الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المحاولات النقدية في القرن الثالث
المحاولات النقدية في القرن الثالث
قد يذهب الدارس إلى القول: إن النقد الأدبي لم يفز من النقاد بكتاب خاص مستقل في هذا القرن، ولكن يجب أن نتحفظ في إطلاق هذا الحكم فنقول: ذلك هو صورة ما وصلنا، إذ يبدو إننا يجب أن نفسح المجال لآثار قد تنفتح عنها باب المستقبل، وفي طليعة ذلك جهد الناشئ الأكبر في النقد.
دور الناشئ الأكبر في النقد
الخليل والناشئ الأكبر أبو العباس عبد الله بن محمد المشهور بابن شرشير كان شاعراً متكلماً نحوياً عروضياً، نقض علل النحويين وأدخل على قواعد العوض شبهاً ومثلها بغير أمثلة الخليل (1) ، ونظم قصيدة طويلة في فنون العلم تبلغ أربعة آلاف بيت ونقض المنطق في كتب كثيرة (2) ، وقد عاش فترة من حياته في بغداد ثم هاجر إلى مصر وتوفي فيها (سنة 293)(3) . وما كنا نعلم أن له مشاركة في النقد، لولا أن أبا حيان التوحيدي وصفه في كتاب " البصائر والذخائر " بالتفوق في هذا المضمار فقال: " وما أصبت
(1) ابن خلكان 3: 91.
(2)
ابن المرتضى: 92 - 93.
(3)
راجع في ترجمته أيضاً طبقات ابن المعتز: 417 وتاريخ الخطيب 10: 92 وبعض آرائه الكلامية في مقلات الإسلاميين: 184 - 185، 500 - 501 والفصل 4: 194، وقد نشر الأستاذ فان أس قطعتين من آثاره (بيروت 1971) .
أحداً تكلم في نقد الشعر وترصيفه أحسن مما (أتى) به الناشئ المتكلم، وان كلامه ليزيد على كلام قدامة وغيره وله مذهب حلو وشعر بديع واحتفال عجيب " (1) . وهذه شهادة قيمة لما نعرفه من ذوق أبي حيان ونفاذ نظراته وسداد رأيه. ويبدو أن الناشئ قد خص النقد الأدبي بالتأليف المفرد. لقول أبي حيان " وقال الناشئ أبو العباس في نقد الشعر " (2) . ولكن النقول التي اقتبها أبو حيان في القسم المنشور من كتاب البصائر تدل على نزعة أدبية خالصة في الكلام على الشعر، فلعل أبا حيان إنما اعجب فيها بتدفق الأسلوب وبراعة العرض.
تعريفه للشعر.
فالناشئ يقول في تعريف الشعر ووصفه: " الشعر قيد الكلام وعقال الأدب وسور البلاغة ومحل البراعة ومجال الجنان ومسرح البيان وذريعة المتوسل ووسيلة المترسل وذمام الغريب وحرمة الأديب وعصمة الهارب وعذر الراهب وفرحة المتمثل وحاكم الأعراب وشاهد الصواب "(3) . فهذا التعريف يشير إلى طبيعة الشعر (من حيث أنه مقيد بإيقاع ولذا فهو يتطلب براعة خاصة) وإلى ما يحققه من مهمات، فهو وسيلة الشاعر إلى استفتاح المغلق وعون للكاتب المترسل وسبيل للاعتذار وموطن للتمثل وإيراد الشواهد النحوية واللغوية.
(1) البصائر 2: 117.
(2)
نفسه: 273، وانظر:619.
(3)
المصدر نفسه.
نظرته إلى موضوعات الشعر
فإذا تناول الناشئ موضوعات الشعر، تحدث عنها بهذا الأسلوب البياني فقال:" أول الشعر إنما يكون بكاء على دمن، أو تأسفاً على زمن، أو نزوعاً لفراق، أو تلوعاً لاشتياق، أو تطلعاً لتلاق، أو أعذاراً إلى سفيه، أو تغمداً لهفوة، أو تنصلاً من زلة، أو تحضيضاً على أخذ بثار، أو تحريضاً على طلب أوتار، أو تعديداً للمكارم، أو تعظيماً لشريف مقاوم، أو عتاباً على طوية قلب، أو متاباً على مقارفة ذنب، أو تعهداً لمعاهد أحباب، أو تحسراً على مشاهد أطراب، أو ضرباً لامثال سائرة، أو قرعن لقوارع زاجرة، أو نظماً لحكم بالغة، أو تزهيداً في حقير عاجل أو ترغيباً في جليل آجل، أو حفظاً لقديم نسب، أو تدويناً لبارع أدب "(1) .
ويبدو أنه بعد أن تناول موضوعات الشعر على هذا النحو العام عاد يقف عند كل موضوع منها على حدة، فمما نقله عن أبو حيان متصلاً بموضوع الغزل والنسيب قوله:" ومخاطبات النساء تحلو في الشعر وتعذب في القريض لاسيما لغانية قد أطر الفتاء شاربها، وزوى الآباء حاجبها، وأشط الجمال قوامها، وأفرد الحسن تمامها، وانجل الهوى عينيها، وامرض الزهو جفنيها، وأرابت الصبابة ألفاظها، وفتر الرنو ألحاظها؟ الخ "(2) ، وهي قطعة طويلة، كان الناشئ يعدد فيها مقاييس الجمال، وما يلتفت إليه الشاعر من شئون الحسن إذا هو اخذ في الغزل، وما قد يصوره من المشاعر أو من الالتفاتات النفسية إذا هو تحدث عن مواقف الغرام وقصص الحب. وهذا منزع غريب في النقد - أن صحة التسمية - وليس في مقدورنا أن نحكم على كتاب الناشئ وجهده عامة، لأنا لا نملك إلا أربعة
(1) البصائر 2: 260 - 261.
(2)
البصائر 2: 619 - 621.
اقتباسات، منها هذه الثلاثة، واقتباس رابع أورده ابن رشيق في " العمدة "(1) ، ولم يقطع انه لأبي العباس الناشئ، وقد أورده بالمعنى، للدلالة على تفضيل الشعر قال: العلم عند الفلاسفة على ثلاثة طبقات: أعلى وهو علم ما غاب عن الحواس فأدرك بالعقل أو القياس، وأوسط: وهو علم الآداب النفسية التي أظهرها العقل من الأشياء الطبيعية كالأعداد والمساحات وصناعة التنجيم وصناعة اللحون، وأسفل: وهو العلم بالأشياء الجزئية والأشخاص الجسمية فوجب، إذا كانت العلوم: أفضلها ما لم يشارك فيه الجسوم، ان يكون افضل الصناعات ما لم تشارك فيه الآلات، وإذا كانت اللحون عند الفلاسفة أعظم أركان العمل الذي هو أحد اسمي الفلسفة وجدنا الشعر اقدم من لحنه لا محالة، فكان اعظم من الذي هو اعظم أركان الفلسفة، والفلسفة عندهم علم وعمل ". ولسنا نقول شيئاً في هذه العبارة سوى إنها سفسطة قائمة على المغالطة. ويسمي ابن رشيق كتاب أبي العباس الناشئ " تفضيل الشعر " (2) ، ولا نعلم أهو الكتاب الذي سماه أبو حيان " نقد الشعر " أم هو كتاب آخر.
اثر الاعتزال في النقد
ومهما تكن طبيعة هذه المحاولة، فأن نسبتها إلى الناشئ الأكبر أمر هام لأنها تؤكد أن الدوائر الاعتزالية كانت من اكثر المجالات اعتصاماً بالنقد سواء منه ما تناول الخطابة وما تناول الشعر، وقد مكننا هذا الكشف من أن لا نقصر الحديث - إذا نحو ذكرنا اثر الاعتزال - على بشر بن المعتمر والجاحظ، بل زاد في أملنا في العثور على جهود اعتزالية أخرى، وقد اندفع المعتزلة نحو استبانة المقاييس البلاغية والنقدية لعاملين كبيرين:
(1)
أولهما أن البلاغة عنصر هام في الإقناع، والإقناع غاية الجدل
(1) العمدة 1: 8.
(2)
العمدة1: 134.
الكلامي، ولهذا كان بعض علماء المعتزلة " معلمي " بلاغة، كما كان سفسطائي يونان، وعلى هذا النحو يجب ان نفهم دور بشر بن المعتمر وغاية صحيفته، بل أن نفهم دور المتكلمين " لان كبار المتكلمين ورؤساء النظارين كانوا فوق أكثر الخطباء وابلغ من كثير من البلغاء " (1) وقد شهد الجاحظ لثمامة بن أشرس المعتزلي بقوله:" وما علمت أنه كان في زمانه قروي ولا بلدي كان بلغ من حسن الإفهام مع قلة عدد الحروف، ولا من سهولة المخرج مع السلامة من التكلف ما قد بلغه. وكان لفظه في وزن إشارته، ومعناه في طبقة لفظه، ولم يكن لفظه إلى سمعك بأسرع من معناه إلى قلبك "(2) .
وقد قررت صحيفة بشر أشياء ستصبح مشتركة بين نقد الخطابة ونقد الخطابة ونقد الشعر، منها اعتبار اللحظات التي يسمح فيها القول والابتعاد عن الكد والاستكراه، والملاءمة بين اللفظ والمعنى، فالمعنى الكريم يحتاج لفظاً كريماً؛ وليس ذلك بان يكون المعنى من معاني الخالصة وغنما " مدار الشرف على الصواب وإحراز المنفعة "، والبليغ التام من استطاع ان يفهم العامة معاني الخاصة. ثم لابد من الملاءمة بين المعنى والمستعمين، فلكل طبقة كلام ولكل حالة مقام (3) .
وغدا التناسب بين المعاني والمستمعين هو مدار القول في البلاغة الخطابية، ومنه استمد تعريف البلاغة وإنها مطابقة الكلام لمقتضى الحال. وهذا المبدأ نفسه هو مدار الصحيفة الهندية:" لا يكلم سيد الأمة بكلام الأمة ولا الملوك بكلام السوقة؟ ومدار الأمر على إفهام كل قوم بمقدار طاقتهم والحمل عليهم على أقدار منازلهم "(4) وكذلك ألحت الصحيفة الهندية على
(1) البيان 1: 139.
(2)
البيان 1: 111.
(3)
انظر صحيفة بشر في البيان 1: 135 - 139.
(4)
البيان 1: 92 - 93.
التناسب بين المعاني والألفاظ. فكانت في روحها متفقة مع ما أورده بشر ابن المعتمر.
(2)
وثانيهما: إيمان المعتزلة - رغم دراستهم للثقافات الأجنبية وتأثرهم بها - أن الشعر العربي مصدر من مصادر المعرفة الكبرى ووعاء لها، أما أنه مصدر من مصادرها فذلك واضح في مقدار ما يتيح لدارسيه من معارف في الحيوان والأنواء والنبات والأشربة وغير ذلك، وأما انه وعاء لها فلأنه يمكن بشر بن المعتمر من أن ينظم قصائد في الحيوان، ويمنح الناشئ وسيلة صالحة - في نظره - ليتحدث عن أنواع المعارف في أربعة آلاف بيت، ويتيح لصفوان الأنصاري شاعر المعتزلة ان يتحدث عن الفلزات وخيرات الأرض (الطين) رداً على بشار. وإلى جانب هذه الميزة الثقافية يضطلع الشعر بمميزات تتصل بحاجات النفس الإنسانية، ولهذا الشرف في منزلته فإنه حقيق بالتمحيص والدرس والنقد.
تأثر النقد بالوقفة ضد الشعوبية
ويمنح هذا الإيمان أصحابه قوة في وقفتهم ضد الشعوبية لأن الشعر في تصور هؤلاء المدافعين عن العرب تراث عربي خالص، ليس هناك ما يشبهه لدى الأمم الأخرى إلا شبهاً عارضاً، ومن هنا كان إيمان الجاحظ بالصلة بين الشعر والعرق، ثم بين الشعر والغريزة، ومن هنا كان الاتجاه نحو القول بالإعجاز في النظم، لكي يتميز القرآن عن كتب الحكمة الفارسية وأشباهها، وكذلك كان تمسك هؤلاء العلماء بالمصطلح البدوي في النقد، ثم تمسكهم بالطريقة التقليدية في بناء القصيدة - إلى حد ما - لان في كل ذلك دفاعاً عن الموروث العربي ضد الشعوبية.
تأثير الاعتزال في النقاد من غير المعتزلة
وقد كانت هذه الموجة الاعتزالية - من جميع أطرافها - اكبر قوة فاعلة في تطور النقد الأدبي أثناء القرن الثالث، لا بأشخاص وحسب بل من خلالا المتأثرين بها، فقد تناول ابن قتيبة مبادئ صحيفة بشر والصحيفة الهندية من حديث حول اللفظ والمعنى، ومراعاة نفسية السامعين، والانقياد إلى اللحظات التي لا يوجد فيها ما يعترض الغريزة أي الحالة النفسية للمنشيء. والتكلف واسماح الطبع. وطبقها جميعاً على الشعر، ولكنه لم يقف منها موقف الناقل بل منحها من التحليل والبسط ما رفعها فوق مستوى النصائح الموجزة. وكذلك أخذ المبرد مفهوماته عن الاستعانة والتشبيه والإيماء من المدرسة الاعتزالية ومبادئها البلاغية. وأقبل ابن المعتز على بيان الجاحظ، فاستخرج منه مبحثه في البديع واستعار مصطلحه عن المذهب الكلامي. وهو نوع من البديع نشأ في جو اعتزالي. فإذا أضفت إلى ذلك جهود الجاحظ والناشئ، استبانت لك حقيقة القوة الدافعة الكبرى في نقد القرن الثالث. في تقرير أبعاده وفي تثبيت مصطلحه.
كذلك فإن إلحاح المتأدبين من المعتزلة على اتخاذ الشعر وعاء للمعرفة، كان ذا اثر في توجيه النقد الأدبي، ولكن بطريقة سلبية، إذ صادف ذلك انكساراً في الذوق الأدبي بين الأجيال. وأصبحت الحاجة ماسة إلى نقد يعتمد تبيان الجمال لا المنفعة الثقافية في الشعر. ومن ثم وجدت تلك التلمسات النقدية لتحديد حقيقة الشعر " الجيد ". إذ ليس كل شعر " يعلم " الناس يستحق هذه الصفة، وليس كل شعر " يتعمق " المعاني يصلح أن يسمى شعراً.
وأياً كان الأمر فقد تعددت المحاولات النقدية في القرن الثالث. وتدل الآثار التي وصتنا كاملة أو على شكل نقول متناثرة - أو ذكرت لنا أسماؤها دون أن تصلنا - على إنها تقع تحت فئات متباينة، نميز فيها خمساً:
(1)
الاهتمام بإبراز المعاني المشتركة بين الشعراء:
وهو اهتمام أدى إلى تتبع السرقات، وسيكون من أكثر النواحي التي شغل بها النقاد على مر الزمن، ووسعوا فيها مجال القول، وتمحلوا لها الأسباب، ثم آل بهم الأمر إلى تصنيف السرقات في أنواع وضروب، وكان العكوف عليها يبرز مدى اطلاع الناقد أكثر مما يبرز إيمان ذلك الناقد بان الأخذ قد تم على النحو الذي يقرره، وسوف نقف عندها وقفات طويلة أو قصيرة ثم ندرس فيها طبيعة الظاهرة العامة. ومن صور الاهتمام بها في القرن الثالث: كتاب سرقات الشعراء وما اتفقوا عليه لابن السكيت (- 243) وكتاب إغارة كثير على الشعراء للزبير بن بكار (- 256) وكتاب سرقات البحتري من أبي تمام وكتاب سرقات الشعراء لأحمد بن أبي طاهر طيفور (- 280)(1) . ولو سألنا أنفسنا ما هي الحاجة التي دفعت إلى هذا اللون من الاهتمام في ذلك القرن لوجدنا أن الانشغال بقضية المعنى، تلك التي أثارها الجو الاعتزالي العقلي، ذو صلة وثيقة بتوجيه النقاد حينئذ إلى رصد المعاني المشتركة بين الشعراء واخذ اللاحق بينهم من السابق، يستوي في ذلك القدماء والمحدثون.
