الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
النقد الأدبي في القرن الخامس
النقد الأدبي في القرن الخامس
طريق الشعر في القرن الخامس
حين شبه ابن وكيع الشاعر الذي يتطلبه العصر (أواخر القرن الرابع) بالمطرب ذي الصوت الجميل دون الحجة به إلى معرفة الألحان، وعلل ذلك بزهد الناس في الأدب " في هذا العصر "، كان يشير إلى حقيقتين: إحداهما أن التيار الذي يراد للشعر أن يسير فيه - عن شاء أن يجد قبولاً - هو المضي في طريق السهولة والسطحية والعفوية والملاحة الموسيقية ومباشرة الموضوعات القريبة إلى النفوس والافهام، والثانية أن الذوق الأدبي في أواخر القرن الرابع كان يعاني أزمة تحول، وان هذه الأزمة ستشتد في القرن الخامس؛ ولن تكون هذه الأزمة في معظمها حول هذا الشاعر أو ذاك بل ستكون حول مجموع الخصائص التي تمثل حقيقة الشعر.
لماذا خلق المتنبي أزمة في الشعر والنقد
وكان المتنبي نفسه هو سر تلك الأزمة: فقد كان المنتظر حسب طبيعة الأشياء أن يكون شعراء القرن الرابع - أو المتميزون منهم - (بالإضافة إلى من قبلهم من شعراء العصور السابقة) هم محور النقد الذي سيدور في القرن الخامس؛ ولكن حقيقة النقد في هذا القرن تشير إلى ان ذلك الحشد الكبير الذي جمعه الثعالبي في اليتيمة لم ينل من النقاد إلا إشارات عابرة، تصلح أحياناً للتمثيل أو المقارنة السريعة، ولكن لم يصب أحداً منهم دراسة، ولا قامت أية موازنة بين اثنين منهم، ولا استكشف لهم شيء من المحاسن؛
وظل المتنبي يسيطر على تصور النقاد: إما وحده وإما مقترناً بابي تمام والبحتري، وغما مقترناً بقدامى الفحول من جاهليين وإسلاميين. وإذا كان ابن وكيع صادقاً في تصوره لأزمة عصره، فأن هذه الظاهرة نفسها تقول إن القرن الخامس سيشهد انفصالاً أوسع من ذي قبل بين الشعر والجماهير، وأن الجمهور الذي سيظل اهتمامه بالأدب حياً يمثل قلة من طبقة المثقفين بالثقافة الأدبية، وأن الذوق العام سيتطلب بعد ذلك غذاءه الأدبي في تيار شعري آخر (أو تيارات أخرى) ؛ فأما تقلص الجمهور فيكفي في تصويره أن نتذكر أن أبا العلاء المعري كان يمثل القطب الأدبي في النصف الأول من القرن وان الحريري كان هو القطب في النصف الثاني منه؛ وأما غذاء الذوق العام في تيارات شعرية أخرى فيقتضي النظر لا في القرن الخامس وحده بل في القرن التالي وما بعده؛ حيث يطالعنا ناقد يلمس بإحساسه العميق أن الشعر قد فقد محوره منذ قرنين، ذلك هو حازم القرطاجي الذي يقول:"؟ هو الذي ران على قلوب شعراء المشرق المتأخرين وأعمى بصائرهم عن حقيقة الشعر منذ مائتي سنة، فلم يوجد فيهم على طول هذه المدة من نحا الفحول ولا من ذهب مذاهبهم في تأصيل مبادئ الكلام وإحكام وضعه وانتقاء مواده التي يجب نحته منها، فخرجوا بذلك عن مهيع الشعر ودخلوا في محض التكلم "(1) .
وحين نقول إن المتنبي سر تلك الأزمة لا نعني انه صنعها عامداً، ولكنها حدثت بسببه من ناحيتين، اولاهما انه لم يأت بعده من يخلفه في وقفته الأدبية الشاهرة، صحيح إن المعري كان عبقري خلاقة برى، ولكن طبيعة أدبه باعدت بينه وبين الكثيرين، فعمقت الأزمة بدلاً من أن تحلها، وكانت الغرابة سوراً بينه وبين المثقف الوسط، كما كانت تهمة الزندقة - وهي تهمة باطلة - حجازاً بينه وبين نفسية الجماهير، فإذا قلنا إن موقف المعري كان
(1) منهاج البلغاء: 10.
تمسكاً مجدداً بالمتنبي أدركنا لماذا لم يستطع أن يساعد على حل الأزمة في القرن الخامس؛ وأما الناحية الثانية: فهي أن ما حققه المتنبي كان خطير النتائج، يشبه الورطة المنطقية، ولبيان ذلك أقول إنه حقق - في أقل تقدير - ثلاثة أمور:
1 -
عودة إلى النزعة البدوية في الروح وإلى البداوة في الأسلوب (وكانت هذه إحدى طرقه لليقظة العربية) .
2 -
تمثيل منتهى ما بلغه عصره من عمق فكري (تجريبي أو فلسفي تجريدي) .
3 -
محو الفارق بين الشعر والخطابة بتساو عجيب دون تغليب أحدهما على الآخر.
وتتفاوت هذه العناصر في ظهورها في قصائده، ولكنك حين تقرا مثل قوله يستعطف سيف الدولة عل بني كلاب تحس بها مجتمعة في تساند لا يختل.
ترفق أيها المولى عليهم
…
فإن الرفق بالجاني عتاب
وكم ذنب مولده دلال
…
وكم بعد مولده اقتراب
وجرم جره سفهاء قوم
…
وحل بغير جارمه العذاب وكان هذا يجتمع إلى إحساس داخلي بان الشعر لا يمكن ان يتفوق على ذاته بعدها، ولو كنا نضع على ألسنة متذوقي شعره مصطلحنا النقدي لقلنا إن الإحساس بالوحدة والتكامل الذي كان يحسه قارئ قصيدته، كان يدفع إعجاب القارئ إلى منطقة الحيرة والذهول، وما لنا نبعد في تصوير هذه الحقيقة وهي التي ملكت على المعري وجدانه حتى سمى ديوان المتنبي " معجز احمد ". وقد حاول كل من الشريف الرضي والمعري أن يقتفي
آثاره في نزعته البدوية، وحاول المعري أن يحاكيه في نقل فلسفته من خلال الشعر، فنجح نجاحاً اقل، لضيق نطاق التجربة " الحياتية ". ولهذا لا نستغرب أن يظل النقد في مطالع القرن الخامس يتخذ المتنبي محوراً، فيكتب محمد بن جعفر القزاز القيرواني (- 412) كتابه " ما اخذ على المتنبي "، ويدرسه الثعالبي ويهاجمه العميدي، ويشرح ابن فورجة والمعري لنشوء النظرية والتبريزي وابن الافليلي وابن القطاع ديوانه؛ ثم أن يكون الموجه لنشوء النظرية النقدية الجديدية في القرن الخامس هو طبيعة شعره؛ اعني مقياس " البداوة " الذي نجده عند الشريف المرتضى، فأبيات أبي نواس " كان الشباب مطية الجهل " يقال فيها:" وعلى هذا الكلام طلاوة ومسحة من أعرابية ليست لغيره "(1) ؛ وما نظن أبا نواس الذي كان يمقت الأعراب يرضى عن هذا المقياس لو سمع به. أو يقول المرتضى في أبيات لأخيه: " هذه أبيات ناصعة رائقة عليها مسحة من أعرابية وعبقة من بدوية " منهاج البلغاء: 10. (2) .
نمو التضايق من غلبة الذوق المحدث
وتحت وطأة هذا الاتجاه غلب الإحساس الذي أحسه الخالديان ذات يوم في أواخر القرن الرابع بالضيق من طغيان الذوق المحدث، والدعوة للعودة إلى القدماء، وكان للمعري أثره في هذا النطاق، فاقبل الناس على تدارس الشعر الجاهلي والمخضرم، وتصدى الشراح لشرحه، فقام المرزوقي بشرح الحماسة وقام التبريزي بشرح الحماسة والمعلقات والمفضليات، وشرح الزوزني المعلقات السبع؛ ووصلت هذه الموجة إلى الأندلس، فقام علماؤها بشرح الحماسة والأشعار الستة، وألف الأعلم حماسة جديدة تمثل الشعر القديم. وعبر المعري الناقد - من خلال انشغاله باللغة والنحو والعروض - عن بعض ضيقه بالشعر المحدث: " وقد سمعت في أشعار المحدثين إلي وعلي وهو دليل
(1) أمالي المرتضى 1: 607.
(2)
طيف الخيال: 97.
على ضعف المنة وركاكة الغريزة " (1) ؛ وعندما رأى كلمة " نودي " بتسكين الياء قال: لا احب ذلك وإن كان جائزاً، وإنما يوجد في أشعار الضعفة من المحدثين (2) ؛ بل إنه عندما تحدث عن العروض فرق في ذلك بين الفحول وشعراء المدن فذهب إلى أن البسيط والطويل اشرف الأوزان وعليهما جمهور شعراء العرب؛ وان المديد وزن ضعيف لا يوجد في اكثر دواوين الفحول؟ وإن الأوزان القصار إنما توجد في أشعار المكيين والمدنيين كعمر بن أبي ربيعة ومن جرى مجراه كوضاح اليمن والعرجي ويشاكلهم في ذلك عدي بن زيد لأنه كان من سكان المدر بالحيرة (3) .
إحساس الناقد بأزمة في الابتكار والتوليد
وعلى ضوء هذا التاريخ الأدبي الذي ينتهي بأبي الطيب ولا يعدوه إلا قليلاً أحس بعض النقاد بان القرن الخامس يعاني فقراً في الابتكار والتوليد (والمعري خارج هذه الصورة) ؛ قال ابن رشيق: " وان قال قائل ما بالكم يا معشر المتأخرين كلما تمادى بكم الزمان قلت في أيديكم المعاني وضاق بكم المضطرب؛ قلنا: أما المعاني فما قلت، غير أن العلوم والآلات ضعفت، وليس يدفع أحد أن الزمان كل يوم في نقص وان الدنيا على آخرها، ولم يبق من العلم إلا رمقه، معلقاً بالقدرة، ما يمسكها إلا الذي يمسك السماء أن تقع إلى الأرض غلا بإذنه "(4) . فبان رشيق يرى أن ضعف الطلب (أي قلة إقبال الناس على الثقافة، وضعف الآلة (أي تخلي الطبع والدربة والذكاء عن أصحابها) هما السبب في ندرة التجديد في المعاني. ويحتج ابن رشيق لرأيه هذا بأن المعاني ظلت تتوسع على مر الزمن، فكانت معاني الإسلاميين زائدة على معاني القدماء والمخضرمين حتى كثرت الابتداعات والتوليدات
(1) رسالة الغفران: 448.
(2)
المصدر نفسه: 574.
(3)
الفصول والغايات: 212.
(4)
العمدة 2: 184 - 185.
في شعر جرير والفرزدق، ثم جاء بشار وأصحابه فزادوا معاني لم تخطر ببال جاهلين ثم كان ابن الرومي وشانه في المعاني شأنه، ويعقب على ذلك بقوله:"؟ إنني ذممت إلى المحدثين أنفسهم في أماكن من هذا الكتاب وكشفت لهم عوارهم ونعيت لهم أشعارهم، ليس هذا جهلاً بالح ولا ميلاً إلى بنيات الطريق، لكن غضاً من الجاهل المتعاطي والمتحامل الجافي الذي إذا أعطى حقه تعاطى فوقه، وادعى على الناس الحسد، وقال: أنا ولا أحد، وإلى كم أعيش لكم. وأي علم بين جنبي لو وجدت له مستودعاً، فإذا عورض في شعره بسؤال عن معنى فاسد، أو طولب بحجة في لجنة أو شاذ، أو نوظر في كلمة من ألفاظ العرب مصحفة أو نادرة. قال: هكذا اعرف، وكأنما أعطى جوامع الكلم؛ حاش لله، واستغفر الله، بل هو العمى الأكبر والموت الأصغر، وبأي إمام يرضى، أو إلى أي كتاب يرجع وعنده أن الناس أجمعين بضعة منه، بل فضلة عنه "(1) .
القلق من الربط بين الشعر والتكسب
وازداد إحساس الناقد الشاعر في القرن الخامس، بمشكلة طال بها الغناء، أهدرت كثيراً من الجهد في تاريخ الشعر العربي، وأعني بها العلاقة بين الشعر والتكسب؛ حتى أصبحت عنصراً من العناصر التي يسوقها من يهجنون الشعر ويفضلون عليه النثر، في حجاجهم؛ وقد كان النظر إليها من الزاوية المثالية سهلاً على شاعر ناقد كالمعري، لم يبتذل شعره من اجل الكسب، والتزم الزهد والتعفف مبدأ صارماً، ولذلك تجده يسخر من هذا الموقف في حياة الشعر، فيدفع بطل رسالة الغفران (الشيخ ابن القارح) إلى ممارسة المدح على مختلف القوافي ليكون شعره شفيعاً له لدى رضوان وزفر الواقفين على بابين من أبواب الجنة، فإذا سئل الشيخ: ما الشعر - بلهجة الاستغراب - قال: " كان أهل العاجلة يتقربون به إلى الملوك والسادات "(2) ؛
(1) العمدة 2: 185.
(2)
رسالة الغفران: 242 - 243.
أما الناظر إلى تلك المشكلة من الزاوية الواقعية فكان لابد أن يتذرع لمواجهتها بشيء من الحيلة، إذ غدا أمراً مستعصياً؛ ولهذا نرى ابن رشيق يتناولها على مستويات مختلفة: فإذا استطاع الشاعر أن يقول الشعر بدوافع ذاتية ولم بقله رغبة أو رهبة أو مدحاً أو هجاء فذلك زائد في أدبه شاهد بفضله؛ ولكنه إذا لم يستطع ذلك وكان ضئيل المنزلة فاحب أن يرتفع فيها فنال بشعره الرتب واتصل بالملوك فليس ذلك بدعاً مستغرباً منه؛ أما المعيب فهو أن يكون الرجل سرياً شريفاً فيصنع الشعر ليتكسب به المال دون غيره وهو يعلم أن الشعر " أبقى من المال وانفس ذخائر الرجال " فذلك إذا مدح من فوقه سمي ضارعاً، وإذا مدح مساويه نزل عن درجة المساواة، وإذا هجا من دونه ضل ضلالة وتم خزيه (1) ؛ ويقرر ابن رشيق مبدأ للتكسب - وهو عارف بفضل التعفف الذي مارسه كثير من الشعراء ممن " وقر نفسه وقارها وعرف لها مقدارها حتى قبض نقي العرض مصون الوجه ما لم يكن به اضطرار تحل به الميتة فأما من وجد البلغة والكفاف فلا وجه لسؤاله بالشعر "(2) - ويعتمد هذا المبدأ على التساهل في أخذ الشعراء من الملوك والرؤساء الجلة (كما فعل النابغة وزهير) ، والشعراء في ذلك معذورون أكثر من أهل الورع والفتيا، فأما الذميم فهو مسلك الحطيئة (فقبح الله همته الساقطة - على جلالة شعره وشرف بيته - وقد كانت الشعراء ترى الأخذ ممن دون الملوك عاراً فضلاً عن العامة وأطراف الناس " (3) . وقد كانت هذه الوقفة، سواء في نهكم المعري أو في تسويغ ابن رشيق، يقظة قصيرة المدى على الحال الزرية التي بلغها ارتباط الشعر بعطف السادة والكبراء وكل من يستطيع أن يمد يد الإحسان للشعراء؛ ولذا كانت اضعف من أن تكسر القيود المستحكمة، التي طال عليها الامد، وأصبح الخلاص منها - بحكم الأوضاع الاقتصادية -
(1) العمدة 1: 21.
(2)
العمدة 1: 51.
(3)
العمدة 1: 52، وانظر 21 أيضاً.
شيئاً يشبه المستحيل؛ وإذا كان أثرها في الشعر أوضح فإن أثرها في النقد غير معدوم، وحسبك أن تسمع ناقداً مثل ابن رشيق نفسه ما يزال يبني كثيراً من قواعده النقدية على آداب اللياقة في مجالس الممدوحين، ولو انه آمن بان انكسار الحلقة السحرية ممكن لما كان بحاجة إلى تكرار تلك القواعد؛ كذلك فإنه يوجه آراءه في النقد بوحي من ذلك الموقف الاجتماعي، فينقل عن أستاذه عبد الكريم النهشلي قوله:" قالوا: حسن البلاغة ان يصور الحق في صورة الباطل والباطل في صورة الحق، ومنهم من يعيب ذلك المعنى ويعده إسهاباً وآخر يعده نفاقاً " ويرد على الجزء الأخير من هذا الحكم بقوله:
" والذي أراه أنا أن هذا النوع من البيان غير معيب بأنه نفاق لأنه لم يجعل الباطل حقاً على الحقيقة ولا الحق باطلاً وإنما وصف محاسن كل شيء مرة ثم وصف مساويه مرة أخرى "(1) ؛ وكان ابن رشيق يدرك ان الحرية التي ينالها الشاعر ذات مسئوليات كبيرة ولذلك نجده يسرع إلى إنكار مسئولية الشاعر تجاه ما يؤمن به من مبادئ: " وما للشاعر والتعرض للحتوف، وإنما هو طالب فضل "(2) فقوله " طالب فضل " يفسر أن الاستمرار في العبودية الاقتصادية مأمنه من كل ثورة على الأخطاء " وكل شيء يحتمل إلا الطعن على الدول "(3) ؛ وهذا هو التيار النقدي الشعري الذي كتبت له الغلبة في عصر كان أبو العلاء يقول فيه:
مل المقام فكم أعاشر أمة
…
أمرت بغير صلاحها امراؤها
ظلموا الرعية واستجازوا كيدها
…
وعدوا مصالحها وهم إجراؤها
(1) العمدة 1: 165.
(2)
العمدة 1: 45.
(3)
نفس المصدر.
عودة إلى التمرس بالقضايا المقدسة القديمة
وحين اخفق الشعر في أن يجد طريقه الصحيحة وغايته أخفق النقد في التطور إلى مستويات جديدة، ولذلك كرر الحديث عن عمود الشعر - مع تطوير جزئي فيه - وعن المفاضلة بين النثر والشعر، وعن السرقات - في مجال القواعد والتطبيق - وعن المطبوع والمصنوع، ومبدأ " الكذب والصدق " في الشعر وعن انقسام النقاد في عصبيتهم للفظ أو المعنى وعن شئون البديع وعلاقتها بالمستوى البلاغي، وعن عناصر أخرى شكلية في طبيعة العمل الفني، وبدا ان الوصول إلى نتائج جديدة لا يتعدى أموراً جزئية.
انشطار النقاد في قسمين إزاء المشكلات النقدية
ومما يلفت النظر هذا التباين الواضح الذي استمر مريره بين النقاد، على شكل يوحي بوجود تيارين متوازيين متباعدين على الدوام، فبينا يقف المرزوق ليبين فضل النثر على الشعر، يقف ابن رشيق ينادي بأفضلية الشعر، فكأنهما يعيدان طبيعة الموقف في القرن الرابع دون أن يحسا بقلة جدوى ما يفعلان؛ وبينا يمعن العميدي في الكشف عن سرقات المتنبي سائراً في خط الحاتمي وابن وكيع، تجد الشريف المرتضي يذهب الجرجاني في تحريم القول بالأخذ والسرقة:" ليس ينبغي لأحد أن يقدم على أن يقول أخذ فلان الشاعر هذا المعنى من فلان، وإن كان أحدهما متقدماً والآخر متاخراً، لانهما ربما تواردا من غير قصد ولا وقوف من أحدهما على ما تقدمه الآخر إليه، وإنما الإنصاف أن يقال: هذا المعنى نظير هذا المعنى ويشبهه ويوافقه، فأما أخذه وسرقه فما لا سبيل إلى العلم به، لأنهما قد يتواردان على ما ذكرناه، ولم يسمع أحدهما بكلام الآخر، وربما سمعه فنسيه وذهب عنه ثم اتفق له مثله من غير قصد، ولا يقال أيضاً أخذه وسرقه إذا لم يقصد إلى ذلك "(1) ؛ وكذلك أشبه المرتضى الجرجاني والآمدي في قوله عن هناك معاني متداولة مألوفة لا تؤخذ ولا
(1) الشهاب: 7.
تسرق، وزاد قوله إنه يجب ألا يحكم الناقد لمعنى من المعاني بالسبق والتفرد لأنه لا يأمن أن يكون هذا المعنى قد ورد في شعر لم يبلغه " فإن الخواطر لا تضبط ولا تحصر، ومن ذا الذي يحيط علماً بكل ما قيل وسط وذكر "(1) .
وإذ نجد نقاداً مثل ابن شرف يلتمسون كل وسيلة لإلصاق الخطأ بالشاعر نجد الشريف المرتضى ميالاً إلى التساهل لان الشاعر لا يبني كلامه على التحقيق والتحديد " وكلام القوم مبني على التجوز والتوسع والإشارات الخفية والإيماء على المعاني تارة من بعد وتارة من قرب، لأنهم لم يخاطبوا بشعرهم الفلاسفة وأصحاب المنطق، وإنما خاطبوا من يعرف أوضاعهم ويفهم أغراضهم "(2) .
الاختلاف حول مشكلة اللفظ والمعنى
ومع أن اكثر نقاد القرن الخامس يميلون إلى التوفيق بين اللفظ والمعنى فإنك تجدهم في حيرة شديدة من أمرهم لأنهم لم يهتدوا إلى قاعدة صحيحة تنجيهم من التردد، فالمرتضى يقول:" وحظ اللفظ في الشعر أقوى من حظ المعنى "(3)، وأخوه الرضي يقول:" إن الألفاظ خدم للمعاني لأنها تعمل في تحسين معارضها وتنميق مطالعها "(4) ، والمرزوقي ينادي بائتلافهما، وابن رشيق يدرك انقسام الناس حولهما، ثم تجده يقول:" وأما ابن الرومي فأولى الناس باسم شاعر لكثرة اختراعه وحسن افتنانه "(5) ، حتى إذا أخذ في النقد كان ميله إلى ناحية الشكل أظهر؛ ويمثل ابن الرومي مشكلة يتباين حولها الرأي، فبينا يعتبر ابن رشيق من المعجبين به لكثرة اختراعه
(1) طيف الخيال: 89.
(2)
أمالي المرتضى 2: 95.
(3)
الشهاب: 79.
(4)
التلخيص: 244.
(5)
العمدة 1: 194.
نجد المرتضى يعد أن طريقته مخالفة للطريقة الصحيحة لأنه " يورد المعنى ثم يأخذ في شرحه في بيت آخر وإيضاحه وتشعيبه وتفريعه، فربما اخفق واكدى وربما أصاب فأصمى، لأن الشعر إنما تحمد فيه الإشارة والاختصار والإيماء إلى الأغراض وحذف فضول القول "(1) ، ويمكن القول بأن نقاد القرن الخامس قد أكدوا استكشاف ابن الرومي بعد أن نسيه الناس لانشغالهم بالحديث عن البحتري وأبي تمام والمتنبي (2) . وعلى الجملة تغلب أنصار نظرية الائتلاف بين اللفظ والمعنى، وفي ظل فكرة الإعجاز دفع عبد القاهر بنظرية الائتلاف إلى نهايتها تحت اسم " النظم ".
استقواء التيار الأخلاقي
ونجم عن اللامسئولية العابثة في ميدان الشعر استقواء تيار أخلاقي في النقد، وبخاصة حيث اقترن الشعر بالفقه أو اقترن بالفلسفة الأفلاطونية في الأندلس. وفي مثل هذا الجو النقدي يتجلى لنا أن محاولة ابن سينا في توضيح " كتاب الشعر " لأرسطو، ما كان في إمكانها أن تثير شيئاً جديداً، حتى ولو فهمت آراء ارسطو فهماً مقارباً للأصل؛ لقد كان يمكن لابن حزم الأندلسي أن يفيد من هذا الكتاب، لو وصله أو لم فهمه، ولكن يبدو انه لم ير هذا الكتاب، أو انه رآه فاستبعد انطباقه على الشعر العربي.
اتساع المجال الجغرافي في نقد القرن الخامس
وأياً كان الأمر فإن الناظر إلى النقد الأدبي في القرن الخامس يجد ان المجال الجغرافي أمامه قد اتسع، غذ شاركت فيه الأندلس والقيروان بنصيب؛ وأنه شهد قالباً قد نعده جديداً - إذا استثنينا المقامة الجاحظية للبديع - وهذا هو " المقامة النقدية " - وهي شكل يدل على الضيق بالتحليل ويحاول إيجاز النظرات العامة وترسيخها في نفوس الدارسين؛ ولا ريب في أن بعض
(1) الشهاب: 39.
(2)
قد اعتنى الخالديان بشعر ابن الرومي واختيراه في القرن الرابع.
جوانب النقد في هذا القرن تتمتع بقسط من الحيوية غير إنها حيوية نابعة من شخصيات الناقدين أمثال المرزوقي وعبد الكريم النهشلي وابن رشيق وابن شهيد، لا من الجدة في الآراء والنظرات النقدية.
منهجنا في دراسة النقد في ذلك القرن
وقد كان من الممكن أن نقسم دراستنا لهذا المحصول النقدي تحت مناهج مختلفة ولكن إيثاراً للتبسيط ندرسها حسب الأقاليم، فنتناول النقد في مصر والمشرق وهو يشمل:
(1)
استمرار المعركة النقدية حول المتنبي.
(2)
نظرية عمود الشعر في صورتها المكتملة.
(3)
النقد العربي وكتاب الشعر.
(4)
النقد وفكرة الإعجاز.
فإذا انتهينا من دراسة هذه المظاهر، توجهنا لدرس النقد في كل من الأندلس والقيروان، وبذلك تكتمل صورة النقد في القرن الخامس، إلا أن يجد في مصادرنا شيء جديد.
- 1 -
استمرار المعركة النقدية حول المتنبي
طبيعة الجهد الذي دار حول المتنبي
قد ذكرنا في مقدمة الحديث عن نقد القرن الخامس أن المتنبي ظل محور جهود نقدية متباينة في البيئات الثلاث: البيئة المشرقية (ومنها مصر) ، والأندلس، والقيروان. ولكن المعركة في القرن الرابع كانت قد استغرقت أكثر الأمور الريسية التي أثيرت حوله، فلم يكن جهد النقاد في مطلع القرن الخامس سوى تقرير ما سبق على نحو من التنسيق - كما فعل الثعالبي - أو على نحو من التعميق لمجال سرقاته - كما فعل العميدي -. غير أن ظاهرة الشرح لديوانه هي إبراز الظواهر في هذا القرن فقد تعاقب على شرحه سبعة من أكابر الشراح. وهذه الشروح - بطبيعة الحال - تتعمد توضيح المعاني، ويتفاوت اهتمام أصحابها في توجيه الأعراب والاتيان بالشواهد؛ وأكثرها يتخذ من شرح ابن جني أساساً للرد عليه أو لاستخراج رأي آخر مخالف لرأيه - وخاصة شرحا ابن فورجة فإنهما رد مباشر على ابن جني - ولذا فهي تصلح بعد الدراسة المقارنة للكشف عن طبقات القراءة المتفاوتة لشعر المتنبي. ولكن قل أن نجد فيها أحكاماً نقدية تتعدى النص على جمال استعارة أو خطأ تشبيه أو نقد لغوي أو نحوي.
وسنكتفي هنا بدراسة ما يمثل هذه الصورة العامة بين النقاد المتفاوتين الذين اتخذوا المتنبي محوراً لدراستهم:
أبو منصور الثعالبي (- 429)
أين يقف الثعالبي في النقد؟
لا يعد الثعالبي في النقاد، لأن كتبه التي تتصل بالشعر لا تتصور إلا ذوقاً فردياً خالصاً، من العسير تبين أساس نقدي له، سوى إعجابه باللون الحضري في أشعار معاصريه، على تباين تلك الأشعار في موضوعاتها وصياغتها -؛ وعلى الرغم من انه ذكر شعراء عصره في اليتيمة - وهي أوضح كتبه من حيث الأسس النقدية على حسب الاقاليم، فمن الكثير عليه أن يقال: إنه فعل ذلك إدراكاً منه لاختلاف الشعراء باختلاف بيئاتهم. صحيح أنه ميز شعراء الشام بأنهم أشعر من شعراء عرب العراق وما يجاورها في الجاهلية والإسلام وعلل ذلك بقربهم من خطط العرب، ولا سيما أهل الحجاز، وبعدهم عن بلاد العجمة وسلامة ألسنتهم من الفساد العارض لألسنة أهل العراق لمجاورة الفرس والنبط، وبجمعهم بين الفصاحة البداوة وحلاوة الخضارة، وبوجود أمراء شغوفين بالأدب يحبون الشعر وينتقدونه (1) . ولكن هذا (حتى لو أقررنا بصحته) لم يكن هو الأساس الذي جعله يفرد باباً لشعراء الحبال وفارس وجرجان وطبرستان، وآخر لأهل خراسان وما وراء النهر؛ وإنما وجد ان التأليف بحسب القسمة الإقليمية اسهل في حصر أسماء المعاصرين فاعتمده. ولو كان اختلاف البيئة مقياسه في النظرة النقدية لما خلط بين شعراء مصر والمغرب والأندلس وترجم لهم في نطاق واحد.
وقد شرط على نفسه ألا يورد - في الصورة الأخيرة من اليتيمة (2) - إلا " لب اللباب وحبة القلب وناظر العين ونكتة القلب وواسطة العقد "(3)
(1) اليتيمة 1: 24 - 25.
(2)
بدأ الثعالبي تأليف اليتيمة سنة 384 ثم كثرت لديه المادة فغير ترتيب الكتاب، ووضعه في هذا الشكل الذي نطالعه اليوم.
(3)
اليتيمة 1: 20.
إلا أن تكون أبياتاً لا يمكن حذفها لاعتماد المعنى عليها، أو تكون لأحد الكبراء فهي تشرف بالانتساب إليه؛ ومع ذلك فإما أن يكون الثعالبي قد أخل بالشرط، أو تكون الأذواق قد تغيرت، منذ عهده حتى هذا العصر، فلم تعد واسطة العقد كما كانت، بل أصبحت حبة من الخرز الرخيص.
إعجابه بالمتنبي
ولكنا نتحدث عن الثعالبي - في هذا المقام - لأنه عقد في كتابه فصلاً عن المتنبي، يعد كتاباً قائماً بنفسه، وهو مختلف عن بقية فصول الكتاب، بما جوى من مادة نقدية؛ فالثعالبي معجب بالمتنبي " نادرة الفلك وواسطة عقد الدهر في صناعة الشعر "(1) ، ولكنه كان قد قرا عنه رسالة الصاحب بن عباد، وكتاب الوساطة للجرجاني، وشرح ابن جني للديوان، ولعله قرا كتباً أخرى أيضاً وسمع أخباراً شفوية عنه من الخوارزمي الذي عاش مدة من الزمن في بلاط سيف الدولة.
الجديد في دراسة الثعالبي للمتنبي
وتمتاز دراسة الثعالبي بأشياء جديدة لم نجدها فيما ألف عن المتنبي من قبل، منها:
(1)
معانيه التي حلها الكتاب في رسائلهم، مثل الصاحب والصابي والضبي والخوارزمي.
(2)
نماذج من المعاني التي سرقها منه الشعراء.
(3)
المعاني التي كررها في شعره.
(4)
التوسع في ضروب محاسنه، وفي هذه الناحية لم يقف عند حدود حسن المطالع والخروج والتخلص بل لمح أشياء في الموضوع أجاد فيها المتنبي
(1) اليتيمة 1: 126.
كالغزل في الأعرابيات، وحسن التصرف في أنواع الغزل، والإبداع في التشبيه والتمثيل والمدح الموجه، ومخاطبة الممدوح مخاطبة المحبوب أو الصديق، واستعمال ألفاظ الغزل في أوصاف الحرب. والمعاني المبتكرة، هذا إلى كثرة الأمثال السائرة والحكم وغير ذلك من مميزات.
عيوب المتنبي كما عدها النقاد السابقون
أما حديثه عن عيوبه فأكثر اعتماده فيه على رسالة الصاحب ولذا تجده عد من عيوبه: قبح المطالع وإتباع الفقرة الغراء بالكلمة العوراء: " والإفصاح بذلك في شعره عن كثرة التفاوت وقلة التناسب وتنافر الأطراف وتخالف الأبيات وما أكثر ما يحوم حول هذه الطريقة ويعود لهذه العادة السيئة ويجمع بين البديع النادر والضعيف الساقط؟ "(1) ؛ كذلك عد من عيوبه استكراه اللفظ وتعقيد المعنى والخروج عن الوزن واستعمال الغريب الوحشي والإفراط في الاستعارة، والاستكثار من " ذا " الإشارية والإفراط في المبالغة إلى غير ذلك من عيوب استمد تحديدها وأمثلتها من الصاحب والقاضي الجرجاني.
هل ضعف العقيدة عيب في الشاعر؟
ولما عد من عيوبه أن في شعره ما بفصح عن ضعف العقيدة ورقة الدين، كرر قول القاضي:" على أن الديانة ليست عياراً على الشعراء، ولا سوء الاعتقاد سبباً لتأخر الشاعر " إلا انه عدل في هذا الحكم الذي كان القاضي قد أطلقه دون تحديد، فدل بذلك على انه يحاول أن يجعل للدين تدخلاً في المقياس الأدبي حين قال:" ولكن للإسلام حقه من الإجلال الذي لا يسوغ الإخلال به قولاً وفعلاً ونظماً ونثراً، ومن استهان بأمره ولم يضع ذكره وذكر ما يتعلق به في موضع استحقاقه فقد باء بغضب من الله تعالى وتعرض لمقته في وقته "(2) .
(1) اليتيمة 1: 163 - 164.
(2)
اليتيمة 1: 184.
