان تكتب له كتابا وتضع عليه توقيعاتها ليحمل عنها إلى الناس في كل مكان، وأدى كل واحد شهادته ووقع تحتها. ولما اطلع حبيب نفسه علة هذه الرسالة أحب ان يحاكيها فجعل المجلس يجمع بين سبعة أنواع من الزهر، وغايته

(1) المصدر نفسه " 42.

ص: 196

تفضيل البهار على الورد، معارضا بذلك ابن برد، وأربى عليه في الحوار؛ وهكذا نقل المتأدبون الأندلسيون صورة الديوان السلطاني إلى الطبيعة، فوضعوا لها قيودا من رسوم الحضرة ومجلس الجماعة، ومنحوها صفة رسمية قليلة الحركة. أما القطع الشعرية والنثرية التي كتبوها للمفاضلة بين نور ونور، وأحدهم يرد فيها على الثاني، فقد امتحنوا بها مقدرتهم الجدلية، واتخذوا من الطبيعة موضوعا للجدل بدلا من ان يكون جدلهم حول شؤون العقيدة اذ كانت المناظرات في امور العقيدة مظنة خطر، وما زال شأنها ضعيفا حتى ظهور ابن حزم. وكانوا في الحالين برضون لديهم ميلا عقليا أكثر من توفرهم على إقامة الصلة العاطفية بينهم وبين المنظر الجميل.

وأما المقطعات القصيرة التي نظموها في وصف صنوف الأزهار فبعضها يمثل " بطائق " المهاداة بين الأصدقاء، وليس لديهم من غاية فيها سوى طلب " الصورة " المبتكرة، وأكثر صورهم تأخذ مأخذ الجمود كقول القاضي ابن عباد في وصف الياسمين (1) .

وياسمين حسن المنظر

يفوق في المرأى وفي المخبر

كأنه من فوق أغصانه

دراهم في مطرف أخضر ولسنا نجد بين تلك القطع كثيرا مما يماثل هذا المزج العاطفي الذي اتبعه الرمادي في وصف طبق ورد قدم له عندما نزل على بني أرقم بوادي آش وكان الفصل شتاء فاستغرب وجود الورد حينئذ وأخذ واحدة وقال بديهة (2) .

يا خدود الورد في إخجالها

قد علتها حمرة مكتسبة

(1) المصدر نفسه: 122.

(2)

المصدر نفسه: 122.

ص: 197

اغتربنا أنت من بجانة

وانا مغترب من قرطبة

واجتمعنا عند إخوان صفا

بالندى أموالهم منتبه

إن لثمي لك قدامهم

ليس فيه فعلة مستغربة

لاجتماع في اغتراب بيننا

قبل المغترب المغتربه ففي هذه القطعة تحدث الرمادي عن المشاركة العاطفية بينه وبين الوردة، وجعل للورد حياة " مشخصة "، والمعنى مألوف معروف رأيناه في قطعة لعبد الرحمن الداخل تحدث فيها إلى النخلة ولكن هذا اللون بعد من أعمق تلك البواكير في شعر الطبيعة في الأندلس. وواضح ما تشكوه قطعة الرمادي من خشونة الاستعمال اللفظي، ولكن قوله لها على البداهة قد يغفر لها هذا العيب، غير أنه استطاع أن يربط فيها جانبي العمق العاطفي القائم على اغترابه واغتراب الوردة؟ وهي غربة مكانية لدى كل منهما -، وقد كان الرمادي قادرا على تقوية المقارنة لو انه لمح ما تعانيه الوردة من غربة زمنية، فهي ناشئة في غير أوانها منفردة عن رفيقاتها بنات الربيع. وحين وصف منتدى بني أرقم وجعله ملتقى " إخوان الصفاء " والوردة تشاركهم سماحتهم واخوتهم فقد وفق إلى إبراز الوحدة العاطفية، ومن هذا المعنى الأخوي استخرج صورة اللثم لا الشم فأضاف إلى رابطة الاخوة عمق اللهفة والشوق.

وقد كان الشعور بهذه الغربة الجزئية هو مثار هذه المقطوعة ولكن الغربة المستمرة هي التي أثارت ابن حمديس إلى أن يقول حين رأى النيلوفر (1) :

ونيلوفر أوراقه مستديرة

تفتح فيما بينهن له زهر

(1) ديوان ابن حمديس: 185.

ص: 198

كما اعترضت خضر التراس وبينها

عوامل أرماح أسنتها حمر

هو ابن بلادي كاغترابي اغترابه

كلانا عن الأوطان أزعجه الدهر ويبدو أن الغربة الجزئية كانت أقوى أثراً من هذه المشاركة التي رسمها ابن حمديس، وما ذلك إلا لأن ابن حمديس استنفذ معني الغربة في بكاء الوطن، فليست وقفته عند معنى الغربة أمام النيلوفر إلا وقفة عابرة. وعلى هذا فإذا قارنا قطعته هذه بقطعة أخرى له يصف فيها انيلوفر أدركنا قيمة الشعور الذاتي في إحياء الطبيعة لا في تمجيدها (1) :

كأنما النيلوفر المجتنى

وقد بدأ للعين فوق البنان

مداهن الياقوت محمرة

قد ضمنت شعرا من الزعفران ولا نعد ابن حمديس من شعراء الطبيعة ولكنه كان شاعرا وصافا بالمعنى العام الذي يفهمه الناس في عصره، وأكثر وصفه قائم على طلب معنى مولد أو مجدد، ويأتي المنظر الطبيعي عنده تتمة لمجلس الشراب، كما في قوله (2) :

في حديق غرس الغيث به

عبق الأرواح موشي البطاح

أرضع الغيم لبانا بأنه

فتربت فيه قامات الملاح

كل غصن تعتري أعطافه

رعدة النشوان من كأس اصطباح

فكأن الترب مسك أذفر

وكأن الطل كافور رباح

وكأن الروض رشت زهره

بمياه الورد أفواه الرياح وقيمة هذه الأبيات؟ بعد موسيقاها الجميلة - في أن كل بيت يمثل

(1) المصدر نفسه: 77.

(2)

ديوان ابن حمديس: 490.

ص: 199

صورة على حدة، لتمثل كلها في النهاية شغفا خاصا بالجو المعطر. ومما اعتقد أنه من قصائده الأندلسيات، قصيدة له مطلعها (1) :

نشر الجو على الأرض برد

أي در لنحور لو جمد فقد أوجد المشابهة بين البرد والدر، ثم أخذ يحلل هذا المعنى في عدة أبيات لاحقة، فزعم أن هذا الدر لؤلؤ وان أصدافه هي السحب، وانها منحته منحة دون تعب، إذ أن المعروف عن اللؤلؤ انه لا ينال إلا بالغوص، وفي ذلك ما فيه من النكد، وخيلت الصورة للغيد أنها ترى لؤلؤا حقيقيا، فكادت تتسارع إلى لقطة، كي تحلي أجيادها، وهي حالية بما وهبها الله من غيد طبيعي، ثم إن البرد ذاب فتلقته الأرض بخدها، لأنه سقط من عيون السماء، فأخذ يجري في سيول كأنها ثعابين تتطارد متسابقة، وامتلأت به الغدران فأخذ يعلوها الزبد كأنه قوارير سابحة. والشيء الجديد في هذا المنظر هو متابعة الصورة في اتساق كامل حتى يصل بها الشاعر إلى غايتها وفي أثناء ذلك يتمحل ضروبا من التعليل والتخيل والتوليد:

لؤلؤ أصدافه السحب التي

انجز البارق منها ما وعد

منحته عاريا من نكد

واكتساب الدر بالغوص نكد

ولقد كادت تعاطى لقطة

رغبة فيه كريمات الخرد

وتحلي منه أجيادا إذا

عطلت راقتك في حلي الغيد

ذوبته من سماء أدمع

فوق أرض تتلقاه بخد

فجرت منه سيول حولنا

كثعابين عجال تطرد

وترى كل غدير متاق

سبحت فيه قوارير الزبد

(1) المصدر نفسه: 77.

ص: 200

فإذا انتهى ابن حمديس من صورة البرد انتقل إلى صورة البرق، ثم إلى صورة النبت في المروج، ثم صور تنبه الصبح وطلوع الشمس، فأعلى للمنظر عمرا يمتد من ابتداء سقوط البرد حتى تفتح النهار، وغايته من كل ذلك إظهار براعته في الرسم، ولا شيء سوى ذلك. أي ان المنظر الطبيعي لم يعد عنده فاتحة لموضوع كالغزل أو وصف الشراب بل أصبح موضوعا مستقلا ترسم أجزاءه على التوالي واحدا اثر آخر.

ولم يكن هذا الاتجاه هو الغالب على شعر الطبيعة في عهد الطوائف ولعل ابن حمديس إنما جرى به شوطا إذ طاع له النسق الموسيقي الجميل وشيء من التوليد في الصور والمعاني. وهناك اتجاه قوي آخر يوازيه وفيه تصبح الزهرة أو المنظر الطبيعي أداة للتذكر، وقد أكثر منه شعراء الغزل وبخاصة أبو عبد الله ابن السراج المالقي شاعر بني حمود، فقد كان هو وصاحبه أبو علي ابن الغليظ يرتادان الأماكن الجميلة وينظمان الأشعار، وكان المالقي مفتونا بجارية تدعى أزهر، وبأخرى تدعى " حسن الورد ". وحدث ابن الغليظ أنهما كانا يوما على جرية ماء، في موضع حسن يحار فيه الطرف، وكان يهيجه للقول فقال (1) :

شربنا على ماء كأن خريره

خرير دموعي عند رؤية أزهر

حلفت بعينيها لقد سفكت دمعي

بأطراف فتان وألحاظ جؤذر وورد عليه يوما رسول " حسن الورد " ومعه قفص فيه طائر يغرد فأقرأه سلامها ورفع إليه القفص هدية منها، وجلس هو وصديقه يتحدثان عنها، وبين أيديهما ورد كثير نضير معلق من أغصانه، فقال:

(1) الذخيرة 1⁄2: 363.

ص: 201

ذكرت بالورد حسن الورد منبته

حسنا وطيبا وعهدا غير مضمون

هيفاء لو بعت لرؤيتها

بساعة لم أكن فيها بمغبون

كالبدر ركبه في الغصن خالقه

فما ترى حين تبدو غير مفتون

فاشرب على ذكرها خمرا كريقتها

وخصني بهواها حين تستني ويتبدى لنا هنا كيف أصبحت الصورة " لمحة " يسترسل بعدها الشاعر في تذكره وحنينه ووصف وجده وأشواقه، ولكن هذا المزج بين الغزل والمنظر والطبيعي اتجاه يشبه المزج بين الطبيعة والخمر، وإذا قارنا هذه اللمحات الخاطفة لدى المالقي بقصيدة لابن زيدون وجدنا ان المنظر الطبيعي دخل بقوة بناء الغزل الأندلسي وذلك في قصيدته (1) :

إني ذكرتك بالزهراء مشتاقا

والأفق طلق ووجه الأرض راقا

وللنسيم اعتلال في أصائله

كأنما رق فاعتل إشفاقا

نلهو بما يستميل العين من زهر

جرى الندى فيه حتى مال أعناقا

والروض عن مائه الفضي مبتسم

كما حللت عن اللبات اطواقا

كأن أعينه إذ عاينت أرقى

بكت لما بي فسال الدمع رقراقا

يوم كأيام لذات لنا انصرمت

بتنا لها حين نام الدهر سراقا فهذا التوازي بين منظر الطبيعة الضاحك المشرق وحال الحزين قد زاد في عمق المفارقة، ولم ينجح في اثارة الطبيعة للعطف على حاله حين ذكر اعتلال النسيم وتخيل بكاء الزهر بماء الندى إشفاقا ومشاركة له، لأنه أمعن في تصوير الاستبشار والنمو والتفتح في جنبات الطبيعة. غير انه وفق حين جعل من هذا المنظر الفريد صورة للماضي في ظل المحبوبة

(1) ديوان ابن زيدون: 139.

ص: 202

" يوم كأيام لذات انصرمت " فكفل بذلك تحقيق المقارنة بين الماضي الذي جاء بكل شيء جميل والحاضر الذي جاء أيضاً بكل شيء جميل لولا غيابها:

لو كان وفى المنى في جمعنا بكم

لكان من أطيب الأيام أخلاقا وقد ارتفع ابن زيدون في هذه القصيدة التي جلا فيها المنظر الطبيعي والعلاقة القائمة بينه وبين ماضيه على اللمحات التذكرية التي عالجها المالقي في مقطعاته الكثيرة، ومضى بالمزج بين الطبيعة والحب في إسهاب. إلا أن ابن زيدون لم يكن من شعراء الطبيعة، إذ لا نجد في ديوانه مواقف أخرى مشبهة لهذا الموقف في هذه القصيدة المتقدمة.

من ثم نرى كيف أصبح المنظر الطبيعي كالقاعدة أو " العامل الكيميائي المساعد " في القصيدة الأندلسية، فهو فاتحة القصيدة أو أساس يبنى عليه موضوع الخمر أو موضوع الحب، ولكن عنصر التشخيص فيه ظل ضعيفا؛ واستغله الوصافون وكتاب المقامات والتراجم وجعلوه قاعدة في السرد لا يقوم المنظر أو المقامة أو الترجمة دون وجوده، وأسرف الفتح ابن خاقان في هذا كل الإسراف حتى طغى المنظر الطبيعي على اكثر حكاياته في تراجم القلائد والمطمح، ونمثل على طريقته بقطعة نموذجية منه:" وأخبرني أنه دخل عليه في دار المزينة، والزهر يحسد إشراق مجلسه، والدر يحكي اطراد تأنسه، وقد رددت الطير شدوها، وجددت طربها وشجوها، والغصون قد التحفت بسندسها، والأزهار تحيي بطيبها تنفسها، والنسيم يلم بها فتضعه بين اجفانها، وتودعه أحاديث آذارها ونيسانها "(1) ومثل هذا كثير في نثر الفتح، وعلى هذا

(1) القلائد: 9.

ص: 203

أصبحت الاستعارة المستمدة من الطبيعة هي " ملكة " الاستعارات في الإنشاء النثري عند ابن خاقان وغيره من الكتاب.

وكأنما كانت هذه المظاهر من صلات بين الشعراء والطبيعة مقدمة لأبي إسحاق ابن خفاجه (451 - 533) شاعر الطبيعة الأول في الأندلس وغيرها، في أدبنا العربي، فقد كانت مهمة هذا الشاعر تكثيف كل تلك المظاهر التي رأيناها موزعة عند الآخرين، فوصف لطلب الصورة، واتخاذ للطبيعة قاعدة للغزل والذكرى، وإجلال للاستعارة المستمدة من الطبيعة محل غيرها من استعارات، ووقوف عند المنظر الطبيعي لرسمه كله جزءا جزءا بغية الرسم.

إلا أن دور ابن خفاجة لم يقف عند هذا الحد إذ زاد في التشخيص وفي الرابطة العاطفية بينه وبين الطبيعة واعتمد وسائل فنية جديدة متصلة بملكات خاصة لديه، ولم يكتف بأن يربط الطبيعة بموضوع الحب ومجلس الخمر، بل ربطها بكل موضوع، وجعلها المتكأ الذي يستند إليه القول الشعري عامة: ربطها بموضوع الرثاء أولاً، ثم بموضوع الفناء والزهد عامة فبعث فيها المعاني الحزينة وتحدث إليها وتحدثت إليه، في صمتها أو حركتها، بمعاني العبرة؟ وإذا صدقنا التقدير نقضنا على أنفسنا القول بأنه شاعر الطبيعة وقلنا إنه كان يرى الطبيعة في إطار الفناء، وضمن إحساسه بالتغير، وحسه الدقيق بالصراع بينه وبين الزمن.

ولكن قبل ان نأخذ في تفسير هذا المظهر الكبير في تاريخ الشعر العربي نعود إلى حقائق أولية ضرورية لفهم شخصية ابن خفاجة وموقفه العام ونظرته إلى الحياة:

أما أولاً: فلا بد من أن يلتفت دارس حياة ابن خفاجة إلى تلك

ص: 204

الأخبار ذات الطابع الفريد في تصوير شخصيته، ومنها انه كان يغادر أحيانا منزله بجزيرة شقر وحيدا، ويمضي حتى إذا صار بين جبلين هناك وقف يصيح " يا إبراهيم، تموت! " فيردد الصدى كلماته، ثم يعيدها ويعود الصدى إلى ترديدها ويظل على هذه الحال حتى يخر مغشيا عليه (1) . وهذا يؤكد لنا موقفا " مرضيا " في خوفه من الموت وفي إحساسه بالزمن. ومن هذه المظاهر النفسية انه كان يذهب في جزيرة شقر إلى بائع الفاكهة فيساومه على شراء شيء مما عنده فإذا سمى له البائع عددا أو وزنا لفاكهة معينة نقده ما طلبه على شريطة أن ينتقي ما يريده بيده؟ أي لم يكن يرضى بشيء دون الانتقاء والاصطفاء، ولهذا فلا بد من أن يربط الدارس بين هذه الظاهرة وطبيعة شعره في مجموعه العام. وأمر آخر أحسبه ذا دلالة بعيدة في وضعه النفسي، وأعني بذلك انه ظل صرورة لم يتزوج قط (2) . ولعلني أربط هذه الحقيقة بموقف دقيق ورد في إحدى قصائده (3) ، وذلك هو تغزله في أمة له صغيرة تسمى عفراء، وفيها يتحسر انه أصبح ابن إحدى وخمسين سنة، وبينه وبين ان تكبر عفراء مدة من الزمان يغدو فيها عاجزا عن ذلك الخشف، أي يصبح امرءا لا يستطيع أن " يأكله عضا ويشربه لثما "؟ كما يقول في بعض شهره - ويتمنى:

فيا ليتني كنت ابن عشر وأربع

فلم أدعها بنتا ولم تدعني عما ولا ريب في أن الدارس النفسي يفيد كثيرا من هذه الحقائق، كما

(1) بغية الملتمس: 202.

(2)

التكملة: 143.

(3)

ديوان ابن خفاجة: 81.

ص: 205

يفيد منها من يتأمل في شعر ابن خفاجة وصورة عامة.

وأما ثانيا: فان ابن خفاجة نشأ في عهد ملوك الطوائف فلم يمدح أحداً منهم وليس له في ديوانه إلا قصيدة واحدة في المعتصم ابن صمادح، وانه تذوق في حياته معنى الاكتفاء بصيغة كانت له يومئذ، حتى إذا أقبل عهد المرابطين وجدنا شعره يستفيض في مدحهم وتذكيرهم بأمره، وهو يتشبت بالبارزين من رجالهم. وفي هذا نجد في حياته مرحلتين: أولاهما توفره على المجون وحياة اللهو وتفترن هذه الفترة بالابتعاد عن ذوي السلطان، والثانية فترة توبته ونسكه، وهذه تتسم بشيء من إحساسه بالضعف البشري وتعلقه برجال الدولة، دون إراقة لماء الوجه في سؤال شيء من جهتهم. ولو كان الأمر كذلك فحسب لكان موقفه طبيعيا بسيطا، ولكن: لقد أقر ابن خفاجة بأن في حياته مرحلة من التوقف التام عن قول الشعر: " ولما انصدع ليل الشباب عن فجره، ورغب المشيب بنا عن هجره، نزلت عنه (أي الشعر) مركبا، وتبدلت به مذهبا، فأضربت عنه برهة من الزمان الطويلة، اضطراب راغب عنه زاهد فيه، حتى كأني ما سامرته جليسا، يشافهني أنيسا، ولا سايرته أليفا، يفاوهني لطيفا "(1) . ويتفق تاريخ عودته لقول الشعر مع دخول الأمير المرابطي أبي إسحاق إبراهيم بن أمير المسلمين وناصر الدين هاهنا أيضا حالة نفسية ذات أثر في الإبداع الفني، عانى كثير من الشعراء أمثالها، ولكن من اطلع على ديوان ابن خفاجة رأى قريحته وقد عادت تفيض فيضا بعد ذلك الأجيال؟ الذي زعم الشاعر انه كان إراديا -

(1) ديوان ابن خفاجة: 7.

ص: 206

وان أكثر مطولات قصائده إنما نظم في فترة انبعاث القريحة بعد ركودها وخمودها.

وثالثة هذه الملاحظ: أن المؤثرات الخارجية التي عملت في توجيه ابن خفاجة كانت مجزأة لدى سواه من الشعراء مجتمعة لديه، وربما كانت بعض المؤثرات غير متوفرة إلا عنده، فربما انفرد في تأثيره بعيد المحسن الصوري، في بناء القصيدة كلها على الجناس الناقص؟ إن تيسر ذلك - وربما كان أول شاعر أندلسي يقتفي خطوات الشريف الرضي ومهيار الديلمي في الإشارات إلى الأماكن النجدية والحجازية عند الغمغمة المبهمة بالمواجد الذاتية، وهو أول من أدرك؟ من الأندلسيين - طريقة أبي الطيب المتنبي في لف الغزل بالحماسة وحاكاها، ولعله؟ وإن لم يذكر ذلك - متأثر ببعض أشعار الصنوبري. وهاهنا نجد مؤثرات متفرقة قد جمعت معا، ولا بد من أن تدفع بمتلقيها إلى محاولة الاستقلال والإبداع وإلا ظل صدى لمن يحاكيهم.

وأما رابعا: فان ابن خفاجة نفسه كان يدرك شدة إلحاحه على الطبيعة واستغلاله لها في شعره، وكان هو نفسه حائرا في تفسير هذه النزعة المتمكنة، فهو يقول عن نفسه مستعملا ضمير الغائب:" إكثار هذا الرجل في شعره من وصف زهرة ونعت شجرة وجربة ماء ورنة طائر ما هو إلا لأنه كان جانحا إلى هذه الموصوفات لطبيعة فطر عليها وجبلة وإما لأن الجزيرة كانت داره ومنشأه وقراره؟. حتى غلب عليه حب ذلك الأمر، فصار قوله عن كلف لا تكلف، مع اقتناع قام مقام اتساع، فأغناه عن تبذل وانتجاع "(1) . فهو يرجح أن يكون حب

(1) المصدر نفسه: 290.

ص: 207

الطبيعة لديه أمرا في تركيبه وجبلته، فأن لم يكن كذلك فهو أثر من آثار البيئة الطبيعية الجميلة التي نشأ فيها. ثم اختار هذا المذهب؟ مستغنيا عن التكسب بالشعر - منقطعا الي رؤية الجمال في الطبيعة، كأنما هو يعتقد انه لو لم يفعل ذلك، ولم يكن قانعا بما لديه قانعا بما لديه من رزق، لاضطرته الحال إلى ان يكون كغيره من المنتجعين والجوابين.

وخامسا: أن شعره الذي حواه الديوان قد جمع في آخر حياته نزولا على رغبة بعض اخوانه: " وكان قد باد؟ أو كاد - لدثور رقاع مسوداته وأخلاق حواشي تعليقاته "(1)، وانه عندما جمعه أجرى فيه تغيرات هامة وقام بإصلاحات:" إما لاستفادة معنى، أو لاستجادة مبنى "، واكبر عامل كان يسيطر عليه حينئذ شدة حساسيته بأن ينتقد الناس ملكه المجوني قبل توبته؛ وقد حاول ان يعتذر عن ذلك بأن الشعر قول يقصد منه التخيل ولا يعاب فيه الكذب. وهذه محاولة للتبرؤ من التهمة بأن ذلك الشعر يصور واقع حياته. غير أن ابن خفاجة كان منطلقا مع صبوته وسكرة شبابه، ولما صرح ابن خاقان بشيء من ذلك عن طبيعة صباه بعث إليه يلومه ويعاتبه.

وبعد هذه المقدمات نعود إلى تفسير الحقائق التي أجملناها حول موقف هذا الشاعر من الطبيعة وأبرزها صلة الطبيعة عنده بالعبرة أو بمشكلة الفناء التي كانت تلح على نفسيته إلحاحا يلحق بالمرض النفسي. وقد بلغ بها حدا تجاوز به كل ما قاله في شعر الطبيعة، فإذا اعتبرنا كثيرا من شعره محض تصوير، عددنا وقفته إزاء الطبيعة والفناء؟ مجتمعين - تفاعلا عاطفيا جديدا قائما على الرؤية العميقة وعلى التشخيص معا. ونميز في هذا

(1) المصدر السابق نفسه.

ص: 208

المقام ثلاث قصائد: اثنين قالهما في الجبل والثالثة في القمر، وإحدى القصيدتين في الجبل تغني عن أختها لما بينهما من تشابه، وتلك هي التي يقول فيها (1) :

وأرعن طماح الذؤابة باذخ

يطاول أعنان السماء بغارب

يسد مهب الريح عن كل وجهة

ويزخم ليلا شهبه بالمناكب

وقور على ظهر الفلاة كأنه

طوال الليالي مطرق في العواقب فهذه صورة الجبل الذي يمثل الطموح والارتفاع والاعتراض والوقار الصامت الذي يشبه إطراق المتأمل، ثم يأخذ هذا الصامت في سرد ما مر به من مشاهد، فهو شخص آخر إزاء الشاعر يحدثه:

وقال ألا كم كنت ملجأ فاتك

وموطن أواه تبتل نائب

وكم مر بي من مدلج ومؤوب

وقال بظلي من مطي وراكب

ولاطم من نكب الرياح معاطفي

وزاحم من خضر البحار جوانبي

فحتى متى أبقى ويظعن صاحب

أودع منه راحلا غير آيب

وحتى متى أرعى الكواكب ساهرا

فمن طالع أخرى الليالي وغارب

فرحماك يا مولاي دعوة ضارع

يمد إلى نعماك راحة راغب

فأسمعني من وعظة كل عبرة

يترجمها عنه لسان التجارب

فسلى بما أبكى، وسرى بما شجى

وكان على ليل السرى خير صاحب

وقلت وقد نكبت عنه لطية

سلام فانا من مقيم وذاهب ونرى أن إنسانية الجبل تتزايد تدريجيا في القصيدة، فإذا هو يمثل صورة أخرى من وقفة الشاعر نفسه، أو هو الشاعر نفسه، وهو لا يعبر عن طول الصمود ولذة الخلود، وإنما يعبر عن استثقاله للحياة، ووحدته

(1) المصدر نفسه: 216.

ص: 209

بعد ذهاب إخوانه، وكان بذلك يعبر عن " قيمة الموت " أي يهون وقعه على نفس الشاعر التي تفرق من الموت وتحاول الهرب من شبحه المخيف، وارتاح الشاعر حين بكى، ووجد في " أخيه "؟ أو صنوه - الجبل عزاء وودعه وهو أقوى نفسا على مواجهة مصيره.

وأما قصيدته في القمر فقد أثارتها في نفسه غربته، فجعل يتأمل هذه الدورة التي تعتري القمر بالنقصان والكمال، والاختفاء والظهور، وحفزه ذلك إلى مناجاة من " خلا بنفسه يفكر، ونظر نظر الموقف يعتبر "، ونسب هذه المناجاة إلى القمر نفسه فقال (1) :

لقد اصخت إلى نجواك من قمر

وبت أدلج بين الوعي والنظر ولكن القمر ظل صامتا على خلاف الجبل الذي وجد فرصته في السرد والحديث، فاستمد الشاعر في هذه المرة عظة من الصمت:

وإن صمت ففي مرآك لي عظة

قد أفصحت لي عنها ألسن العبر

تمر من ناقص حورا، ومكتمل

كورا، ومن مرتق طورا، ومنحدر

والناس من معرض يلهى، وملتفت

يرعى، ومن ذاهل ينسى، ومدكر

تلهو بساحات أقوام تحدثنا

وقد مضوا فقضوا، انا على الاثر

فان بكيت، وقد بكي الجليد، فعن

شجو يفجر عين الماء في الحجر فليس للمنظر الطبيعي؟ أعني القمر - من قيمة جمالية في نفس الشاعر، وإنما هناك هذه الصورة التي تربط بين الطبيعة وما تثيره من شعور بالفناء، وفي هذه الوقفة بكى الشاعر فرقا من الموت وخوفا على الحياة، ولم يجد العزاء في فناء القمر مثلما وجده في فناء الجبل.

(1) المصدر نفسه: 130.

ص: 210

ومرة واحدة حدثنا ابن خفاجة كيف أطال النظر في رمز الموت، وأظهر التجلد إزاء ذلك المنظر المفزع. لم يحدث ذلك وهو في السفينة " وقد فغر الحمام هناك فاه (1) ، وإنما حدث حين كان مسافرا مع صديقه عبد الجليل بن وهبون المرسي، وكانت الطريق مخوفة والعدو يتربص بالمسلمين، وباتا ليلتهما بلورقة، وتوجها في الصباح إلى المرية، وابن خفاجة يتسلى متجلدا، بذكر الأخبار وإنشاد الأشعار، وعبد الجليل من شدة فزعه لا يفهم ما يورده، ولا يعقل ما يسرده، حتى أشرفا على رأسين منصوبين على حجرين، فإذا ابن خفاجة يقترح ان بقولا في ذلك المنظر شعرا. هل هذا دليل قوة أو ضعف؟ هل كان ابن خفاجة يحاول ان يبدو طبيعيا وهو في فزع يطيش له لبه، أو كان متشجعا بمقدار ما أحس لدى رفيقه من فرق وفزع؟

وإذا تجاوز ابن خفاجة هذه الصلة المأساوية بينه وبين الطبيعة أصبحت الطبيعة عنده متكأ ومفترشا للموضوعات الأخرى فهي ذات علاقة بالممدوح في مثله قوله (2) :

لذكرك ما عب الخليج يصفق

وباسمك ما غنى الحمام المطوق

ومن أجلك اهتز القضيب على النقا

وأشرق نوار الربى يتفق وقد يكون الفرد مرثيا فتنتحل الطبيعة حركة حزينة في قوله (3) :

في كل ناد منك روض ثناء

وبكل خد فيك جدول ماء

(1) المصدر نفسه: 138.

