الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحال الاجتماعية للشاعر
إنما أفرد الشاعر حيت تصدى لدراسة الحالة الاجتماعية عن الكاتب، لأن الكاتب في الغالب كان " رجل دولة " أي لم تتمثل في حياته " العقدة السياسية " مثلما تمثلت في حياة الشاعر. وقد اتصلت حياة الشعر العربي منذ امرئ القيس بمشكلة العلاقة بين الشاعر والحياة السياسية، وتحطم على صخرة هذه المشكلة كثير من الشعراء في المشرق، وكانت هذه " العقدة " وراء كثير من المظاهر الشعرية والأدبية. أما في الأندلس فيبدو انها حلت على نحو ما، إذ كان وصول الشاعر إلى المشاركة في توجيه السياسة ببلده أمرا مألوفا، ومما ساعد على ذلك كون بعض الأمراء شعراء يحبون الشعر ويقدرونه ويؤمنون بأنه مقياس للكفاءة وليس هذا المجال صالحا للحديث عن أثر هذه النظرة في الحياة السياسية بالأندلس، ولكن لا ريب في أن " الطبيعة الشعرية " كانت ذات أثر في نوعية الحياة السياسية في البلاد الأندلسية وبخاصة في عصر ملوك الطوائف. فإن التخلي عن العاطفة الحارة في توجيه العلاقات الفردية والاجتماعية ليس امرا ميسورا دائما وقد التبست سياسة ذلك العصر بشيء من العواطف
والمنازعات الفردية والكيد الذي تثيره المنافسات من اجل المجد (السياسي - الادبي) . على انا يجب ان تحذر مما قد يسبق إليه الوهم فنظن ان الشعر هو الاداة الأولى التي كانت تمنح صاحبها حق التوقل في المناصب العليا في الدولة، حتى في دولة المعتمد بن عباد الذي يقول فيه المراكشي:" وكان لا يستوزر وزيرا إلا ان يكون أدبيا شاعرا حسن الأدوات فاجتمع له من الوزراء الشعراء ما يجتمع لأحد قبله "(1) ذلك ان مهمة الوزارة تتصل؟ قبل أي شيء آخر - بالكتابة، فإذا كان الكاتب مثل ابن زيدون وابن عمار وابن عبدون على مقدمة شعرية ممتازة صح له أن يبلغ مرتبة الوزارة ويكون شعره ميزة تعينه على ذلك، لمنه لو انفرد بالشعر دون الكتابة لما استطاع ان يبلغ تلك الوظيفة. ولو استعرضنا فهرست كتاب " قلائد العقيان " للفتح بن خافان لوجدنا طبقة الوزراء دائما تتصل بذكر الكتابة، أما الذين يلقبون بذوي الوزارتين، أي يحسنون النظم والنثر معا، فهم عشرة في العدد بين ثمانية وعشرين وزيرا.
ومن ثم يمكننا أن نتصور كيف كان الشعراء يتفاوتون في وضعهم الاجتماعي تفاوتا يجعلهم على وجه التقريب في ثلاث طبقات:
أ؟ - طبقة الشعراء الذين بلغوا أعلى مناصب الدولة، مثل ابن زيدون وابن عمار وابن عبدون. وكان هؤلاء ينالون رواتب ضخمة وبذلك يقفون في مستوى الطبقة الارستقراطية العالية.
ب - " شعراء منتمون "، أي يلزم الواحد منهم بلاط احد الأمراء وينتمي إليه، ويأخذ منه رسما شهريا (أو سنويا) مقررا، أو جوائز غير موقوتة بوقت، وأنما هي منحة تعطى القصيدة الواحدة. ويبدو أن " ديوان الشعراء " لم يعد له وجود لدى
(1) المعجب: 65.