عيوب أخرى
وهناك عيوب أخرى عدها الثعالبي مثل: الغلط بوضع الكلام في غير موضعه، وامتثال ألفاظ المتصرفة، والخروج عن طريق الشعر إلى الفلسفة واستكراه التخلص وقبح المقاطع، وكلها مما تردد عند الصاحب والقاضي الجرجاني. غير أن الثعالبي حين عقد فصلاً لسرقات المتنبي ذكر انه يتحاشى ما جاء به القاضي في الوساطة، وأنه يحاول أن يدل على سرقات أخرى، وربما اعتمد في ذلك على مصدر آخر.
من كل ما تقدم نستطيع ان ننصف الثعالبي حين نقول انه ليس يعد في النقاد، ولا حتى في مؤرخي الأدب، ولولا فصله عن المتنبي، لكان أدراجه في باب النقد تزيداً لا يجد له مسوغاً.
أبو سعد محمد بن احمد العميدي (- 433)(1)
لمحة عن جهود العميدي في الأدب والنقد
شهر العميدي بالنحو واللغة ولكن توليه ديوان الإنشاء بمصر في أيام المستنصر، وأسماء مؤلفاته كل ذلك يدل على درجة في الكتابة والأدب عامة، فمن كتبه " كتاب تنقيح البلاغة " رآه ياقوت وذكر انه في عشر مجلدات، وكتاب " الإرشاد إلى حل المنظوم والهداية إلى نظم المنثور "؛ كذلك اهتم بالعروض والقوافي وله فيهما مؤلفان؛ وقد انفرد القفطي بذكر كتابه في " سرقات المتنبي " وقال: وهو كتاب حسن يدل فيه على اطلاع كثير.
(1) ترجمته في معجم الأدباء 17: 212 والوفي 2: 75 (رقم: 382) وبغية الوعاة: 19 وأنباء الرواة 3: 46 وفيه انه توفي سنة 443.
ما معنى كتابة الإبانة بعد تأليف " المنصف "؟
وهذا الذي ذكره القفطي هو رسالته التي تسمى " الإبانة عن سرقات المتنبي "(1) وهي تجري مجرى " المنصف " في دواعيها وغايتها، فإما أن مؤلفها لم يطلع على كتاب ابن وكيع، وغما أنه اطلع عليه ووحد لدى نفسه زيادة استقصاء في تبيان سرقات المتنبي أحب إثباتها في رسالة؛ وتبرهن هذه الرسالة على أن الإعجاب بابي الطيب في البيئة المصرية لم يؤثر فيه كتاب " المنصف " شيئاً وأنه استمر بعد ابن وكيع سنوات كثيرة، ظل المعجبون بالمتنبي في خلالها مثار نقمة كبيرة لدى خصومهم:" ولقد جرى يوماً حديث المتنبي في بعض مجالس أحد الرؤساء، فقال أحد حاملي عرشه: سبحان من ختم بهذا الفاضل الفحول من الشعراء وأكرمه، وجمع له من المحاسن ما بعثره في كل من تقدمه، ولو أنصف لعلق شعره كالسبع المعلقات من الكعبة، ولقدم على جميع شعراء الجاهلية في الرتبة، ولكن حرفة الأدب لحقته، وقلة الإنصاف محت اسمه من جرائد المتقدمين ومحقته "(2) ؛ كانت المشكلة التي يريد إقرارها المعجبون بابي الطيب انه " أشعر شاعر " عرفته العربية، فيفزع العميدي - كما فزع ابن وكيع - إلى حكم الذوق المألوف حينئذ فيحطه عن درجة أبي تمام والبحتري، ويزيد على صاحبه بتفضيل مسلم بن الوليد وابن الرومي عليه. هذا مع أنه كصنوه ابن وكيع لا ينكر أنه شاعر قدير: " ولست - يعلم الله - اجحد فضل المتنبي وجودة شعره وصفاء طبعه وحلاوة كلامه وعذوبة ألفاظه ورشاقة نظمه، ولا أنكر استكماله لشروط الأخذ إذا لحظ المعنى البديع لحظاً، واستيفاءه حدود الحذق إذا سلخ المعنى فكساه من عنده لفظاً، ولا أشك في معرفته بحفظ التقسيم الذي يعلق بالقلب موقعه، وإيراد التجنيس الذي يملك النفس مسمعه،
(1) نقلها البديعي في الصبح المنبي، ونشرت منفردة (في طبعة غير مؤرخة) ثم نشرت ثانية بتحقيق إبراهيم الدسوقي (دار المعارف بمصر 1961) .
(2)
الإبانة: 21.
ولحاقه في إحكام الصنعة ببعض من سبقه، وغوصه على ما يستصفي ماءه ورونقه، وسلامة كثير من أشعاره من الخطل والزلل والدخل والنظام الفاحش الفاسد والكلام الجامد البارد والزحاف القبيح المستشنع، واللحن الظاهر المستبشع، وأشهد انه على درجة أمثاله غير نازل ولا واقع، وأعرف انه مليح الشعر غير مدافع " (1) . كل ما يريد العميدي أن ينكره ادعاه المدعين أن معانيه مخترعة لم يسبقه إليها شاعر، وهذا ادعاء واه، لان الذي يأتي به مطالب أن يعرف ما لدى الشعراء الآخرين من المعاني ويحيط علماً بدواوين الشعراء، وهو شيء لم يحاوله أنصار أبي الطيب ولا يستطيعونه لو حاولوه. أليس هذا هو المدخل نفسه الذي اعتمده ابن وكيع سبباً لكتابة " المنصف "؟ من هنا نرى أن البواعث تتكرر وان المحاولة تعاد مرة ثانية في مدة ربما لم تتجاوز ربع قرن من الزمان.
الحاتمي مسئول عن تهمة يتولى العميدي إثباتها
وجانب من هذا الموقف يعود دون ريب إلى الحاتمي، فهو مسئول عن ترويج قالة على المتنبي مؤداها أن المتنبي قال له في الرد عليه:" من أبو تمام والبحتري؟ ما اعلم أني سمعت بذكرهما إلا من هذه الحاضرة "(2) ثم قال له في مجلس آخر - وهو ينقض القول الأول - " تنكب عن هذا، فهل تجد لأبي تمامكم هذا أو بحتريكم معنى اخترعاه "(3) وهذا ما أثار ابن وكيع، اعني تهجم المتنبي على الطائيين، وذلك هو ما جعل العميدي يحاول توهينه عند نفسه وعند أصحابه: " ولولا أنه كان يجحد فضائل من تقدمه من الشعراء، وينكر حتى أسماءهم
(1) الإبانة: 23 - 24.
(2)
الموضحة: 106.
(3)
الموضحة: 186.
في محافل الرؤساء (1) ، ويزعم أنه لا يعرف الطائيين، وهو على ديوانيهما يغير، ولم يسمع بابن الرومي وهو من بعض أشعاره يمير؟. لكان الناس يغضون عن معايبه، ويغطون على مساويه ومثالبه " (2) ، لهذا كان لابد أن يتصدى العميدي له فيفضح سرقاته، وخاصة من ابن الرومي ومن الطائيين كما فعل ابن وكيع من قبله.
الخالدين على تهمة الحاتمي
وتهمة الحاتمي قد وجدت عليها الرد الطبيعي لخروجها عن حدود المعقول، قال الخالديان:" كان أبو الطيب المتنبي كثير الرواية جيد النقد، ولقد حكى بعض من كان يحسده انه كان يضع من الشعراء المحدثين، ويغض من البلغاء المفلقين، وربما قال: أنشدوني لأبي تمامكم شيئاً حتى اعرف منزلته من الشعر، فتذاكرنا ليلة في مجلس سيف الدولة بميافارقين وهو معنا، لأنشد أحدنا لمولانا أيده الله شعراً له قد ألم فيه بمعنى لأبي تمام؟ فقال أبو الطيب: هذا يشبه قول أبي تمام، فقال: أو يجوز للأديب ألا يعرف شعر أبي تمام وهو أستاذ كل من قال الشعر بعده، فقلنا: قد قيل إنك تقول كيت وكيت، فأنكر ذلك، وما زال بعد ذلك إذا التقينا ينشدنا بدائع أبي تمام وكان يروي جميع شعره "(3) . فهذه القالة كانت معروفة عن أبي الطيب قل وروده العراق، فما كان من الحاتمي إلا أن زادها رواجاً بحديث خيالي - فيما نقدر - أجراه على لسان المتنبي؛ وظلت هذه الشائعة تفعل فعلها، أو يوهم الناقمون على موجة الإعجاب بالمتنبي أنها كذلك، حتى جاء دور العميدي فجعلها سبباً أكيداً في تبيان عيوب أبي الطيب، وخاصة
(1) لاحظ الشارة هنا إلى رواية الحاتمي السابقة.
(2)
الإبانة: 24.
(3)
الصبح المنبي: 124 - 143.
في السرقات: " وأنا بمشية الله تعالى وإذنه أورد ما عندي من أبيات أخذ ألفاظها ومعانيها وادعى الإعجاز لنفسه فيها، لتشهد بلؤم طبعه في إنكاره فضيلة السابقين وتسمه فيما نهبه من أشعارهم بسمة السارقين "(1) .
اضطراب العميدي في الحملة على المتنبي
ولم يبين العميدي رأيه في السرقات بمقدمة كالتي جاء بها ابن وكيع ولا احتاج أن يقف عند صنوف البديع، وإنما دخل في الموضوع دون تمهيد (سوى المقدمة العامة) ولم يتتبع قصائد المتنبي حسب ترتيبها كذلك، بل كان يورد معنى لشاعر من الشعراء ثم يتبعه بمعنى سرقه المتنبي، ولا تدل قسمة الكتاب في ثلاثة أجزاء على شيء من القسمة الموضوعية وغنما هي تجزئة قد تشير إلى عدد الكراسات وحسب؛ غير أنه بعد ان انتهى من الرسالة، أضاف إليها فصلاً جديدياً في سرقات عثر عليها بعد تمام الجزء الثالث فقال معتذراً " قد كنت اقتصرت على ذكر أبيات وجدتها للشعراء في دواوينهم عند قراءتي لها واشتغالي بالبحث عما أخذ المتنبي بعض ألفاظها ومعانيها وأنكر أسماءهم وفضائلهم فيها، ثم وجدت بعدها أبياتاً أخر لهم ولغيرهم من المتقدمين، فلم أستجز إسقاطها من جملة ما كنت دللت عليه وأوضحت الطريق غليه من أبياته التي ادعى أصحابه انه ابتدعها واقتضبها واخترعها من ذات نفسه وما اغتصبها "(2) . ولا يزال العميدي عند هذا الحد مضطرب النفس بين أن يقر بشيء من الفضل للمتنبي - كما فعل في مقدمة الرسالة - وبين أن يفضل عليه جميع طبقات المتقدمين، ويثبت سقوطه عن منازل أكثر المحدثين (دع) المخضرمين (3) ، فإذا كانت الخصائص الحسنة والفضائل التي وجدها العميدي لأبي الطيب (في المقدمة) لا تنسبه إلى طبقة متميزة في المحدثين
(1) الإبانة: 25.
(2)
الإبانة: 149.
(3)
الإبانة: 150.
بل يظل معها ساقطاً على منازل أكثرهم، فإن العميدي قد أوقع نفسه في ورطة أكيدة، لأنه حين قبل أنصار المتنبي أن يسلموا بأخذه للمعاني إلا أنه يزيد فيها ما " يحلو سماعه وتعذب أنواعه ويلطف موقعه ويخف على القلوب موضعه؟ "(1) أنكر عليهم ذلك، وما أراه إلا منكراً على نفسه ما قرره في البداية، وسبب هذا التناقض هو زيف القاعدة التي بنى عليها النقد، ومتى كان المدخل إلى النقد هو التحامل المورى بالإنصاف المنتحل، فإن مصير هذا التحامل إلى الانكشاف والافتضاح لان الإنصاف حينئذ لا يكون إلا دعوى مزورة ومظهراً كاذباً.
منهجه في الغمز العنيف
لهذا كان العميدي أشد سخطاً، واظهر نقمة من ابن وكيع، لاذع التعليقات كقوله:" لقد تصبب عرقاً وتقلب أرقاً حتى استنبط هذا المعنى البديع "(2) لا يكاد يسلم له بحق الإجادة، حيث يجيد، إلا مكرهاً، عنيفاً إذا وجد أدنى مغمز مثل:" وهذا الكلام لا يخرج إلا من سوء أدب وقلة معرفة بخدمة الملوك؟ "(3) أو كقوله: " بكم الخرس أحسن من هذا الكلام العامي الغث والنظام الفاسد الرث "(4) . وهو سيئ الظن بالمتنبي، يعتقد - ويبني على اعتقاده نقده - ان المتنبي اطلع على دواوين الشعراء المكثرين فأخذ منها كل معنى جيد، وغنما اعتمد المكثرين لان اشعاره المقلين تعرف وتشتهر بسهولة لقلتها، فإذا أخذ من المكثرين خفيت سرقاته (5) ، ولو فاء العميدي إلى الإنصاف لحظة لأدراك ان هذا كله لا يصنع قصيدة، فكيف يخلق شاعراً؟
(1) الإبانة: 149.
(2)
الإبانة: 33.
(3)
الإبانة: 39.
(4)
نفسه: 63.
(5)
انظر الإبانة: 125.
نماذج من السرقات القائمة على التطابق
ومن باب الإنصاف أن نقول أن العميدي ربما كان أوسع اطلاعاً من ابن وكيع، واعرق في القدرة على الكيد، فهو يمعن في بيان ما أخذه المتنبي لا من الخبزرزي في المغمورين وحسب، بل من شعراء ربما لم يسمع بهم المتنبي نفسه، أو لم يكن لديه الوقت لتصفح دواوينهم، فضلاً عن الإمعان في قراءتها وسرقة معانيها، وهو يؤثر أن يأتي بسرقات تكاد تكون مطابقة في اللفظ وفي ترتيب أجزاء المعنى الواحد، بينا كان اكثر ما جاء به ابن وكيع يقوم على مشابه قد تكون جزئية، وهذا موقف يستحق أن نمثل عليه:
1 -
لمروان بن سعيد غلام الخيل:
إن الجياد عرفن معهد دارها
…
فصلهن باكية على سكانها للمتنبي:
مررت على دار الحبيب فحمحمت
…
جوادي وهل تشجو الجياد المعاهد 2 - للمعوج الرقي:
لبث دموعي وقد دعتها
…
طلول ربع وهن خرس للمتنبي:
أجاب دمعي وما الداعي سوى طلل
…
(1) دعا فلباه قبل الركب والإبل 3 - لمطيع بن اياس:
لو كان للسيف عقل أو محافظة
…
لما فرى جيد جاليه وصاقله للمتنبي:
ولو حيز الحفاظ بغير عقل
…
(2) تجنب عنق صيقله الحسام
(1) الإبانة: 154.
(2)
الإبانة: 151.
4 -
للناشئ:
وتجس بالرفق التراب إذا مشت
…
جس الطبيب يد العليل المدنف للمتنبي:
يطأ الثرى مترفقاً من تيهه
…
فكأنه آس يجس عليلا 5 - لناقد بن عطارد (؟) :
ذر الخمر تسلم من عيوب كثيرة
…
وإياك أن ترتاد ما يورث الجهلا
فما عاقل يرضى بإنفاق عقله
…
على الخمر إن الخمر تستلب العقلا للمتنبي:
وانفس ما في الفتى لبه
…
(1) وذو اللب يكره إنفاقه 6 - لمروان بن أبي حفصة:
قاسيت شدة أيامي فما ظفرت
…
يداي منها بصاب لا ولا عسل للمتنبي:
قد ذقت شدة أيامي ولذتها
…
فما حصلت على صاب ولا عسل (2) 7 - لبشار بن برد:
حظي من الخير منحوس واعجب ما
…
أراه أني على الحرمان محسود
أغدو وأمسي وآمال قطعت بها
…
عمري تخيب وأموال المواعيد
واكرم الناس من تأتي مواهبه
…
من غير وعد وفيه الجود موجود
(1) الإبانة: 135.
(2)
الإبانة: 154.
للمتنبي:
ماذا لقيت من الدنيا وأعجبها
…
أني بما أنا باك منه محسود
أمسيت أروح مثر خازناً ويداً
…
أنا الغني واموالي المواعيد
جود الرجال من الأيدي وجودهم
…
من اللسان فلا كانوا ولا الجود ويعلق العميدي على الأبيات الأخيرة بقوله: " من قال أن هذه غير مأخوذة من كلام بشار فقد عدم الفطنة والتمييز وحرم الرشاد والتوفيق وجعل مواضع الأخذ، واحتاج أن يسقي شربة تشحذ فهمه وتجلو طبعه وتزيل العمى والغمة عنه "(1) . وهب الدارس أقر بالتشابه نجاة بنفسه من هذه الويلات التي يرسلها العميدي ضد العميان والبلداء الأغنياء شواظاً من نار غضبه. فأن الأمر في نظر الناقد الحديث أيسر مما تصوره العميدي؛ فإذا لم نقل عن كثيراً من التشابه مرده إلى أن هذه الأمور مما يشترك الناس في الإحساس به، قلنا أن شاعراً حافظاً للشعر لا يستطيع أن يكف انسكاب شيء من محفوظه على سن قلمه، وهذا شيء طبيعي لا محل فيه للعجب، لانا لا نتصور أن المتنبي كان - وهو يتحرق ألماً من معاملة كافور له - يفتش أين يجد في ديوان بشار (أو في محفوظه منه) ما يعبر به عما يحسه من موجدة، وهذا لا يمنعنا من ان نقر للعميدي بالبراعة في اقتفاء المعاني، دون أن نتهمه بأنه حرف أو زاد (ودواوين الشعراء أكثرها قد ضاع ولم يصلنا) فيما أورده من شعر منسوب إلى قائلين، بعضهم لم يستحق أن يذكر اسمه في سجل الشعر، فمات دون أن يستطيع العميدي بعث الحياة في جثته الهامدة، اعني شعره.
(1) الابانة: 154.
عيوب المتنبي
ويستعمل العميدي بعض المصطلح لبيان أنواع من السرقة، فبعضها يسميه " نسجاً " وبعضها " سلخاً " (1) ؛ ويتهم المتنبي - كما اتهمه الحاتمي وابن وكيع بالضعف في اللغة (لاستعماله:" اسود " في عيني من الظلم) وتسميه المستيقظ في النهار ساهداً " ويخشى ان يراه في السهاد "؟ الخ) ، ويتهمه بالغموض في بعض المعاني، فيعلق على بيته:
وفاؤكما كالربع أشجاه طاسمه
…
بان تسعدا والدمع أشفاه ساجمه بقوله: " والله لو أوقد الإنسان ألف شمعة ليستضيء بنورها إلى اتنباط غوامض هذا البيت مع قلة الفائدة فيه لصعب عليه "(2) : ويرى انه يعمد إلى استعمال لغة الصوفية، وهو أمر لم ينفرد العميدي بنسبته إلى أبي الطيب، وقد استنكره الصاحب وابن وكيع وغيرهما ولم يحاول أحد منهم أن يدرس أسبابه. والعميدي أيضاً لا يفسح صدره لأي معنى يشتم فيه قلة ورع، شأنه في ذلك شأن ابن وكيع (3) ، وكأنه في كل محاولته لم يضف شيئاً إلى " المنصف " إلا الإمعان في إظهار مدى الاطلاع، وإلا نقمة ذاتية ثائرة، تجعله أقل من صاحبه تحرياً للأنصاف.
(1) الإبانة: 99 وانظر ص: 166، " وسيسلخ " ابن الأثير في " المثل السائر " هذين المصطلحين دون الإشارة إلى العميدي.
(2)
الإبانة: 96 وانظر الإشارة إلى العميدي.
(3)
انظر ص: 163.
أبو العلاء المعري (- 449)
تعريفه للشعر
من الممكن أن نستشف بعض المفهومات النقدية التي كانت لدى أبي العلاء من " رسالة الغفران " حيث عرف الشعر بأنه " كلام موزون تقبله الغريزة على شرائط، عن زاد أو نقص أبانه الحس "(1) ؛ فاهتمامه بالوزن وتقديمه على كل عنصر آخر مشابه لما وجدناه عند الفارابي؛ ويفهم اعتماده على الغزيرة من قوله في بيت لأبي الطيب " إن فيه زحافاً تنكره الغزيرة "؛ فالغزيرة عنده هي قوة الإحساس التي تميز الزيادة والنقصان، وتتبين قيمة الغزيرة مع توفر الوزن في تمييز أبي العلاء في الشعر بين ما هو " نظم " وحسب لأنه موزون وبين ما هو شعر حقيق بهذا الاسم لتقبل الغريزة له (2) . ومن الغريب أن لا يذكر صاحب اللزوم في التقفية أمر القافية في هذا التعريف، مع انه مشغول الخاطر بها وبأنواعها وعيوبها حتى ألف فيها كتاباً مستقلاً (3) . كذلك فإن قوله " على شرائط " هو كما قال الأستاذ محمد سليم الجندي:" إحالة على مجهول لا تمكن الإحاطة به إلا بعد بيانه "(4) .
قرآن إبليس
وقد نفى أبو العلاء معرفة الملائكة للشعر وجعله " قرآن إبليس "(5)، مشيراً إلى تلك الفكرة العربية القديمة في أن لكل شاعر شيطاناً ينفث على لسانه؛ وقسم البديه في ثلاثة أقسام هي: القبل والتمليط والاعنات (6) .
(1) رسالة الغفران: 242.
(2)
نضرة الاغريض، الورقة: 3 نقلا عن التبريزي " كنت أسال المعري عن شعر أقرؤه عليه فيقول هذا نظم، فإذا مر به بيت جيد قال: يا أبا زكريا هذا هو الشعر ".
(3)
تعريف القدماء: 540.
(4)
الجامع في أخبار أبي العلاء 2: 910.
(5)
رسالة الغفران: 244.
(6)
رسالة الغفران: 539 - 540.
حطه على الرجز
وكلما تعرض للرجز أزرى منه فقال: والرجز اخفض طبقة من الشعر (1) ، فكأنه لم يجعله شعراً، ثم قال فيه مرة أخرى: والرجز من أضعف الشعر (2) . فجعله شعراً داني المقام، ويجعل للرجاز في الجنة بيوتاً منخفضة ليس لها سموق أبيات الجنة. لأن الرجز " من سفساف القريض " (3) ؛ وإذا لقي رؤية في جنته قال له:" ما كان أكلفك بقواف ليست بالمعجبة،؟ لو شبك رجزك ورجز أبيك لم تخرج منه قصيدة مستحسنة، وقد كنت تأخذ جوائز الملوك بغير استحقاق "(4) .
حملته على التكسب بالشعر
وفي خطبة الفصيح عاد إلى الإزراء على من يجعلون الشعر وسيلة للتكسب، ودافع عن الشعر فقال:" الشعر إذا جعل مكسباً، لم يترك للشاعر حسباً، وإذا كان لغير مكسب، حسن في الصفات والنسب، ما لم تسب المحصنة، وتعد للعار العصينة (؟) ، فاتق ربك، وإذا رأيت الشاعر فلا تقل (والشعراء يتبعهم الغاوون) فإن الآية وصلت باستثناء وجنى السيئة شر الجني؛ لا تجهلوا فضيلة الشعر فإنه يذكر الناسي ويحل عزمة الفاتك، ويعطف مودة الكاشح، ويشجع الجبان؟ "(5) .
ولا نستخلص مما وصلنا من كتبه آراء نقدية كثيرة، وغنما نراه كثير الانشغال بالنواحي اللغوية والعروضية؛ ولكنا نعلم إن إعجابه بالمتنبي لم
(1) الفصول والغايات: 319.
(2)
رسالة الغفران: 382.
(3)
رسالة الغفران: 366 - 367.
(4)
رسالة الغفران: 367 - 368.
(5)
إحكام صنعة الكلام: 38.
يدفعه وحسب إى حفظ ديوانه في الصغر ومحاكاته. بل جعله يتوفر على شرح ديوانه مرة واختصاره مرة، فكتب اللامع العزيزي ومعجز احمد، كما دافع عنه في شأن الديانة وفي الإكثار من التصغير وذلك في رسالة الغفران (1) ، غير أن شرح اللامع العزيزي (2) ليس كله انتصاراً لأبي الطيب إذ كثيراً ما نراه يتعقب المتنبي بالنقد ولا يحاول الاعتذار عنه. وهذا جهد في محاولة الإنصاف جميل.
إحصاؤه لأوزان أبي الطيب
وقد قام المعري بدراسة إحصائية لأوزان الديوان وقوافيه فوجد أن البحور عنده أحد عشر بحراً، ثم ذكر الزحافات والعلل، ووجد انه نظم من أقسام القافية ثلاثة ولم ينظم من المتكاوس شيئاً (3) .
لا يمكن تغيير أية لفظة في شعر أبي الطيب
وكانت للمعري في شعر المتنبي وجهة نظر ثابتة لا يحيد عنها؛ تدل عليها الرواية التالية التي تتعلق بانتقاد ابن جني عليه استعمال لفظة " سواك " في قوله:
قد شرف الله أرضاً أنت ساكنها
…
وشرف الناس إذ سواك إنساناً ويفضل ابن جني عليها " انشاك " فيتعقبه العروضي وابن فورجة ثم المعري وإليك ما جاء فيها: " قال أبو الفضل العروضي فيما املأه علي: سبحان الله أتليق هذه اللفظة بشرف القرآن ولا تليق بلفظ المتنبي؟ يقول الله تعالى (الذي خلق فسوى) وقال: (بشراً سوياً) ثم قال: (فسواك فعدلك)
(1) رسالة الغفران: 409 - 411.
(2)
قد اطلعت على اللامع العزيزي ولكن ما أوردته هنا مستمد من مآخذ الأزدي فهو قبل اطلاعي على شرح أبي العلاء نفسه.
(3)
الجامع 2: 739.
وقال: 0ثم سواك رجلاً) . وقال ابن فروجة: نهاية ما يقدر عليه الفصيح أن يأتي بألفاظ القرآن وألفاظ الرسول أو ألفاظ الصحابة بعده؟ قال: وعند أبي الفتح انه يقدر على تبديل ألفاظ هذا الشعر مما هو خير منه؛ وقرأت على أبي العلاء المعري - ومنزلته في الشعر ما قد علمه من كان ذا أدب - فقلت له يوماً في كلمة: ما ضر أبا الطيب لو قال مكان هذه الكلمة كلمة أخرى أوردتها، فأبان لي عوار الكلمة التي ظننتها ثم قال لي: لا تظنن انك تقدر على إبدال كلمة واحدة من شعره بما هو خير منها فجرب إن كنت مرتاباً؟ " (1) .
تعقب المتنبي في بعض عيوبه
وأحياناً يتعقبه المعري في الغلو، في مثل قوله: هابك الليل والنهار فلو تنسها هما لم تجر بك أيام فقال في تعليق: " يرحم الله أبا الطيب لقد اجتهد في قول الباطل؟؟؟ ولو ان هذا البيت في صفة الله عز سلطانه، لجاز ان ينال بذلك رضوانه "(2) .
وأنكر عليه رداءة الزحاف في قوله: " رب نجيع بسيف الدولة انسفكا " فقال: " لم يزاحف أبو الطيب زحافاً تنكره الغزيزة إلا في هذا الموضع، ولا ريب انه قاله على البديهة، ولو أن لي حكماً في البيت لجعلته " كم من " لان رب تدل على القلة "(3) .
انعكاسه صورة المعري الفيلسوف على شعر المتنبي
وأوضح ما في اللامع العزيزي أن الشارح يحمل أبيات أبي الطيب طرفاً من آرائه ونظراته في الكون والناس؛ أو يعترض على أبي الطيب من هذه الزاوية نفسها، ومن ذلك قوله في التعليق على بيت المتنبي:
(1) شرح الواحدي: 277.
(2)
المآخذ، الورقة:166.
(3)
المصدر السابق: 142.
وجائزة دعوى المحبة والهوى
…
وإن كان لا يخفى كلام المنافق " المرأة أن عادة بني آدم ان يظهروا المودة وفي النفوس غيرها، إلا أن ذلك جائز لان العادة جرت به، وادعى أن كلام المنافق غير خاف، وإنما يظهر نفاقه في بعض الأوقات، ورب منافق اتخذ (التقية) وحسب انه الصديق المخلص "(1) .
ومن ذلك إيمانه بحتمية القدر، فهو يرى أن أبا الطيب لا يغير الطبائع حين يحض على الشجاعة في قوله:
وإذا لم يكن من الموت بد
…
فمن العجز أن تموت جباناً قال: " إنما يكون الإنسان كما خلق، فإن كان شجاعاً لم يكن موصوفاً بالجبن، وإن خلق جباناً فليس له إلى الشجاعة سبيل "(2) .
ويعجبه قول أبي الطيب:
ولو حيز الحفاظ بغير عقل
…
تجنب عنق صيقله الحسام لأنه يفهم منه أن " الناس لا عقول لهم، وغنما يؤدي إلى حفظ المودة عقل الإنسان، ولو جاء الحفاظ من غير ذي عقل لوجب أن يتجنب السيف عنق صيقله، وابن آدم كالسيف لا عقل له صحيح، فكيف يعتمد جميل الأفعال " فقد أخرج المعنى إلى التعميم الكلي، وأبو الطيب لم يرد إلا فقدان الحفاظ حيث لا يكون عقل في بعض الناس.
ولكن المعري أشد شيء إعجاباً بما يتصل بالفكر الفلسفي العميق،
(1) المآخذ: 137.
(2)
المصدر السابق: 173.
ولذا نجده يهتز طرباً لقول المتنبي:
ألف هذا الهواء أوقع في الأنفس أن الحمام مر المذاق
فيقول: " هذا البيت والذي بعده يفضلان كتاباً من كتب الفلاسفة لأنهما عيار في الصدق وحسن النظام ولو لم يقل شاعر سواهما لكان له فيهما جمال وشرف "(1) .
وهذا كله يدل على أن المعري والشراح الآخرين كانوا يتناولون الشعر، كل حسب ميله ونزعته؛ فإذا قلنا إن المعري ميال إلى التفلسف مؤمن بالحبر سيئ الظن بالناس. فلابد ان تنعكس هذه الخصائص في رحه، مثلما تتجلى فيه مقدرته اللغوية والنحوية والعروضية. ولا نعدم أن نجد في أثناء هذا كله موقفاً نقدياً ضمنياً أو صريحاً، إلا انه يتعلق ببيت دون بيت وفكرة دون فكرة. فأما إيمان المعري بان أحداً لا يستطيع أن يغير لفظة في شعر أبي الطيب بلفظة أخرى خير منها. فذلك يدل على موقف نقدي كلي. يبلغ بكلام المتنبي حداً من حدود الإعجاز.
ابن فورجة محمد بن حمد البروجردي (- حوالي 455)
جمهوره في شعر المتنبي ومصادره
كان تلميذاً لأبي العلاء وقد أفاد من آرائه وتوجيهاته في دراسته عامة وفي دراسة شعر المتنبي خاصة؛ وقد قرا ديوان المتنبي تصحيحاً ورواية بالعراق على العلماء عدة ورواة ذات كثرة (2) ؛ ووقعت إليه من الديوان نسخ غير واحدة شاميات (3) . مكنته من تحقيق الرواية للديوان؛ واطل على الفسر لأبي الفتح ابن جني فكتب حوله كتابين هما " التجني على ابن جني "؛
(1) المآخذ: 139.
(2)
شرح مشكلات ديوان شعر أبي الطيب، الورقة: 10 ب (نسخة الاسكوريال: 307) .
(3)
المصدر نفسه 23 ب.
و " الفتح على أبي الفتح " وفي الأسكوريال مخطوطة عنوانها " شرح مشكلات ديوان شعر أبي الطيب رداً على شرح أبي الفتح عثمان بن جني فيما واخذ به المتنبي " وهو يشير فيها إلى كتابه " التجني " ولعلها أن تكون هي " الفتح على أبي الفتح "؛ وفيها يفسر أبياتاً أشكلت على أبن جني أو أهملها أو أخطأ تفسيرها ويصوب بعض شروحه ويحاول الزيادة عليها، دون أن ينقص أبن جني حقه وقدره، ولذلك تجده يقول في ختام هذه النسخة:" وما توخينا دعوى الفضل على أبي الفتح أبن جني ولا سمت هممنا إلى مباراته وبودنا لو أدركنا القراءة عليه والاستفادة منه "(1) .
ويدل هذا الكتاب على أنه أطلع - إلى جانب القمر - على الوساطة للجرجاني وناقشه في بعض المسائل (2) ، وعلى رسالة الحاتمي التي دون فيها ما أخذه المتنبي من معاني أرسططاليس (3) ، وعرف رسالة الكشف عن مساوئ المتنبي للصاحب بن عباد.
أسباب الغموض في الشعر
ولأبن فروجة متكأ نقدي عام، فهو يرى أن الشعر قد يصيبه الغموض من ثلاثة أوجه:(1) فهناك الشعر الذي يصدك جهل غريبه عن تصور غرضه (2) والشعر الذي يعميه إغرابه لمجاز فيه وحذف في اللفظ أو تقديم وتأخير سوغه الإعراب (وسقط الثالث لسقوط أوراق في المخطوطة) . وشعر أبي الطيب يعتريه الإبهام للأسباب الثلاثة جميعاً؛ ولكن أبن فروجة كأستاذه أبي العلاء يحب شعر أبي الطيب، فهو أميل إلى الدفاع عنه، وعمدته إلى ذلك أحياناً الاحتكام إلى الروايات الصحيحة مثلما يعتمد في الأكثر على الذوق، فإذا وقف عند قول المتنبي:
(1) المصدر نفسه: 55ب.
(2)
أنظر الورقة 9/أ، 10/أ، 38.
(3)
أنظر الورقة 7/أ، 8ب، 9/أ.