(2)

المصدر نفسه: 184.

(3)

المصدر نفسه: 178.

ص: 211

ولكل شخص هزة الغصن الندي

تحت البكاء ورنة المكاء

يا مطلع الأنوار إن بمقلتي

أسفا عليك لمطلع الأنواء فان لم تكن الطبيعة كذلك محض صورة؟ صورة للنهر أو للبحر أو للروضة أو غير ذلك. ويعتمد في رسم صورة على العنف الموسيقى والحركة وعلى دفقات من الإحساس الشهواني الخفي، وعل متراكبات من الاستعارات التي يصعب الوصل بينهما في وحدة واحدة، وبها يكتسب شعره نوعا من الغموض.

ومن السهل ان يميز دارس شعره تغلغل صورتين هامتين في كثير مما يرسمه، فواحدة هي صورة البحر، وثانية هي صورة الفرس وبين الصورتين شبه في القوة والعنف والحيوية والتوثب، وبينهما علاقة ترتبط بوضعه الجنسي. واكتفي هنا بإيراد بعض الأمثلة:

1 -

وساق لخيل اللحظ في بعض حسنه

جماح وبالصبر الجميل حران

2 -

لاطمت لجنة بموجة أشهب

يرمي بها بحر الظلام فيرتمي

3 -

بحيث خيل اللثم مطرودة

تحت لواء الحسن منشورا

4 -

والكاس طرف أشقر قد جال في

عرق علاه من الحباب يسيل

5 -

وأسبح في بحر الشكاة لعلني

سأعلق يوما من نجاة بساحل

6 -

وبمعطفيه للشبيبة منهل

قد شف عنه من القميص سراب

7 -

ففي ناظري لليل مربط أدهم

وفي وجنتي للدمع أشهب بجمح وهذا مقدار يسير من الصور، وربما لم يعز على أي قارئ لديوانه أن يجد أضعاف ذلك. وهو شيء يتحد مع العنف الذي ينتحيه في التصوير عامة. فهو لا يحب ان يقف كثيرا عند الصور الهادئة وإنما يميل إلى وصف الذئب والنار والنهر المتدفق وعاصف البرد والخرق

ص: 212

المخوف والجواد الطائر والكلب الذي يجري وراء الطريدة والمجلس الصاخب والشجرة التي تهزها الريح حتى تكاد تقتلعها والبحر في هياجه والحية وهي تتلوى، وكلها صور تستدعي الانفعال والحركة الشديدة والجيشان: فالبرد حاصب كأنه عذاب ذائب تضحك له الأرض والجو جهم قاطب، والفرس يمزق ثوب العجاجة، ونقدح منه الهيجاء بارقا ملتهبا، فكأنه نجم ثاقب يرمي شيطان العدا، أو شعلة نار تكاد تحرق فحمة الليل، والكلب كاشر عن نصاله لو تعاطى سبق البرق لسبقه؛ والثعبان إذا استطار به النجاء نيزك، وهو يتلوى بيد الهاجرة كأنه سوط خافق. ويفضل الشاعر ان يصف البازي ويؤثر على ذلك على وصف الحمامة، فإذا وصفها جعلها معولة ترن. وقد تكون السحابة ثقيلة بطيئة الحركة ولكنها مع ذلك " يدوس " الظلماء، وهو لا يزور الغاب أو يمشي في أرجائه وإنما " يخبطه "، والرياح لا تهب وإنما " تنقض ذوائبها " إلى غير ذلك من صور كبيرة عنيفة.

فإذا كان المنظر بطبيعته هادئا لا تحتمل الصور التي يوحي بها عنفا لجأ الشاعر في تصويره إلى استخدام الموسيقى العنيفة كقوله في وصف متفرج (1) :

وصقيلة النوار تلوي عطفها

ريح تلف فروعها معطار

عاطى بها الصهباء أحوى أحور

سحاب أذيال الصبا سحار

والنور عقد والغصون سوالف

والجزع زند والخليج سوار

بحديقة مثل اللمى ضلا بها

وتطلعت شنبا بها الأنوار

(1) المصدر نفسه: 281

ص: 213

رقص القضيب بها وقد شرب الثرى

وشدا الحمام وصفق التيار

غناء الحف عطفها ورق الندى

والتف في جنباتها النوار

فتطلعت في كل موقع لحظة

من كل غصن صفحة وعذار ولعل هذا العنف جمعته إلى رؤية البحر والحصان، وقرنته بالصور الجنسية الكثيرة من مثل " واهتز ردفا مائج التيار " دل على تعويض جنسي. فابن خفاجة غريق أو شبه غريق، ولا ينجيه من هذا البحر الذي يراه مصورا في كل ناحية إلا ذلك الجواد الطائر الذي يرتفع به على الأوضاع الجنسية في الحياة. وهو في حالته تلك في " شبه رؤية " تتراقص الأشياء أمام عينيه كأنه ثمل، ولذلك فانه في اكثر موقفه يكون في وضع مسط بين اليقظة والنوم، فرؤيته تجييل، أو كما هو " بين الواعي والنظر " ويعبر عن ذلك بقوله:

اقلب عين الرأي طورا فاجتلي

ويعمى علي الأمر طورا فافحص ويحدثنا ابن خاقان نقلا عنه " أنه نام فرأى أنه مستيقظ وجعل يفكر فيما مضى من شبابه "(1) . ولكنه لا يقول كذلك في ديوانه وإنما يقول (أرقت فتلددت أنظر في أعقاب ما مضى من عمري؟ فقلت (2)(وعند ابن خاقان أنه استيقظ وهو يقول) :

ألا ساجل دموعي يا غمام

وطارحني بشجوك يا حمام

فقد وفيتها ستين حولا

ونادتني ورائي هل أمام ويعلق على ذلك بقوله: " فما كان إلا أن صرخت عويلا، وانتحبت

(1) القلائد: 232.

(2)

الديوان: 64 - 65.

ص: 214

طويلا، حتى أيقظت من كان إلى جانبي ضجيعا، وزدت فكدت أحيل الدمع ضجيعا ". وغني عن البيان أن الرؤية التي يرويها عن نفسه (وابن خاقان أدق في روايتها لأن ابن خفاجة كان يخرج من ذكر الحقيقة) تمثل تصوره لهذا " الفرق " الذي كان يجعله مضطرب الرؤية.

وربما كان هذا الاضطراب في الرؤية وهي الذي كان يحمله على تنويع الألوان في القصيدة، فالدنيا؟ دائما - تمثل له مجموعة من الألوان، وكل منها يجذب نظرة، وهو متحير مترجرج النظرة، حينا يبصر هذا اللون وحينا يبصر ذاك. ومع ذلك فعلينا ان نحتكم ونحن ندرس شعره إلى ما قد أسميه " قياس العادة " فقد مرنت نفسه على صور تعودها فهو يكررها ويرددها، والسر في تكرارها لا في تعودها.

تلك هي الذروة التي وصلها شعر الطبيعة في الأندلس، ومردها في الأكثر إلى التكوين النفسي للفرد الذي مارس هذا اللون من الشعر؛ وقد كان الموشح مجالا لشعر الطبيعة، غير أن قيود النغمة قد حرمته من الانطلاق الذي بلغه ابن خفاجة وقصرت همته على الصورة الجميلة، إلا بعض الألوان الجديدة في " صبوحيات " ابن زمرك، وهي مما يقع في غير هذا العصر.

ص: 215

الموشحات الأندلسية

1 -

كلمة تمهيدية:

لو تأملنا ما سبق في دراسة تطور الأدب الأندلسي لرأينا أن الشعر اتجه إلى طريقة العرب في مقاومة الاتجاه الحضاري، وان الشاعر اختار أحضان الزهد أو أحضان الطبيعة إعلاناً عن مقاومته لإسراف المسرفين في الكدية والمدائح، وازدوجت الطريق بالغزل فإذا هو ينقسم انقساما فنيا وخلقيا معا بين غزل مكشوف وآخر بأسباب العفاف، وسرت في الأدب طبيعة ذلك الازدواج حين انقسم بين عصبية للعرب وعصبية ضدهم. وفي وقفة مع المد والجزر في حركة التاريخ الأندلسي وتصويره لقوى التقدم والتراجع كان أيضا مشدودا إلى التفاؤل حينا وإلى اليأس والبكاء حينا آخر.

ولنمض بهذه الصورة المزدوجة خطوة أخرى: حين سارت القصيدة الأندلسية في " طريقة العرب " كانت بعثا للجزالة والتدفق في الأسلوب

ص: 216

وحين سارت في طريق المحدثين اكتظت بالصور أو انتحلت بعدا فكريا جديدا، فآثرت الانسياق في بعض التيارات الفلسفية وفي كل هذه الأحوال فقدت غير قليل من الغنائية الشفافة الرقيقة، وكان لا بد من توازن يحفظ التوازي، ولذلك اتسع نطاق الموشح لتتسع الناحية الغنائية، فالموشح بهذا المعنى ثورة على طبيعة القصيدة فهو حركة تجديدية؛ وهو أيضا رجعة إلى الغنائية من وجهة أخرى، أي هو زخرف حضاري قد ينطوي على كل مقومات السطحية الجذابة والترف المسترخي.

2 -

مصادر الموشحات:

ويبدو ان الموشحات نالت تقدير الأندلسيين منذ البداية، حتى تقدير كثير من المحافظين في أذواقهم، وهذا ابن بسام كان يرى أنها " تشق على سماعها مصونات الجيوب بل القلوب "(1) . ولكنها لم تصبح موضع تقييد وتدوين في فترة مبكرة، بل ظلت تسمع وتتناقل شفاها، فابن بسام لا يدرج منها شيئا في كتابه بل يقول:" وأوازن هذه الموشحات خارجة عن غرض هذا الديوان إذ أكثرها على غير أعاريض أشعار العرب "(2) . والفتح ابن خاقان يسكت عن ذكرها حتى في تراجم من شهر بها كابن اللبانة وابن باجة، كأنما هو لم يعرفها ولم يسمع بها، وكذلك فعل غيره من كتاب التراجم. وإذا صح أن ابن عبد ربه عرف نظم الموشحات فانه قد أهملها إهمالاً تاما في العقد، مع انه هنالك أورد لنفسه أشعارا كثيرة. وقد ظلت الموشحات فنا " مسموعا " يقدره كل من سمعه حق قدره ولا يحاول تسجيله في الكتب حتى لنجد عبد

(1) الذخيرة 1⁄2: 2.

(2)

المصدر نفسه: 2

ص: 217

الواحد المراكشي في القرن السابع يقول بعد الثناء على ابن زهر: " ولولا ان العادة لم تجر بإيراد الموشحات في الكتب المجلدة المخلدة لأوردت له بعض ما بقي على خاطري من ذلك "(1) .

ولكن المراكشي لم يكن يدري، في ذلك التاريخ، أن تلك القاعدة قد اهتزت وتضعضع العرف المتبع إذ أن الحجاري صاحب المسهب ربما كان أول من خرج على مضمون تلك القاعدة، فاعتنى بتاريخ الموشحات. ولكن ظل مؤرخو الأدب يتفاوتون في هذه المسألة، فمنهم من يجمع بين الموشح والشعر في كتاب واحد، ومنهم من يرى افراد الموشحات في كتاب مستقل. ففي القرن السادس خصص علي بن إبراهيم بن محمد ابن عيسى بن سعد الخير البلنسي (- 525) للوشاحين في الأندلس كتابا سماه " مشاهير الموشحين بالأندلس " أو " نزهة الأنفس وروضة التأنس في توشيح أهل الأندلس "(2) وهم عشرون رجلا ذكرهم بحلاهم ومحاسنهم على طريقة الفتح في المطمح والقلائد وابن بسام في الذخيرة وابن الإمام في سمط الجمان (3) . ولما كتب ابن جبير مرائيه في زوجه عاتكة أم المجد بنت الوزير الوقشي وسماه " نتيجة وجد الجوانح في تأبين القرين الصالح " جعل قريبا من آخره خمس موشحات في رثائها، فجمع في ديوانه بين الشعر والموشح واستمرت هذه الطريقة في الجمع بين الفنين من بعد.

وفي القرن السابع عاش ابن سعيد، وإلى هذا الرجل وإلى أبيه من قبله يعزى فضل كبير في تقيد الموشحات والتحدث عن أصحابها، فقد

(1) المعجب: 56.

(2)

الذيل والتكملة (ترجمة علي بن ابراهيم) ؛ وأزهار الرياض 2: 253.

(3)

الذيل والتكملة (ترجمة علي بن إبراهيم) .

ص: 218

خصص ابن سعيد " أهداب " كتاب المغرب للموشحات والأزجال، ونقل في كتابه " المقتطف من ازاهر الطرف " تلك القطعة التي كتبها الحجاري في المسهب عن الموشحات.

وفي القرن الثامن نجد ابن خاتمة يتحدث عن الموشح وبعض الوشاحين في كتابه " مزية المرية " وابن الخطيب يجمع في الموشحات كتابا يسميه " جيش التوشيح " فيختار فيه لائمة الوشاحين مثل ابن بقي وابن اللبانة والأعمى التطيلي وعبادة القزاز وغيرهم. وفي ذلك القرن نفسه كتب ابن خلدون في مقدمته فصلا عن الموشحات نقل فيه ما قاله ابن سعيد في " المقتطف " وعنه نقله المقري في أزهار الرياض، وابى المقري على من سبقه حين أورد أمثلة كثيرة من الموشحات في كتابيه نفح الطيب وأزهار الرياض. وهناك كتاب بعنوان " عدة الجليس ومؤانسة الوزير والرئيس " لعلي بن بشرى الغرناطي وهو متأخر عن ابن الخطيب لأنه يورد من موشحات ابن الخطيب نفسه في كتابه، غير ان كثيرا من الموشحات التي أوردها لناس مجهولين.

هذا ما كان من الاهتمام بالموشح في المغرب، أما في المشرق فإن ابن سناء الملك كان أول من كتب بحثا قيما عن الموشح، شفعه بمختارات من الموشحان الأندلسية ومن موشحات نظمها هو، وسماه " دار الطراز " ثم جاء صفي الدين الحلي فكتب " العاطل الحالي " ودرس في قسم منه فن الزجل وعرج على الموشحات في بعض المواطن. وقد أبدى ابن أبي أصيبعة اهتماما خاصا بموشحات ابن زهر فأورد منها عددا في كتابه " عيون الأنباء في طبقات الأطباء ".

ص: 219

3 -

سبب التسمية:

زعم بعض المتأخرين (1) حين حاولوا تعليل هذه التسمية أنها مشتقة من " الوشاح " وهو حسبما تقوله المعاجم: " كرسان لؤلؤ وجوهر منظومان مخالف بينهما معطوف أحدهما على الآخر " ولعل هذا الفهم متصل بالمراوحة في الموشح بين ما سمي الاقفال والأغصان، وهذه هي صفة الوشاح لكنها ليست صفة الشيء الموشح، إذ الموشح يعني " المعلم " بلون أو خط يخالف سائر لونه أو الثوب حين تكون فيه توشية أو زخرفة. وهذا هو الأشبه؟ في نظري - لنشأة هذه التسمية فقد تصور الأندلسيون هذا النوع من النظم كرقعة الثوب وفيه خطوط " أو سمها أغصانا " تنتظمه أفقياً أو عموديا، فالأصل فيه وحدات كبيرة هي الأشطار، وقد جزئت أجزاء صغيرة فأصبحت أشطارا أصغر من أشطار القصيدة، فهي قد تولدت وتتابعت تتابع النقش. ولقد يوضح هذه التسمية اصطلاح آخر اخترعه أحد النقاد الأندلسيين وهو يتحدث عن نوع من النثر وذلك هو اصطلاح " المغصن " الذي استعمله ابن عبد الغفور في كتاب " إحكام صنعة الكلام "؟ كما مرت الإشارة إلى ذلك - وقد سماه كذلك لأنه ذو فروع وتولد، ومثاله الذي اقتبسناه في فصل سابق:" وقد يكون من النعم والإحسان ما يصدر عن الفم واللسان، ومن النعماء والمعروف ما يسر بالأسماء والحروف ". فالتغصين في رأيه هو المقابلة بين " النعم الفم، الإحسان اللسان، النعماء الأسماء، المعروف الحروف، وهو ترتيب تفريعي كما ترى ذو شبه

(1) خلاصة الاثر للمحي 1: 108.

ص: 220

بالتوشيح، أي هو تجزئة في وحدتين أو ثلاث أو أكثر، ومقابلة هذه الوحدات بأخرى شبيهة بها. فالموشح في الشعر ذو أغصان، والمغصن في النثر ذو فروع وأغصان كذلك. وهذا التفريغ؟ أو التخطيط المجزأ - هو سبب التسمية في كل منهما. ويزداد الأمر وضوحا إذ ذكرنا قول ابن بسام في وصف نشأة الموشحات أنها كانت تعتمد على لفظ عامي أو عجمي من غير " تضمين فيها ولا أغصان " فالتضمين هو هذه التجزئة أو التغصين بالمقابلة بين الأجزاء الصغيرة في نطاق رقعة واحدة، أي ان التضمين هو صف الجزيئات التي تكون كلا واحدا. وعلى ذلك يمكن أن نقول أن ألفاظ: التوشيح، والتضمين، والتغصين (أو الموشح والمضمن والمغصن) تشير جميعا إلى عملية واحدة. أضف إليها لفظة أخرى هي التسميط (أو المسمط) وتعني الانتظام في صفوف غير أن ولوع الأندلسيين بذكر المجوهرات والحلي وصنوف الزينة في مؤلفاتهم وأسمائها صرف الذهن إلى معنى التراوح بين الجوهر واللؤلؤ في تركيب الوشاح وهو من حيث الشكل لا يوحي بترتيب المنظومة التي سميت الموشحة.

4 -

نشأة الموشحات:

يفهم من كلام لابن خلدون ان التوشيح سابق لفن الزجل اذ يقول: " ولما شاع فن التوشيح في أهل الأندلس، وأخذ به الجهور لسلاسته وتنميق كلامه وترصيع أجزائه نسجت العامة من أهل الأمصار على منواله ونظموا في طريقته بلغتهم الحضرية من غير ان يلتزموا فيها اعرابا، واستحدثوه فنا سموه الزجل "(1) . وهذا قول يستدعي توقفا ومراجعة،

(1) تاريخ ابن خلدون ذ: 524، وأزهار الرياض 2:216.

ص: 221

فان استقراء الأشياء في وضعها الطبيعي قد يرده وينقصه، ذلك أننا إذا سلمنا بأن الموشح إنما نشأ حول مركز " عامي " أو " أعجمي " فيجب أن نفترض أيضا أن هذا المركز " العامي " إنما كان في الغالب جزءا من أغنية عربية (بلغة العامة) ، وان المركز الأعجمي إنما كان في الغالب جزءا من أغنية أعجمية (باللغة الأسبانية القديمة) . ومعنى هذا ان الأغنية العامية والأغنية العجمية؟ والثانية منهما على وجه التأكيد - وجدنا قبل قيام رجل جريء يدير المنظومة الفصحى على مركز يمثل إحداهما. وتقتضي طبيعة الأشياء ان يكون نشوة الأغنية العامية (بالعربية) سابقا على الموشحة لأن تقليد الأغاني الأعجمية؟ بسياق عامي - اسهل، إذ التسكين في الكلمات المنطوقة بالعامية يحيل النغمة والإيقاع عن الوزن العروضي في الشعر الفصيح ويجعلهما قريبي الشبه بالنغمة في اللغات الأوربية غير المعربة أو القليلة الإعراب. فالزجل بمعناه العام نشأ أولا تقليدا لأغاني السكان الأصليين وبخاصة حين اختلط الفريقان في المدن واشتركوا في إقامة الأعراس والحفلات واحتاجوا الأغاني الشعبية التي يرددونها في تلك الحفلات وفي مواسم العصير وأيام القطاف. ثم جاءت الخطوة التالية وهي محاولة للتقريب بين الشعر المنظوم باللغة الفصحى وبين تلك الأغاني الشعبية التي أصبح النساء والصبيان وطبقات أهل الحرف والعمال يرددونها باللغة الدارجة العربية، دون أن يصفوها تماما من الألفاظ الأعجمية التي اقتبسوها من جيرانهم ومخالطيهم، ودرجت على ألسنتهم فأصبحت جزءا من لغتهم. ولم يكن لهذا الزجل أرباب مميزون بأسمائهم، لأنه كان وليد الجماعة الشعبية، فلم يكن ينسب لهذا الناظم أو ذاك، وهذا شيء نألفه في أغاني الريف وبعض أغاني الحضر التي يرددها الناس دون ان يهمهم كيف نشأت ومن هو الذي أنشأها. وكان هناك خط فاصل بين هذه الحركة

ص: 222

وبين الغناء في الطبقات العليا وفي القصور، فقد كانت البيئة الأرستقراطية لا تزال تعيش على الشعر الفصيح والألحان الموضوعة له، ولم ينل الزجل اعتراف هذه الطبقة رسميا، كما انه لم ينل من جهود المثقفين ما يكفل له التسجيل إلا بعد أن ظهر الموشح نفسه، واصبح مادة غنائية خصبة، وكان ذلك في دور متأخر نسبيا. وليس لنا أن نعجب من ذلك، فان الموشح نفسه قد لقي شيئا من عدم الاعتراف التدويني؟ مؤقتا -، ومن ثم كان قول ابن خلدون مبنيا على هذا المعنى نفسه، وهو أن الموشح وجد القبول " الرسمي " قبل الزجل، ولكنا يجب ان نفرق بين النشأة نفسها وبين وضوح كل فن من الفنين وانهزام روح المحافظة إزاءه.

وإذا كانت الأغنية الشعبية عاملا من عوامل الانفتاح الذهني على هذا الكشف الجديد الذي سمي " الموشح " فيجب ألا نعدها العامل الوحيد في تهيئة ذلك، إذ نعتقد أن هناك عاملين قويين شاركا الأغنية الشعبية في خلق الموشح: أما أحد العاملين فهو التجديد الموسيقي الذي أدخله زرياب؟ ومن بعده تلامذته - في الألحان بالأندلس. فقد ذكرنا في كتاب سابق أن هذا الموسيقار زاد في أوتار العود وترا خامسا " فاكتسب به عودة ألطف معنى وأكمل فائدة " إذ وضعه تحت المثلث وفوق المثنى. ولم يكن هذا هو كل ما قام به من تغير فأنه جعل الغناء منازل، فكان كل من افتتح الغناء يبدأ بالنشيد أول شدوه، بأي نقر كان، ويأتي إثره بالبسيط، ويختم بالمحركات والأهزاج، تبعا لمواسيم زرياب (1) وارى ان المصادر سكتت عن شيء في هذا التطور، وهو ان كل مغن استقل؟ في المجلس الغنائي الواحد - بواحد من هذه الألحان، فواحد يفتتح بالنشيد وثان، أو جوق، يأخذ في البسيط، والثالث؟ أو جماعة

(1) انظر النفح 4: 120 - 124.

ص: 223

آخرون - بالهزج. وهذا التنويع يقتضي عدة قصائد غنائية مختلفة الأوزان، أو يقتضي؟ وهذا أهم - تنويعا في النغمات التي تقوم عليها القصيدة الواحدة؛ والموشح، أو شكل ما يشبهه، قد يكفل مثل هذا التنويع. واعتقد أن الأستاذ فؤاد رجائي كان على صواف حين أشار إلى هذا العامل في نشأة الموشح، وأراد قد وفق حين تنبه إلى الصلة بين تغير النظرية الموسيقية؟ أو أجزائها - وبين الحاجة الناشئة عن ذلك (1) . فأننا إذا قرنا هذه الحاجة الغنائية إلى أثر الأغنية الشعبية نفسها وجدنا أن العاملين معا كانا قويين في استدعاء الموشح أو شكل غنائي جديد يشبهه.

وأما العامل الثاني؟ وبه تصبح العلل في نشأة الموشح ثلاثا - فهو التفنن العرضي، ويقترن هذا التفنن بذلك الفتح المبكر الذي أوجده ابن عبد ربه في البيئة الأندلسية برسم الدوائر العرضية واستخراج فروع الوزن الواحد منها؟ في كتاب العقد -؛ وأنا أعتقد ان هذا النوع أصبح ألهية المثقفين بالثقافة الأدبية يومئذ، وأصبح المتأدبون يمتحنون مقدرتهم ببناء الأشطار على غير ما ألف وشاع من أوزان. ومما يؤكد ان اتجاه هؤلاء مضى لاستيفاء ما اعرض عنه الخليل بن احمد قول ابن بسام في نشأة الموشحات:" وكان [أي القبري] يضعها على أشطار الأشعار غير أن أكثرها على الأعاريض المهملة غير المستعملة "(2) لماذا جربوا الأعاريض المهملة التي يألفها الذوق العام في المشرق ثم في المغرب؟ هنا تبرز خاصية الامتحان للقدرة والميل إلى الابتداع معا، فتلك الأعاريض المهملة كانت معروفة مقررة التفاعيل ولكنها لم تدرج على الألسنة، ووافق هذا الاتجاه قدرة التلاحين على ان تخفف من

(1) الموشحات الأندلسية: 9.

(2)

الذخيرة 1⁄2: 1.

ص: 224

ثبوتها على الأسماع، فاعتمدنا بعض المنشئين والناظمين إظهارا للمقدرة وطلبا للتنويع وتشجيعا على الجدة في النغمات. وكانت قد ظهرت في الشرق أوزان مجزوءة في شعر أبي نؤاس وأبي العتاهية وأبان اللاحقي وغيرهم، من مثل:

موسى المطر غيث البكر

ثم أنهمر ألوى المرر

كم أعتسر ثم ايتسر

وكم قدر ثم غفر فلفتت إليها أنظار هؤلاء المتفننين العروضيين، فأعلموا مقدرتكم على الاستخراج والمقارنة.

وقبل ان أمضي قدما أحب أن أقف عند قول ابن سناء الملك: " وأكثرها مبني على تأليف الأرغن، والغناء بها على غير الأرغن مستعار وفي سواه مجاز (1) "، فذا القول قد ينقض ما قلته عن تنغيمات العود التي استحدثها زرباب. وانا أرى ان ابن سناء الملك قد يكون واهما أو مغاليا، لأن الأرغن ليس بالالة السهلة التي يمكن اقتناؤها، إذا تصورنا مدى شيوع الموشح في الزمن، وإما ان يكون تنغيمها على الأرغن هو أوفق ضروب التلحين لها، وهذا يمثل دورا تاليا لدور نشأتها اكتشف من بعد. والحقيقة التي تبقى ثابتة هي صلة الموشح بالغناء لأن الغناء هو سهل على الوشاح ركوب الاعاريض الملهمة، إذ الغناء هو الذي يحدث التناسب المفقود بالمد والقصر والزيادة والخطف، وقد حدثنا ابن سناء الملك نفسه أن بعض الموشحات لا تتم نغماتها إلا بزيادة نغمية فيها مثل قول ابن بقي:

من طالب ثأر قتلى ظبيات الحدوج

فتانات الحجيج فأن التلحين لا يستقيم إلا بأن يقول المغني: " لا لا " بين الجزءين

(1) دار الطراز:35.

ص: 225

الجيميين من هذا القفل (1) .

وإذ قد بلغت هذا من الحد من تقرير العوامل الثلاثة - مجتمعة - في نشأة الموشح أراني أتقدم إلى تصحيح الأخطاء التي لا بست تلك النشأة، ومن تلك الأخطاء افتراض أن المسمطات كانت هي الأساس الذي انبثق عنه الموشح. نعم ربما كان للأشكال المشرقية المخترعة اثر ما في المقايسة ولكن التاريخ التقديري لنشأة الموشح سابق على شيوع التسميط، كما فهمه المشارقة؛ وإذا نحن درسنا المسمط في الأندلس وجدنا انه واكب عصر أزهار الموشح، واكثر منه المحافظون الذين لم يألفوا نظم الموشح ولا انجذبت طبائعهم الشعرية إليه من أمثال ابن زيدون وابن أبي الخصال. غير أن الخطأ الأكبر الذي أوحي به كل من ابن بسام وابن سناء الملك هو قول القائلين: أن بعض الموشحات نظم على اوزان غير عربية. فقد قال ابن بسام: " أكثرها على غير اعاريض أشعار العرب ". وقال ابن سناء الملك: " والموشحات تنقسم قسمين: الأول ما جاء على أوزان أشعار العرب والثاني ما لا وزن له فيها ولا إلمام له بها "(2)، وقال أيضاً:" والقسم الثاني من الموشحات هو ما لا مدخل لشيء من أوزان العرب "(3) . فقول ابن بسام أنها على غير اعاريض أشعار العرب معناه أنها على غير الاعاريض المألوفة، وهذا الذي يعنيه قوله قبل ذلك: أنها على الاعاريض المهملة. وقول ابن سناء الملك يعني أنها ليست جارية على الأوزان التي تنظم فيها صنوف الشعر، وهذا حق، فإن أوزان

(1) المصدر نفسه: 37 - 38

(2)

المصدر نفسه: 33

(3)

المصدر نفسه:35

ص: 226

بعض الموشحات من الأوزان الكبيرة العامة، وبضعها ناب لا يمكن للأذن أن تستسيغه إلا عن طريق التلحين، حسبما بين ذلك صاحب دار الطراز نفسه. ولكن لا يجوز لنا ان نستنتج من ذلك ان الموشحات ليست جارية على التفعيلات العربية، إذ لا يمكن أن تكون إلا كذلك ما دامت معربة. فإذا كانت في نطاق الكلام المعرب فهي ذات تفعيلات متناسقة، سواء استعمل الوشاح عددا واحدا من التفعيلات أو أعدادا متباينة المقدار، فالإيقاع فيها عربي خالص، ولكنك لا تستطيع ان تقول عن الكثير منها: إن هذه الموشحة تنتسب إلى بحر المديد أو إلى مجزوء الرمل أو إلى الكامل المرفل أو إلى البسيط؟ الخ. ذلك لأن هذه الأوزان المجزأة المستخرجة لم تجد " خليلا " آخر ليمنحها أسماءها، فظلت تستعمل دون أسماء. وبين هذا وبين القول بأنها خارجة عن الوزن العربي فوق واسع كبير. فلو ان نظاما ذهب يستخرج عشرات الأوزان - ذات الإيقاع المتفاوت - من أوزان الخليل أو يمزج بين تفعيلة من وزنين مختلفين لما صح لنا أن نقول له إنك خرجت على الوزن العربي، ليس للوزن العربي باب مقفل يحول دون استخدام ما يريده الشاعر من أوزان إذا جرى في الاستخراج على قاعدة سليمة. وكل ما نستطيع ان نقوله لمثل ذلك الشاعر: ان هذا الوزن " الجديد " شيء لم نألفه من قبل، أو شيء لا نستسيغه، فإذا طبق وزنه الجديد على ضرب من التلحين فقد يقنعنا بأن ما كنا نحسبه نابيا مستكرها قد أصبح مألوفا وسائغا.

