الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الدراسات العلمية والفلسفية
انتشرت الكتب التي كانت محفوظة بقرطبة في انحاء الأندلس، بعيد الفتنة، فتنوهبت مكتبة الحكم المستنصر، وبيعت مكتبة ابي المطوف ابن فطيس حين اشتد الغلاء، حتى جمع ورثته منها اربعين الف دينار قاسمية (1) وحدث أبو حفص الزهراوي انه شد في بيته ثمانية أحمال كتب لينقلها، فلم يتم حتى انتهبها البربر (2) . واصبح الاهتمام بالمكتبات في سائر المدن الاندلسية أمرا ملحوظا، وأخذ الناس يتنافسون في ذلك، فكان في قرطبة نفسها مكتبة لمحمد بن يحيى الغافقي المعروف بابن الموصل (- 433) وكان هذا الرجل يؤثر جمع الكتب على كل لذة، وقد اجتمع عنده منها ما لم يجتمع مثله لأحد بعد الحكم المستنصر، فمن الكتب التي كان يقتنيها إصلاح المنطق بخط القالي، والغريب المصنف وهو الأصل الذي كان يستعمله القالي أيضا، ونوادر ابن الأعرابي بخط أبي موسى الحامض، وتاريخ الطبري بخط ابن ملول الوشقي، وقد بيعت هذه
(1) الصلة: 299.
(2)
تذكرة الحفاظ: 1127.
الكتب في تركته وأغلي فيها حتى تقدمت الورقة في بعضها بربع مثقال (1) .
وكان المظفر صاحب بطليموس جكاعة للكتب وذا خزانة عظيمة لم يكن في ملوك الأندلس من يفوقه في أدب ومعرفة. ومن هذه المكتبة كون الموسوعة التي سميت بالكتاب " المظفري "(2) . وجمع أحمد بن عباس الكاتب وزير زهير الفتى كتبا كثيرة حتى قيل إن عددها بلغ أربعمائة ألف كتاب (3) . وكان القنطري من أهل شلب جماعة للكتب والدواوين (4) ، كما كان ابن مدرك المالقي التاريخي النسابة بصيرا بالخطوط مميزا لها واقتنى من الدواوين والدفاتر عظيمها (5) .
ويخيل إلي أن ابن حزم كان قد جمع عددا كبيرا من الكتب، وهو قد صرح أنه جمع تواليف أهل الحديث والحنفية والمالكية والشافعية (6) هذا إلى ما أظن أن مكتبته كانت تحويه من كتب اخرى في مختلف فروع العلم والمعرفة فان اطلاعه الواسع على شتى المعارف في زمنه يجعلنا نقدر ذلك.
ولم تنقطع هجرة الكتب المشرقية في شتى العلوم، فأدخل الكرماني (- 458) رسائل اخوان الصفا إلى الأندلس لاول مرة (7) . وجلب تاجر عراقي نسخة من كتاب القانون لابن سينا قد بولغ في تحسينها،
(1) التكملة: 387.
(2)
التكملة: 393.
(3)
المغرب: 2: 206.
(4)
التكملة: 499.
(5)
التكملة: 517.
(6)
الرد على ابن النغريلة:105.
(7)
ابن أبي أصيبعة 3: 65.
فاتحف بها ابا العلاء ابن زهر تقربا إليه، ولم يكن هذا الكتاب وقع إليه قبل ذلك، فلما تأمله ذمة واطرحه ولم يدخله خزانة كتبه (1) . وهاجرت إلى الأندلس ايضا كتب الفارابي وديوان المتنبي ومقامات الحريري ورسائل البديع والخوارزمي وخطب ابن نباتة وكتب الثعالبي وخاصة اليتيمة. ولما عاد عبد الملك بن زهر إلى المشرق جلب معه دواوين من فنون العلم (2) . اما كتب المعري التي وصلت الأندلس فقد دون ابن عبد الغفور ثبتا لها في كتابه " احكام صنعة الكلام " وعد منها: كتاب القائف، وكتاب الصاهل والشاحج، وشرحه المسمى " لسان الصاهل "، والفصول والغايات، والسجع السلطاني، وخطبة الفصيح وشرحه. ومن الرسائل: رسالة الغفران ورسالة الفلاحة ورسالة الجن ورسالة النكاح ورسالة الأغريض ورسالة المنيح. ومن الشعر: سقط الزند وشرحه المسمى " ضوء السقط " واللزوميات وكتاب الاستغفار وكتاب جامع الأوزان وذكرى حبيب. وأخبرنا ابن عبد الغفور انه لم ير شرح ابي العلاء على ديوان ابي الطيب " إلى غير ذلك من التواليف التي لم تصل الينا، ولا ورد ذكرها علينا "(3) .