كل أمراء الطوائف، إذ لا نسمع عن وجوده إلا في ظل بني عباد، كما نسمع أنه كان لدى المعتضد دار مخصوصة بالشعراء، وانه كان للشعراء يوم مخصوص يدخلون فيه عليه (1) وأكثر الأمراء سخاء في تقدير الجوائز والرسوم المعتمد ابن عباد غير ان اذا قسنا ما كان يعطيه بالأرقام التي تروى عن جوائز الشعر لدى المشارفة وجدناه شيئا قليلا. وفي هذا ما قد يطمئننا إلى صلة الأندلسيين بالواقع، فقد روي انه أعطى عبد المجيد بن وهبون الف مثقال حين بلغه قوله:
قل الوفاء فما تلقاه في أحد
…
ولا يمر بمخلوق على بال
وصار عندهم عنقاء مغرية
…
أو مثلما حدثوا عن ألف مثقال (2) وأجازه مرة بثلاثة آلاف درهم عندما سمع قصيدة اللامية (3) :
محل ألبس الدنيا جمالا
…
وأن فضح المقاصر والخلالا ومدحه مرة بقصيدة فيها تسعون بيتا فأجازه بتسعين دينارا فيها دينارا مقروض، فلم يعرف العلة في ذلك إلى أن تأملها، وإذا هو قد خرج من العروض الطويل في بيت إلى العروض الكامل، فعرف حينئذ السبب (4) .
ولما وصل إليه ابن حمديس وقع له بمائة دينار (5) وجعل له رسما شهريا
(1) Abbadidarum: 2: 229
(2)
المعجب: 63 - 64.
(3)
الذخيرة - القسم الثاني (المخطوط) : 211.
(4)
معجم السلفي: 11 (نسخة عارف حكمت) .
(5)
ديوان ابن حمديس: 211.
فأصبح ابن حمديس بذلك من المنتمين إلى بلاطه.
ولما استقر أبو الفضل البغدادي ند المأمون بن ذي النون بطليطلة أحرى له ستين مثقالا في الشهر، واستمر يدفع هذا الرسم لحاشيته بعد وفاة البغدادي (1) .
ج - الشعراء الجوالون: وهم الذين يطوفون على الأمراء مادحين متكسبين بأشعارهم، وهم أكثر عددا من الطبقتين السابقتين، وقد يتحول احدهم من حال التجوال إلى حال الاستقرار والانتماء، فيضمن بذلك رزقا دائما مقدرا، كما فعل ابن شرف القيرواني، فانه بعد ان طاف على ملوك الأندلس آوى إلى كنف المأمون ابن ذي النون. وربما قيضت له شخصيته وظروفه أن يرتفع من هذه الطبقة إلى الطبقة الاولى، وهذا نادر، وأبرز مثل على ذلك حال ابن عمار، فقد كان قبل ارتقائه قمة الحياة السياسية شاعرا خاملا قد " امترى اخلاف الحرمان، وقاسى شدائد الزمان، وبات بين الدكة والدكان، واستجلس دهليز فلان وابي فلان "(2)، وقد روى ابن بسام كيف تصدى ابن عمار بالمدح إلى أحد أعيان شلب فأجازه بمخلاة شعير وقال له: خذ ما حضر، وأنت احق من عذر (3) . ومن الغريب ان يقول ابن بسام ان الشعر كان ايام نشأة ابن عامر نافقا وانه كان طريقا إلى الجاه والمال.
وقد كان بعض هؤلاء الجوابين يمعن في تطوافه مستجديا مكديا كما
(1) الذخيرة 4/1: 69.
(2)
الذخيرة - القسم (المخطوط) : 147.
(3)
المصدر نفسه: 148.
حدث لأبي عامر بن الأصيلي فانه كان؟ كما يقول ابن بسام - جوابة آفاق؟ مشحوذ المدية في الكدية، وهي التي بلغته بلاد النصارى (1) ومن الجواربين عبد الرحمن بن مقانا الاشبوني الذي رجع إلى بلده " القبذاق " يعمل في الزراعة بعد ان شبع من التطواف (2) ومن الشعراء المنتجعين الأسعد بن بليطة (3) فانه تردد على ملوك الطوائف؛ ومنهم الجلماني فانه كان متجولا مستجديا بالأشعار (4) .