(2)
النقد الضمني:
كادت الشكوى أن تكون عامة من ان شعر المحدثين لا يجد الناقد الذي يبرزه للناس ويقربه إليهم. وأنه لم ينل حظ الشعر القديم الذي شغل به الرواة والعلماء وذللوه على مر الزمن (2) . ولما كنا نقل الشعر يقوم على الرواية عن الشيوخ تعامى العلماء الشعر المحدث لأنهم " لم يجدوا في شعر المحدثين منذ عهد بشار أئمة كأئمتهم ولا رواة كرواتهم "(3) ولذلك
(1) الفهرست: 146.
(2)
أنظر أخبار أبي تمام: 14.
(3)
المصدر نفسه.
تهربوا من عجزهم عن الخوض في ذلك الشعر إلى الطعن عليه، وحسبك أن تجد عالماً ناقداً مثل ثعلب في هذا القرن يقول لبني نيبخت:" أنا أعاشر الكتاب كثيراً وخاصة أبا العباس ابن ثوابة واكثر ما يجري في مجالسهم شعر أبي تمام ولست أعلمه فاختاروا لي منه شيئاً "، وكان ينشد البيت من شعره ويقول ما أراد بهذا؟ فيشرح له (1) . ولذلك رأى بعض المشتغلين بالشعر ممن لا يقفون موقف العداء من الشعر المحدث أن يبرزوه للناس بعمل مختارات منه، فكانت من ذلك كتب الاختيار التي ظهرت في ذلك القرن، وهي كتب لا تقوم على أسس نقدية صريحة، بل تعتمد على ذوق صاحبها، وذوقه يرتد إلى " مسبقات " ضمنية توجهه في أخذ ما يثبته وترك ما ينفيه، وليس لدينا من هذه الكتب ما يمكننا من استنباط طبيعتها العامة او طرق أصحابها، فمن ذلك كتاب " البارع " وهو اختيار شعر المحدثين لأبي عبد الله هارون بن علي. وكتاب اختيار الشعراء الكبير له أيضاً وقد أتم منه شعر بشار وأبي العتاهية وأبي نواس (2) . ولأحمد بن أبي طاهر طيفور عدد من كتب الاختيار منها: شعر بكر بن النطاح، ودعبل، ومسلم، والعتابي، ومنصور النمري، وأبي العتاهية، وبشار وغيرهم (3) وللمبرد كتاب " الروضة " أختار فيه شعر المحدثين. وسيتسع باب الاختيار أيضاً على سبيل الاحتذاء أو رغبة في تقريب الفائدة، ولكن دواعيه في القرن الثالث متصلة اتصالا وثيقاً بالحركة النقدية.
(1) المصدر نفسه: 15 - 16.
(2)
الفهرست: 144.
(3)
الفهرست: 146 - 147.
حماسة أبي تمام
وقد خالف أبو تمام (- 231) في تأليف كتاب " الحماسة " هذه الروح المتوجهة نحو الشعر المحدث، لأن ما أورده في كتابه من شعر المحدثين قليل، ولا ريب في أن موقفه يثير إعجابنا ودهشتنا معاً، فهو شاعر ذو طريقة خاصة في الشعر يهاجمها كثير من النقاد والمتذوقين حينئذ. فلا يحاول أن يدافع عن هذه الطريقة بالتعصب لما قاربها أو أشبهها من شعر معاصريه وإنما هو يعمد إلى الشعر القديم، فيستخرج منه من المقطعات التي يحتاج إلى إثباتها إلى تذوق أصيل. معرضاً عن القصيدة في الأكثر. وقد دلت مختاراته على أنه يستطيع أن يتجاوز طريقته الشعرية وما فيها من طلب للصور ومن إغراب في توليد المعاني واستغلال للذكاء الواعي إلى شعر مشمول بالبساطة وشيء غير قليل من العفوية والصدق العاطفي المباشر، ثم أن لا يطلب ذلك فيما " ذله " العلماء من شعر المشهورين، وإنما يعمد - في الأغلب - إلى أناس مغمورين من شعراء الجاهلية والإسلام، دون مثال يحتذيه سوى الاعتماد على الذوق الذاتي. فأن المفضل الضبي والأصمعي من قبله إنما عمدا في اختيارهما إلى القصيدة، معتمدين على ما كانت الرواة قد استخرجته ونوهت به من شعر المقلين، فكان أبو تمام بذلك رائداً كثر مقلدوه دون أن يبلغوا شأوه. وقد أتيح له أن يهتدي إلى ابتكار جزئي حين جمع ضروباً من الفنون الشعرية - مثل وصف المعركة، والفخر بالشجاعة. وذكر الفرار من الحرب؟ الخ - تحت فن جديد سماه " الحماسة " وبه سمي الكتاب كله. وقد كان البون بعيداً حقاً بين اختيار أبي تمام وطريقته الشعرية. ولكن بدلاً من أن يلمح بعض النقاد أصالة الذوق المنصف لديه اتهموه بأنه طوى أكثر ما أحسنت فيه الشعراء ولم يدرجه في الحماسة وأبقاه لديه ليسرق معانيه منه فتخفى سرقاته من النقاد (1) .
(1) هذه التهمة وجهها له أبن المعتز (الموشح: 478) ، وقد حاول أبن الأثير من بعد إنصاف أبي تمام فتحدث عن براعته في الاختيار وعن المآخذ القليلة التي وجدها في الحماسة (راجع الفصل الخاص بالنقد في مصر والشام والعراق أثناء القرن السابع) .
حماسة البحتري
ولقد حاول البحتري (284) محاكاة صنيعه، فورد مورداً مختلفاً، وأكثر من الأبواب، ولم يتبين الحاجة إلى جمع الفنون المتشابهة في باب، وغلبت عليه النزعة الاخلاقية، بينما كان المحمل الضمني عند أبي تمام " جمالياً ". ولا تمثل حماسة البحتري إزاء طريقته في الشعر " تكامل " التشابه أو التناظر، بينا تكون ماسة أبي تمام وطريقته " تكامل " التوازي بين شعره وأشعار الحماسيين.
المنظوم والمنثور لابن طيفور
إن الوحدة المعتمدة في اختيار كل من أبي تمام والبحتري، في الغالب، هي المقطوعة، أو عدد أبيات منتخبة من قصيدة طويلة؛ وفي هذا يختلفان عن معاصرهما ابن أبي طاهر طيفور صاحب كتاب " المنظوم والمنثور "، فهو أولاً لم يقصره على الشعر دون النثر، ثم إن القاعدة في اختياره ثانياً هي تمييز النظم والنثر على درجتين:(أ) المفرد في الإحسان. (ب) المشارك بعضه بعضاً في الإحسان؛ وقد شارك صاحب الحماسة في وقوفه عند موضوع " الشجاعة والحرب " كما وافق البحتري في إيراد ما قيل في الأخلاق المذمومة والمحمودة؛ وفي تخصيص فصل للنساء (1) ، ويدل القسم المتبقي من هذا الكتاب على أن ابن طيفور احتذى حذو القصائد الطوال لدى الرواة فأورد في كتابه قصائد طويلة انفردت كل واحدة منها بالموضوع الذي تناولته أو بعدد من الموضوعات، فكتابه يشتمل، على " كل قصيدة ورسالة وصفة لا يوجد لشيء منها مثل ولا اشترك الناس في وصفتها ".
(1) خصص البحتري في حماسته فصلا لمراثي النساء.
ما هي القصائد الطوال؟
وهذا المنهج اضطره إلى أن يقف عند حقيقة القصائد الطوال، فيكشف لنا عن جوانب جديدة تتعلق بها، ومن هذا نفهم انه حتى القرن الثالث لم تكن تلك القصائد تسمى معلقات (1) ، إذ لم ترد هذه اللفظة في كتاب " المنظوم والمنثور " وقد أورد عن الحرمازي ثلاث روايات نسبها الحرمازي إلى غيره في ماهية تلك القصائد، وفي من جمعها، وتقول إحدى تلك الروايات إن الذي جمع القصائد السبع هو عبد الملك بن مروان نفسه " ولم يكن في الجاهلية من جمعها قط " وهي قصيدة عمرو بن كلثوم والحارث بن حلزة وسويد بن أبي كاهل (بسطت رابعة الحبل لنا) وأبي ذؤيب (أمن المنون وريبها تتوجع) وعبيد بن الأبرص (أن تبدلت من أهلها وحوشا) وعنترة (يا دار عبلة بالجواء تكلمي..) ثم أرتج على عبد الملك وهو يختارها فدخل عليه ابنه سليمان وهو يومئذ غلام فانشده قصيدة أوس بن مغراء (محمد خير من يمشي على قدم)، فقال عبد الملك وتعصب لها " مغروها " أي أدخلوا قصيدة ابن مغراء فيها؛ ويقول الحرمازي أيضاً: إن للعرب أربع قصائد جمعت كل منها موضوعات كثيرة منها النسيب والصفات والمواعظ والأمثال والفخر، ثلاث منهن ربعيات وواحدة مضرية، فالمضرية قصيدة زهير، والربعيات قصيدة طرفة والحارث بن حلزة وسويد؛ أما الرواية الثالثة فتقول إن معاوية هو الذي أمر الرواة بأن ينتخبوا قصائد يرويها ابنه فاختاروا له اثنتي عشرة قصيدة: لامرئ القيس وطرفة وزهير ولبيد وعمرو وعبيد (إن تبدلت من أهلها) وسويد والنابغة وعنترة، قال، وأظن قصيدة الأعشى فيها وقصيدة حسان (أسالت رسم الدار أم لم تسأل)(2) . وقد
(1) بعد سنوات يحدثنا ابن عبد ربه (العقد 5: 269) أن تلك القصائد علقت بين أستار الكعبة ولا ندري من أين جاء ابن عبد ربه بهذه الرواية.
(2)
لم يعد هنا إلا إحدى عشرة قصيدة.
يستنتج من هذه الروايات التي أوردها ابن طيفور أن عملية انتخاب عدد معين من القصائد يتراوح بين 7 - 12 قصيدة قد قام به غير واحد، وان التمحيص قد تناول المختارات فأسقط منها ما أسقط، وأثبت ما اثبت، وأن الإجماع تم حول سبع قصائد طوال لا دخل للجاهليين باختيارها (1) وهي: قصيدة امرئ القيس وزهير وطرفة وعمرو وعنترة ولبيد والحارث ابن حلزة، ثم حاول بعضهم أن يلحق بها قصيدة عبيد (أقفر من أهله ملحوب) وقصيدة الأعشى وقصيدة النابغة.
وقد حاول ابن طيفور أن يبين الأسس النقدية في اختيار تلك القصائد (وخاصة السبع التي نالت الإجماع) ، ومما لا ريب فيه ان طول تلك القصائد كان أبين تلك الأسس، ولكن ابن طيفور يورد تعليلات أخرى لا ندري هل كانت قائمة في أذهان الذين اختاروا تلك القصائد أو إنها نتاج تصوره الذاتي، فقد جعل (1) اشتمال القصيدة على معان كثيرة لا مثل لها، مثل قصيدة امرئ القيس وزهير (2) وانفرادها بمحاسن لم تجئ في غيرها وإطلاق خاتمة بليغة فيها كقصيدة طرفة. (3) وانفرادها في الوزن والعروض كقصيدة عبيد - جعل هذه الأمور عناصر في الحكم على الشعر الجيد؛ وإذا كانت هذه العناصر حقاً تفرد قصيدة بالاعتبار، فإنها لا تفردها بالجودة الفنية، فالانفراد في الوزن والعروض بدعة لا تجعل القصيدة شيئاً متفردا في خصائصها الأخرى؛ ومن اللافت للنظر أن يقول ابن طيفور في قصيدة لبيد " إنها عين شعر صاحبها " - وهذا شيء نسبي خالص؛ وحين يحكم على قصيدة الأعشى بأنها " ليست إلى القصائد الأولى ولا منها في شيء " فإنه لا يعلل لم كان ذلك كذلك.
" المفرد " قصيدة كان أو مقطوعة أو بيتاً هو هدف ابن طيفور في
(1) رغم هذا أورد الحرمازي في بعض رواياته عمن قال إن تلك المطولات كان يصلي بهن في الجاهلية، وهي من شطحات الخيال فيما يبدو.
اختياره، ولهذا أخذ يورد المفردات، مثل قصيدة جراد العون النميري التي مطلها:
ذكرت الصبا فانهلت العين تذرف
…
وراجعك الشوق الذي كنت تعرف فإنها " من الشعر المقدم في الغزل الذي لا نعرف له مثلاً في جاهلية ولا إسلام " وقصيدة عبد نبي الحسحاس:
عميرة ودع إن تجهزت غاديا
…
كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا " فهي من النسيب الذي لا لأحد مثله ولا مثل ما جمع من المعاقبة فيه "؛ كما أن قصيدة عمر بن أبي ربيعة " آمن آل نعم أنت غاد فمبكر " من القصائد التي لا نظير لها في النسيب والمعاني المستظرفة؟ وهكذا مضى ابن طيفور ينظر في اختياره إلى ما يعز نظيره أو ينعدم دون ان يكون لديه معيار واضح إلا ذوقه الخاص، أو ما حام حوله ذوق النقاد القدماء، كقصيدة لقيط بن يعمر ولامية العرب للشنفري.
موقف ضد الاختيار
إن الاختيار مظهر طبيعي لأنه يعتمد على قاعدة " التفاوت " في القصيدة أو في شعر الشاعر الواحد أو مجموعة من الشعراء، ولكن حين يبلغ التقدير لشاعر ما درجة تشبه التقديس، يصبح شعره غير قابل للأختيار، أي يصبح جميع ما قاله مختاراً، ولكن مثل هذا الأمر نادر الوقوع؛ ولعل حادثة واحدة نموذجية تشير إلى ندرته، فإن ابن أبي طاهر طيفور كان يحاول صنع اختيار لشعر امرئ القيس، وبسبب انشغاله في تحقيق تلك الغاية انقطع أياماً عن مجلس أبي الحسن علي بن هارون المنجم، فلما عاد إليه عاتبه على غيابه فكر له انه كان متشاغلاً باختيار شعر امرئ القيس، فأنكر أبو الحسن ابن المنجم عليه لك وقال له: " أما تستحي من هذا القول؟ وأي
مرذول في شعر امرئ القيس حتى تحتاج إلى اختياره " (1) ؟ وهذا الغضب من ابن المنجم قد يكون له ما يسوغه لو أن كل اختيار فإنما يتم بالمفاضلة بين المقبول والمرذول، غير أن الاختيار يكون بين أشعار متفاوتة في درجات الجودة نفسها أيضا، وإذ أدرك ابن المنجم ذلك، كف عن اعتراضه (2) .
3 -
إعادة صياغة النظريات القديمة:
قد رأينا كيف أن جهد العلماء والرواة وقف أحياناً عند حدود البيت المفرد، أو تعداه إلى استبانة صفة عامة في طبيعة الشعر كاللين أو الفحولة، وما من ريب في أن تلك الأحكام كانت قاصرة عن ان تفي بحاجة النقد، فهي لا تستطيع أن تفسر القصيدة ولا تستطيع أن تمايز بين المستويات المختلفة في ضروب الفنون الشعرية من غزل ومدح وهجاء؟ الخ، وهي إلى ذلك كله تغفل جوانب كثيرة في الشعر يمكن للنقد أن يقف عندها وقفات طويلة. غير أن بعض نقاد القرن الثالث كانوا مخلصين للموروث الذي تلقوه عن أساتذتهم، وكانوا يرون أن الحل للمشكلات الأدبية هو تطوير النظريات التي لقنوها عن أولئك الأساتذة وإعادة صياغتها بحيث ينفتح صدرها للشمول جميع أنواع الاعتراضات الحادثة أو شمول أكثرها، متجاوزين بذلك تزمت ابن الأعرابي وإضرابه، لكن دون ان يبارحوا دائرة الشعر القديم، وفي طبيعة هؤلاء النقاد محمد بن سلام الجمحي وأبو العباس ثعلب.
(1) الموشح: 43.
(2)
انظر الفصل الخاص بابن سناء الملك حيث يعرض عن اختيار شعر ابن الرومي، لسبب آخر غير الذي أثاره ابن المنجم.