ودخلت المغرب والأندلس بعض كتب الغزالي، ثم تعرضت للحرق ايام علي بن تاشفين ثاني خلفاء المرابطين. وتقدم بالوعيد الشديد من سفك الدم واستئصال المال إلى من وجد عنده شيء منها (4) وأحرقها ابن حمدين بقرطبة. واستفتي في الأمر الفقيه أبو الحسن البرجي فأفتى بتأديب
(1) المصدر نفسه 3: 106.
(2)
الذيل والتكملة (ترجمة عبد الملك بن زهر) وفي النسخة بياض بعد لفظة " ومنها ".
(3)
أحكام صنعة الكلام: 132 - 139 وتعريف القدماء: 453.
(4)
المعجب: 111.
محرقها وتضمينه ثمنها، وتابعه على ذلك اثنان آخران من الفقهاء (1) والغالب ان ما صنعه ابن حمدين انما كان بأمر تاشفين بن علي بن يوسف إذ تفيد رسالة صدرت عنه إلى ابي زكريا يحيى بن علي والفقيه القاضي ابي محمد بن جحاف وسائر الفقهاء والوزراء والاخبار والصلحاء والكافة ببلنسية (10 جمادي الأولى 538) يوصيهم فيها ببعض الوصايا، ومنها انه يحذرهم من كل كتاب بدعه وصاحب بدعه " وخاصة؟ وفقكم الله - كتب ابي حامد الغزالي، فليتتبع أثرها وليقطع بالحرق المتتابع خبرها ويبحث عليها وتغلظ الايمان على من يتهم بكتمانها "(2) .
واشتغل الاندلسيون بكتب المشارقة دراسة وشرحا ومعارضه وردا واختصارا، إلى جانب ما ألفوه في شتى العلوم من فقه ولغة ونحو ومعجمات وتاريخ وحديث وكتب في التراجم والدراسات الأدبية. وهذا شيء يعز على الحصر، وليس من غرضنا في هذا الكتاب إلا الالماح إلى طابع الحركة العلمية والفلسفية في العصر، موضوع هذه الدراسة.
ويرجع الفضل في معرفتنا إلى ما كانت عليه حال الدراسات العلمية والفلسفية بالأندلس إلى القاضي صاعد، صاحب كتاب " طبقات الأمم "، فقد عاش في تلك الفترة وأداه تطوافه في انحاء الأندلس إلى التعرف ببعض أولئك العلماء، ويبدو لمن يراجع الفصل الذي كتبه صاعد عن علماء بلاده أنه لقي طوائف من الدارسين وان النتاج الذي صدر عنهم لم يكن غزيرا، وخصوصا إذا عرفنا كثيرا ممن لقيهم كانوا ما يزالون في دور الشباب وفي بواكير حياتهم العلمية. ولذلك فإن ما نتصوره من حالهم يومئذ هو دراسي حافل بالتلامذة المتطلعين إلى العلم، مع
(1) الذيل والتكملة، الورقة:71.
(2)
رسائل اخوانية: 3.
وجود عدد غير كثير من الأساتذة. ولكن هذه الظاهرة تدل على شيء من الحرية والتقدم: " فلم تزل الرغبة ترتفع من حينئذ في طلب العلم القديم شيئا فشيئا، وقواعد الطوائف نتحضر قليلا إلى وقتنا هذا، فالحال بحمد الله أفضل ما كانت بالأندلس في اباهة تلك العلوم والاعراض عن تحجير طلبها "(1) إلا أن هذه الحرية كانت تحتاج أمنا وسلما، وكانت خواطر الناس مشغولة بما يدهم من أخطار خارجية (2) . وقد ينجلي لنا معنى هذه الحقيقة اذا تذكرنا أن أكثر النواحي احتفالا بتلك الدراسات هما طليطلة عاصمة بني ذي النون، وسرقسطة عاصمة بني هود، وكلتاهما على مقربة من الخطر الخارجي. أما اشبيلية فكانت حالها كما قال المراكشي في وصف المعتمد بن عباد:" وكان مقتصرا من العلوم على علم الأدب وما يتعلق به وينضم إليه "(3) .