وأنت أبو الهيجا أبن حمدان يا أبنه
…
تشابه مولود كريم ووالد
فحمدان حمدون وحمدون حارث
…
وحارث لقمان ولقمان راشد والبيت الثاني مما عيب على المتنبي، قال:" هذا المعنى من أحسن معاني هذه القصيدة والبيتان من خيار أبياتها وما لأحد من الشعراء قصيدة على هذا الوزن إلا وهذه أحسن منها وأجود فليعلم ذلك "(1) ؛ ولكن هذه الحماسة لا تجعله يغفل عن بعض سيئات المتنبي أو يعتذر عنها، فهو يقول في قصيدته العينية " ملث القطر أعطشها ربوعاً " -: هذه القصيدة كلها من الشعر الرذل الذي لا ينتفع به ولا بتفسيره (2) .
تدقيقه في نسخ الديوان وأثره في نقده
وقد إعانته إحاطته الدقيقة بالديوان على توضيح أمور لم يتنبه لها غيره، فالمتنبي مثلاً يقول:" وأني لمن قوم كأن نفوسنا " وكان يجب أن يقول " كان نفوسهم " ويقول " وأنت الذي ربيت ذا الملك " وكان الحق أن يقول " وأنت الذي ربى " ويقول ابن جني: " كلمته غير مرة في هذا فاعتصم بأنه إذا أعاد الذكر على لفظ الخطاب كان ابلغ وامدح من ان يرده على لفظ الغيبة؟ ولعمري انه لكما ذكر، ولكن الحمل على المعنى عندنا لا يسوغ في كل موضع ولا يحسن "؛ فيذهب ابن فورجة ويتقرئ كل شعر المتنبي فإذا به يجده متمسكاً بهذا المذهب في المدح، أما في الذم فإنه يرد الكلام إلى حال الغائب " وهذا من أدق ما شعره من الخبث وأدله على حكمته واستيلائه على قصب السبق في شعره "(3) .
(1) الورقة 12ب.
(2)
الورقة 25ب.
(3)
الورقة 16 ب - 17/ أ.
مزيد من تحريه في سبيل فهم شعر المتنبي
ويعييه قول المتنبي " أمط عنك تشبيهي بما وكأنه " ولا يجد تفسيراً للتشبيه بما، فيورد ما قاله ابن جني نقلاً عن المتنبي ثم يورد ما حكاه الجرجاني نفسه نقلاً عن المتنبي فيجد النقلين متضاربين " فهذا قاض من قضاة المسلمين يحكي هذه الحكاية عن أبي الطيب، فأي الحكايتين نجعلها الصحيحة وننفي أختها " ثم لا يجد له من ملجأ سوى أستاذه أبي العلاء فيقول له أبو العلاء إنها ما التي تصحب كان إذا قلت كأنما زيد الأسد " وما عندي أن أبا الطيب أراد غيرها والله تعالى اعلم بالغيب "(1) وهذا التحري الشديد يدل على دقة علمية مثلما يلمح إلى حرص ابن فورجة ليجد تفسيراً لبعض ما انتقده العلماء على المتنبي.
نموذج من رده على الصاحب ابن عباد
ولا ريب في أن هذا الحرص نفسه هو الذي جعله يتعقب الصاحب بن عباد بشده حتى قال في رسالته: " قد ارتكب فيها شيئاً من المزح عجباً، ليس من طريقة العلم ولا مما أفاد غير خيلاء الوزارة وبذخ الولاية، ولعمري إنه لو لم يرد عنه هذا الكتاب لكان، اجمل بمثله أو كان لم يتعد فيه التهزؤ افارغ والكلام اللغو حتى أنه لو ما يكاد ينتقص شيئاً من الأبيات التي نقمها على أبي الطيب بما يفيد معرفة، مخطئاً فيه أو مصيباً، إلا مواضيع يسيرة كأنها عثار منه بالجد لا عمد، فخلط فيها ودل على انه لم يفهم ما رده ولم يحط علماً بما كرهه، وهذه الرسالة عملها في صباه، والنزق حداه على إظهارها وما أجدر مريد الخير له بكتمانها عليه "(2) ؛ وإليك نماذج من مناقشة ابن فورجة لرسالة الصاحب:
1 -
قال الصاحب: ومن أساليبه العجيبة في التسلية عن المصيبة قوله:
لا يحزن الله الأمير فإنني
…
لآخذ من حالاته بنصيب
(1) الورقة 38.
(2)
الورقة 7 ب.
ولا أدري لم لا يحزن سيف الدولة إذا أخذ أبو الطيب بنصيب من القلق، أترى هذه التسلية احسن عند الشعراء أم قول أوي:
أيتها النفس أجملي جزعاً
…
إن الذي تحذرين قد وقعا رد ابن فورجة: أخطأ في موضعين أحدهما انه ظن انه يقول: كلما حزن الأمير حزنت فقط فظن أن يحزن رفع لأنه إخبار. ولولا ظنه ذلك لما استفهم فقال: لم لا يحزن الله سيف الدولة إذا أخذ أبو الطيب بنصيب من القلق، وهذا خطأ، ويحزن جزم والنون مكسورة لالتقاء الساكنين وهو دعاء؟. الثاني انه قال: أترى هذه التسلية احسن أم قول أوس، وأن هذا البيت ليس بتسلية وإنما هو دعاء للمدوح (1) ؟.
2 -
قال الصاحب: ومن تعقيده الذي لا يشق غباره ولا تدرك آثاره قوله:
وللترك للإحسان خير لمحسن
…
إذا جعل الإحسان غير ربيب وما اشك أن هذا البيت أوقع عند حملة عرشه من قول حبيب:
فقلت للحادثات استنبطي نفقاً
…
فقد أزلك إحسان ابن حسان رد ابن فورجة: ما أدري أمن قوله تعقيده الذي لا يشق غباره أتعجب أم من تشبيه هذا البيت ببيت أبي تمام، وكلا الأمرين عجيب. أما زعمه انه قد عقد، فوجه التعقيد ما لا نعلمه، فإنه لم يقدم لفظة ولا آخر أخرى عن موضعها ولا غرب في المعنى ولا في اللفظ وغنما قال: ترك الإحسان خير لمحسن إذا لم يرب إحسانه؛ ألا ترانا حين فككنا النظم وجعلناه نثراً أتينا بمثل لفظه سواء، من غير زيادة ولا نقصان ولا تقديم ولا تأخير؟ فليت
(1) الورقة 7ب - 8/ أ.
شعري أين التعقيد؟ وأما قوله ما أشك ان هذا البيت أوقع عند حملة عرشه من بيت حبيب، فلا اعلم ما التجاوز بينهما والتشارك. ولعله رأى اشتراكهما في لفظة الإحسان تشابهاً؟ (1) .
3 -
قال المتنبي:
كأنك ناظر في كل قلب
…
فما يخفى عليك مل غاش هذا البيت فضح الصاحب أبو القاسم به نفسه في رسالته التي ذم فيها أبا الطيب؛ يقول فيها: " ومن مخازيه التي خلقها خلقاً متفاوتاً تخفيفه الغاش، وهذا ما لا اعلم سامعاً باسم الأدب يسوغه أو يفسح فيه وبجوزه؟. فغن جاز هذا جاز ان يقال عباس بن عبد المطلب وشماخ بن ضرار فلا تشدد الميم ولا الباء، على أن ما أورده أشنع من هذا الذي مثلناه به إذ كان لفظ فاعل بني على لفظ فعل مشدداً ".
ورد ابن فورجة بان أبا الطيب لم يرد غاشاً وإنما أراد محل من يغشاك من صنوف الناس (2) .
وهكذا قام ابن فورجة بتزييف كثير من المآخذ التي قيدها الصاحب في رسالته، وقد رأينا من قبل حين تحدثنا عنها إنها رسالة معورة يستطيع الناقد لها أن يصيب منها مقتلاً، لان التحامل أعمى صاحبها عن الرؤية الصحيحة وجعله يتورط في أخطاء فاضحة، وإذا صدقنا خادم المتنبي قلنا عن الصاحب قد اخترع اخطاه ليرد عليها، فزاد موقفه ضعفاً وتحامله انفضاحاً.
(1) الورقة: 8 ب.
(2)
الورقة: 23 ب.
- 2 -
نظرية عمود الشعر في صورتها المكتملة
حين كتب المرزوقي (- 421) مقدمة على شرحه لحماسة أبي تمام كانت القضايا التي يود أن يعالجها واضحة تمام الوضوح أمام عينيه، مثلما كان تمثله للنظريات النقدية التي تصدى لها نقاد القرن الثالث والرابع تمثيلاً دقيقاً سليماً، ولذلك كتب في النقد الأدبي مقالة عن نظيرها، تنم عن ذكاء فذ وفكر منظم.
المشكلات النقدية الكبرى
لقد رأى المرزوقي أن المشكلات التي تسمح له بالخوض فيها مقدمة موجزة على شرح مجموعة من الشعر لا تتعدى ثلاثاً كبرى، تتفرع عن كل منها فروع: الأولى: مشكلة اللفظ والمعنى وأنصار كل منهما، والثانية: مشكلة الاختيار، والثالثة: مشكلة العلاقة بين النظم والنثر. وكان قد أطلع على مشكلة العلاقة بين النظم والنثر. وكان قد اطلع على آراء ابن قتيبة وابن طباطبا وقدامة والجرجاني (وربما الآمدي) ، ولا استبعد ان يكون قد قرا الصاحبي لابن فارس، ولكنه لم يأخذ من آرائهم إلا ما تفرضه حدود موضوعه، وتجنب كثيراً من آرائهم القيمة لأنه لا يريد أن يتجاوز ما رسمه لنفسه.
وربما بدا لأول وهلة أن المرزوقي عاد يكرر الثنائيات السابقة: من مثل اللفظ والمعنى والصدق والكذب والطبع والتكلف، وما اشبه، ولكن هذه الثنائيات كانت تقتضيها طبيعة مقدمته أولاً، ثم إنه لم يمض عنها حيث تركها
أصحابها، بل أضاف إليها ما أسعفه به فهمه وتصوره. حتى عن مقدمته لتعد أنموذجاً جيداً في البناء الجديد على أسس قديمة.
المشكلة الثالثة، العلاقة بين النظم والنثر
وأضعف المشكلات الثلاث في مقدمته هي المشكلة الثالثة؛ لأنها محاولة لتفسير ظاهرة عملية تتفرع في ثلاثة فروع: (أ) المفاضلة بين الشعر والنثر (ب) السبب في قلة البلغاء وكثرة المفلقين (ج) السبب في قلة البلغاء وكثرة الشعراء؛ وقد عاد المرزوقي إلى تلك الخصومة التي عرضها المتفلسفون من نقاد القرن الرابع في المفاضلة بين الشعر والنثر، فذهب إلى ان النثر افضل، مستدلاً على ذلك بان الخطابة كانت لدى الجاهلين أهم من الشعر وانهم كانوا يأنفون من الاشتهار بالشعر ويعده ملوكهم دناءة (وهي قضية سيتصدى لها ابن رشيق بالرد) ، كذلك فإن الشعراء حطوا من قيمة الشعر بتعريضهم للسوقة حتى قيل " الشعر أدنى مروءة السري وأسرى مروءة الدني "(وهو موقف سينقضه ابن رشيق أيضاً) ، وثالث الأدلة على شرف النثر إن الإعجاز بالقرآن لم يقع بالنظم، ولهذه الأسباب كان النثر ارفع شأناً من الشعر ومن ثم تأخرت رتبة الشعراء عن الكتاب (1) ، وقد شهدنا نظائر لهذه التعليلات عند نقاد القرن الرابع، وهي محاولة لتفسير ما كان سائداً في المجتمع من رفعة الكاتب وانخفاض شأن الشاعر، ولكنها لا تتصل عند المرزوقي بالفكرة الفلسفية المحرفة عن صدق الخطابة وكذب الشعر.
ويعلل المرزوقي قلة المترسلين وكثرة المفلقين بالفرق بين مبنى الترسل ومبنى الشعر: وخلاصة رأيه في هذه المسألة الدقيقة إن مبنى الترسل فيه " استرسال " لابد من تحقيقه بحيث تصبح القطعة النثرية وحدة كاملة تقبلها الأفهام جميعاً على اختلافها وتباينها، أما الشعر فإنه لا يكلف صاحبه هذا
(1) شرح الحماسة 1: 16 - 18.
الجهد لأنه يعمل قصيدته بيتاً بيتاً فلا يتسع في التوضيح وإنما يكتفي بالإشارة واللمح في بيان المعنى (فكل ما يحمد في الترسل ويختار يذم في الشعر ويرفض ". وهذا أول رد على نظرية ابن طباطبا الذي أقام القصيدة على نموذج الرسالة. وبسبب اختلاف المبنيين اختلفت الإصابة فيهما لتباين طرفيهما. وأصبح من الصعب على المرء أن يكون شاعراً كاتباً، حتى الرجز والقصيد ربما لم يتمكن الواحد أن يحسنهما بالتساوي، فكيف بالنثر والشعر وبينهما من التباعد أكثر مما بين الرجز والقصيد (1) .
ثم إن ما يطالب به الكاتب أشد صعوبة مما يطالب به الشاعر: فالكاتب مطالب بمراعاة حال من يكتب عنه ومنزلته الاجتماعية وأحوال الزمان ومواضع الإيجاز والإطناب وأحكام الشريعة؛ ومجال ترسله يتناول العهود والإصلاح والتحريض على الجهاد والاحتجاج والمجادلة والنهي عن الفرقة والتهنئة والتعزية؟ ولذلك عز من يستطيع ضبط هذه الأمور، فكانوا قلة ونالت تلك أرفع المناصب لضخامة ما يضطلعون به، أما الشاعر فغير مكلف بشيء من ذلك وغنما هو يصف الديار ويشبب ويمدح ويهجو؟ أي أكثر موضوعاته تنبعث من ذاته ومشاعره، دون أن يطلب غليه ذلك، ولهذا تفاوت حال الكاتب والشاعر. ولا ريب في أن وراء هذا التعمق الذي ينتحيه المرزوقي أشياء تحس انه كان يريد أن يقولها فلم يقلها، ونحن اليوم ربما كنا أقدر منه على تصورها: فالتفرقة بين المبنى النثري والمبنى الشعري وبين موضوعات النثر وموضوعات الشعر، وطريقة معالجة كل منهما هي التفرقة القائمة بين منطقتي التفكير والشعور، ودرجة كل منهما؛ غير أن المرزوقي يقصر حديثه على كاتب الديوان - دون سواه - ويحاول ان يجد تفسيراً فكرياً لما هو قائم حينئذ على نحو عملي.
(1) المصدر نفسه: 19.
المشكلة الثانية في التفاوت بين اختيار أبي تمام وشعره
وتجيء المشكلة الثانية تالية لهذه في المجال النقدي، وهي تبدأ من منطلق جزئي هو:" لماذا كان اختيار أبي تمام من نسيج مختلف عن شعره؟ " وجواب المرزوقي على هذه المشكلة قد يترجم في لغتنا الحديثة إلى ان الاختلاف بين مختارات أبي تمام وبين شعره ناجم عن التباين بين أبي تمام الناقد وأبي تمام الشاعر: فأبو تمام الناقد " كان يختار ما يختار لجودته " واما أبو تمام الشاعر " فكان يقول ما يقول من الشعر بشهوته "(1) - الإستجادة من عمل القوة الناقدة أما الشهوة فإنها من عمل القوة الشاعرة (ذات الشعور)، وقد كان أبو تمام حين يختار الشعر يسلط القوة الأولى " وطرق الإحسان والاستحسان لم تستتر عنه " فإذا نظم لجأ إلى القوة الثانية؛ وهذا ما قد يثير سؤالاً آخر: هل من الضروري ان يكون الناقد شاعراً؟ وجواب المرزوقي على هذا لابد أن يكون بالنفي " ولو أن نقد الشاعر كان يدرك بقوله لكان من يقول الشعر من العلماء (يعني النقاد) أشعر الناس. ويكشف هذا أنه قد يميز الشعر من لا يقوله، ويقول الشعر الجيد من لا يعرف نقده "(2) . وبهذا الفصل الحاسم قضى المرزوقي على قول من قد يقول: الشعراء اعرف الناس بنقد الشعر، ولم يلتفت إلى ما حدث في تاريخ النقد العربي، لم يلتفت إلى ان ابن المعتز وابن طباطبا والآمدي والجرجاني وغيرهم كانوا شعراء.
(1) شرح الحماسة 1: 13.
(2)
شرح الحماسة 1: 14.
رد على ابن فارس في قوله: الاختيار موقوف على الشهوات
ولكن ابن فارس كان قد قال من قبل: أن اختيار الشعر موقوف على الشهوات (1) ، فيتصدى المرزوقي للرد دون أن يسميه، وذلك بلجوئه إلى القول بوجود مقاييس نقدية عامة يشترك فيها زيد وعمرو وأن من أتقن تلك المقاييس وتدرب على استعمالها " لا ينظر إلا بعين البصيرة ولا يسمع إلا بأذن النصفة ولا ينتقد إلا بيد المعدلة "(2) ، ولابد لهذا الناقد من معرفة الجيد والرديء، فأما معرفة الجيد وحده فإنها لا تصنع ناقداً، وإذا شئت أن تعرف النواحي السلبية فارجع إلى ما ذكره قدامة (دون أن يذكر المرزوقي اسمه) حول اللفظ الوحشي وقلق القافية وفساد القسمة والتقابل والتفسير والتناقض في المعنى، وارجع إلى ما قاله كل من قدامة والجرجاني (دون أن يذكر المرزوقي اسميهما) حول الخزرج عن العادة والطبع، وحول الحشو؟. وما إلى ذلك. نعم إن الناقد الحاذق قد يحيل أحياناً على طبعه فيقول:" هكذا قضية طبعي "(ويكون ناقداً كالذي وصفه الآمدي والجرجاني) ، ولكن هذا لا يحدث إلا حين نطالبه بالخصائص الإيجابية للشيء المفقود، فأما الخصائص السلبية فإن التنبيه عليها ممكن، وإقامة البرهان فيها مستطاع، وكان المرزوقي يرى ان الكشف عن صنوف الرداءة، سيبقي في مجال الاستحسان كل ما لم يوصم بشيء من الرداءة، فإظهار مساوئ قصيدة كفيل أيضاً بالإبانة عما لا مساوئ فيه، وهذا يعد في باب الجيد فيقبله الذوق السليم، وإن لم يستطع إبراز ما فيه من صفات إيجابية.
(1) انظر ما سبق ص 129.
(2)
شرح الحماسة: 15.
المشكلة الأولى: الشكل والمضمون
ونقف بعد ذلك عند القضية الأولى وهي أهم القضايا النقدية لأنها ليست في تفسير ظاهرة عملية كالقضية الثالثة، ولا هي في مشكلة جزئية كمسألة الاختيار، وإنما هي تتناول صميم النقد الأدبي حين تتحدث عن أكبر المشكلات وهي ما قد يرقى إلى أن يسمى مشكلة الشكل والمضمون، أو مشكلة أصحاب الشكل وأصحاب المعنى، وما يتفرع عنها من مسائل.
أنصار الشكل ثلاث فئات
وقد كان المرزوقي هو الناقد الذي ينظر بعين البصيرة ولذلك استطاع أن يرى إن أنصار النظم حتى عصره لم يظلوا فئة واحدة بل أصبحوا على ثلاث درجات متتالية:
1 -
فريق يرى أن تحسين نظم الألفاظ وجعلها سليمة من اللحن والخطأ ومما قد يعتري التأليف من جنف، وإيرادها صافية التراكيب، هو المطلوب.
2 -
فريق يتجاوز الحد الأول ويرى أن يضيف إلى ما سبق شيئاً آخر من التحسين مثل تتميم المقاطع وتلطيف المطالع وعطف الأول على الآخر وتناسب الوصل والفصل وتعادل الأقسام والأوزان.
3 -
فريق يتجاوز الحد الثاني ويرى ان كل ذلك يجب أن يضاف إليه أنواع البديع من ترصيع وتجنيس واستعارة وتطبيق وغير ذلك من الصور البديعية (1) .
(1) شرح الحماسة 1: 5 - 6.
أنصار المعنى
أما أصحاب المعاني فهم الذين يفضلون أن ينقلوا آثار عقولهم أكثر من اهتمامهم بالشكل، ليستفيد المتأمل، ولذلك " طلبوا المعاني المعجمة من خواص أماكنها، وانتزعوها جزلة عذبة حكيمة ظريفة أو رائقة بارعة فاضلة كاملة لطيفة شريفة زاهرة فاخرة، وجعلوا رسومها ان تكون قريبة التشبيه لائقة الاستعارة صادقة الأوصاف لائحة الأوضاع خلابة في الاستعطاف عطافة لدى الاستنفار مستوفية لحظوظها عند الإسهام من أبواب التصريح والتعريض والإطناب والتقصير والجد والهزل والخشونة والليان والإباء والإسماح، من غير تفاوت يظهر في خلال أطباقها ولا قصور ينبع من أثناء أعماقها؟ الخ "(1) ؛ ومحصل موقف المرزوقي انه لا بد من الائتلاف بين اللفظ والمعنى ائتلافاً تاماً. ولكن الشعر - دون النثر - ليس معنى ولفظاً وحسب، بل هو كما قال قدامة " لفظ موزون مقفى يدل على معنى " وإذن ففيه عنصران آخران يجعلان الكلف فيه أشد ولابد من مراعاتهما عند النقد كما يراعى جانب اللفظ والمعنى.
وواضح من هذا التصوير لجانبي اللفظ والمعنى ان المرزوقي في قسمته لمراتب النظم لم ينتبه إلى أن كل معنى قد يمكن التعبير عنه في ثلاثة أنواع من المبنى، وأنه لو سئل هذه المباني أشد وفاء بالمعنى لم يستطع الإجابة أو لتهرب منها باللجوء إلى اختلاف الأذواق.
عمود الشعر
وإذا كان الحال كذلك رأيناه يسرع إلى تحديد عمود الشعر " ليتميز تليد الصنعة من الطريف "، وقديم نظام القريض من الحديث؟ ويعلم فرق ما بين المصنوع والمطبوع " (2) ؛ وقد عاد إلى العناصر التي عدها الآمدي
(1) شرح الحماسة 1: 7.
(2)
شرح الحماسة1: 8 - 9.
ووضحها الجرجاني (1) من قبل وهي:
(1)
شرف المعنى وصحته.
(2)
جزالة اللفظ واستقامته.
(3)
الإصابة في الوصف.
(4)
المقاربة في التشبيه.
وزاد عليها:
(5)
التحام أجزاء النظم والتئامها على تخير من لذيذ الوزن.
(6)
مناسبة المستعار منه للمستعار له.
(7)
مشاكلة اللفظ وشدة اقتضائهما للقافية حتى لا منافرة بينهما.
واستغنى عن " الغزارة في البديهة " وعن (كثرة الأمثال السائرة والأبيات الشاردة " وعد هذا العنصر الثاني متولداً عن اجتماع العناصر الثلاثة الأولى وقد استخلص ما زاده من نقد قدامة؛ كما انه استخلص عيار كل عنصر منها من الحصول العام المجتمع من آراء الآمدي وقدامة والجرجاني وابن طباطبا، وردد قول ابن أبي عون " أقسام الشعر ثلاثة: مثل سائر وتشبيه نادر واستعارة قريبة " فكانت صياغته لعمود الشعر هي خلاصة الآراء النقدية في القرن الرابع، على نحو لم يسبق إليه ولا تجاوزه أحد من بعده، فلو لم يكن عمود الشعر هو الصيغة التي اختارها شعراء العربية، لكان في أقل تقدير هو الصورة التي اتفق عليها النقاد.
(1) انظر ما سبق ص: 322.
المعايير المعتمدة في عمود الشعر
وإليك المعايير التي وضعها للعناصر السبعة:
" فعيار المعنى أن يعرض على العقل الصحيح والفهم الثاقب، فإذا انعطف عليه جنبتا القبول والاصطفاء، مستأنساً بقرائنه، خرج وافياً، وإلا انتقص بمقدار شوبه ووحشته.
وعيار اللفظ الطبع والرواية والاستعمال، فما سلم مما يهجنه عند العرض عليها فهو المختار المستقيم وهذا في مفرداته وجملته مراعى، لان اللفظة نستكرم بانفرادها، فإذا ضامها ما لا يوافقها عادت الجملة هجيناً،
وعيار الإصابة في الوصف الذكاء وحسن التمييز، فما وجداه صادقاً في العلوق ممازجاً في اللصوق، يتعسر الخروج عنه والتبرو منه، فذاك سيماء الإصابة فيه. ويروى عن عمر رضي الله عنه انه قال في زهير:" كان لا يمدح الرجل إلا بما يكون للرجال "، فتأمل هذا الكلام فإن تفسيره ما ذكرناه.
وعيار المقاربة في التشبيه الطنة وحسن التقدير. فاصدقه ما لا ينتقض عند العكس، وأحسنه ما أوقع بين شيئين اشتراكهما في الصفات أكثر من انفرادهما ليبين وجه التشبيه بلا كلفة، إلا أن يكون المطلوب من التشبيه أشهر صفات المشبه به وأملكها له، لأنه حينئذ يدل على نفسه ويحميه من الغموض والالتباس. وقد قيل:" أقسام الشعر ثلاثة: مثل سائر، وتشبيه نادر، واستعارة قريبة ".
وعيار التحام أجزاء النظم والتئامه على تخير من لذيذ الوزن، الطبع واللسان، فما لم يتعثر الطبع بأبنيته وعقوده، ولم يتحبس اللسان في فصوله ووصوله، بل استمراً فيه واستسهلاه، بلا ملال ولا كلال
فذاك يوشك ان يكون القصيدة منه كالبيت. والبيت كالكلمة تسالماً لأجزائه وتقارناً. وألا يكون كما قيل فيه:
وشعر كبعر الكبش فرق بينه
…
لسان دعي في القريض دخيل وكما قال خلف:
وبعض قريض الشعر أولاد علة
…
يكد لسان الناطق المتحفظ وكما قال رؤبة لابنه عقبة وقد عرض عليه شيئاً مما قاله، فقال:
قد قلت لو كان له قران
…
وغنما قلنا " على تخير من لذيذ الوزن " لأن لذيذة يطرب الطبع لإيقاعه، ويمازجه بصفاته، كما يطرب الفهم لصواب تركيبه، واعتدال نظومه. ولذلك قال حسام:
تغن في كل شعر أنت قائله
…
عن الغناء لهذا الشعر مضمار وعيار الاستعارة الذهن والفطنة، وملاك الأمر تقريب التشبيه في الأصل حتى يتناسب المشبه والمشبه به، ثم يكتفى فيه بالاسم المستعار لأنه المنقول عما كان له في الوضع إلى المستعار له.
وعيار مشاكلة اللفظ للمعنى وشدة اقتضائهما للقافية، طول الدربة ودوام المدارسة، فإذا حكما بحسن التباس بعضها ببعض، لا جفاء في خلالها ولا نبو، ولا زيادة فيها ولا قصور، وكان اللفظ مقسوماً على رتب المعاني: قد جعل الأخص للأخص، والاخس للاخس، فهو البرئ من العيب. وأما القافية فيجب أن تكون كالموعود المنتظر، يتشوفها المعنى بحقه واللفظ بقسطه، وإلا كانت قلقلة في مقرها، مجتلبة لمستغن عنها ".
ولا بد من تعليق على هذا الذي قاله المرزوقي: فكل عنصر عنده له عيار وحدود يقبلها العيار؛ فأما الحدود فنستطيع أن نردها إلى ما قاله قدامة في الأغلب، وأما أنواع العيار فإنها تمثل ما جاء به الجرجاني حين تحدث عن العناصر الأربعة اللازمة للشاعر، وما قاله ابن طباطبا حول قبول " الفهم "، وهذه هي العيارات التي استعملها المرزوقي:
1 -
العقل الصحيح والفهم الثابت.
2 -
الطبع.
3 -
الرواية.
4 -
الاستعمال.
5 -
الذكاء وحسن التمييز.
6 -
الفطنة وحسن التقدير.
7 -
الذهن والفطنة.
8 -
طول الدربة ودوام المدارسة.
ولا ريب في أن العقل والفهم والذكاء والفطنة والذهن تعبير عن حقيقة واحدة كما أن الاستعمال وطول الدربة شيء واحد؛ وإذن فإن معايير المرزوقي هي الطبع - الرواية - الذكاء - الدربة. وهي ليست شيئاً سوى ما جاء به الجرجاني (1) ؛ إلا أن الجرجاني افترض وجود هذه العناصر في الشاعر، أما المرزوقي فإنه يتحدث عن توفرها في المتلقي أو المتذوق أو الناقد.
ولو سئل المرزوقي: أين يضع أبا تمام مثلاً أو المتنبي؟ هل أحدهما أو
(1) أنظر ما سبق ص: 328.
كلاهما خارج عن عمود الشعر أو ملتزم به؟ لما كان الجواب عن ذلك قاطعاً حاسماً: فأبو تمام في المبنى من الفريق الثالث، وفي المعنى من أصحاب المعاني، ولكن استعارته أحياناً لا تناسب فيها بين المستعار والمستعار له، وفي بعض ألفاظه إذا عرضت على الطبع والرواية والاستعمال هجنة، وكثير من العناصر الأخرى المشترطة في عمود الشعر متوفر لديه، ولذا فلا يمكننا أن نقول إن أبا تمام خرج عن عمود الشعر إطلاقاً، وإنما يمكننا أن نقول إنه في بعض أبياته فعل ذلك، ومثل ذلك قد يقال في أبي نواس وفي مسلم والبحتري والمتنبي، لا خلاف في ذلك، إذ أن المرزوقي لم يقل لنا: إن العرب يشترطون اجتماع هذه العناصر كلها معاً دون هوادة، بل قال " ومن لم يجمعها كلها فبقدر سهمته منها يكون نصيبه من التقدم والإحسان "(1) فإذا اجتمعت كلها - وهذا أمر عسير - كان الشاعر محسناً مقدماً.
وعلى هذا الأساس نستطيع أن نقول إن نظرية " عمود الشعر " رحبة الأكناف واسعة الجنبات، وأنه لا يخرج من نطاقها شاعر عربي أبداً، وإنما تخرج قصيدة لشاعر أو أبيات في كل قصيدة، وقد أساء الناس فهم هذه النظرية وحملوها من السيئات الشيء الكثير، ولكنها أساس " كلاسيكي " رصين، فالثورة عليها لا تكون إلا على أساس رفض الشعر العربي جملة.
بل أن المرزوقي زاد من أتساع هذه النظرية حين جعلها ذات وسط وطرفين، فإما أن يعمد الشاعر إلى تحقيق هذه العناصر عن طريق الصدق، وإما أن يذهب مذهب الغلو، وإما أن يكون مقتصداً بين بين، ولكل جانب أنصاره الذين يؤثرونه، وإذا كان النقاد قبل المرزوقي قد انقسموا في فئتين: فئة تقول: أحسن الشعر أكذبه، وفئة تقول: أحسن الشعر أصدقه، فإنه قد زاد فئة ثالثة تقول:" أحسن الشعر أقصده ".
(1) شرح الحماسة 1: 11.
فهم جديد للمطبوع والمصنوع
وقد عدل المرزوقي عن قسمة أبن قتيبة للشعر في مطبوع ومتكلف فسمى القسمين " المطبوع والمصنوع ".
فالمطبوع: هو ما كان وليد جيشان في النفس وحركة في القريحة، فإذا نقل ذلك بصورة تعبير خلي الطبع المهذب بالرواية المدرب بالدراسة كي يضع ذلك الجيشان وتلك الحركة في ما يختاره من قوالب وألفاظ.
والمصنوع: هو ما كان وليد جيشان في النفس وحركة في القريحة، فإذا شاء الشاعر نقل ذلك بصورة تعبير نحي الطبع المهذب بالرواية والدربة عن العمل وحل محله الفكر، فأخذ (ذهنياً) يقبل ما يقبل ويرد ما يرد فتجاوز المألوف إلى البدعة وتلذذ بالأغراب فخرج الكلام مصنوعاً.
والقدامى أقرب إلى الطبع، أما المحدثون فحظهم من الطبع متفاوت: فيعضهم يقوى لديه ويحكمه في الإبداع، فيجيء كلامه أقرب إلى طرائق الأعراب؛ وبعضهم يحب الإغراب وإظهار الاقتدار لأنه يدل على كمال البراعة، ولذلك يلجأ إلى الفكر لا إلى الطبع فيحمله على الإكثار من البديع.
ولسنا بحاجة إلى التعليق على هذه التفرقة بين المطبوع والمصنوع فإنها رغم غموض كل ما يتصل بفكرة الإبداع الفني - حتى اليوم - من أدق ما جاء به النقد العربي
- 3 -
النقد العربي في كتاب الشعر في القرن الخامس
لا نجد لكتاب الشعر - أو للأثر اليوناني عامة - أي صدى بين نقاد القرن الخامس (إذا استثنينا إشارة طفيفة لأبن حزم الأندلسي) ، ويعود هذا إلى طبيعة النقاد وطبيعة الشعر، وكلتاهما أصبحت تنأى عن الأثر لدى الآمدي والجرجاني، دون أن يخلق التيار الشعري - المتجه نحو الشكلية العامة أو الصورة الجزئية - أية مشكلة جديدة تتطلب تعمقاً في النظر وتأنياً في الحل.
دراسة كتاب الشعر جزء من دراسة المنطق
ولذلك اقتصرت الصلة بكتاب الشعر على إعادة وضعه في موضعه بين كتب المعلم الأول وفاء باستكمال المنهج الفلسفي؛ وكان من الطبيعي لهذا أن لا يحدث تلخيص أبن سينا لكتاب الشعر أي أثر في النقد الأدبي حينئذ، ومن الكثير أن نحمله جل المسئولية في هذا التقصير (1) ، مهما تكن حماستنا للأثر المفترض الذي كان متوقعاً لهذا الكتاب، ومهما يكن رجاؤنا كبيراً في مقدرة أبن سينا.