محمد بن سلام الجمحي (- 232)
ابن سلام يهتم بدور الناقد
كان ابن سلام من أول من نص على استقلال النقد الأدبي فأفرد الناقد بدور خاص، حين جعل للشعر - أي بنقده والحكم عليه - " صناعة " يتقنها " أهل العلم بها "، مثلما أن ناقد الدرهم والدينار يعرف صحيحهما من زائفهما بالمعاينة والنظر؛ ولعله كان يرد بهذا على من يتطاولون إلى الحديث في نقد الشعر من معاصريه وهم لا يملكون ما يسعفهم على ذلك، ولكنه بدلا من أن يصرح بالهجوم عليه وجه نقده إلى ابن إسحاق كاتب السيرة " الذي افسد الشعر وهجنه وحمل كل غثاء منه "(1) ، وشمل بحملته جميع " الصحفيين " الذين يأخذون علمهم من الدفاتر " ولو كان الشعر مثل ما وضع لابن إسحاق ومثل ما رواه الصحفييون ما كانت غليه حاجة ولا فيه دليل على علم "(2) . وفي هذا نقل ابن سلام ميدان الخصومة بين الشعر القديم والمحدث وجعلها حول الناقد البصير وغير البصير، إذ لم تكن المشكلة في نظره مشكلة قدم وحداثة، وإنما كانت تربية القدرة على الحكم لفرز الأصيل من الدخيل في هذا الميدان، ومتى تحقق وجود " الناقد " سهل بعدئذ أن نصل إلى الصواب. ولكن ابن سلام يمنح الناقد البصير " سلطاناً مطلقاً " فمتى قال رأيه في أمر وجد على الآخرين ان يأخذوا بحكمه لانه لا يحسنون ما يحسنه.
(1) الطبقات: 8.
(2)
نفسه: 11.
الناقد وقصة الانتحال
ولهذا تصدى ابن سلام في مقدمته إلى ضروب الانتحال وأسبابه فدون في ذلك نظرات لم يطورها من جاء بعده من النقاد ومؤرخي الأدب العربي، فمن ذلك قوله:" فلما راجعت العرب رواية الشعر (بعد تشاغل العرب عنه بالجهاد والفتوحات) استقل بعض العشائر شعر شعرائهم، وما ذهب من ذكر وقائعهم، وكان قوم قلة وقائعهم وأشعارهم وأرادوا أن يلحقوا بمن له الوقائع والأشعار، فقالوا على السن شعائرهم. ثم كانت الرواة بعد فزادوا في الأشعار التي قيلت؛ وليس يشكل على أهل العلم زيادة الرواة ولا ما وضعوا ولا ما وضع المولودون، وإنما عضل بهم أن يقول الرجل من أهل بادية من ولد الشعراء أو الرجل ليس من ولدهم فيشكل ذلك بعض الأشكال "(1) واتهم حماداً الراوية بأنه " كان ينحل شعر الرجل غيره وينحله غير شعره ويزيد في الأشعار "(2) .
فكرة الطبقات
وقد بنى ابن سلام كتابه، كما يدل عنوانه على فكرة " الطبقات "، فذكر من شعراء الجاهلية عشر طبقات في كل طبقة أربعة شعراء، ثم اتبعهم بذكر ثلاث طبقات أخرى هي: طبقة أصحاب المراثي، وطبقة شعراء القرى العربية، وطبقة شعراء اليهود؛ ثم جعل شعراء الإسلام في عشر طبقات أخرى، منتهياً بذلك إلى أواخر العصر الأموي، ولم يلق بالا إلى من نشأ بعدهم من شعراء حتى عصره.
(1) الطبقات 39 - 40.
(2)
الطبقات: 41.
الأساس في قسمة الشعراء إلى طبقات
ولابد لمن يطالع هذه القسمة من أن يتساءل: على أي الأسس أقام ابن سلام هذا التمييز والتدريج؟ يبدو أن " الفحولة " هي الأساس الأول في ذلك، فكل من ذكرهم في كتابه شعراء فحول، صرح بذلك لدى ذكره شعراء الجاهلية " فأقصرنا من الفحول المشهورين على أربعين شاعراً " ولم يصرح به عندما ذكر طبقات الإسلاميين، لكنه قد يستنتج من طبيعة عمله في الكتاب. وهنا يتجلى لنا كيف أن ابن سلام وسع من حدود فكرة الأصمعي وأعاد صياغتها، فقد كان الأصمعي يقسم الشعراء إلى فحول وغير فحول، فجاء ابن سلام وقال: هم فحول إلا أن الفحولة تتفاوت - كان الأصمعي لا يعد الأعشى وكعببن زهير في الفحول، فجاء ابن سلام ووضع الأعشى في الطبقة الأولى من فحول الجاهلية وكعباً في الثانية، وكان الأصمعي يقول في الأسود بن يعفر أنه يشبه الفحول، ولكن ابن سلام يقول:" وكان الأسود شاعراً فحلاً؟ "(1) .
أما الأساس الثاني فهو تقارب كل أصحاب طبقة في أشعارهم: " فألفنا من تشابه شعره منهم إلى نظرائه "، وهذه قاعدة هامة، ولكنا اليوم إذا احتكما إلى مقاييسنا النقدية لم نجد بين شعر الأعشى وشعر زهير أو النابغة شبهاً كبيراً، وترددنا في ان نضع أبا ذؤيب الهذلي مع النابغة الجعدي في طبقة واحدة، كما فعل ابن سلام، للتباين بين الشاعرين وأشعارهما. وأحياناً يكون هذا التشابه الذي اعتمده ابن سلام تشابههاً في الموضوع كأنه يجمع أصحاب المراثي في طبقة واحدة، وان يضع ابن قيس الروقيات والاحوص وجميل بثينة ونصيباً معاً لأنه يشتركون في الغزل، وان يجمع بين الرجاز في فئة. لك وجه من التشابه محتمل، كما أن حشد شعراء كل قرية ينظر إلى صلتهم ببيئة واحدة ولك مقياس لا ضرر منه، وجمع شعراء جنس
(1) الطبقات: 123.
واحد معاً ينظر إلى صلات مشتركة كثيرة. ٍ ولكن سائر التقسيمات مبهمة لا نستهدي فيها إلى أسس واضحة أو متينة. ويبدو التصنيف الرباعي قائماً على نوع من التحكم في العدد. بل ان ابن سلام يصرح بلك حين يحدثنا انه وضع أوس بن حجر في الطبقة الثانية مع انه يستحق أن يكون في الأولى غير أن اقتصاره على أربعة في كل طبقة هو الذي اضطره إلى ذلك (1) .
وهناك مبدأ اعتمده الأصمعي من قبل فجعله ابن سلام أحد الأسس في التدريج الطبقي، فقد كان الأصمعي يرى أن الفحول لا تتحقق بقصيدة أو عدد قليل من القصائد، ولابد من اعتبار " الكم " في إلحاق الشاعر بالفحول، وهذا مبدأ اعتمده ابن سلام حين تحدث الطبقة السابعة من فحول الجاهلية فقال:" أربعة رهط محكمون مقلون وفي أشعارهم قلة فذاك الذي أخرهم "(2)، وإذا سأل ابن سلام كيف تقدم طرفة وعبيد ابن الأبرص ولم يصح لهما إلا عشر قصائد قال:" وإن لم يكن لهما غيرهن فليس موضعهما حيث وضعا من الشهرة والتقدمة " ولكن يفترض ابن سلام هنا أن شهرتهما وتقدمهما يوجبان أن يكون لهما شعر كثير إلا أن أكثره ضاع، وضياعه لا يحرمهما التقديم.
وبقي من مقاييس الأصمعي مقياس " اللين "، وقد كان هذا المقياس حاضراً في ذهن ابن سلام غير أنه لم يقرنه بالخير، بل أنه تحدث عن تعهر الشعراء دون ان نحس أنه يربط هذا التعهر بقوة الشعر أو ضعفه، ولكنه اتخذ " اللين " أداة للتوقف في أخذ الشعر والاسترابة فيه، ذلك شانه عندما تحدث عن شعراء قريش فقال:" واشعار قريش أشعار فيها لين فتشكل بعض الأشكال "(3) ، وبدلاً من أن يقول في شعر حسان ما قاله الأصمعي
(1) انظر الطبقات: 81.
(2)
الطبقات: 134.
(3)
الطبقات: 204.
من أن شعره لان بسبب الخير، أوحى إلينا أن هذا اللين إنما هو سمة تدل على الانتحال فقال له حسان:" وهو كثير الشعر جيده وقد حمل عليه ما لم يحمل على أحد؟ وضعوا عليه أشعاراً كثيرة لا تنقى "(1)، وكأنه يقول: ان اللين ليس من قبل الخير وإنما هو من قبل الوضع.
تلك صورة موجزة لما أداه ابن سلام في تاريخ النظيرة القديمة، ومنها يتضح لنا كيف عاد إلى المبادئ القديمة فمنحها شكلاً جديداً ووسع منها أو غير بعض التغيير في مدلولها. وحاول أن يخلق نظاماً جديداً لدراسة الشعراء، كانت بذوره موجودة في الصراع حول الأربعة الكبار من شعراء الجاهلية، والثلاثة الكبار (جرير والفرزدق والأخطل) من شعراء الإسلام، ولكن ابن سلام لم يتجاوز التصنيف العام وبعض الأحكام الموجزة على كل شاعر. أن نظرية الطبقات جليلة حقاً ولكنها تظل قوالب إذا هي لم تعتمد الدراسة التحليلية وتبيان الأسس المشتركة والسمات الغالبة، ومن ثم كانت نظرية صعبة، آثر النقاد ومؤرخو الأدب من بعد تحاشيها فراراً من تلك الصعوبة.
ثعلب (- 291) وكتاب " قواعد الشعر "
موقع ثعلب في القرن الثالث
لم يضرب ابن سلام بعيداً في حياة القرن الثالث سناً أو ثقافة، بل كان تلميذاً لكبار طبقة الرواة أمثال الأصمعي وأبو زيد الأنصاري وأبي عبيدة وخلف الأحمر وغيرهم (2) ، ولو سأل كيف كان يتصور الناقد البصير الذي يجب أن يأخذ الناس أحكامه مأخذ التسليم لأشار إلى خلف الأحمر. ولكن الأمر لم يكن كذلك في حال ثعلب، فقد توفي سنة 291هـ؟، وعاشر طبقات
(1) الطبقات: 179.
(2)
راجع أسماء شيوخه في مقدمة الأستاذ محمود محمد شاكر علي الطبقات ص: 12.
سوى طبقة العلماء الذين أخذ عنهم، واتسعت الثقافات في أيامه، وكثر الجدل حول الشعر المحدث، وشهد جانباً من عصبية أستاذه ابن الأعرابي للقديم، ومع ذلك فان كتاب " قواعد الشعر " الذي يحمل اسمه لا يعدو أن يكون عودة إلى الأحكام التي سبقت ابن سلام والأصمعي، وليس فيه أي صدى لذلك الجيشان الذي حفل به القرن الثالث.
وتفسير ذلك أن ثعلباً كان عالماً في النحو واللغة، وأنه كان يعرف حده فيقف عنده، ولا يدعي ما لا يعرف، وقد شهد له تلميذه الصولي كما شهد للمبرد بأنهما ما " ادعيا التقدم في علم شعر المحدثين؟ وتمييز نادره ووسطه وما كان دوناً منه؟ ومعرفة استراقات الشعراء وأخذ بعضهم من بعض، والمحسن منه في ذلك والمسيء "(1) . وبينا يثني الصولي عليهما بالعلم والتواضع ينفي عنهما ما يؤهلهما أن يكونا ناقدين، في مفهوم ذلك العصر.
الشك في نسبة قواعد الشعر إلى ثعلب
ولولا القول بان " قواعد الشعر " قد يكون من تأليف ثعلب لما صح أن ندرجه بين النقاد، بل ان نسبة الكتاب إليه محل شك - فيما أرى - إذ لم تشر المصادر القديمة إلى كتاب له بهذا الاسم، وقد كانت غاية جهده في رواية الشعر أن يفسر ما فيه من غريب، وليس له في " مجالسه " تعليق نقدي واحد، وإذا تحدث عن الشعراء أورد تعليقات مجملة سريعة مثل قوله:" الفرزدق وجرير أشعر من ذي الرمة، وذو الرمة اشعر من كثير، وكثير أشعر من جميل " وقوله: " زهير أشعر شعراء الجاهلية والحطيئة بعده، وجرير أشعر شعراء الإسلام وبعده المرار الأسدس، وجرير في صدر الإسلام كزهير في صدر الجاهلية "(2) .
(1) أخبار أبي تمام: 9.
(2)
طبقات الزبيدي: 162 - 165.
وسواء أصبحت نسبة الكتاب إلى ثعلب أم لم تصح فإنه يغلب على الظن أنه لمؤلف من القرن الثالث، لك لان اضطراب الأنواع والتقسيمات وعدم وضوح منهج معين في تبويب الكتاب يدل على أن مؤلفاته لم يدرك القرن الرابع، ولا قرأ لابن طباطبا أو لقدامة بل ولم يعرف " بديع " ابن المعتز، في أواخر القرن الثالث. غير أن مما يلفت النظر اشتراكه مع قدامة في عد " التشبيه " أحد فنون الشعر، ففنون الشعر في كتاب " القواعد " هي: المدح والهجاء والمراثي والاعتذار والتشبيب والتشبيه واقتصاص الأخبار (1) ؛ وعند قدامة: المديح والهجاء والمراثي والتشبيه والوصف والنسيب (2) . ونحن نعلم ان الصلة بين ثعلب وقدامة صلة وثيقة، ولو كان الكتاب من تأليف فلعلنا لم نكن لنجد هذا التباين الشديد بينهما في المصطلحات.
الطابع العام لكتاب قواعد الشعر
ويتسم كتاب قواعد الشعر بغرابة المنحى وشذاجته معاً، وبالتفرد في كثير من المصطلح النقدي. فلن تجد ناقداً سوى مؤلف هذا الكتاب يجعل قواعد الشعر هي: الأمر والنهي والخبر والاستخبار، وأن فنون الشعر من مدح ورثاء واعتذار. وغيرها إنما تتبع من هذه القواعد، ثم يجمع إلى هذا كله حديثاً عن لطاقة المعنى وعن حسن الخروج ومجاورة الأضداد والمطابقة ثم عن جزالة اللفظ واتساق النظم، كل ذلك في سطور وبانتقال مفاجئ من موضوع إلى آخر.
(1) قواعد الشعر: 27.
(2)
نقد الشعر: 23.
عودة إلى المصطلح البدوي
وإذا كان ابن سلام قد تناول مقاييس الأصمعي بالصياغة الجديدة فإن مؤلف " قواعد الشعر " قد عاد إلى الخليل بن أحمد، فتحدث عما يخل باتساق النظم من سناد وإقواء وأكفاء وإجازة وايطاء، وذلك شيء قد وقف عنده ابن سلام نفسه وسيقف عنده ابن قتيبة وقدامة وغيرهما. ولو اقتصر كتاب " قواعد الشعر " على هذا لما كانت عودته إلى الخليل ذات شأن، ولكن عدة الخبر والاستخبار والأمر والنهي قواعد للشعر إنما هو عودة إلى الأصول النحوية التي وضعها الخليل. واهم من ذلك كله أنه حاول أن يستوحي روح الخليل في صياغة مصطلح مبتكر، فإذا كان الفراهيدي قد نظر إلى الخباء في وضع مصطلح العروض، ووقف الأصمعي عند الفحل من الجمال في تصور الشاعرية فما أجراه هو أن يقف عند الفرس، ولاول مرة نجد مصطلحاً نقدياً غريباً لم يعش إلا في كتاب " قواعد الشعر "؛ وربما استوحى واضعه قول ابن الأعرابي من قبل في وصف القافية:" استجيدوا القوافي فأنها حوافز الشعر " أي أنها أشرف ما في البيت لان حوافز الفرس هي أوثق ما فيه وبها نهوضه وعليها اعتماده (1) .