فكان من العلماء بطليطلة (4) . أبو الوليد بن الوقشي، وقد لقيه صاعد بتلك المدينة عام 438 وكان يجمع إلى علوم اللغة والفقه معرفة بصناعة الهندسة والمنطق؛ وابو جعفر ابن منيح أحد المعتنين بعلم الهندسة والنجوم والطب؛ والقويدس، تأدب في طليطلة، وبرع في علوم العدد والهندسة والفرائض، ودرس في تلك المدينة زمانا طويلا؛ وأبو اسحاق ابراهيم بن يحيى التجيبي، النقاش المعروف بولد الزرقيال، وكان بصيرا بعلم الفلك. وفيه يقول سانشذ بيريذ: " إنه يعتبر من أعظم أهل الفلك من العرب، وهو من طبقة أكابر علماء هذا الفن في العصور
(1) طبقات الأمم: 76.
(2)
المصدر نفسه 77.
(3)
المعجب: 63.
(4)
كل هذه الفقرة عن علماء طليطلة وسرقسطة ترتيب للمادة التي وردت عند صاعد 80 - 100، وقد نقل عنه ابن أبي أصيبعة 3: 78 - 85.
القديمة، بسبب طول ممارسته له واستقامة منهجه، فيما يبديه من ملاحظات استخرجها من تجاربه المباشرة " (1) . وقال فيه ابن الأبار:" ولم تأت الأندلس بمثله، آخر أرصاده بقرطبة، وكان أكثر رصده قبل ذلك بطليطلة في أيام المأمون "(2) .؛ ومن المشتغلين بالعلم ايضا في طليطلة، أبو عامر بن الأمير المقتدر بن هود، وكان يضيق إلى معرفته بالعلم الرياضي اهتماما بالمنطق والعلم الطبيهي والالهي، ومن المهتمين بالطب ابن البغونش (- 444) ، وقد درس على علماء قرطبة، فأخذ علم العدد والهندسة عن مسلمة المجريطي، وعلم الطب عن ابن جلجل وابن عبدون الجبلي وغيرهما، ثم خدم الظافر بن ذي النون والمأمون. وفي أواخر أيامه، ترك قراءة العلم وتنسك، وأقبل على قراءة القرآن، وقد لقيه صاعد وتبين له أنه قرأ الهندسة وفهمها، والمنطق وضبط كثيرا منه، ثم درس كتب جالينوس. ومن مشاهير الأطباء الذين استوطنوا طليطلة، ابن وافد اللخمي، وقد ألف كتابا في الأدوية المفردة جمع فيه بين كتابي ديو سقوريدس وجالينوس، وكان يرى أن التداوي بالغذاء مقدم على التداوي بالدواء.
أما سرقسطة، فعرف من علمائها الرياضيين الكرماني (- 485) وأصله من قرطبة، وكان أحد الراسخين في علم العدد والهندسة، وله رحلة إلى المشرق، درس فيها الهندسة والطب، ثم عاد واستوطن سرقسطة. وهو الذي أدخل إليها رسائل إخوان الصفا لأول مرة ومنهم عبد الله بن أحمد السرقسطي، وكان نافذا في علم العدد والهندسة والنجوم، وتوفي ببلنسية (- 448) . وهاجر ابن الكتاني المتطبب إلى
(1) نقلا عن تاريخ الفكر الأندلسي: 451.
(2)
التكملة: 138.