(1) أنظر مقال " ابن سينا وفن الشعر " للدكتور عبد الرحمن البدوي في كتاب " المهرجان الألفي لذكرى ابن سينا (1952) ص 105 - 116 ومقدمته على الشفا - المنطق (9 - الشعر) .
نص ابن سينا ظهر حين ابتعد النقد عن الثقافة اليونانية
وقد يكون ابن سينا قام بتخليص هذا الكتاب في أواخر القرن الرابع أو أوائل الخامس، وتلك حقيقة أخرى جعلتنا نتحدث عنه في نقد القرن الخامس، أعني أن الكتاب تأخر عن موعده - إذا صح هذا القول - فجاء بعد ذلك الازدهار في حياة النقد الأدبي، ولم يجد قدامة ثانياً ليفيد منه، بعد إذ أصبح الوضوح فيه أشمل واقرب منالاً. ولكن لم تكن محاولة ابن سينا هي الوحيدة، إذ يذكر ابن أبي أصيبعة أن ابن الهيثم (حوالي - 432) لف " رسالة في صناعة الشعر ممتزجة من اليوناني والعربي "(1) ، إلا أن هذه الرسالة لا تزال محجوبة لم تنلها يد الكشف بعد.
الميزة العامة لغرض ابن سينا
ويمثل كتاب الشعر كما أورده ابن سينا أوضح صورة - فيما نعرفه حتى اليوم - من صور هذا الكتاب، فهو يرتفع عن غموض ترجمة ابي بشر متى بن يونس وركاكتها ورداءتها، وهو أوسع نطاقاً من اللمحات الخاطفة التي جاء بها الفارابي، وهو أسلم من محاولة ابن رشد من بعد، لان ابن سينا لم يتورط كثيراً في تطبيقات خاطئة؛ ومن الحق ان نفترض انه اعتمد على ترجمة جيدة قام بها يحيى بن عدي أو غيره (2) .
تعريفه للشعر
ويبدأ ابن سينا بمقدمة ليست من أصل كتاب الشعر يتحدث فيها عن تعريف الشعر وأنه " كلام مخيل مؤلف من أقوال موزونة متساوية، وعند العرب مقفاة ". ثم يشرح هذا التعريف ويدل على أن المنطقي لا يهمه منه إلا الحديث عن التخييل، فالكلام المخيل (هو الكلام الذي تذعن له النفس فتنبسط عن أمور وتنقبض عن أمور من غير روية وفكر واختيار وبالجملة تنفعل له
(1) طبقات الأطباء 2: 94 وفن الشعر (المقدمة: 55) .
(2)
فن الشعر (المقدمة: 53) .
انفعالاً نفسانياً غير فكري سواء كان القول مصدقاً به أو غير مصدق " (1) . ويقارن بين أثر المحاكاة - وهو التخييل - وبين التصديق، فيرى أن كليهما إذعان، إلا أن التخييل إذعان للتعجب والالتذاذ بنفس القول، والتصديق إذعان لقبول أن الشيء على ما قيل فيه (2) ، ويمضي في تبيان المحاكاة وضروبها، وكيف يكون إحداث التعجب صادراً عن حيلة في اللفظ أو المعنى، ويفرع أنواع الحيل التي بها تتعدد الصيغات الشعرية، ثم يعرج على أنواع الشعر عند اليونان معتمداً - في اغلب الظن - على ما أورده الفارابي من قبل.
صورة كتاب الشعر في نفسه
حتى إذا انتهى من هذه المقدمة بدأ النظر في كتاب الشعر نفسه فلم يدع انه يفهم كل شيء فيه وإنما حدد غايته بالتعبير عن القدر الذي فهمه من المعلم الأول: " إذا أكثر ما فيه اقتصاص أشعار ورسوم كانت خاصة بهم ومتعارفة بينهم يغنيهم تعارفهم إياها عن شرحها وبسطها "(3) .
إدراكه الفرق بين الشعر اليوناني والعربي
وحين يقف ابن سينا عند قول أرسطو: " واعمال الناس هي موضوعات المحاكاة "(4) أو كما يقول في تلخيصه: " والشعر اليوناني إنما كان يقصد فيه في أكثر الأمر محاكاة الأفعال والأحوال لا غير "(5) يلمح الفرق بين الشعر اليوناني والعربي على نحو يدل على انه يعي طبيعة كل منهما دون غموض، فالشعر العربي يحاكي الذوات، لا الأفعال: " وكانت (العرب)
(1) فن الشعر: 161 والشفا: 24
(2)
فن الشعر: 162 والشفا: 24.
(3)
فن الشعر: 167 والشفا: 31.
(4)
كتاب الشعر: 22.
(5)
فن الشعر: 169 - 170 والشفا: 34.
تقول الشعر لوجهين: أحدهما ليؤثر في النفس أمراً من الأمور تعد به نحو فعل أو انفعال، والثاني للعجب فقط فكانت تشبه كل شيء لتعجب بحسن التشبيه، وأما اليونانيون فكانوا يقصدون أن يحثوا بالقول على فعل أو يردعوا بالقول عن فعل، وتارة كانوا يفعلون ذلك على سبيل الخطابة وتارة على سبيل الشعر، فلذلك كانت المحاكاة الشعرية عندهم مقصورة على الأفاعيل والأحوال والذوات من حيث لها تلك الأفاعيل والأحوال " (1) . لقد أدرك ابن سينا تخالف طبيعتي الشعر اليوناني والشعر العربي، ولكنه حين حاول التفسير أخطأ، فنقل معنى المحاكاة في عملية الخلق إلى أثرها في النفوس وبهذا لم يعد من فرق بين الشعر الذاتي القائم على المحاكاة لان كليهما يتوسل الإثارة عن طريق الانفعال النفسي، وهو شيء قاله ابن سينا قبل قليل ثم نسيه.
سبب الانتقاد بالمحاكاة
وندهش أحياناً لهذا الوضوح في ذهن ابن سينا وهو يتحدث عن سبب التذاذنا بالمحاكاة فهو هنا لا يخطئ كما اخطأ الفارابي بل يقول " والدليل على فرحهم بالمحاكاة انهم يسرون بتأمل الصور المنقوشة للحيوانات الكريهة والمتقذر منها، ولو شاهدوها أنفسها لتنكبوا عنها "(2) ؛ ونعجب بحديثه كيف صار التعليم - لأنه متولد عن المحاكاة - لذيذاً لا للفلاسفة فقط بل للجمهور، إلى غير ذلك من مواضع لا يتفوق تعبيرنا فيها - حين نريد ان ننقل كلام أرسطو - عن تعبير ابن سينا، فإذا جئنا إلى تعريف الطراغوذيا وجدناه أيضاً سليماً في جملته: " عن الطراغوذية هي محاكاة فعل كامل الفضيلة عالي المرتبة بقول ملائم جداً، لا يختص بفضيلة فضيلة جزئية، تؤثر في الجزئيات لا من جهة الملكة بل من جهة الفعل - محاكاة تنفعل لها
(1) فن الشعر: 170 والشفا: 32.
(2)
فن الشعر: 171 والشفا: 37.
الأنفس برحمة وتقوى " (1) .
مصطلح ابن سينا في كتاب الشعر
ويختلف مصطلح ابن سينا عن المصطلح الذي نؤثره اليوم، فيضع " الاشتمال " مكان ما قد نسميه " الانقلاب أو التحول " و " الاستدلال " مكان ما قد يسمى " الانكشاف أو التعرف " ولكنه دقيق في استعمال مصطلحي " الحل والربط " وفي كثير من المصطلحات الأخرى.
تضليل المصطلح عند التطبيق والمقارنة
غير إننا نقرأ قوله: " وأجزاء الخرافة جزءان: الاشتمال وهو الانتقال من ضد إلى ضد، وهو قريب من الذي يسمى في زماننا " مطابقة " ولكنه كان يستعمل في طراغوذياتهم في أن ينتقلوا من حالة غير جميلة إلى حالة جميلة بالتدرج، بان تقبح الحالة الغير جميلة وتحسن بعدها الجميلة، وهذا مثل الخلف والتوبيخ والتقرير، والجزء الثاني الدلالة وهو أن يقصد الحالة الجميلة بالتحسين لا من جهة تقبيح مقابلها "(2) ؟ أقول: حين نقرأ مثل هذا ندرك أن ابن سينا قد وقع في متاهة مضلة، لأنه ليست لديه أدنى فكرة عما يسمى (بطل الطراغوذيا) لظنه ان كل ما يتحدث به ارسطو هنا ينصرف إلى الشاعر نفسه، ونستبعد أن تكون لفظة " المنافق " التي يستعملها للدلالة على " الممثل " ولفظة " المسكن " التي تقابل لفظة " المسرح " قادرتين على هدايته إلى مدلولهما الصحيح. وهذا هو الجانب الذي يتصل بالعمل المسرحي نفسه، ومن هنا أنبهم الأمر على ابن سينا وغيره، فأما إذا كان الحديث عن كيان المأساة نفسها مثل كونها تتألف من فاتحة ووسط وخاتمة، وما أشبه ذلك فهذا لا يغمض على ابن سينا، أو على الأقل، يجيء تعبيره عنه واضحاً لأنه متصل بفكرة فلسفية أو منطقية. ولهذا كانت معرفة العمل المسرحي وحدها
(1) فن الشعر: 176 والشفا: 44.
(2)
فن الشعر: 179 والشفا: 47.
هي القادرة على أن تجعل كتاب الشعر واضحاً وأن تخلق له أثراً في البيئة العربية، ولعل الدكتور بدوي حين استبعد هذه الحقيقة (1) وشبه حال الشرق بحال أوروبة في العصور الوسطى قد نسي أن أوروبة من خلال مسرحيات الأسرار، كانت تعرف شكلاً مسرحياً ما، وإن كان هذا الشكل مخالفاً للقواعد التي جاء بها أرسطو (2) . إذ الأمر هنا غير داخل في مدى صلاحية النظرية أو عدم صلاحيتها بل هو ادخل في باب الفهم، وهذا الفهم لا يتأتى إلا من تصور الأنموذج، فما دام الأنموذج مفقوداً فالفهم غير متيسر. وأما استشهاده بخيال الظل عند ابن دانيال وانه أرقى من مسرحيات الأسرار فإنه استشهاد من يدري تماماً أن أرسطو كان في عصر ابن دانيال قد أصبح شبه منسي، إلا أثرات من هجوم ابن تيمية على منطقه.
عن ابن سينا حين كان يحاول أن يبسط كلام ارسطو، لاجئاً إلى ما يعرف من نماذج، كان يبذل كل جهده للإفهام والتوضيح، ولكن نماذجه كانت تخونه في أكثر الأحيان: فالمقابلة التي أقامها ارسطو بين الشاعر والمؤرخ لا يستطيع أن يقيمها ابن سينا غلا بين الشعر والقصص والامثال، لانه لم يتعود ان يقارن بين الشعر والتاريخ، لذلك تجده يستشهد على ما يوازي الشعر بقصص " كلية ودمنة " وبينا يقول أرسطو: " يتضح إذن - مما تقدم - انه ليس يقع في دائرة الشاعر أن يقص الأشياء التي وقعت فعلاً ولكن عليه أن يصف تلك التي كان من الممكن أن تقع، أي يذكر ما هو ممكن على انه محتمل أو ضروري. إذ ليس بالتأليف
(1) المهرجان الألفي: 107 - 108.
(2)
قال الدكتور بدوي في معرض حملته على ابن سينا وفقدان المسرح عند العرب: " وما يسمونه بالأسرار وهي التمثيليات - عن صح هذا التعبير - الدينية الأولية ليست هي المسرحيات بالمعنى الفني المعروض في كتاب " فن الشعر " لأرسطو (المقدمة ص: 60) .
نظماً أو نثراًً يفترق الشاعر والمؤرخ، فكتاب هيرودوت قد يصاغ نظماً، ولكنه مع ذلك يظل ضرباً من التاريخ، بيد أنهما يفترقان في أن أحدهما يروي ما حدث والآخر يروي ما يحتمل أن يحدث، وعلى هذا الاعتبار كان الشعر شيئاً أكثر فلسفة وأبدع من التاريخ وأكبر منه قيمة لان الشعر يضطلع بالحقيقة العامة بينما يضطلع التاريخ بالخاصة؛ وأنا اعني بالحقيقة العامة ما يمكن ان يقوله أو يفعله نوع من الناس يتمتع بهذه الصفات أو بتلك - على وجه الاحتمال أو الضرورة - ذلك شيء عام وهو موضوع الشعر حتى حين يطلق أسماء خاصة على من يقولون الحقائق العامة، أما ما فعله الكبيادس أو ما حدث له فذلك حقيقة خاصة " (1) - بينا يقول أرسطو هذا القول على هذا النحو من الوضوح نجد ابن سينا قد حوره فجعل الفرق بين الشعر وبين المحاكاة التي تكون بالأمثال والقصص، ككتاب كليلة ودمنة؛ صحيح إنه فهم أن الوزن - لو نظم كليلة ودمنة - لا يصنع من ذلك الكتاب ما يسمى شعراً، ولكنه عاد إلى ان الشعر يراد به التخييل، وأمثال كليلة ودمنة يراد بها إفادة الآراء، دون ان يقصر حديثه كما قصره أرسطو في هذا المقام على الفرق بين شيء يتناول الأحداث الجزئية " فأحد هذين يتكلم فيما وجد ويوجد والآخر يتكلم فيما وجوده في القول فقط " (2) . أما لماذا اختار ابن سينا كتاب كليلة ودمنة ولم يجر المقارنة بين الشعر والتاريخ فلهذا أسباب: أولها أن كلمة historia نفسها قد ذهبت به إلى معناها الاشتقاقي (أسطورة) ، وثانيها أنه لم يتعود في المفهومات المشرقية إيراد صلة بين الشعر والتاريخ، وثالثها وهو الأهم: أن كتاب كليلة ودمنة كان قد نظمه ابن الهبارية، فهو يريد ان يثبت ان الوزن وحده لا يصنع منه شعراً، كما يقول أرسطو، فهو أوضح " نموذج " متوفر لديه، مما يحكي " قصة " في شكل شعري؛ وفي هذا دلالة أخرى على قيمة الأنموذج نفسه.
(1) كتاب الشعر: 44.
(2)
فن الشعر: 183 والشفا: 54.
وليس حديثه عن الشعر البطولي الملحمي (الأفي Epic) أوضح من حديثه عن الطراغوذيا، فقد لخصه تلخيصاً سريعاً مخلاً، وحذف الأمثلة لانعدام دلالتها في نفسه.
خاتمة الكتاب ووعد لم يتحقق
وختم الكتاب بقوله: " هذا هو تلخيص القدر الذي وجد في هذه البلاد من كتاب الشعر للمعلم الأول، وقد بقي منه شطر صالح، ولا يبعد أن نجتهد نحن فنبتدع في علم الشعر المطلق وفي علم الشعر بحسب عادة هذا الزمان كلاماً شديد التحصيل والتفصيل "(1) . وهذه الخاتمة تؤكد أن ابن سينا كان يحس أن هناك بقية لكتاب الشعر لم تصل؛ فأما ما لخصه منه فإنه يشمل كل ما لدينا اليوم من هذا الكتاب؛ وأما ما وعد به فإنه يتناول شيئين: الكتابة في النظرية الشعرية عامة، والكتابة في نقد الشعر كما يعرفه العرب، وليس هناك شيء مما وعد به ابن سينا في ما وصلنا من مؤلفاته.
(1) فن الشعر: 198 والشفا: 75.
- 4 -
النقد وفكرة الإعجاز
الانطلاق من فكرة الإعجاز إلى إقرار قواعد النقد والبلاغة
كان النقد والبلاغة لدى المحدثين عن الإعجاز في القرن الرابع مركبتين اتخذوهما للوصول إلى " منطقة " الإعجاز، ثم إفراد تلك المنطقة عما حولها، ولكن عبد القاهر الجرجاني (- 471)(1) - أكبر متحدث منطلقه فكرة الإعجاز نفسها، وعن هذه الطريق أسهم في توضيح مفهوم البلاغة - على نحو لم يسبق له مثيل - كما أسهم في معالجة كثير من النظريات النقدية بمعدات جديدة من الفحص الدقيق والتغلغل النافذ إلى بواطن الأمور.
الإعجاز في النظم
فلقد قرر عبد القاهر في نفسه منذ البداية ان القرآن معجز، وحاول أن يستكشف فيه مواطن الإعجاز، هل هو في الالفاظ؟ فرد هذا القول رداً حاسماً لان الألفاظ المفردة موجودة في الاستعمال قبل نزول القرآن، ولا يجوز
(1) هو عبد القار بن عبد الرحمن الجرجاني: فارسي الأصل جرجاني الدار كان ذا ثقافة نحوية عميقة، وله في النحو مؤلفات، ولثقافته أثر في نظرته إلى النقد والبلاغة، ويقول القفطي إنه كان ضيق العطن لا يستوفي الكلام على ما يذكره مع قدرته على ذلك (انظر ترجمته في أنباه الرواة 2: 188 وبغية الوعاة: 310 وطبقات الشافعية 3: 242 وفي حاشية الانباه ذكر لعدد من المصادر الأخرى) .
أن يكون الإعجاز في ترتيب الحركات والسكنات، أي في طبيعة الإيقاع لان ذلك قد ينطبق على مثل حماقات مسيلمة في قوله " إنا أعطيناك الجماهير فصل لربك وجاهر "، ولا يتحقق الإعجاز بالفواصل لان الفواصل في الآي كالقوافي في الشعر، وذلك أمر كان العرب قد أتقنوه فلم يعد معجزاً لهم. فإذا بطل ان يكون الإعجاز متأنياً من هذه الأمور، فهل الإعجاز آت من الاستعارة؟ ذلك أيضاً ممتنع " لأن ذلك يؤدي أن يكون الإعجاز في آي معدودة في مواضع من السور الطوال مخصوصة "(1) ، وإذا كانت كل هذه الأمور مجتمعة أو منفردة لا تحقق الإعجاز " فلم يبق إلا أن يكون (الإعجاز) في النظم والتأليف "(2) .
تحديد معنى النظم بالتزام الأوضاع النحوية
ما المقصود بالنظم والتأليف - وهما مترادفان في رأي عبد القاهر -؟: يقرر الجرجاني أولاً أنه ليس للفظة في ذاتها، لا في جرسها ولا دلالتها، ميزة أو فضل أولي، وليس بين أية لفظة وأخرى في حال انفراد كل منهما عن أختها من تفاضل؛ لا يحكم على اللفظة بأي حكم قبل دخولها في " سياق " معين، لأنها حينئذ وحسب ترى في نطاق من التلاؤم أو عدم التلاؤم؛ وهذا السياق هو الذي يحدث " تناسق الدلالة " ويبرر فيه " معنى " على وجه يقتضيه العقل ويرتضيه. وربط الألفاظ في سياق يكون وليد الفكر لا محالة، والفكر لا يضع لفظة إزاء أخرى لأنه يرى في اللفظة نفسها ميزة فارقة، وإنما يحكم بوضعها لان لها معنى ودلالة بحسب السياق نفسه، ولهذاكانت " المعاني " لا الألفاظ هي المقصودة في إحداث النظم والتاليف، فلا نظم في الكلم ولا تأليف حتى يعلق بعضها ببعض ويبنى بعضها على بعض، وبهذا يكون اللفظ تابعاً للمعنى، بحسب ما يتم ترتب المعنى في النفس (3) .
(1) دلائل الإعجاز: 271 - 274.
(2)
المصدر نفسه: 274.
(3)
دلائل الإعجاز: 38 - 47 وانظر أيضاً ص: 64
ويخلص عبد القاهر من هذا إلى وضع نظريته التي لا يسأم من تردادها في تحديد المراد من النظم فيقول: " وعلم أن ليس النظم إلا أن تضع كلامك الوضع الذي يقتضيه علم النحو وتعمل على قوانينه وأصوله وتعرف مناهجه التي نهجت فلا تزيغ عنها "(1)، ويؤكد ما تقدم بقوله:" فلست بواجد شيئاً يرجع صوابه - إن كان صواباً - وخطوه - عن كان خطأ - إلى النظر ويدخل تحت الاسم إلا وهو معنى من معاني النحو قد أصيب به موضعه ووضع في حقه أو عوامل بخلاف هذه المعاملة، فأزيل عن موضعه واستعمل في غير ما ينبغي له "(2) ، أي أن من شاء أن يحكم على مدى الصواب والخطأ في النظم فلابد له من أن يعالج قضايا التقديم والتأخير والفصل والوصل والإظهار والإضمار والاستفهام والنفي أو ما أصبح من بعد عبد القاهر يسمى " علم المعاني ". وعند هذا الحد انتهى نظر عبد القاهر في " قضية الإعجاز " لان هذا " النظم " هو أساس الجمال أيضاً في الشعر والنثر، ولم يقل لنا عبد القاهر إلى أي حد سما " نظم القرآن " - كماً وكيفاً - على ما عداه من صور " النظم " الجميل في الفنون الأدبية؛ وبهذه النظرة اتجه عبد القاهر إلى النقد والبلاغة يضع فيهما أحكاماً، دون التفات كثير إلى أن " قضية الإعجاز " تتطلب شيئاً أبعد من حد المشاركة في الجمال المشاع بين صور التعبيرات الأدبية المختلفة.
ولما كانت الآراء النقدية هي ما يهمنا في هذا الفصل فإننا سنتجاوز الأحكام البلاغية الخالصة، لنرى دور عبد القاهر في النقد الأدبي وحده:
(1) المصدر السابق: 63.
(2)
المصدر السابق: 64.
حملته على المنحازين إلى اللفظ
كانت الرواقد النقدية التي التقت في ذهن الجرجاني متعددة ولعلها كانت تبدو له متضاربة، كما تعددت وتضاربت الآراء حول فكرة الإعجاز نفسها، فقد أزعجه أولاً أن يرى ذلك التقدير للألفاظ وتقديمها على المعاني عند من سبقه من النقاد، حتى إنهم جعلوا للفظة المفردة مميزات وصفات لم يستطع أن يتقبلها ذهنه المتمرس بتفاوت الدلالات، وقيمة التعبير عن ذلك التفاوت، وكان يحس بوعي نقدي فذ أن ثنائية اللفظ والمعنى التي تبلورت عند ابن قتيبة قد أصبحت خطراً على النقد والبلاغة معاً: أما على المستوى النقدي فإن الانحياز إلى اللفظ قتل " الفكر " الذي يعتقد الجرجاني انه وراء عملية أدق من الوقوف عند ميزة لفظة دون أخرى؛ وأما على المستوى البلاغي فإن الجرجاني لم يستطع أن يتصور الفصاحة في اللفظة وإنما هي في تلك العملية الفكرية التي تصنع تركيباً من عدة ألفاظ (1) ؛ وقد يجد الجرجاني عذراً للقدماء الذين أقاموا تلك الثنائية ففخموا شأن اللفظ وعظموه وتبعهم في ذلك من بعدهم حتى قالوا: المعاني لا تتزايد وغنما تتزايد الالفاظ، وعذرهم في ذلك أن المعاني تتبين بالألفاظ ولا سبيل لمن يرتبها إلى أن يدلنا على ما صنع في ترتيبها إلا بترتيب الألفاظ، لهذا تجوز القدماء فكنوا عن ترتيب المعاني بترتيب الألفاظ نفسها، ثم تحدثوا عن الألفاظ وحذفوا كلمة " ترتيب " ثم اسبغوا على الألفاظ صفات فارقة فقالوا: لفظ متمكن ولفظ قلق؟ الخ وإنما مقصودهم المعنى (2) ؛ ورغم هذا العذر الذي يجده للأقدمين فإنه يرى ان النقاد قد تورطوا في الجهل الفاحش حين لجأوا إلى هذه القسمة أو حين احتموا بذلك التصور، وأصبح اقتلاعه من نفوسهم أمراً عسيراً، وعاب ابن قتيبة - دون أن يسميه - لأنه قسم الشعر في أنواع: منه ما حسن لفظه ومعناه ومنه ما حسن لفظه دون معناه ومنه ما حسن معناه دون لفظه،
(1) دلائل الأعجاز: 42 - 53.
(2)
المصدر نفسه: 52.
فإذا لم يكن ابن قتيبة - وهو أحد القدماء - معيباً فيما صنع، فإن من جاء بعده قد ضل ضلالاً بعيداً حين اخذ هذه القسمة على ظاهرها (1) ، واعتقد باستقلال اللفظة ومنحها صفات خاصة بها.
حملته على المنحازين إلى جانب المعنى
من جهة ثانية نجد عبد القاهر قد خطأ المنحازين إلى جانب المعنى بشدة لا تقل عن شدته في تخطئته من ذهبوا إلى إبراز مميزات اللفظة المفردة فقال: " واعلم أن الداء الدوي والذي اعيا أمره في هذا الباب غلط من قدم الشعر بمعناه وأقل الاحتفال باللفظ وجعل لا يعطيه من المزية إن هو أعطى إلا ما فضل عن المعنى، فيقول: ما في اللفظ لولا المعنى؟ وهل الكلام إلا بمعناه؟ فأنت تراه لا يقدم شعراً حتى يكون قد أودع حكمة وأدباً واشتمل على تشبيه غريب ومعنى نادر "(2) . وظاهر الأمر دون تمعن كبير، قد يكون في جانب من يذهب هذا المذهب، ولكن عند البحث عن الحقائق نجد أن جميع البلاغيين المتفهمين قد عابوا هذا المذهب، حتى قال الجاحظ قولته المشهورة " المعاني مطروحة في الطريق؟ ".
تفسير لفكرة المعاني المطروحة
ما معنى قول الجاحظ " المعاني مطروحة في الطريق "؟ أترى هذا حطاً من قيمة المعنى الذي يجعل له الجرجاني المقام الأول؟ هنا ينفذ الجرجاني بفهم دقيق إلى سر مشكلة طال حولها الأخذ والرد، فوجه رأي الجاحظ توجيهاً ملائماً لما نعتقد أن الجاحظ رمى إليه: فمصطلح " معنى " كما استعمله الجاحظ ذو دلالة دقيقة، وهو في رأي الجرجاني إنما يتحدث به عن " الأدوات الأولية "، وتفسيراً لذلك يقارن الجاحظ بين الكلام ومادة الصائغ، فهو يصنع من الذهب أو الفضة خاتماً، فإذا أردت الحكم على
(1) دلائل الإعجاز: 256.
(2)
دلائل: 178.
صنعته وجودتها نظرت إلى الخاتم من حيث انه خاتم، ولم تنظر إلى الفضة أو الذهب الذي صنع منه، فهذه المادة الأولية تشبه المعنى المطروح وليس فيها تفاضل عن شئت أن تحكم على جودة الصنعة نفسها، ولهذا قال الجاحظ بعد أن أورد رأيه في شيوع المعاني (وإنما الشأن في إقامة الوزن وتخير اللفظ وسهولة المخرج وصحة الطبع وكثرة الماء وجودة السبك، وإنما الشعر صياغة وضرب من التصوير " (1) ؛ وإنما الذي دعا الجاحظ وإضرابه إلى تبني هذا المذهب خوفهم على فكرة الإعجاز: فلو أن الفضل كان قاصراً على تلك " المادة الأولية " التي سميت " معنى " بطل أن يكون " لنظم " فضل تتفاوت به المنازل " وإذا بطل ذلك فقد بطل أن يكون في الكلام معجز وصار الأمر إلى ما يقوله اليهود "(2) . أي أصبح الإعجاز أن يحتوي الكلام على حكمة وأدب واستخراج معنى غريب أو تشبيه نادر، وفي هذا تسوية بين القرآن وأية مهارة ذهنية إنسانية.
وعلى أساس هذا التفسير يكون الناس الذين ظنوا أن " المعنى " في نظرية الجاحظ يشير إلى عدم التفاوت في " العملية الفكرية " القائمة وراء البناء الفني، قوماً مخطئين في تصورهم، فهم قد أساءوا فهم ما رمى إليه الجاحظ، لانهلم يتجاوز بما يعنيه " المادة الاولية " التي تتولاها " الروية " بالصياغة، فخلطوا - بذلك - بين تلك المادة الضرورية المشاعة وبين " الروية " الفكرية التي تؤسس " وحدة كاملة " من اللفظ والمعنى تأسيساً متفاوتاً في القدرة على التأثير، فرجعوا الفضيلة إلى اللفظ وحده " ولما أقروا هذا في نفوسهم حملوا كلام العلماء في كل ما نسبوا فيه الفضيلة إلى اللفظ على ظاهره، وأبوا ان ينظروا في الأوصاف التي اتبعوها نسبتهم الفضيلة إلى اللفظ؟.. ولكن جعلوا كالمواصفة بينهم ان يقولوا اللفظ وهم يريدون
(1) دلائل الإعجاز: 181.
(2)
المصدر نفسه: 182.
الصورة التي تحدث في المعنى والخاصة التي حدثت فيه، ويعنون الذي عناه الجاحظ حيث قال: وذهب الشيخ إلى استحسان المعاني والمعاني مطروحة وسط الطريق؟ الخ " (1) فالذي يعنيه الجاحظ وأمثاله هو تلك " الصورة " لا مجرد اللفظ نفسه.
إلى أي مدى يصح تصور الشعر كالصياغة أو إلا برسيم
لقد لجا عبد القاهر كثيراً، وهو يشرح هذه الفكرة حول " الصورة " المجتمعة من اللفظ والمعنى، إلى التمثيل عليها ومقايستها بعملية الصياغة أو بالوشي والابرسيم ولكنه كان في كل مرة متنبهاً إلى ما تجره هذه المقايسة من تضليل، فالذي يتصور الشعر صياغة قد يرستم في ذهنه أن الصائغين يصنعان سوارين لا يكون الفرق بينهما واضحاً، فهل يمكن أن يحدث مثل ذلك في " النظم "؟ ويجيب عبد القاهر على هذا التساؤل بتقرير مبدأ التفاوت دائماً، ولكن الناس درجوا على ان يقولوا هذا شاعر قد أتى بالمعنى بعينه، على طريق التساهل والتجوز، ولا يمكن لشاعر آخر أن يأتي بالمعنى بعينه، إلا كان ذلك تكراراً تاماً لعبارات الشاعر الأول، وفي هذا نفسه ما يدل على ميزة النظم لأنها هي التي تحقق ذلك التفاوت (2) . أما التشبيه بالابريسم فإنه أيضاً قاصر لأنه قد يوحي أن " النظم " ضم للكلمات بعضها إلى بعض كما يحدث في ضم الألفاظ يتبع نسقاً قرره النحو، فإذا ضمت الألفاظ إلى بعضها البعض دون ان تتوخى فيها معاني النحو لم يكن ذلك نظماً، فالفرق إذن بين النظم والابريسم هو فرق في " العامل العمدي " في إنشاء سياق ما (3) .
(1) دلائل الإعجاز: 338.
(2)
انظر الدلائل: 184 - 185 وكذلك ص: 252.
(3)
انظر الدلائل: 259 - 260.
التفاوت بين الصور رغم تشابه المعاني
وقد أمعن عبد القاهر في تمييز التفاوت بين صورتين يظنهما الناس ممثلتين لمعنى واحد حين أورد مزدوجات من الأبيات، كل اثنين منهما لشاعرين، والصورة في أحد البيتين أدنى بكثير من الصورة في البيت الثاني، ثم شفع ذلك بنماذج أخرى من المعاني المتحدة، إلا أن الصورة - أو الصياغة - فيها قد بلغت في كل بيتين مستوى فائقاً، ومع ذلك ظل التفاوت موجوداً (1) ؛ ثم وضح لم أختار مصطلح الصورة بقوله:" وأعلم أن قولنا الصورة إنما هو تمثيل وقياس لما نعلمه بعقولنا على الذي نراه بأبصارنا، فلما رأينا البينونة بين آحاد الأجناس تكون من جهة الصورة فكان بين إنسان من إنسان وفرس من فرس بخصوصية تكون في صورة هذا لا تكون في صورة ذاك، وكذلك كان الأمر في المصنوعات فكان بين خاتم من خاتم وسوار من سوار بذلك، ثم وجدنا بين المعنى في أحد البيتين وبينه في الآخر بينونة في عقولنا وفرقاً، عبرنا عن ذلك الفرق وتلك البينونة بأن قلنا للمعنى في هذا صورة غير صورته في ذلك، وليس العبارة عن ذلك بالصورة شيئاً نحن ابتدأناه فينكره منكر، بل هو مستعمل مشهور في كلام العلماء ويكفيك قول الجاحظ: وإنما الشعر صياغة وضرب من التصوير "(2) .
التفاوت في الصور هو الطريق لإثبات الإعجاز كما كان عند الآمدي والقاضي
ويتجلى من هذا كيف حاول عبد القاهر أن يظل في بحثه عن " الصورة " منسجماً مع محاولته في تبيان حقيقة الغعجاز، فالتفاوت في الصور - مهما تتقارب - شيء لا يكاد يقف عند حد، فإذا بلغ الأثر الأدبي درجة من التمييز لا يلحقه فيها أي اثر آخر صح أن يسمى معجزاً، ومثل هذا التفاوت
(1) الدلائل: 342 - 354.
(2)
الدلائل: 355.
يتحقق في المعنى، أي القضايا الخارجية مهما يكن حظها من الجد والسمو، كأن تكون مما أيد العقل صحته المطلقة، ثم أن التركيز على الصورة وحدها يبعد عبد القاهر من الخوض في العلاقة بينها وبين " الفاعل " لها أو " القوة الفاعلة "، إذ أن تلك العلاقة لا يمكن بحثها في إطار الإعجاز القرآني، وما دام هم الناقد أن يستكشف الجمال الفني (أيا كانت درجته) في الصورة، فإن درجة ذلك الجمال - بالنسبة لغيره - هي التي تشير إلى طبيعة القدرة التي تمكنت من إبراز تلك الصورة - أي أن النتيجة تتخذ دليلاً على الفاعل دون أن تربط به، أو تفضي إلى التحدث عن مدى العلاقة بينها وبينه.