وربما بلغ الفقر بهؤلاء الطوافين حدا بعيدا لاخفاقهم في استخراج الارزاق بالمدح؛ فقد انتجع أبو محمد بن مالك القرطبي المرية واميرها ابن صمادح، ورفع إليه قصائد كثيرة فلم يحظ منه بطائل، وظل يشكو الفقر دون ان يبلغ به شكواه إلى ما يسد العوز، فأخذ من ثم يتحدث عن غناه، فقال له بعض اصحابه ومن اين هذا الغنى وقديما تشكو الفقر؟ ومضوا معه إلى منزله فما وجدوا غير قلة فخار وقدح للماء ونح ثمانية أرطال دقيق في مخلاة (5) . ومثل آخر على ما كان يعانيه شعراء هذه الطبقة من ضنك يتجلى في سيرة أبي بكر بن ظهار الشاعر، فقد انتجعه أحد الشعراء مادحا له فلم يجد ابن ظهار ما يعطيه فباع ثوبه ووجه إلى ذلك الشاعر بثمنه (6) .
ويلحق بهذه الطبقة، وإن لم يكن من صميمها، صنف من المداحين
(1) الذخيرة - القسم الثالث (المخطوط) : 272، 273.
(2)
الذخيرة - القسم الثاني (المخطوط) : 301.
(3)
المغرب 2: 17 والذخيرة 1⁄2: 290.
(4)
المغرب 1:، 378.
(5)
الذخيرة 1⁄2: 246.
(6)
المصدر نفسه: 288.
أطلق عليهم في الأندلس " القوالين " وهم من المكدين الذين لا يصنعون شعرا وإنما يقفون على الأبواب مرددين قصائد غيرهم. فكان هؤلاء القوالون؟ مثلا - يتداولون بعض شعر السرقسطي لعذوبته وسلاسته (1)، كما كاموا يرددون قصيدة ابن مقانا الاشبوني (2) :
ألبرق لائح من أندرين
…
ذرفت عيناك بالدمع المعين وهذا الوضع القائم على التجواب يجعلنا نفهم ثلاث ظواهر أدبية في هذا العصر: أولاها صلاحية الجو لفن المقامات والتهيئة لها على نحو ما، وثانيها ملاءمة التكسب التجوابي للنمو في فني الزجل والموشح (3) ؛ والظاهرة الثالثة كثرة الرسائل التي تكتب في الشفاعات والوساطات من أجل أولئك الشعراء، فقد كان الواحد منهم يحتاج رسالة توصية من أحد المشهورين حتى يستطيه أن يبلغ مأمله، وربما كانت الحدود السياسية الكثيرة عاملا آخر في اللجوء إلى مثل تلك الرسائل. فمن رسائل أبي الحسن بن يشفع لبعض الشعراء:" لا غرو أن يقصدك؟ أثل الله سؤددك - مهدي حمد ومقتضي رفد، ويلم بك مستوجب معروف ومعاني صروق، فقديما غشيت منازل الكرماء، ونثبت فضائل العلماء، وهزت اعطاف الكبراء، بنغم الثناء والاطراء،؟.. وموصله؟ وصل الله اعتلاءك وحرس ارجاءك - (فلان) وهو ممن اضطره كلب الحرمان، ونوب الزمان، إلى اعتماد الكرام واسترفاد الأعيان،؟ وحسبه ما يرقع جانب خلته وينقع بعض غلته "(4) . ولابن الجد أيضا رسالة اخرى من هذه البابة
(1) الذخيرة - القسم الثالث (المخطوط) : 107.
(2)
الذخيرة - القسم الثاني (المخطوط) : 303.