سرقسطة واستوطنها، وكان بصيرا بالطب متقدما فيه، ذا كظ من المنطق والنجوم وكثير من علوم الفلسفة. وفي سرقسطة، كان عدد من العلماء اليهود، منهم منجم بن الفوال، كان متقدما في صناعة الطب متصرفا في المنطق وسائر علوم الفلسفة، وله تأليف سماه " كنز المقل " رتبه على المسألة والجواب وضمنه جملا من قوانين المنطق وأصول الطبيعة. وكان معه بسرقسطة مروان بن جناح من أهل العناية بصناعة المنطق، وابن خبيرول الذي كان مولعا بالمنطق ايضا (- 450) . وابن بكلارش الطبيب ومن كتبه " كتاب المجدولة في الأدوية المفردة " وابو الفضل حسداي بن حسداي الذي برع في علم العدد والهندسة والنجوم والموسيقى والمنطق، ثم ترقى إلى علم الطبيعة، فدرس كتاب الكيان لأرسطوطاليس حتى أحكمه ثم شرع في دراسة كتاب السماء بعده. وقد اتصل ابن باجة ببيئة سرقسطة هذه وتوجه إلى دراسة الفلسفة حتى تفوق فيها على نظرائه:
أما في غير هذين البلدين فنجد افرادا من العلماء كابن خلدون الحضرمي باشبيلية، والواسطي ابي الأصبغ الماهر في علم العدد والهندسة والفرائض بقرطبة، وابن شهر الرعيني البصير بالهندسة والنجوم في المرية، وفيها ايضا ابن الجلاب أحد المتحققن بعلم الهندسة وهيئة الأفلاك وله عناية بالمنطق والعلم الطبيعي. ومنهم ابن زهر الجد وكان يعمل في الطب بدانية زمانا طويلا ثم أنتقل إلى اشبيلية. واسحاق بن قسطار اليهودي الذي كان طبيبا لدى مجاهد العامري وابنه وكان مشاركا في علم المنطق مشرفا على آراء الفلاسفة وتوفي بطليطلة (- 448) .
ونحن نلمح من هذا السرد السريع لاسماء العلماء شيئين أولهما قلة التواليف التي أثرت عنهم وثانيهما شيوع الاهتمام بالدراسات المنطقية، ولعل
هذه الدراسات كانت أكثر حظا من غيرها من حيث المؤلفات التي وضعت فيها، فإذا استثنينا " كنز المقل " لأبن الفوال وجدنا مؤلفين آخرين واحدا لأبن سيده وقد قال فيه صاعد:" عني بعلوم المنطق عناية طويلة وألف فيه تأليفا كبيرا مبسوطا ذهب فيه إلى مذهب متى بن يونس (1) " ولم يصلنا هذا الكتاب، غير أن ابن سيده يفتخر في مقدمة المحكم بتحقيقه في " تصوير الاشكال المنطقية، والنظر في سائر العلوم الجدلية التي يمنعني عن الأخبار بها نبو طباع أهل الوقت، وما هم عليه من رداءة الأوضاع والمقت "(2) . والمؤلف الثاني هو " كتاب التقريب لحد المنطق والمدخل إليه بالألفاظ العامية والأمثلة الفقهية " لأبن حزم الأندلسي، والظاهر أن متى بن يونس هو معتمده أيضا في هذا الكتاب (3) وقد كانت محاولة ابن حزم في كتابه جريئة من ناحيتين: أولا لأن التأليف في المنطق عرضه لألسنة الناقدين من خصومة الفقهاء فحملوا عليه بشدة، وبالغوا في تهجين ما صنه، وثانيا لأنه حاول أن يقرب المنطق باستعمال أمثلة من الشريعة لكي يبرز ارتكاز الشريعة إلى اصول منطقية. غير ان معاصريه اتهموه بأنه لم يفهم منطق ارسطوطاليس لأنه " خالف اصوله مخالفة من لم يفهم غرضه ولا ارتاض في كتابه، فكتابه من أجل هذا كثير الغلط بين السقط (4) " والتهمة صحيحة في بعض المواطن لأن ابن حزم اعتمد المقدمات الدينية في تصور المنطق، وأضعف من قيمة الاستقرار، وصرح في مواضع من كتابه بأنه لا يتقيد بقول الاوائل في
(1) طبقات الأمم: 88.
(2)
المحكم 1: 16.
(3)
انظر مقدمة كتاب التقريب ص: (ج) .
(4)
طبقات الأمم: 86 - 87.
هذا الموضوع أو ذاك. كما انه مع التزامه لتقسيم كتب ارسطوطاليس، جانب الاعتماد على بعضها مجانية كلية وادخل بعضها في بعض طلبا للأيجاز.
وقد قسم ابن حزم أهل عصره من حيث نظرهم إلى كتب الأوائل أربعة أقسام:
أ؟ - فريق حكموا على تلك الكتب بأنها محتوية على الكفر وناصرة للألحاد دون أن يقفوا على معانيها أو يطالهوها.
ب - قوم يعدون تلك الكتب هذيانا وهذرا وهؤلاء يحتاجون من يفهمهم أنهم على خطأ.