ص: 227

5 -

المراحل التي سار فيها الموشح:

قدرت أن تكون الحاجة الغنائية في طليعة العوامل التي ساعدت على ظهور الموشح، ولكني أغفلت في هذه الحاجة ذكر عنصر هام، هو اتخاذ الموشح وسيلة للترديد على أبواب الممدوحين أي التغني به؟ في طريقة النشيد - كما يتغنى القوالون بهذه القصيدة أو بتلك. ومعنى ذلك ان الموشح؟ حسبما افترض - أخذ في نشأته الأولى يخدم غايتين إحداهما الغناء وثانيهما التكسب. وينسب ابن بسام اختراع الموشح إلى رجل ضرير من قبرة اسمه محمد بن حمود (أو محمود) بيتا يذهب الحجاري إلى أن مخترعه أيضا رجل من قبرة اسمه المقدم بن معافى القبري، وهذا الثاني كان شاعرا معروفا أيام عبد الرحمن الناصر، كما يقول الحميدي. (1) وقال صاحب المسهب انه من الأمير عبد الله المرواني (2) . وليس بين القولين فرق كبير إذ قد يكون شهد طرفا من عهد الأمير عبد الله وطرفا من عهد الناصر. أما محمد بن حمود فلا تذكر المصادر متى عاش. وانا أرجح انه هو مخترع الموشح دون مقدم، وإنما أميل إلى هذا الترجيح لأنه يتفق وما فرضته من حاجة قوال إلى نظم هذا اللون من المنظوم من أجل التكسب به بطريقة لافتة.

ويقول الحجاري: أن ابن عبد ربه صاحب العقد أخذ عنه ابن بسام فيقول: " قيل أن عبد ربه صاحب كتاب العقد أول من سبق

(1) الجذوة: 333.

(2)

تاريخ ابن خلدون 1: 518 وأزهار الرياض 2: 207.

ص: 228

إلى هذا النوع عندنا " (1) ولست استبعد أن يكون صاحب العقد قد شارك بعض المشاركة في الموشح لآن هذا اللون الجديد التقى مع رغبته في إظهار البراعة العروضية، وكان هذا حسبه منه، إذ كان في غنى عن أن يتكسب به.

وبعد هذين جاء الرمادي، ومن غريب ان كلمة " رمادي " تؤكد الدور الذي تخيلناه للقبري الأعمى، من التجوال وما يلحق به من تعرض للمدح على طريقة القوالين. وقد وردت هذه اللفظة في دار الطراز حيث قال ابن سناء الملك ان الشرط في الخرجة:" أن يكون لفظها رماديا زطيا "، أي بوهيميا. وللرمادي؟ فيما يبدو - دور خطير في تطور الموشحات إذ " كان أول من أكثر فيها من التضمين في المراكيز، يضمن كل موقف يقف عليه في المركز خاصة " وقد قلت ان التضمين هو التغصين، اما المراكيز فهي الأقفال، والدليل على كونها كذلك قول ابن خاتمة في وصف موشحة للقزاز:" ومن أظرف ما وقع له في خلالها من حسن الالتئام وسهولة النظام ما يندر وجود في منثور الكلام وذلك في أحد مراكزها "(2)، ثم أورد قطعة مؤلفة من غصن وقفل ليدل على المركز. ثم جاء عباد ابن ماء السماء فأحدث تطورا آخر. ويمكن ان نلخص الخطوات الثلاث التي سار فيها الموشح كما يلي:

أ - كان الموشح في بداية أشطارا كالقصيدة، إلا انه من مهمل الأعاريض ويفترق عن الشعر في أن له قفلا ختاميا يسمى المركز ويكون عاميا أو أعجميا، وهذا هو ما فعله القبري، وربما ابن

(1) الذخيرة 1⁄2: 1 - 2.

(2)

أزهار الرياض 2: 254.

ص: 229

عبد ربه، وليس فيه تضمين أو أغصان.

ب - الإكثار من التضمين في الأقفال أي تجزئة الأشطار إلى أجزاء صغيرة، وهذا هو ما فعله الرمادي وتابعه في ذلك شعراء عصره كمكرم ابن سعيد وابني أبي الحسن - وهم ممن لا نعرف عنهم شيئا.

ج - الإكثار من التضمين في الأغصان أي تجزئة أشطارها وهذا هو ما فعله عبادة ابن ماء السماء. وكانت صنعة التوشيح حتى عهده: " غير مرقومة البرود ولا منظومة العقود فأقام عبادة هذا منآدها، وقوم ميلها وسنادها، فكأنها لم تسمع بالأندلس إلا منه، ولا أخذت إلا عنه ". كذلك ابن بسام.

ولكنا نتصدى هنا لاضطراب آخر يشبه الاضطراب في اسم القبري المخترع الأول. فقد أعطى ابن بسام فضل تطوير الموشح لعبادة ابن ماء السماء، أما الحجاري فأنه نسب الفضل كله لعبادة القزاز، شاعر المعتصم ابن صمادح صاحب المرية (1) ، وقد امتد هذا الاضطراب إلى نسبة الموشحات لهذا أو ذاك، فالموشحة التي أولها:

من ولي

في أمة أمرا ولم يعدل

يعزل

إلا لحاظ الرشأ الأكحل - هذه الموشحة نسبها شاكر في فوات الوفيات (2) لعبادة بن ماء السماء بينما نسبها الصفدي في الوافي (3) إلى عبادة القزاز. وعلى هذا

(1) أزهار الرياض: 207 والمقتطف: 41.

(2)

الفوات 1: 426.

(3)

الوافي 3: 189.

ص: 230

فلا تبقى من موشحات عبادة بن ماء السماء إلا موشحة واحدة ذكرها ابن شاكر أيضا فإن صحت نسبتها له كانت أقدم أنموذج من الموشح وصلنا. ومعنى هذا أن أول موشحة لدينا تعود إلى أوائل القرن الخامس لأن ابن ماء السماء توفي عام 422 (1) . ومطلع هذه الموشحة:

حب المها عبادة

من كل بسام الجواري

قمر يطلع

من حسن آفاق الكمال حسنه الابدع وهي شبيهة بموشحات القزاز، والخرجة فيها معربة. وأذا كان كذلك فقدنا آخر مثل من موشحات المبكرة نسبيا.

وإذا قارنا هذا مجال الزجل وجدنا مما نعرفه من نماذج الزجل، أن القرن الخامس هو الفلك الذي قيض لنا ان نرى فيه هذين الكوكبين بوضوح. فابن قزمان وهو زجال من عصر المرابطين يشير إلى أناس تقدموه في هذا الفن أهمهم في رأيه الاخطل بن نمارة (2) ومنهم ابن راشد وقد وجد له المستشرق اشتيرن زجلا نشره بمجلة الأندلس (3) . هذا وقد وجدت فقرة من زجل ربما كانت مبكرة في القرن الخامس نفسه أوردها نؤلف كتاب مساؤى الخمر رواية عن بعض شيوخه وهذا نص ما قاله: " وحدثني بعض شيوخي ان بعض أمراء الأندلس لاعب بعض أدبائها الشطرنج؟ إما قال الزرقال وإما قال ابن فرعال؟ على شيء جعله له، فقمر هذا اللاعب الأمير، فلما ظهر على قمره في

(1) انظر ترجمته في الجذوة: 247.

(2)

مقدمة ابن قزمان، والمغرب:167.

(3)

مجلة الأندلس: 413 " 1951 "، والزجل في الأندلس:56.

ص: 231

اليد الثالثة هي آخر الأيدي سر بالفلج فاستقبله في وجهه وقال:

أقطع رجال من الخمور

واكل القبولات والسكور

وهذه يد المزور

شلل قفاك

هم يقولون شللت الإناء إذا غسلته بالماء " (1) أه؟. فإذا كان هذا اللاعب هو الزرقال أو ابن الزرقال فإن المشهور بهذا الاسم هو إبراهيم بن يحيى النقاش القرطبي، الذي كان بين عامي 452 - 472 يعيش في بلاط أمراء طليطلة، وربما كان هذا القول من محفوظ الزرقال، من الأغاني الدارجة، فبذلك يكون من تاريخ مبكر.

وقد عرفنا أسماء كثير من الوشاحين ممن عاشوا في عصر الطوائف والمرابطين، ومنهم ومن وصلنا بعض موشحاتهم، ومنهم من ذكر عنهم انهم كانوا ينظمون الموشحات ولكنا لا نعرف شيئا مما نظموه مثل أم الكرم بنت صمادح (2) وهي أخت المعتصم وكان أخوها قد اعتنى بتأديبها فنظمت الشعر والموشحات وعشقت الفتى المشهور بالسمار.

وقد قدم المؤرخون عبادة القزاز على سائر الوشاحين في عصر الطوائف وكان عبادة هذا شاعر المعتصم ابن صمادح، وروي عن أبي بكر ابن زهر الوشاح انه قال: كل الوشاحين عيال على عبادة القزاز فيما اتفق له من قوله (3) :

(1) الكشف عن مساوىء الخمر، الورقة:102.

(2)

المقتطف: 41.

(3)

المغرب 2: 202، والمقتطف:41.

ص: 232

بدر ثم شمس ضحى

غصن نفا مسك شم

ما أتم ما أوضحا

ما أورقا ما أنم

لا جرم من لمحا

قد عشقا قد حرم وزعموا أن الذي جاء بعده مصليا هو الوشاح ابن ارفع رأسه، شاعر المأمون ابن ذي النون صاحب طليطلة، وكانت له موشحات مشهورة يغني بها في بلاد المغرب (1) ومنها الموشحة التي ختمها بقوله:

تخطر ولا تسلم

عساك المأمون

مروع الكتائب

يحيى بن ذي النون وفي ذلك العصر نفسه اشتهر ابن اللبانة شاعر العباديين بالموشحات، وقد جمع هؤلاء بين الشعر والموشح، ولكن القزاز كان أعلى طريقة في التوشيح، وكذلك ابن أرفع رأسه، أما ابن اللبانة فجمع بين طرفي الإجادة في الفنين، وقد احتفظ له صاحب دار الطراز ببعض الموشحات، وكذلك ابن سعيد في المغرب وأورد له الصفدي موشحة واحدة (2) .

وفي أيام المرابطين ظهرت مجموعة من أعاظم الوشاحين، في مقدمتهم الأعمى التطيلي وابن بقي وأبو عبد الله بن أبي الفضل بن شرف والأبيض وعلي بن مهلهل الجياني وابن باجة. وفي القطعة التي أوردها ابن سعيد في المقتطف (3) عن الوشاحين في هذه الفترة قصتان مفيدتان في دلالتهما: أولاهما: أن جماعة من الوشاحين اجتمعوا في مجلس بأشبيلية فكان كل واحد منهم قد صنع موشحة وتأنق فيها فقدموا الأعمى للإنشاد فلما

(1) المغرب 2: 18.

(2)

انظر الوافي 4: 297

(3)

المقتطف: 41 وأزهار الرياض 2: 209.

ص: 233

افتتح موشحته المشهورة:

ضاحك عن جمان

سافر عن بدر

ضاق عنه الزمان

وحواه صدري خرق ابن بقي موشحته وتبعه الباقون ". لأنهم وجدوا ما يعجزون عن مثله، وتدل هذه الحكاية على ان الموشح كان يلقى إلقاء دون تلحين، وأن تأثيره في النفوس لم يكن متصلا بالتلحين فحسب. والقصة الثانية تتصل بابن باجة وخلاصتها أنه نظم موشحة في مدح ابن تيفلويت صاحب سرقسطة مطلعها:

جرر الذيل أيما جر

وصل السكر منك بالسكر وخاتمتها:

عقد الله راية النصر

لأمير العلا أبي بكر وألقى الموشحة على إحدى قينات ابن تيفلويت، أي دربها على غنائها حسب لحن وضعه، وهي حكاية تشير إلى الصلة الوثيقة بين الموشح والتلحين.

وكان بعض أولئك الوشاحين مكثرا، حتى قيل إن لأبي بكر ابن بقي ما ينيف على ثلاثة آلاف موشحة (1) ، ويمثل لنا ابن بقي والأعمى التطيلي تتمة المعنى الذي تصورناه في نشأة الموشح أعني صلته بالتكسب فان الأعمى كان متكسبا بالشعر كما أن ابن بقي " وقف بالبلاد على كل باب " وهذا المعنى نفسه يمثله كل من ابن القزاز وابن اللبانة؛ وإذا شذ عنه

(1) هامش المغرب 2: 19 نقلا عن الخريدة.

ص: 234

أمثال أم الكرم بنت صمادح وابن باجة فما ذلك إلا لان نطاق الموشح كان قد اتسع واتسعت الآفاق الاجتماعية التي يستطيع أن يرودها.

ولذلك كان أهم موضوع في الموشحات التي وصلتنا هو المدح أولا والغزل والمجون ثانيا. فأما الأغراض الأخرى من رثاء وتكفير ووصف للطبيعة وهجاء، فإن موشحات هذا العصر الذي ندرسه لا تمثلها بوضوح، فقد شاعت هذه الأغراض من بعد هذا العصر، وبذلك يكون الموشح قد تحدد حتى أواخر القرن الخامس بالموضوعين لازماه في نشأته وهما المدح والغزل، فأن كان أواخر عصر المرابطين، ثم ما بعدهم من عصر أصبح الموشح يشمل أكثر الأغراض التي يتناولها الشعر.

6 -

شكل الموشح:

كل موشح أندلسي يتركب من وحدتين تتكرران عددا من المرات، وحدة يبدأ بها الموشح في العادة وتسمى " قفلا "، فإذا لم يبدأ بها وبدأ توا بالوحدة الثانية سميي الموشح " أقرع ". وهذه الوحدة الثانية تسمى " غصبا ". ويتكون الموشح النموذجي في العادة من ستة أقفال، تحصر بينها خمية أغصان، ولكن الوشاح غير ملزم بذلك إن شاء أن يزيد أو ينقص. واجتماع القفل والغصن التالي له يسمى " دورا "، وبعضهم يسميه " بيتا "؛ فالموشح النموذجي - على هذا الأساس - وهو يتكون من خمس أدوار أو أبيات، وقفل ختامي يدعونه " الخرجة "، ولكن الأقرع يشذ عن ذلك لأن أحد أقفاله ساقط. وللوشاح أن يجعل أجزاء القفل أو أجزاء الغصن حسبما يريد، سواء عددنا تلك الأجزاء أفقيا أو عاموديا، وقد أسرف ابن سناء الملك في تنويع الموشح بحسب الأعداد

ص: 235

الأفقية والعامودية في القفل أو الغصن، كله أمر شكلي خالص، لا يحدث فرقا في قيمة الموشح فأقل قفل يتركب من جزءين في سطر واحد، وأكثره - من موشحات الأندلسيين - يتألف من ثمانية أي أربعة في سطرين.

غير ان أهم ظاهرة في التوشيح من حيث النغمة قيام القفل أحيانا على وزن، وقيام الغصن على وزن اخر، فتسير الموشحة في وزنين. والغالب ان يتفق القفل والغصن في الايقاع العام. وقد يختار الوشاح وزنا مباشرا من اوزان القصيد فينسج عليه موشحته مثل:

أيها الساقي إليك المشتكى

قد دعوناك وإن لم تسمع وهذا يسميه ابن سناء الملك: " الموشح الشعري "، أو يستخرج وزنا جديدا وهو الشيء الشائع في موشحات العصر الذي نتحدث عنه. وقد منح ابن سناء الملك للخرجة في بحثه عن الموشحات القيمة الكبرى فقال:" والخرجة هي إبراز الموشح وملحه ومسكه وعنبره، وهي العاقبة وينبغي ان تكون حميدة، والخاتمة بل السابقة وإن كانت الأخيرة. وقولي السابقة لأنها التي ينبغي ان يسبق إليها الخاطر ويعملها من ينظم الموشح في الأول وقبل أن يتقيد بوزن أو قافية "(1) :

وتلخص كلام ابن سناء الملك عن طبيعة الخرجة في الأمور التالية:

(1)

أن تكون عامية حادة ظريفة، فإذا كانت معربة خرج الموشح عن ان يكون موشحا.

(2)

أو يحسن ان تكون معربة إذا كان الموشح في المدح وذكر في الخرج اسم الممدوح.

(1) دار الطراز: 33.

ص: 236

(3)

أو يجوز أن تكون معربة وان لم يكن الموشح في المدح على شرط ان تكون هزازة سحارة.

(4)

وقد تكون عجمية وهنا أيضا يجب ان يكون لفظها سفسافا لاذعا.

(5)

يقدم لها بما يمهد لورودها مثل قلت وقالت وغنى وغنيت ويكون ذلك على لسان الحمام أو الفتاة أو الغرام أو الهيجاء أو غير ذلك.

وقد استمد ابن سناء الملك كل أمثلته من عصر الطوائف والمرابطين يوم كان الفنان من غزل ومدح هما الغالبين على الموشحات. وأنا لست أنكر قيمة الخرجة في الموشح ولكني أرى ان ابن سناء الملك حين وضع تلك التحديدات كان مأخوذا بطبيعة النماذج الموجودة بين يديه، فهو يشترط ان تكون الخرجة عامية، ثم يعود فيتنازل عن كونها عامية في غير المدح. ويذكر أنها قد تكون أعجمية ثم يمثل على ما يقوله بأي مثل. وعندي ابن سناء الملك قد نسي بهذا التحديد - الذي ذاب فلم يعد تحديدا - قاعدة كبرى هي التناسب الموشحة وطبيعة المقام العام. فالموشحة التي تقال في المدح تقتضي في الغالب خرجة تتناسب وحال الممدوح، فإذا كان الجد أغلب على العلاقة بين الممدوح ومادحه لم يستطيع أن يتظرف باستعمال خرجة عامية أو عجمية، وإذا كان الممدوح ممن " رفعت الكلفة " بينه وبين الوشاح فلا بأس من ان تكون الخرجة عجمية أو عامية. وإذا حرت الموشحة على الغزل المتسامي صح ان تكون الخرجة معربة، بل كان ذلك أليق بها، وإذا خالط الموشحة شيء من النماجن فمن غير الطبيعي أن تكون معربة، وإذا كانت موجهة إلى جارية أعجمية فلا بد أن تكون الخرجة مناسبة لتلك الحال، وما يحسن في

ص: 237

مواقف ربما لم يحسن في غيره. وليس هناك من قانون عام ينتظم الخرجة ويحتم كيفية ورودها سوى قانون التناسب.

أما لماذا يتوجه الإيثار نحو الخرجة العامية أو الأعجمية فتعليله أن الموشح كاللحن الموسيقي تجيء فيه دلالة على الختام كمط اللحن وما أشبه، وهذه الدلالة تتكون من مظهر واحد أو مظهرين في التوشيح، وأحد المظهرين هو التمهيد للخاتمة بقال وقلت وغنى وغنيت وإضراب هذه الألفاظ، وثاني المظهرين هو إيراد الخاتمة بلغة مختلفة لصلب الموشح، وقد يكفي التمهيد وحده لرسم حركة الختام ولكن التغيير في اللهجة أو اللغة يؤكد هذا الختام على نحو أشد وأقوى، كما انه يزيد الموقف عذوبة وظرفا، ولذلك كان إعطاء الخرجة لونا فارقا يمايز سائر لون الموشحة مما يؤكد الحركة الختامية ويحدث في النفس وقعا عميقا، وفي هذا معنى زائد على مناسبة المقام وهو إشعار السامع باستدارة الموشحة وإكمالها. وتؤدي الخرجة الأعجمية أو العامية معنى التناسب من وجه آخر، فان كونها صدى للتمهيد المبدوء بأنشد أو أنشدت أو غنى أو غنيت يقتضي ان تكون مما يغنى حقا في البيئة الشعبية.

7 -

نماذج الخرجة:

ومن الخرجة المعربة في الغزل قول ابن بقي:

تجاوز الحدا

قلبي اشتياقا

وكلف السهدا

من لو أطاقا

قلت وقد مدا

ليلي رواقا

ص: 238

ليلي طويل ولا معين

يا قلب بعض الناس أما تلين ومن نماذجها المعربة قول ابن اللباقة يمدح بني عباد:

لك الفضل

وإنك من آله

رأى الكل

بكم نيل آماله

فما يخلو

من ينشد في حاله

بني عباد

بكم نحن في أعياد وفي أعراس لا عد متمو للناس أما الخرجة العامية فيمثلها قول الأعمى التطيلي:

القاك عن عفر

فلا أناجيكا إلا اشتياق

والله ما ادري

قد التوى فيكا أمري وضاق

أشدو وما عذري

ألا أقاضيكا إلى العناق

يا رب ما اصبرني

نرى حبيب قلبي ونعشقو

لو كان يكون سنه

فيمن لقي خلو بعنقو ونورد الأمثلة الآتية على الخرجة الأعجمية:

ا - لابن عبادة شاعر المرية (عصر الطوائف) .

مو سيدي إبراهيم

يا نوامن دلج

فنت نيب

ذي نخت

إن نن شنن كرش

ص: 239

ارم تب

غرمي أوب

لغرت

Meu sidi Imbrahim

Ya nuemne dolje

Vente mib

De nokhte

In non، si non queris،

Ireme tib؛

garme a ub

Legarte

وترجمته: يا سيدي إبراهيم؟ يا اسما حلوا - تعال إلي؟ الليلة -

وإلا، أن كنت لا ترغب؟ أجيء أنا إليك - آه -

أخبرني أين؟ اجدك.

ب - للوزير ابن المعلم (عصر الطوائف)

بن يا سحارة

ألب قشت كن بلفغور

كند بني بدي مور

ven، ya sahhara!

ALBA QUESTA CON BEL VIgORE

CUANDO VENE PIDE AMORE

ص: 240

وترجمته: تعالي، يا سحارة!

الفجر الذي هو جميل كعادته

حين يجيء يتطلب حبيبا

ج - للأعمى التطيلي (عصر المرابطين) :

مو الحبيب انفرم ذي مو أمر

كن دشتر

ننفيس اميب كسد نوليغر

Meul - habib cnfeymo de meu amar

Que no destay؟

Non ves a mib que s e ha de no lleqar؟

وترجمته: حبيبي مريض بسبب الحب

وكيف لا يكون ذلك؟

ألا ترى انه لن يرجع ألي ابدا

د - للأعمى التطيلي:

الب ذيا اشت ذيا

ديا ذي العنصرة حقا

بيشتري مو المدبج

ونشق الرمح شقا

Albo dia este dia

Dia del ansara haqqa

ص: 241

Vestire meu L - mudabbaj

Wa nashuqqu I - rumha shaqqa

وترجمته: يا فجر اليوم، هذا اليوم الجميل

يوم العنصرة حقا

سألبس مدبجي

ونشق الرمح شقا (1)

8 -

الناحية الفنية في الموشح:

قبل الحديث في هذا الموضوع يحسن أن نقف عند بعض الأحكام النقدية أو ذات المحمل النقدي التي كان الناس؟ وبخاصة جماعة المتذوقين للموشح - يواجهون بها بعض الموشحات:

أ - ونستعيد في هذا المقام قصة الوشاحين الذين خرقوا موشحاتهم لما سمعوا موشحة الأعمى، وقصة ابن تيفلويت ممدوح ابن باجة الذي طرب طربا كثيرا عندما سمع تلك الموشحة وصاح واطرباه وشق ثيابه وقال: ما أحسن ما بدأت وما ختمت وحلف بالأيمان المغلظة ألا يمشي ابن ماجة إلا على الذهب فخاف الحكيم سوء العاقبة فاحتال بأن جعل ذهبا في نعله ومشى عليه.

ب - وفي تقدير ابن زهر للموشحات قال: - وهو الوشاح الأصيل العارف بفنه - انه لا يحسد أحدا على موشحة مثلما يحسد ابن بقي على قوله (2) :

(1) هذه الأمثلة نشرها الأستاذ غرسية غومس بمجلة الأندلس - 19 - 1954/ 375 وهي " حسب ترقيمها هنالك: القطعة الأولى والسابعة والثامنة والتاسعة عشرة ".

(2)

المقتطف: 41.

ص: 242

أما ترى أحمد

* في مجده العالي * لا يلحق

أطلعه المغرب

* فأرنا مثله * يا مشرق ج - وقال الأستاذ أبو جعفر (1) : من أظرف ما وقع للقزاز في المديح من التوشيح موشحته التي أولها:

كم في القدود الليان

تحت اللممن أقمر عواطي ومن أظرف ما وقع له في خلالها من حسن الالتئام وسهولة النظام ما يندر وجود مثله في منثور الكلام، وذلك في أحد مراكزها حيث يقول:

لما غدا قادرا

أضحى قليل المعدله

يا حاكما جائزا

قلت من لا ذنب له

سطوت بالهيمان

ظلما ولمتستبصر يا ساطي

خف سطوة الرحمن

إذا حكمبين البري والخاطي والآن دعنا نسأل: ما الذي أعجب ابن بقي وسائر الوشاحين في موشحة التطيلي حين مزقوا موشحاتهم احتقارا لها واستصغارا لشأنها؟ وهل طرب ابن تيفلويت للغناء، أو للموشحة من خلال الغناء؟ ولماذا يحسد ابن زهر وشاحا على ما قاله وأين موضع الإجادة في ما قال؟ ولم آثر أبو جعفر هذا الجزء من موشحة القزاز بالثناء؟

من هذا الموقف يمكننا ان نتحدث عن الناحية الفنية للموشح، فمن درس موشحة الأعمى المذكورة وجد فيها عذوبة سائغة وسياقا حلوا واسترسالا

(1) أزهار الرياض 2: 254.

ص: 243

وعبارات مستقلة في ذاتها وخرجة لطيفة رقيقة، فالأحكام بعامة هو صفتها الغالبة. أما ابن تيفلويت فربما زاد التلحين في طربه، ولكنه بين أنه شديد الابتهاج بحسن الفاتحة والختام لقوله لابن باجة " ما أحسن ما بدأت وما ختمت " فهو ينظر إلى الموشحة من حيث تأثيرها في نطاق معين. وأما ابن زهر، فانه فيما يبدو يحسد ابن بقي على قدرته الفائقة في صوغ الخرجة بأسلوب معرب مع سهولة بالغة حد المستوى العامي، وأما الأستاذ أبو جعفر فكان صريحا في نقده إذ دل على أن ما يعجبه في موشحته القزاز هو حسن الالتئام وسهولة الكلام، ولعل قوله " ما يندر وجود مثله في منثور الكلام " هو أبرع نقد للموشحة الأندلسية فان خروجها عن جادة التعقيد إلى أن تصبح كالأسلوب النثري أي إلى أن تصبح مستوية السياق، كأنها كلام عادي، أمر هام في نظر الأندلسيين يومئذ. ونستأنس هنا بقول ابن حزمون، وهو وشاح من العصر التالي، حين سمع موشحة لبعضهم:" ما الموشح بموشح حتى يكون عاريا عن التكلف "(1) .

من ثم نرى أن الموشح هو أول ثورة حققها الشعر العربي في إيثار الإيقاع الخفيف الذي يقرب الشقة بين الشعر والنثر، فأضعف من اجل ذلك العلاقات الإعرابية كثيرا، ذلك أننا نقول حقا أن الموشح معرب، ولكن الإسكان بالموقف في التجزئات القسيرة واختيار الألفاظ التي لا تظهر حركات الإعراب في أواخرها أمران يجعلان العلاقات الإعرابية ضعيفة ويحيلان الموشح إلى مستوى قريب من مستوى الكلام الدارج، إذ أين هي العلاقات الإعرابية في قول الوشاح:

(1) أزهار الرياض ذ: والمقتطف: 43.