فوسع صاحب قواعد الشعر في هذه اللمحة وأوجده مصطلحاً مستمداً من الفرس يدور حول وصف البيت المفرد؛ فالبيت إما معدل أو أغر أو محجل أو مرجل. أما الأغر والمحجل فهما واضحا العلاقة بالفرس، وأما المعدل فلعلها صفة تومئ إلى اعتدال جانبي الجواد، وأما المرجل فلعله يعني البياض في رجل واحدة. وصورة الفرس واضحة في شرحه لكل مصطلح: فالمعدل يبز سائر الأبيات " سابقاً " والأغر يجيء في المكانة بعده " مصلياً " والأبيات المحجلة " ما نتج قافية البيت عن عروضه، وأبان عجزه بغية قائلة، وكان
(1) المحتسب 2: 209 - 210.
كتحجيل الخيل والنور بعقب الليل (1)" - وهي تجيء للنوع الثاني " تالية ".
فالمعدل: ما اعتدل شطراه وتكافأت حاشيتاه، وهو أقرب الأشعار من البلاغة وأشبهها بالأمثال السائرة كقول طرفة:
" أرى الدهر كنزاً ناقصاً كل ليلة "
…
" وما تنقص الأيام والدهر ينفد " والأغر: ما نجم من صدر البيت بتمام معناه دون عجزه كقول الخنساء:
وان صخراً لتأتم الهداة به
…
كأنه علم في رأسه نار وقد مر تعريف الأبيات المحجلة، ومثالها:
فتملأ بيتنا أقطاً وسمناً
…
وحسبك من غنى شبع وري والأبيات المرجلة هي التي لا ينتهي معناها إلا بانتهاء القافية كقول زهير:
فان الحق مقطعه ثلاث:
…
يمين أو نفار أو جلاء فالأول يستقل فيه كل شطر بحكمة أو بقول مكتمل، والثاني يأتي بالقول المكتمل في الشطر الأول ويجعل الشطر الثاني تفسيراً، وينعكس الحال في النوع الثالث، أما الرابع فلا استقلال فيه بين الشطرين. ومن هذا يتضح أن جهد المؤلف لا يتعدى ابتكار المصطلح أو توسيع دلالته وأن الحديث عن البيت المفرد على هذا النحو لا يقدم النقد الأدبي خطوة واحدة، وانه إمعان في التجزئة، وتناس تام للقصيدة، وعودة إلى فكرة " أحسن بيت " بانتحال لبوس جديد، وإذا كانت طبقات ابن سلام قد شدت وثاقاً ضيقاً حول الشعراء، فغن مصطلح " قواعد الشعر " قد ربط بالسلاسل القوية جسم البيت الواحد وشده كتافاً.
(1) قواعد الشعر: 80.
4 -
المفاضلة بين شاعرين:
كانت المفاضلة بين شاعرين وأكثر محوراً يدور حول كثير من النقد القديم، ولكن أصولها كانت بسيطة ساذجة، تلخص الإعجاب العام لدى أحد المتذوقين بشاعر دون آخر، أما في هذا العصر، فقد اتسع باب القول في المفاضلة وألفت فيها رسائل: وكانت تلك خطوة في الاتجاه الذي اعتمده الآمدي من بعد في كتاب " الموازنة ".
رسالة أبي احمد المنجم في المفاضلة بين العباس والعتابي
من ذلك رسالة كتبها أبو احمد يحيى بن علي المنجم (241 - 300) يفاضل فيها بين العباس بن الأحنف والعتابي، ويفضل الأول منهما على الثاني؛ وابن المنجم هذا كان متكلماً معتزلي المذهب ينادم معاصريه من خلفاء بني العباس (1) ؛ وقد بنيت الرسالة على أصول مناظرة قامت بينه وبين رجل يدعى المتفقه الموصلي في مجلس علي بن عيسى الوزير، فلما انقض المجلس، كتب ابن المنجم رسالة في هذا الموضوع وأنفذها إلى الوزير المذكور. وليست لدينا صورة من هذه الرسالة، وغنما احتفظ ببعض ما جرى في المناظرة الصولي، ونقل المرزباني ما أورده في كتاب الموشح (2) . ولا ريب في أن الرسالة اكثر ترتيباً وتعمقاً وتفصيلاً ولكن ما جاء في المناظرة قد يعطي بعض صورة عنها. قال ابن المنجم: " ما أهل نفسه العتابي قط لتقديمها على العباس بن الأحنف في الشعر، ولو خاطبه بذلك مخاطب لدفعه وأنكره لأنه كان عالماً لا يؤتي من معرفة بالشعر، ولم أر أحداً من العلماء بالشعر قط مثل بين العباس والعتابي فضلاً عن تقديم العتابي عليه لتباينهما في المذهب، وذلك أن العتابي متكلف والعباس يتدفق طبعاً، وكلام هذا
(1) انظر الفهرست: 143.
(2)
انظر الموشح: 449 - 451.
سهل عذب وكلام ذاك متعقد كز، ولشعر هذا ماء ورقة وحلاوة، وفي شعر ذاك غلظ وجساوة؛ وشعر هذا في فن واحد - وهو الغزل - فأكثر فيه وأحسن، وقد افتن العتابي فلم يخرج في شيء عما وصفناه به ".
فابن المنجم يريد في هذا النص أن ينكر جواز المفاضلة بين الرجلين، لأنه لا صلة مشتركة تجمع بين العالم والشاعر؛ ولكن هب أن ما نظمه العتابي يدرجه مع الشعراء. فالفرق بينه وبين العباس كالفرق بين الشاعر المتكلف والشاعر المطبوع (وهذه تفرقة سنجدها واضحة عند أبن قتيبة)، فإذا سئل ابن المنجم عن إمارات الطبع أورد صفات مثل: السهولة والعذوبة والمائية والرقة والحلاوة؛ وأضداد هذه تكون سمة للتكلف؛ ولأول مرة نجد ناقداً يميز شاعراً بأنه اقتصر على فن واحد فاحسن فيه، لان النقد من قبل كان يتطلب من الشاعر أن يجيد في أكثر الفنون؛ وبعد هذه المقارنة في الكليات تطرق ابن المنجم إلى الجزئيات، فاختار قصيدة عدها الناس من أشعر شعر العتابي، وهو قصيدته:
يا ليلة لي بحوارين ساهرة حتى تكلم في الصبح العصافير
فانتقده بأنه سرق فيها معنى من بشار ولم يحسن أخذه وإنما " مسخه "" وحق من أخذ معنى وقد سبق إليه أن يصنعه أجود من صنعة السابق غليه أو يزيد فيه عليه حتى يستحقه، فأما إذا قصر عنه فإنه مسيء معيب بالسرة مذموم ثم في التقصير "، وبأنه غلبه في العجاء شاعر ثانوي المنزلة، واستخرج من قصيدته ألفاظاً نابية غير موسيقية أو خفيفة على السمع. " وما شيء أملك بالشعر بعد صحة المعنى من حسن اللفظ ". وهنا انتهت هذه المناظرة، ولكن الآراء التي وردت فيها تجعلنا نعرف إلى أي فئة من النقاد ينتمي ابن المنجم، فهو يحسن بعض القواعد العامة مثلما يقف عند جزئيات النص ويؤمن بالفرق الواسع بين الطبع والتكلف، ويقيم للسرقة مبدأ عاماً، ويقدم المعنى على اللفظ، ولكنه يتوقع اجتماعهما معاً حتى يكون الشعر جميلاً، فصحة المعنى وحسن اللفظ ضروريان في الشعر الجيد، ذلك هو
مجمل موقف ابن المنجم الناقد ولو وصلتنا رسالته لكان لها - فيما نقدر - أثر في توضيح منهجه النقدي من جوانب أخرى.
5 -
النظرة التوفيقية:
كانت هذه النظرة ثمرة الصراع الذي نشأ بين القديم والمحدث من الشعر؛ وهو صراع لم يكن حاداً كما قد يتبادر إلى الأذهان، وكان للنقاد التوفيقيين ولغلبة ذوق العصر أثرهما في تخفيف حدته وتقصير مدته؛ ويجب أن نسارع إلى القول بأنه وجد في المحافظين أناس تنكروا للشعر المحدث وحطوا من قيمته، ولكن لم يوجد بين متذوقي الشعر المحدث من طوى كشحاً دون الشعر القديم أو صرح بالغض منه، ذلك لأن المحدثين من الشعراء ومن دارسي الأدب كانوا هم تلامذة القديم، وهم يرون في نتاج العصر حينئذ امتداداً له، ومن ثم فإن النظرة التوفيقية لم تكلف أصحابها كثيراً من الشجاعة ولا اضطرتهم إلى خوض معارك حامية، كالتي ستدور في الخلاف حول ألوان من الشعر المحدث نفسه من بعد؛ وقد التقى حول هذه النظرة أناس ذوو مشارب متباينة، فيهم اللغوي المشبع بروح القديم كابي العباس المبرد، والمتكلم المتأثر بشتى ألوان الثقافات كالجاحظ، وذوو الثقافة الإسلامية الخالصة كابن قتيبة والشاعر المحدث كابن المعتز. وسواء صرح هؤلاء بالتعبير عن موقفهم التوفيقي أو لم يصرحوا فغن ميدان اهتمامهم الشعري يجعل عدهم معاً في نطاق هذا الاتجاه لا يحتاج جدلاً. غير أن دور كل منهم في النقد تجاوز هذا الموقف العام إلى آراء ونظرات نقدية هامة، ولهذا صح ان نفرد لكل منهم حديثاً مستقلاً:
أبو العباس المبرد (210 - 286)
لم يدرج المبرد في النقاد؟
لو تابعنا الصولي في حديثه عن ثعلب والمبرد معاً وانهما لم " يدعيا التقدم في علم شعر المحدثين؟. وتمييز نادره ووسطه؟ ومعرفة استراقات الشعراء " لما جاز أن ندخل المبرد في عداد النقاد؛ ولكن المبرد يتميز عن ثعلب (حتى أن صحت نسبة " قواعد الشعر " له) بشيء كثير، فقد كان أسرع من معاصره اللغوي إلى تبني الشعر المحدث ومنحه شيئاً كثير، فقد كان أسرع من معاصره اللغوي إلى تبني الشعر المحدث ومنحه شيئاً كثيراً من عطفه، واعتماده أصلاً من أصوله في تدريسه لطلابه (1) ، وأفراده بالاختيار، فهو لم يكتف بإيراد نماذج منه في كتبه العامة كالكامل والفاضل، وإنما خصص كتاب " الروضة " لأشعار المحدثين؛ هذه ناحية؛ وناحية أخرى أن المبرد كان أستاذاً لكثير من الأجيال في القرن الثالث، ولذا أصبح رأيه فيما يقبله وما يدفعه عمدة لدى النقاد في أواخر ذلك القرن أو في مطلع الرابع؛ فالذين كانوا ينكرون طريقة أبي تمام لجأوا إلى الاستشهاد بموقفه فقالوا:" وهذا أبو العباس محمد بن يزيد المبرد كان معرضاً عنه، ما علمناه دون له كبير شيء، فهذه كتبه وأماليه وإنشاداته تدل على ذلك؟ " وهؤلاء أيضاً يستأنسون بقوله في البحتري: " ما رأيت أشعر من هذا الرجل؟ لولا أنه ينشدكم كما أنشدني لملأت كتبي من أمالي شعره "(2) .
(1) راجع طبقات ابن المعتز: 197 لترى كيف أن المبرد يدرس تلميذه أبن المعتز قصيدة لأبي نواس ويشرحها له.
(2)
الموازنة 1: 21 قلت: أنظر ص 65، 71 من " الفاضل " حيث يورد شعراً لأبي تمام.
خضوعه لروح العصر
غير أن هذه الصلة بين المبرد والشعر المحدث لا تتجاوز مجال العطف، ويحس من يقرأ المبرد أنه كان مغلوباً بروح العصر منساقاً بقوتها، وأنه لم يعتمد ذوقاً متميزاً في الاختيار، وإنما كان يتستر وراء الموضوع (1)، فما استدعاه الموضوع من شعر لشاعر قديم أو محدث أورده؛ غير أنه صريح في موقفه التوفيقي إذ يقول:" وليس لقدم العهد يفضل القائل، ولا لحدثان عهد يهتضم المصيب، ولكن يعطي كل ما يستحق "(2) . وقد حاول المبرد أن يطبق هذا المبدأ، سواء أكان نابعاً من أعماقه أم كان أثراً من أثر تلك الموجة السائدة؛ ولابد أن نعذر المبرد إذا هو مال - لا شعورياً - نحو القديم، لأنه صلب ثقافة نحوي لغوي من طرازه.
محاولته الكشف عن سرقات الشعراء
وقد كاد المبرد في اختياره لاشعار المحدثين يلبي حاجة العصر أيضاً، يقول في الكامل:" هذه أشعار اخترناها من أشعار المولدين حكيمة مستحسنة يحتاج إليها للتمثل - لأنها أشكل بالدهر - ويستعار من ألفاظها في المخاطبات والخطب والكتب "(3) ، فهو يهدف إلى غاية عملية، يهدف إلى أن يخدم طبقة المتعلمين وخاصة من يهيئون أنفسهم لمستوى بلاغي من فئة الكتاب، وتجاوز المبرد مرحلة هذا الاختيار، ودل على أن الصولي كان مغالياً حين وصفه بأنه لا يعرف " استراقات الشعراء " فأخذ يدل على المعاني المسروقة، لا بين الشعر والشعر وحسب، بل بين الشعر والنثر، فقول أبي العتاهية:
يا عجباً للناس لو فكروا
…
وحاسبوا أنفسهم ابصروا
(1) هذا الذي نقوله هنا عن انقياد المبرد لروح العصر في الإقبال على شعر المحدثين قد لمحه أبن عبد ربه في القديم فقال متحدثاً عن كتاب الروضة: فلم يختر لكل شاعر إلا أبرد ما وجد له؟ الخ (العقد 3: 268) .
(2)
الكامل 1: 29.
(3)
الكامل 2: 1.
مأخوذ من قولهم " الفكر مرآة تريك حسنك من قبيحك ".
وقول ابن أبي عيينة:
إن الليالي والأيام أنفسها
…
عن غير أنفسها لم تكتم الخبرا أخذه أبو تمام فقال:
عمري لقد نصح الزمان وانه
…
لمن العجائب ناصح لا يشفق " فزاد بقوله: ناصح لا يشفق على قول ابن أبي عيينة شيئاً طريفاً، وهكذا يفعل الحاذق بالكلام "(1) وحسبنا هذا للدلالة على أن المبرد قد شارك في جوانب من الاتجاهات النقدية في عصره، وكان الوقوف عند السرقات من أهم الاتجاهات الناشئة حينئذ.
خلطه بين الشعر والخطابة
غير أنه يبدو لنا أن المبرد كان قد تمثل قواعد " الخطابة " اكثر من تمثله لمبادئ نقد الشعر، فمزج بين الفنين في نقده - كما فعل في رد معاني الشعر إلى أصول من النثر عند حديثه عن السرقة. ومع أن المبرد لن يكون الناقد الوحيد الذي يمزج بين قواعد الصناعتين، فإن وجهته النقدية تدل على انه كان أميل إلى إدراك المفهومات البلاغية، فتراه يتحدث في الشعر عن " الاستعانة "، وأصل الاستعانة أن يعمد المتحدث إلى ألفاظ يتكئ عليها ليتذكر ما بعدها؛ " كنحو ما تسمعه في كثير من كلام العامة قولهم الست تسمع؟ أفهمت؟ أين أنت؟ وما أشبه هذا، وربما تشاغل العيي بفتل إصبعه ومس لحيته "(2) ويطبق المبرد هذا
(1) الكامل 2: 12، 14.
(2)
الكامل 1: 30 - 31 وقد أورد الجاحظ لفظ " الاستعانة " في تعريف العتابي للبلاغة (البيان 1: 113) .
على الشعر فيقول إن الاستعانة هي: أن يدخل في الكلام ما لا حاجة بالمستمع إليه ليصبح به نظماً أو وزناً ". كذلك تحدث عن التشبيه حديثاً طويلاً - ولعله من أسبق من أولى التشبيه مثل هذه الغاية التفصيلية (1) -، وبين أقسامه وجعلها أربعة: المفرط والمصيب والمقارب والبعيد الذي يحتاج إلى تفسير، واهتم بتشبيهات المحدثين خاصة فأورد منها طرائف، وميز أبا نواس باتساع المذهب في هذا الباب (2) .