ج - قوم قرأوا هذه الكتب بعقول مدخولة واهواء مؤوفة وبصائر غير سليمة ولا بد من هدايتهم إلى وجه الحق.
د - قوم نظروا بأذهان صافية وأفكار نقية من الميل فاستناروا بتلك الكتب ووقفوا على اغراضها.
وأنفق ابن حزم في كتابه هذا جهدا كبيرا في وضع أسس المناظرة والجدل، وما ذلك إلا لحاجة أمثاله يومئذ إلى الدفاع عن القضايا الدينية، بوجه منطقي، وقد دل كتاب الفصل على الموقف الذي وقفه ابن حزم من علماء اليهود النصارى كما تشهد كتبه الأخرى بطبيعة المناظرة الحادة في وقفته أمام أهل المذاهب الأسلامية الأخرى، وهذه ناحية من أشد ضروب النشاط الفكري بالأندلس يومئذ.
واتماما للاتجاه الفكري لدى ابن حزم يحسن أن يرجع الدارس إلى رسالته في " مداواة النفوس ةتهذيب الأخلاق " ففيها مسحة فلسفية تخالط نظراته النفسية العميقة، وفيها دعوة إلى العزلة، تعد إرهاصا بنظرات ابن باجة في التوحد رغم المعايشة إذ يقول: " من جالس
الناس لم يعدم هما يؤلم نفسه، وانما يندم عليه في معاده، وغيظا ينضج كبده، وذلا ينكس همته، فما الظن بعد بمن خالكتهم وداخلتهم؟ والعز والراحة والسرور والسلامة في الانفراد عنهم، ولكن اجعلهم كالنار تدفأ بها ولا تخالطها ليلة (1) وفي هذا التيار الفكري الذي سيبلغ ذروته عند ابن باجة ثم عند ابن الطفيل نرى وقع المجتمع في تكوين هذه النظرات، ولو وصلنا كتاب " السياسة " لأبن حزم لكونا عن نظراته في التدبير الفردي صورة أوفى واتم، ولعرفنا على وجه أوضح أثر الحياة الأجتماعية في تكوين نظرته الفلسفية. وفي المنقولات الباقية من هذا الكتاب احكام تدل على انها منتزعة من واقع الأحوال الأندلسية كحديثه عن تنظيم البريد أو حديثه عن الولاة في قوله:" والذي نختاره للأمام على كل حال ألا يطول مدة أمير بلد، ولا سيما البعيدة عنه أو الثغور التي فيها القلاع المنيعة والجند الكثير أو التي فيها المال الكثير، بل يعجل عزل كل أمير يوليه شيئا من ذلك، وأن كان عدلا فاضل السيرة، فيوليه الإمام بلدا من بلاده، أما سائر البلاد فبخلاف ذلك لا يعزل عنهم أحد إلا عن جور ظاهر أو خيانة بينة "(2) .
فإذا انتقلنا إلى نطاق الفلسفة الالهية وجدنا اثنين من الفلاسفة هما ابن السيد البطليموسي وابن باجة.
وابن السيد لغوي نحوي ولكنه كتب في الفلسفة رسالة صغيرة بعنوان " كتاب الحدائق في المطالب الفلسفية العالية العويصة "، وقد خصص هذا الكتاب للاجابة على سبع مسائل هي: أن ترتيب الموجودات عن السبب
(1) رسائل ابن حزم: 125.
(2)
مجلة تطوان، العدد الخامس " 1960 ": 105 من مقال للأستاذ محمد إبراهيم الكتاني بعنوان " بين يدي شذرات من كتاب السياسة لأبن حزم ".