ص: 244

ما أتم

ما أوضحاما أورقا ما أنم

لا جرم

من لمحاقد عشقا قد حرم أو في قول الآخر:

قل هل علم أو هل عهد

أو كان كالمعتصم والمعتضد ملكان وهناك ظاهرة أخرى جعلت الموشح كالعبارات المنثورة وهي عدم استقلال أجزائه بل تسلسلها وترابطها في اللفظ والمعنى رغم وجود الوقفات (1) :

أنت المليك الرئيس

أنت العقد النفيس

الواهب

الجياد الحاليات السروج مع أبناء العلوج فهذا إذا قرأته معا: " أنت العقد النفيس الواهب الجياد الحاليات السروج ".

على ان هذا لا يعني ان الموشح قد تخلص من اثر الشعر، فهناك الموشح الشعري، وهناك هذه التقفية في داخل الاقفال والغصون، والتقفية تجعل الموشح شكلا من أشكال الفسيفساء التي يعجبك ظاهرها فإذا فتشتها وجدت تكرارا في الوحدات الصغيرة. وهناك الاستقلال في الاشطار حتى في اجمل الموشحات وأرقها مثل موشحة الأعمى:

ضاحك عن جمان

سافر عن بدر

ضاق عنه الزمان

وحواه صدري

(1) دار الطراز: 83.

ص: 245

فهذا نسق جميل ولكنه غير متلاحق تلاحق النثر لفظا ومعنى، بل كل شطر فيه قائم بنفسه.

وهناك الموشح الذي يمثل بحرا شعريا واحدا كاملا قائما على قافيتين في الشطر الواحد مثل موشحة ابن بقي (1) :

يا ويح صب البرق

له نظر وفي البكاء مع الورق له وطر

من أجل بعدي عن صحبي

بكيت دما

كم لي هنالك من سرب

ووصل دمى

وعسكر الليل في الغرب

قد انهزما فهذا الموشح على البحر البسيط، وتستطيع أن تجمع أطرافه بحيث يصبح على النحو التالي:

يا ويح صب إلى البرق له نظر

وفي البكاء مع الورق له وطر

من أجل بعدي عن صحبي بكيت دما

كم لي هنالك من سرب ووصل دمى وكان التأثر بين الشعر والموشح متبادلا، فالموشح الشعري هو النقطة المتوسطة بين الموشحة الغنائية والقصيدة، أو هو قصيدة تنوعت فيها القوافي وانتحلت نظاما جديدا. وكذلك اثر الموشح في المحافظين الذين أحسوا أن التنويع في القافية أمر ضروري احيانا، ولذلك نرى هؤلاء المحافظين يتجهون إلى المخمسات أو إلى تخميس قصائد مشهورة، ومنهم ابن زيدون في مسمطانه أو مخمساته مثل قوله (2) :

(1) دار الطراز: 78.

(2)

ديوان ابن زيدون: 194.

ص: 246

وأكرم بأيام العقاب السوالف

ولهو أثرناه بتلك المعاطف

بسود أثيث الشعر بيض السوالف

إذا رفلوا وشي تلك المطارف فليس على خلع العذار ملام

ومن هذا اللون " ملعبات " ابن ابي الخصال، والملعبة؟ كما يعرفها دوزي - نوع من الشعر المتداول الشائع، ومن تلك الملعبات واحدة مطلعها (1) :

سمت لهم بالغور والشمل جامع

بروق بأعلام العذيب لوامع

فباحت بأسرار القلوب المدامع

ورب غرام لم تنله المسامع أذاع به مرفضها المتصوب

ومن تفنن ابن أبي الخصال بناؤه القصيدة على أشطار قصيدة أخرى لشاعر مشهور، كقصيدة أبي تمام في فتح عمورية:

الحمد لله أضحى الدين معتليا

وبات سيف الهدى الظمآن قد رويا

ان كنت ترتاح الأمر الذي قضيا

فسله نشرا ودع عنك الذي طويا فالسيف أصدق أنباء من الكتب

وقد أقيل بعض كتاب تحوير الأوزان والتجديد فيها، كما فعل السرقسطي في بعض ما ضمنه مقاماته من شعر. كذلك اعتمد بعض كتاب المقامات طريقة " المربعات " مثل قول ابن عياض في المقامة الدوحية (2) :

(1) ترسل: 115.

(2)

المقتطف: 74.

ص: 247

يصيد آساد الشرى

بمقلة تسبي الورى وماء وجه لا ترى للشعر فيه طحلب

ولعل اوضح اثر للموشح يتجلى في قصيدة زهدية لابن العسال الزاهد يحض فيها على التمسك بمذهب مالك (1) :

أيا من غدا جاهلا ناسكا

إن احببت ألا ترى هالكا

فأم إمام الهدى مالكا

ولا تك مذهبه تاركا

فمذهبه ناشر من كفن

لمن كان في جهله قد دفن

إلهي يا من إليه القضا

عبيدك يأمل منك الرضى

ويستغفر الآن عما انقضى

فهبه له واغتفر ما مضى

وخلصه من موبقات الفتن

لدى حشده مع اهل السنن فإذا أردنا أن نحكم على الناحية الفنية في الموشح لم نستطع أن نقول أن الأندلسيين كانوا يؤثرون شيئا دون شيء وانما كل ما هنالك ان هذا النوع الجديد كان معرضا للتفنن، وان الحرية في ذلك لم تكن محدودة وليس هنالك من معالم تهدينا إلى رسم خط تطوري سار فيه الموشح في عصر الطوائف والمرابطين، وإنما كان لتلك الحرية الكبيرة أثر في تنويع النغمات، ثم ترجع المسألة بعد ذلك إلى القدرة الفردية على الغنائية والجرأة لدى وشاح دون آخر في الكشف عن نغمات جديدة وخرجات عذبة أو حارة أو سهلة سائغة. ومن اجل الخرجة نفسها يصعب علينا اليوم ان نحكم بالتفرق لوشاح دون آخر. نعم ان بعض الخرجات لا يزال يطربنا

(1) معجم السلفي 1: 233 (ونسخة عارف حكمت: 112) .

ص: 248

ويعجبنا ولكن لا شك في أن الأندلسيين كانوا اقرب منا واقدر على تذوق تلك الخرجات العامية والأعجمية وتقدير ما فيها من براعة وحذق.

ولقد نضع اليوم مقياسا يعتمد طبيعة الموضوع الذي تعالجه الموشحة، فان النغمات الراقصة الوثابة تلائم الغزل مثلا، ولكن قد يكون من الجرأة البالغة ان يعتمد الوشاح تلك الجزئيات الفسفسائية لموضوع كالرثاء، فحين نرى وشاحا قد وفق في الرثاء، رغم ذلك، فقد كلفته المحاولة جهدا كبيرا، وقد كان عبادة القزاز بهذا المعنى، من اجرأ الوشاحين، فهو يتفنن في الخرجات، وهو يسخر الموشحة لموضوعات دقيقة كأن يصف مثلا منظر السفن والعرض البحري يوم المهرجان اذ يقول (1) :

فقلت مستنطق

من ذا الذي أهدى

إلى فؤادي الخفقان

فقال قمفلتنظر في الشاطي

إلى بنود الشوان

عدواك ثمواستخبر أقراطي

أما تراها مثول

على قناها خافقة

في جاريات تجول

مثل الجياد السابقة

إنشاء من في المحول

ينشي السحاب الوادقة

سمت على النجم طول

منها فروع باسقة

ان الثريا تقول

وانها لصادقة

ما فوق هذا المكان

من الهممفيه يرى مناطي

سمت على كيوان

من القدموالمشتري مواطي

(1) دار الطراز: 61.

ص: 249

9 -

الموشح بعد هذا العصر:

مع أن دراسة الموشح بعد هذا العصر؟ عصر الطوائف والمرابطين - تقع خارج حدود هذا الكتاب فلا بد في سبيل استيفاء الصورة العامة للموشح الأندلسي من إجمال بعض الحقائق المتعلقة بفن التوشيح حتى نهاية العصور الأندلسية:

1 -

استفاض عدد الوشاحين في عصر الموحدين خاصة وكان في مقدمتهم شهرة أبو بكر ابن زهر الحفيد، ومن وشاحي ذلك العصر أبو القاسم عامر بن هشام (- 613) وابن قادم القرطبي وابن حنون الاشبيلي (- 630) وأبو الحجاج يوسف بن عتبة (- 638) وابن الصابوني وابن سهل الإسرائيلي والكساد وابن حبيب القصري وابن هرودس وابن نزار وابن الفرس وابن حزمون وعلي بن المريني والمنتاني والمتيطي وابن حريق وابن موهل الشاطبي وكثيرون غيرهم. واصبح بر العدوة يشارك الأندلس في فن التوشيح ومن أهلها: خلف الجزائري وابن خرز البجائي، واستمر الإقبال على التوشح شائعا فكان من مشاهير الوشاحين: لسان الدين بن الخطيب وابن زمرك.

2 -

كثر الميل إلى الموشح المنظوم على الأوزان الشعرية المألوفة حتى ان جل ما عرفه المقري من موشحات ابن زمرك لينخرط في سلك المعرب إذ أكثره من مخلع البسيط (1) .

3 -

اتسعت أغراض الموشحات فقلب ابن حزمون الموشحات الجادة وجعلها في الهجاء، ونظم الوشاحون في التصوف، كموشحات ابن عربي

(1) ازهار الرياض 2: 166.

ص: 250

والمشتري وأصبحت الموشحات تقال في التشوق ووصف المباني والطرد والتهنئة كموشحات ابن زمرك، وأكثر هذا الوشاح نفسه من " الصبوحيات " واتجهت بعض الموشحات إلى الامداح النبوية. وتوفر بعضهم على الرثاء كموشح ابن حزمون في رثاء القائد ابي الحملات وموشحات ابن جبير في رثاء زوجه أم المجد.

4 -

ازدادت الصنعة اللفظية في بعض الموشحات حتى فارقت بذلك رقة الأغنية وأصبحت تلاعبا وتمرسا ببعض القوافي المهجورة، كما يفعل بعض كتاب المقامات إظهاراً للمهارة اللغوية.

ص: 251

الزجل الأندلسي

1 -

مصادر الزجل:

من الأمور التي تلفت الناظر في تاريخ الموشحات والأزجال أن يكون الاثنان اللذان شرحا قواعد هذين الفنين مشرقيين على الرغم من أن الأندلس هي المنبت الأول لهذين الفنين. فكما أن ابن سناء الملك هو الذي فسر قوانين التوشيح، كان الصفي الحلي في كتابه " العاطل الحالي " مفسرا لكيان الأزجال وتاريخها. أما الأندلسيون فلم يصلنا شيء من تحليلهم للأزجال ووصفها وتاريخها وطريقة نظمها، باستثناء بعض الملاحظات التي ذكرها ابن قزمان في مقدمة ديوانه، وبعض الملاحظات التي قيدها ابن خلدون في مقدمته. وقد كتب ابن الدباغ الأندلسي كتابا سماه " ملح الزجالين " أو " مختار ماللزجالين المطبوعين "(1) ولكن يبدو من اسمه أنه كان يحوي مختارات من الأزجال وترجمات للزجالين، وليس من دليل على انه حوى شرحا نظريا أو تاريخيا لفن الزجل.

(1) المغرب 1: 178، 438.

ص: 252

وبحث الصفي الحلي في الأزجال مفيد من بعض نواحيه غير انه ملي بالأوهام الناجمة عن البعد المكاني وعن التباين في اللهجات. أما البعد المكاني فانه أفسد شيئا من تصورات الحلي عن القطر الأندلسي، وأعجزه عن أن يقطع جازما بأن ابن غرلة لا يمكن ان يكون مخترعا للزجل، إذ هو متأخر في تاريخه عن ابن قزمان، وأن هذا الشيء نفسه يصدق على مدغليس وان تنبه الصفي لهذا الثاني لأنه وجد في ديوانه إشارة إلى ابن قزمان. وهذا البعد المكاني جعله يتصور؟ مخطئا - أن المدن الأندلسية المختصة بالمسلمين وخرج منها الزجل والموشح هي اشبيليا وقرطبة وبلنسيا ومالقة (1) . وأما فرق اللهجة فقد نسبه الصفي؟ إلا قليلا - حين ذهب يقيس كلام الأندلسيين على كلام المشارقة في عصره أو يقيه على اللغة الفصحى، فهو يرى أن الفعل " أتحكم " قد زيدت فيه ألف وإنما أصله " تحكم " وان " نشياعو " اصلها " نشيعه "، ولم يتنبه إلى أنه إنما ينظر في لهجة جديدة مستقلة، وان الأصل الذي يجب أن يؤسس عليه بحثه هو استخراج قواعد عامة لتلك اللهجة، لا نسبة الزيادة والنقص إلى الألفاظ فيها، قياسا على اللغة الفصحى أو على ما في بعض اللهجات العامية بالمشرق.

وأمر آخر وهم فيه الحلي، وهو انه عد قصائد مدغليس الثلاث عشرة التي وجدها في ديوانه أزجالا، ولم ينتبه إلى الأندلسيين كانوا يسمون هذا اللون " شعرا ملحونا "، وان الزجل لديهم ذو دلالة مخالفة. وهذا ابن سعيد في المغرب يورد لأحدهم زجلا ثم يورد للزجال نفسه نموذجا يميزه باسم الشعر الملحون (2) . والفرق بينهما في ابتعاد الزجل عن شكل

(1) العاطل الحالي: 18.

(2)

المغرب 2: 223.

ص: 253

القصيدة، لا بقاؤه قصيدة سقطت منها الروابط الإعرابية. وقد جعل ابن قزمان تعرية الزجل من الأعراب ميزة له (1) ، ولكن هذا لا يعني ان كل ما جرد من الإعراب سمي زجلا.

وقد رسم الصفي الحلي حدود التفرقة التي اصطنعها المشارقة بين أنواع من المنظومات باللغة الدارجة مثل الزجل والبليق والقرقي. الخ ولكن هذه التفرقة لم تكن موجودة بين الأندلسيين، ذلك لأن الزجل لم يقتصر عندهم على الغزل والنسيب والخمري والزهري، ولو تنبه الصفي لديوانه ابن قزمان لوجد أزجاله تحوي المدح والرثاء أيضا كما تحري الاحماض الذي أطلق عليه المشارقة اسم البليق، وتحوي الهجاء الذي سمي عند أهل المشرق باسم القرقي. فالزجل الأندلسي لم يعرف هذه التقسيمات بحسب الموضوعات، بل كان في الإمكان ان يشمل اسم الزجل تلك الموضوعات جميعا. ولم يميز سعيد إلا نوعا واحدا من الزجل كان البداة يغنون به على البوق، وقد سماه " الطيار "(2) ، ولا أدري أهذه صفة اصطلاحية دقيقة أم محض وصف للشيوع والانتشار.

وحفظت الأيام من يد الضياع ديوان ابن قزمان. وقد كان لهذا الزجال ديوانان: أحدهما صغير سماه: " إصابة الأغراض في وصف الأعراض " جمعه لممدوحه الوشكي، والثاني ديوان كبير (3) والأول منهما هو الذي وصلنا، وهو يحتوي 146 زجلا. وهو بطبيعة الحال لا يحتوي كل أزجال ابن قزمان، فقد أورد ابن مباركشاه صاحب السفينة عددا من الأزجال لابن قزمان لم ترد في ديوانه المذكور. كذلك يجب

(1) مقدمة ديوان ابن قزمان: اللوحة الأولى.

(2)

المغرب 1: 172.

(3)

العاطل الحالي: 68.

ص: 254

أن تلاحظ اختلاف الرواية في المشترك بين ديوان ابن قزمان وما ورد من أزجاله في مصادر أخرى كالسفينة والوافي والمغرب.

أما ديوان ابن قزمان نفسه، وهو أنفس أثر زجلي أندلسي، فقد نسخ بمدينة صفد في فلسطين، في منتصف القرن السادس، وقد نشره دافيد جنزبرج سنة 1896 في شكل لوحات مصورة، ومنذ ذلك الحين استأثر بجهود الدارسين الغربيين وأخذت الأبحاث؟ وبخاصة الفيلولوجية - تتوالى عنه. حتى كان عام 1933، إذ نشر شعره المستشرق النشيكي نكل بحروف لاتينية، وكتب عنه دراسة، وترجم بعضه إلى الأسبانية، ولكن نشرة نكل كانت مليئة بالأخطاء، فانتقدها المستشرق الفرنسي ج. س. كولان وأعاد إعداد نشرة جديدة لشعر ابن قزمان بحروف لاتينية، وتجنب كثيرا من الأخطاء التي وقع فيها نكل. وفي السنوات الأخيرة عمل فيه المستشرق الأسباني، الأستاذ غرسية غومس بجهد جديد، وأعده للنشر بحروف لاتينية مع دراسة ضافية. ويبدو أن الأستاذ غرسية خاضع لفكرة صارمة في طريقة قراءته لهذا الديوان، وهي إيمانه أن أوزان الزجل أسبانية، ولذلك فان القراءة التي يعتمدها؟ والتي ستظهرها الكتابة اللاتينية عند نشر الديوان - قد تشير إلى تحكم عامد للتمشي مع نظريته. هذا مع أن التشابه العارض بين أوزان الزجل الأندلسي وأوزان الشعر الأسباني لا يؤيد هذه النظرية، فان سقوط الإعراب من الزجل يجعل اعتماد الزجال على النبر accent أكثر من اعتماده على مقياس الحركة والسكون في التفعيلة وهذا الاعتماد على المنبر يقرب بعض الأوزان العامية في لهجات المشرق والمغرب على السواء؟ حديثة كانت أو قديمة - من بعض أوزان الشعر والأغاني في اللغات الأجنبية عموما. وأعتقد أننا ما زلنا بحاجة شديدة؟ في الشرق العربي - إلى أن نرى قراءة صحيحة لديوان ابن قزمان

ص: 255

ولا ضير في أن تكتب بالحروف اللاتينية، مثلما أننا بحاجة إلى الإفادة من جهود المستشرقين في النواحي الفيلولوجية، وفي وضع معجم للألفاظ الأندلسية الدائرة في ديوان ابن قزمان؟ عربية كانت في اصلها أو أعجمية -.

وقد يسر لنا تحقيق كتاب المغرب لابن سعيد على يد الدكتور شوقي ضيف؟ بعد أن كان الكتاب أوراقاً مضطربة يحجم المحققون عن التمرس بها - مصدرا جديدا لبعض الأزجال الأندلسية، ومعلومات عن الزجالين حتى عصر المؤلف. ثم استخرج الأستاذ هوينرباخ قطعة الزجال الموجودة في سفينة مباركشاه، وجعلها ملحقا على " العاطل الحالي ". وإذا أضفت إلى هذين إشارات ابن خلدون إلى الأزجال والأشعار العامية في الأندلس والمغرب، ثم الأزجال الصوفية في ديوان الششتري، كدت تستوفي مصادر الأزجال الأندلسية.

ولم تتوفر لدينا دراسة منظمة للأزجال باللغة العربية قبل ان ينشر الدكتور عبد العزيز الاهواني كتابة " الزجل في الأندلس " وهي محاضرات ألقاها على طلبه قسم الدراسات الأدبية واللغوية، بمعهد الدراسات العربية العالية، التابع لجامعة الدول العربية (1957) ، وهي أول دراسة علمية دقيقة متأنية، من نوعها، بالعربية، وتقع في ثلاثة فصول: أول عن نشأة الزجل، وثان عن تاريخ الزجل وحياة الزجالين، وثالث عن مكانة الزجل وقيمته الأدبية. ولا ريب في انها دراسة رجل واسع الاطلاع، نافذ البصر في هذا الموضوع، وانا مدين لها بشيء كثير من مادة هذا الفصل.

ص: 256

2 -

نشأة الزجل وتطوره:

قد قدمت رأيي عند الكلام في نشأة الأزجال ايضا، وقدرت أن تكون الحاجة الشعبية إلى الغناء، هي السبب المباشر في نشأتها بالإضافة إلى التأثر بالأغنيات الشعبية الأعجمية الشائعة يومئذ في الأندلس. فالزجل في بدايته أغنية شعبية لم تبدأ حين تم ازدواج اللغة العربية في الأندلس لانقسامها بين لهجة دارجة وأخرى مكتوبة. وقد بدأ هذا الازدواج في المدن الكبيرة، ولا أظنه تعدى نهاية القرن الثالث وبداية الرابع، ثم تجاوز هذا الازدواج مجال المدن إلى البادية حتى لنرى ان هناك؟ في دور متأخر - أزجالاً يتغنى بها البداة أنفسهم.

ولقد يكون التساؤل عن مخترع الموشح أمراً معقولا، أما التساؤل عن مخترع الزجل فانه من قبيل الجهد الضائع، لأن الأغنية الشعبية تظل في العادة جهد " جنود مجهولين ". ولا بد انه مضى وقت غير قصير قبل أن ينتقل هذا اللون من الشعبية الخالصة إلى يد الفرد الزجال الذي يمنحه قوة من شخصيته وتفننه. ولذلك لم نجد نماذج مبكرة من الزجل إلا في منتصف القرن الخامس، عندما نشأت طبقة الزجالين التي خلفها ابن قزمان ومنهم يخلف بن راشد وغيره. وهذا هو الذي أوهم من ظنوا ان الزجل كان محاكاة للموشح، لأن اقدم ما وصلنا من الموشحات سابق على اقدم ما وصلنا من الأزجال.

وعلى هذا يمكن أن نرسم خطا لتطور الزجل يبدأ بالأغنية الشعبية المجهولة المؤلف، ثم بفترة الزجالين الذين جاءوا قبل ابن قزمان مباشرة، وسماهم في مقدمة ديوانه " المتقدمين "، وقد اتهمهم ابن قزمان

ص: 257

بالتقصير في ميدانهم، ولكن اكبر تهمة وجهها إليهم هي ميلهم إلى الأعراب. وميز من بينهم اخطل بن نمارة:" ولم أر أسلس طبعا، واخصب ربعا، ومن حجوا وطافوا به سبعا، أحق بالرياسة في ذلك والإمارة، من الشيخ اخطل بن نمارة، فانه نهج الطريق، وطرق فاحسن التطريق، وجاء بالمعنى المضيء والغرض الشريق، طبع سيال، ومعان لا يصحبه به جهل الجهال، ويتصرف بأقسامه وقوافيه، تصرف البازي بخوافيه، ويتخلص من الغزل إلى المديح، بغرض سهل وكلام ومليح "(1) .

وقدم ابن قزمان نماذج من التخيلات التي أعجبته لدى ابن نمارة مثل قوله: " طاق في خدي وبف في القنديل "(2) ومثل: " طاق طرطق مقلس اسطمان؛ دب دردب "؛ ومن اللفظ السبط ذي المعنى المتمكن قوله:

قدر الله وساق الوسواس

امكرت على عيون الناس

ولعبنا طول النهار بالكاس

وجا الليل وامتد مثل القتيل

وقوله:

أنا من أهل الباديه

ومعي دارا خاليه

ملا بدم الداليه

(1) اللوحة الثانية من مقدمة الديوان.

(2)

طاق: حكاية صوت القبلة.

ص: 258

ومن التعبيرات التي عاب بها ابن نماره قوله: " فمن نعمانتين في روض تلك الوجنتين " وقوله: " كسر الله ساق كل ثقيل ".

ومن هؤلاء الزجالين المتقدمين أيضاً يخلف ابن راشد الذي عاب ابن قزمان زجله بشدة الأسر فقال:

زجلك يا ابن راشد قوي متين

وان كان هُ للقوة فالحمالين وتعني ملاحظات ابن قزمان على من سيقوه كثير، منها أن الأعراب يشين الزجل، وان الأصل في الزجل ليس للجزالة، كما هي أزجال ابن راشد، وإنما الرقة فيه مطلوبة مع لطف في التخيل وحسن السبك. وهذا يدل على ان الزجل؟ بعد مرحلة الأغنية الشعبية - دخل في دور من " التفصح "، بعض الشيء، واخذ نظامه يتشبهون بالشعراء حتى كاد يمحي الفرق بين الزجل الشعبي والشعر الملحون.

على ان المقاطع الزجلية التي ساقها ابن قزمان لابن نمارة لا تدل على هذا الاتجاه. غير أن صفي الدين يقول: " وأول ما نظموا الأزجال جعلوها قصائد مقصدة وأبياتا مجردة في أبحر عروض العرب، بقافيةواحدة، كالقريض لا نغايره بغير اللحن واللفظ وسموها القصائد الزجلية "(1) . وإذا لم يكن حكم الحلي مبنيا على ما رآه من قصائد مدغليس؟ وهو متأخر - بحيث يرفض حكمه إطلاقا، فأنه أيضا لا ينطبق على دور الأغنية الشعبية، وإنما يصدق على دور تال لها عندما اصبح الزجل لونا من الشعر الملحون، ولا ريب في أن لابن نمارة فضلا في العودة بالزجل إلى صورة مستقلة استقلالا واضحا عن الشعر، وان لم يخلص تماما من الأعراب؟ ثم كان ابن قزمان، وهو ذو الأفضل الأكبر في إعطاء الزجل شكله النهائي في مراحل التصور، وهذا هو الدور الثالث

(1) العاطل الحالي: 17 - 18.

ص: 259

من الزجل، الذي يبدأ بابن نمارة وينتهي بابن قزمان، وهو من عرف بلق " الإمام " بين زجالي الأندلس.

ثم كان دور مدغليس عودة إلى الخلط بين الاتجاهين، فهناك القصائد الزجلية تمشي جنبا إلى جنب مع الأزجال الحرة المطلقة من اسار الشكل الشعري التقليدي. حتى إذا أرخ ابن سعيد للزجل فرق بين النوعين فسمى النوع الأول شعرا ملحونا وسمى الثاني زجلا، ثم ضاعت تلك التفرقة عند ابن خلدون والحلي؛؟ أربعة أدوار متميزة في تطور الزجل.

وحين افترضت أن الأغنية الشعبية هي " ام " الزجل، كنت افترض في الوقت نفسه أن تكون صلة الزجل بالغناء وشيقة، وان قدرت أيضا أن تتفاوت تلك الصلة على مدى الزمن قوة وضعفا. وهذا أمر يكاد يكون مؤكدا على ضوء النصوص التي بين أيدينا، فابن سعيد يذكر أن البداة كانوا يغنون نوعا من الأزجال على البوق (1) ، وابن قزمان يتحدث في ديوانه عن التغني بالزجل (2) . وقد ناقش الدكتور الاهواني هذه الصلة، فتحدث عن نظرية ريبيرا التي شرح فيها كيف ان الزجل كان يغنيه في قرطبة جماعة من الناس، فيبدأون بالمطلع ويكررونه مرات، ثم يكفون عن الغناء، ويبدأ الزجال فينشد الغصن الأول وحده، والجماعة سكوت، ثم يعود الجمهور إلى الإنشاد، ليغني الثاني من الزجل؟ ناقش الدكتور هذه النظرية ورأى أن الدراسة الدقيقة لأزجال ابن قزمان تثبت أن هذه الأزجال، مهما كان حظ الخيال العامي فيها والمعاني الشعبية، لم تكن فنا شعبيا صحيحا، وان كانت مزيجا من فنين: فن خاص قديم

(1) المغرب 1: 172.

(2)

انظر الأهواني: 145 - 146 وديوان ابن قزمان، الزجل:61.

ص: 260

متداول بين الشعراء والوشاحين، وفن شعبي لا سند له من التراث المكتوب، وان جمهور الزجل لم يكن الشعب في الأزقة والحارات كما لم يكن أيضا الجماعة الضيقة المحدودة التي نظم لها الشعراء القصائد (1) " ولا ريب في ان الدكتور الأهوائي لم يرد أن ينفي نظرية ريبيرا إطلاقا، وهو نفسه يقر بأن جماعات الصوفية كانوا يمشون في الأسواق ويتغنون بأزجال الششتري، وإنما هو يدخل عليها بعض التعديل، حين أصبح الزجل فنا يكتب ويحاكم إلى ما فيه من صور وأخلية جميلة، ويخص به ممدوح واحد.

ويبدو لي أن نظرية ريبيرا ستظل صحيحة في مجملها، وقد جاء في رسالة؟ من رسائل الحسبة - لابن عبد الرؤوف:" ويمنع الذين يمشون على الأسواق بالأزجال والأزياد (؟) وغيرها، أن لا يكونوا (2) في وقت ينفر فيه للجهاد، ويمشي فيه غالى الحجاز، فيحرضون الناس على ذلك بما يوافق المعنى فلا بأس بذلك "(3) وهذا النص يعني أن هناك ناسا يمرون في الأسواق منشدين الأزجال، وأن هذا الفقيه ينصح بمنعهم، إلا إن رددوا أزجالا في وقت الجهاد ملائمة لمعنى الحث عليه وامداحا نبوية في مواسيم الحج. وقد تكون رسالة ابن عبد الرؤوف متأخرة في تاريخها، ولكن الظاهرة الاجتماعية التي تصورها، ربما كانت استمرارا لما ألفه الناس من مهمة الزجل في فترات مبكرة. ثم ان تخصيص الزجل بمدح شخص قد ذكر اسمه فيه يمنع هؤلاء القوالين والمكدين من التصرف وتغير اسم الممدوح ووضع اسم ممدوح جديد. وكذلك فان كتابة

(1) الأهواني: 147.

(2)

لعل الصواب: " إلا ان يكونوا ".

(3)

ثلاث رسائل: 113.