وقد يلحق بمفهوماته البلاغية حديثه عن الإيماء وتدل أمثلته عليه أنه يعني به الإشارات (3) ؛ ولكنه ذو رأي نقدي طريف في العيب الذي يستطيع الحسن من حوله أن يغطي عليه: " وقد يضطر الشاعر المفلق والخطيب المصقع والكاتب البليغ فيقع في كلام أحدهم المعنى المستغلق واللفظ المستكره، فإن انعطفت عليه جنبتنا الكلام غطتا على عواره وسترتا من شينه "(4) ، وهذا رأي لم يحسن صاحبه نفسه استغلاله، لان الكشف عن العيوب كان إحدى مهمات النقد الكبرى، وقد أدرك المبرد ما في رأيه هذا من ضعف فرد على نفسه بأنه يسلم أن الكلام القبيح يبدو أشد قبحاً إذا وقع بين الكلام الجميل من حوله، فليست المسالة مسالة خفاء، وإنما مردها إلى اغتفار القبح من أجل الجمال (5) .
(1) الكامل 3: 32 - 57، 128 - 154.
(2)
الكامل 3: 134.
(3)
الكامل 1: 27، 28.
(4)
الكامل 1: 27.
(5)
المصدر نفسه.
نظرته إلى قضية اللفظ والمعنى
وقد ألمح المبرد أثناء اختياره للأشعار إلى موقفه من قضية اللفظ والمعنى، غير أنه لم يتناول تلك القضية بشيء من التفسير، فالشعر لديه مستحسن أحياناً لصحة معناه وجزالة لفظه وكثرة ورود معناه بين الناس أو لقرب مأخذه أو لسهولته وحسنه أو لغرابة معناه وجودة لفظه أو لخلوصه من التكلف وسلامته من التزيد. أما الضرورات اللفظية والالتواء في المعاني واستعمال الكلمات الهجينة فذلك هو ما ينكره ويمقته. وواضح من هذا أن المبرد يدور في الفلك النقدي العام في عصره، دون أن يكون ذا بصر نافذ يميزه بين النقاد، ولكنه ابن العصر ومصطلحه هو مصطلح عصره.
عمرو بن بحر الجاحظ (- 255)
الشعر مصدر للمعرفة
من الغريب أن الجاحظ وهو يعد أصناف الرواة واستغلالهم للشعر في خدمة أهدافهم من نحو وغريب وشاهد ومثل (1) ، لم يحس أنه وقع في مثل ما وقعوا فيه فاستغل الشعر مصدراً لمعارفه العامة، إذ استمد منه تصوره للخطابة وبعض معلوماته عن الحيوان، بل إنه جاء بأشعار وشرحها لان شرحها يعينه على استخراج ما فيها من معرة علمية، وهو إذا روى الشعر بمعزل هم الاستشهاد فإنما يريده للمذاكرة أو للترويح عن النفس كغيره من نقاد عصره؛ ومع ذلك كله يتميز الجاحظ عن جميع الرواة بل يتميز عن جميع من ألموا بالنقد في القرن الثالث، ومرد هذا إلى طبيعته الذاتية وملكاته وسعة ثقافته. ويأسف الدارس لان الجاحظ لم يفرد للنقد كتاباً خاصاً أو رسائل، وانه أورد ما أورده من نظرات عرضاً في تضاعيف كتبه كالحيوان والبيان والتبيين؛
(1) انظر ما سبق ص: 57.
ويمثل كتابه في " نظم القرآن " حلقة ما تزال مفقودة إذ نتوقع ان يكون للجاحظ فيه وبه نظرات نافذة في مجال النقد، حسبما تعودنا ان نجد في كتبه التي وصلتنا. لقد كان الجاحظ بما أوتى من علم وذكاء وشخصية متفردة من خير من يحسنون تأسيس النقد على أصول نظرية وتطبيقية، ولكنه شغل عنه بشئون أخرى كثيرة، واقتصر في الميدان النقدي على وقفات قصيرة معدودة تناولها الدارسون المعاصرون بالنظر والتحليل، وحاولوا أن يصوروا من خلالها مدى ما اسهم به في ذلك الميدان، فالعودة إليها - في هذا المقام - تشبه أن تكون تأكيداً لدور الجاحظ في النقد، مع محاولة لربط آرائه بالتيارات المعاصرة وإبرازها على نحو متكامل قدر المستطاع.
موقفه من الصراع بين القديم والحديث
لقد تقدم القول بان الجاحظ كان توفيقي النظرة لا يعتقد بتفضيل قديم على محدث، وهذا الرأي له نجده صريحاً في قوله:" وقد رأيت أناساً (منهم) يبهرجون أشعار المولدين ويستسقطون من رواها؛ ولم ار ذلك قط إلا في راوية للشعر غير بصير بجوهر ما يروي، ولو كان له بصر لعرف موضع الجيد ممن كان، وفي أي زمن كان "(1) . وعندما تحدث عن أبي نواس قال: " وغن تأملت شعره فضلته إلا أن تعترض عليك فيه العصبية أو ترى أن أهل البدو أبداً اشعر وأن المولدين لا يقاربونهم في شيء، فإن اعتراض هذا الباب عليك فإنك لا تبصر الحق من الباطل ما دمت مغلوباً "(2) ؛ بل إن الجاحظ كان أشجع التوفيقيين عامة حين ذهب يفضل قصيدة لأبي نواس على قصيدة لمهلهل في الشاعرية (3) .
فإذا تقدمنا بعد هذا إلى دراسة آراء الجاحظ النقدية، وجدنا اكثر
(1) الحيوان 3: 130.
(2)
الحيوان 2: 27.
(3)
الحيوان 3: 129.
ما لديه أصول نظريات لم يمنحها ما تستحقه من شرح وتفسير وتمثيل، وظلت مغلقة على الذين جاءوا بعده، فلم يتقدموا بها شوطاً، أو تناولوا بعضها وانتزعوه من ملابساته الواقعية فأخطأوا تأويله والانتفاع به.
نظريته في الغريزة والبيئة والعرق
فأول ذلك ان الشعر في الجماعات إنما يعتمد على ثلاثة عناصر: الغزيرة (أي الطبع العام المواتي للشعر) والبلد (أي البيئة) والعرق (أي الصلة الدموية) يقول: وإنما ذلك (أي قول الشعر) عن قدر ما قسم الله لهم من الحظوظ والغرائز والبلاد والأعراق " (1) ومبدأ الأخذ بهذه النظرية يكاد يمثل رداً على ابن سلام؛ فقد ذهب صاحب الطبقات إلى أن الشعر إنما كان يكثر بالحروب فقال " وبالطائف شعر وليس بالكثير وغنما كان يكثر الشعر بالحروب التي تكون بين الأحياء؟ والذي قلل شعر قريش أنه لم يكن بينهم نائرة ولم يحاربوا، وذلك الذي قلل شعر عمان " (2) ، فوجد الجاحظ أن هذا الرأي لا يطرد فقال " وبنو حنيفة مع كثرة عددهم وشدة بأسهم وكثرة وقائعهم وحسد العرب لهم على دارهم وتخومهم وسط أعدائهم؟ ومع ذلك لم نر قبيلة قط أقل شعراً منهم " (3) ، إذن ليس لكثرة الحرب والوقائع دخل في كثرة الشعر، ولا لخصب المكان علاقة بكثرته، فعبد القيس من أخصب الناس مواطن وشعرها قليل، وثقيف من أخصب الناس كذلك داراً وشعرهم قليل حقاً، ولكن ذلك الشعر يدل واعتبر قبيلة الحارث بن كعب في زمانين مختلفين هما الجاهلية والإسلام تجد انهم كانوا قليلي الحظ من الشعر في الجاهلية ثم اصبح لهم في الإسلام
(1) الحيوان 4: 381 واقترح أن تقرأ " الحظوظ في الغرائز؟ الخ ".
(2)
طبقات ابن سلام: 217.
(3)
الحيوان 4: 380.
شعراء مفلقون. إذن ما التفسير؟ هل نقول إن الجاحظ نفسه قد غلبته الحيرة على الاهتداء إلى تعليل أو انه لابد من اجتماع العناصر الثلاثة التي وضعها وهي الغريزة والبلد والعرق؟ إننا إذا قلنا بالرأي الثاني سنظل نتساءل: ما الخصائص التي تميز البلد؟ وما هي العناصر التي تميز العرق؟ هذا إلى ما في اصطلاح " الغريزة " من غموض. وإلى أن تمثيله بقبيلة الحارث بن كعب يهدم تصوره لان تكون الغريزة خاصية مستمرة في " العرق " الواحد.
غير أن الجاحظ تناول نظرية العرق بشيء من التطوير والتفسير، ولم يتقيد بالبيئة كثيراً، حين ذهب إلى ان العرق العربي (سواء أكان المرء عربياً في الحاضرة أو أعرابياً في البادية) أشعر من العرق المولد الذي يعيش في مدينة أو قرية - هذا حكم على عامة الفريقين، وهو أيضاً يسمح بالاستثناء (1) . ثم يجمل الفرق بين الأعرابي والمولد، بأن المولد قد يجيء بأبيات تلحق بشعر أهل البدو إذا استعد " بنشاطه وجمع باله " ولكنه إذا استرسل في القول " انحلت قوته واضطرب كلامه "(2) . ولم يفسر الجاحظ لم يكون ذلك وغنما هو يرى ظاهرة تستحق التسجيل، وكأنه يفترض أن قوة " الغريزة " هي التي تتفاوت بين العرقين، فقوة " الغريزة " لدى البدوي أو العربي عامة تمده بمقدار قوتها وغزارتها، فأما " غريزة " المولد فإنها قصيرة الرشاء، تنفد طاقتها بسرعة.
(1) والقضية التي لا احتشم منها ولا أهاب الخصومة فيها أن عامة العرب والأعراب والبدو والحضر من سائر العرب أشعر من (عامة) شعراء الأمصار والرقى من المولدة والنابتة، وليس ذلك بواجب لهم في كل ما قالوه (الحيوان 3: 130) .
(2)
المصدر نفسه: 132.
العلاقة بين الشعر والرسم
وبدأ الجاحظ نظرية أخرى كان من الممكن أن تفتح أمامه آفاقاً واسعة حين قال " فإنما الشعر صناعة وضرب من الصبغ (1) وجنس من التصوير " فلو تخطى الجاحظ حدود التعريف لوجد نفسه في مجال المقارنة بين فنين: الشعر والرسم - بل إن تعريفه لا يخرج عن قول هوراس: " الشعر والرسم ". وإذن فربما هداه ذكاؤه إلى استبانة الفروق وضروب التشابه، ولكان لنا في هذا الباب حديث عن المحاكاة وتمايزها بين الفنون؟ الخ؛ ولكن كل ما أراده الجاحظ من هذا القول تأكيد نظريته في الشكل، وان المعول في الشعر إنما يقع على " إقامة الوزن وتخير اللفظ وسهولة المخرج وكثرة الماء وفي صحة الطبع وجودة السبك "(2)، وبهذا التحيز للشكل قلل الجاحظ من قيمة المحتوى وقال قولته التي طال تردادها:" والمعاني مطروحة في الطريق يعرفها العجمي والعربي والبدوي والقروي "(3) .
نظرية المعاني المطروحة
لماذا اتجه الجاحظ هذا الاتجاه مع انه لم يكن من الشكليين في التطبيق؟ لهذا أسباب كثيرة منها أن الجاحظ لم يتابع أستاذه النظام في قوله بالصرفة تفسيراً للأعجاز، وإنما وجد ان الأعجاز لا يفسر إلا عن طريق النظم، ومن آمن بان النظم حقيق برفع البيان إلى مستوى الأعجاز لم يعد قادراً على أن يتبنى تقديم المعنى على اللفظ، ومنها ان عصر الجاحظ كان يشهد بوادر حملة عنيفة يقوم بها النقاد لتبيان السرقة في المعاني بين الشعراء، ولا
(1) في المتن: من النسيج؛ والصبغ أكثر انسجاماً، وهو ثابت في إحدى النسج، ولعل تغييره إنما تم لصعوبة المقارنة بين الشعر والصبغ، وكان ذلك من عمل النساخ من بعد فيما اقدر.
(2)
الحيوان 3: 131 - 132.
(3)
المصدر نفسه.
نستبعد أن يكون الجاحظ قد حاول الرد على هذا التيار مرتين: مرة بان لا يشغل نفسه بموضوع السرقات كما فعل معاصروه (1) ، ومرة بان يقرر أن الأفضلية للشكل لان المعاني قدر مشترك بين الناس جميعاً. وسبب ثالث قائم في طبيعة الجاحظ نفسه، فقد كان رجلاً خصب القريحة لا يعييه الموضوع ولا يثقل عليه المحتوى أياً كان لونه، ولذا فإنه كان يحس أن المعنى موجود في كل مكان، وما على الأديب إلا أن يتناوله ويصوغه صياغة متفردة. ولم يكن الجاحظ يتصور ان نظريته التي لم تكن تمثل خطراً عليه ستصبح في أيدي رجال البيان خطراً على المقاييس البلاغية والنقدية لأنها ستجعل العناية بالشكل شغلهم الشاغل. وحسبما أن نقرا العسكري الذي ورث هذه النظرية الجاحظية يقول:" ومن الدليل على ان مدار البلاغة على تحسين اللفظ أن الخطب الرائعة والأشعار الرائقة ما عملت لإفهام المعاني فقط، لان الرديء من الألفاظ يقوم مقام الجيد منها في الإفهام، وإنما يدل حسن الكلام وأحكام صنعته ورونق ألفاظه وجودة مطالعه وحسن مقاطعته وبديع مباديه وغريب مبانيه على فضل قائله وفهم منشئه. واكثر هذه الأوصاف ترجع إلى الألفاظ ولهذا تأنق الكاتب في الرسالة والخطيب في الخطبة والشاعر في القصيدة، يبالغون في تجويدها ويغلون في ترتيبها ليدلوا على راعتهم وحذقهم بصناعتهم، ولو كان الأمر في المعاني لطرحوا اكثر ذلك فربحوا كذاً كثيراً واسقطوا عن أنفسهم تعباً طويلاً "(2) .
(1) أقرأ الجاحظ أن كل تشبيه ومعنى مصيب أو غريب عجيب أو بديع مخترع فإن من جاء من الشعراء بعد صاحبه يستعينون به أو ببعضه " ولا يكون أحدهم أحق بذلك المعنى من صاحبه " ولكنه لم يكثر من البحث عن المعاني المسروقة.
(2)
الصناعتين: 58 - 59؛ وسيرد عند الحديث عن عبد القاهر مزيد بيان حول نظرية الجاحظ في المعنى، وسبب اعتماده لها.
تناقض الجاحظ في موقفه من الشكل
ثم وقف الجاحظ من نظريته في الشكل موقفين آخرين أحدهما يؤيدها والثاني ينقضها، فأما الأول فهو إصراره على أن الشعر لا يترجم " ومتى حول تقطع نظمه وبطل وزنه وذهب حسنه وسقط موضع التعجب "(1) ، واستعصاؤه على الترجمة إنما هو سر من أسرار الشكل. وأما الثاني فهو قوله إن هناك معاني لا يمكن ان تسرق كوصف عنترة للذباب " فإنه وصفه فأجاد صفته فتحامي معناه جميع الشعراء فلم يعرض له أحد منهم، ولقد عرض له بعض المحدثين ممن كان يحسن القول فبلغ من استكراهه لذلك المعنى ومن اضطرابه فيه أنه صار دليلاً على سواء طبعه في الشعر. قال عنترة:
جادت عليها كل عين ثرة
…
فتركن كل حديقة كالدرهم
فترى الذباب بها يغني وحده
…
هزجاً كفعل الشارب المترنم
غرداً يحك ذراعه بذراعه
…
فعل المكب على الزناد الاجذم (2) فقوله إنه لا يسرق دليل على أن " السر في المعنى " قبل اللفظ، ولكن الجاحظ لم ينتبه لهذا التناقض.
موقفه من الصحيح والمتحول
ويكمل الجاحظ منهج ابن سلام في التمييز بين الصحيح والمنحول في الشعر، فيستخدم شهادة الرواة، ويتخذ تفاوت الشعر - كما اتخذه ابن سلام - وسيلة يثبت بها الانتحال، فيروي بيتاً منسوباً لأوس بن حجر:
فانقض كالدري يتبعه
…
نقع يثور تخاله طنبا ويقول في التعليق عليه: " وهذا الشعر ليس يرويه لاوس إلا من لا يفصل
(1) الحيوان 1: 75 ويرى الجاحظ أن الشعر العربي يمتاز بشيء معجز فيه هو الوزن، فإذا ترجم ضاع.