الوحدة في مقياس عبد القاهر
لذلك كانت نظرية النظم (أو التأليف) عند عبد القاهر إنكاراً لتلك الثنائية المضللة وعودة إلى الوحدة، أي ان يعنى الناقد برؤية الصورة مجتمعة من الطرفين معاً دون فصل بينهما؛ وتلك هي فيما يبدو نظرية الجاحظ، حتى حين يمثل عبد القاهر بين الشعر والصياغة والتصوير. وقد كان عبد القاهر يحس أن أخذه بتلك النظرية يخدم فكرة الإعجاز، ويقلل من الانحياز إلى اللفظة المفردة، ويمنح المعنى - من داخل الصورة المركبة - قيمة كبرى، غير إن مصطلح " المعنى " لديه لم يبق كما كان عند الجاحظ بل أصبح يعني " الدلالة " الكلية المستمدة من الوحدة، لا " المادة الأولية " أو الحقائق الخارجية التي تحدث الجاحظ عنها، ولا ندري إلى أي حد استغل عبد القاهر كتاب الجاحظ في نظم القرآن، لترسيخ نظريته، ولكنا نجده يفيء إلى كتاب آخر للجاحظ هو كتاب " النبوة " فينقل عنه قوله: " ولو أن رجلاً قرأ على رجل من خطبائهم وبلغائهم سورة واحدة لتبين له في نظامها
ومخرجها من لفظها وطابعها أنه عاجز عن مثلها، ولو تحدى بها أبلغ العرب لأظهر عجزه عنها لغة ولفظاً " (1) ، فالذي يريده الجاحظ هنا هو مبدأ " النظم " وإن عبر عن موقفه بالحديث عن اللغة واللفظ.
وإذا كان عبد القاهر قد استمد نظرية " النظم " من الجاحظ في خطوطها العريضة، فربما كان تفسيره للنظم بأنه " إذا رفع معاني النحو وأحكامه مما بين الكلم حتى لا تراد فيها في جملة ولا تفصيل خرجت الكلم المنطوق ببعضها في أثر بعض، في البيت من الشعر والفصل من النثر من غير أن يكون لكونها في مواضعها التي وضعت فيها موجب ومقتض "(2) - أقول: ربما كان هذا التفسير هو مما اهتدى إليه عبد القاهر نفسه في نطاق تلك النظرية العامة.
الانتقال من المعنى إلى معنى المعنى
وليس من همنا هنا أن نناقش عبد القاهر في نظريته هذه، فذلك يتطلب عرضاً مفصلاً لدقائق كتابيه - الدلائل والأسرار - ولكنا نعتقد إن اتخاذه لهذه الفكرة منطلقاً هو الذي نقله بعد قليل إلى أدق ما نفذ إليه في سياق تلك النظرية، فقد انتقل من تفاوت الدلالات إلى مرحلة لم ينتبه إليها أحد قبله من النقاد؛ وقد أسعفته نظرية الجاحظ في " المعاني المطروحة " على ذلك؛ فقد خيل إليه أن الناس حين أساءوا فهم نظرية الجاحظ، لم يلحظوا تفاوت الدلالات الناجم عن طريق الصياغة، فقولك، خرج زيد، قول تصل منه إلى المقصود بدلالة اللفظ وحده، ولكنك حين تقول: هو كثير رماد القدر، أو: رأيت أسداً، وأنت تريد رجلاً شجاعاً، أو: بلغني أنك تقدم رجلاً وتؤخر أخرى، فإنك في مثل هذه الأقوال تطرح أولاً دلالة أولية
(1) دلائل الإعجاز: 366.
(2)
دلائل الإعجاز: 186.
تنتقل منها إلى دلالة ثانية تصل بها إلى غرض جديد: " وإذ قد عرفت هذه الجملة فهاهنا عبارة مختصرة وهي أن تقول المعنى ومعنى المعنى، تعني بالمعنى المفهوم من ظاهر اللفظ والذي تصل إليه بغير واسطة، وبمعنى المعنى أن تعقل من اللفظ معنى ثم بفضي بك ذلك المعنى إلى معنى آخر "(1) ، فمرحلة " معنى المعنى " هي المستوى الفني من الكتابة والاستعارة والتشبيه، وفي هذه المرحلة يكون التفاوت أيضاً في الصورة أو الصياغة، لأنه تفاوت في الدلالة المعنوية أيضاً، مثلما يحدث أيضاً تفاوت في الدلالة في المرحلة الأولى بين قولك: قام زيد، زيد قام، قائم زيد؟ الخ؟ ومن مرحلة المعنى يتكون " علم المعاني " ومن مرحلة " معنى المعنى " يجيء علم البيان، ولهذا نستطيع أن نقول إن عبد القاهر بعد أن انتهى من كتابه دلائل الإعجاز الذي تحدث فيه حول المعنى، حاول " أن يخصص كتاباً لدراسة " معنى المعنى " فكان من ذلك كتابه " أسرار البلاغة ".
التحليل للنماذج من الزاوية الجمالية ميزة متفردة عند عبد القاهر
وهذا الكتاب الثاني ربما كان أدق كتاب باللغة العربية في الحديث عن ضروب البيان، وفيه من التفسيرات الجمالية ما يدل على ذوق نقدي أصيل، وربما كان عيب الكتب التي اعتمدت عليه في البلاغة من بعد أنها جردته من تلك المسحة الجمالية، وجعلت قواعده أحكاماً صارمة، ليس فيها إحساس الناقد الأصيل، ولا قوة التعليل الذوقي أو الكري، فهنا يدرس الجرجاني التشبيه والتمثيل والاستعارة وهو يلمح دائماً أن " معنى المعنى " يقوم على مستويات متفاوتة في الدلالة والتأثير معاً، بنظرة عميقة شاملة تدل على عمق نفسي فكري في آن، وحسبنا أمثلة منه ذات صلة وثيقة بالمنهج النقدي.
(1) أسرار البلاغة: 102.
وقفته عند التناوب بين المكنى والصريح وقيمة التمثيل في ذلك
يقرر عبد القاهر - مثلاً - ان التمثيل إذا جاء في أعقاب المعاني كساها أبهة ورفع من أقدارها وشب من نارها وزادها قوة في التأثير النفسي (فإن كان مدحاً كان أبهى وأفخم؟ وإن كان ذماً كان مسه اوجع وميسه ألذع؟ وغن كان حجاجاً كان برهانه أنور وسلطانه أقهر؟ " ثم يتساءل عن السر في ذلك فيجد العلة فيه أن النفوس تأنس إذا هي خرجت من خفي إلى جلي ومكني إلى صريح لأنها حينئذ تنتهي إلى حال تكون بها أكثر وثوقاً، كأنما تنتقل من العقل إلى الإحساس، ومما يعلم بالفكر إلى ما هو معلوم بالطبع، وهذا التمثيل قد يكون إزالة للريبة بعد مقدمة غريبة كما في قول المتنبي:
فإن تفق الأنام وأنت منهم
…
فإن المسك بعض دم الغزال أو قد يكون مبيناً للمقدار وإيراد قياس من غيره يكشف عن حده، كما في قول الشاعر:
فأصبحت من ليلى الغداة كقابض
…
على الماء خانته فروج الأصابع ومعلوم أن قوة التمثيل في الأول تزيل الغرابة، وان قوته في الثاني تكشف عن مقدار الحال.
قوة التمثيل من الزاوية العقلية
وقد نذهب إلى الظن بان الجرجاني حين قرن التمثيل بقوة إيراد الشاهد الحي بعد وضع الحكم العقلي إنما يرى أن هذه هي السبيل الضرورية أمام الشاعر، ولكن هذا الظن ما يلبث أن يزول حين نعود فنجد الجرجاني هو ذلك الناقد " العقلاني " الذي يرفع دائماً من قيمة " الفكرة " ويرى الاهتداء إليها من أهم ضروب اللذة النفسية في تتبع صور الجمال؛ فالتمثيل الذي
يحوج القارئ إلى طلب معناه بالفكرة ويحرك الهمة والخاطر لطلبه لا يقل إمتاعاً عن التمثيل الذي ينتقل بالقارئ من منطقة العقل إلى منطقة الحس: " ومن المركوز في الطبع ان الشيء إذا نيل بعد الطلب له أو الاشتياق إليه ومعاناة الحنين نحوه كان نيله أحلى وبالمزية أولى فكان موقعه من النفس أجل والطف "(1) هل هذه دعوة إلى التعقيد والتعمية وتعمد ما يكسب المعنى غموضاً؟ نعم إنها كذلك من وجه واحد، أعني إنها تعمية فنية وتعقيد فني، وليست تعقيداً ناشئاً عن اختلاف في النظم، فهي تكلف القارئ مشقة، غلا أنها مشقة الغائص الذي يبحث عن اللؤلؤة في جوف الصدفة، أما التعقيد المؤرق الذي لا يخرج الإنسان منه بجدوى فذلك هو الشيء المذموم (2)، ويرى عبد القاهر أن البحتري هو فارس حلبة التعمية الجميلة لأنه يكد في سبيلها ويضع المعاني الدقيقة في صور مقربة:" وإنك لا تكاد تجد شاعراً يعطيك في المعاني الدقيقة من التسهيل والتقريب ورد البعيد الغريب إلى المألوف القريب ما يعطي البحتري ويبلغ في هذا الباب مبلغه فإنه ليروض لك المهر الارن رياضة الماهر حتى يعنق تحتك أعناق القارح المذلل، وينزع من شماس الصعب الجامح حتى يليين لك لين المنقاد الطيع "(3) ولذة النفس كبيرة إذا انقادت لها الفكرة الدقيقة، فالدقة في الشعر ليست بأي حال تعقيداً سيئاً:" وهل شيء أحلى من الفكرة إذا استمرت وصادفت نهجاً مستقيماً ومذهباً قويماً وطريقة تنقاد في الفكرة لها الغاية فيما ترتاد؟؟ قال الجاحظ في أثناء فصل يذكر فيه ما في الفكرة والنظر من الفضيلة: " وأين تقع لذة البهيمة بالعلوفة ولذة السبع بلطع الدم واكل اللحم من سرور الظفر بالأعداء ومن انفتاح باب العلم بعد إدمان قرعه، وبعد فإذا مدت الحلبات لجري الجياد ونصبت الأهداف لتعرف فضل الرماة في الإنفاذ والسداد فرهان العقول التي تستبق ونضالها
(1) أسرار البلاغة: 126.
(2)
المصدر نفسه 127 - 130.
(3)
أسرار البلاغة: 134.
الذي يمتحن قواها في تعاطيه هو الفكر والروية والقياس والاستنباط " (1) ، وإيراد هذا الرأي للجاحظ رد ضمني على من أساءوا فهم نظرته في المعاني، حين خيل إليهم انه يعني بالمعاني " المستوى الفكري " في حقائق الحياة.
الجرجاني " عقلاني " في نظريته إلى الجمال
وتتغلب هذه النظرة " العقلانية " على الجرجاني الناقد، فهو من خلالها ينظر إلى الجمال ويزن مقدار التأثير في الفن الأدبي، فأعلى صور التشبيه عنده " أن تجمع أعناق المتنافرات والمتباينات في ربقة وتعقد بين الأجنبيات معاقد نسب وشبكة "(2) لأن ذلك يستدعي من المتفنن دقة الفكر ولطف النظر، والفنان الأصيل هو الذي يتجاوز ما يحضر العين إلى ما يستحضر العقل، ولا يعني بما تنال الرؤية بل يعني بما تعلق بالروية (3) ، وإذا تذكرنا أن لفظة الخيال غير مألوفة في النقد الفكري وحسب، بل ما يتصل بقوة على " الروية " لا ما يتصل بالعمل الفكري وحسب، بل ما يتصل بقوة الحدس وقوة التخيل أو الطاقة التي تجمع بين " غير المتشابهات " أو التي ترى بين شيئين، مشابهة خفية تدق على الروية المجردة وتنأى عنها، ولهذا كان حكمه على التشبيه " أن كل شبه رجع إلى وصف أو صورة أو هيئة من شانها ان ترى وتبصر أبداً، فالتشبيه المعقود عليه نازل مبتذل، وما كان بالضد من هذا وفي الغاية القصوى من مخالفته فالتشبيه المردود غليه غريب نادر بديع، ثم تتفاضل التشبيهات التي تجيء واسطة لهذين الطرفين بحسب حالها منهما، فما كان منها إلى الطرف الأول اقرب فهو أدنى وانزل، وما كان إلى الطرف الثاني أذهب فهو أعلى وافضل، وبوصف الغريب أجدر "(4) .
(1) أسرار البلاغة: 135 - 136.
(2)
نفسه: 136.
(3)
نفسه: 138.
(4)
أسرار البلاغة: 151.
الاهتمام بغرابة التشبيه
هنا تصبح " غرابة " التشبيه مقياساً فنياً لجماله ولو وقف الجرجاني عند هذا الحد لكان قول ابن المعتز في تشبيه البنفسج:
كأنها فوق قامات ضعفن بها
…
أوائل النار في أطراف كبريت وقوله في البرق:
وكان البرق بصحف قار
…
فانطباقاً مرة وانفتاحا صنوين لأنهما ينتحيان الغرابة.
اقتران الصور بالحركة
ولكن الجرجاني يدرك ان الغرابة نفسها تتفاوت في التصوير، فهذان التشبيهان لا يبلغان شأو قول ابن المعتز نفسه:
كانا وضوء الصبح يستعجل الدجى
…
نطير غراباً ذا قوادم جون والسر في ذلك هذا الذي تمثله لفظة " نطير " في الدلالة، ومن هذا التدرج يستمد الجرجاني حكماً جديداً في التشبيه وهو أن سحره يزداد إذا جاء " في الهيئات التي تقع عليها الحركات "، (1) فاقتران الصورة بالحركة أو بتحريك الساكن من الوسائل التي ترفع من تأثيرها في النفس؛ ولكن الجرجاني لا يجعل الحركة قاعدة فريدة، وإنما هو يلمح ما يناقضها في أحداث الغرابة وذلك بتسكين المتحرك كما في قول المتنبي في صفة الكلب:
يقعي جلوس البدوي المصطلي
…
أو قول آخر في مصلوب: " مواصل لتمطيه من الكسل ". وأرى أن
(1) أسرار البلاغة: 164 وما بعدها.
الجرجاني هنا لم يلمح أن التسكين أيضاً قائم على الحركة، فجلسة البدوي تصور السكون المتحفز - إن صح التعبير، وهيئة المصلوب الساكنة قد تحركت حركة منسجمة حين أصبحت في رأي البصيرة " تمطياً مستمراً "، كذلك فات الجرجاني أن يبين أن الصورتين: المتحركة من سكون أو الساكنة بعد تحرك هي أعمق أثراً في النفس، ومهما يكن من شيء فإن ما لحظه الجرجاني من قيمة الحركة في الصورة يجعل منه ناقداً حصيفاً دقيق الملاحظة قريباً إلى النقد الجمالي الحديث في نظراته.
الغرابة ليست خاصة أزلية
ومما يقوي هذا الحكم أن الجرجاني يؤمن بتجدد الصور وبان الغرابة ليست خاصة أزلية، وإنما هي لون يبوخ مع الزمن ويعتوره الابتذال، يرى الجرجاني ذلك، دون أن يزايله الإيمان بان الصورة هي أساس الشعر بل هي الشعر نفسه، مستشهداً على ذلك بحادثة حسان وابنه، فقد قال ابن حسان لأبيه " لسعني طائر " فقال حسان: صفه يا بني، فقال:" كأنه ملتف في بردي حبرة " فقال حسان: " قال ابني الشعر ورب الكعبة "، فجعل الصورة - أو التشبيه - مقياساً لقوة الطبع وعياراً في الفرق بين " الذهن " المستعد للشعر وغير المستعد له (1) .
كيف يكون الناقد الجمالي عقلانياً؟
وليس من تناقض بين وصف الجرجاني بالعقلانية وانه ناقد جمالي، فهو يتخذ منهجاً عقلياً في إدراك " أسرار " القول البليغ، ولكن منهجه العقلي يختلف عن ناقد عقلاني آخر هو قدامة، ذلك أن قدامة اهتم بالشكل المنطقي في تركيب منهجه وتقسيماته، وليس الأمر دائماً كذلك عند الجرجاني، فان هذا اعتمد فكره في النفاذ إلى بواطن الأمور، فكانت " عقلانيته نوعاً
(1) أسرار البلاغة: 175.
من الذكاء الخصب المقترن بإحساس فني دقيق بمواطن الجمال في فن القول، ولم يهتم كثيراً بالمبنى المنطقي الذي وضعه قدامة. ومن هذا الموقف استطاع الجرجاني أن يصحح كثيراً من الآراء النقدية التي سبقت عصره، بل لعله لم يقصد عامداً إلى إقامة نظرة نقدية جديدة وإنما كان موقفه من محاكمة الآراء السابقة هو الشيء الجديد في منهجه النقدي، وهو بذلك يختلف عن القاضي الجرجاني الذي جعل النظرات السابقة متكأً له، ويشابه المرزوقي الذي لجا في نقده إلى إعادة تفسير النظرات السابقة، مع فرق أصيل بين الرجلين، وهو ان المواقف النقدية لدى عبد القاهر إنما جاءت صدى لنظراته البلاغية، لا غاية في نفسها.
علاقة الشعر بالصدق والكذب
وعلى أساس ذلك المنهج العقلاني الجمالي تناول الجرجاني مشكلة من مشكلات النقد القديمة، استغرقت كثيراً من جهد النقاد من قبله ومن بعده، أعني بذلك علاقة الشعر بالصدق والكذب، فنفى ان يكون كل من الصدق والكذب عند الحديث عن الشعر متعلقين بالصدق أو الكذب في الخبر أو واردين بالمعنى الأخلاقي، فمن قال كما قال البحتري:" في الشعر يغني عن صدقه كذبه " أو قال " خير الشعر أكذبه " فإنه لا يعني منح الممدوح صفات ليست فيه، أو وصف الجواد بالبخل والطائش بالحلم والسداد؛ ومن قال خير الشعر أصدقه فإنما يعني انه يميل إلى ترك الإغراق والمبالغة فيه.
الاحتكام إلى العقل أيضاً في المشكلة
والقول الفصل عند الجرجاني في هذه المشكلة أن المعاني - وحقه أن يقول " الحقائق "(وهنا نراه زحزح كلمة " معنى " مرة جديدة عن مدلولها العام في نظرته) - تنقسم قسمين فهناك معان يشهد العقل بصحتها كقول المتنبي:
لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى
…
حتى يراق على جوانبه الدم
ومعان يتوصل إليها الشاعر بطريقتين: بالاحتجاج أو التعليل القائمين على التخييل، وهذا النوع الثاني من المعاني هو الأكثر وروداً في الشعر، وفيه يخيل الشاعر للسامع انه يورد حكماً ينطبق على العقل، ولكنه لا يمثل معرفة يقينية، وفي هذا يشترك الشعر والخطابة " ولا يؤخذ الشاعر بان يصحح كون ما جعله أصلاً وعلة كما ادعاه فيما يبرم أو ينقض من قضية، وان يأتي على ما صيره قاعدة وأساساً بينة عقلية بل تسلم مقدمته التي اعتمدها بلا بينة "(1) ، ولهذا انقسم الناس ذوقياً في إيثار ما يؤثرون من الشعر، فبضعهم يريد من الشعر ما حفل بالمعاني التي يشهد بصحتها العقل، وبعضهم يريد منه ما عملت فيه الصنعة ونشرت عليه من شعاعها فأقيم على التخييل والتقريب والتمثيل، وهذا الفريق لا يبدي نفوراً من المبالغة والإغراق واختراع الصور، لأنه يرى أن الشعر لا يطلب فيه صدق الخبر أو يقين العقل. فإذا سئل الجرجاني: ماذا تعني بالتخييل قال: " ما يثبت فيه الشاعر أمراً هو غير ثابت أصلاً ويدعي دعوى لا طريق إلى تحصيلها ويقول قولاً يخدع فيه نفسه ويريها ما لا ترى "(2) ، وذلك ضرب من التزويق لا ينصره العقل، لان العقل يؤثر ما يمكن تلقيه باليقين. وقد جعلنا الجرجاني نعتقد أن " عقلانيته " تقدر هذا النوع العقلي الخالص تقديراً خاصاً حين قال " والعقل بعد على تفضيل القبيل الأول وتقديمه وتفخيم قدره وتعظيمه، وما كان العقل ناصره والتحقيق شاهده فهو العزيز جانبه "(3) ، ولكنه لم يطرح ما قام على التخييل لأنه أدل على القدرة الفنية؛ وإنما اختار من التخييل النوع الشبيه بالحقيقة، وهو الذي تبلغ فيه قوة التعليل درجة عالية، أي يسمح لقوة الاستدلال العقلي أن تستكشف درجة التمويه فيه، أي يمثل لذة عقلية في التدقيق والغوص والاستنتاج، وبذلك رد اللونين من الشعر: اللون القائم على
(1) أسرار البلاغة: 248.
(2)
نفسه: 253.
(3)
نفسه: 251.
حكم العقل واللون التخييلي إلى نطاق العقلانية وما يستتبع ذلك لذة الكشف، ومن اجل هذا يشبه التخييل في الشعر من حيث قوة تأثيره بالرسوم الجميلة، " والتخييلات التي تهز الممدوحين وتحركهم تفعل فعلاً شبيهاً بما يقع في نفس الناظر إلى التصاوير التي يشكلها الحذاق بالتخطيط والنقش أو النحت والنقر "(1) .
أثر الشعر وأثر الدين في النفوس
وبعد أن يوحد الجرجاني بين الشعر والرسم في القدرة على التأثير، ينقل الشعر إلى حيز الدين والرموز الدينية، فيماثل بين أثره في النفوس وأثر الأصنام في عبادها:(فقد عرفت قضية الأصنام وما عليه أصحابها من الافتتان بها والإعظام لها، كذلك حكم الشعر فيما يصنعه من الصور ويشكله من البدع ويوقعه في النفوس من المعاني التي يتوهم بها الجماد الصامت في صورة الحي الناطق؟ " (2) ؛ وقد عرف عبد القاهر حين مثل الشعر بالرسم كيف ينقل رأي الجاحظ من ميدان التشابه في الخلق الفني إلى التشابه في التأثير، أما وصله بين الشعر والرموز الدينية عند الوثنيين فإنه خطوة جرئية؛ غير أن مفهومه للتخييل - رغم المقارنة بالرسم - يدل على انه لم يفهم منه سوى درجة من " الحيل " العقلية في التمويه.
موقفه من السرقات الشعرية
وآخر المشكلات النقدية التي تصدى لها عبد القاهر هي مشكلة الآخذ والسرقة (3) . وتوضيحاً لهذه المشكلة وجدناه يحدد مواطن الاتفاق فيحصرها في ثلاثة:
(1)
اتفاق الشاعرين في عموم الغرض، كأن يصف كل منهما ممدوحه
(1) أسرار البلاغة: 317.
(2)
المصدر نفسه.
(3)
أسرار البلاغة: 313 وما بعدها.
بالشجاعة والسخاء وحسن الوجه والبهاء وهذا لا يدخل في الأخذ والسرقة إطلاقاً.
(2)
اتفاق الشاعرين في تشبيهات معروفة كتشبيه الشجاع بالأسد والجواد بالبحر، وهذا قد مشترك بين الناس، قد استقر في العقول والعادات وليس فيه شيء من الخصوصية، وليس في هذا سرقة أو أخذ.
(3)
اتفاق الشاعرين في ما لا يدرك إلا بالروية والاستنباط والتامل، وفي هذا تجوز دعوى السرقة أو الأخذ.
ولم يجيء عبد القاهر بجديد في هذا الباب، فهو يردد رأي المعتدلين من النقاد السابقين، ولكن عدم وقوفه طويلاً عند " السرقة " يدلنا على انه لم يكن يعد تلك الظاهرة أمراً أساسياً في النقد الأدبي.
استنكاره للعبث في الأمور الدينية
ولابد في ختام هذا الفصل من أن نقف وقفة قصيرة عند نظرة عبد القاهر إلى العلاقة بين الشعر والدين، لا من حيث اشتراكهما في التأثير بل من حيث تعمد الشاعر الاستهانة بالمعتقد الديني، ففي هذا المقام نجد عبد القاهر يمر بهذه المسالة مروراً سريعاً فيقول:" وأبعد ما يكون الشاعر من التوفيق إذا دعته شهوة الأغراب إلى أن يستعير للهزل والعبث من الجد (يعني الدين) "(1) ، ومع أن عبد القاهر قد خالف كثيراً من النقاد السابقين الذين رأوا أن لا يحكم على الشعر والشاعر من الزاوية الدينية، فإنه كان أصرح منهم موقفاً لأن أولئك النقاد وضعوا نظرية دفاعية خالفوها عند التطبيق، أما هو فإنه قد تحرج من إطلاق العنان لنفسه في خوض هذا الموضوع.
(1) أسرار البلاغة: 215، ويستشهد على ذلك بمثل قول المتنبي:
يترشفن من فمي رشفات
…
هن فيه أحلى من التوحيد
- 5 -
النقد الأدبي في القيروان
في القرن الخامس
في زمن باديس الصنهاجي وابنه المعز بلغت القيروان ذروة النهضة في الحياتين العلمية والأدبية، ويكفي أن نذكر أمثال الرقيق المؤرخ وابن رشيق وابن شرف والحصري صاحب زهر الآداب، هذا إذا لم نعد كثيرين غيرهم. حتى نتصور طرفاً من تلك النهضة التي لم تلبث أن انهارت بانهيار القيروان نفسها على يد قبائل سليم وهلال حوالي منتصف القرن الخامس. لكن قبل النكبة التي حلت بها وجدت الحياة الأدبية والعلمية فيها تشجيعاً كبيراً من باديس وابنه، وأصبحت القيروان ملتقى المهاجرين والرحالة والكتب المهاجرة من المشرق والأندلس، ويكفي أن يرصد الدارس مصادر ابن رشيق في كتاب العمدة حتى يستكشف ان الثقافة المشرقية كانت سريعة الانتقال إلى افريقية، هذا مع أن كتاب العمدة لا يمثل إلا جانباً صغيراً من تلك الثقافة.
انتقال الطرائق الشعرية والنقدية من المشرق
وكانت هذه النهضة الثقافية ذات أثر في نمو حركة النقد الأدبي، كما أن التنافس الشديد بين الأدباء في حاضرة بني زيري قد زاد من نموها؛ وزاد الأمر حدة أن القوم كانت قد وصلتهم من خلال الثقافة المشرقية مذاهب شعرية متعددة، فهذا يحب طريقة ابن أبي ربيعة، وذاك يميل إلى طريقة في التشبيه تشبه طريقة ابن المعتز، وثالث ينحو منحى جاهلياً، ورابع يغرم بطلب
الاستعارة، وتجمعهم المجالس فيتناقشون ويتماحكون، وينقسم الشهود كل على حسب هواه بين كل متحاورين منهم. وكانت الثقافة المشرقية قد نقلت إليهم طرقاً متفاوتة في النقد أيضاً. فعرفوا ابن قتيبة وقدامة وابن وكيع والجرجاني والرماني وكثيرين غيرهم. وهكذا كانت جميع العوامل مسعفة على ظهور حركة نقدية في القيروان؛ فكان من أعلامها أبو عبد الله القزاز الذي ألف كتاباً في ما أخذ على أبي الطيب، وابن ميخائيل محمد بن الحسين القرشي الذي كان شديد الانتقاد على مذهب قدامة (1) ، إلا أنا لا نعرف له مؤلفاً نقدياً؛ وعبد الكريم بن إبراهيم النهشلي صاحب كتاب " الممتع "، وابن رشيق مؤلف العمدة وقراضة الذهب والأنموذج في شعراء القيروان؛ وابن شرف الذي هاجر إلى الأندلس بعد خراب القيروان، وهنالك كتب " رسالة الانتقاد ".
عبد الكريم النهشلي صاحب الممتع
ويمكن أن يعد عبد الكريم النهشلي أستاذاً لابن رشيق ومن ابعد الشخصيات تأثيراً فيه، فكتاب العمدة ينطق بما يكنه له ابن رشيق من تقدير وإجلال؛ وكان إبراهيم كاتباً للمعز بن باديس، يذهب في شعره مذهب التروية والإطالة. ويبدو انه كان طيب القلب لا يفقه شيئاً كثيراً في أمور الدنيا حتى وصفه بعض الناس بالبله، ولما قيل له في ذلك أجاب: هل أنا ابله في صناعتي؟ قيل: لا، فقال: فما على الصائغ أن يكون نساجاً (2) .
(1) مسالك الأبصار 11: 337 - 340.
(2)
مسالك الأبصار 11: 292.
تأثير عبد الكريم في ابن رشيق
ويدل ما تبقى من كتابه " الممتع في علم الشعر وعمله "(1) على أن بعض أبواب العمدة إنما رسمت على مثاله مثل: السؤال بالشعر، في من نوه به المدح وحطه الهجاء، النهي عن التعرض للشعراء، الحديث عن أغراض الشعر من مدح وهجاء؟ الخ ومع أن عبد الكريم كان كاتباً فإنه يقف في صف من يؤثرون الشعر ويرونه " خير بيان العرب " إلا انه يتحدث بشيء من سذاجة عن أسبقية النثر للشعر وكيف أن العرب حين رأت النثر مما لا يستطاع حفظه - وهم ليسوا أهل كتابة - " تدبروا الأوزان والاعاريض فاخرجوا الكلام احسن مخرج بأساليب الغناء فجاءهم مستوياً ورأوا باقياً على مر الأيام فألفوا ذلك وسموه شعراً، والشعر عندهم اللفظة، ومعنى قولهم: ليت شعري أي ليث فطني ".
قسمة الشعر على أساس الفضيلة يتحول به عبد الكريم
وقد لمح عبد الكريم قسمة قدامة للشعر على أساس الفضيلة وضدها فقسم الشعر في " شعر هو خير كله وذلك ما كان في باب الزهد والمواعظ الحسنة والمثل العاد على من تمثل به بالخير وما اشبه، وشعر هو ظرف كله وذلك القول في الأوصاف والنعوت والتشبيه وما يفتن به من المعاني والآداب. وشعر هو شر كله وذلك الهجاء وما تسرع الشاعر به إلى أغراض الناس. وشعر يتكسب به وذلك ان يحمل إلى كل سوق ما ينفق فيها، ويخاطب كل إنسان من حيث هو ويأتي غليه من جهة فهمه ". وفي موضع آخر يقول في أقسام الشعر: " أصناف الشعر أربعة: المديح والهجاء والحكمة واللهو، ثم يتفرع من كل صنف من ذلك فنون فيكون في المديح: المراثي والافتخار والشكر، ثم يكون من الهجاء الذم والعتاب والاستبطاء، ومن الحكمة الأمثال والتزهيد والمواعظ، ويكون من اللهو الغزل والطرب وصفة الخمر
(1) منه اختبار الممتع بدار الكتب المصرية، رقم: 54 (أدب) .
والمخمور "؛ ويبدو أيضاً تأثر عبد الكريم بالآمدي في مواضع من كتابه إلى جانب تأثره بقدامة.
أيهما المقدم؟ اللفظ أم المعنى؟
وكان عبد الكريم في طريقته الشعرية ممن يقدمون اللفظ على المعنى ولذلك يقول في الممتع: " الكلام الجزل أغنى عن المعاني اللطيفة من المعاني اللطيفة عن الكلام الجزل "، وروى قول بعض الحذاق:" المعنى مثال واللفظ حذو، والحذو يتبع المثال فيتغير بتغيره ويثبت بثباته " وفي هذين القولين دلالة على اضطراب الناقد حول هذه القضية.
موقفه من السرقات
وقد كرر في موقفه من السرق آراء النقاد السابقين فذهب إلى أن المتفق عليه هو أن السرق ما نقل معناه دون لفظه وكان مبعداً في الأخذ.
المؤثرات المسعفة على الشعر
وكان عبد الكريم يؤمن بان استجاشة الخاطر على نحو عملي أمر هام في استدعاء الشعر، وقد ذكر ابن رشيق عن من اخبره أنه رأى عبد الكريم في موضع يقال له الكدية قريب من المهدية وهو نزه طيب الهواء، فإذا عبد الكريم على سطح برج هنالك مشرف على ما حوله، فلما سئل عما يصنع قال: ألقح خاطري واجلو ناظري (1) .
الفرق بين الغزل عند العرب والعجم
وقد أثار هذا الناقد بعض الملامح الدقيقة معتمداً على ذكائه: فمن ذلك رأيه في أن عادة العرب في الغزل أن يكون الشاعر متماوتاً مفتوناً، وعادة العجم أن تكون المرأة طالبة راغبة، ولست ادري كيف غاب عن عبد
(1) العمدة 1: 138.
الكريم غزل عمر بن أبي ربيعة وإضرابه، فإن ملمحه هذا على ما فيه من جدة غنما يعتمد أساساً اخلاقياً، وذلك ليتخذ من هذا دليلاً على " كرم النحيزة في العرب وغيرتها على الحرم "(1) .