الأول يحكي دائرة وهمية، وإن الانسان تبلغ ذاته بعد مماته إلى حيث يبلغ علمه في حياته ويحكي علمه دائرة وهمية، وإن صفات الباري لا يصح أن يوصف بها طريق السلب، وقولهم لا يعرف الله إلا نفسه، والبرهان على بقاء النفس الناطقة بعد الموت (1) . ومما يلفت النظر أن أبن السيد جعل النفوس ستا أي زاد إلى النفوس الثلاث المعروفة وهي النباتية والغضبية والناطقة ثلاث نفوس اخرى هي الفلسفية والنبوية والكلية. وهو لا يعني أن هذه الثلاث أنواع في القسمة الأساسية للنفوس، ولكنه خلط صفات بعض النفوس الناطقة وميز بعض أقسامها. ويعتمد ابن السيد على الفلاسفة اليونانيين، ويورد بعض أقوالهم مثل تالس وزينون وأرسطو وأفلاطون، ولكنا لا نعرف مصدره المباشر، وهو ينقل عن طيماوس لافلاطون في غير موضع. وقد قال الاستاذ آسن بلاسيوس، إن هذه الفقرات التي يوردها ابن السيد من تلك المحاورة لا تتفق مع نصها اليوناني المعروف، مما يثير مشاكل متعددة تتعلق بالمراجع الخاصة بدراسة أفلاطون. ويقول آسن أيضا: وعلاوة على ذلك كله، فإن كتاب الحدائق، يعتبر أول محاولة للتوفيق بين الشريعة الإسلامية والفكر اليوناني (2) .
وأما ابن باجة، فهو فيلسوف هذه الفترة بلا نزاع. بلي بمحن كثيرة وشناعات من العوام، وقصدوا اهلاكه مرات وسلمه الله منهم. وكان هو ومالك بن وهيب الاشبيلي قرنين في التحقق بعلم الفلسفة، وقد استطاعا أن يفيدا كثيرا من الكتب التي تفرقت من مكتبة الحكم، بعد زوال الدولة الأموية. إلا أن مالك بن وهيب لم يكتب في الفلسفة،
(1) الحدائق: 6.
(2)
نقلا عن تاريخ الفكر الأندلسي: 335.
وأضرب عنها ظاهرا " لما لحقه من المطالبات في دمه بسببها " وانصرف إلى علم الشريعة. وأما أبو بكر ابن باجة، فإنه ترك في الفلسفة مؤلفات كما ترك تعاليق في الهندسة وعلم الهيئة، ولم يفرد تأليفا في العلم الالهي، غير أن له إشارات إليه في أثناء مؤلفاته الأخرى. وقد عد له ابن أبي أصيبعة عدة كتب، تدل على أنه سبق ابن رشد، إلى شرح كتب ارسطوطاليس. وقد قال فيه تلميذه أبو الحسن علي بن الإمام الغرناطي، وهو الذي وصلتنا أقاويل الباجي الفلسفية عن طريقه:" ويشبه أنه لم يكن بعد أبي نصر الفارابي مثله في الفنون التي تكلم عليها من تلك العلوم، فانه إذا قرنت أقاويل ابن سينا والغزالي، وهما اللذان فتح عليهما بعد أبي نصر بالمشرق في فهم تلك العلوم ودونا فيها، بان لك الرجحان في أقاويله أرسطو "(1) .
ومن كتبه التي وصلتنا رسائل ثلاث هي: كتاب النبات، ورسالة الوداع، ورسالة اتصال لعقل بالانسان، كما وصلنا كتاب " تدبير المتوحد " وجميعها نشرها المستشرق آسن بلاسييوس. اما كتاب النفس فقد نشره الدكتور محمد صغير حسن المعصومي. ومن العجيب ان كتب ابن باجة أكثرها مخروم غير كامل من آخره ككتابيه في النفس وتدبير المتوحد وغيرهما (2) .
وقد كان ابن باجة في فلسفته ذا اهتمام بسعادة النفس الفردية وكمالها، فهو يؤمن مثل أفلاطون بالحاكم الفيلسوف، ولكنه يحاول أن يتساءل: ما هي الغاية القصوى لدى الإنسان، وكيف يحقق هذا الفيلسوف غايته؟ وهو غير معني في نظرته الفلسفية بتحقيق؟ أو تصوير - المدينة الفاضلة
(1) ابن أبي أصيبعة 3: 102.
(2)
حي بن يقظان: 62 (ط. دار المعارف) .
أو الجمهورية المثالية، وانما يحاول أن يوجد للإنسان الفكر وضعا في الدولة المضطربة، فيرى أن يكون متوحدا، أي يعيش في بيئته، وكأنه بانقطاعه للتأمل لا يعيش فيها، فالمتوحد هو الذي سماه المتصوفة باسم " الغريب " لأنه قد سافر بفكره إلى مرتبة اخرى هي له كالوطن (1) .