ص: 261

الزجل لا تنفي التغني به؛ نعم إن الكتابة نقلت الزجل من دور الأغنية الشعبية وساعدت على حفظه وأكدت الاهتمام به، ومعنى ذلك أن القابلية لتلقي الأزجال قد اتسعت وشملت طبقات جديدة من الناس لم تكن ترى في الأغنية الشعبية إلا تلهية عابرة، ولكن ليس هناك ما يحول دون اتخاذ هذا اللون الجديد من الزجل مادة للغناء. وربما كان الخطأ في نظريته افتراضه أن الزجال لا يد من ان يكون ذا دور في التغني بزجله، وافتراضه أيضا أن الزجل والموشحة فن واحد لا يفترق أحدهما عن الآخر إلا في المستوى اللغوي، فالموشحة تطلق على المهذب من الزجل (1) . وهذا رأي أراني خالفته في أصول ما كتبته عن الموشحات من قبل.

3 -

العلاقة بين الموشح والزجل:

حين تحدثت عن الموشح بينت مبنى الوحدة الواحدة فيه، أما الوحدة في الزجل أو " الدورة " فتكون في الغالب من قفل ذي أربعة اشطار (دون قافية في آخر الأول والثالث) ومثاله من أزجال ابن قزمان (2) :

يا جوهر الجلال

يا فخر الأندلوس

طول ما نكن بجاهك

لس نشتكي بوس ويلي هذا القفل غصن من ستة اشطار (لا تقفى فيها الآحاد)

صار الزمان صديقي

أراد أو لم يريد

(1) انظر تاريخ الفكر الأندلسي: 143، 156.

(2)

الزجل رقم: 17، اللوحة 11 ظ.

ص: 262

وريت أنا سروري

جديد ورا جديد

وكل ليلة فرحه

وكل ليله عيد ثم يجيء قفل من شطرين فقط، وتتكرر الاقفال التالية جميعها كذلك:

واجليت فيه آمالي

وبت أنا عروس وهناك نوع آخر وهو اشد شبها بالموشح اذ التقفية فيه مرعية حسب القانون العام الذي يعتمد عليه الموشح كله، في جميع الأشطار، ومثاله (1) :

صد عني وملني لما

كان لقلبي حبيب

عجل الله علي في صدي

بوصالا قريب

ما نقاسي عليك وما نلقى

في غنى من بيان

وانا بالوفا والاستبقا

لسن نبدل مكان

ونحبك محبة تبقى

على طول الزمان

ونجد لك في قلبي شيئا ما

ان حضرت أو تغيب

واش فذا من نكير وفي ودي

واش في ذا [من] غريب وهكذا إلى آخر الزجل، وهو شبيه كثيرا بالموشح، بل هو محاكاة له حتى ليمكن أن نسميه " الزجل؟ الموشح ". ومن اجل هذا نجد الزجال في آخر هذا النوع يبحث عن خرجة ملائمة أو " مركز "، ويصرح ابن قزمان ببحثه عن المركز إذ يقول في ختام الزجل السابق:

ذاب تنظر في مركزا مطبوع

بكلاما نبيل

(1) الزجل رقم: 52، اللوحة 28ظ

ص: 263

وتراه عندي من قديم مرفوع

لس ترى به بديل

بالضرورة إليه هو المرجوع

دعن عن قال وقيل

" الشراب والغنا وجر في الما

في رياضا عجيب

هذا كل علال هُ عندي

لوصال الحبيب " واحيانا يصرح ابن قزمان انه نظم زجله على عروض موشح معروف واستعار الخرجة منه (1) :

ريت وحد النهار خرج بالكميت

وفي قلب من اجل مما دريت

قلت فيه ذا الزجل كما قد رويت

عرض التوشيح الذي سميت

" عقد الله راية النصر

لأمير العلا أبو زكري " وهي خرجة مأخوذة من موشح لابن باجة " عقد الله راية النصر / لأمير العلا أبي بكر ".

ولما كانت الخرجة في الموشح عامية أو أعجمية كانت أهم شيء فيه من حيث الالتفات المفاجئ للاتجاه نحو الختام، ولكن الزجل عامي كله تخالطه أحياناً ألفاظ أعجمية، فإذا لم يكن مثال الموشح احتال فيه الزجال على حركة الختام، كأن يعلن ان الزجل قد انتهى وجاء مليحا، مثلما ان الشعراء يقولون في القصائد أبياتاً ختامية يتمدحون فيها بروعة القصيدة، ومن ذلك قول ابن قزمان:

أي زجيل قلت فيك

ومليح جا، والرسول

وعملت في عروض

" الغزال شق الحريق "

(1) الزجل رقم 133 اللوحة 68ظ.

ص: 264

أو قد تتمثل حركه الختام بإرسال حكمة غريبة عن الزجل لأنها مأخوذة من الكلام الفصيح مثل (1) :

لا نسيت إذ زارني حبي

وانجلى همي وزاد كربي

قلت له وقتا أخذ قلبي

قل متى تحين، قال غدا:

" وغدا للناظرين قريب " أو يقول الزجال نفسه تم الزجل:

تم الزجل وه أحلى من النسيم

يغنيه الساقي ويرقص به النديم وقد سمى ابن قزمان أحد أزجاله " معلم الطرفين " لأنه ختمه بمثل ما ابتدأ (2) .

فالقفل الأول:

ما عِ معشوقا مليح ووفي

جيد يكون إن لم تجيه طزع والخرجة:

معي زجيل معلم الطرفين

كالقنا والشفر من جهتين

والخرج دو مني عملين

معي معشوقا مليح ووفي

جيد يكون إن لم تجيه طزع

(1) الزجل رقم 58 اللوحة 31ظ (وفي الأصل: قال متى تجين قل غدا) .

(2)

الزجل رقم: 59 اللوحة 31ظ.

ص: 265

وإذا كان الزجل في الرثاء ظهرت خاتمته جلية من طبيعة الدعاء الختامي. وهكذا ترى ان الزجل لم يستعر دائما شكل الموشح، وانه جرى كثيرا على طبيعة القصيدة من حيث خرجته باكثر مما جرى على سياق الموشح. إلا انه اتخذ في الغالب شكلا مستقلا عن الاثنين، وجاء اكثر انطلاقا منهما لاحتفاله بالسرد القصصي، ولعدم الإلحاح على التقفية في أجزائه كلها.

4 -

ابن قزمان والزجل:

اسمه محمد بن عيسى بن عبد الملك بن عيسى بن قزمان وكنيته أبو بكر ولد حوالي سنة 480 وتوفي سنة 554 والأمير محمد بن سعد بن مردنيش محاضر قرطبة (1) وقد خلطت بعض الكتب وبعض الدارسين بينه وبين أبي بكر محمد بن عبد الملك بن عيسى؟ الأكبر - وهو عم الزجال. قال ابن سعيد في ترجمته له: " إمام الزجالين بالأندلس؟ وذكر الحجازي انه كان في أول نشأته مشتغلا بالنظم المعرب فرأى نفسه تقصر عن أفراد عصره، كابن خفاجة وغيره، فعمد إلى طريقه لا يمازحه فيها أحد منهم فصار إمام أهل الزجل المنظوم بكلام عامة الأندلس "(2) وذكر ابن سعيد في موضع آخر ان بيت بني قزمان في قرطبة بين جليل منه أعلام ونبهاء (3) ، وقد أورد له ابن سعيد قطعتين من الشعر المعرب، إحداهما نظمها وقد رقص في مجلس شراب فاطفأ السراج بكمه، والثانية في مدح

(1) تحفة القادم رقم: 25 والوافي 4: 300.

(2)

المغرب 1: 100.

(3)

المصدر السابق 1: 605.

ص: 266

يحيى بن غانية الملثم سلطان الأندلس، وأورد له ابن الابار في تحفته القادم مقطعات أخرى نقلها الصفدي عنه أيضاً في الوافي بالوفيات. وتدل المناسبة التي نظم فيها القطعة الأولى؟ الرقص في مجلس شراب - على أن أزجاله لا يستبعد ان تصور مذهبه الواقعي في الحياة.

وقد درس الدكتور الاهواني ابن قزمان من أزجاله دراسة دقيقة تفصيلية (1) ، وصورته الشخصية فيها انه طويل القامة ابيض الوجه أشقر اللحية ازرق العينين، وهذا قد يوحي بأنه كان جميلا، إلا أن ابن سعيد يذكر في ترجمة نزهون الغرناطية ان ابن قزمان كان قبيح المنظر وانه لبس مرة غفارة صفراء فرأته نزهون وقالت له: أصبحت كبقرة بني إسرائيل ولكن لا تسر الناظرين (2) .

وإذا صح أن يكون ما في أزجاله دالا على طريقته في الحياة، فانه كان يحب اللذات ويقبل عليها بنهم فيشرب الخمر عن المغامرات مع النساء والغلمان ويكره الزواج ويجد فيه منغصات كثيرة، وشتان؟ في رأيه - بين الحب والزواج في استثارة اللذة:

يقبل الزوج ولا يدر طيب القبل

لس يربح القبل والتعنيق غير العشيق

إلا أن المراكشي صاحب الذيل والصلة ترجم لولد يسمى احمد (3) وهذا يدل على انه عرف الحياة الزوجية، كما تدل بعض أزجاله انه تزوج مرة وطلق.

(1) الزجل في الأندلس: 67 - 105.

(2)

المغرب 2: 121.

(3)

الزجل في الأندلس: 77.

ص: 267

ويتمثل في أزجاله مكديا دائم الإلحاف في طلب أنواع الملابس وفي تشهي خروف العيد وفي طلب القمح، وغير ذلك من صنوف الحاجات التي يتفنن في عرضها ودفع الممدوحين إلى بذلها، على نحو لا يخلوا أحياناً من تصوير وضحك. وتشير بعض أزجاله إلى انه ذاق عذاب السجن وحشر فيه مع كل " حواس وقتال "، وأنقذه منه محمد بن سير، فقال يشكره ويصف حالته في السجن ويحمل على القاضي الذي تسبب بسجنه (1) :

لقد اشتد حبلي

وانقطع بعد ما اشتد

وإنما نشكر الله

وابن سير محمد

الفتل كان رفعني

ولد ابن المناصف

وعد مني منافق

وحسبي مخالف

لس عندك مصيبة

لو خرج روح واقف

أو نرى السيف بعيني

لقطوع راسي يجبد

لم ير قط لعمري

قاض يعمل ذا الأعمال

إن يسكن جواري

كل حواس وقتال

بالله ما أطول الليل

إذ نبيت مشغول البال

ليل ان آخر يزاد فيه

أو حبل صورة يمتد ومن أجل نيل الملابس والقمح وخروف العيد وما أشبه نجد أكثر أزجال ابن قزمان قد نظمت في المدح. وقد فرضت عليه شخصية

(1) الزجل: 39، اللوحة:22.

ص: 268

الممدوح دائما طابعا للزجل الواحد، وكان ممدوحوه متفاوتين فيهم الأمير المرابطي والفقيه والقاضي مثل ابن حمدين، والوزير مثل ابن زهر والشاب الجميل المحب للغلمان مثل الوزير الوشكي. فإذا مدح ناسا من ذوي المراكز الاجتماعية العالية أو أهل الجد، فهو جاد يتحدث عن الانتصار في المعركة وعن فضيلة الجهاد والعدل وصلاح الحال والكرم. وان مدح " العيار " الجميل تفنن في المجون وخلط المدح بالغزل، وقد كان الممدوح من هذه الطبقة الثانية هو الذي يقترح عليه أحيانا ما يضمنه زجله، ففي الزجل (69) يعدد أسماء الغلمان ذوي الملاحة نزولا على طلب الوشكي:

لحبيب قلبي اقتراح

نمدح الصبيان الملاح ويختم زجله بقوله: " لولا ات لس كنعمل " أي لولا أنت لما كنت أعمل هذا الزجل.

وثمة شاهد آخر قوي الدلالة في جملته، فقد ورد في صدر القطعة الزجلية التي اوردها ابن مباركشاه في السفينة هذه العبارة:" وقال في الجياني على لسان الوشكي "(1)، أي أن ممدوحه هذا كلفه أن يعمل غزلا في احد الغلمان على لسانه؟ لسان الوشكي - ولولا أن ابن قزمان صرح في آخر هذا الزجل بأن الامر كذلك:

والله إني مطبوع

ولساني فاين

واش هُ في ذا الممدوح

من كلام رايق

لسن أنا فيه عاشق

غيري هو العاشق

الضمير هُ الوشكي

واللسان قزماني

(1) العاطل الحالي: 186.

ص: 269

- لولا ذلك لحسبنا ان ابن قزمان نفسه هو الذي عمد إلى هذا الغزل. ومن يدري فربما كان كثير من أزجاله الغزلية في ديوانه على هذا النحو دون أن يصرح بذلك.

وقد جاء في أول الديوان زجلان كتب في عنوانيهما إنه يتغزل في الوشكي ويمدحه معا، فالوشكي إذن لا يرى بأسا في ان يسمع غزل ابن قزمان فيه وهو في الوقت نفسه يحثه على أن يكتب أغزالا على لسانه. وليست الغرابة في هذا اللون من التصوير الفني الذي مارسه ابن قزمان بمقدار ما هنالك من غرابة في هذه الطبقة الاجتماعية التي يمثلها " الأمير أبو إسحاق إبراهيم بن أحمد الوشكي " الغلام الجميل، الذي كان يتردد على ابن قزمان:" ولم يزل يأخذ نفسه بزيارتي وافتقادي، ويشتمل شرف مذهبي فيه واعتقادي، فجريت مدة اختلافه علي، وتكراره بالزيارة إلي، من المذاهب الطريفة والمقاطع الحلوة، ما تضيق عنه البطاقة، وتضعف عن جمعه القوة والطاقة "(1) .

وقد أثر اختلاف المواقف في طبيعة أزجال ابن قزمان، فهو في مواقف الجد الخالص، يبدأ مادحا دون مقدمات غزلية مثل قوله (2) :

مثل ابن تشفين يقال أمير

والخلافة من بعد عادت تسير بارك الله في هاذا الأيام

تجي أعوام إذا مضت أعوام

ويجعلهم سلاطين الإسلام

ونصرهم كماه نعم النصير

(1) مقدمة ابن قزمان، اللوحة: 2ظ.

(2)

الزجل: 43، اللوحة:25.

ص: 270

وهذا الرجل الذي نتصوره لاهيا، يتمثل لنا على وجه جديد إذ يقول في هذا الزجل:

ذا هُ سلطان كما يقال سلطان

إن يحكم بالسنة والقرآن

وذكا لس نفس عليه شيطان

ينتلف عنده الذكا ويحير

ما في علمي وما سمعت نقول

ندر انك نصرت دين الرسول

وربطت وكان بعد محلول

حتى لس كان بقي لُ غير يسير

ولا يختلف مدحه للقاضي ابن حمدين عن هذه الروح نفسها إلا بمقدار ما يقتضيه المقام، فنراه يقول في بعض مدائحه الكثيرة معبرا عن فرحته بعودة ابن حمدين للقضاء (1) :

رطبت انفس الخلق

وجرى فيهم الدم

ورجع كل مهموم

قلب أبيض بلا هم

لا خلاف بين الإسلام

ان لو لم تقدم

كترى ذي الجزير

والبلا فيه مصبوب وقد يكون من المستطرف هنا ان يقابل الدارس بين زجلين وردا في

(1) الزجل: 43، اللوحة:25.

ص: 271

ديوانه متجاوزين (96، 97) دون مقدمة غزلية، أولهما في مدح شخص يدعى أبا جعفر احمد البلنسي الصراف وكيف ان خصاله الحميدة لا تحصر، وان فيه سبعة أشياء جرى عليها الاتفاق:" كاتم السر، واسع الأخلاق، حر صادق وفي كريم ضياف "؛ ويتوصل الزجال بعد ذلك إلى ميزة ينفرد بها البلنسي وهي انه يشرب ولا يسكر، ولا تتغير حاله:

إنما يجعل الشراب صب صب

وترى فم فالقطيع عب عب (1)

وهُ هابط لمعده دب دب

ثم لا اتكا ولا إنعطاف

ثم إن يشرب وداد كل أجد

ويغطى لمن سكر ورقد

وهُ جالس ينتظرك مثل الأسد

ويلاطفك غاية الألطاف

أما الصورة الثانية التي تتلو هذه المتقدمة فهي في مدح ابن الحاج، وبمقداره ما جاءت الأولى بعيدة عن المثال الديني جاءت الثانية دينية خالصة:

ظهرت سنة محمد

وانصقل مرا الإسلام

رجع ابن الحاج قاضي

فأدام الله ذا الأيام

وصل المظلوم لحق

وانتصف غني ومسكين

يحضر الإنكار والإقرار

ويقع الفصل في الحين

(1) القطيع: الزجاجة.

ص: 272

اجتمع فيه الثلاثا

الورع والعلم والدين

فيزل الحق إذ زال

ويدوم الحق إذا دام ويقابل هذا النوع من التصوير الخارجي الذي يرجو صاحبه به نيل الحظوة عند الممدوحين، أزجال أخرى ذات منزع ذاتي تصور ابن قزمان متهالكا في طلب اللذة، يريد ان يدفن في ظل كرمة، ويرى أن الجنة هي الخمر وعشق الملاح (1) :

الجن لو عطيني هي الراح

وعشق الملاح

نزلن للمزاج

والخذلان

تار مع النسا

وتار مع الصبيان

ودارت الشريبة

وكان ما كان

خلون من نصيح يا نصاح

فسادي صلاح ولكن كم من هذه القطعة يعبر عن نظرة داتية مستقرة في نفس الشاعر؛ لقد قيلت كمقدمة لاستمناح " أبي الحسين علي الزرهوني "، ألا نستطيع أن نفترض أن هذا اللون من المقدمات المجونية كان يعجب مثل هذا الممدوح؟ ان من تذكر فواتح القصائد المدحية لدى ابن حجاج؟ وما فيها من فحش يطرب له ممدوح مثل يختيار - على وقار في ابن حجاج وحياء وسكون أطراف، أقول إن من يتذكر أمثلة من هذا النوع لا يستطيع ان يسرف في تطبيق الشعر على الحياة الواقعية

(1) انظر الزجل رقم: 63 وغيره، وكذلك المقدمة.

ص: 273

للشاعر. لقد كان ابن قزمان محكوما بواقع ممدوحيه، ما في ذلك ريب، ولكني لست أنفي عنه من الناحية الأخرى كل لون مجوني أو كل صلة بالحياة العابثة، بل ان مقدمة ديوانه لتومى إلى انه أحب الوشكي وان هذا الحب الشاذ، كان مسئولا عن حملته على الزواج ونفوره منه.

ومن الظواهر البارزة في ديوانه شدة إعجابه بفنه وبمدى ما حققه في ميدان الزجل:

والله إني مطبوع وأني رشيق

كل سحر نعمل في كل طريق

عندي الغوامض والمعنى الرقيق

ومقاطع أحلى من شعر الحسن

قد سرق كلامي حديث وقديم

سلط الله علي من ذا عظيم

كل أحد يسرق قسيم في قسيم

أي مصيبه يا قوم! الخرس فيه الأمن

ومثل هذا الفخر يؤيد أنه صاحب طريقة فنية حاول فيها التفرد بأكثر مما يؤيد ان حياته الواقعية كانت؟ فعلا - سلسلة من التماجن. وذكره للحسن بن هانيء (أبي نواس) في هذه القطعة وفي غيرها يدل على إعجاب خاص، ولكن ليس من الضروري أن يكون الإعجاب شاملا للطريقة المجونية بل ربما كان اكثر مجونه في أزجاله تقليدا لهذا الشاعر المشرقي. أضف إلى ذلك أن طلب " الشهرة " كان موجها قويا له، وكان هذا الحافز قويا بسبب من روح التحدي نحو الفقهاء في عصره

ص: 274

وهو الذين يصفهم في ديوانه بالرياء والنفاق.

وتكمن ميزة ابن قزمان الكبرى في قدرته على النقل الواقعي والتصوير التحليلي الدقيق وإدخال الحركة القصصية في أزجاله، وتمثيله الصوتي في المواقف الدرامية، وظرفه في معالجة موضوعه حتى حين يسف في الكدية أو يفحش في القصص.

فهو حين يقص علينا قصة رجل جاء لزيارته، وخرجت إليه الخادم لتراه، فقال لها: قولي لسيدك إن إنسانا يريد ان يراك، وكلمت الخادم سيدها فقال لها قولي له:" طلع للرقاد وهو بالخيار إما أن ينتظر أو يذهب " وتبلغه الخادم ذلك فيرد عليها الزائر إنه إنسان اسمه ذهب " فما ان سمع ابن قزمان هذه اللفظة حتى طار إلى وسط الدويرة أو كاد يطير وعثر عند البير؛ ثم كيف اخذ يرحب به ويشتم الخادم وينسب إليها التقصير ويبالغ في الترحيب ويتفنن في طرق التسليم والسؤال عن الصحة وكيف ومتى، ويردده: الله يعلم محبتي فيك واني مسرور فرح بك؟ حين يقص علينا هذه القصة نشعر تماما أي طواعية استطاع الزجل أن يمنح صاحبه، وما قيمة الإسهاب الواقعي في رسم صورة قد يعجز عنها كل من الشعر والموشح (1) :

جان زاير وقف لباب الدار

ليت بعد يا أخي قد زار قامت الخادم أن تنظر من كان

قلها قل جي يراك إنسان

أنت مشغول بهم اليوم زمان

كان بودك تراه بليل ونهار

(1) الزجل: 88، اللوحة:47.

ص: 275

جات إلي قالت اخرج تراد

قلت قل لسنه وقت أعاد

سيد مشغول كما طلع للرقاد

ينتظرني وإلا هُ بالخيار

الله يعلم فضول هُ للباب

بخرافه يقله لي ذب ذب

فتكن ماعُ أن دخل في عذاب

أو يوقفن ثم للبلطار

وانا مشغول ولس نريد نخرج

واختفاي من الرجل يسمج

ومن العار على ان ننفج

فتقله إلى قرية صار

فسمعته وهو يكرر عجب

ثم قال يعدما انتفض وغضب

أي قل إنسان يقل ذهب

ثم اشيا ينفع بها بها الاختصار

أنا أي كنت سمعت هذا الكلام

قلت حق هُ أو طزهي فالمنام؟

وأنا جالس وثبت وثب لمام

كيلوا فيها بعد تسع أشبار

ص: 276

إلى وسط الدوبرة لم نستدير

طرت لا شك وكت قريب ان نطير

حسبك أنى عثرت عند البير

ووثبت ولم نراه مكار

أدخل أقرب ومرحبا وارتفع

وأنا علجك وعلج عاد وربع

فعل الله بذا الخدم وصنع

لس ترى وحد منهم اشنة عار

يا حسبنا الله قل خادم سو

أي هروبك اخرج كذا للضو

سخط الله على بني قوقو

ولعنهم وأبل فنو بنار (1)

عكن ودونك يحنث قط فالتفضيل

اش تحية وش سلاما طويل

ورأيت من سرور ومن تبجيل

ومن اش حال ومن كف ات قنطار

ومن أجلس ومن متى كان مجيك

ومن الله يعلم محبتي فيك

ومن اني مسرور وفارح بيك

ومن الشكر والثنا فشقار (2)

(1) فنوة: اسم بلد الخادم، ولعلها كانوا الحديثة.

(2)

فشقار: كومة كبيرة كالبيدر.

ص: 277

وينتهي الزجال القصة بأن يشكو حاله لهذا القادم: " وأنه لا يحفظ من السور إلا عبس " لسوء حاله، فيقول له الرجل: إنه مرسل من قبل إنسان " عتب الدهر فبك وذم الزمان " ويختم الزجال زجله بمدحه ذلك الرجل الكريم الذي تذكره ويسأل له البقاء وأن يشرف به أمة محمد، ويريه غاية الأمل في بنيه ويعمره أطول الأعمار.

وليست القصة وحدها هي التي تجيء معرضا لتحليل ابن قزمان وتصويره بل إن المواقف العاطفية تنال من عنايته الدقيقة شيئا كثيرا، وهذا ما يجعل لزجله طرافة وتفردا.

5 -

الزجل بعد ابن قزمان:

بين عهد ابن قزمان وعصر ابن سعيد عدد من الجالين أشهرهم مدغليس الذي عاد بالزجل إلى حومة القصيدة الملحونة، وله ديوان رآه الصفي الحلي بالمشرق ونقل منه. ومنهم الدباغ الذي ألف كتابا في أئمة المطبوعين ونقل هو نفسه الزجل إلى ميدان الهجاء والقول في اللياطة. أما بقية الزجالين الذين ذكرهم صاحب المغرب فهم: عبد الغافر ابن رجلون المرواني، حضر غزوة الأرك سنة 591؛ وابو الحسن علي بن جحدر وأبو عمرو الزاهد، وأبو بكر بن الحصار وأبو عبد الله ابن خاطب وأبو بكر بن صارم؛ والكساد في عهد منصور بني عبد المؤمن والبلارج القرموني وقد لقيه ابن سعيد، وأبو محمد الباهلي، والجرنيس والمكاردي وابن ناجية اللوقي وأبو زيد الحداد البكازور البلنسي، ويحيى ابن عبد الله البحبضة. وقد امتدت موجة الزجل إلى المغرب وظهر زجالون مغاربة منهم أبو عبد الله محمد بن حسون الحلا. كما أن رجلا أندلسيا

ص: 278

يدعى بابن عمير هاجر إلى المغرب ونظم نوعا من الشعر الملحون سمي " عروض البلد " ومثاله:

أبكاني بشاطي النهر نوح الحمام

على الغصن في البستان قريب الصباح فاستحسنه أهل فاس وولعوا به ونظموا على طريقته.

وشاع في الزجل؟ عدا الهجاء - أغراض أخرى أهمها التصوف في أزجال الششتري. وظهر في عصر لسان الدين بن الخطيب رجل زجال يسمى محمد بن عبد العظيم الوادي آشي. وأصبح الزجل في عصر ابن الخطيب وابن خلدون " شعرا زجليا " أي ينظم على أبحر الخليل.

ص: 279

النثر الأندلسي

1 -

نظرة عامة

بينت في ما تقدم بعض الأدوار التي أدارها النثر في مجالات مختلفة عند الحديث عن مظاهر التطور الأدبي. وهنا مقام التفصيل في أنواع الأشكال النثرية، من رسالة وخطبة مكتوبة ومقامة. وكانت أهم ظاهرة تتخللها جميعا هي اشتداد روح السخرية، ونمح الموضوعات الصغيرة التافهة شكل الموضوع البطولي الجاد.

وجرت جميع تلك الأشكال النثرية في اكثر الأحوال على نظام السجع وعلى التفنن في ضروبه. لا نستثني من ذلك إلا بعض الناثرين أو بعض آثارهم، مثل المؤرخ ابن حيان وبعض رسائل ابن زيدون واحمد بن عباس. وكان قيام النثر السلطاني على السجع شر ما ابتلي به النثر الديواني الأندلسي في تقليد المشارقة، وكان كتاب ذلك النثر هم فرسان الحياة السياسية في أيام الطوائف والمرابطين ومنهم أبو محمد بن عبد البر وابن الجد وابن القصيرة وابن أبي الخصال، وغيرهم، وتعرف ميزة الكاتب منهم باللباقة التي

ص: 280

يستطيع بها أن يهادن أو يهدد أو يعزي أو يهنئ أو يجد التسويغ الملائم لحادثة ما.

ومهما تكن نظراتها إلى هذا النوع الديواني من النثر، فثمة حقيقة لا يمكن أن نغفلها وهي ان الأندلسيين كانوا يقدرون بعض نماذج من ذلك النثر الديواني، ويحفظونها ويحيطونها بالإعجاب. من ذلك رسالة ابن أبي الخصال التي أنحى فيها على الجند المرابطي، فقد تناقلوها حفظا لأنها كانت تعبيرا عما يعتلج في نفوسهم، لا لقيمتها البلاغية فحسب. ومن ذلك أيضا رسالة لا ريب في براعتها الأسلوبية وفي طرافة العناصر التبريرية التي تقوم عليها، وهي رسالة كتبت على لسان علي بن يوسف بن تاشفين في عزل أبي الحسن بن أضحى الغرناطي عن قضاء المرية، ولا ندري من هو كاتبها، وقد بلغ إعجاب أحد الأندلسيين بها أن تحدث بها إلى السلفي الإمام، وهذا بعض ما جاء فيها (1) :

" كتابنا؟ في حضرة مراكش بعد أن نمي إلينا وتقرر لدينا أن الجهول ابن أضحى أجهل بأحكام القضاء من العلجوم، إذ قد اظهر فيكم أحكاما يترحم فيها على سدوم، وقد جعلنا شهب العزلة لشياطينه كالرجوم، وقلدناه خطة الشوم، ونبذناه دون أن تداركه نقمة من ربه بالعراء وهو مذموم، ولعل متعسفا يتعسف، وجائرا لا ينصف، يلومنا في تقديمه، وينالنا من العتب بأليمه، ولا قدح، فقد اختار رسول الله صلى الله عليه وسلم لوحي الله لعين بني سرج، وقد اغتر عثمان بحمران، ولسنا أول من خانه القياس، ومن لم يأته من الغوير بأس؟ ".

وقدمت الأندلس نثرها الأصيل في ذلك الأسلوب المرسل الذي لم يخرج عنه ابن حزم، وفي ذلك " الاندفاع الملتوي " الذي يمثله أسلوب

(1) معجم السلفي: 121 - 122 (نسخة عارف حكمت) .