(2)
الحيوان 3: 311 - 312.
بين شعر أوس بن حجر وشريح بن أوس "، ويضيف إلى ذلك دليلاً داخلياً، فإذا روى قول الافوه الاودي:
كشهاب القذف يرميكم به
…
فارس في كفه للحرب نار قال: " وبعد فمن أين علم الأفوه أن الشهب التي يراها إنما هي قذف ورجم وهو جاهلي، ولم يدع هذا أحد قط إلا المسلمون "(1) .
حدته في الحكم
وتدل التعليقات التي يقيدها الجاحظ حول بعض ما يرويه من الأشعار على أنه كان حاداً أحياناً في نقده، ولكن هذه الحدة نجيء مرات مشفوعة بالسخرية، تلك الميزة التي قل أن نجدها لدى معاصريه من النقاد، وأظن أن الجاحظ لو استرسل مع طبعه الساخر لكان ناقداً انطباعياً، ولكنه آثر في أغلب الأحوال ان يكف من لذعاته، فمن نقداته الساخرة قوله:" وأنا أزعم أن صاحب هذين البيتين لا يقول شعراً أبداً ولولا أن أدخل في (الحكم) بعض الفتك لزعمت أن ابنه لا يقول شعراً أبداً "(2) .
(1) المصدر نفسه: 280 - 281.
(2)
الحيوان 3: 131 والبيتان هما:
لا تحسبن الموت موت البلى
…
فإنما الموت سؤال الرجال
كلاهما موت ولكن ذا
…
افظع من ذاك لذل السؤال
أحكام عامة
وتدفعه حماسته أحياناً إلى إرسال أحكام كبيرة لا نستطيع اليوم أن نستوثق من صحتها، كقوله في شعر الفرزدق:" وإن أحببت أن تروي من قصار القصائد شعراً لم يسمع بمثله، فالنمس ذلك في قصار قصائد الفرزدق، فإنك لم تر شاعراً قط يجمع التجويد في القصار والطوال غيره "(1) ؛ وليست كذلك تخطئة الكميت في مدحه للرسول (2) فإن سمو الرمز الكبير فوق مستوى الممدوحين العاديين الذين قد يقال فيهم مثل:
لج بتفضيلك اللسان ولو
…
أكثر فيك الضجاج واللجب أنت المصفى المحض المهذب في النسبة إن نص قومك النسب
…
يجعل مثل هذا المدح مقصراً في نظرنا اليوم إذا توجه به الشاعر إلى الرسول الكريم، كما كان مقصراً في نظر الجاحظ.
هل تأثر الجاحظ بالثقافة اليونانية
ولا نختم هذه الفقرة عن الجاحظ الناقد قبل أن نقف عند نص غامض في كتاب الحيوان جاء عن الشعر أنه " إن هو حول تهافت، ونفعه مقصور على أهله، وهو يعد من الأدب المقصور وليس بالمبسوط، ومن المنافع الاصطلاحية وليست (منفعته) (3) بحقيقة بينة "(4) . ومن أجل أن نفك على لسان أصحاب الكتب المترجمة عن اليونانية وكيف يقع فيها الخطأ والفساد، ثم يظل الناس يقبلون عليها، ويثير سؤالاً على لسان فريق آخر يحاورهم قائلاً: " فكيف تكون هذه الكتب أنفع لأهلها من الشعر
(1) لعل الثناء على قصار قصائد الفرزدق ينظر إلى قول الفرزدق نفسه وقد قيل له ما صيرك إلى القصار بعد الطوال؟ قال: لأني رأيتها في الصدور أولج وفي المحافل أبلج (البصائر 2: 301) .
(2)
الحيوان 5، 169 - 171.
(3)
زدت هذه الكلمة وليست في الأصل.
(4)
الحيوان 1: 81.
المقفى؟ " فيرد الفريق الأول بأنه رغم النقص تظل تلك الكتب عظيمة الفائدة لأنها تحوي الطب والفلك والحساب والهندسة والفلاحة وضروب الصناعات.. الخ، فالمقارنة تدور بين كتب هذه العلوم وبين الشعر، وليس هذا الرأي في الشعر رأياً خاصاً بالجاحظ، وإنما هو رأي جاء في معرض الجدل. وقد ذهب الدكتور سلوم إلى أن " الأدب المقصور " يعني هنا الأدب الذي يبغي منه المتعة والجمال، وقرن النص برأي أرسططاليس في المأساة التي تمنح القارئ اللذة الخاصة بها (لذة مقصورة عليها) (1) . وأعود فاقرر أن هذا الرأي ليس مما يعتقده الجاحظ، أما ربطه بأرسططاليس فإنه يدل على التفات جيد، ولكنه يتصل بنظريته الكبرى في أنواع ثلاثة: علوم نظرية كالرياضيات والطبيعيات والإلهيات، وعلوم عملية كالأخلاق والسياسة، وعلوم إنتاجية كالخطابة والشعر والصناعات، فالنوعان الأولان والصناعات من النوع الثالث ذات منافع واضحة، وللخطابة نفع (بينه أرسططاليس) عن طريق الإقناع، وبقي الشعر الذي صرف أرسططاليس جهداً كبيراً في أن يبين له منفعة عن طريق المتعة (أو التطهير؟ الخ) . فالنص الذي بين أيدينا يقوم على المفاضلة بين ما هو محقق النفع (نفعه حقيقة بينة) وبين ما هو (اصطلاحي) المنفعة - ولو وضعنا موضع اصطلاحي لفظة " تقديري " لصح المعنى ووضح؛ ثم إن نفعه - في رأي أولئك القوم - مقصور على أهله (أي هم ينكرون أن تنتقل المنفعة من المنشئ إلى المتلقي) ولذلك فإنه أدب مقصور (في منفعته وفي تعبيره عن حقائق الحياة بطريق الصور) وليس مبسوطاً (كما تبسط العلوم وتتحمل البرهان والتجربة) . وما دام الشعر لا يتحمل التجربة والبرهان فإنه إذا حول (عن سياق الإيقاعي أو الصوري إلى سياق عملي) تهافت ذلك هو ما أراه في تفسير هذه العبارة، فأما قوله بعد ذلك " وكل شيء في العالم من الصناعات والأرفاق والآلات فهي
(1) النقد المنهجي عند الجاحظ: 34 - 35.
موجودات في هذه الكتب دون الأشعار " فليس معناه ما توهمه الدكتور سلوم (1) وإنما هو تقرير بأن هذه الكتب المذكورة هي التي تحوي العلوم النافعة بينا لا يحوي الشعر شيئاً من تلك العلوم. ولا يخفى أن هذا الموقف يقابله قول المتعصبين للثقافة العربية (والشعر أحد أركانها) : إن الشعر يحوي " الحكم المضارعة لحكم الفلاسفة والعلوم في الخيل والنجوم وأنوائها؟ الخ " (2) فالنص الذي أورده الجاحظ لا يمكن أن يمثل موقفه لأنه حاول في كتاب الحيوان أن يتخذ الشعر مصدراً كبيراً من مصادره في ذلك العلم، وذلك رد ضمني على أصحاب ذلك الرأي، أما رده المباشر على جماعتهم فقوله في الكتاب نفسه " وأكثر من كتبهم نفعاً وأشرف منها خطراً وأحسن موقعاً كتب الله تعالى؟ الخ " (3) .
أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة (213 - 276)
منهج أبن قتيبة في مؤلفاته المختلفة توفيقي
تدل مؤلفات أبن قتيبة على تعدد مناحي اهتمامه، فبعضها يمثل العناية بغريب اللغة وبعضها يتناول النحو، كما أن صنفاً ثالثاً منها مستلهم من عصبيته لأصحاب الحديث ومن عدائه للمعتزلة، ويمثل الشعر ميداناً رابعاً من تلك الميادين التي استأثرت بجهده. وعلى الرغم من تعدد ضروب هذا النشاط، فإننا نستطيع أن نستبين من وراء هذا الجهد حوافز وغايات معينة. فأبن قتيبة يكمل دور الجاحظ في الدفاع عن العرب والرد على الشعوبية. ويتخذ هذا الرد صورة مباشرة في مثل " كتاب العرب وعلومها "
(1) قرنه بقول أرسطو: " يجب أن نتذكر أيضاً بأنه ليس هناك نفس الدقة في الشعر كما هي الحال في السياسة أو في أي فن آخر ". (ص 35) .
(2)
أنظر الشعر والشعراء: 11.
(3)
الحيوان 1: 86.
وصورة غير مباشرة في مؤلفات يراد بها إبراز ما لدى العرب من مآثر، ولهذا ينحو أبن قتيبة منحى الجاحظ في اتخاذ الشعر العربي مصدراً للمعرفة، فيكتب كتاباً في " الأنواء " وآخر في " الأشربة " وثالثاً في " الخيل " ليثبت لأنصار الكتب المترجمة أن في الشعر العربي ما يضاهي حكم الفلاسفة وعلوم العلماء. ولما كان أكثر الشعوبيين أثراً وأبعدهم صوتاً من طبقة الكتاب فقد حاول أبن قتيبة أن يؤلف لهم كتباً، يقرب إليهم بها المعرفة ويسهل عليهم تناولها، ويجنبهم بها صعوبة الكتب المتخصصة؛ ولا بأس أن يضع لهم في هذه الكتب شيئاً من حكمة الفرس فذلك أدعى إلى تألفهم، وأقوى أثراً في صرفهم عن الكتب الفارسية الخالصة، فكان من ذلك تلك الموجزات من أمثال " أدب الكاتب " و " عيون الأخبار " و " المعارف " و " الشعر والشعراء "؛ ولذلك نسمعه يقول في كتاب (عيون الأخبار) :" وإني كنت تكلفت لمغفل التأدب من الكتاب كتاباً في المعرفة وفي تقويم اللسان واليد حين تبينت شمول النقص ودروس العلم وشغل السلطان عن إقامة سوق الأدب حتى عفا ودرس "(1) ، وفي تبيان هذه الناحية يرى الأستاذ جب أن الكتاب " اضطروا في النهاية إلى الاعتراف بأن العلوم الإنسانية العربية قد انتصرت وأن وظائفهم من ثم تتطلب منهم على الأقل معرفة عابرة بالتراث العربي " وينوه بفضل أبن قتيبة في هذا الصدد لأنه استطاع أن يمزج بالمقتطفات والمختارات العربية شيئاً من مآثر الفرس وحكمتهم (2) .
ولهذا الموقف كان لابد لأبن قتيبة من أن يتأثر بالجاحظ فيروي كتبه، وينقل منها، ويتبنى بعض آرائه مثل رأيه في أن النادرة يجب أن تورد بلفظ أصحابها ولو كانت ملحونة، ورأيه في استباحة ذكور الغورات في الكتب
(1) عيون الأخبار 1: الصفحة: (ز - ح) .
(2)
حضارة الإسلام: 94 (الترجمة العربية) .
دون تحرج (1) ، وغير ذلك من آراء، هذا على الرغم من أن يحمل بشدة على الجاحظ لأنه ينتصر للشيء وضده، ويصفه بأنه من " أكذب الأمة وأوضعهم لحديث وأنصرهم لباطل "(2) ، ولكن هجومه هذا مقصور على الناحية المذهبية دون سواها.
نظرته التوفيقية في النقد
فإذا استثنينا هذه الناحية وجدنا أن التوفيق والتسوية صفتان تمثلان جهد أبن قتيبة في مختلف الميادين، ومنها النقد الأدبي، ذلك الميدان الذي لم يتضح في مؤلفاته كما اتضح في مقدمة كتاب " الشعر والشعراء "، فهي " بيان " بموقفه النقدي عامة، ودستور مستقل بمواده وأحكامه، وبينها وبين طبيعة الكتاب نفسه تباين واضح، فبينا تهدف هي إلى تصوير موقف المؤلف من الشعر يجيء الكتاب " دليلاً " موجزاً ليستعمله المتأدبون من طبقة الكتاب كي يتعرفوا إلى أهم الشعراء القدماء والمحدثين ويستظهروا الجيد من أشعارهم، وبين الغايتين فرق واسع لا يبيح لنا أن نتهم أبن قتيبة بأنه وضع مبادئ عجز عن تطبيقها. كذلك فإن غاية الكتاب وهي غاية تستدعي التبسط قد صرفت أبن قتيبة عن أن يصنع صنيع أبن سلام في تصور الشعراء على طبقات، زد على ذلك أن أبن قتيبة سيترجم لشعراء كثيرين لم يصنفهم أبن سلام في طبقاته، وابتكار تصنيف جديد لهم يتطلب دراسة شاملة لآثارهم، وهو أمر لا يدعيه أبن قتيبة ولا يزعم أنه في طوقه. ولكن أبن قتيبة جرى في التبسيط مجرى بعيداً حين قيد التراجم كيفما اتفق دون أن يهتم كثيراً بالناحية الزمنية، مما قد يومئ إلى أنه لم يكن يحفل أيضاً بدراسة الشعراء حسب العصور الأدبية.
وكانت فكرة التسوية أبعد تسلطاً على مفهومات أبن قتيبة مما هي لدى
(1) أنظر مقدمة عيون الأخبار.
(2)
تأويل مختلف الأحاديث: 71 - 73.
الجاحظ، فالناقدان يشتركان في المذهب التوفيقي الذي يريد أن يجعل الجودة مقياساً للشعر دون اعتبار للقدم والحداثة، وفي هذا الصدد يقول أبن قتيبة (1) :
" ولا نظرت إلى المتقدم منهم بعين الجلالة لتقمه، وإلى المتأخر منهم بعين الاحتقار لتأخره، بل نظرت بعين العدل على الفريقين وأعطيت كلاً حظه، ووفرت عليه حقه. فإني رأيت من علمائنا من يستجيد الشعر السخيف لتقدم قائله ويضعه في متخيره ويرذل الشعر الرصين ولا عيب له عنده إلا أنه قيل في زمانه أو أنه رأى قائله، ولم يقصر الله العلم والشعر والبلاغة على زمن دون زمن ولا خص به قوماً دون قوم، بل جعل ذلك مشتركاً مقسوماً بين عباده في كل دهر، وجعل كل قديم حديثاً في عصره وكل شرف خارجية في أوله، فقد كان جرير والفرزدق والأخطل وأمثالهم يعدون محدثين وكان أبو عمرو بن العلاء يقول: لقد كثر هذا المحدث وحسن، حتى لقد هممت بروايته، ثم صار هؤلاء قدماء عندنا ببعد العهد عنهم، وكذلك يكون من بعدهم لمن بعدنا كالخريمي والعتابي والحسن بن هانئ وأشباههم. فكل من أتى بحسم من قول أو فعل ذكرناه له وأثنينا به عليه. ولم يضعه عندنا تأخر قائله أو فاعله أو حداثة سنه، كما أن الرديء إذا ورد علينا للمتقدم أو الشريف لم يرفعه عندنا شرف صاحبه ولا تقدمه ". أ. هـ.
أقول: يتفق الناقدان - أبن قتيبة والجاحظ - في هذا الموقف، وأبن قتيبة أبين في التعبير عنه وأكثر إسهاباً، ثم يفترقان في مواقف أخرى، لأن الاعتدال عند أبن قتيبة قد بسط ظله على نظرته عامة، ومن أبين الفروق بينهما اختلافهما في النظر إلى مشكلة اللفظ والمعنى، فبينا انحاز الجاحظ إلى جانب اللفظ، ذهب أبن قتيبة مذهب التسوية.
(1) الشعر والشعراء: 10 - 11.