(3)
انظر الفصول الخاصة بالمقامات والموشحات والأزجال في هذا الكتاب.
(4)
الذخيرة - القسم الثاني (المخطوط) : 125 - 126.
يقول فيها: " من دفعته الأيام؟ أعزك الله - إلى التقلب في الأقطار، والتكسب بالأشعار، لم يخف عليه موضع الاحرار، في النجود والاغوار، على أن رسم الشعر قد درس أو كاد، ومرتاد البر قد عدم المراد "؟ وفي كل هذه الرسائل تصوير لاختلال أحوال هؤلاء الشعراء وحاجتهم إلى تميمة يستفتحون بها مغالق الكبراء؛ بل أن مثل هذه التوصية كان يحتاجها شعراء مشهورون ذوو سهم نافذ في الشعر والكدية، كتوصية كتبها أبو الفضل بن حسداي من اجل الحسن الحصري، واخرى كتبها أبو الربيع سليمان القضاعي عناية بالشاعر ابن ارقم (1) .
وكان شعراء آخرون يستغنون عن الارتحال بإرسال قصائدهم إلى الممدوحين مكتوبة، منتظرين ان تبلغهم الصلات إلى منازلهم. وعلى الرغم من أن ابن شرف انتجع كثيرا من الأمراء إلا أنه تحاشى الوفود على المعتضد، وعز عليه في الوقت نفسه أن لا ينال جوائزه، فكان يكتب إليه الشعر وينفذه على أيدي الرسل؟ بعث إليه خمس قصائد ورسالة إلى ابن زيدون ليرفع إليه تلك القصائد فأجازه بثلاثين مثقالا (2) ، وارتقب المعتضد وفوده إليه، ولكن ابن شرف كان يتخوف جنابه فأرسل إليه كتابه " أعلام الكلام " بعد أن وسمه باسمه فجاءته صلة مقدار مائة مثقال (3) . وكتب عبادة القزاز قصيدة يمدح بها المعتمد بن عباد ثم رفعها إلى أبي بكر الخولاني المنجم ليقدمها بدوره إلى الممدوح، وقال له في أثناء رسالة: " فلك الفضل في توصيل ذلك إليه وتقبيل الكريمتين؟ أعني يديه -، فان نجح السعي وساعد فمن عندك أرى ذلك، فأنت
(1) الذخيرة - القسم الثالث (المخطوط) : 162، 166.
(2)
الذخيرة 4/1: 135، 137.
(3)
المصدر السابق: 142.
المشارك المشكور على اهتبالك، ولولا جوانح جرت علي، فقصت جناحي، وسلبت ما لدي، لأمضيت عزمي، وكنت مكان نظمي " (1) .
بعد ذلك نصادف فئتين من الشعراء لعلهم قلة بين شعراء ذلك العصر فمنهم من يتجول حقا على ملوك الطوائف ولكن دون ان يتخذ الشعر وسيلة للكسب، وهذا أغرب الفئتين، ومن ذلك حال ابن عيطون اللخمي الطلطلي فقد قال فيه ابن بسام (2) : إنه " قال الشعر متحببا لا متكسبا " مع ان اكثر ما ورده من شعره فهو في المدح، وقال ابن سعيد بعد أن وصفه بإباء النفس وعدم التكسب انه " حال على ملوك الطوائف "(3) وها هنا مقام نفرق به إذن بين اتخاذ الشعر وسيلة للارتزاق وبين عدم تعليقه بما قد يجيء من فائدة مادية، دون رفضها إن جاءت؛ أما الفئة الثانية فهي فريق الشعراء الذي يترفع عن التجوال ويبتعد عن المدح ما استطاع إلى ذلك سبيلا خضوعا لمذهب ذاتي فلسفي أو ديني أو لعله خاصة. ومن هذا الفريق الشاعر المتفلسف الملقب بالمتنبي " فقد استتر ببلغة، واقتصر على طريقة، فلم يطرأ على الدول "(4) ومنهم شعراء الزهد كالالبيري وابن العسال ومن جرى على المذهب. وقد كان ابن خفاجة يمثل هذا الفريق أيضا في عهد ملوك الطوائف فلما دخل المرابطون جزيرة الأندلس تخلى عن عزلته وشارك في مدح أمراء الملثمين ولكنه ظل يؤكد في قصائده أنه يمدح تقديرا لا استجلابا لعرض نادي.