أثر البيئة في الشعر
ولكن اعمق ملمح آثاره عبد الكريم هو أثر اختلاف البيئات عامة في الشعر والذوق: " وقد تختلف المقامات والأزمنة والبلاد، فيحسن في وقت ما لا يحسن في آخر، ويستحسن عند أهل بلد ما لا يستحسن عند أهل غيره، ونجد الشعراء الحذاق تقابل كل زمان بما استجيد فيه وكثر استعماله عند أهله بد أن لا تخرج من حسن الاستواء وحد الاعتدال وجودة الصنعة، وربما استعملت في بلد ألفاظ لا تستعمل كثيراً في غيره كاستعمال أهل البصرة بعض كلام أهل فارس في أشعارهم ونوادر حكاياتهم؟ والذي اختاره أنا التجويد والتحسين الذي يختاره علماء الناس بالشعر ويبقى غابره على الدهر "(2) . وأصل هذا الرأي موجود عند الجاحظ الذي تحدث عن اختلاف البيئة، كما تحدث في البيان والتبيين عن تباين اللهجات في الأمصار. ولكن عبد الكريم قد نقل هذا إلى مستوى جديد حين تحدث - في أفريقية - عن اختلاف إقليمي يترك أثره في الشعر، وبدلاً من أن يذهب إلى اعتناق هذا الاتجاه الإقليمي يترك أثره في الشعر، وبدلاً من ان يذهب إلى اعتناق هذا الاتجاه الإقليمي رأى ان الشعر الخالد " الذي يبقى غابره على الدهر " ليس هو الذي يتشبث بملاءمة البيئة الاقليمية، وإنما هو الذي ينبني على " التجويد والتحسين " ويستضيء بضوء الأحكام النقدية العامة. وسترى كيف أن ابن رشيق اعتنق مذهب أستاذه ودافع عنه، ولكن قبل أن نمضي عن هذا الرأي
(1) أورد ابن رشيق هذا في العمدة 2: 100 ولم يقطع بأن صاحب الرأي هو عبد الكريم غذ قال: قال بعضهم وأظنه عبد الكريم.
(2)
انظر العمدة 1: 58.
علينا أن نسجل أن اعتماد المقاييس النقدية الكبرى التي وضعها المشارقة قد كان عاملاً - إلى جانب عوامل أخرى كثيرة - في محاربة الإخلاد إلى النزعات الإقليمية الضيقة.
مؤلفات ابن رشيق في النقد
ويمكن أن نعد عمل ابن رشيق في كتبه الثلاثة متكاملاً فقد حاول في دراسته لشعراء القيروان في كتاب " الأنموذج " ان يطبق بعض القواعد النقدية التي حشدها في كتاب " العمدة "، وعرض في أحد الفصول الأخيرة من " العمدة " لقضية السرقة في الشعر مورداً فيها آراء العلماء وبعض أمثلتهم، حتى إذا تعرض هو نفسه لتهمة السرقة عمل رسالة " قراضة الذهب " ليدل على اطلاعه ومقدرته في هذه الناحية، بما يضعه في مصاف من تعرضوا لهذا الموضوع من النقاد.
كتاب العمدة
ولكن كتاب العمدة أهلها وأبعدها أثراً، فهو كتاب جامع من حيث انه معرض للآراء النقدية التي ظهرت في المشرق حتى عصر ابن رشيق، ألفه لأبي الحسن علي بن أبي الرجال الذي كان يعد هو وأهل بيته برامكة أفريقية (1) ، وقد ذكر في مقدمة الكتاب انه رأى الناس قد بوبوا الكلام في الشعر أبواباً مبهمة وضرب كل واحد في جهة، فجمع احسن ما قاله كل واحد منهم في كتابه: قال: " وعولت في أثره على قريحة نفسي ونتيجة خاطري، خوف التكرار ورجاء الاختصار، إلا ما تعلق بالخبر وضبطته الرواية فإنه لا سبيل إلى تغيير شيء من لفظه ولا معناه؟ فكل ما لم أسنده إلى رجل معروف باسمه ولا أخلت فيه على كتاب بعينه فهو من ذلك؟ "(2) ؛ ويجب أن نفهم أن تعويله على نتيجة خاطره وقريحة نفسه لا يعني الابتكار، وغنما
(1) أعتاب الكتاب: 214.
(2)
العمدة 1: 3.
يعني التصرف في النقل فيما يجوز فيه التصرف، فإذا لم يكن المنقول كذلك من خير أو رواية فعندئذ يورده بنصه، وقد كانت هذه الطريقة أحياناً موهمة لأنها جعلت بعض الدارسين يظن أن الآراء التي لا تسند إلى مصدر فهي من ابتكار ابن رشيق؛ وذلك خطأ لا يتبين إلا بعرض كتابه على ما سبق من كتب وآراء، وقد دلت هذه المعارضة على أن حظ ابن رشيق من الأصالة النقدية ضئيل.
صهر ابن رشيق لآراء الآخرين يخفي أخذه لها
ودارس العمدة معذور إذا هو لم يستطع رد كل رأي إلى صاحبه لأن ابن رشيق ساق الكلام متصلاً أحياناً، بحيث يخفى على القارئ أن خيوط النسج مأخوذة من مواضع مختلفة؛ ولأضرب هنا مثلاً واحداً، قد تجيء له أمثلة في سياق هذا البحث، يقول ابن رشيق:" وأهل صناعة الشعر أبصر به من العلماء بآلته من نحو وغريب ومثل وخبر وما أشبه ذلك؟ وقد يميز الشعر من لا يقوله، كالبزاز يميز من الثياب ما لم ينسجه؟ "(1) هذه العبارة توحي ان الأحكام فيها لابن رشيق؛ ولكنك تقرا في مواضع متباعدة بعض الشيء من مقدمة المرزوقي على شرح الحماسة قوله:
(1)
ولو أن نقد الشعر كان يدرك بقوله لكان من يقول الشعر من العلماء أشعر الناس.
(2)
ويكشف هذا أنه قد يميز الشعر من لا يقوله.
(3)
والفرق بين ما يشتهي وما يستجاد ظاهر بدلالة ان العارف بالبز يشتهي لبس ما ليس يستجيده (2) .
فانظر كيف صهر ابن رشيق هذه الأقوال، فنقض الأول منها،
(1) العمدة 1: 75.
(2)
شرح الحماسة 1: 14، 13.
واقتبس الثاني على حاله، وتصرف باستخراج حكم جديد مستمد من القولة الثالثة، وجمعها معاً في نطاق واحد.
ولكن ابن رشيق رغم ذلك ناقد قدير، لم تضع شخصيته بين آراء عبد الكريم والجمحي والمبرد والجاحظ وابن وكيع والرماني ودعبل والجرجاني والمرزوقي وابن قتيبة وقدامة والحمار السرقسطي وكثير غيرهم - سواء صرح بأسمائهم أو لم يصرح - ولعل ابن رشيق أبرز مثل على الناقد الذي يملك الإعجاب عن طريق شخصيته لا عن طريق الجدة في الرأي، ولو قارنا بينه وبين العسكري صاحب الصناعتين وهما متشابهان في بناء مؤلفيهما من كتب الآخرين وآرائهم لوجدنا العسكري مصنفاً وحسب، باهت الشخصية لا سبيل إلى عده ناقداً، بينا يقف ابن رشيق بحيويته وقفة بارزة بين نقاد القرن الخامس، هذا على الرغم من أن كتاب الصناعتين أدق تبويباً من كتاب العمدة، غير أن العمدة يمتاز بين كتب النقد الأدبي بأنه احتوى ما يريده المتأدب من حديث عن الشعر ومن حديث في الشعر نفسه، فكل فصل فيه مستغن بنفسه حسن الإيراد والاقتصاص للخبر والرأي معاً، ولهذا فيما اعتقد نال الكتاب حظوة واسعة بعد القرن الخامس، وأصبح مثالاً يحتذيه من يكتبون في علم الشعر، ومنهلاً لطلاب النقد الأدبي يدرسه الدراسون ويلخصه الملخصون، حتى نال ثناء عريضاً من ابن خلدون؛ لان المثقف الذي كان يحرص على شيء من المعرفة النقدية لم يعد إذا قراه بحاجة إلى ان يقرأ قدامة والآمدي والحاتمي والجرجاني، إذ استخرج ابن رشيق خير ما عندهم وأودعه كتابه، وهؤلاء هم أئمة النقد، فما ظنك إذا وجد فيه القارئ خلاصة لخير ما عند غيرهم أيضاً.
الانتصار للشعر على النثر
ويطالعنا ابن رشيق بأنه من أنصار الشعر، ولذلك نجده بيداً المفاضلة بين الشعر والنثر، كأن الخوض فيها يعد أمراً لازباً، وما هي إلا مسألة نقدية تجريدية، وفي أثناء تبيانه لفضل الشعر يقول: وكان الكلام كله منثوراً فاحتاجت العرب إلى الغناء بمكارم أخلاقها وطيب أعراقها؟ فتوهموا اعاريض جعلوها موازين الكلام فلما تم لهم وزنه سموه شعراً لأنهم شعروا به أي فطنوا " (1) ، (وإنما أوردت هذه العبارة لاشير إلى أن ورودها في تضاعيف الكلام يوهم إنها لابن رشيق، وإنما هي عبارة عبد الكريم التي قدمنا ذكرها قبل قليل، وأمثلة هذا كثيرة في الكتاب) . ثم هو يرد على المحتجين للنثر بان القرآن لم يجيء منظوماً، وكأنه يضع نصب عينه حديث المرزوقي، ورده عليه غاية في الدقة: إذ يرى أن مجيء القرآن منثوراً أظهر في الأعجاز لقوم شعراء، وهو ليس بشعر، كما أنه اعجز الخطباء وليس بخطبة والمترسلين وليس بترسيل، غير ان العرب حين حاروا في أمره سموه شعراً لما في قلوبهم من هيبة الشعر وفخامته، فإذا عرض لحجة المرزوقي بان الشعراء وضعوا من الشعر بمدح السوقة، ذكر أن للسوقة كتاباً " وللتجار الباعة في زمننا هذا وقبله ".
الكذب في الشعر
وأضاف إلى هذا حججاً من عنده في فضل الشعر حين حور معنى الكذب فيه وقال: اجتمع الناس على قبح الكذب ولكنهم وجدوا الكذب في الشعر حسناً، وهذه مغالطة لا تخفى ولكن الموقف الجدلي اضطر ابن رشيق إليها. وتعرض لقول المرزوقي:" الشعر أسنى مروءة الدني وأدنى مروءة السري " فذهب إلى أن بعض الناس غاب عنه معنى هذه الملة، وغنما الشعر لجلالته يرفع من قدر الخامل إذا مدح به، مثلما يضع من قدر
(1) العمدة 1: 5.
الشريف إذا اتخذه مكسياً؟، " وقد حكي أن امرأ القيس نفاه أبوه لما قال الشعر، وغفل أكثر الناس عن السبب، وذلك انه كان خليعاً متهتكأ شبب بنساء أبيه؟ فهذه العلة قد جاوزت كثيراً عن الناس ومرت عليهم صفحاً "(1) وبهذه الحيوية في المناقشة والدفاع عن الشعر اثبت ابن رشيق قدرته الفذة، وفند كل ما جاء به المرزوقي على مراحل، مع إيراد للأمثلة الموضحة هذا دون أن يذكر اسم المرزوقي مرة واحدة.
مقارنة مكرورة بين القدماء والمحدثين
ولم يأت ابن رشيق بشيء جديد في قضية المقارنة بين القدماء والمحدثين بل أورد أمثلة لمن كانوا يتعصبون للقديم كابي عمرو بن العلاء وابن الأعرابي ومن آمنوا بالتسوية والحكم للجودة كابن قتيبة، واقتبي رأي ابن وكيع في التفرقة بين القدامى والمحدثين وتشبيه الشاعر المحدث بالمغني ذي الصوت الجميل (وهذا التمثيل الذي مثله ابن وكيع من احسن ما وقع) ؛ ثم عرض لرأي عبد الكريم المتقدم في تفاوت الأزمنة والبيئات، واعتز بإيراد هذا الفصل المحكم ثم علق عليه قائلاً " فليس من أتى بلفظ محصور يعرفه طائفة من الناس دون طائفة، لا يخرج من بلده ولا يتصرف من مكانه، كالذي لفظه سائر في كل الأرض، معروف بكل مكان "(2) ، وبذلك أيد أستاذه في رفض الإقليمية الضيقة، ورأى الصواب في السيرورة والشيوع.
حد الشعر والشاعر
وكذلك هو حاله في حديثه عن حد الشعر (اللفظ والوزن والمعنى والقافية) فإنه شغل بالاقتباس عن الرماني وعبد الكريم والجرجاني وغيرهم، وليس له في هذا المجال إلا طرافة في القول، مثل قوله: " والبيت من الشعر كالبيت من الأبنية،
(1) العمدة 1: 20 - 21.
(2)
العمدة 1: 59.
قراره الطبع. وسمكه الرواية، ودعائمه العلم، وبابه الدربة، وساكنه المعنى، ولا خير في بيت غير مسكون " (1) . وهذه الصورة تحوير تصويري لرأي الجرجاني، ومن صنفها قوله في الشاعر: " وغنما سمي الشاعر شاعراً لأنه يشعر بما لا يشعر به غيره فإذا لم يكن عند الشاعر توليد معنى ولا اختراعه، أو استظراف لفظ وابتداعه، أو زيادة فيما أجحف فيه غيره من المعاني، أو نقص مما أطاله سواه من الألفاظ. أو صرف معنى إلى وجه عن وجه آخر كان اسم الشاعر عليه مجازاً لا حقيقة، ولم يكن له إلا فضل الوزن وليس بفضل عندي مع التقصير " (2) ؛ وليس في القول من جدة فكرية، ولكنه جامع للآراء السابقة في عبارة موجزة، ولست على يقين من ان هذه العبارة نفسها لابن رشيق.
ثنائية اللفظ والمعنى
فإذا تناول ثنائية اللفظ والمعنى أورد بارة ابن طباطبا " اللفظ جسم وروحه المعنى " وبسطها على طريقة الحاتمي - دون أن يذكر الحاتمي في هذا الموضع غير انه سيعيد قولته في موضع آخر مقترنة بذكر اسمه (3) - ثم زاد على الحاتمي شيئاً جديداً تفصيلياً في تحليل الفكرة: فمرض اللفظ كالتشويه في الجسم أما اختلال المعنى كله (وهو الروح) فإنه يبقي اللفظ مواتاً لا فائدة فيه، ثم يمثل على الاحتفال باللفظ وحده بقعاقع ابن هانئ الأندلسي ويعلق عليها بقوله:" وليس تحت هذا كله إلا الفساد وخلاف المراد "(4) ، ومع هذا فإن موقفه غير واضح، وإن كان قد يستشف من تفضيله لابن الرومي وإيثاره له باسم (الشاعر " انه أتميل إلى جانب المعنى؛ وقد توصل في هذا المبحث من كتابه إلى القول بوجود ألفاظ شعرية لا ينبغي للشاعر أن يعدوها
(1) العمدة 1: 78.
(2)
العمدة 1: 74.
(3)
العمدة 2: 94.
(4)
العمدة 1: 81.
وأجاز للشاعر التظرف ببعض الألفاظ الأعجمية. ولكنه فصل بين الشعر من ناحية، والفلسفة وجر الأخبار من ناحية أخرى. فلم يسمح لهما بدخول الشعر إلا بقدر يسير:" وإنما الشعر ما اطرب وهز النفوس وحرك الطباع. فهذا هو باب الشعر الذي وضع له وبني عليه لا ما سواه "(1) .
المطبوع والمصنوع
وعندما تحدث عن ثنائية المطبوع والمصنوع لم يعرفهما وإنما قدر انهما قد أصبحا معروفين لكثرة ما دار حولهما من حديث نقدي، ثم اكتفى بالحديث عن بعض المطبوعين والصناع وختم الباب بشعر مطبوع لابن أبي الرجال يشبه شعر الأعراب، وفي أثناء ذلك يستوقفنا رأيه في ابن المعتز:" وما اعلم شاعراً أكمل ولا اعجب تصنعاً من عبد الله بن المعتز فإن صنعته خفية لطيفة لا تكاد تظهر في بعض المواضع غلا للبصير بدقائق الشعر، وهو عندي الطف أصحابه شعراً وأكثرهم بديعاً وافتناناً، وأقربهم قوافي وأوزاناً، ولا أرى وراءه غاية لطالبها في هذا الباب، غير أنا لا نجد المبتدئ في طلب التصنيع ومزاولة الكلام أكثر انتفاعاً منه بمطالعة شعر حبيب وشعر مسلم ابن الوليد لما فيهما من الفضيلة لمبتغيها، ولأنهما طرقا إلى الصنعة ومعرفتها طريقاً سابلة، واكثرا منها في أشعارهما تكثيراً سهلها عند الناس وجسرهم عليها "(2) .
الاستعداد النفسي ضروري لقول الشعر
وعاد إلى الموضوع القديم الذي أثاره بشر بن المعتمر في صحيفته ووضحه ابن قتيبة وهو الاستعداد النفسي لقول الشعر، والأمور المسعفة على إنعاش القريحة، وبعد ان عرض لنا طرق الشعراء في استجلاب الشعر، طالعنا برأي لعله هو رأيه الخاص إذ قال: " ومما يجمع الفكرة من طريق الفلسفة استلقاء الرجل على ظهره؛ وعلى كل حال فليس يفتح مقفل بحار
(1) العمدة 1: 83.
(2)
العمدة 1: 85.
الخواطر مثل مباكرة العمل بالأسحار عند الهبوب من النوم، لكون النفس مجتمعة لم يتفرق حسها في أسباب اللهو أو المعيشة أو غير ذلك مما يعييها؟ " (1) وهو إنما يردد في الشق الثاني من هذا الرأي نصيحة أبي تمام للبحتري، ويحاول تعليل ذلك.
وينقسم ما تبقى من كتابه في ثلاثة أقسام أكبرها فصول في أنواع البديع ثم في أغراض الشعر، ثم تجيء فصول نافعة في ثقافة الشاعر مثل الحديث عن الأنساب والوقائع والأيام وملوك العرب ومنازل القمر مع بعض فصول في الشعر نفسه كالمعاني المحدثة والسرقات وغير ذلك؛ وليس لبعض فصول القسم الثالث علاقة بالنقد. أما القسمان الأولان فقد كان دوران الحديث عنهما في كتب النقد السابقة قد سهل من مهمة ابن رشيق ولذلك فغن حديثه عن أنواع البديع لا يعدو الترتيب والتمثيل وإيراد ما اختلف فيه النقاد في المصطلح، وهو يتكئ هنا على الحاتمي (في العاطل وفي حليه المحاضرة) وعلى الرماني وقدامة. وفي موضوعات الشعر نجده لجا إلى نظرية قدامة في قيام المدح على الفضائل ثم على ما يتفرع عن ذلك عن تلك النظرية.
مميزات ابن رشيق
ولكن ابن رشيق يظل - رغم ذلك - متميزاً يستثير القارئ ويجذبه إليه، دون ملل، وسر هذا التمييز كامن في:
(1)
طرافة التجربة: فهو يقترب من قلب القارئ بان يقص عليه تجاربه في الصنعة الشعرية، فمن ذلك قوله في كيفية عمل القصيدة: " والصواب أن لا يضع الشاعر بيتاً لا يعرف قافيته، غير أني لا أجد ذلك في طبعي جملة ولا اقدر عليه، بل أصنع القسيم الأول على ما أريده ثم التمس في نفسي ما يليق به من القوافي بعد ذلك فابني عليه
(1) العمدة 1: 139.
القسيم الثاني، أفعل ذلك فيه كما يفعل من يبني البيت كله على القافية، ولم أر ذلك بمخل علي ولا يزيحني عن مرادي، ولا يغير علي شيئاً من لفظ القسيم الأول إلا في الندرة التي لا يعتد بها أو على جهة التنقيح المفرط " (1) .
(2)
الجرأة: وهذه تتمثل في مخالفته للآراء المألوفة المروية عن كبار النقاد. كما تتمثل في أحكام له لا يخاف من الجهر بها. فمن النوع الأول: " ومن الناس من يستحسن الشعر مبنياً بعضه على بعض وأنا استحسن أن يكون كل بيت قائماً بنفسه لا يحتاج إلى ما قبله ولا إلى ما بعده. وما سوى ذلك فهو عندي تقصير إلا في مواضع معروفة مثل الحكايات وما شاكلها فإن بناء اللفظ على اللفظ أجود هنالك من جهة السرد "(2) ؛ ومع أن هذا الرأي قد يفضي في النهاية إلى ضياع الوحدة الظاهرية في القصيدة فإن الذي يريده ابن رشيق هو استقلال كل بيت مع وجود الوحدة العامة، أي الاستقلال الظاهري والوحدة الداخلية، - وغن لم يستعمل هذا المصطلح -. ومن النوع الثاني تفضيله الصورة الحضرية لتشبيه البنان بقضبان من الدر على تشبيه البنان بالأساريع:" وكأني أرى بعض من لا يحسن إلا الاعتراض بلا حجة قد نعى علي هذا المذهب وقال: رد على امرئ القيس، ولم أفعل، ولكني بينت أن طريق العرب القدماء في كثير من الشعر قد خولفت إلى ما هو أليق بالوقت وأشكل بأهله "(3) .
ولهذا نجده ينصح المعاصرين بان يختاروا للوصف الموضوعات الحضرية الموجودة في بيئتهم كصفات الخمر والقيان وما شاكلها ثم صفات البرك والقصور وصفات الجيوش وما اتصل بها؟ الخ (4) .
(1) العمدة 1: 140.
(2)
العمدة 1: 175.
(3)
العمدة 1: 205.
(4)
العمدة 2: 227.
(3)
طرافة الرأي: كحديثه عن الصلة بين الفقر والشعر: " والفقر آفة الشعر. وإنما ذلك لان الشاعر إذا صنع القصيدة وهو في غنى وسعة نقحها وانعم النظر فيها على مهل، فإذا كان مع ذلك طمع غنى قوي انبعاثها من ينبوعها وجاءت الرغبة بها في نهايتها محكمة. وإذا كان فقيراً مضطراً رضي بعفو كلامه وأخذ ما أمكنه من نتيجة خاطره ولم يتسع في بلوغ مراده ولا بلوغ مجهوده نيته؟. ومنهم من تحمي الحاجة خاطره وتبعث قريحته فيجود فإذا أوسع انف وصعب عليه عمل الأبيات اليسيرة فضلاً عن الكثيرة. وللعادة في هذه الأشياء فعل عظيم، وهي طبيعة خامسة كما قيل فيها "(1) .
(4)
تأثره بالإقليمية رغم ثورته عليها: قد رأينا في تكرهه لصورة أوردها أمرؤ القيس كيف أن ذوقه كان حضرياً. ولذا كان يحاول أن يخضع النقد لما تتطلبه الحاضرة التي يعيش فيها. فبعد أن بين اثر الحاضرة والبادية في النسيب واختلاف كل منهما عن الأخرى. استنكر أن يذكر ابن الحاضرة ركوب الناقة إلى الممدوح " وليس في زماننا هذا ولا من شرط بلدنا خاصة شيء من هذا كله؟ لا سيما إذا كان المادح من سكان بلد الممدوح يراه في أكثر أوقاته، فما أقبح ذكر الناقة والفلاة حينئذ "(2) . غير أنه من ناحية أخرى ثائر على بعض المقاييس النقدية السائدة في بلده: " ورأيت من علماء بلدنا من لا يحكم للشاعر بالتقدم ولا يقضي له بالعلم إلا أن يكون في شعره التقديم والتأخير. وأنا استثقل ذلك من جهة ما قدمت "(3) كذلك هو ثائر على كثرة الأدعياء في الميدان الأدبي: (وكم في بلدنا هذا من الخفاث قد صاروا ثعابين. ومن هذا البغاث قد صاروا شواهين: أن البغاث بأرضنا يستنسر، ولولا أن يعرفوا بعد اليوم بتخليد ذكرهم في هذا
(1) العمدة 1: 143.
(2)
العمدة 1: 153.
(3)
العمدة 1: 174.
الكتاب ويدخلوا في جملة من يعد خطله ويحصى زلله لذكرت من لحن كل واحد منهم وتصحيفه وفساد معانيه وركاكة لفظه ما يدلك على مرتبته من هذه الصناعة التي أدعوها باطلاً وانتسبوا إليها انتحالاً " (1) .
ثورته على بعض أنواع البدع المستخدمة في الشعر
وعلى الرغم من تحضر الذوق عنده فإنه لم يستطع ان يستسيغ ألواناً جديدة من الشعر مثل المسمطات والمخمسات: " وقد رأيت جماعة يركبون المخمسات والمسمطات ويكثرون منها، ولم أر متقدماً حاذقاً صنع شيئاً منها لأنها دالة على عجز الشاعر وقلة قوافيه وضيق عطنه "(2) ، وقياساً على ذلك لو أن الموشح بلغ القيروان في زمانه لأنكره ولعده كما عد هذه الألوان ألهية عروضية يتلهى بها أهل الفراغ وأصحاب الرخص.
(5)
اتساع نطاق الفهم النفسي لوظيفة الشعر: فهو لا يكتفي بذكر ما ذكره السباقون من أثر نفسي لمقدمة القصيدة وغنما يشير إلى أن هذا الأثر لابد من أن يبلغ بالنفس منزلة الارتياح والسكنة بإيراد الخاتمة الصالحة: " ومن العرب من يختم القصيدة فيقطعها والنفس بها متعلقة وفيها راغبة مشتهية. ويبقي الكلام مبتوراً كأنه لم يتعمد جعله خاتمة " ثم يعرج على الخواتم المفتعلة من مثل الدعاء " لأنه من عمل أهل الضعف إلا للملوك "(3)، كذلك فغن تمييزه التريض على التصريح في الهجاء يشير إلى فهم نفسي دقيق: " وأنا أرى به والبحث عن معرفته وطلب حقيقته، فإذا كان الهجاء تصريحاً أحاطت به النفس علماً وقبلته يقيناً في أول وهلة فكان كل يوم في نقصان
(1) العمدة 1: 186.
(2)
العمدة 1: 120 - 121.
(3)
العمدة 1: 160.
لنسيان أو ملل يعرض " (1) ؛ كذلك فأنه في الحديث عن التطويل في الشعر يؤثره على المقطعات لان " المطيل من الشعراء أهيب في النفوس من الموجز " (2) .
(6)
إيمانه بقيمة التجربة الحسية: وهذا جعله يرى أن التشبيه اصعب شيء في الشعر؛ " واشد ما تكلفه الشاعر صعوبة التشبيه لما يحتاج إليه من شاهد العقل واقتضاء العيان "(3)، ويقول في موضع آخر:" وإنما خصصت التشبيه لأنه أصعب أنواع الشعر وأبعدها متعاطى؟ وصفة الإنسان ما رأى يكون لاشك أصوب من صفته ما لم ير، وتشبيهه ما عاين بما عاين افضل من تشبيهه ما ابصر بما لم يبصر "(4) .
إيمانه بسياسة القول
تلك مميزات إذا أضيفت إلى طريقته السهلة اليسيرة المشوقة في عرض الآراء والموضوعات تفسر سر القبول الذي حظي به كتاب العمدة. ورغم أن بعض تلك المميزات قد تجعل من ابن رشيق ناقداً متفرداً فإنه لم يستطع إلا أن ينزل على حكم العصر. وان يؤمن بمبدأ " سياسة القول " فبينا يريد للشاعر عدم الازدواج - أي يطالبه بان يحوز كل مكرمة ويتخلق بما يطالب به الناس ويكون جاداً " إذا الجد هو الغاية " تجده يفرق غير مرضية منه بين شعر الذات وشعر المناسبات: فهو يرى أن شعر الذات قد يقبل فيه عفو الكلام، أما شعر المناسبات فلابد أن يكون منقحاً محككاً لأنه يواجه به أصحاب المناصب، وعليه أن يميز كل ذي منصب بما يلائمه من القول. وما ذلك إلا لأن ابن رشيق يتحدث هنا عن واقع الشاعر الذي لا تغتفر له الابتداءات التي يتطير منها وما أشبه مما يوجبه التأدب للملوك وحسن
(1) العمدة 2: 140.
(2)
العمدة 1: 125.
(3)
العمدة 1: 194.
(4)
العمدة 2: 183.
السياسة (1) ؛ وما يلام ابن رشيق على ذلك. فقد كان هذا أمراً متصلاً بحياة الناس وقواعد معاملاتهم. ولكن ناقداً مثله. ما كان يجدر به أن يتسامح في شعر الذات. فان النوعين أمام الناقد شيء واحد.
رسالة قراضة الذهب والقول في السرقات
ولابد في ختام حديثنا عن كتاب " العمدة " من وقفة عند باب السرقات فضي بنا إلى دراسة رسالة " قراضة الذهب ": ففي هذا الباب اعتد ابن رشيق على حيلة المحاضرة للحاتمي في تبيان أنواع السرقة، وشرحها كما شرحها الحاتمي وجاء بأمثلته وان انتقد مصطلحاته بأنها " ليس لها محصول إذا حققت "(2) ؛ وأورد رأيي الجرجاني وعبد الكريم في السرقات، وانتقد ابن وكيع بشدة " فقد قدم في صدر كتابه على أبي الطيب مقدمة لا يصح لأحد معها شعر إلا الصدر الأول "(3) . وليس لابن رشيق في الباب كله رأي ذاتي أو تمثيل جديد. والظن قوي بان لابن رشيق لم يعر مبحث السرقات اهتماماً، لإيمانه بأن السرقة قد أصبحت قاعدة عامة في الحياة الشعرية لعصره، فلما اتهم بأنه في قوله.
إذا ضربت فيه الطبول تتابعا
…
به عذب يحكي ارتعاد الأصابع
تجاوب نوح بات بندب شجوه
…
وأيدي ثكالى فوجئت بالفواجع سرق المعنى من قول عبد الكريم بن إبراهيم النهشلي:
قد صاغ فيه الغمام ادمعه
…
دراً ورواه جدول غمر
تجيش فيه كأنما رعشت
…
إليك منه أنامل عشر كتب رسالته " قراضة الذهب " إلى أبي الحسن علي بن القاسم اللواتي، ليحدد
(1) انظر العمدة 1: 133.
(2)
العمدة 2: 215.
(3)
العمدة 2: 216.
المقصود بالسرقة في الشعر، وليبين أن اشتراكه مع عبد الكريم في ذكر ارتعاد الأصابع او ارتعاشها لا يعد سرقاً؛ ولهذا ذهب يستشهد بتكرر هذه الصورة في الشعر منذ امرئ القيس " كلمع اليدين في حبي مكلل " حتى عصره هو:" ولما كثر هذه الكثرة وتصرف الناس فيه هذا التصرف لم يسم آخذه سارقاً، لأن المعنى يكون قليلاً فينحصر ويدعى صاحبه سارقاً مبتدعاً، فإذا شاع وتداولته الألسن بعضها من بعض، تساوي فيه الشعراء إلا المجيد، فإن له فضله، أو المقصر، فإن عليه درك تقصيره، إلا أن يزيد فيه شاعر زيادة بارعة مستحسنة يستوجبه بها ويستحقه على مبتدعه ومخترعه "(1) .
إعلاء شأن امرئ القيس لابتكاره المعاني
هذا هو القسم الأول من الرسالة، فأما في القسم الثاني منا فإن ابن رشيق ابتع طريقة جديدة أفادت استخراج المعاني المبتكرة عن امرئ القيس " لأنه المقدم لا محالة؟. فالمميز الحاذق بطرق البلاغة يجد لكلامه من الفضيلة في نفسه ما لا يجد لغيره من كلام الشعراء "(2) - وكيف أخذ الشعراء من بعده يتداولونها، فكان هذا القسم دراسة لشعر امرئ القيس وإظهار فضله في الابتكار إلى جانب الكشف عن تداول المعاني، وبذلك أظهر تفوقه في الاستعارة والتشبيه والمبالغة والتتميم والاحتراس وانه الذي اهتدى إلى هذه الأمور أولا وفتق للشعراء هذه الفنون وكان هذا تطبيقاً لما قاله فيه في العمدة:" وله اختراعات كثيرة يضيق عنها الموضع، وهو أول الناس اختراعاً في الشعر وأكثرهم توليداً "(3) .
(1) قراضة الذهب: 14.
(2)
نفسه: 15.
(3)
العمدة 1: 175.
المعاني المخترعة عند شعراء آخرين
فإذا انتهى من الحديث عن امرئ القيس انتقل إلى ضروب من المعاني المخترعة عند غيره من الشعراء، والمعاني التي أخذت حقها من اللفظ فلم يبق فيها فضلة تلتمس (1) ؛ والتحيل على السرقة بالزيادة أو الإيجاز أو العكس أو النقل من موضوع إلى موضوع؛ ثم وجد ان الشاعرين يتفقان أحياناً في قسم من قسمي البيت وأحياناً في البيت كله وهذا أقل؛ ثم بين رأيه في هذه الناحية بقوله:" والذي اعتقده وأقول به أنه لم يخف على حاذق بالصنعة أن الصانع إذا صنع شعراً ما وقافية ما، وكان لمن قبله من الشعراء شعر في ذلك الوزن وذلك الروي وأراد المتأخر معنى به فأخذ في نظمه، أن الوزن يحضره والقافية تضطره وسياق الألفاظ يحدوه حتى يورده نفس كلام الأول ومعناه حتى كأنه سمعه وقصد سرقته وإن لم يكن سمعه قط "(2) فابن رشيق هنا يحيل على الحفظ، فالشاعر الذي يحفظ قصائد كثيرة، ثم يحاول أن يضع قصيدة على وزن ما وروي ما، فلابد ان تضطره طبيعة التركيب والإيقاع من أن يكرر ما عند غيره تكريراً لفظياً أحياناً؛ وهذا نوع مختلف عما يسمى توارد الخواطر، يشبه ان يكون شيئاً محتوماً في طبيعة الوزن والقافية في اللغة العربية.
شاهد على التوارد في تجربته الذاتية
ويحدثنا ابن رشيق في هذه الرسالة عن بعض تجاربه الخاصة، إذ يرى إن بعض ما يقع اتفاقاً لا يعد سرقة، فهو قد نظم قصيدة في رثاء السيدة الجليلة، فذكر حلق الشعور ولبس المسوح ورثى آخر فذكر الكسوف، وهذا لا يعد سرقاً. ولا أدري ما الفرق بين هذا الذي يقوله ابن رشيق وبين ما سماه النقاد المعاني المتداولة. كذلك حدثنا انه صنع ذات يوم وقد
(1) قراضة الذهب: 30.