مشكلة اللفظ والمعنى
ولهذه القضية ركنان (اللفظ - المعنى) ومميزان (الجودة - الرداءة) ولا بأس أن يتجه أبن قتيبة في هذا نحو المنطق - وإن يكرهه علماً - فيجد أن الشعر أربعة أضرب، لا تسمح العلاقة المنطقية - في نظره - بأكثر منها:(أ) لفظ جيد ومعنى جيد (ب) لفظ جيد ومعنى رديء (ج) لفظ رديء ومعنى جيد (د) لفظ رديء ومعنى رديء. وقد استعملنا هنا لفظتي " الجودة والرداءة " وإن كان أبن قتيبة لم يستعملهما وإنما استعمل أحياناً: " ضرب حسن لفظه فإذا أنت فتشته لم تجد هناك فائدة في المعنى " أو " ضرب منه جاد معناه وقصرت ألفاظه "، ولم يستعمل لفظتين حاسمتين في دلالتهما؛ وإنما فعل ذلك ليكون أبعد عن الحدة التي قد تستشف من قولنا " جيد ورديء " وآثرنا إلزامه بلفظتين لكي لا تضطرب عليه القسمة المنطقية، فالمسألة إذن مسألة صلة بين المعنى واللفظ، وعلاقة الجودة في كليهما معاً هي المفضلة، وهذا يعني أن المعاني نفسها تتفاوت، وإنها ليست كما زعم الجاحظ " مطروحة في الطريق "، ويستشف من أمثلة أبن قتيبة أن المعنى عنده قد يعني الصورة الشعرية مثلما يعني الحكمة. ولكن هذه الأمثلة نفسها تشير إلى أنه يستمد حكمه من بيت واحد أو بيتين أو ثلاثة في الأكثر. إن قضية " اللفظ والمعنى " لم تتناول العمل الأدبي كله بحيث تتطور إلى ما نسميه " الشكل والمضمون "، ولا هي استطاعت أن تقترب مما قد يسمى " الصلة الداخلية " بين هذين، ولعلها كانت ذات أثر بعيد في صرف النقد عن تبين وحدة الأثر الفني في مبناه الكلي، غير أنها رغم ذلك، أسلم من الانحياز السافر إلى جانب اللفظ.
ثنائية الطبع والتكلف
إلى جانب معادلة اللفظ والمعنى وقف أبن قتيبة عند قسمة ثنائية في النظرية الشعرية، فقد كثر الحديث في عصره عن الطبع والتكلف، دون تحديد لهذين المصطلحين، فتناولهما أبن قتيبة بالتفسير والتمثيل. وقد خفي على الدارسين المحدثين أن قلة " المصطلح النقدي " لدى أبن قتيبة جعلته يستعمل اللفظتين بمدلولات مختلفة، فالتكلف حين يكون وصفاً للشاعر مختلف عن " التكلف " حين يكون وصفاً للشعر، تقول شاعر " متكلف " - بكسر اللام - وتعني ما نعنيه حين نقول إنه " صانع " ولهذا يقول أبن قتيبة:" فالمتكلف (من الشعراء) هو الذي قوم شعره بالثقاف ونفحه بطول التفتيش وأعاد فيه النظر بعد النظر كزهير والحطيئة؟ "(1) . ولا نظن أن أبن قتيبة يستر ذل شعر زهير والحطيئة أو يراهما دون من يسميهم " الشعراء المطبوعين "، وتقول " شاعر مطبوع " وتعني في ذلك ما نعنيه اليوم بعفوية القول وتدفقه - يقول أبن قتيبة " والمطبوع من الشعراء من سمح بالشعر واقتدر على القوافي، وأراك في صدر بيته عجزه وفي فاتحته قافيته، وتبينت على شعره رونق الطبع ووشي الغريزة وإذا أمتحن لم يتلعثم ولم يتزحر "(2) ؛ وهذا يعني أن الطبع يشمل القول على البداهة مثلما يشمل " الصنعة الخفية " التي لا تظهر على وجه الأثر الفني. فإذا قلت " شعر متكلف " - بفتح اللام المشددة - عنيت ظهور " التفكر وشدة العناء ورشح الجبين وكثرة الضرورات وحذف ما بالمعاني إليه حاجة وزيادة ما بالمعاني غنى عنه "(3) ، وهذا يقابل ما نسميه " رداءة الصنعة " وليس كذلك شعر المنقحين أمثال زهير والحطيئة، على أن بعض المتكلف من الشعر قد يكون جيداً محكماً - في رأي أبن قتيبة - ولكن لا أظنه يعني: ما تكثر
(1) الشعر والشعراء: 22.
(2)
نفسه: 34.
(3)
نفسه: 32.
فيه الضرورات وما فيه حذف للضروري وإثبات لما يمكن الاستغناء عنه، وكيف يكون في هذا الجيد المحكم، وهو مخل بابسط مقتضيات البلاغة؟ ويذكر أبن قتيبة سمة أخرى للتكلف في الشعر - سوى رداءة الصنعة - وتلك السمة " أن ترى البيت مقروناً بغير جاره ومضموماً إلى غير لفقه " وهذا مقياس هام لأنه أول الطريق إلى الوحدة الكلية في القصيدة عامة، وفقدان " القران " بين الأبيات ليس من صفات شعر المنقحين، ومن ثم يتضح لنا تماماً أن لفظة المتكلف إذا اقترنت بالشاعر عنت شيئاً متميزاً عن معناها حين يوصف بها نوع من الشعر، ولذلك قال أبن قتيبة في وصف أبيات للخليل " وهذا الشعر بين التكلف رديء الصنعة ".
وتقابل لفظة " الطبع " عند أبن قتيبة ما سماه الجاحظ " الغريزة "، وهذه الثانية ترد عند أبن قتيبة أيضاً إذ يقول في تعليله عسر قول الشعر: إنه قد ينشأ، " من عارض يعترض على الغريزة " أي يؤثر في " الطبع " فالطبع كلمة تتعدد دلالتها فهي قد تعني قوة الشاعرية أو الطاقة الشعرية وذلك في مثل قوله:" والشعراء أيضاً في الطبع مختلفون، منهم من يسهل عليه المديح ويعسر عليه الهجاء ومنهم من يتيسر له المراثي ويتعذر عليه الغزل "(1) ، وقد تعني أيضاً " المزاج " حين يتحدث عن تعسر القول على الشاعر في وقت دون وقت وفي مكان دون مكان، ثم هي تختلف اختلافاً دقيقاً عنها عندما تصبح بصيغة المفعول " مطبوع " - إلا أن نتخذ لفظة " مطبوع " لتعني من كان مزاجه يسمح للنظم في كل حين، وهذا شيء ينكره أبن قتيبة نفسه.
(1) الشعر والشعراء: 37.
الحالات النفسية وعلاقتها بالشعر
ولما وقع أبن قتيبة في نطاق الحديث عن " الطبع " بمعنى " المزاج "، كان لابد له من أن يلتفت إلى الحالات النفسية وعلاقتها بالشعر، وقد تناولها من ثلاثة جوانب:
(أ) من جانب الحوافز النفسية الدافعة لقول الشعر، كالطمع والشوق والطرب والغضب، وما يثير بعض هذه الحوافز كالشراب، والمناظر الطبيعية الجميلة.
(ب) من جانب العلاقة بين الشاعر والزمن، لأن بعض الأوقات ذو تأثير خاص في المزاج الشعري، كأول الليل قبل تفشي الكرى وصدر النهار قبل الغداء.
ولهذين الجانبين أثر في التفاوت بين الشاعر الواحد، فبعض الحالات النفسية والجسدية كالغم وسوء الغذاء تمنع من قول الشعر، واختيار وقت من غير الأوقات المشار إليها لا يصلح كذلك، ولكن الشاعر قد يضطر إلى التغاضي عن الحالة الصالحة والوقت الصالح فيكون ما ينظمه حينئذ مختلفاً متفاوتاً، وهنا يعود بنا التذكر إلى أن الأصمعي عندما علل التفاوت في شعر حسان نسب ذلك إلى الموضوع، ولما عرض له أبن سلام نسب ذلك إلى اختلاف القائلين (أي الانتحال) ، أما أبن قتيبة فإنه ذهب إلى التعليل النفسي في ذلك، ولعله كان في هذا أدق فهماً للطبيعة الإنسانية من صاحبيه، فالشاعر الذي يقول بحافز الرجاء والوفاء، يعتمد التفاوت في شعره على تفاوت قوة الحافزين لديه:" وهذه عندي قصة الكميت في مدحه بني أمية وآل أبي طالب فإنه كان يتشيع وينحرف عن بني أمية بالرأي والهوى، وشعره في بني أمية أجود منه في الطالبيين، ولا أرى علة ذلك إلا قوة أسباب الطمع وإيثار النفس لعاجل الدنيا على آجل الآخرة "(1) .
(1) الشعر والشعراء: 22.
(ج) مراعاة الحالة النفسية في السامعين (أي في الجمهور)، ومن هذه الناحية علل أبن قتيبة بناء القصيدة العربية: من استهلالها بالبكاء على الأطلال ثم الانتقال إلى وصف الرحلة والنسيب: " ليميل نحوه القلوب ويصرف إليه الوجوه وليستدعي إصغاء الأسماع لأن التشبيب قريب من النفوس لائط بالقلوب لما جعل الله في تركيب العباد من محبة الغزل وإلف النساء، فليس يكاد أحد يخلو من أن يكون متعلقاً منه بسبب وضارباً فيه بسهم حلال أو حرام؛ فإذا استوثق من الإصغاء إليه والاستماع له عقب بإيجاب الحقوق.. "(1) فأبن قتيبة يؤمن أن بناء القصيدة على هذه المقدمات إنما كانت تستدعيه الرغبة في لفت الانتباه، وإشراك السامعين في عاطفة الشاعر، وهي عاطفة تسهل المشاركة فيها لأنها قريبة إلى القلوب جميعاً؛ كما يرى أن مبنى القصيدة لابد أن يظل متناسب الأجزاء معتدل الأقسام فلا يطيل في قسم منها فيمل السامعين، ولا يقطع وبالنفوس ظمأ إلى مزيد؛ ومع أبن قتيبة يقر بأن أجزاء القصيدة قد تتكون من مقدمة طللية ومن نسيب ثم من وصف الرحلة للممدوح ثم المدح، فإنه في وقفته عند مبدأ التناسب يرينا أنه يحس إحساساً دقيقاً بالطول المعين الذي لابد للقصيدة أن تحافظ عليه.
هل أبن قتيبة اتباعي يعارض الخروج عن طريقة القدماء
وقد فهم بعض الدارسين أن أبن قتيبة يصر على أن يظل هذا الشكل نظاماً صارماً لكل شاعر جاهلياً كان أو إسلامياً أو محدثاً، وأنه حرم على المتأخرين التحلل من ربقة هذا النظام، وهذا الوهم منشؤه قول أبن قتيبة " فالشاعر المجيد من سلك هذه الأساليب وعدل بين هذه الأقسام " - وما أرى أبن قتيبة هنا يؤكد شيئاً سوى التناسب، أما قوله بعد ذلك " وليس لمتأخر الشعراء أن يخرج عن مذهب المتقدمين في هذه الأقسام فيقف على منزل عامر أو يبكي عند مشيد البنيان لأن المتقدمين وقفوا على المنزل الدائر
(1) الشعر والشعراء: 20.
والرسم العافي، أو يرحل على حمار أو بغل ويصفهما لأن المتقدمين رحلوا على الناقة والبعير، أو يرد على المياه العذاب الجواري لأن المتقدمين وردوا الأواجن والطوامي، أو يقطع إلى الممدوح منابت النرجس والآس والورد لأن المتقدمين جروا على منابت الشيح والحنوة والعرارة " (1) فليس ثمة أوضح منه في الدلالة على تحريم التقليد الشكلي المضحك، وإحلال مواد الحضارة محل مواد البداوة في الشعر. ومن ذا الذي ينكر أن استعمال الحصان أو الحمار بدل الجمل وذكر الأجاص والتفاح بدل الشيح والعرار لا يكون تقليداً مستهجناً مضحكاً؟ للشاعر أن يجدد بما يناسب عصره - دون حكاية قياسية تدل على ضعف الخيال أو أن يعيد كر الرحلة ووصف الطلل - وإن لم يوجدا في عصره - لأنهما قد أصبحا لديه رمزاً لا حقيقة، والرمز ذو محل مقبول، فأما المحاكاة القاصرة فإنها سيئة الوقع تستثير الاهتزاء، وكان أبن قتيبة يومئ من طرف خفي إلى أن أبا نواس لم يصنع شيئاً فنياً في دعوته، وإن كان ألبق من غيره من المأخوذين بمواد الحضارة، لأن الوقوف على الحانات بدل الوقوف على الأطلال تغيير في الموضوع لا في الطريقة الفنية.
اهتمام أبن قتيبة بالشاعر يفوق اهتمامه بالشعر
مما تقدم نرى أن اهتمام أبن قتيبة متجه في أكثره نحو الشاعر (دون إغفال للشعر والجمهور) فهو إما متكلف أو مطبوع، ولحالته النفسية أثر بين في الشعر، وللغرائز عند الشعراء أثر في تبيانهم في الفنون الشعرية المختلفة. ومن التفت إلى الشاعر واهتم به هذا الاهتمام بين الأركان الثلاثة (الشاعر - الشعر - الجمهور) كان لابد له من أن يعرج على ما يحتاجه الشاعر من ثقافة، ولهذا نجد أبن قتيبة يخص الثقافة السماعية بالاهتمام، فالشعر بعد علم الدين أحوج " العلوم " إلى ذلك
(1) الشعر والشعراء: 22.
" لما فيه من الألفاظ الغريبة واللغات المختلفة والكلام الوحشي وأسماء الشجر والنبات والمواضع والمياه "(1) فأما الثقافة التي تستمد من الدفاتر والصحف فإنها توقع أهلها في التصحيف والتحريف.
وقد يسأل الدارس الحديث: إذا كان أبن قتيبة مهتماً بالشاعر كل هذا الاهتمام، فأين حديثه عن الخيال؟ وهذا سؤال لا يعرض للقدماء، لأن الحديث عن " الطبع " عندهم يتضمن الجواب عليه. فالطبع يتضمن - فيما يتضمنه - تلك القوة التخيلية التي تستثار بالحوافز أو بالطواف في " الرباع المخلية والرياض المعشبة " أو بالوقوف عند الماء الجاري والمكان الخضر الخالي، وقوة الخيال هي قوة " الغريزة " نفسها، وهي قوة متفاوتة بمقدار اختلاف المؤثرات فيها، وهي بحاجة إلى دربة عن طريق الثقافة.
ويورد أبن قتيبة ملاحظ جزئية، فيعود للاستثناء على قاعدة (جودة اللفظ وصحة المعنى) فيقول إن بعض الشعر يروى لخصائص أخرى كالإصابة في التصوير أو جمال النغمة أو طرافة المعنى المستغرب أو لأسباب خارجية أخرى كأن يكون صاحبه مقلاً أو عظيماً في الموقع الاجتماعي، وهذه أشياء لا تحدد الشعر وإنما تحدد أسباب الرواية أو الاستحسان لبعض ضروبه. ثم يتحدث أبن قتيبة عن عيوب الإعراب، وعن بعض الضرورات التي يرتكبها الشعراء، ولكنه ينصح الشاعر بأن لا يعتمد وزناً مضطرباً ويختم مقدمته بقوله " أسير الشعر والكلام المطمع.. الذي يطمع في مثله من سمعه وهو مكان النجم من يد المتناول "(2) .
(1) الشعر والشعراء: 26.
(2)
الشعر والشعراء: 46 - 47.
خلاصة في مميزات أبن قتيبة في النقد
وعلى الرغم من فقر المصطلح النقدي لدى أبن قتيبة فقد تمرس في مقدمته بأكبر المشكلات النقدية التي سيكثر حولها الحديث من بعده، فتحدث عن الشعر من خلال قضية اللفظ والمعنى، والتكلف وجودة الصنعة، وعن ضرورة التناسب بين الموضوعات في القصيدة الواحدة وتلاحقها في سياق، واعتمادها على وحدة معنوية تقيم التلاحم و " القران " بين أبياتها، وعن أسباب خارجة عن الشعر أحياناً تمنحه في نفوس الناس منعزلة وقيمة، وعن العيوب الشكلية التي تعتري العلاقات الإعرابية والنغمات الموسيقية والقوافي. وألمح إلى أهمية التأثير في نفسيات الجماهير بالتناسب والمشاركة العاطفية، وتحدث عن الشاعر متكلفاً ومطبوعاً، وعن المؤثرات والحوافز التي تفعل فعلها في نفسه، وعن علاقة الشاعرية بالأزمنة والأمكنة وعن ثقافة الشاعر، وتفاوت الشعراء في " الطاقة الشعرية "؛ وبذلك كان من أوائل النقاد اللذين لم يتهيبوا الوقوف عند القضايا النقدية الكبرى، كما كان من أبرزهم التفاتاً إلى العوامل النفسية والمبنى الفني الكلي؛ وبينا ذهب الجاحظ إلى وضع نظريات لم ينضجها البحث والدرس، وضع أبن قتيبة استنتاجات تدل على خاطر ذوقي نقدي أصيل، كانت كفاءً بنقل النقد إلى مرحلة جديدة.