ص: 281

المؤرخ ابن حيان، وفي مثل " مذكرات " الأمير عبد الله بن بلكين التي تعتمد البساطة وشيئا من تعقيدات المثقف الذي يكتب بلغة بين الصحيحة والدارجة. ولعل ابن حيان هو الكاتب الوحيد الذي اشتق لنفسه أسلوبا أدبيا رفيعا لم يعتمد فيه تقليد الكتاب الآخرين، وهو فوق سهولة الأسلوب التاريخي ودون الأسلوب المسجوع إيثارا للرونق اللفظي ويتفاوت أسلوب ابن حيان بين الوصف السردي وتصوير الشخصيات، ولكنه في الحالتين مغرب يحاول الابتكار والتفرد، ومن نماذج أسلوبه قوله (1) :

" وتوفي (فلان) فسيء عوام الناس لموته، لعفاف كان يبديه، وبشر يشيعه ويستعمله وينطوي من أمثاله لأهل الدنيا على ضده، إذ كان زاهدا في إسداء المعروف، شرها إلى الحطام الدنيوي، عطلا من جميع التعاليم المحظية، لا يجيل في شيء منها ولا يقيم لسانه لحنا، وكان قد عضه صرف الزمان فأقعده إلى الأرض، واضطره إلى التوكل على مسحاته مرقحا معيشته بستانه، إلى ان عطف الدهر عليه بصحبة متولي الإمارة المنتزين على الأقطار، فخاض معهم، وشاطر السلطان خطة المواريث، ولزمه العمل على ذلك فسلخها نيفا على عشرين سنة، مرى فيها درتها، من غير تعقب ولا توقع عز، إلى أن تولت ذلك منه المنية، وقد اقتعد الثرى مطية ". ولعل ابن حيان إلى جانب قدرته في التاريخ من ابرع الأدباء في رسم الشخصيات، في سطور قليلة، على انه إلى جانب الثلب أميل وهو فيه أبرع قلما.

وربما كان أنظر ما قدمه النثر الأندلسي في ذلك العصر أسلوبا ومضمونا هو تلك الكلمات الجامعة التي تجري مجرى الحكمة والمثل، مثل

(1) الذخيرة 1⁄2: 201.

ص: 282

وصف ابن برد للقلم والمداد والكتاب، وعنوان ذلك قوله (1) :

- ما اعجب شأن القلم بشرب ظلمة ويلفظ نورا

- على غيث القلم يتفتح زهر الكلم.

- قاتل الله القلم كيف يفل السنان وهو يكسر بالأسنان.

- فساد القلم خدر في أعضاء الخط.

وأعمق من هذا الضرب الشعري واكثر اعتمادا على الاستمداد من نبع الفكر أقوال لأبي الفضل ابن شرف نورد بعض أمثلتها (2) :

- العالم مع العلم كالناظر للبحر يستعظم منه ما يرى وما غاب أكثر.

- الفاضل في الزمن السوء كالمصباح في البراح، قد كان يضيء لو تركته الرياح.

- لتكن بقليلك أغبط منك بكثير غيرك فان الحي برجليه وهما ثنتان، أقوى من الميت على اقدام الحملة وهي ثمان.

المتلبس بمال السلطان كالسفينة في البحر إن أدخلت بعضه في جوفها أدخل جميعها في جوفه.

- التعليم فلاحة الأذهان وليست كل أرض منبتة.

- قول الحق من كرم العنصر كالمرأة، كلما كرم حديدها أرت حقائق الصفات.

- يا ابن آدم تذم أهل زمانك وأنت منهم، كأنك وحدك البريء وجميعهم الجريء؛ كلا؟ بل جنيت عليك، فذكرت ما لديهم ونسيت ما لديك.

(1) الذخيرة 1⁄2: 28.

(2)

القلائد: 252 - 253.

ص: 283

2 -

الموثرات الشرقية:

اتسمت النماذج التي أصبح النثر الأندلسي قادرا على محاكاتها وتعددت إذ أصبح التراث المشرقي لدى الناثر الأندلسي يضم طرائق سهل بن هارون والجاحظ وكتاب القرن الرابع، وبخاصة بديع الزمان، ثم رسائل المعري ومقامات الحريري؛ وفي باب الخطب أصبحت خطب ابن نباتة هي النموذج الرفيع الذي يحتذى، وكاد كل كاتب يجد أنموذجه المفضل لدى واحد أو غير واحد من كتاب المشارقة. ولكن لا ينكر استقلال الكتاب الأندلسيين في الجزئيات ومحاولتهم التجديد في اختيار الموضوعات فإذا قرأنا ابن برد الأصغر أو ابن زيدون لمسنا أثر سهل ابن هارون والجاحظ بوضوح، ولكن هذا لا يعنى ان الكاتبين لم يخرجا من إسار دائرة التقليد.

فأما ابن برد فان رسالته التي تسمى " البديعة " في تفضيل اهب الشاء (1) تذكرنا برسالة سهل بن هارون التي أوردها الجاحظ في كتاب " البخلاء "، فهو يحاول أن يرد على من عابه باستعمال جلود الشياه، مثلما يرد سهل على من عابه بشئون التدبير والتوفير. وهو لذلك يحتج بآراء الصالحين وأقوالهم على طريقة سهل نفسه؟ أو على طريقة الجاحظ أن شئنا الدقة - فإذا سمعناه يقول: " وأي بساط منها أدل على التواضع، وأعرب عن القناعة، وأدفأ في السيبرة، وألين في المس، وأخف في المحمل، وأمكن للنقلة، وأوفق لمقدار الحاجة، وأجدر بطول المتعة، وأبقى على حدث الدهر، وأغنى عن تكلف التبطين،

(1) الذخيرة 1⁄2: 446.

ص: 284

ومراعاة أوقات الترقيع "؟ إذا سمعنا ذلك حسبنا الجاحظ يتحدث بطريقته الأسلوبية التي تعتمد التنويع في سرد المتعاطفات دون إيثار للسجع.

وكذلك هي رسالته في " النخلة "(1) فقد بناها على عنصري السخرية وإظهار مدى اطلاعه وثقافته. وشبيه به في هذا ابن زيدون، فان إيثاره للازدواج على السجع هو إيثار للطريقة الجاحظية. ولو أخذنا الرسالة الهزلية نموذجا لوجدناها ذاهبة في هذا المنزع من تقليد رسالة التربيع والتدوير (2) وليس ابن زيدون منفردا بالعناصر الثلاثة التي اعتمدها في رسائله، وهي الإكثار من الأمثال، وحل الشعر، والتلويح بالإشارات إلى الأشخاص والأحداث، فقد أضحت هذه العناصر سمة عامة لأكثر ضروب النثر الأندلسي في هذا العصر حتى تكاد تكون بعض الرسائل جمعا لهذه الأركان جميعا في نطاق واحد.

وكان ابن عبد الغفور أشد الكتاب إعجاباً بأبي العلاء، حتى حاكى كثيرا من كتبه، حسبما قدمنا من قبل، فقد حاكى كتاب " السجع السلطاني " واستفتح محاكاته بقوله:" بالبيان رجح القلم القناة، وان كانت أطول باعا، وفضلت الساجعة غيرها، وربما أبصرت أجمل قناعا، ولكن وجدنا من الفضل للسان، ما لا يستطيع قدره كل انسان، والحمد لله الذي رزقني منه ما إن لم أتش به، فأني أتميز به من الأمة الوكعاء، وإن لم أجر به في حلبة الضمر الاعوجية فاني أسبق في جملة الأهلية "(3) . هذا إلى كتب أخرى ألفها في معارضة المعري.

والتقى أثر أبي العلاء والحريري وابن نباتة عند الكاتب ابن أبي

(1) المصدر نفسه: 441.

(2)

شوقي ضيف: ابن زيدون: 44 (سلسلة نوابع الفكر الغربي) .

(3)

احكام صنعة الكلام: 4 وانظر تعريف القدماء: 440.

ص: 285

الخصال، فله في معارضة الحريري؟ سيأتي ذكرها عند الحديث عن المقامات - وله خطب عارض بها ابن نباتة ومنها خطبة في الشكر على نزول غيث (1) ، وخطبة في الحض على الجهاد (2)، وخطبة في عيد الأضحى (3) . ونكتفي منها بنموذج واحد على سبيل التمثيل نختاره من خطبته في الحض على الجهاد:

" الحمد لله الذي لا تعد سوابق نعمه، ولا تحد علائق عصمه، ولا ترد بواثق نقمه، الذي فضح البرية عدله، ووسعهم رحمته وفضله، قدر أرزاقهم وأعمارهم، وأحصى أنفاسهم وكتب آثارهم، ووكل بهم ليلهم ونهارهم، فكل يتحرى مطالعه إلى أن يبلغ منتهاها، ويتقرى مضاجعه حتى يبيت بأقصاها، من رضي حتمه فمن السعداء، ومن سخط حكمه فليمدد بسبب إلى السماء، أحمده حمد مؤمن بلقائه، مؤمن بدوامه وبقائه ".

والرسالة مليئة بتصوير تفاهة الدنيا والتذكير بالموت، ومن قوله فيها في موضوع الجهاد:

" ألا تستوحشون لتباريح العصر، وركود ريح النصر، وتداعي أمم الكفر، وإجفالنا عن مقاومتهم إجفال العفر، ألا نقلع عن الذنوب التي فتت في أعضادنا، وقضت باهتضامنا واضطهادنا؟ واقسم بالله ما انقلب حال الدهر، ولا سلبنا عادة الظهور والقمر، ولا نكل الأبطال، ولا

(1) ترسل الفقيه الكاتب: 56.

(2)

المصدر نفسه: 119.

(3)

المصدر نفسه: 128.

ص: 286

أخلفنا الغيث الهطال، ولا رفعت علينا من الرعب جبال، لا تظهر ولا تطال، ولا غير الله نعمنا، ولا خذلنا ولا أسلمنا، إلا لما عهد إلينا وأعلمنا، إذ يقول سبحانه (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) ".

وأما تأثره بابي العلاء فيتجلى في معارضته لملقى السبيل، وهو من رسائل المعري التي راوح فيها القول بين النثر والشعر، وجعلها مرتبة على الحروف الأبجدية ومن قول ابن أبي الخصال في بعض أجزائها (1) :

(حرف الراء) .

الحازم إذا ورد صدر، وإذا رأى فرصة ابتدر، لا يعاف الكدر، ولا يسخط القدر، ويعفو إن قدر:[خمس سجعات تتلوها خمسة أبيات]

لله من لم تنم حزامته

مهما يرد في ملمة صدرا

إذا رأى فرصة قد ابتدرت

قام لها في الركاب وابتدرا

وليس شيء إليه من كرم

أحب من عفوه إذا قدرا

يؤثر بالصفو ذا مودته

عن طيب نفس ويشرب الكدرا

إن جر ما لا يريده قدر

أبدى رضاه وأكرم القدرا 3 - الرسائل:

الرسالة من حيث غايتها قسمان: قسم فكري، أي غايته محاكمة الأشياء أو التأمل في بعض المشكلات دون التفات كبير إلى أسلوب بياني معين، ومن هذا النوع رسائل ابن باجة الفلسفية ورسالة " الحدائق "

(1) ترسل الفقيه الكاتب: 156.

ص: 287

لبن السيد البطليموسي، ورسالته المسماة " الانتصار " التي رد فيها على ابن العربي الفقيه حين تعقب أخطاءه في شرح سقط الزند، ومنها رسائل ابن حزم في الردود على مخالفيه، ورسالة لابن أرقم رد فيها على ما انتقده ابن سيده (1) ؛ وقسم بياني المنزع أي الغاية الأولى منه إظهار البراعة الأسلوبية، أو قل أن الاستقلال بالأسلوب فيه واضح المعالم، وقد يجتمع القسمان معا، إلا أن الفئة الثانية من الرسائل هي التي ستكون موضع الشاهد في هذه الدراسة.

أ - رسائل تنتحل شكل المناظرة:

يمكن أن نجد لها أصولاً في النثر المشرقي، ومن أمثلتها " رسالة السيف والقلم "(2) لابن برد الأصغر وقد أجرى هذا الكاتب بينهما حوارا شديدا قاسيا يدخل في باب التساب والتهاجي والتبكيت، من مثل:

" فقال السيف: يا الله! استنت الفصال حتى القرعى، ورب صلف تحت الراعدة! لقد تحاول امتدادا بباع قصيرة، وانتفاضا بجناح كسيرة. أمستعرب والفلس ثمنك، ومستجلب وكل بقعة وطنك!! ".

" فقال القلم: من ساء سمعا ساء جابة، أستعيذ بالله من خطل أرعيت فيه سوامك، وزلل افتتحت به كلامك، أن ازدراءك بتمكن وجداني وبخس أثماني، لنقص في طباعك، وقصر في باعك، الا وان الذهب معدنه في العفر،

(1) هذه الرسائل أكثرها قد نشر أما رسالة ابن أرقم فأنها في الذخيرة القسم الثالث (المخطوط) : 127.

(2)

الذخيرة 1⁄2: 435.

ص: 288

وهو انفس الجواهر، والنار مكمنها في الحجر وهي إحدى العناصر.. ".

ويشتد بينهما الجدال كثيرا، ولكنا نرى فاتحة الرسالة وخاتمتها إيمان الكاتب بقيمة كل منهما، فهما جوادان أو سهمان أو زهرتان من كمامة أو بارقتان توضحتا من غمامة وان المنافسة غير مستغربة منها، ولذلك تراهما بعد العنف الشديد يبادران إلى السلم يعتقدان لواءها، وإلى المؤالفة يردان ماءها، " وقالا إن تعششت أهواؤنا وتتفرق آراؤنا وقد جمعنا الله في المألف الكريم، واحلنا بمحل غير ذميم ". ولا ريب في أن هذه الرسالة مستمدة من واقع الحال في دولة الطوائف، وقد كتبها ابن برد في ظل الموفق أبي الجيش مجاهد العامري، وبما ان الجند هم عماد ملوك الطوائف، فقد تأخرت مرتبة أصحاب الأقلام لديهم، ومن هنا نلمح كيف يحاول ابن برد - وهو من أصحاب الأقلام - أن يدعو إلى التسوية بين الفريقين، مع ان الحوار الذي يجري يقوم على الحدة وقوة الهجوم المتبادل. فالتسوية إذن حلم من أحلام أصحاب القلم في دول تقوم علاقاتها الداخلية والخارجية على قوة الجند وحسن استعداهم وفي هذا المقام يمكننا أن نستأنس بآراء أندلسي من كتاب النظم وذلك هو الطرطوشي أبو بكر صاحب " سراج الملوك "، فانه لم يتحدث عن قيمة الكتاب في الدولة، ولكنه عقد في كتاب فصلا خصصه للحديث عن سيرة السلطان مع الجنود فقال (1) :" اعلم ان الجند عدد الملك وحصونه، ومعاقله وأوتاده، وهم حماة البيضة والذابون عن الحرمة، وهم جفن الثغور، وحراس الأبواب، والعدة للحوادث ". وقال في

(1) سراج الملوك: 209

ص: 289

موضع آخر من كتابه (1) : " أيها الجند! أقلوا الخلاف على الأمراء، فلا ظفر مع الخلاف ولا جماعة لمن اختلف عليه ".

ومن الرسائل التي تعتمد المناظرة ما كتب على ألسنة الأزهار، وأصوله مشرقية كذلك. ومن أمثلة تلك الرسائل رسالة ابن برد الأصغر في تفضيل الورد (2) ورسالة حبيب الحميري في تفضيل البهار (3) ولأبي عمر الباجي رسالة على لسان البهار (4) ، كما أن لابن حسداي رسالة على لسان النرجس (5) .

وتعتمد رسالة ابن برد على مقدمة يشرح فيها الناطق باسم الأزهار جمال كل نوع منها، ثم يذكر المجتمعين ان فيهم من يستحق الرياسة وهو " الورد "، وقام كل نور حضر ذلك المجلس فأدى شهادته.

فقال النرجس الأصفر: " والذي مهد لي حجر الثرى وأرضعني ثدي الحيا لقد جئت بها من لبة الصباح، وأسطع من لسان المصباح، ولقد كنت أسر من التبعد له والشغف به والأسف على تعاقب الموت والرجعة دون لقائه، ما أنحل جسمي ومكن سقمي، وإذ قد أمكن البوح بالشكوى فقد خف ثقل البلوى ".

ثم قام البنفسج وقال: " على الخبير شقطت، أنا والله المتعبد له، الداعي إليه، المشغوف به كلفا، المغضوض بيد النأي أسفا، وكفى ما بوجهي من ندب، وبجسمي من عدم نهوض، ولكن في التأسي بك، وفي الاستواء معك وحدان سلو ".

(1) سراج الملوك: 311.

(2)

الذخيرة - القسم الثاني - (المخطوط) : 49 والبديع: ونهاية الأدب 11: 196.

(3)

البديع: 58 والذخيرة السابق: 50.

(4)

الذخيرة السابق: 80.

(5)

الذخيرة - القسم الثالث - (المخطوط) : 157.

ص: 290

وبعد أن تتابع الخطباء، كتب الجميع كتابا بتفضيل الورد، ووضعوا فيه شهادتهم شعرا.

وقد جاء حبيب الحميري فاستعار الطريقة والسياق، وأربى على ابن برد بالإضافة والاطناب، أما ابن حسداي فلم يورد منظر الحوار في رسالته بين النرجس والأزهار الأخرى، وإنما جعل الحوار بينه وبين أحد الناس من خواص المقتدر بن هود، وذلك ان النرجس كان زاهيا بنفسه شاعرا بحسنه، فمر به ظريف من خواص الأمير، فقطف النرجس وحاوره قائلا:

" يا أيها الزهر الفارد، والنوار الشارد، الساحر بحدقه وأجفانه، الباهر بورقه وعقيانه، ما لي أرى قضبك غبراء ذابلة، ومنابتك شعثاء ناحلة ".

ولا ندري بم رد النرجس على هذا الظريف لأن ابن بسام لم يورد الرسالة كاملة وانما ندري ان النرجس عاد يفتخر بذاته ويقول:

" فليت الرياض تعلم بمكاني فتذبل كمدا، وتذوي حسدا، وتراني وقد أنرت في افقك البهيج، وزهرت في روضك الأريج، فأزل عني حسدهم بكبتهم، فقد شجاهم تقدمي قبل وقتهم ".

ويتضح من هذه الرسالة أن غا؟؟؟؟. غاية ابن برد من رسائله الزهريات القائمة على؟؟؟؟ بالنرجس إلى النديم المخلص أو الصديق الوفي الذي؟؟؟؟.له خيرا في ظل الأمير صاحبه. أما ابن برد فانه مشغول؟؟؟. بالحال السياسية في بلاط مجاهد العامري، فإذا أقام مناظرة بين السيف والقلم، سعى إلى التسوية بين الكتاب والجند، وهو يضمر ميلا خفيا إلى طبقة الكتاب

ص: 291

لأنه منهم، وإذا تحدث بالتسليم المطلق عن رياسة الورد وإقرار الأزهار له بذلك، فإنما يرمي إلى الإيماء بأن صاحبه متفرد بين الرؤساء تفرد الورد بين النوار، وأن هذا التفرد يجب أن يؤخذ بالتسليم الكامل، اعترافا بالحق كما اعترفت الأزهار دون تردد أو حقد بزعامة الورد، فإذا كان لا يرمز إلى صاحبه فلعله أن يكون قد رمز بذلك إلى ما يتمناه لنفسه من تسليم الكتاب له بالتقدم عليهم جميعا. ثمة إشارة ربما لم يقصدها ابن برد، وهي أن مجلس الجماعة في الأندلس ظل يعمل مثلما كان يعمل من قبل، ولكنه أصبح صوريا لا يملك المناقشة وإنما يبادر إلى التسليم.

أما حبيب الحميري فانه حين فضل البهار مناقضة لابن برد، لم يلحظ سوى الشكل الأدبي الذي يريد إظهار براعته من خلاله. وقد ذهب أبو عمر الباجي إلى تفضيل البهار أيضا في رسالة كتبها إلى المقتدر بن هود، وهي في جملتها تذكير بالذات، والتميز على الاقران، والتخلص من حسد الحاسدين، وفيها يقول:

" أطال الله بقاء المقتدر مولاي وسيدي، ومعلي حالي ومقيم أودي، وأعاذني من خيبة االعناء، وعصمني من إخفاق الرجاء، ولا أشمت عدوا من الرياض يناصبني، وحاسدا من النواور يراقبني، وقد علم الورد موقع إمارتي، وغني بلطف إيمائي عن عبارتي، وأنها تحية الزهر حياك بها، وخبيئة الدهر ذخرها لك وأهلك لها، وقد أتيت في أواني، وحضرت وغاب أقراني، ولم أخل من خدمتك رتبتي ومكاني ".

ولا بأس من أن نرى رمزا كالذي رأيناه في رسالة النرجس لابن حسداي، ولكني لا أتشدد في تعيين طبيعة هذا الرمز حقا، لأن

ص: 292

الصلة بين هذه الرسائل وبين الجو الزمني والتاريخي الدقيق الذي أنشئت فيه لم تحدد، ولو قال أحد النقاد إن هذه الرسائل تمثل تنافس الجواري لاجتياز قلب أحد الأمراء، لما كان قوله هذا خطأ.

وإذا شئنا أن نتصور رأي الأندلسيين أنفسهم في هذه الرسائل، فيحسن ان نرجع إلى رسالة الباجي هذه، إذ كانت في نظر كاتب قدير مثل ابن الحناط نموذجا بلاغيا رفيعا، وله فيها فصل قال فيه: وبعثت إليك برسالة الوزير الكاتب أبي عمر الباجي في البهار؟ منقولة بخطي على اختلاله واختلاف أشكاله - إلا أن الرسالة، وموضعها من البلاغة والجزالة، يغطي على قماءة خطي، ودناءة ضبطي، فاجتلها؟ أعزك الله - عروس فكر، لحظها خير، ولفظها سحر، ومعناها بديع، ومنتماها رفيع " (1) .

وما دام الحديث عن رسائل المناظرة قد وقف بنا عند فكرة الرمز في هذه الرسائل فتستميح القارئ عذرا في الاستطراد قليلا للإجابة على السؤال التالي: هل نستطيع أن نتخذ من أنواع أخرى من الرسائل رموزا لأمور أبعد من ظاهرها؟ وخاصة في تلك الموضوعات الصغيرة التي يتصدى الكتاب لمعالجتها في أسلوب جاد ملحمي؟

وإنما الذي أثار هذا السؤال نوع من الرسائل نجد أنموذجه في رسالة كتبها أبو الربيع سليمان بن احمد القضاعي وخاطب بها يوسف بن حسداي الاسلامي، وقد طلب منه آلة نجار خدم عنده، فوجه بها حاشا الميشار (2) .

وفيها يقول:

" وقد أنكرت أشد الإنكار، بجلك بالميشار، وأعملت

(1) الذخيرة - القسم الثاني (المخطوط) : 81.

(2)

انظر الرسالة في الذخيرة - القسم الثالث (المخطوط) : 114.

ص: 293

الفكرة في النظر إلى بعض مراميك، والبحث عن غموض معانيك، فلاحت لي درية مرماك، وأشرفت مطلا على مغزاك، وجدست بعد تسديد سهام التوهم، ورميت عن قسي التفهم، ان علة ضنانك به من اجل ما مر ببالك ذكر الشجرة التي أشرت وفيها يحيى بن زكريا عليه السلام، فتحرجت ان تخرج من حريمك آلة، كانت سببا إلى حدث مشؤوم، بسفك دم نبي كريم ".

فالقضاعي هنا يعرض بابن حسداي لأنه كان؟ قبل إسلامه - يهوديا ويمضي في التعريض بقوله: أن الخشبة التي كان يريد ان ينشرها ليس فيها يحيى، وإنما فيها الأرضة التي أكلت منساة سليمان [لاحظ أيضاً أن الكاتب اسمه سليمان] ثم يذكره ان من بخل بالتافه اليسير فقد ارتكب أسوأ بخل، وربما تآلفت الأضداد، وتشتت الأنداد، وأفادت غير المطلوب، وحالت دون المرغوب:" ألم تر إلى موسى عليه السلام كيف أقبس نارا فاقتبس أنوارا، ووافد البراجم: كيف شم القتار وأم قدما إلى النار؟ ". ثم يتهكم القضاعي بحظوظ الكتاب، ويسخر ممن يحتلون المناصب منهم، وهم غير أهل لها، فيقول:" وألم تعاين الكتابة - التي أنت قطبها، وهي أجل صناعة - ربما عدل بها عن نبلاء المحسنين إلى الدخلاء الأميين الذين لا يعملون الكتاب إلا أماني ". [وقوله من الدخلاء، وقوله لا يعلمون الكتاب إلا أماني غمز شديد، فالآية القرآنية منصرفة إلى أهل الكتاب أنفسهم.] ثم يعيب كتاب زمانه بأنهم يستعملون المعاني المتبذلة السوقية والألفاظ الرذلة العامية التي يعافها الخاصي لسفلتها ويجتنبها العامي لخلاقتها، ويشبه أولئك الكتاب بأنهم " يرقعون خيش الصوفية برقيق البرود المرسية ".

ص: 294

وبعد ذلك ينتقل القضاعي إلى وجهة أخرى من الهزل والتهكم، فيصور قيمته الميشار؟ على نحو جاحظي - ويخطئ من يحقره، قائلا:

" وهو من الحديد الذي فيه بأس شديد ومنافع للناس، وهو من إرهافه ورقة غراره واضطراب متنه مناسب لحسام الكمي البطل، وحامله غير أعزل، وان شئت استمجدت منه زنادا، أو شفارا حدادا، ومن بديع أعاجيبه أن المدى إن لم تكن مفلولة فهي أبرئ، والميشار لا يحسن قضبه، حتى يفلل غربه، ومن آلات الميشار عصاه التي تثقفه أن ينآد، وتسدده إذا حاد ".

لا نستطيع أن تقول إن هذا الضرب من الرسائل ذو عمق رمزي، وإنما هو يمثل تفننا في ضروب السخرية، ويتوصل به الكاتب إلى أغراضه عن طريق اختياره لموضوع صغير، يحمله ما شاء من نظراته ولمزاته.

ب - الزرزوريات:

أصل هذا النوع من الرسائل استثارة لفظية عابرة طورها الكتاب لإبراز البراعة في التفكه والسخرية. وأول مبتدئ لها الكاتب الوزير أبو الحسين بن سراج (1) فانه خاطب بعض أهل العصر برسالة يشفع فيها لرجل يعرف بالزريزير، يقول في فصل منها:

" كتبت أحرفي والود صقيل الوذائل، مطول الخمائل، جميل البكور والاصائل، والله تعالى يزيد أزهاره وضوحا، وأطياره صدوحا، وظباءه تيامنا وسنوحا؛؟. يصل به، وصل الله علوك، وكبت عدوك، شخص من الطيور، يعرف بالزريزير، أقام لدينا أيام التحسير، وزمان

(1) الذخيرة - القسم الثاني - (المخطوط) : 179.

ص: 295

التبلغ بالشكير، فلما وافى ريشه، ونبت بأفراخه عشوشة، أزمع عنا قطوعا، وعلى ذلك الأفق اللدن تدليا ووقوعا، رجاء أن يلقى في تلك البساتين معمرا. وعلى تلك الغصون حبا وثمرا ".

أدار ابن سراج رسالته كلها على أن المتحدث عنه زرزور، واستعار المصطلح المتصل بالطيور من تحسير وشكير وريش وفرخ وعش وقطوع؟ الخ؛ وأعجبت الرسالة أدباء الأندلس بطريقة ما فيها من إيماء واستعارات، فعارضها أبو القاسم ابن الجد (1) برسالة أقامها على ضروب مختلفة من التلاعب، ومنها:

" لئن سمي زريزير، لقد صغر للتكبير، كما قال حريقيص، وسقط يحرق الحرج؛ ودويهية، وهي تلتهم الأرواح والمهج. ومعلوم أن هذا الطائر الصافر يفوق جميع الطيور في فهم التلقين، وحسن اليقين، فإذا علم الكلام لهج بالتسبيح، ولم ينطق لسانه بالقبيح، ثم تراه يقوم كالنصيح، ويدعو إلى الخير بلسان فصيح، فمن أحب الاتعاظ، لقي منه قس إياد بعكاظ، أو مال إلى سماع البسيط والشديد، وجد عنده نخب الموصلي للرشيد ".

وكتب ابن الجد رسالتين أخريين في الموضوع نفسه، ووجه الكلام في واحدة إلى العتاب، وعاد في الثانية إلى معنى الشفاعة. وعرضت بعض تلك الرسائل على الكاتب أبي بكر عبد العزيز بن سعيد البطليموسي (2) فعارضها برقعة قال فيها:

" ويصل به، وصل الله سعودك، من الطير نطاق،

(1) رسالة ابن الجد، في الذخيرة، المصدر السابق:140.

(2)

الذخيرة السابق: 290.

ص: 296

من غير ذوات الأطواق، يميس من المسك في حبرة أو طاق، صغروه على جهة التعجب والإشفاق، كما صغر سهيل وذؤيب وهذيل، وقيل العذيق والجذيل، وكما صغروا العذيب، وقال عمر (رض) أخاف على هذا العريب، وكقولهم يا سميراء، وقوله عليه السلام لعائشة يا حميراء؟. أقام عندنا زمانا، لا يتألف إلا رندا وبانا، ولا يلتقط إلا عنايا أو سيسبانا، يتدرج في البساتين، يتطلب العنب المنتقى والتين ".