(2)
قراضة الذهب: 43.
خرج الناس للاستسقاء فرجعوا وقد طغت رجل من جراد، هذين البيتين:
بينما نرتجي سحابة مزن
…
غشيتنا سحابة من جراد
ليس من قلة ولا بخل رب
…
إنما ذاك من ذنوب العباد وهو يشير إلى ان هذا المعنى عند أبي الحسن التهامي ثم يعجب من كثرة مواردته لأبي الحسن " حتى اتهم نفسي فيما أعلم ويعلم الناس إني سبقته علم ضرورة وبحضرة التاريخ "(1) .
التلفيق الذي يشبه الاختراع
وآخر مظهر من السرقات تحدث عنه ابن رشيق هو ما سماه " التلفيق "، وهو أن يأخذ الشاعر المعاني المتقاربة ويستخرج منها معنى مؤكداً يكون له كالاختراع، وينظر به جميعها فيكون وحده مقام جماعة من الشعراء وهو مما يدل على حذق الشاعر وفطنته " ولم أر ذلك أكثر منه في شعر أبي الطيب وأبي العلاء المعري فإنهما بلغا فيه كل غاية "(2) ؛ وتقدم رسالة " قراضة الذهب " أول دراسة نقدية لشعر المعري وطريقته في تلفيق المعنى الواحد من عدة أبيات لشعراء مختلفين، وهو ملمح عن صح دل على ذكاء ابن رشيق، وبهذا النوع الذي سماه الملفق تفوق على كل من بحث أمر السرقات من قبل. والمعري في نظر ابن رشيق " شاعر العصر بلا مدافعة "(3) ، وهذا دليل على أن هذا الناقد كان أصيل الذوق عمي النظرة؛ وانه سبق جميع النقاد إلى رؤية ميزة أبي العلاء في الشعر بين جميع شعراء عصره.
(1) قراضة الذهب: 50.
(2)
قراضة الذهب: 52.
(3)
قراضة الذهب: 57.
ابن شرف القيرواني
وثالث هؤلاء النقاد القيروانيين أبو عبد الله محمد ابن شرف (1) ، الذي كانت بينه وبين ابن رشيق ملاحاة ومنافسة ومهاجاة، ثم طوحت به الغربة بعد خراب القيروان إلى الأندلس فتردد على ملوك الطوائف شاكياً الزمان حتى استقر أخيراً عند المأمون بن ذي النون صاحب طليطلة؛ وقد كتب رسالته " أبكار الأفكار " أولاً لباديس بن حبوس صاحب غرناطة، ثم طرزها باسم عباد صاحب إشبيلية، وهي رسالة تحتوي على منثور مسجوع وقصائد وتشتمل على مائة نوع من مواعظ وأمثال وحكايات قصار كلها من تأليفه.
مؤلفاته ذات الصلة بالنقد
ولابن شرف رسالة نقدية نشرت باسم " أعلام الكلام "(2) كما نشرت باسم " رسائل الانتقاد "(3) أو " مسائل الانتقاد "؛ وقد ذكر ابن بسام كتابه المسمى " أعلام الكلام " وأورد شيئاً من مقدمته، وهذه المقدمة غير موجودة في الرسالة التي نشرت تحمل هذا الاسم، وليس ثمة ما يمنع أن يكون " أعلام الكلام " رسالة في النقد ولكن هل هي نفس الرسالة التي تدعى " مسائل (أو رسائل) الانتقاد "؛ ذلك ما لا نستطيع القطع به اعتماداً على المقدمة التي أوردها ابن بسام (4) ؛ كذلك فإن صاحب الذخيرة لم يورد اسم " رسائل (أو مسائل) الانتقاد " وإنما قال: " ولابن شرف مقامات عارض بها البديع في بابه وصب فيها على قالبه، منها مقامة فيها بعض طول لكنه غير مملول
(1) انظر ترجمته في الذخيرة 4/ 1: 133.
(2)
نشرها الخانجي بهذا الاسم سنة 1926.
(3)
هذا هو اسمها في مخطوطة الاسكوريال رقم 356 وقد نشرها الأستاذ حسن حسني عبد الوهاب بتونس (ونقلها كذلك الأستاذ محمد كرد علي في رسائل البلغاء 300 - 343) ثم نشرها الأستاذ شارل بلا باسم " مسائل الانتقاد " مع ترجمة إلى الفرنسية (الجزائر 1953) .
(4)
خلطت طبعة الخانجي في الخاتمة بين الاسمين إذ جاء فيها " نجزت مسائل الانتقاد بلطف الفهم والانتقاد وهو أعلام الكلام؟ الخ "(انظر ص 46 من هذه الطبعة) .
آخذة بطرف مستطرف من أخبار الأدباء وذكر الشعر والشعراء " فدل على أن ما سمي باسم مستقل ليس إلا مقامة واحدة من عدد من المقامات (1) .لا نظن إنها دارت جميعاً حول الموضوعات النقدية.
قصور المقامة عن النقد
فإذا استثنينا المقامة الجاحظية لبديع الزمان وهي التي يدور قسم منها على نقد الجاحظ عددنا رسالة أبن شرف أول قالب نقدي في صورة مقامة طويلة. بطلها أسمه أبو الريان الصلت بن السكن بن سلامان؛ وقد كانت هذه النقلة إلى هذا القالب غير موفقة لأن المقامة في أساس مبناها تعتمد السجع، ولأنها - مهما تطل - سيقتصر النقد فيها على اللمح السريع، وخصوصاً إذا تذكرنا أن مقامة أبن شرف قد تعرضت بالنقد لما لا يقل عن أربعة وأربعين شاعراً (عدا شعر الغزل العذري الذين تحدث عنهم مجتمعين) . وربما لم يزد حديثه فيها عن بعض الشعراء على كلمات، وقد تكون هذه الكلمات غير ذات جدوى في باب النقد كقوله في الراعي " وأما الراعي عبيد فجيل على وصف الإبل، وشغله هواها عن الشعر في سواها، سوى التعلل بالنزر القليل فصار بالراعي يعرف ونسي ما له من الشرف "(2) .
نقده لأبي نواس
غير أن أبن شرف لم يلتزم أسلوب المقامة في جميع رسالته، بل وسع من أعطاف القول، فجاءت رسالته في قسمين واضحين: أولهما المقامة نفسها التي تحدث فيها عن الشعراء، والثاني: بيان سقطات عدد من الشعراء وبعض العيوب في الشعر، وعني في القسم الأول بإبراز أهم ما يتميز به كل شاعر في الشعر وفي غيره، على نحو تعميمي يتضمن الحكم والخبر على السواء؛ وقد أطال الوقوف في هذا القسم عند أبي نواس نسبياً فأبان أنه " ترك السيرة
(1) الذخيرة 4/ 1: 154.
(2)
مسائل الانتقاد: 20.
الأولى ونكب عن الطريقة المثلى وجعل الجد هزلاً والصعب سهلاً " وتعليل ذلك عنده أن أبا نواس وظهر وقد انحلت أسباب العربية وملت الفصاحة، فنزل بالشعر إلى مستوى الإفهام في عصره فرغب الناس في شعره " وشغفوا بأسخفه وكلفوا بأضعفه " وهو قادر على الشعر القوي، ولكنه عني بما يتفق في سوق الجماهير يومئذ " فشعر أبي نواس نافق عند هذه الأجناس، كاسد عند أنقد الناس "، وقد فطن أبو نواس نفسه إلى ذلك فحاول أن يستدرك ما فاته بالطرديات؛ وعلى الجملة فإن من شاء نقده بحق، وجد الناس ضده لأنهم يتعلقون بخفة روحه وسهولة كلامه الملحون (1) . وهذا حكم جديد على أبي نواس، يخالف ما عهدناه من آراء النقاد، ولا أحد ينكر أن في شعر أبي نواس شيئاً كثيراً من السخف والمجون واعتماد الأسلوب السهل الذي يبلغ في سهولته حد الركاكة أحياناً، ولكن شتان بين ما يقوله أبن شرف وبين قول القاضي الجرجاني بأن في شعره تفاوتاً؛ ذلك أن أبن شرف ينكر - من طرف خفي - أكثر شعره، سوى الطرديات، ويراه مسئولاً عن النزول بالشعر إلى مستوى العامة.
الاهتمام بشعراء المغرب والأندلس
ويتميز هذا القسم الأول بظهور شعراء المغرب فيه إلى جانب المشارقة، حين تحدث أبن شرف عن أبن عبد ربه وأبن هانئ وأبن دراج القسطلي وعلي التونسي؛ كما يتميز بالوقوف عند الصنوبري والخبزأرزي في سياق يضم أبا تمام والبحتري وأبن الرومي والمتنبي، بل ألمح إلى التهمة التي رددها أبن وكيع حين زعم أن المتنبي سرق معاني الخبزأرزي:" حتى أن بعض كبراء الشعراء أهتدم شيئاً من مبانيه، وأهتضم طرفاً من معانيه، وهو من معاصريه، فقل من فطن لمراميه "(2) . وتومئ أحكامه على أبن هانئ
(1) أنظر مسائل الانتقاد: 29 - 30.
(2)
مسائل الانتقاد: 36.
إلى أن الأساس الديني هام لديه في الحكم ولذلك تجده يقول فيه: " من رجل يستعين على صلاح دنياه بفساد أخراه، لرداءة عقله ورقة دينه وضعف يقينه. ولو عقل لم تضق عليه معاني الشعر حتى يستعين عليها بالكفر "(1) .
وهذه النظرة الدينية ستتضح في القسم الثاني من رسالته، ويتألف هذا القسم من مقدمة تحتوي على توجيهات عامة في النقد يشفعها ببيان عيوب شاعرين من كبار الجاهليين هما أمرؤ القيس وزهير، ثم بيان أنواع من العيوب تقع في الشعر:
توجيهات عامة في النقد
فمن توجيهاته العامة أن الناقد بحاجة إلى التأني الشديد قبل إصدار الحكم، أي أن هذا تحذير له من الاستسلام للتأثير الأول المباشر، فقد يسمع شعراً يملأ لفظه المسامع، ولكن عليه أن يتريث مفتشاً عما وراء ذلك من معنى:" فإن كان في البيت ساكن فتلك المحاسن " وقد يسمع أبياتاً ذات ألفاظ مبتذلة فعليه ألا يعجل باستضعافها فكم من معنى عجيب في لفظ مألوف مبتذل " والمعاني هي الأرواح والألفاظ هي الأشباح " فالقبح في المعنى أشد منه في اللفظ. كذلك على الناقد أن يحترز من الإعجاب بالقديم دون تمييز للجيد فيه من الرديء، وأن ينأى عن إصغار المعاصر، بل يحاول أن يضعف في نفسه التشبث بالقدم رجاء إنصاف المعاصرين، فإن التشبث بالقديم يكاد يكون صفة ملازمة للناس ذكرها القرآن الكريم في عده مواضع (2) .
سقوط امرئ القيس
وليس الحديث في هذه التوجيهات إلا مقدمة للكشف عن سقطات شاعر يعد رأس القدماء، يقدمه النقاد لقدمه ولحسناته حتى يخيل للمرء أنه لم يجئ في الشعر بسيئة؛ إن المماحكة بين أبن شرف وأبن رشيق تعود في هذا الموقف
(1) نفسه: 40 - 41.
(2)
مسائل الانتقاد: 44 - 48.
إلى الظهور من خلال شعر امرئ القيس، فابن رشيق اتخذه في قراضة الذهب مثلاً أعلى للشاعر المبتكر المبتدع، وها هو ابن شرف يتناوله من ناحية عيوبه.
اعتماده في عيب امرئ القيس على موقف أخلاقي
ويذكرنا نقد ابن شرف لشعر امرئ القيس بموقف الباقلاني منه، فهو يعتمد على النظرة الأخلاقية قبل كل شيء؛ من ذلك انه يورد قوله:
ويوم دخلت الخدر خدر عنيزة
…
فقالت لك الويلات إنك مرجلي ويقول في نقده له: " فما كان أغناه عن الإقرار بهذا، وما أشد غفلته عما أدركه من الوصمة به، وذلك أن فيه أعداداً كثيرة من النقص والنجس: منها دخوله متطفلاً على من كره دخوله عليه، ومنها قول عنيزة له: لك الويلات، وهي قولة لا تقال إلا لخسيس ولا يقابل بها رئيس؟ "(1) ؛ وفي هذه الأثناء يطرح الناقد جانباً كل ما يمكن أن يتم خارج نطاق العلاقات الأخلاقية، فيذهب إلى أن امرئ القيس لم يكن عاشقاً للمرأة حتى يقبل منها قولها " لك الويلات " لأنها كانت امرأة رجل آخر، والعاشق الصحيح لا يقبل المشاركة في حبه، وقد وصفها بأنها حبلى، والحبل علة تشبه الاستسقاء، فلم يزهد في امرأة هذه حالها، مع ان الحيوانات تزهد في إنائثها أيام الحمل " ومع الحبل كمود اللون وسوء الغذاء وفساد النكهة سوء الخلق وغير ذلك، ولا يميل إلى هذا من له نفس سوقي دع نفس ملوكي "، ثم ذكر أنها كانت أيضاً في بعض أحوالها مرضعاً " وفيها من التلويث بأوضار رضيعها ومن اهتزالها واشتغالها عن أحكام اغتسالها "، ومن كانت مرضعاً ليس لديها من ترضع ابنها بالنيابة عنها فهي فقيرة حقيرة، وفي أبيات أخرى يقول:
سموت إليها بعدما نام أهلها
…
سمو حباب الماء حالاً على حال
(1) مسائل الانتقاد: 50.
فقالت لحاك الله إنك فاضحي
…
ألست ترى السمار والناس أحوالي وهذه استقبلته بقولها " لحاك الله " فهو إذن هين القدر عند النساء، يطردنه ويكرهنه، هذا إلى انه خبر عن نفسه الرضي بالفجور " وهذه أخلاق لا خلاق لها "(1) ؛ وليس هذا الموقف جديداً، ولكن زيفه شديد الوضوح؛ ونحن نلمح إلى جانب المقياس الخلقي محاولة أخرى من ابن شرف، وهي تشبثه بأن الشعر الصحيح لابد أن يعبر عن نفسية صاحبه، وما دام صاحب هذا الشعر ملكاً فلابد أن تكون للملك نفسية ترفعه عن مثل هذه الأقوال، والشق الأول من هذا الفرض صحيح، فأما الثاني يدل على جهل بأحوال النفوس.
إخفاق امرئ القيس مع المرأة جعله يبالغ في التعبير عن الاستهتار
نقول هذا مع أن ابن شرف قد استغل بعض المفهومات النفسية لتفسير ظواهر شعرية على نحو طريف. فقد اعتمد على الأخبار التي تقول إن ارمأ القيس كان مفركاً لدى النساء، وإذن فإنه كان محروماً من وصلهن وتعشقهن؛ وفي سبيل إشباع هذا الحرمان لجا إلى اختلاف القصص، وجعل هذه القصص صريحة مكشوفة تعطية لما كان يحسه من نقص، وذلك شيء تجده كالقانون العام، وإن شئت أمثلة أخرى استشهد ابن شرف بالفرزدق وسحيم عبد بني الحسحاس، وقصة الأول في افتخاره بالفتك والزنا معروفة، فأما الثاني " صاحب الثوب الدنس القمل الذي لا يؤاكله الغرثان تقززاً "، فإنه يقول:
توسدني كفا وتحنو بمعصم
…
علي وترمي رجلها من ورائيا ولو خلت الأرض من الرجال " لم يكن هذا العبد زلمة عند أرذال السودان إلا كبعرة بعير في معرس عير "، ولكن الحرمان هو المحرك له على هذا
(1) مسائل الانتقاد: 50 - 54.
التصريح " والممنوع من الشيء حريص عليه مدع فيه "(1) ؛ ولو وقف ابن شرف عند ظاهرة الحرمان أو الإخفاق أساساً لتعليله التصريح بالفجور، لكان خير من استغل هذا الموقف النفسي في فهم لون من ألوان الأدب أو ظاهرة من ظواهره، ولكنه تخطى ذلك إلى الحكم على النفسيات المختلفة بمقياس واحد، فزعم أن كل النساء لابد ان يكن من بابة واحدة في الطبيعة النفسية، حين خيل إليه أن عبداً مثل عبد نبي الحسحاس لا يجد امرأة تعشقه أو تتشهاه، مثلما ظن ان الملوك لابد أن يكون لهم مستوى نفسي خاص، وحديث ابن شرف في هذه الناحية يسخر من نفسه، ولا حاجة به إلى مزيد من النقد والتعليق.
مرقش يمثل النقيض
وإمعاناً منه في إثبات نظريته استشهد بالأضداد، فذكر ان مرقشاً كان من اجمل الرجال وكانت للنساء فيه رغبة، ولم يكن محروماً من وصالهن، ولهذا تجده مستغنياً عن التظاهر بالإفصاح عما كان يجري له معهن.
اعتقاد ابن شرف ان الحديث الأخلاقي هنا جزء هام من تقييم الشعر
فدافع عن ذلك بقوله: عن امرؤ القيس إنما أراد أن يفخر بما صنع، فضل الطريق شعرياً، حين ابرز ما ينقض الغاية التي وجه إليها شعره، ولهذا فإن الحكم يقع على التناقض بين ما رسمه من غاية وبين ما استطاع شعره تصويره؛ وكان ابن شرف يريد أن يقول إن حديثي عن أخلاقه ليس مقياساً أخلاقياً وإنما هو طريق إلى التقدير الفني؛ ولكنه لم يتنبه إلى أن مقياساً أخلاقياً وغنما هو طريق إلى التقدير الفني؛ ولكنه لم يتنبه إلى أن افتراض " الفخر " إنما هو من وضعه، ولو قلنا له أن امرؤ القيس تغزل وحسب، وساق صورة من تجربة - واقعية أو متخيلة - لضاق ذرعاً بذلك
(1) مسائل الانتقاد: 56 - 57.
لأنه لا يكف عن النظر إلى غاية أخرى وراء الغاية الفنية، والفخر غاية اجتماعية - في بعض الأحوال.
حطه من شاعرية زهير رد على النقاد الأقدمين
فإذا تحدث عن عيوب زهير عمد إلى كثير مما عده النقاد السابقون نموذجاً في شعره وكشف عما فيه من نقائص، متحدياً بذلك عدداً كبيراً من النقاد، لا ابن رشيق وحده. ونقده لزهير - وإن كانت القاعدة الأخلاقية لم تنتف فيه جملة - يدل على نفاذ بصره إلى مستويات أخرى. فهو ينتقده لأنه عبر عن إصابة المنية للناس بقوله " خبط عشواء " ويقول: لسنا نطالبه هنا بحكم ديني، بل نطالبه بحكم العقل، إذ لو كان ضرب المنية خبط عشواء لمات بعض الناس ونجا بعض، وإنما وقع زهير في الخطأ لأنه رأى بعض الناس يموتون في حال الهرم وبعضهم في حال الشباب فدعا ذلك خبط عشواء، ولكن المنية لا تبقي أحداً إلا وتصيده حين تريد ذلك " ولو أن الرماة تهتدي كاهتدائها لملئت أيديهم بأقصى رجائهم " (1) ؛ ثم أن زهير خالف العادة حين قال:" ومن لا يظلم الناس يظلم " وقد ينقم الضعيف المظلوم من الظالم بالحيلة، وقد يأتي من يغلبه في ظلمه - بظلم اكبر - فيكون سبب هلاكه؛ والنقاد يستحسنون له قوله:
تراه إذا ما جئته متهللاً
…
كأنك تعطيه الذي أنت سائله وهل يكون الممدوح ذا نفس سامية إذا كان يتهلل لان يعطى؟ لقد تعارف الناس على إن إظهار التهلل في مثل هذا الموطن سقوط همة وصغر نفس. ثم عمد ابن شرف إلى بيت لزهير جعله قدامة نموذجاً من نماذج المدح الموفق، وهو قوله:
على مكثريهم حق من يعتريهم
…
وعند المقلين السماحة والبذل
(1) مسائل الانتقاد: 66.
فعابه بان الشاعر قد ذم هؤلاء الناس حين أخبر أن فيهم مكثرين ومقلين، " ولو كان مكثروهم كرماء ليذلوا لمقليهم الأموال حتى يستووا في الحال "(1) ، ثم هم ضيعوا القريب واعتنوا بالغرباء وصلة الرحم أولى، ثم إن البيت يدل على أن المقلين أسخى نفوساً من المكثرين لان البذل مع الإقلال مثل أعلى في الكرم (2) ؛ ورغم هذا التدقيق الذي يطالعنا به ابن شرف، فإن نقده ينتحي منحى مثالياً، لم يخرج به عن طبيعة النقد القديم الذي سادت مقاييسه في العصر الإسلامي والأموي وظلت آثاره ملموسة في النقد على مر الزمن؛ فالإقرار بوجود مكثرين ومقلين في مجتمع ما أمر واقعي، ولكن ابن شرف يرى أن هذا مخل بالمدح؛ والاعتناء بالغرباء لا ينفي صلة الرحم، ولكن الناقد يريد النص هناك من تفوق للمقلين على المكثرين؛ وهكذا يمكننا أن ننسب هذا اللون من التدقيق للتعنت، ولكنا لا نؤاخذ ابن شرف من هذه الزاوية، لان هذا اللون من التمحك بالأقاويل كان شائعاً في النقد، وإنما نأخذ عليه أنه وهو الذي كان في مقدوره أن يسلك الطريق النفسي لاعتناق الواقعية، أخطأ مرتين: أولاهما انه لم يحاول توسيع مفهوماته النفسية فوقع في التناقض في هذا المجال، والثانية انه عاد فخضع للتيار المثالي الذي ينكر كل الاحتمالات ما عدا واحداً في تصرفات الناس وفي مقاييسهم المختلفة.
عيوب عامة
وليس في القسم الأخير من هذه الرسالة شيء جديد: هنالك ذكر الناقد عدداً من العيوب مثل اللحن وخشونة الكلمات وتعقيد وكسر الوزن ومجاورة الكلمة ما لا يناسبها والافتتاحات الثقيلة والمتطير بها، وقلق القافية، والجفاء في النسيب، والسرقة، واتى بأمثلة طال ترديد النقاد لها. وقد قسم السرقات في أنواع: منها سرقة ألفاظ وسرقة معان (وهي أكثر) ومن النوع الثاني سرقة
(1) مسائل الانتقاد: 70.
(2)
انظر ص 72 - 74.
بعض المعنى أو كله أو سرقته باختصاره أو بزيادة فيه، أو سرقته دون زيادة أو اختصار، وكان في ذلك كله يعبد تقسيمات من سبقوه.
عيوب في شعر المتنبي
وقد خصصت خاتمة الرسالة للحديث عن بعض عيوب المتنبي، وهي شبيهة بما أثاره غيره من قبل مع تدقيقات خاصة ينفرد بها. وعند هذا الحد أحس ابن شرف أنه استطاع ان يضع قواعد لتبيان ما هو سيئ في الشعر، شأنه في ذلك شأن كل من ألف في النقد قبله. فانتهى إلى النهاية التي بلغها المرزوقي وهي " أن ما مسلم من جميع ما أوردناه فهو في حيز السالم "(1) على ان يذكر المتأدب أن الجودة ليست مرتبة واحدة وغنما هي مراتب متفاوتة.
تقييم لنقد ابن شرف
ويمكن أن يقال إن ابن شرف في نقده دوم قليلاً ثم وقع. فقد مد أجنحة من النقد النفسي لم تستطع حمله إلا إلى آفاق قريبة، ثم عاد من جديد يلحق بالقافلة النقدية ماشياً؛ كان زاده من النظر الدقيق مضيعاً في مماحكات لا علاقة لها بالشعر، ولكنه كان يعي انه يحاول ان يشذ حتى عن ما اجمع عليه النقاد، وانه يريد أن يضع تفسيرات جديدة، ولكن الوعي وحده لا يكفي إذ قد يكون قوة لتسويغ المخالفة الخاطئة.
مجمل لمميزات مدرسة القيروان
ومرة ثالثة - بعد الوقفة عند عبد الكريم وابن رشيق - نرى أن ما حققته مدرسة القيروان يتميز بحيوية أشخاصها الذين منحتهم النهضة الأدبية في إقليمهم بعض السمات الإقليمية. ومكنت من القول بأثر البيئة والدعوة لتجاوز ذلك الأثر في سبيل الخلود، كما اشتملت محاولاتهم على تعليل المؤثرات النفسية، بعد إذ كانت هذه المؤثرات تؤخذ جملة كأنها قضية تقبل بالتسليم.
(1) رسائل الانتقاد: 102.
- 6 -
النقد الأدبي في الأندلس
في القرن الخامس
ابتداء الشعر الأندلسي بمحاكاة المحدث أولا
تربى الذوق الأندلسي مدة طويلة على الشعر المحدث، شعر أبي تمام والبحتري وابن الرومي وابن المعتز وأبي العتاهية، وعلى الشعر الأندلسي نفسه الذي كان يترسم خطى الشعر المحدث المشرقي؛ ولكنا لا نسمع أن المعركة النقدية حول أبي تمام والبحتري انتقلت إلى الأندلسيين، إلا ما يقال من ان أبا حفص عمر بن يوسف الخيطي (- 338) أحد أهل العلم بمعاني الشعر كان يتعصب للبحتري (1) ؛ فأما العصبية لهذا أو ذاك من شعراء المشرق كانت موجودة فأمر واضح من أخبار عن إعجاب هذا بابي تمام وإعجاب ذاك بأبي نواس. وعن احتذاء بعض الشعراء الأندلسي لطريقة مشرقية دون أخرى، وأما ان هذه العصبية أثمرت مواقف نقدية فشيء قد ضنت المصادر بالحديث عنه إن كان له وجود.
القالي وتلامذته والعودة إلى الشعر القديم
وقد ظل الذوق الأندلسي مأخوذاً بالشعر حتى دخل القالي إلى قرطبة سنة 330 جالباً معه دواوين الجاهلين والإسلاميين مقروءة مصححة على الأئمة، وأخذ الطلاب يتتلمذون عليه في دراستها، فوجد نهج القدامى ونهج المحدثين
(1) طبقات الزبيدي: 330.
وعاشا معاً جنباً إلى جنب، ولكن الذوق العام كان أميل إلى الاتجاه المحدث. ولما رثى الرباحي أحمد بن موسى بن حدير بقصيدة بناها على " مذاهب العرب " وخرج فيها عن " مذاهب المحدثين ". لم يرضها العامة (1) .
بدايات نقدية ساذجة
ولم يستطع النقد الأدبي في الأندلس قبل القرن الخامس ان يرتفع إلى مستوى المشكلات الكبرى التي دارت في النقد المشرقي من حديث عن الطبع والصنعة، واللفظ والمعنى، والنظم، والصدق والكذب، وما أشبه، بل ظل بسيطاً في مجالي المستوى والتطبيق، لا ينفك عن التمرس ببعض الأخطاء اللغوية والنحوية، إذ كان القائمون على تدريس الشعر من طبقات المؤدبين لا يتجاوزون - في أحسن حال - التوفر على علم معاني الشعر، وبعض الدراسات اللغوية والنحوية.
ابن عبد ربه ينقل في العقد حصيلة آراء المشارقة في عصر الرواة
وقد نجد وقفات نقدية عند ابن ربه في العقد، ولكنها جميعاً مقتبسة مما عرفه عند المشارقة من حديث عن عيوب الشعر وعدم تفضيل القدماء على المحدثين وتوفر الملكة والدربة، وهو يقول للشاعر انه لا يفيده أخذ ألفاظ الناس وكلامهم " فإن ذلك غير مثمر لك ولا مجد عليك ما لم تكن الصناعة ممازجة لذهنك وملقحة بطبعك " ويسمي السرقة باسم " الاستعارة " ويرى أن أخفاها وأدقها ما كان ينقل المنثور إلى المنظوم أو العكس (2) . وكل هذه الأمور قد مرت بنا عند الحديث عن النقد المشرقي وتكاد تكون منقولة دون تصرف أو تحوير.
(1) طبقات الزبيدي: 339.
(2)
محاضرات الموسم الثقافي (الكويت) 5: 176.
أسباب ساعدت على استقواء النقد
ولكن كان لابد للطاقات النقدية أن تقوى في الاندلس، على مر الزمن، لأسباب عديدة منها:
(1)
الحركة الثقافية التي أوجدها الحكم المستنصر (350 - 366) ، فهذه الحركة بعثت في الأندلسيين شعوراً بالثقة، حين ميزت بين التبعية الكاملة للمشرق والاستقلال الذاتي، وأعانت على النظرة إلى ما يمكن أن يسمى " شعر الأندلسيين " مستقلاً أو متصلاً بالحركة الشعرية عامة في البلاد الإسلامية، مثلما أن الثقافات التي انتشرت بجهود الحكم قد ساعدت على إيجاد الوعي العميق عن طريق المفارقة والمقارنة، وهي أول حوافز النقد.
(2)
إنشاء ديوان للشعراء لا يقيد فيه اسم الشاعر لينال عطاء إلا بعد أن يثبت تفوقه، ونحن وإن كنا نجهل الكثير عن المقاييس النقدية التي كان يستخدمها المحكمون، ولا نستطيع تبرئتهم من الانسياق مع الذوق الذاتي، فإننا نقدر أن المنافسة وحدها كانت كفيلة - عن طريق الأخذ والرد - بإثارة الأذهان للنقد وأحياناً للتجريح أو التهكم. وفي كل ذلك تكمن تربة صالحة لنمو نقد سليم (1) .
(3)
الانهيار الذي أصاب قرطبة (أم الأندلس) بسبب الفتنة البربرية (399) ، فقضى على العمران وعلى الوحدة السياسية وأشاع القلق والاختلال في المقاييس، ورمى الشعر - مؤقتاً - في الكساد، وخلق طبقة من أدعياء الثقافة فأدى إلى نقمة الشعراء على أوضاعهم وعلى دعاوى المدعين وإلى محاولة المقارنة بين الماضي والحاضر، وإلى استرداد القيم التي أخذت تتحطم، وكان النقد الأدبي من نتائج ذلك كله.
(1) كان عبد الله بن محمد بن مسلمة رئيس هذا الديوان في الأيام العاميرة، وقد وصفه الحميدي (الجذوة: 239) بأنه كان ناقداً من نقاد الشعر، وعلى يديه كانت تخرج صلات الشعراء ورسومهم.
(4)
انفتاح العقول المثقفة على شيء من المنطق والفلسفة بعد توفر قسط من الحرية النسبية في هذا المجال، ومن اثر ذلك ان تعمق النظرة إلى الظواهر الإنسانية ومن بينها الشعر، والأدب بعامة.
(5)
الأثر المشرقي: فالقرن الخامس في الأندلس جاء بعد النهضة النقدية في المشرق على يد ابن طباطبا والآمدي والحاتمي والجرجاني، وقد وصلت كتبهم إلى أيدي الأندلسيين ففتحت أمامهم مجال القول في النقد.
الوضع الأندلسي والشعر الأندلسي يوجهان النقد الأدبي
فمن طبيعة الوضع الأندلسي وطبيعة الشعر الأندلسي نفسه اتخذ النقد الأدبي وجودة وسماته: أما طبيعة الوضع الأندلسي فكانت تتمثل في احتذاء المشرق، فلما تنبهت الأندلس إلى شخصيتها في المجال العلمي والأدبي، كان النقد الأدبي دفاعاً عن هذه الشخصية ضد الظلم أو التجاهل أو الاتهام بان الأندلس ليس فيها أدباء وشعراء؛ ومن طبيعة الوضع الأندلسي ان يكون الرابط فيها فقيهاً، وأن تكون الصبغة الخارجية للحياة دينية، ولذلك لم يستطع النقد أن يتخلص من الأحكام الأخلاقية؛ وكان مما يزيد الأندلسيين شعوراً بذلك، تلك الفرقة التي نجمت في القرن الخامس، فقسمت الأندلس إلى دول متناحرة يذكى الشعر تناحرها، ويزين لكل أمير فيها أنه وحده ظل الله على الأرض، وكان لابد أن يكون الناقد انفذ بصراً من الشاعر الذي توجهه الحاجة وتحمله المبالغة إلى أقصاها؛ كان يبدو للناظر المتأمل أن الشعر إذن يقترن من ناحية بالضعة والتكسب، مثلما يقترن من ناحية أخرى بترسيخ جذور الانقسامات السياسية والضعف الناشئ عنها، ومن ثم فهو شيء غير أخلاقي إذا نظرنا إليه من زاوية مثالية؛ وقد يقال ألم تكن الحال كذلك في المشرق؟ والجواب على ذلك أن المشارقة نظروا إلى الظاهرة الشعرية - من حيث هي ظاهرة إنسانية -، وفصلوا بين الشعر والحياة نفسها، فاخذوا يتجادلون حول المشكلة - أو المشكلات
التي تمثلها هذه الظاهرة، أو يتناظرون حول شاعر ما بعد أن يفصلوا شعره من ملابسات الأوضاع التي عاشها، ولكن الأندلسيين نظروا إلى حياة الشعر، إلى الشعر في الحياة، ولذلك لم تهمهم المشكلات النقدية الكبرى التي أثارها المشارقة، من زاوية التجريد، ولسنا نقول ان كل ناقد أندلسي فلابد أن يكون اخلاقياً، ولكن يكفي ان نلحظ قوة هذا التيار في النقد الأندلسي.