وخلاصة ما هنالك أن الشاعر في عصر الطوائف إن لم يكن من
(1) الذخيرة 1⁄2: 300 - 301.
(2)
الذخيرة - القسم الثالث (المخطوط) : 238.
(3)
المغرب 2: 16.
(4)
الذخيرة 1⁄2: 402.
طبقة السياسيين أو من الشعراء المنتمين (أو من المنقطعين) كان يكابد في سبيل الرزق صعابا جمة، وجهده في الكسب هو شعره في التزلف والمدح والكدية السافرة، وأولئك هم الجمهور الأعظم. ولم يكن الشاعر يستطيع، حتى وهو في أعلى درجاته، أن يتنافس الكاتب في المكانة الاجتماعية أو السياسية، وفي بعض الإمارات لم يكن يعد شيئا إلى جانب رجل السيف (ومن هنا كتبت رسائل في المفاضلة بين السيف والقلم حيث كان رجال السيف يتبوؤن الصدارة) . ولذلك تضاعف شأن الحامي الراعي للشعراء وأصبح بالنسبة للشاعر الذي يعتمد عليه يمثل " رابطة حياة ". ولعل ما حدث عند سقوط المعتمد يدل على الناحيتين معا: يدل على ما كان يمثله المعتمد لمن يرعاهم، كما يدل على تغلغل الكدية في نفوس جمهور كبير من الشعراء، فإن المكدين لم يعفوه وهو أمير مقيد من الإلحاح عليه بمدائحهم رجاء جوائزه فتعرض له الحصري في طريقه بالعودة:" ولم يلقه باكيا على خلعه من ملكه؟ بل بأشعار قديمة له، صدرها في الرباب وفرتني، وعجزها في طلب اللهى " فقاسمه المعتمد ما بيده (1) . وتجمعت حوله زعنفة من شعراء الكدية كلهم طامع في صلته وإلى هذا يشير بقوله (2) :
شعراء طنجة كلهم والمغرب
…
ذهبوا من الأغراب أبعد مذهب
سألوا العسير من الأسير وإنه
…
بسؤالهم لأحق منهم فأعجب
(1) الذخيرة 4/1: 211 والمعجب: 90، وقال المراكشي: ولم يكن عند المعتمد في ذلك اليوم مما زود به - فيما بلغني - اكثر من ستة وثلاثين مثقالا فطبع عليها وكتب معها بقطعة شعر يعتذر من قلتها.
(2)
ديوان المعتمد: 91 - 92. والمعجب: 91.