أبو العباس عبد الله بن المعتز (- 296)
ناقد انطباعي
لعل ابن المعتز خير مثل الناقد الذي كان يؤمن بقول القائل " أشعر الناس من أنت في شعره حتى تفرغ منه "(1) ، وهو قول كان يعجب ابن قتيبة، لأنه يريح الناقد من المفاضلة أو البحث عن تداول المعنى، ويعبر عن لحظات التحول والتردد في أذواق الناس، ونشوء الميل الآني إلى الشيء، وتجربة صدمة الإعجاب الأول لدى الكشف المفاجئ. " أشعر الناس من
(1) الشعر والشعراء: 26.
أنت في شعره حتى تفرغ منه " - قاعدة قد ينفر منها النقد الموضوعي الخالص، ولكن نقاد العرب لم يوردوا قوله توجز معنى النقد التأثري مثلها. وحسبك أن تقرأ هذه الأقوال لابن المعتز كي تدرك ما اعنيه:
بشار: ومما يستحسن من شعره وغن كان كله حسناً (1)
أبو الهندي: ومما يستحسن له وان كان شعره كله حسناً جيداً (2) .
ربيعة الرقي: ومما يستملح له، وإن كان شعره كله مليحاً عذباً مطبوعاً جيداً هنيئاً (3) .
مسلم بن الوليد: ومما يستحسن له، على أن شعره كله ديباج حسن لا يدفعه عن ذلك أحد (4) .
الحارثي: ومن جيد شعره وغن كان كل شعره جيداً (5) .
أبو تمام: ومما يستملح من شعره كله حسن (6) .
العتابي: وأشعار العتابي كلها عيون، ليس فيها بيت ساقط (7) .
وهذه أمثلة تجد لها نظائر كثيرة في كتابه، إذا هو تحدث عن الشعر كله بحكم واحد، ومثلها أحكام على القصيدة الواحدة، " فهذه سارت مسير الشمس والريح "(8) وتلك " أشهر من الشمس "(9) وثالثة " صارت
(1) طبقات ابن المعتز: 28.
(2)
نفسه: 140.
(3)
نفسه: 163.
(4)
نفسه: 235.
(5)
نفسه: 279.
(6)
نفسه: 284.
(7)
نفسه: 264.
(8)
نفسه: 178.
(9)
نفسه: 268.
مثلاً سائراً في الناس " (1) ؛ ورابعة " أشهر من الفرس الأبلق " (2) .
ثم أحكام أخرى على البيت الواحد؛ " هذا البيت أقرت الشعراء قاطبة انه لا يكون وراءه حسن ولا جودة معنى "(3) وذلك " سجدة للشعراء "(4) وغير ذلك مما تجده مبثوثاً في كتابه " طبقات الشعراء ". وربما أدهشنا هذا اللون الجارف من الأحكام النقدية. ولكن سرعان ما تزول دهشتنا إذا تذكرنا أن ابن المعتز كان في منزلته الاجتماعية يمثل دور " الرعاية " والعطف على الحركة الأدبية، وليس من خلق " الراعي " ذي اليد العليا ان يتجاوز حدود المجاملة الاجتماعية اللائقة، كذلك فغن ابن المعتز كان ذا مذهب شعري ذي سمات ذاتية خاصة قد تحول بينه وبين تذوق الأشعار التي تباين مذهبه، فلجوءه إلى هذه التأثرية يسبغ عليه صفة " سعة الصدر " في النقد، ويحميه من الاتهام بالتحيز لطريقته؛ وفي ظل هذه التأثرية وحدها يستطيع ان يترجم لشعراء من هجائي أسرته ومداحي العلوية من أمثال السيد الحميري ودعبل. ولا ريب في أن الظهور بهذا المظهر التاثري يحقق له صفة الناقد العادل أكثر مما تحققه الموضوعية، وذلك شيء غريب حقاً. شخص واحد لم يستطع ابن المعتز ان يوسع له مكاناً في كتابه، وذلك هو ابن الرومي لان هذا الشاعر كان قد هجا المعتز أباه، غير إن إغفاله له كان تحاشياً من التورط في الخروج عن خطة التقريظ الانطباعي، وهو أسلم من إدراجه في الكتاب.
(1) طبقات ابن المعتز: 225.
(2)
نفسه: 284.
(3)
نفسه: 225.
(4)
نفسه: 280.
رسالته في أبي تمام والتطور في رأيه النقدي
إلا ان ابن المعتز لم يكن دائماً ذلك الناقد التأثري الذي تتملكه صيحات الإعجاب أمام الأثر الادبي، وإنما نعتقد أن كتاب " طبقات الشعراء " يمثل مرحلة متأخرة في حياته، ودليلنا على ذلك موقفه النقدي من أبي تمام، إذ يبدو أن هذا الموقف مر بمرحلتين: مرحلة تمثلها رسالة مستقلة كتبها في نقد أبي تمام (1) ومرحلة يمثلها كتاب الطبقات.
وقد احتفظ لنا التوحيدي بمقدمة تلك الرسالة (2) ، وهي مقدمة تدل على موقف ابن المعتز ومنهجه في نقده، يقول فيها " سهل الله عليكم سبيل الطلب، ووقاكم مكاره الزلل فيما رأيت من تقديم بعضكم الطائي على غيره من الشعراء أمراً ظاهراً، وهو أوكد أسباب تأخير بعضكم إياه عن منزلته في الشعر لما يدعو إليه اللجاج؛ فأما قوله فيه فإنه بلغ غايات الإساءة والإحسان، فكأن شعره قوله:
إن كان وجهك لي تترى محاسنه
…
فغن فعلك بي تترى مساويه وقد جمعنا محاسن شعره ومساوئه في رسالتنا هذه، فرجونا بذلك ابتداع (؟) المسهب في امتداحه، ورد الراغب عنه إلى إنصافه، واختصرنا الكلام إيثاراً (3) لقصد ما نزعنا إليه وتوقياً لإطالة ما يكتفي بالإيجاز فيه؟ الخ ".
فخلاصة رأي الناقد في أبي تمام في هذه الرسالة " أنه بلغ غايات الإساءة والإحسان " أما في الطبقات فقد أصاب رأيه بعض التغير حيث قال: " واكثر ماله جيد والرديء الذي له إنما هو شيء يستغلق لفظه فقط، فأما أن يكون
(1) اقتبس المرزباني كثيراً منها في الموشح: 470 وما بعدها.
(2)
انظر البصائر 2: 698.
(3)
في المطبوع: إشارة.
في شعره شيء يخلو من المعاني اللطيفة والمحاسن والبدع الكثيرة فلا " (1) . غير أن نقده في الرسالة تطرق إلى أشياء أخرى من عيوب أبي تمام مثل رداءة المعنى وإخفاق المطابقة وسرقة المعنى دون أن يحسن أخذه والاستعمال الغريب والإغراق في المدح، وتعليقاته في أثناء ذلك قاسية حادة مثل قوله: " وهذا من الكلام الي يستعاذ بالصمت من أمثاله ". وقال عندما أورد لأبي تمام استعارة " شيب الفؤاد ": فيا سبحان الله ما أقبح مشيب الفؤاد. وما كان اجرأه على الأسماع في هذا وأمثاله "(2) .
أما في الناحية اللفظية فقد عابه باستعمال الألفاظ الغريبة مثل " الدفقي " و " القاصعاء " و " النفقاء " ثم قال: " إنها من الغريب المصدود عنه وليس يحسن من المحدثين استعمالها لأنها لا تجاوز بأمثالها ولا تتبع اشكالها، فكانها تشكو الغربة في كلامهم "(3) .
وبين موقفه من قضية السرقة، وهو يشبه آراء نقاد آخرين من معاصريه فقال:" ولا يعذر الشاعر في سرقته حتى يزيد في إضاءة المعنى أو يأتي بأجزل من الكلام الأول، أو يسنح له بذلك معنى بفضح به ما تقدمه ولا يفتضح به وينظر إلى ما قصده نظر مستغن عنه ولا فقير إليه "(4) ، ثم بين أن العيوب التي عدها وأورد شواهدها من شعره لم تكن إلا نماذج وأنه أسقط ذكر عيوب أخرى ولم يثبتها في رسالته. ومع أن تعليقات ابن المعتز في رسالته هذه ما تزال تأثرية فإنها تبين أن وقوفه إلى جانب المحاسن والمساوئ يهدف إلى شيء من الموضوعية، غير أن القطعة التي بقيت من
(1) طبقات ابن المعتز: 286.
(2)
الموشح: 483.
(3)
نفسه: 472.
(4)
نفسه: 476.
الرسالة لا تتضمن سوى ذكر المساوئ، التي ترتفع إلى حد الاتهام المتحامل أحياناً. كان يقال إن أبا تمام أخفى الشعر الذي يشبه شعره حين صنع مختاراته لتخفي سرقاته، وذلك ما أشرنا إليه فيما سبق عند الحديث عن حماسة أبي تمام.
أبو تمام ومذهبه سبب في تأليف كتاب البديع
ويصح لنا أن نقول إن أبا تمام كان يمثل " مشكلة فنية " لدى ابن المعتز، وان هذه المشكلة بدأت مبكرة في تصوره لها، وكانت سبباً من الأسباب التي وجهته إلى تأليف كتاب البديع، ليدل على أن هذا الفن موجود عند العرب وفي القرآن والحديث وكلام الصحابة، وان المحدثين لم يكونوا مبتكرين له وان " حبيب بن أوس من بعدهم شغف به حتى غلب عليه وتفرغ فيه واكثر منه فأحسن في بعض ذلك وأساء في بعض وتلك عقبى الإفراط وثمرة الإسراف "(1) .
وقد كان ابن المعتز على وعي بأن هذا الفن لم يعرفه العلماء باللغة والشعر القديم ولا يدرون ما هو وما هي الأنواع التي تقع تحته، وانه مبتدع في استقصائه لصوره وأنواعه غير مسبوق إلى ذلك؛ وقد ألف كتابه سنة 274 وكان أول من نسخه منه هارون بن يحيى بن أبي المنصور المنجم (2) . وفنون البديع عنده خمسة وهي: الاستعارة والتجنيس والمطابقة ورد إعجاز الكلام على ما تقدمها والمذهب الكلامي؛ وقد كان الجاحظ ذكر البديع وأورد أمثلة منه في البيان والتبين، وهو صاحب مصطلح " المذهب الكلامي " بغقرار ابن المعتز نفسه، وبعض المصطلحات الأخرى إنما هي مما استعمله الناس قبل ابن المعتز، فالاستعارة مثلاً مصطلح قديم. كذلك
(1) البديع: 1.
(2)
نفسه: 58.
يفهم من خبر مروي عن أبي الحسن علي بن الحسن الأخفش أن الخليل والأصمعي كانا يعرفان " الطباق "(1) ويروي أحدهم عن الأصمعي حديثاً في المطابقة، وانه كان يمثل عليها بقول زهير:
ليث بعثر يصطاد الرجال إذا
…
ما كذب الليث عن أقرانه صدقا وقول الفرزدق:
لعن الإله بني كليب إنهم
…
لا يغدرون ولا يفون لجار (2)(يريد التطابق بين كذب وصدق؛ وبين لا يغدرون ولا يفون) .
ولكن فضله إنما يتمثل في حشد الشواهد لها من النثر والشعر في القديم والحديث.
ومع أن الكتاب قد سمي باسم " البديع "، وهو موضوعه الرئيس، فإن ابن المعتز أضاف إليه " بعض محاسن الكلام والشعر " لتكثر فائدة كتابه، فتحدث في الالتفات والاعتراض والرجوع وحسن الخروج وتأكيد المدح بما يشبه الذم وتجاهل العارف والهزل الذي يراد به الجد والتضمين والتعويض والكتابة والإفراط في الصنعة وحسن التشبيه، فكأنه كان يضع كتاباً في البلاغة، مصراً على أن لفظة " البديع " لا تتناول إلا الخمسة الأولى. والكتاب يمثل مع " البيان والتبين " النواة لعلم البلاغة العربية، ولا يمس النقد الأدبي إلا بطريقة عارضة، من حيث أن النقاد من بعد شغلوا أنفسهم ببعض هذا المصطلح البلاغي في تقويمهم للشعر. غير ان الروح التي أملت الكتاب كانت تمثل جانباً من الحركة النقدية في القرن الثالث، على نحو طريف معكوس، فبدلاً من إنصاف الشعر المحدث، ذهب ابن المعتز ينصف القديم، وعن
(1) حلية المحاضرة، الورقة: 9 (مخطوطة القرويين رقم: 590) .
(2)
المصدر السابق، الورقة:10.
هذه الطريق أكد أن البديع لم يكن بدعاً مستحدثاً، وغنما كان الفضل فيه للقدماء، فالبديع إذن جزء من الموروث الكبير، وهو بهذا ذو أصول راسخة، وليس العيب فيه وإنما العيب في الإفراط في استخدامه، والإفراط مذموم في كل الأمور.
لهج ابن المعتز بالبديع في مجالسه الخاصة
وقد عرف ابن المعتز بين أبناء عصره باللهج بالبديع والإحساس الدقيق في استكشاف نماذجه وبحثه عنها في الأدب العربي القديم، حتى كانوا يسلمون له السبق في هذا الميدان؛ قال فيه الصولي أنه " كان يتحقق بعلم البديع تحققاً ينصر دعواه فيه لسان مذاكراته " (1) . ويروي الحاتمي عن الصولي أن ابن المعتز سال بعض المجتمعين في مجلسه من فرسان الشعر: ما احسن استعارة للعرب اشتمل عليها بيت من الشعر؟ فقال الأسدي، قول لبيد:
وغداة ريح قد وزعت وقرة
…
إذ أصبحت بيد الشمال زمامها فجعل للشمال يداً وزماناً؛ قال أبو العباس (أي ابن المعتز) : هذا حسن وغيره أحسن منه، وقد أخذه من قول ثعلبة بن صعير المازني:
فتذكرت ثقلاً رثيداً بعدما ألقت ذكاء يمينها في كافر
قال: وقول ذي الرمة اعجب إلي منه وغن تأخر زمانه:
ألا طرقت مي هيوماً بذكرها
…
وأيدي الثريا جنح للمغارب وقال بعضهم: بل قول لبيد:
(1) حلية المحاضرة: الورقة 7 (رقم 590) .
ولقد حميت الحي تحمل شكتي
…
فرط وشاحي إذ غدوت لجامها فقال أبو العباس: هذا حسن، ولكن يعدل عنه إلى قول لبيد (الأول) ؛
وقال آخر: قول الهذلي:
ولو أنني استودعته الشمس لارتقت
…
إليه المنايا عينها ورسولها قال أبو العباس: هذا بديع، وأبدع منه في استعارة لطيفة الاسبيداع قول الحصين بن الحمام المري لأنه جمع الاستعارة والمقابلة في قوله:
نطاردهم نستودع البيض هامهم
…
ويستودعون السمهري المقوما فقال بعضنا: بل قول ذي الرمة:
أقامت به حتى ذوي العود في الثرى
…
ولف الثريا في ملاءته الفجر فقال أبو العباس: هذا لعمري نهاية الخيرة، وذو الرمة أبدع الناس استعارة، إلا أن الصواب " حتى ذوي العود والثرى - بواو النسق - لان العود لا يذوي ما دام في الثرى "(1) ؟؟ وهكذا استمر حضور ذلك المجلس يوردون استعارة بعد أخرى وابن المعتز في كل تعليقاته ينبئ عن ذوق فني دقيق في الحكم على أنواعها، وهو أمر يشير إلى الوجهة الفنية التي حفزت ابن المعتز إلى تأليف كتاب في البديع.
(1) حلية المحاضرة، الورقة 7 - 8 (رقم 590) .