ومع أن المعارضة لا تخلو من قصور، فان كل واحد من هؤلاء الكتاب حاول أن يتفنن على طريقته مازجا تفننه بالتهكم، حتى إذا بلغ هذا الموضوع إلى ابن أبي الخصال نقله من الرسالة إلى الخطبة، وأطال في صدر كلامه التحميدات والأدعية (1) ، وحاول شيئا من التجديد يناسب هذه الفاتحة الجادة، فذهب إلى أن الزرزور كبرت سنة وأحب أن يتخلى عن هذا اللقب الذي لم يعد لائقا به، فأفقد الموضوع روح الهزل التي توفرت لدي من تقدمه:

" وما أقبح بمن جاوز الستين، وأوهنت الأيام حبل عمره المتين، وقطعت أو كادت منه الوتين، أن يوسم على ساعة من الكبر بزور، أو يلقب بزرزور، ولا سيما من أدرج القرآن بين جنبيه، وأرهفت الحكم من جانبيه، وشهد كل نادي خير، وأنصت له الجلة كأن على رءوسهم الطير ".

ويقترح؟ وهنا موطن لسخرية من نوع حديد - أن ينتحل لقب " الهدهد " لفضائل في هذا الطير الذي كان رسول سليمان، وأخبره بأمر

(1) انظر ترسل الفقيه الكاتب: 47.

ص: 297

سبأ، واستنكر عبادتهم للشمس، ثم ينشد في ذلك قصيدة ويشفعها بقوله:

" قد رتلت ورجعت، وترنمت وسجعت، وهدرت وهدلت، وولولت وعندلت، وقصدت وجرت، وحول هذا درت، وتلونت ألوانا، ودونت من مفاخركم ومآثركم ديوانا، ونفست في المآتم والاتراح، وأنست في المكارم والأفراح ".

ومعنى هذا أن ابن أبي الخصال، افتتح موضوعه بخطبة دينية وانتهى به إلى مقامة وجعل " الهدهد " الجديد صورة من بطل المقامات. ومرة أخرى تناول هذا الكاتب موضوع الزرزور (1) ، على نموذج الخطبة الدينية، وأطال في الأدعية والتحميدات ولم يحاول أن ينفي التسمية وإنما وصف الزرزور وعدد مآثره:

" فهو منمنم الدواج، بديع الائتلاف والازدواج، يباسطهم البعيد والقريب، ويطارحكم المستعمل والغريب، يلقط الإحسان حبا، ويضمره حبا، ويلفظه لؤلؤا رطبا، لا جرم أنه سابق الحبشة، والمصلي بعد أنجشة، يحدو القلوب إلى تقاها، وينفث على الذنوب رقاها، ويكحل العيون بألذ من كراها، ويسري إلى الأرواح بألطف من سراها،؟.. وإن أنطقني نوالكم نطقت، وأن صدقني إحسانكم صدقت ".

ثم ينشد الزرزور قصيدة، متحدثا عن الجود والفضل، مستثيرا الهمم إلى ذلك، ويشفع القصيدة بثانية وثالثة ورابعة، وفيما بين ذلك يهزمهم إلى الجود وإلى ان يقرضوا الله قرضا حسنا: " ومثلكم جعل

(1) ترسل الفقيه الكاتب: 68.

ص: 298

المعروف نقدا، وتابعه سردا ".

تحول ابن أبي الخصال بالموضوع، فأصبح المتحدث فيه هو الزرزور نفسه، وليس شخصا يحتاج شفاعة وتوصية، وإذا هذا المتحدث حين يكلم الناس عن توبته أو يستشيرهم إلى السخاء من أجله، وينال نقودهم عن طريق الوعظ صورة لبطل المقاومة، وهو أيضا ذلك البطل نفسه حين يمزح بين النثر والشعر في نطاق واحد معلنا عن مهارته في هاتين الناحيتين.

ج - رسائل في وصف الرحلات:

التقت الرسالة والمقامة على إظهار هذا اللون الأدبي أي أصبحت كلتاهما قصة طواف ينتقل فيه الأديب من مدينة إلى مدينة ومن حوزة أمير إلى حوزة أمير آخر. ومن خير المقامات تمثيلا لقصة الرحلة مقامة أبي حفص عمر بن الشهيد؟ وستجيء في موضعها - أما الرسائل فتمثلها رسائل لأبي عبد الله محمد بن مسلم سماها " طي المراحل " وخاطب بها ابن أغلب صاحب ميورقة (1) . وهي تشير إلى ذلك القلق الذي كان يحمل صاحبه على مغادرة الوطن، فيطرق أبواب المدن واحدة بعد أخرى. وابن مسلم يصور في هذه الرسائل كيف حملته الأسفار المرهقة سنوات وسنوات: " فجئنا فلانة [يكني عن إحدى المدن] وقد سد بابها، ونام بوابها، والسيل قد طمى، يحمل غثاء أحوى، فلم نشك في أن نفوسنا ذائقة الموت، حتى إذا بلغت النفس التراق، وقيل من راق، وأشعر صاحب الحصن بمكاني، وقص عليه شاني، فأمر بفتح باب المدينة، وآواني إلى دار حصينة، وتقدم بالضرام فأجج،

(1) الذخيرة - القسم الثالث - (المخطوط) : 141

ص: 299

وبالطعام فروج، وبالمدام فشب وأسرج، وقلنا الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن، وكفانا المحن. "

ثم يصف كيف لجأ إلى مدينة المرية، ولقي المعتصم بن صمادح، فرحب به وحاول ان ينزله عنده على الإكرام فأعلمه انه ماض لعليته ويتصدى ابن مسلم في رسالته لوصف الطبيعة وجمالها حيث يحل، كما يصور جانبا من ترف الحياة الاجتماعية عند من كان ينزل بهم من الأثرياء، إذ يطاف عليهم بصحاف من فضة، وجفان كالجواب أترعت من كل أرب، ويتوضأون بطساس من التبر وأباريق رصعت بالدر، ويقول في بعض تلك الفصول:

" وطلعت منها شجرة مباركة النوى، أصلها ثابت وفرعها في السما، صبغ عودها من الحلي المنيل، وقام عمودها كالأنبوب السقي المديل، والتقت أفنانها التقاء الصعدة بالصعدة، فبينا نحن نعجب من شأنها، ونستغرب مناظر زهرها وأفنانها، إذ سطع من جرثومتها دري المجمر، وارتفع من خلال ملبسها غبار العرف المعطر؛ من دون أن يبدو إلى العيان نارها، وتعلم أن توقد هنديها وغارها، فقلت: تبارك الله كيف تحرق نار خامدة، وتورق أشجار نحسها جامدة ".

ويصف كذلك مجالس الغناء والشراب وطرفا من حياته التي قضاها في ظل المظفر أبي مناد صاحب غرناطة ويسرف في وصف مجالس الخمر، ويتحدث عن شتاء قارس أدركه عند خروجه من غرناطة، فعرج على الحاجب سيف الدولة أبي الفتوح، ووصف حسن تلقيه له، وهو في أثناء ذلك يورد بين القطع الوصفية نصوص رسائله التي كان يبعث بها إلى الوزارة، ثم يصف كيف توجه إلى حضرة المعتضد بن عباد باشبيلية

ص: 300

وعرج قبل ذلك على قرطبة، ومن المفيد ان نتصور معه كيف كانت تلك المدينة العامرة قد حالت بها الحال:

" إلا أنها كرداح مستها زمانة، ورعلة أدركتها من السن مهانة، لم يبق فيها إلا رسوم من الحسن، كإنشاء الطرف وان مالت أجفان، وخطوط من الجمال كاعتدال الأنف وان سقطت اسنان، لكنها لم تفارق عطرها، وان كانت بعد عروس، ولا تركت بزها، وان لم تطمع بمسيس، ولا دنست أثوابها وان كانت أسمالاً، ولا عقت شبابها وان تجاوزت اكتهالا؟.. ووقفت بالقصر المرواني، وطفت على المصنع القحطاني، وانتبذت إلى المتنزه العبد الرحماني، فإذا الثلاث الأثافي والديار البلاقع، فأخذت بالشبه في ديار ثمود، اسكب الدموع وأمجد المعبود، فقيل ها هنا كانت قصورهم، وهنالك هي قبورهم، قد صارت مفاصلهم ترابا، ومساكنهم يبابا ".

وهذا القطعة تعد من تلك الوقفات الباكيات التي أثارها زوال العمران الأموي واندثار المجد العربي بقرطبة بسبب الفتنة البربرية. وقد وقف ابن مسلم عند جامع قرطبة، فصور عظمة بنيانه وزخارفه، وهكذا إلى أن بلغته رحلته حضرة المعتضد باشبيلية فأنزله على الإكرام والقبول والبشاشة وزوده بالتحف والهدايا.

وقد أثر الاهتمام بالناحية البيانية في طبيعة هذه الرسائل فحرمها من تصوير دقيق لحياة الناس وعلاقاتهم الاجتماعية وطرق معايشتهم.

والرحلة؟ في داخل الأندلس وخارجها - كانت مصدر أدب غزير طوال القرون، وكان الشوق إلى الرحلة مثيرا لفن من الترسل طريف؛ وإذ كانت رحلات الأندلسيين تحملهم في الغالب إلى الديار المقدسة فقد رأى بعض المتدينين الذين لا تسعفهم حالهم على السفر شيئا من

ص: 301

التعزية المفعمة بالأشواق إذا هم بعثوا برسائلهم إلى الرسول الكريم نفسه مع الذين يشدون الرحال إلى قبره الطاهر. ويستوي في هذا شوق من صدر عن الحجاز وهو يحب المعاودة، وشوق من لم يتح له الذهاب إلى الحرم المكي والقبر النبوي.

فلأبي بكر ابن القصيرة رقعة أنشأها على لسان من صدر من بيت الله الحرام وقبر نبيه عليه السلام (1) يقول فيها:

" ولما صدرت يا رسول الله عن زيارتك الكريمة، وقد ملأت هيبتك ومحبتك أرجاء فكري وفضاء صدري، وغشيني من نور برهانك ما بهزني وغمر قلبي، لحقني من الأسف لبعد مزارك، والحنين إلى شرف جوارك، ما أروع جوانحي التهابا وأوسع جوارحي اضطرابا، واشعر أملي عودا إلى محلك المعظم وإيابا، وكيف لا احن إلى قربك، وأتهالك في حبك، وأعفر خدي في مقدس تربك، وبك اقتديت فاهتديت، ولولاك ما صمت ولا صليت ولا سعيت، بل كيف لا يتحرك نحوك نزاعي، ويتأكد انقطاعي، وبك استشفاعي، وإليك مفزعي يوم [يدعو] الداعي. فلا تنس لي يا رسول الله حرمة عياذي بك ولياذي، وإسراعي إلى زيارتك وإغذاذي، واذكرني في اليوم العظيم المشهود، عند حوضك المورود، وظلك الممدود، ومقامك المحمود ".

وقد مرت بنا الإشارة إلى أن لابن أبي الخصال رسالتين بعث بهما إلى الرسول الكريم، في الأول يتشوق إلى زيارته، وفي الثانية يحمل

(1) الذخيرة - القسم الثاني - (المخطوط) : 116.

ص: 302

الحجاج ثلاث قصائد في مدحه. وفي مثل هذه الرسائل والقصائد حرارة الابتهالات، وهي وسيلة للتعبير عن التدين الكامن في النفوس. ولكنها بالنسبة للأندلس الآخذة بالضياع تشبث الغريق بحبل النجاة، وتنفيس عن الحيرة الدنيوية في ظل الأهواء المتنازعة والإمارات المنقسمة، وكلما اشتدت وطأة الحياة السياسية على الأندلسيين ومدنهم أصبح التفاتهم إلى " مصدر الدين " أقوى، وحنينهم إليه أشد، تعلقا منهم بخيط من خيوط الرجاء.

4 -

فن المقامات:

في أواخر العصر السابق؟ عصر سيادة قرطبة - وصلت الأندلس مقامات بديع الزمان ورسائله، وكان من أول المتذوقين لها الناسجين على منوالها ابن شهيد، واكثر ما أعجبه فيها تلك القطع الوصفية، ولذلك انشأ على مثالها قطعا في وصف الماء والبرغوث والثعلب والحلوى. وعرضت على أبي المغيرة ابن حزم رسالة لبديع الزمان في الغلام الذي خطب إليه وده بعد ان عذر فعارضها بأخرى (1) ولكن يبدو أن الاهتمام بمعارضة المقامات لم يكن غرضا للكتاب حينئذ، بل إن الاهتمام بمقامات الحريري حين ظهرت كان أشد، إذ أقبل الكتاب على معارضتها ومنهم ابن شرف القيرواني (2) . ولعل سر ذلك راجع إلى الصلة بين بعض الأندلسيين والحريري، فقد وجد منهم من سمع منه مقاماته، ومن هؤلاء أحمد بن محمد بن خلف الشاطبي، سمعها مع أبي القاسم بن جهور في جمادى الأولى

(1) الذخيرة 1⁄2: 117.

(2)

الذخيرة 4/1: 154 - 167.

ص: 303

سنة 505 هـ؟ (1) ومنهم الحسن بن علي بن الحسن البطليموسي، سمعها منه ببستان ببغداد (2) ؛ ومنهم أبو الحجاج القضاعي. ورواها عن تلامذة الحريري عبد الله بن إبراهيم الوادي آشي (3) . وكان لأبي القاسم بن جهور أكبر أثر في نشرها بالأندلس إذ تلقاه عنه عدد كبير من التلامذة منهم محمد بن خليد التميمي (- 559) ومحمد بن عبد الله اللبي (- 570) ومحمد بن احمد بن محرز البطليموسي ساكن اشبيلية (- 513) وعنه حدث بها آخرون (4) . وظل الدارسون يتدارسونها بعد هذا العصر الذي نتحدث عنه، ومن أشهرهم الشرشي أبو العباس احمد، حدثه بها ببلده الشيخ الفقيه أبو بكر بن أزهر الحجري وهو صهر ابن جهور وعنه أخذها، كما حدثه بها أبو بكر ابن مالك الفهري، وهو صهر آخر لابن جهور رواها عن صهره وعن القضاعي أيضا، وأجازه بها محمد عبد الله بن محمد الحجري عن القضاعي، وحدثه بها الرحالة ابن جبير الذي رواها عن أبي طاهر الخشوعي تلميذ الحريري، وكذلك حدثه بها أبو ذر مصعب الخشني، ولقي بها كثيرا من الشيوخ الآخرين بعد أن شرحها، وأفاد منهم ضبط ما احتاج إلى ضبطه. ويحدثنا الشريشي انه لم يترك شرحا لها إلا اطلع عليه، وعكف على استيفائه بسيطا كان أو مختصرا، حتى عثر أخيرا على شرح الفنجديهي، فأعاد النظر في كل ما كان صنعه من قبل (5) . ومن هذا كله صنع شرحه الكبير وشرحين آخرين هما الأصغر

(1) التكملة: 27.

(2)

التكملة: 260.

(3)

التكملة: 875.

(4)

انظر التكملة: 495، 260، 516.

(5)

شرح المقامات 1: 3 - 4.

ص: 304

والأوسط. ومن الأندلسيين الذين شرحوا مقامات الحريري أيضاً محمد ابن أحمد بن سليمان المالقي الأصل (- 617)(1) ومنهم عبد الله بن ميمون العبدري الغرناطي (- 567)(2) . وكل هذا يصور مدى اهتمامهم بمقامات الحريري، والشروح التي حصلوا عليها من المشرق.

أما ما أنتجه الأندلسيون من مقامات سواء أكانت معارضة للبديع أو للحريري فانه يشغل الفترة القائمة بين ابن شهيد حتى القرن التاسع الهجري وفي ما يلي ثبت بأهم ما قدموه في هذا الفن، سواء وصلتنا صورته أو عرفنا اسمه فقط:

1 -

مقامتان لأبي عبد الله بن شرف القيرواني.

2 -

مقامة لأبي حفص عمر بن الشهيد (3) .

3 -

مقامة للأديب أبي محمد بن مالك القرطبي (4) .

4 -

[مقامة] لعبد الرحمن بن فتوح تشبه مقامة ابن شرف النقدية (5) .

5 -

مقامة لابن المعلم (6) .

6 -

مقامة صنعها الفتح بن خاقان على الأستاذ أبي محمد البطليموسي وعليها رد يسمى الانتصار (7) ، وقد نسبت لابن أبي الخصال فنفاها عن نفسه وتبرأ منها (8) .

(1) بغية الوعاة: 11.

(2)

بغية الوعاة: 62 والمغرب 1: 111.

(3)

الذخيرة: 1⁄2: 184.

(4)

المصدر نفسه 246.

(5)

المصدر نفسه: 286.

(6)

الذخيرة - القسم الثاني (المخطوط) : 43.

(7)

رسائل اخوانية، الورقة: 12 - 14.

(8)

ترسل الفقيه الكاتب: 73.

ص: 305

7 -

مقامة لابن ابي الخصال عارض بها الحريري (1) .

8 -

المقامات اللزومية للسرقسطي الاشتركويي (2) .

9 -

مقامة لأبي اسحاق بن خفاجة الشاعر لم يبق منها إلا أبيات في ديوانه (3) .

10 -

مقامتان لمحارب بن محمد بن محارب الوادي آشي (- 553) كتب إحداهما إلى القائل أبي عبد الله بن ميمون (4) ، وكتب الأخرى في مدح القاضي بن موسى (5) .

11 -

المقامة الدوحية لأبي عبد الله بن عياض اللبلي، وتسمى أيضاً المقامة العياضية الغزلية، وتنسب خطأ؟ أحياناً - إلى محمد بن عبد الرحمن بن موسى ابن عياض الشاطبي (6) .

12 -

سبع مقامات للأديب أبي الحسن ابن سلام المالقي (7) .

13 -

مقامات في أغراض شتى لعبد الرحمن بن محمد السلمي المالقي (571 -)(8) .

14 -

مقامة في أهل غرناطة لمحمد بن خلف الهمداني الغرناطي (573 -)(9) .

(1) المصدر السابق: 88.

(2)

بغية الوعاة: 120.

(3)

ديوان ابن خفاجة: 308.

(4)

رسائل إخوانية: 8.

(5)

التكملة: 736.

(6)

انظر المغرب 1: 344 والتكملة: 515، 421.

(7)

المغرب 1: 434، وابن خير:386.

(8)

بغية الوعاة: 303.

(9)

بغية الوعاة: 40 - 41.

ص: 306

15 -

مقامات لابن القصير عبد الرحمن بن احمد (- 576)(1) .

16 -

مقامة صنعت في ثلب بعض أعيان مالقة، ونسبت إلى علي بن جامع الأوسي، فخاف على نفسه مما عسى ان ينجر إليه منهم بسببها فخرج عن ذلك البلد (2) .

17 -

مقامة لأبي بكر الكاتب يحيى بن محمد الاركشي تسمى " قسطاس البيان في مراتب الاعيان " وممن ذكر فيها علي ابن عبد الله بن خلف الأنصاري (3) .

18 -

مقامات لسان الدين ابن الطيب ومنها مقامة السياسة (4) وقامة وصف البلدان (5) ومعيار الاختيار في الاختبار في أحوال المعاهد والديار، وخطرة الطيف ورحلة الشتاء والصيف (6) .

19 -

مقامة العيد لأبي محمد بن عبد الله الازدي (- 750)(7)

20 -

المقامات النخلية لأبي الحسن المالقي (8) .

21 -

مقامة " تسريح النصال إلى مقاتل الفصال " لأبي عمر الزجال (- 844) ومقامة أخرى له في أمر الوباء (9) . ويفهم من

(1) ازهار الرياض 3: 15.

(2)

الذيل والتكملة " ترجمة: علي بن جامع ".

(3)

الذيل والتكملة " ترجمة: علي بن خلف ".

(4)

النفح 9: 134 - 149.

(5)

أزهار الرياض 1: 30.

(6)

انظر كتاب: مشاهدات لسان الدين بن الخطيب.

(7)

نشرها الدكتور مختار العبادي بمجلة المعهد المصري: 168 - " 1954 ".

(8)

انظر المصدر السابق: 163.

(9)

أزهار الرياض 1: 116.

ص: 307

كلام المقري في أزهار الرياض أن له عدة مقامات سوى هاتين المذكورتين.

ومن مجموع ما وصلنا من هذه المقامات يستطيع الدارس ان يتبين حقائق محددة عن طبيعة المقامة الأندلسية. فقد انتفت من بعضها قصة الكدية والحيلة المقترنة بها وأصبحت صورة من رسالة يقدمها شخص بين يدي أمر يرجوه أو أمل يجب تحقيقه، كما أن كثيرا من المقامات الأندلسية أصبح وصفا للراحة والتنقل في خل بلاد الأندلس، وفي هذا أيضاً شاركت الرسالة. وكان بعضها يمثل الاتجاه النقدي أو مواقف المنافرة والمفاخرة، أو يؤدي بعض الموضوعات الشعرية كالغزل والمدح والهجاء.

ولما التبست المقامة بالرسالة تؤدي مهمتها، فقدت " العقدة " وفقدت الشخصيتين الخياليتين فيها، وأصبحت على لسان كاتبها، وإذا لم تكن قصة لرحلة فقدت العناصر " الدرامية " جملة.

وأكثر الذين كتبوا المقامات في الأندلس لم يراعوا أن تكون كتابا جامعا، وإنما كان هم الواحد أن ينشئ مقامة واحدة أو اثنتين أو بضع مقامات، إلا السرقسطي فان اتباعه للحريري، حتى في الناحية العددية، جملة ينشئ خمسين مقامة.

وسأحاول في ما يلي أن اعرض أهم المقامات التي تنتسب إلى الطوائف والمرابطين لأبين مميزاتها العامة، ومدى اتفاقها وافتراقها في الموضوع والطريقة:

ص: 308

1 -

مقامة أبي حفص عمر بن شهيد:

وهي مقامة طويلة لم تصلنا كاملة وإنما حذف ابن بسام بعض فصولها لطولها، وهو في فاتحتها يتحدث عن صنعة الكتابة من حيث قيمتها في ذاتها ومن حيث فائدتها لصاحبها ويقول:" إن صنعة الكتابة محنة من المحن ومهنة من المهن والسعيد من خلدت دولة اقباله، والشقي من كانت رأس ماله، والعاقل من إذ أخرجها من مثابه لم يدخلها في مناقبه، لا سيما وقد تناولها يد كثير من السوق وباعوها بيع الخلق ". ويبدو أنه وجهها إلى الفقيه ابن الحديد (ابن الحديدي) ؟ وجعل أول المقامة مقدمة للدخول في موضوع، ويدور موضوعه حول قصة رحلة قام بها، وأول ما يطالعنا به مما تبقى من مقامته أنه مال إلى منزل بدوي ذي هيئة وزي " فهش وبش، وكنس منزله ورش، وصير عياله ناحية، وجمع أطفاله في زاوية " ويصف البيت الذي نزلوا فيه ولعله سخر من البدوي حين أخذ يبدي إعجابه بما يملك من زهيد المتاع ولكن البدوي أدرك سخريته ورد عليه بقوله:

يا أخي نحن على أنا نتاج بدوي

سادة ناس لنا في هذه الدنيا دوي

عندنا إن جاء ضيف شبع جم وري

وإذا الدوي هو صوت ديك هرم أغرى البدوي صبيانه بالجري للقبض عليه، وهنا وقف الديك خطيبا وذكرهم بفضائله وأنه يوقظهم في الأسحار ويؤذون لهم بالليل والنهار واستثار فيهم الحمية لكي يتورعوا

ص: 309

عن قتله، فرقت له أنفس القوم ولاموا صاحب المنزل على نكران الجميل فلج وأبى إلا ذبحه ليشبع من لحمه الضيفان، وهنا عاد الديك إلى الكلام فاثنى على البدوي سوى محاولة ذبحه وغمز كرمه حين قارن بين هرمات الديوك التي لا يصلح لحمها طعاما وبين لحم الفروج للآكلين.

وفي فصل آخر نراه وقد وصل قرية من القرى المسيحية " دار البطاريق وملغب الكأي والآبريق " ووصف جمالها وجمال سكانها، وحلف القسيس عليهم أن ينزلوا فنزلوا وقد بهرهم جمال الغلمان والجواري فأكرمهم بضروب من البر، ثم ارتحلوا وإذا هم يواجهون كنيسة مهدومة فنظم أبو حفص قصيدة في وصفها. ثم استأنفوا السير فوجدوا قطعانا من السائمة سارحة في المروج، فشرب أبو حفص كثيرا من اللبن " وما زلت أورى هناك بالرائب والميس، حتى كاد كياني ينقلب إلى تيس " وجروا في طرد وصادوا كثيرا من طائر البرك، وعلى صخرة إلى جانب الماء نقش أو حفص قصيدة يصف فيها ذلك اليوم.

ولما عادوا إلى السرى مرة أخرى، تلقاهم شاب جميل يتقلد حساما فأخبرهم أنه منفلت آبق من الحصن ويريد أن يعتنق الإسلام فرارا مما كان فيه. وهذا هو كل ما تبقى من المقامة، وهو ينبئنا لأن المقامة هنا تطلق على قصة " نزهة " ووصف مشاهد وتضمين للوصف النثري بالشعر، وليس وراء مفهومها الظاهري فيما أرى، أية رموز أرادها صاحبها. أما لماذا قدمها لابن الحديدي وهل لها من صلة بالمقدمة عن فن الكتابة وهل يمكن من سياقها كله استنتاج غاية وراء إظهار البراعة البلاغية فتلك أسئلة لا نستطيع أن نجيب عنها.

ص: 310

2 -

مقامة أبي محمد بن مالك القرطبي:

كان أبو محمد يعيش زمنا بالمرية في ظل ابن صمادح على فقر بالغ، وبهذه المقامة خاطب ممدوحه المذكور، وقد اختار ابن بسام أيضا فصولا منها. والفصول الأولى منها كلها مدح وثناء على ابن صمادح وإعلان عن فرحة الكاتب واستبشاره بدولته، وتتصل المقامة بوصف يوم من أيام المعركة أو الاستعداد لها " لا تسمع إلا همهمة وصهيلا وقعقعة وصليلا فخلت الأرض تميل والجبال تكون كثيبا مهيلا لا تسمع إلا أصوات تلك الغمائم وضوضاة تلك الهماهم من وهواه صهيل ودرداب طبول، أزئير ليوث بآجام أم قعقعة رعد في ازدحام غمام "؟. ثم يصف ظهور ابن صمادح " حتى لاح لنا من ملك الأملاك وثابت القمرين في الاحلاك وجه جلا هبوة ذلك العثير والعجاج إلا كدر " وبعد ذلك عاد إلى وصف الجيش وأنواع الأسلحة فوصف الدرع والسيف والرمح وصفا مسهبا ووصف الخيل ذوات الألوان المختلفات من مبيض ومسود وورد واصفر ومحجل، ثم تحدث عن مضاء رأي ممدوحه وعن استسلام عدوه:" فرمى بيده صاغرا إلى السلم ثقة بعضو كظل المزنة الممدود، وكرم كشط اللخة المورودة، فلولا حلم كالجبال رصين، وجود كالسحاب هتون، لبادوا خلال تلك الديار كما بادت جديس في وبار، ونغلت تلك المنازل نغل الجلد، ومحت كما محت وشائع من برد ".

ثم وقف يؤنب الذين يغترون بفضل ممدوحه وكيف أنه حليم لكنهم يحرجونه في حلمه وصوب رأي نفسه في قصده وزعم انه لولا ذلك لكان له في الأرض العريضة مسارح ولكنه لن يستبدل سواه لأخلاقه التي خبرها

ص: 311

فيه فهو " ثالث القمرين وسراج الخافقين وعماد الثقلين المعتصم بالله (ذو) الرياستين " ثم يشكو حاله وكيف غادر زوجه وأولاده في حالة حاجة وعوز واعتذر عن عدم اشتراكه في الحرب معه بحاجة أولاده إليه: " ولولا أفرخ كزغب القطا يدبون في نائله دبيب الكرى فيستشفون علالتي ويستنزفون بلالتي لامتطيت من جدواه السابح اليعبوب وتقلدت من نداه الصارم الرسوب ".

وتختلف هذه المقامة عن التي تقدمت باعتماد اسلوبها على الامثال وحل الابيات الشعرية وتحوير معاني الأدباء والشعراء السابقين، كما ان موضوعها في المدح التهويلي ينقص حظها من طرافة الموصوفات في المقامة السابقة.

3 -

مقامة عبد الرحمن بن فتوح:

لم يسمها ابن بسام مقامة، ولكن صلتها بالمقامة أقوى من صلة سابقتها وهي تشبه المقامة النقدية التي أنشأها ابن شرف. وخلاصتها أن ابن فتوح كان ليلة في رمضان يطوف بالمسجد الجامع بالمرية (سنة 430) وهو يردد بيتا فسمعه فتى حسن المنظر فسلم عليه واستحلفه إعادة ما قال فأعاده، فقال له انتو أخذته من العباس بن الأحنف، ثم سأله عن سبب ترديده البيت، فأخبره ان ذلك كان لفراق حبيب، فولى الفتى " وقد غرس في كبده ثمرة وده " وعاد ابن فتوح إلى بيته وذكرى ذلك اللقاء لا تزايله. وفي الفجر جاء الفتى وكان اليوم ماطرا فلم يجدا خمرا ليقطعا بها يومهما فتسليا بتذاكر شعراء بلدهم وأدبائه، وهنا كان الفتى هو السائل وابن فتوح المجاوب، فوضح رأيه في ابن برد وابن شهيد وابن زيدون وأبي بكر ابن الطبني.

ص: 312

وهذه مقامة في مضمونها وطبيعتها، ولا تشذ عن المقامة النموذجية إلا في ان صاحبها لم يتستر وراء اسم شخصية متخيلة، وحدد تاريخ اللقاء ليربط الحادثة ربطا بالواقع من حيث الزمان والمكان.