لولا الحياء وعزة لحمية
…
طي الحشى لحكاهم في المطلب
قد كان إن سئل الندى يجزل وإن
…
نادى الصريح ببابه اركب يركب حتى إذا حل المرابطين تراجعت منزلة الشاعر أكثر من ذي قبل، وأصبح التصريح بكساد الشعر أشد وأوضح؟ ذلك أن الشاعر حتى في أسمى ما غدا يستطيع بلوغه من مكانه لم يعد في طوقه منافسة رجل السيف (وهو من الملثمين) والفقيه والكاتب (وهو في الغالب من الأندلسيين) ولعل الأعمى التطيلي قد عبر في بعض لحظات الأحساس بالتعاسة عن هذا المعنى بأجلى عبارة حين قال: إن " قال مالك " قد طردت " قام زيد " إي أن الفقه قد أبعد الأدب واللغة، وأصبحت الكلمة العليا ففقهاء (1) :
أيا رحمتا الشعر أقوت ربوعه
…
على أنها للمكرمات مناسك
وللشعراء اليوم ثلث عروشهم
…
فلا الفخر مختال ولا العز تامك
إذا ابتدر الناس الحظوظ أشرفت
…
مطالب قوم وهي سود حوالك
رأيتهم لو كان عندك مدفع
…
كما كسدت خلف الرئال الترائك
فيا دولة الضيم أو تجاملي
…
فقد أصبحت تلك العرى والعرائك
ويا " قام زيد " أعرضي أو تعارضي
…
فقد حال من دون المنى " قال مالك " وفي ذلك العصر نجد ابن قزمان صورة أخرى من أبي الشمقمق وأبي الشمقمق وأبي الرقعمق والأحنف العكبري في تحديد ما يطلبه من قمح أو شعير أو جبة أو غفارة أو خروف للعيد، حتى أن المقامات في الأندلس لم تعبر عما بلغته روح الكدية مثلما فعل الزجل.
(1) ديوان الأعمى التطيلي، الورقة:43.
ومهما نحاول أن ننصف عصر المرابطين بالمقارنة مع عصر الطوائف فلا بد من أن نقر بأن شيئا من الاهتزاز قد أصاب القيم التي ينظر بها رعاة الأدب للشعراء، وان هذا الاهتزاز يرجع إلى عدة عوامل منها الاختلال السياسي في عصر ملوك الطوائف نفسه، ومنها الالتفات إلى الجهاد في عصر يوسف بن تاشفين بخاصة واعتباره الغاية الأولى في الدولة، واصطباغ الدولة بالصبغة الدينية، وضعف الرابطة بين الممدوح الذي لا يحسن تذوق الشعر البليغ وبين الشعر نفسه؛ ولكنا أيضا يجب أن نقدر إن هذا قد أصاب النظرة إلى الشعر والأدب في عصر الطوائف وبدأ قبل حلول المرابطين، ولعل شهادة رجل جواب مثل الحجاري الكبير تؤخذ دليلا على هذا الإحساس بالتغيير، فالحجاري أبو محمد بن عبد الله بن إبراهيم عم صاحب المسهب يقارن بين الماضي والحاضر - ماضيه مع أمراء الطوائف وحاضره مع الباقين الذين أدركهم وهو في سن عالية فيقول: " لم يقدر أن يقضي لي الأمتصار لهم في شباب أمرهم وعنفوان رغبتهم في الكلام، ولكن أجتمعت بهم وأمرهم قد هرم وساءت بتغير الأحوال ظنونهم، وملوا من الشكر وضجروا من المروة، وشغلتهم المحن والفتن فلم يبق فيهم فضل للافضال، وكانوا كما قال أبو الطيب:
أتى الزمان بنوه في شبيبته
…
فسرهم وأتيناه على الهرم وأن يكن أتاه على الهرم فانا اتيناه وهو في سياق الموت ". ثم قال: ومع هذا فان الوزير ابا بكر ابن عبد العزيز؟ رحمه الله كان يحمل نفسه ما لا يحمله الزمان، ويبسم في موضع القطوب، ويطهر الرضى في حال الغضب، ويجهد ألا ينصرف عنه أحد غير راض، فان لم يستطع
الفعل عوض عنه القول، (أي الحجاري صاحب المسهب) : فالمعتمد ابن عباد كيف رأيته؟ فقال: قصدته وهو مع أمير المسلمين يوسف بن تاشفين في غزوته للنصارى المشهورة فرقعت له قصيدة؟ قال: أما ما ارتضيته لك فلست أقدر في هذا الوقت عليه، ولكن خذ ما ارتضى لك الزمان، وأمر خادما له فأعطاني ما أعيش في فائدته إلى الآن (1) .
(1) Abbadidarum 2: 147