وقد يقال على نحو من اليقين ان ابن باجة يتأثر أفلاطون في جمهوريته والفارابي في مدينته الفاضلة، ولكن إشارات عابرة إلى الوضع السياسي في زمنه، في كتابه " تدبير المتوحد " تدل على الملاءمة بين هذا التجريد الفكري والواقع. ومن العجيب، وتلك حال المجتمع من الفوضى يومئذ، أن ينتهي ابن باجة إلى القول:" وكل ما يوجد للإنسان بالصبع ويختص به من الأفعال فهي باختيار؟ والأفعال الإنسانية الخاصة به هي ما تكون باختيار ".
واذا استثنينا كتاب النبات وجدنا أن تدبير المتوحد واتصال العقل ورسالة الوداع وكتاب النفس تنحو منهج متكامل في النظرة الفلسفية. فسعادة الفرد وكماله هما محور رسالة الوداع، التي وجهها إلى تلميذه علي بن الامام السرقسطي حين أزمع الرحلة إلى المشرق ليبين له كيف يكون الفرد " كاملا كماله الذي يخصه " وذلك باقترابه من منزله العقل " أحب الموجدودات إلى اللع عز وجل ". وفي رسالة اتصال العقل تتمة لهذه الفكرة إذ يحاول أن يثبت في هذه الرسالة، كما يقول الاستاذ آسن بلاسيوس: " أن العقل الانساني، وأن كان مجرد قوة، أو استعداد لتقبيل المعقولات، إذا أتحد بالمعقولات يصير صورة الصور، كما هو الحال في العقل الفعال،
(1) تدبير المتوحد في jras " " 1945 ": 68، ومقالة روزنتال في ic " 1952 ": 191 وما بعدها.
بمعنى أن يصير بمثابة محل المثل ومكان المعقولات " (1) . وفي تدبير المتوحد شرح لتحقيقها على رغم النقصان الذي يواجه وجود المتوحد في المجتمع الناقص.
أما كتاب النفس فانه عودة إلى تقرير التميز للأنسان عن طريق النطق والتخيل لا عن طريق الحس. يقول ابن باجة: " والادراكات النفسية جنسان: حس وتخيل، ولا يمكن أن يتخيل ما لا يحس، ولذلك لا يمكن أن يتخيل اللون؛ فالحس يتقدم بالطبع التخيل لأنه كالمادة للتخيل (2) ". ويقول في موضع آخر: " فبين أن القوة المتخيلة كمال لجسم طبيعي آلي، فهي إذن نفس؛ وبين مما قلنا أنه لا يمكن أن توجد قوة اخرى غير هاتين، أعني الحس المشترك والقوة الخيالية (3) ".
ذلك الاتجاه الفلسفي الذي ترك أثرا واضحا في أدب هذا العصر حين أوجد له متكأ عقليا وعمقا جديدا ومصطلحا؟ سنولي أثره العناية في فصل تال - لم يكن اتجاها مستنكرا لدى الفقهاء فحسب بل حاول النقاد ان يغضوا منه وينتقصوا أصحابه.
ولا نستطيع أن نقول إن هذا التيار الفلسفي كان قاصرا على عهد الطوائف وانه توقف أيام المرابطين، فابن باجة يمثل هذا العصر المرابطي؛ صحيح أن دولة المرابطين كانت دينية الطابع وانه لم يكن " يقرب من أمير المسلمين ويحظى عنده إلا من علم الفروع، فروع مذهب مالك (4) " وأنه نفقت في ذلك الزمان كتب المذهب، وكفر العلماء كل من عمل في علم الكلام وأحرقت كتب الغزالي، ولكن يجب أن نذكر أن ميدان
(1) الفكر الأندلسي: 338.
(2)
كتاب النفس: 98.
(3)
المصدر نفسه: 141.
(4)
المعجب: 111.
العمل الفلسفي لم يكن نشاطا عاما في أي عصر وإنما كان أمرا خاصا فرديا في كثير من الاحيان. أما الفروع المباحة من علوم الاوائل كالطب مثلا فقد ظلت تلقى ضروب التشجيح. وفي عصر المرابطين ألف عبد الملك بن زهر كتاب " الاقتصاد في صلاح الاجساد " لعلي بن يوسف ابن تاشفين وفرغ منه سنة 515هـ؟ (1) وأمر علي بن يوسف أيضا بما كان خلف أبو العلاء بن زهر من نسخ له مجربات فجمعت بعد موت أبي العلاء (- 526) .
(1) الذيل والتكملة، الورقة:6.