4 -

مقامة ابن المعلم:

اختار منها ابن بسام فصولا. وصاحبها ابن المعلم، كان أحد وزراء المعتضد، ويفتتحها صاحبها بالحنين إلى الماضي:" سقى عهدك أيتها الدمنة الزهراء كل عهد، وجاد قطرك أيها الروضة الغناء كل قطر، وسال عليك من ادمعي كل ملث هطال، وتناحت عليك من أضلعي كل جنوب وشمال " لأنه قضى هنالك عيشا رقيقا حرمه بعد ان استيقظ الدهر من هجمته وهب من غطيط رقدته وسكرته واسترد ما هب.

واستشار له صاحبا من صرحاء إخوانه فأشار عليه ألا يترك داره ولا يهجر موطنه، وقال فيما قاله: " وأعيذك من ترهات لعل وعسى، فتحسب كل بيضاء شحمة وتظن كل سوداء ثمرة، وربما سقط العشاء بك على سرحان، وكل الناس بكر، وفي كل واد بنو سعد،

والرفق يمن والأناة سعادة

فاستأن في رفق تلاق نجاحا " فان كان ولا بد من الرحلة فليختر من الرؤساء أحسنهم، ولكنه ناقض نصح صديقه وركب رأسه، فصدمته الأيام وخيبت أمله: " ووجدت الناس أخبر تقله، من أمير لا اسميه ووزير أقحمت الواو فيه، وكاتب أمي وقاض جني ".

ثم قدم عليه رسول " مولاه " فخف إليه، فاستنشده ذلك المولى من شعره فأنشده مدحه فيه، ثم طلب إليه ان يسمعه المنثور بعد المنظوم فأسمعه سجعا هو بين النثر والشعر، وكان مما قاله: " هو

ص: 313

الإمام الطاهر والكوكب الزاهر والأسد الخادر والبحر الزاخر أوهب الملوك للذخائر.. الخ " فسر به ذلك الأمير وأدناه وقربه. وهذه المقامة شبيهة بمقامة القرطبي من حيث أنها تتكون من مقدمة مهيئة للمدح ثم يليها بعد ذلك ضروب من الثناء؟ وأغلب الظن انه قالها في المعتضد - كما أنها تعتمد سرد الأمثال اعتمادا كبيرا مثل رسالة ابن زيدون الهزلية في كثير من أجزائها.

5 -

مقامة الفتح ابن خاقان علي ابي محمد البطليموسي:

تسمى أيضا المقامة " القرطبية " وهي على نسيج المقامة المشرقية في أن بطلها المتخيل يحمل اسم " علي بن هشام "، يرتحل من ارض الشام قاصدا بلاد الأندلس طلبا للتعرف على الأدب والأدباء " وقبل ما وصفت لي بلنسية بهاء وسام، وقيل لي هم في ثغر الجزيرة ابتسام، فأنخت بها الجمل، وقد وافت الشمس الحمل، وصدح القمري وهدل، وقام وزن النهار فاعتدل ". وهنا يصف جمال بلنسية ويسأل عن حملة الأدب فيقال له: " وفيها الشيخ أبو محمد البطليموسي علة العلل وشفاء الظمآن من العلل، مطاف الطلبة وإمام الخالة الخلبة ". ويذهب للقاء البطليموسي فإذا به يلقى " بفتى له لألاء ورواء، عمامته بين الرجال لواء، فرعه أفرع، وجيده أتلع، وأنفه ممطول وخلقه مجدول؟. " ومع الفتى رفيق له يسمى ابن الطويل والآخر خليل له، وقعد إليهما فتناشدوا الأشعار. ثم يسألهما عن الشيخ البطليموسي، فيأخذ أحدهما في دمه بفاحش الصفات ومقذعها " يأتي المناكر في كل ناد، ويهيم في العمه في كل واد، لا يرجى له ارعواء، ولا يأسو جرحه دواء ". وحدثه كل واحد منهما بمنكرة من

ص: 314

فعلات البطليموسي قال علي بن هشام: " فلم ولج سمعي ما ولج، وانبلج من امر الشيخ ما انبلج، بالغت في الطعن وأمعنت في السباب واللعن، واستخرت الله في الظعن، ويممت حضرة ابن معن ". (يعني ابن صمادح) .

وتلك هي الغاية من المقامة، وقد بلغت حدا بعيدا في الإقذاع والطعن ورد عليها من اسمه الوزير أبو جعفر برسالة سميت رسالة الانتصار، ولمن لم يرد عليها البطليموسي فيما يبدو، وقد عاب صاحب الرد على كاتب المقامة أنه " يقع في لحم أخيه سبعا، ويرتاح فيما يحزنه صنعا، كلامه زور، ونظامه فجور، وثناؤه كذب، ومضماره لعب. إن ذكر العلماء أفحش، أو وصف الفقهاء أوحش ".

من هو مؤلف هذه المقامة؟ لقد نسبت إلى الفتح بن خاقان، ولكن هناك شكا كبيرا في نسبها إليه، لأن الفتح ألف كتابا مستقلا في ترجمة ابن السيد، أثنى عليه فيه كثيرا، ولا نعلم أن الخلاف دب بينهما قبل ذلك أو بعده، ثم إن بعضهم اتهم الكاتب أبا عبد الله بن أبي الخصال بكتابتها، فتنصل من ذلك في رسالة كتبها إلى أبي الحسن بن سراج، ونفى تلك المقامة عن نفسه ويقول في جملتها:" ما هذه المقامة إلا قيامة حشرت الكرام وحاشت، وما استثنت ولا حاشت، أصابت وأشوت، وصابت وأخوت، وعمت لتخص، وناجت لتعلن وتنص (وتغص) ، والمناجى لهيب، وقد يؤذي من المقة الحبيب، اللهم طهرها من دنس الدعوة واجعلني فيها مستجاب الدعوة، حتى ندعوها لأبيها ونتبع الأقسط عندك فيها؟. أولى لهذا المنهم (المتوهم) ، ساء ما حكم، ويا بعد توهم "(1) .

(1) رسائل اخوانية: 16، وترسل الفقيه:74.

ص: 315

6 -

مقامة لأبي عبد الله بن أبي الخصال عارض بها الحريري:

يطلها الحارث بن همام وصاحبه المتنكر أبو زيد السروجي، أي ان ابن ابي الخصال في معارضته لم يغير الاسمين اللذين أجراهما الحريري في مقاماته. وتدور الحادثة في الريف، وقد دفع فيها الحارث إلى الفدادين " أهل الفخر والخيلاء ". والجو ماطر والسيول غامرة والفلاحون مبتهجون بما أصابهم من غيث، ويمر ببيت قد تحلق فيه الناس وصاحبه قد هش للمجتمهين وقام يخدمهم بنفسه، وإذا شيخ يتوسط الحلقة، يحثهم على بره وصلته ويستثير دوافع السخاء فيهم بفصاحته وتذلله ونحيبه، فإذا الصرر تفتح ويمطرون الشيخ منها بالدراهم " والشيخ يتلقف ولا يتوقف، ويلقط ما يسقط، ويدخر ولا يؤخر ". فلما انصرف الناس تسلل الحارث وراء الشيخ حتى كاد الشيخ ان يرميه بسهم ثم عرفه وقال له: " إنك لابن همام منذ الليلة " فنصحه الحارث أن يبيت عنده لأنه " بمنزلة لصوص وفي أهل خصاصة وخصوص " وحاول الحارث فيما يبدو أن يختلس ما معه من النقود ولكن الشيخ؟ وهو السروجي - كان شديد الحذر فلم يقبل ان ينام في الفراش الوثير بعد ان طعم الطعام الطيب، وقام بعد ان قال لصاحبه:" السهاد ولا هذا المهاد، والأرق ولا تلك السرق، والمحاش، ولا ذلك الفراش، كلني للبداوة وحمل الاداوة ". وفي الصباح وجده الحارث قد غادر مرقده وقد ترك رقعة فيها ثلاث قصائد، وعرف الحارث من أمر صاحبه أنه ذهب فشرب في إحدى الحانات واصبح محبوسا في جب لأن صاحب الحان ارتهنه بدينه.

وهنا تتحول المقامة إلى وصف الحان والشاربين ومن الحان من غلمان

ص: 316

وجوار وكيف ظل يتحيل على الخمار حتى عرف موضع صاحبه وعندئذ ذهب إليه واستخرجه وجلسا معا في الحان فقضيا يوما جميلا طلب الحارث على أثره من أبي زيد السروجي ان يخلده في شعر " فقلت يا أبا زيد أن لهذه الأيام أوابد كأوابد الوحش فقيدها بالسهام وخلدها في الأوهام، واعقلها بالمأثور، ووكل المنظوم بالمنثور " وتختتم المقامة بمقطوعة من السروجي.

وتختلف هذه المقامة عن مقامات الحريري في طولها وميل منشئها إلى ان يجرب قلمه في وصف عدة " مقامات "، فهناك منظر في الريف وآخر في بيت الحارث ثم ثلاث قصائد متتابعة ثم تفتيش عن السروجي ثم وصف الحان وحوار طويل بين الحارث ورب الحان، ثم اللقاء والحوار بين الحارث والسروجي، ثم وصف اليوم الذي ختمت به تلك الأحداث؛ ولا يلتزم هذا المنهج إلا كاتب لا يود أن ينشئ عدة مقامات متفرقة وإنما هو ينشئ مقامة أو اثنين ويحاول ان يعرض براعته في رسم مناظر متعددة يجمعها معا في مقامة واحدة.

7 -

المقامات اللزومية للسرقسطي:

هي خمسون مقامة عارض بها السرقسطي مقامات الحريري وتأثر في طبيعة سجعها؟ كما يوحي اسمها - بطريقة أبي العلاء المعري إذ بناها على لزوم ما لا يلزم، وقد كتب في آخرها أنها المقامات التميمية السرقسطية لأن مؤلفها هو أبو الطاهر محمد التميمي المنسوب إلى مدينة سرقسطة ويعرف بابن الاشتركوبي نسبة إلى اشتركوبي من أعمال تطيلة وقال ابن الزبير في ترجمته: كان لغويا أديبا شاعرا معتمدا في الآداب فردا متقدما في ذلك في وقته، قال: عليه اعتمدت في تفسير الكامل للمبرد لرسوخه في اللغة؛ وشعره كثير مات بقرطبة يوم الثلاثاء

ص: 317

الحادي والعشرين من جمادى الأولى سنة ثمان وثلاثين وخمسمائة؟ أي في آخر عصر المرابطين -.

والشخصيتان الرئيسيتان في المقامات هما السائب بن نمام والشيخ أبو حبيب وهو رجل سدوسي محتال أصله من عمان. وأحيانا يذكر في بعض المقامات شخص ثالث اسمه " المنذر بن حمام " ولا دخل له في أحداث المقامة وإنما هو رواية يتلقى حديث المقامة عن السائب بن تمام الذي يكنى بأبي الغمر ويتدخل في قصة المقامة أحيانا فتيان هما ابنا الشيخ السدوسي؟ أو أحدهما - والأول منهما حبيب والثاني غريب.

ولا تحمل كل واحدة من المقامات اسما علما كما فعل الحريري ومن قبله البديه، وإنما سمي بعضها كالسابعة فإن اسمها " البحرية " وسميت ثلاث أخر بنوع السجع السائد على كل واحد منها فواحدة تسمى المثلثة لأنها بنيت على ثلاث سجعات، واخرى تسمى المرصعة لتقابل عبارتها في سجعتين سجعتين، وثالثة تسمى المدبجة لتقابل كل عبارتين منها في ثلاث سجعات مثل " ريان الحداثة والشباب وريعان الدماثة والحباب ". أما المقامات الأخرى التي جعلت لها عناوين فهي الثامنة والعشرون وتسمى " الحمقاء " والموفية ثلاثين وهي مقامة الشعراء، والحادية والأربعون وهي مقامة الدب والتي تليها وهي الفرسية والثلاث التاليات وهي مقامة الحمامة والمقامة العنقاوية والمقامة الاسدية، والأخيرة وهي مقامة في النظم والنثر. وقد اتبع السرقسطي في كل مقامة من المقامات (32 - 40) طريقة خاصة في السجع فبني خمسا منها على الحروف فهناك الهمزية والبائية والجيمية والدالية والنونية، ثم بنى اثنين على نسق حروف ألف باء آخرين على نسق أبجد. وهذه المقامات (32 - 40) هي اشد مقاماته تصنعا وتكلفا وأما ما عداها فان السجع فيه سهل سائغ لا يحس قارئه فيه تعسفا أو مغالاة

ص: 318

وفيما عدا ذلك لم يحاول السرقسطي شيئا كثيرا من التلاعب في البناء والأحاجي وما أشبه ذلك كما فعل الحريري.

وإذا تتبعنا الناحية الجغرافية في مقاماته وجدناه أحيانا يخطئ في تصور الأمكنة فإذا تحدث عن أرض اليمن قال " فبينا أنا منها في عمان " كأنه يعد أرض عمان جزءا من اليمن، أو يقول في مقامة أخرى:" حتى إذا كان بذي المجاز من ارض الحجاز عرض له بين نجد وتهامة؟ " مطلقا هذا الوصف دون تحديد دقيق، وقد استمد أكثر أسماء الأماكن التي اختارها من نواحي الجزيرة العربية مثل اليمن وعدن والشحر وعسفان وظفار واليمامة والبحرين وزبيد والابواء. وكثيرا ما يغفل تسمية المكان ويكتفي بالقول إنه كان في ارض قفر أو صحراء، واختار من ارض الشرق والعراق والجزيرة أسماء مدينة السلام وسنجار وحران والانبتر والرقة وواسط والأهواز وأصبهان ومرو والري وصول والكرج. وتغلغل في الشرق الأقصى فجعل مكان الحوادث بعض جزائر الهند أو الصين أو غزنة، ومن ديار مصر والشام: الإسكندرية ودمياط وحلب وفلسطين. ولم تجر قصة مقامته في بلاد المغرب والأندلس إلا ثلاث مرات: مرة في القيروان وثانية في طنجة، وثالثة بجزيرة طريف، ولم يفدنا في الثالثة من هذه المقامات ذات الموطن المغربي أي شيء دقيق عن وطنه الأندلس، فكأننا لا نستطيع ان نجد في هذه المقامات صيغة محلية، كالتي وجدناها في بعض المقامات الأندلسية الأخرى وخاصة التي تصور رحلات في داخل الأندلس نفسها.

وإذا استثنينا المقامتين الثلاثين والخمسين وهما في الشعر والشعراء وفي النظم والنثر، وجدنا أن العقدة في اكثر المقامات الأخرى تقوم على تنكر الشيخ المحتال، وعلى مهارته في الوعظ، ووعظه غالبا تذكير بالآخرة

ص: 319

والموت، ثم انكشاف حال الشيخ للسائب بن تمام. وكثيرا ما يفر هذا الشيخ بعد ان يفوز بما يريد، لكنه في كل مرة يترك رقعة، فيها شعر يشرح فيه حاله وحيله. وقد يستعين الشيخ على إنفاذ حيلته بابنه حبيب فيجعله هو الخطيب الذي يستدر عطف الناس لحال ابيه، وقد يستعين بابنته إذ يتخذها جارية فيعرضها للبيع فإذا بيعت وقبض الثمن لم يسمح أمين البلد بإخراجها لأنها حرة لا يجري البيع عليها. أو قد يتخذ من السائب نفسه أداة لتحقيق أغراضه، كما في المقامة الحادية عشرة حيث يلتقي أبو حبيب بالسائب ويتصاحبان فيطلب إليه الشيخ ان يظهر لوثة وخنونا، ثم يلبسه أخلاق الثياب ويأخذه إلى حلقة القوم، ويحدثهم انه عاشق مجنون يهوى ابنة عمه وقد اصاره الحب إلى هذه الحال ويطلب إليهم مساعدته بالمال، فيجتمع المال منهم، والعاشق نفسه في حالة إغماء فيتركه إلى عناية الجماعة من حوله، ويعود إلى البيت الذي كانا ينزلان فيه بسنجار ويجمع ما فيه متاع ويهرب، وقد جازت حيلته على القوم وعلى السائب نفسه.

تلك هي شخصية المكدي التي استغلها الحريري وبديع الزمان، لم يغير السرقسطي في طبيعتها شيئا، وإنما غير في الحيل والأساليب، وجعل المقامة معرضا للبراعة الاسلوبية كما عاملها صاحباه من قبل. فمقامة يعرض فيها فنه في مدح الشيء ثم ذمه، وأخرى في وصف الدينار، وثالثة في وصف حال العاشق، ورابعة في وصف سرب من الحسان، وخامسة في مناجاة الطلول، وسادسة في تصوير القاضي الجائر، وقيمة الخداع والحيل في الحياة العامة، وسابعة في وصف الفرس، وهكذا.

وإذا كان من شيء يلفت النظر في مقامات السرقسطي، فذلك هو " العنصر البحري " في بعضها. ففي المقامة السادسة يقصد ميناء عدن

ص: 320

ويخطب في المجتمعين هنالك ويثني على روح المغامرة فيهم وحبهم للبحرية. ويقول لهم: (12 - 13) أذكركم بتلك البحور الزاجرة، والسفن الماخرة، والبحر العجاج، والماء الثجاج، وبالأعراف الجون، والغيابات والدجون، والغمرات المظلة، والأهوال المطلة، وبرنة القواطف، وأنة العواصف " فيستعير صفات البحر ليذكرهم بما يشبهها من أهوال يوم القيامة. وفي المقامة السابعة وهي البحرية؟ ومكانها مرفأ الشحر - يقوم بينهم خطيبا ويهول عليهم أمر السفر في البحر:" وما الذي حملهم على ركوب هذا العجاج، وخرق هذا الماء الثجاج، ولكنهم في البر منفسح ومجال، ودونكم من هوله أوحال وأوجال، كأنهم قد ملكتم عنانه وسلكتم نينانه؟. هل سدت عليهم المسالك أو طويت دونكم الممالك " ويحبب إليهم قصد الملوك، ويخذلهم عن المتاجرة مع الكفار، حيث يعانون عبادة النار، ويرون القرابين ويستمعون إلى ما لا يفهمون من رطانة، ثم يعود بعد أن نال أعطياتهم فيمدح لهم السفر في البحر:" وإن لهذا البحر لخبرا، وان به لآيات وعبرا، إلى مرافق ومنافع، ومتالع من الرزق ومدافع، فمن لؤلؤ ومرجان، وقاطف من ثمره وجان " وأخذ في هذا الضرب من عد لمميزاته ومنافعه.

ثم انه حين جعل مكان المقامة في إحدى جزائر الهند أو في الصين كان يفكر في هذه الرحلة البحرية كذلك. والمقامة العنقاوية التي وقعت أحداثها في الصين من أبرز المقامات لانه استمد فيها مادة من أقاصيص البحريين وحكاياتهم وتصرف بها. فقد جعل الشيخ في المقامة يقوم ليحدث الناس عن العجائب البحرية التي لاقاها في سفره، فقد أخبرهم انه كان ذات يوم يسير في قفرة ملساء: " فبينا نحن كذلك إذ انسابت تلك الأرض، واستدار بنا الطول والعرض، فطوينا المراحل، ورأينا الصحارى تمشي بنا

ص: 321

والسواحل، إلى أن رأينا البحر يسير إلينا وتسير إليه، ويعلو علينا تارة ونعلو عليه، تلعب بنا أمواجه وتبعد عنا أحناؤه وأضواجه، إلى ان ساخت في البحر سوخا، وبقينا نبوخ في الماء بوخا، فسبحنا سبحا طويلا، واستفدنا جلدا وحويلا، إلى أن خرجنا إلى جزيرة عريضة، ذات مرابع خصيبة وأرض أريضة؟.. واستيقظنا من تلك الغمرات، وصحونا من تلك السكرات، فعلمنا انه حيوان بحري أصحر ثم أبحر ". وبعد ذلك يصف كيف هبط فوقهم شيء كأنه السحابة الظليلة، وظهر لهم شيخ فأخبرهم ان ما ركبوه هو سلحفاة البحر " سبحان من قضى لكم بالنجاة، ووازى بكم أرض البجاة " وأن السحابة الظليلة ليست سوى فرخ العنقاء، وان الشيخ شهده وهو فرخ صغير توفيت أمه فزقه بيده وتقديرا من ابن العنقاء لهذه التربية فانه يزور الشيخ في كل شهر " فكم جلب إلي من ماء النيل وخصني من ماء دجلة والفرات بكل عذب فرات، وحباني من سيحان وجيحان بكل رزق طيب وريحان " ثم قال لهم الشيخ:" ابشروا بالنجاة والفوز والخلوص إلى البر؟ يا بني إذا سكن وجشم ووكن فتدرجوا على ذناباه، إذا أسبله، وإياكم وإياه إن أقبله، ثم صعدوا على زمكاه إلى فقارة، وتحفظوا من عطفة منقاره وسورة وقاره، ثم اعلقوا بأطراف ذلك الريش، وكونوا من كتده على عريش، حتى تنفذوا كالسهم المريش، فانه سيقع بكم على أباطح وسهوب؟ " وهكذا طار بهم ابن العنقاء وألقى بهم في رياض مونقة عرفوا من بعد أنها من أرياف النيل وشطوطه.

وفي هذه المقامة التي تعتمد على المغامرات البحرية ما يذكر بقصة النندباد، ولعلها كانت قد عرفت بالأندلس. وهنا يجب ان نتذكر البيئة البحرية عامة في قصص الرحالة الاندلسيين، ثم كيف تمثل طرف منها في قصة حي بن يقظان، وربما كان لقصة الفتية المغررين أثر في هذه

ص: 322

التصورات نفسها. وهذا موضوع منفرد يحتاج ان يدرس على ضوء الرحلات البحرية الأندلسية والأساطير التي بلغت الأندلسيين عن رحلات المشارقة أنفسهم.

ومن الطريف أن يتأمل القارئ ما كان يدور في خيال السرقسطي كلما جعل الهند أو غزنة مكان الأحداث في مقامته. ففي السادسة عشرة وهي المثلثة جعل طريقه بعد ذلك إلى بيت فيه لعب وقمار. وفي مقامته السابعة والأربعين حين كان المسرح هو جزائر الهند اختار ان يكون السهر مع الجواري ومجلس الغناء هو " المصيدة " التي ينصبها أبو حبيب لصاحبه السائب.

ولعل أهم مقاماته في تصوير جانب العيوب الاجتماعية مقامتان هما مقامة الدب وفيها يصور الشيخ أبا حبيب يتكسب من ترقيص دب له، وأناس مجتمعون من حوله، والمقامة التاسعة والاربعون، وفيها يصوره وهو قد انتحل مهنة الطب والعرافة معا، فهو يداوي فتى معه يظهر المرض وشقه مائل والزبد من فمه سائل، بالعزائم، ويقول مخاطبا الجن:" يا مارد سهمك صارد، يا مريد ماذا تريد، ما أطغاك ما اعصاك، ما ابعدك عن الخير وأقصاك، اخرج يا واغل، فانك شاغل، أبعد يا خاتل، فانك قاتل ". ثم ينادي على سلعته معلنا مهارته وحذقه: " أيها عندي في هذا الشأن سراير، وخبايا من الحكمة وضراير، أخذتها عن العلماء، ولقنتها من الحكماء، أين من شكا من هذه الاعراض؟ أين من رمي من هذه الأغراض؟ أين من لحقته آفة؟ أين من برحت به علاقة أو شأفة؟ أين من خامرته الأشواق والوساوس؟ ولعبت به الأجراس والوساوس. أين من سحره ساحر؟ أو دحره داحر؟ اين من لقعته عين أو رهقه دين؟ علي الضمان وأنا

ص: 323

الزعيم، وله النعيم ".

وربما لم تنفرد المقامات السرقسطية بشيء كثير من التجديد، ولكنها لا تخلو من التفرد الجزئي إذا قورنت بالمقامات المشرقية.

9 -

مقامتان لمحارب بن محمد بن محارب الوادي آشي:

لم تصلنا مقامته في القاضي عياض، وانما وصلتنا واحدة كتب بها إلى القائد عبد الله بن ميمون، وبطلها اسمه " فتح بن ميسور " ومكانها مدينة صور، والشخص الثاني فيها يدعى " ابن منصور " وهو شاب فصيح جميل نشأت بينه وبين فتح ميسور علاقة صداقة، ثم حكم الدهر بفراقهما، فإذا ابن ميسور يبلغ مدينة سلا، ثم تشوق إلى اللحاق بمدينة المرية، وفي سفره إليها مر بمدينة سبتة وقد هجر " طاغوت الصبا وجبته "، وظل يغذ السير حتى وصل وادي آش فرأى لحسن فيها " مقر إيراد وإصدار، وجمال قطر لا يجري على مقدار

بلد حيثما توجهت منه

قابلت الحسان من كل دار " وبينما هو يرتاح تحت شجرة توت إذا براكب معتم ملثم " جليل له همة تجله، قليل على ظهر المطية ظله "، وتحته فرس حسنة القد مصقولة الأديم، " مصفرة في لون العرجون القديم "، وينتهز محارب هذه الفرصة للاسترسال في وصف الفرس والصقر الذي مع الفارس؛ فوقف فتح يتعرف إلى الفتى ثم يذهب يماشيه مأخوذا بحسن حديثه، ولكنهما ما كادا يبتعدان قليلا في المسير حتى أمطرت السماء، وعندما بلغا مكانا يعرجان عليه عرجا نحو خيمة من الخيام وصلاها والناس نيام، فرحب بهما صاحب

ص: 324

الخيمة وقال " مرحبا بالسراة السراة، وبالوجوه الوجوه، انزلوا في رحب وسعة " وعندئذ أخذ فتح بسائل عن زعيم المحلة حتى عرف انه القائد الأجا أبو عبد الله بن ميمون " سيف هذه الملة، وحتف الطائفة الضالة المضلة " وسأل الرجل عنه فوصفه له واثنى عليه: " إن حابى فكرم للمال مبير، أو احتبى فيلملم أو ثبير "، ولما وصف الرجل بعض حليته وأدواته سأل فتح أن يصف له بعض غزواته فوصف له قدرته في الغزو البحري. فلما انتهى من وصفه ذكرته بلاغته ببلاغة صاحبه سعد ابن منصور " فحذر القناع عن صبح متلثم، ونطق غير لكن ولا تلعثم، فشممت رياه، وشمته فإذا هو إياه، وقلت: سعد؛ قال: سعد جمعتنا الليالي على غير وعد، والأمر لله من قبل ومن بعد ".

وواضح أن الغية من المقامة هو مدح القائد ابن ميمون وذكر شجاعته في الحروب البحرية، والإطار الخارجي من فراق الصديقين ولقائهما يبدو مصطنعا غير ملائم، لأن اتخاذ صور مكانا لأول لقاء ثم تعريف الرجل المشرقي وهو الصوري بقائد مغربي يبدو واضح الافتعال. ولكن المقامة من أخف المقامات أسلوبا وألطفها عبارة.

10 -

المقامة الدوحية أو العياضية الغزلية:

يتصل منشئها أبو عبد الله محمد بن عياض اللبلي بصدر دولة الموحدين فهو لاحق بأواخر هذا العصر الذي نتحدث عنه. وأولها: " قال ميزان الأشواق، ومعيار المحبين والعشاق، نبت بي معاهد الاحباب، في ريعان الشباب، لقينة أذكت نيرانها، وألقت بمسقط الرأس جرانها، فامتطيت الليل طرفا، ومزقت السنان طرفا ". ويصف اللبلي تنقله محمولا على جناح القلق منحدرا أو صاعدا وكان يكلف " بالبلدة الحمراء " لما عرف من طيبها وخصبها

ص: 325

فأوصله إليها حادي الاغتراب. ومن شعره في المقامة:

عربد بالهجر والعتاب

نشوان من خمرة الشباب

طغا على ريقه حباب

فاحتجت الخمر بالحباب وهذه هي القصة التي احتفظ بها ابن سعيد من هذه المقامة.

المقامات الأندلسية في العصور التالية:

ذكرنا عددا من المقامات التي ظهرت في العصور التالية من الأدب الأندلسي ولكن أكثرها لم يصلنا، وقد وصلنا بعض ما ألفه لسان الدين ابن الخطيب والمقامات النخلية للنباهي ومقامة تسريح النصال للزجال ومقامة العيد للأزدي، وليس فيها ما يشير إلى تطور ما في طبيعة المقامة أو موضوعها، فقد كانت مقامات لسان الدين في الاكثر تدور حول الرحلات ووصف البلدان، وكانت مقامات النباهي بالمفاخرة بين الكرمة والنخلة. أما تسريح النصال فان الشعر أغلب عليها من النثر وهي هزلية في طابعها وأما مقامته في أمر الوباء فالخطاب فيها موجه إلى " حمراء الملك " والمقامة احتجاج عليها لأنها تبقي السلطان في مكان قد فشا فيه الوبأ، مع أنه كان يفضل الانتقال إلى مالقة. وتعتمد مقامة العيد للأزدى على الكدية والحيلة، وهي من خير المقامات تصويرا للبيئة الشعبية الغرناطية في عصر لسان الدين بن الخطيب.

ومهما يكن من أمر المقامة واعتمادها على المحاكاة والتقليد فقد اصطبغ بعضها باللون المحلي وكان لها أثر في أدب يهود أسبانيا وربما كان لها أثر في الأدب الأسباني نفسه (1) .

(1) راجع مجلة المعهد ص 164 - 166.

ص: 326