ومن طبيعة الشعر الأندلسي أول الأمر انه تربى على الذوق المحدث، ونما فيه هذا الاتجاه بقوة، وأسعفت الحضارة الأندلسية على استقوائه، فاهتم بوصف الجمال في الطبيعة والانسان، - كما حدث في شعر المشارقة المحدثين - عن طريق الصورة أو قل الإكثار من التشبيهات، ولذلك كان من أبرز العناصر التي التفت إليها الناقد المتذوق عنصر التشبيه، وحسبنا أن نجد كتابين في أوائل القرن الخامس يكتبان في التشبيهات أحدهما كتاب أبي الحسن علي ابن محمد بن أبي الحسين الكاتب (1) والثاني كتاب ابن الكتاني الطبيب (2) . وكلاهما مقصور على تشبيهات الأندلسيين دون سواها؛ وكلما تحضر الذوق زاد التفنن في طلب الصورة، وسوف تكون المحاولة في المستقبل قاعدة هامة في الذوق النقدي أثناء القرن الخامس والقرون التالية.
ومن طبيعة الشعر الأندلسي أيضاً أن التيار الذي سمي طريقة العرب. حين جاور مذهب المحدثين، عايشه في هدوء، وسار التياران متوازيين دون صراع، حتى لتجدهما معاً في شعر الشاعر الواحد، وقد كانت حيوية الصراع بين التيار القديم والمحدث سبباً في خصب النقد المشرقي، ولذا فقدت هذه الحيوية في النقد الأندلسي، وأسعف على فقدانها غياب ضروب أخرى من الصراع شهدها المشرق، كالمعركة الخفية حول الشعر والمنطق، أو حول شاعرين متباعدين الطريقة، أو حول شاعر يشذ عما حوله. وليس أدل
(1) الجذوة: 290.
(2)
كتاب التشبيهات من أشعار أهل الأندلس، تحقيق إحسان عباس (بيروت 1966) .
على قيمة الصراع في خلق الحركة النقدية من الأندلس نفسها، فإن أبرز النقد الذي تكون فيها غنما كان صراعاً بين الشاعر والمعلم أو بين ابن شهيد وطبقة اللغويين.
وإذا كان الشعر المشرقي بحاجة إلى مقاييس نقدية تنظم الأخذ، فإن الشعر الأندلسي أشد حاجة إلى ذلك، لأن عملية النمو فيه، في كل عصر، كانت تعتمد على الدفقات الجديدة التي تنساب في عروقه آتية من المشرق.
المجالات الكبرى للنقد في الأندلس
فإذا كان النقد الأندلسي نتاج هذا كله، فلا غرابة ان نجده يدور في مجالات: الدفاع عن الأندلس وأدبها، اللجوء إلى حمى الأخلاق، التشبث بالصورة، قوانين الأخذ والسرقة، وأن يكون بعد هذا ولأجل هذا نفسه باهتاً، حتى انه إذا تجاوزنا دنيا الأمثلة الجزئية لم يجد إلا القواعد النظرية المشرقية، متخلياً عن العمق لأنه يكره الفلسفة، قليل التشكل بصورة متكاملة تستدعي تأليفاً مستقلاً.
ابن شهيد وابن حزم طليعة الحركة النقدية
ولعل اعظم اثنين تمرسا بالنقد في القرن الخامس، وربما ظلاً اعظم من نلقاهما في تاريخ النقد هنالك، هما ابن شهيد وابن حزم، وكانا صديقين يلتقيان على بعض شئون الحياة ثم يفترقان كل في سبيل: كلاهما أرستقراطي المنبت، ذهبت الفتنة البربرية بمجد أبيه واهله، فهما يحبان قرطبة ويحنان إلى ماضيها، ويتراءى لهما هذا الماضي بأخيلة العصور الذهبية ومرابع الصبا فيكتب كل منهما ترجمته الذاتية، وكل منهما معجب بما لدى صاحبه من ملكات، شاعران افترقت بهما الطريق: فأما ابن حزم فغاص في لجة الصراع المذهبي متوجهاً إلى الآخرة متنقلاً في البلدان الأندلسية، يجمع حوله التلامذة لينفرهم من التقليد والقياس ويدرس ويناقش ويحتد في المناقشة، ويدعو إلى الفلسفة
والمنطق بحماسة تشبه حماسته المذهبية؛ وأما ابن شهيد فإنه لا يطبق فراق معشوقته العجوز (قرطبة) مقبلاً على لذاته الدنيوية، خائضاً غمرة الصراع الادبي، قانعاً من المعرفة بأطراف يسيرة، مؤمناً أن الاطلاع الواسع ربما خدد وجه القريحة الطبيعية.
ابن شهيد وصلته بالنقد
وابن شهيد أقرب إلى عالم النقد من صاحبه لان إعجابه الذاتي بنفسه وضعه موضع التفرد - في نظر نفسه - إزاء الآخرين، فاحب أن يثبت تفوقه، وكان إعجابه بذاته قد وضعه موضع من ينظر إلى اللغويين من عل، وكانت الخصومة بينه وبينهم تدور حول دعاواهم بأنهم يستطيعون تعليم البيان، فأحب أن يثبت لهم بعد ما بين الموهبة والاكتساب. ولهذا كان العامل الموجه في مذهبه النقدي هو إيمانه بطريقته في الشعر والنثر؛ ومن خلال هذا الأيمان كان يقيس شعر غيره من الشعراء.
مؤلفاته التي يمكن أن تتوفر فيها أحكام نقدية
ومن مؤلفاته ذات الطابع النقدي: كتاب حانوت عطار، ورسالة التوابع والزوابع، ورسائل متفرقة تحدث فيها عن البيان.
فأما الكتاب الأول فإنه لم يصلنا ولكن الحميدي نقل عنه في " جذوة المقتبس "، وتدل نقوله على أن الكتاب تراجم لشعراء الأندلس، فهو سابق لكتاب " الأنموذج " في هذا المضمار، وفيه أحكام نقدية عامة ونماذج مما اختاره بحسب تلك الأحكام؛ فمن ذلك قوله في ابن دراج: " والفرق بين أبي عمر وغيره أن أبا عمر مطبوع النظام شديد أسر الكلام، ثم زاد بما في أشعاره ومن الدليل على المعلم بالخبر واللغة والنسب وما تراه من حوكة للكلام وملكه لأحرار الألفاظ، وسعة صدره وجيشه بحره، وصحة مقدرته على البديع، وطول طلقه في الوصف، وبغيته للمعنى وترديده، وتلاعبه به
وتكريره، وراحته بما يتعب الناس، وسعة نفسه فيما يضيق الأنفاس " (1) .
المعارضة غير معيبة بل هي أساس التفوق
ولأول مرة نرى ناقداً يقر مبدأ المعارضة معياراً للتفوق، فنجد ابن شهيد ناقماً على النقاد الذين كانوا يتولون ديوان الشعراء لأنهم أخروا عبد الرحمن بن أبي الفهد وقدموا عليه عبادة بن ماء السماء مع ان عبد الرحمن " غزير المادة واسع الصدر حتى انه لم يكد يبقى شعراً جاهلياً ولا إسلامياً إلا عارضه وناقضه، وفي كل ذلك تراه مثل الجواد إذا استولى على الأمد، لا يني ولا يقصر، وكان مرتبته في الشعراء أيام بني أبي عامر دون مرتبة عبادة في الزمام، فاعجب "(2) . وقد فوت ضياع هذا الكتاب كثيراً من أحكام أبي عامر ابن شهيد النقدية، كما حرمنا التعرف إلى أخبار هامة عن حياة الأدباء الأندلسيين.
قضية الأخذ والتوليد
وأما التوابع والزوابع أو " شجرة الفكاهة " فإنها رسالة كتبها ابن شهيد لصديقه أبي بكر يحيى بن حزم، وهو من بيت آخر غير بيت الفقيه ابن حزم (3) ، ليعرض فيها أروع نتاجه ويتهكم بمن كان يكايده من أهل قرطبة، وقد احتفظ لنا ابن بسام في الذخيرة بقطع منها؛ وهي تعتمد الفكرة القديمة في أن لكل شاعر تابعاً من الجن يلهمه الشعر؛ ولكن ابن شهيد قد أبطل المعتقد السائد الذي وضحه المرزوقي في إن النثر والشعر لا يتفقان على درجة واحدة في الجودة لشخص واحد، ولذا عرض ابن شهيد شعره على قدامى الفحول حين زار ديار الجن مثل امرئ القيس وطرفة وقيس بن الخطيم وكبار المحدثين مثل أبي نواس وأبي الطيب، فكل أجازه وشهد له بالإجادة؛
(1) الذخيرة 1/ 1: 45.
(2)
الجذوة: 258 - 259.
(3)
الجذوة: 351.
ثم عرض نثره على تابعي الجاحظ وعبد الحميد فأجازه كذلك، فاستوت له التقدمة في الصناعتين، وهرب منه تابع بديع الزمان حسداً وكمداً، وقال له صاحبا عبد الحميد والجاحظ:" اذهب فإنك شاعر خطيب "(1) .
وفي قطعة من الرسالة إن أبا عامر تذاكر في مجلس من مجالس الجن اخذ الشعراء للمعاني وتداولهم لها فأنشد بعضهم المعنى الذي جاء به النابغة وغيره:
إذا ما غزوا بالجيش حلق فوقهم
…
عصائب طير تهتدي بعصائب وهو معنى تردده في كتب النقد المشرقية، وتعاوره أبو نواس ومسلم وأبو تمام والمتنبي، فاخذ القوم يتجادلون ليقرروا أيهم يفوز بقصب السبق (وهي طريقة من القدرة على تتبع المعنى الواحد المسروق) . ثم تذاكروا المعاني العقم فكان منها قول امرئ القيس:
سموت إليها بعد ما نام أهلها
…
سمو حباب الماء حالاً على حال وكيف أخذه عمر بن أبي ربيعة فأساء؛ وكيف أن ابن شهيد مر بشيخ يعلم بنياً له صناعة الشعر وهو ينصحه بقوله: " إذا اعتمدت معنى قد سبقك إليه غيرك فأحسن تركيبه وارق حاشيته فأضرب عنه جملة، وإن لم يكن بد ففي غير العروض التي تقدم غليها ذلك المحسن لتنشط طبيعتك وتقوى منتك "(2) ، (وهي نصيحة عرفها المشارقة) فحاول ابن شهيد أخذ ذلك المنى متعظاً بنصيحة الشيخ. وهذا يدل على انشغال بال ابن شهيد بوضع قاعدة مقبولة للأخذ.
(1) الذخيرة 1/ 1: 238.
(2)
الذخيرة 1/ 1: 244.
الروحانية وأثرها في التناسب الذي يعد سر الجمال في الشعر
وقد بنى سائر ما تبقى من رسالة التوابع والزوابع على صور تهكمية فيها من شأن علماء اللغة وبخاصة ابن الافليلي شارح ديوان المتنبي. فأما في رسائله البيانية الأخرى فإنه واجههم بالهجوم السافر، وعنفهم لاعتقادهم أن بضاعتهم وسيلة لتعليم البيان فقال:" وإصابة البيان لا يقوم بها حفظ كثير الغريب واستيفاء مسائل النحو بل بالطبع مع وزنه من هذين؛ ومقدار طبع الإنسان إنما يكون على مقدار تركيب نفسه مع جسمه "(1) ، ويشرح ابن سعيد هذه الفلسفة الجديدة فيبين أن من تغلبت نفسه على جسمه كان مطبوعاً روحانياً فتجيء الصور عنه في أجمل هيأة، وأما الآخر الذي يستولي جسمه على روحه فإن صور الكلام تتكون لديه ناقصة. وأصحاب الروحانية قد يأتون بكلام جميل مؤثر في النفوس دون أن يكون للكلام في ذاته جمال خاص، وهذا هو الغريب وهو أن يتركب الحسن من غير الحسن؛ كقول امرئ القيس:
تنورتها من اذرعات وأهلها
…
بيثرب أدنى دارها نظر عالي (2) وهذه نظرية طريفة في الجمال " تركب الحسن من غير حسن "، تعد من ابتكار أبي عامر، ولعله يعني بها أن كل جزء على حدة ليس فيه جمال، فإذا تم تركب الأجزاء شعت بجمال ناجم عن التركيب المنسجم. ونظرية أبي عامر في الطبع المؤيد بالثقافة (اللغوية والنحوية) ليست جديدة علينا، ولكن تفسير الطبع بأنه غلبة النفس على الجسم لم يرد عند المشارقة؛ أتراه من تأثير ابن حزم نفسه في تفسير قضية الحب كما عرضها في " طوق الحمامة "؟
وهذا الجمال ناشئ عن الانسجام هو الذي جعل ابن شهيد يمعن في الإلحاح على ان " للحروف انساباً وقرابات تبدو في الكلمات، فإذا جاور
(1) الذخيرة 1/ 1: 197.
(2)
المصدر نفسه.
النسيب النسيب ومازج القريب القريب طابت الألفة وحسنت الصحبة " (1) .
ويخلص أبو عامر إلى أن البيان قد يعلم ولكن ليس الذي يقوم بتعليمه طبقة معلمي اللغة، لأنهم في رأي أبي عامر " يرجعون إلى فطن حمئة وأذهان صدئة، لا منفذ لها في شعاع الرقة ولا مدب لها في أنوار البيان "(2)، وهم يدركون بالطبيعة ويقصرون بالآلة: أي كأنهم يعرفون بالقوة لا بالفعل، ويعني ابن شهيد بالآلة المقصرة التركيب الفسيولوجي الذي فسد فلم يعد قادراً على تقبل الروحانية لغلظ أعصاب الدماغ وفرطحة الرأس وتسفيطه والتواء الشدق؟ (وخرج هنا إلى التصوير العابث وكأنه يرسم صورة ابن الافليلي)(3) ، وإنما الذي يستطيع تعليم البيان امرؤ قادر " على تفجير صفاة غيره "، إذا كان المتعلم ذا استعداد نفسي لذلك.
طبقات أصحاب صنعة البيان
وينقسم أصحاب صنعة الكلام في رأيه إلى ثلاثة أقسام:
(1)
قسم يخترع المعاني ويعرف جيد الألفاظ ولكن توفيقه بينهما يعتمد على كد القريحة وقد يجيد في المقطعات والقصار، ولكنه يعجز عن " بهاء البهجة " وشرف المنزلة، إذا سمته الاستمرار.
(2)
قسم ماهر في التلفيق والحيلة، فهو يغطي بذلك على نقص الكرة، ويستجلب الرضى الموقت من معاصريه.
(3)
قسم هم أصحاب الحدة البيانية الذين يبنون الكلام على الاندفاع والانصباب مع التوفيق التام بين الفكرة الصعبة ومائية الشكل، والواحد
(1) الذخيرة 1/ 1: 199.
(2)
الذخيرة 1/ 1: 205.
(3)
الذخيرة 1/ 1: 205 - 206.
منهم " كالقوة في المرقب (1) ، سام نظره قد ضم جناحيه ووقف على مخلبه، لا تتاح له جارحة إلا اقتصها ولا تنازله طائرة إلا اختطفها، جرأته كشفرته وبديهته كفكرته "(2) . ومن خرج عن هذه الفئات الثلاث فلا يدخل في صناعة الكلام.
وهذه القسمة تنظر إلى " القطعة الفنية " وتحكم على الشاعر من خلالها. فالقطعة الفنية الرائعة في نظر ابن شهيد هي التي تتمتع بقوة الانصباب. وتوفق في انسجام تام بين الفكرة والشكل، وتلبك معاني الآخرين في مزيج خفي، وتقتنص كل ما يتاح لها، وتتساوى جودتها في حالتي البديهة والفكرة.
تمجيد ابن شهيد للبديهة
وكان ابن شهيد يرى البديهة محكاً للجودة، ولذلك نسمعه يقول:" إنما يتبين تقصير المقصر وفضل السابق المبرز إذا اصطكت الركب وتزاحمت الحلق واستعجل المقال، ولم توجد فسحة لفكرة ولا امكنت نظرة لروية؟ فترى الجواد السابق إذ ذاك متشوفاً بأذنه، باحثاً لكيدي الإحسان بيده، طامح النظر، صهصلق الصهيل، وأهل الصنعة خرس لا يسمع لهم جرس؟ "(3) . ومن العجيب أن يطلب ناقد التسوية بين نتاج البديهة ونتاج الروية، ولكن ابن شهيد كان يحس بقدرته على الاثنتين مثلما يحس يتميزه في الصناعتين، ومن هنا وضع المقياس الذي يلائمه، وان عز تطبيقه حين يحاول ناقد أن يوازي بين بديهة ابن شهيد ورويته.
الناقد الحق هو الذي يدرك سر التناسب
وإذا كانت أروع صور البيان هي التي تم فيها التوفيق بين الفكرة الصعبة ومائية الشكل فغن مهمة الناقد الأدبي هي الكشف عن هذا التلاؤم وتمييزه من سائر مراتب الصناعة، ونجد ابن شهيد يصور مهمة الناقد وطبيعة
(1) القوة: العقاب.
(2)
الذخيرة 1/ 1: 204.
(3)
الذخيرة 1/ 1: 209.
الشعر صوراً مستمدة حيناً من طبيعة المباني الأندلسية وحيناً من جوها فينص على أن الناقد يجب ألا يستهويه الشكل وينسيه التفتيش عن المعنى: " فقد ترى الشعر فضي البشرة وهو رصاصي المكسر، ذا ثوب معضد أو مهلهل، وهو مشتمل على بهق أو برص. مبنياً بلبن التماثيل وصفوان التهاويل، وهو لا يجن صاحبه عن النسيم فضلاً عن الحرجف، ولا يقيه رقيق الندى فضلاً عن شؤبوب الكنهور "(1) .
الناقد الحق لا ينخدع بالتمويه العاطفي
ولعل أهم خداع تنبه له ابن شهيد هو الخداع العاطفي حيث تضطرم نيران الجوى ويلمع البرق ويستن الودق وتسفح الدموع، والكلام في حقيقته كسراب بقيعة. إذ الفنان الحق في رأيه هو الذي " يتصرف تصرف الملح ويتلون تلون أبي براقش "(2) ، وهذا الكلام موهم، ولكن ابن شهيد يعني القدرة على القريض رغم تنوع الموضوع، فيبقى كلام الشاعر في الناس على مر الادهار ويتخذونه اتخاذ الملح، ويفسرونه بما يلائم تغير الأزمنة.
أثر تغير الزمن في الشعر والأذواق
وقد أقر ابن شهيد بتغير العادة حسب تغير الأزمنة وبان ما يصلح في عصره ربما لم يبق صالحاً في عصر آخر، كذلك هي الحال في الصناعتين النثر والشعر: " ألا ترى ان الزمان لما دار كيف أحال بعض الرسم الأول في هذا الفن إلى طريقة عبد الحميد وابن المقفع وسهل بن هارون وغيرهم من أهل البيان؟ فالصنعة معهم أفسح باعاً وأشد ذراعاً وأنور شعاعاً، لرجحان تلك العقول واتساع تلك القرائح في العلوم؛ ثم دار الزمان دوراناً، فكانت إحالة أخرى إلى طريقة إبراهيم ابن العباس ومحمد بن الزيات وابني وهب ونظرائهم، فرقت الطباع وخف
(1) الذخيرة 1/ 1: 266 والجرحف: الريح الشديدة؛ والكنهور: السحاب.
(2)
المصدر نفسه.
ثقل النفوس، ثم دار الزمان فاعترى أهله باللطائف صلف، وبرقة الكلام كلف، فكانت إحالة أخرى إلى طريقة البديع وشمس المعالي وأصحابهما؛ وكذلك الشعراء انتقلوا عن العادة في الصنعة بانتقال الزمان وطلب كل ذي عصر ما يجوز فيه وتهش له قلوب أهله فكان من صريع الغواني وبشار وأبي نواس وأصحابهم في البديع ما كان، من استعمال أفانينه والزيادة في تفريع فنونه، ثم جاء أبو تمام فأسرف في التجنيس وخرج عن العادة وطاب ذلك منه وامتثله الناس، فكل شعر اليوم لا يكون تجنيساً أو ما يشبهه تمجه الآذان، والتوسط في الأمر أعدل؛ ولذلك فضل أهل البصرة صريع الغواني على أبي تمام لأنه لبس ديباجة المحدثين على لأمة العرب، فتركب له من الحسن بينهما ما تركب " (1) .
فها هو ابن شهيد يرصد تطور الذوق، ولكنه يدعو إلى الاعتدال في التجنيس، وإلى التوفيق بين طريقة العرب وطريقة المحدثين، هذا على أنه يؤمن بانتقال العادة مع الزمن، وفي هذا طرف من التناقض إذ ما دامت الأذواق هي التي تأخذ وتدع فكيف يمكن توجيه الذوق الذي اخذ يفتن بالإكثار من التجنيس إلى التوسط والاعتدال؟
موجز فيما حققه ابن شهيد في النقد
وقد يتجاوز إعجاب ابن شهيد بذاته وبشعره وبنثره كل حد، ومع ذلك فإن هذا الطريق المضلل قد بلغ به إلى نتائج قيمة، فكان ثانياً لابن طباطبا في وضع مفهوم للجمال الفني، وكان متفرداً في تفسير الطبع على أساس روحاني، وفي اعتبار الطاقة الشعرية واحدة في حالي البديهة والروية، وكان تلميذاً للمشارقة في نظرية الأخذ، وفي تحديد واجب النقاد، وربما كان متأثراً بالجرحاني في النص على تقلب العادات حسب تقلب العصور. أما في إصابة الحكم على من درسهم من الشعراء
(1) الذخيرة 1/ 1: 203.
فإنه ربما تفوق على ابن رشيق وابن شرف. وربما لم يبلغ أي ناقد أندلسي آخر مبلغه في إرهاف الذوق والإحساس بالجمال الفني، وقد اتخذ من شاعريته وسيلة للتعبير عن آرائه النقدية بطريق التصوير.
ابن حزم والمعوقات دون النقد
وأما ابن حزم فقد كانت مداخله إلى النقد الأدبي كثيرة مثلما كانت الحواجز والسدود دونه كثيرة أيضاً: كانت مداخله إليه سعة اطلاعه وحفظه لتراث الأندلس الشعري وذكاؤه الذاتي وذوقه المرهف ودراسته للفلسفة والمنطق وشعوره بالأندلس وحبه لها ودفاعه دونها، وعدالته إذا شاء الإنصاف وتخلى عن الموقف الدفاعي، واطلاعه على طرائق النقد عند المشارقة؛ وكانت السدود والحواجز دونه انشغاله الكثير بالفقه والمجادلات، وانبهام غاية الشعر دون نظره فهو صالح لكل شيء حتى لشرح المذهب الفقهي والتعاليم الأخلاقية، وإخفاقه في تجاربه الدنيوية، ونبذه كل شيء لا يقرب إلى الله، (والشعر من أشد الظواهر الإنسانية تعلقاً بالدنيا)، ولهذا اختلط الحال عليه في النقد الأدبي:
وقفته الدفاعية عن الأندلس
فإذا كان المدخل شعوره بالأندلس ودفاعه عنها هو الموجه قرأت له رسالة في فضل الأندلس وضع فيها بعض شعراء بلده في مصاف مشاهير المشارقة: " ونحن إذا ذكرنا أبا الأجرب جعونة بن الصمة الكلابي في الشعر لم نباه به إلا جريراً والفرزدق لكونه في عصرهما، ولو انصف لاستشهد بشعره، فهو جار على مذهب الأوائل لا على طريقة المحدثين؟ ولو لم يكن لنا من فحول الشعراء إلا احمد بن دراج القسطلي لما تأخر عن شأو بشار وحبيب والمتنبي، فكيف ولنا معه جعفر بن عثمان الحاجب واحمد ابن عبد الملك بن مروان واغلب بن شعيب ومحمد بن شخيص وأحمد بن فرج وعبد الملك بن سعيد المرادي وكل هؤلاء فحل يهاب جانبه، وحصان
ممسوح الغرة " (1) - مباهاة عريضة كما ترى، لعل ابن حزم كان أول من يدرك حقيقتها، ولكن الموقف الذي استدعاها لم يكن يسمح بالتواضع.
الخطابة والشعر تتمة للمنهج القديم
وإذا كان المدخل دراسته المنطقية، كان لابد له من استكمال المنطق الارسططاليسي بفصلين (سابع وثامن) في الخطابة وفي الشعر. ولكن يبدو انه لم يتح له الاطلاع على كتابي أرسطو في هذين العلمين، ولذلك اكتفى بالاتكاء فيهما على نفسه حين كتب " التقريب لحد المنطق " فأوجز القول ولم يشف الغلة؛ فقال في باب البلاغة:" قد تكلم أرسططاليس في هذا الباب وتكلم الناس فيه كثيراً وقد أحكم فيه قدامة بن جعفر الكاتب كتاباً حسناً، وبلغنا حين تأليفنا هذا أن صديقنا أحمد بن عبد الملك بن شهيد ألف في ذلك كتاباً. وهو من المتمكنين من علم البلاغة الأقوياء جداً. ود كتب إلينا يخبرنا بذلك إلا أننا لم نر الكتاب بعد. فغنينا بالكتب التي ذكرنا عن الإيغال في الكلام في هذا الشان، ولكنا نتكلم بإيجاز جامع "(2) .
تعريف البلاغة
وتعريف ابن حزم للبلاغة لا يخلو من طرافة إذ يقول: " البلاغة ما فهمه العامي كفهم الخاصي، وكان بلفظ يتنبه له العامي لأنه لا عهد له بمثل نظمه ومعناه. واستوعب المراد كله، ولم يزد فيه ما ليس منه، ولا حذف ما يحتاج من ذلك المطلوب شيئاً، وقرب على المخاطب به فهمه، لوضوحه وتقريبه ما بعد، وكثر من المعاني وسهل عليه حفظه لقصره وسهولة ألفاظه "(3) .
(1) تاريخ الأدب الأندلسي - عصر سيادة قرطبة: 312، 313.
(2)
التقريب: 204.
(3)
المصدر نفسه.
مراتب البلاغة أربع
وينص ابن حزم على الحاجة إلى الطبع والتوسع في العلوم لمن شاء إحراز البلاغة؛ ويضع للبلاغة أربع مراتب:
(1)
بلاغة تتكون من الألفاظ المألوفة عند العامة، كبلاغة الجاحظ.
(2)
بلاغة تتكون من الألفاظ غير المألوفة عند العامة كبلاغة الحسن البصري وسهل بن هارون.
(3)
بلاغة تتركب من المرتبة الأولى والثانية كبلاغة ابن المقفع (وربما تركبت من بلاغة الخطب ممتزجة ببلاغة الرسائل كما فعل ابن دراج) .
(4)
بلاغة عادية - (لعلها النثر العادي الذي يراد به الإفهام وحسب) .
أقسام الشعر
وقد تعودنا قسمة الشعر في نوعين مطبوع ومصنوع ولكن ابن حزم جعله أقساماً ثلاثة، فزاد على الاثنين السابقين: شعر البراعة.
(1)
فالصناعة هي الجمع بين الاستعارة والتحليق على المعاني. (كشعر زهير وأبي تمام) .
(2)
والطبع ما أشبه المنثور في تأليفه وسهولته ولم يقع فيه تكلف (كشعر جرير وأبي نواس) .
(3)
والبراعة هي التصرف في المعاني الدقيقة البعيدة والإكثار مما لا عهد للناس بالقول فيه وإصابة التشبيه وتحسين المعنى اللطيف (كشعر امرئ القيس وابن الرومي) .
وقد تتركب هذه الأنواع فيخرج منها أقسام جديدة.
أحسن الشعر أكذبه
وابن حزم يأخذ برأي من يقولك أحسن الشعر أكذبه، ولذلك فهو مبني على الإغراق. فإذا أخذ الشاعر في الصدق فقال " الليل ليل والنهار نهار " أصبح محطاً للهزء والسخرية؛ وهذا الإغراق تصدقه الآية القرآنية في الشعراء. ولذلك نهى النبي عن الإكثار منه إلا ما خرج عن حد الشعر، فكان مواعظ وحكماً ومدحاً للنبي صلى الله عليه وسلم (1) .
المواعظ والحكم والنبويات خارجة عن حد الشعر
فابن حزم يعتقد ان المواعظ والحكم والمدائح النبوية خارجة عن حد الشعر لأنها تقوم على الصدق، بينا الشعر يقوم على الكذب.
استبعاد الشعر في المنهج التربوي
ولهذا فإنه حين اتخذ مدخله إلى الشعر تربية الشبان تربية خلقية، نهى عن كل نوع من الشعر، ولم يبق إلا المواعظ والحكم وما فيه ذكر الخير: نهى عن الأغزال والرقيق لأنها تحث على الصبابة وتدعو إلى الفتنة وتحض على الفتوة وتصرف النفس إلى الخلاعة واللذات وتسهل الانهماك في الشطارة والفسق؛ ونهى عن الأشعار المقولة في التصعلك وذكر الحروب لأنها تثير النفوس وتهيج الطبيعة وتسهل على المرء موارد التلف في غير حق وقد تؤدي إلى هلاك النفس وخسران الآخرة؛ ونهى عن أشعار التغرب وصفات المفاوز والبيد لأنها تسهل التحول والتغرب؛ ونهى عن الهجاء فهو أفسد أنواع الشعر لأنه يهون على المرء كونه في حالة السفلة. أما المدح والرثاء فهما من المباح المكروه، من المباح لأنه قد تذكر فيهما الفضائل ويتم التذكير بالموت، ومن المكروه لان الكذب يلفهما بردائه، ولا خير في الكذب (2) .
(1) التقريب: 206 - 207.
(2)
رسائل ابن حزم: 65 - 67.
وقد عاد ابن حزم إلى شيء من هذا الموقف نفسه عندما سأله بعض تلامذته عن القدر الصالح للمرء من العلوم، فحين تحدث عن الشعر قال: وأما علم الشعر فإنه على ثلاثة أقسام: أحدها أن لا يكون للإنسان علم غيره فهذا حرام. يبين ذلك قوله عليه السلام " لان يملأ - أو يمتلئ - جوف أحدكم قبحاً حتى يريه خير له من ان يمتلئ شعراً "؛ والثاني الاستكثار منه، فلسنا حبه وليس بحرام، ولا يأثم المستكثر منه إذا ضرب في علم دينه بنصيب. ولكن الاشتغال بغيره أفضل. والثالث: الأخذ منه بنصيب فهذا نحبه ونحض عليه لان النبي عليه السلام قد استنشد الشعر، وانشد حسان على منبره عليه السلام، وقال عليه السلام، " عن من الشعر لحكماً "، وفيه عون على الاستشهاد في النحو واللغة، فهذا المقدار هو الذي يجب الاقتصار عليه من رواية الشعر، وفي هذا كفاية وحسبنا الله ونعم الوكيل. وأما من قال الشعر في الحكمة والزهد فقد أحسن وأجر، وأما من قال معاتباً لصديقه ومراسلاً له وراثياً من مات من إخوانه بما ليس باطلاً ومادحاً لمن استحق الحمد بالحق فليس بآثم ولا يكره ذلك، وأما من قال هاجياً لمسلم ومادحاً بالكذب ومشبباً بحرم المسلمين فهو فاسق، وقد بين الله هذا كله بقوله " والشعراء يتبعهم الغاوون " (1) (الشعراء: 224) . وهنا يتجلى لنا ابن حزم الذي يقر الشعر ما دام يحث على الفضيلة، وينكره ما دام مبايناً للقواعد الدينية والخلقية. ترى هل نعد ابن حزم ناقداً في هذا الموقف؟ إنه أقرب إلى المصلح الاجتماعي ذي النزعة الأفلاطونية، الذي يتحدث عن الفرد الصالح في المجتمع؛ ولله أن يكون قد تأثر بمسكويه أو بأفلاطون مباشرة فطرد اكثر ضروب الشعر من منهجه التعليمي. عن الهجوم على الشعر من حيث أثره السيئ في نفسية الأفراد والجماعات، سيظل دائماً ملاذ المتبررين، ولكنا لا نجد في تاريخ النقد الأدبي عند العرب موقفاً واضحاً من هذه القضية وضوح موقف ابن حزم وصراحته وتناوله المشكلة
(1) الرد على ابن النغريلة: 162.
بالتفصيل؛ ولقد رأينا النقاد المشارقة يفصلون في النظر بين الشعر والأخلاق، حتى إذا جاءوا إلى التطبيق تملكتهم المقاييس الخلقية وتحكمت في أذواقهم واحكامهم، وما ذلك إلا لأنهم اتخذوا الفصل بين الأمرين حجة للدفاع عن هذا الشاعر أو ذاك، فإذا انتهى الموقف الدفاعي، لم يعد الفصل ممكناً أو ضرورياً.
ابن حزم وفكرة الإعجاز
وقد أخبرنا ابن حزم أن صديقه ابن شهيد كان أثناء تأليفه لكتاب التقريب يكتب كتاباً في البلاغة، لم يره ابن حزم ولم تشر إليه المصادر ولم يصلنا؛ كذلك فغن ابن حزم نفسه كتب رسالة في إعجاز القرآن، ثم ضمها - أو بعضها - إلى كتابه " الفصل في الملل والنحل "(1) ، إلا أن اعتقاد ابن حزم بان الله حال بين العرب وبين معارضة القرآن (وهو رأي النظام بالصرفة) لم يجعل لهذه الرسالة قيمة من الزاوية النقدية؛ وبينا نجد ابن حزم يوافق القائلين بان القرآن معجز بنظمه وبما فيه من إخبار بالغيب، نجده يرد بشدة على من يقول إن إعجاز القرآن إنما هو لكونه في أعلى درج البلاغة " لأن هذا يكون في كل من كان في أعلى طبقة) (2) ؛ ويعتقد ابن حزم أن لآية مثل " وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان وأتينا داود زبورا " لا يمكن أن تكون في أعلى درجات البلاغة لأنه ليس فيها إلا عد الأسماء، ويقول: " فلو كان إعجاز القرآن لأنه في أعلى درج البلاغة لكان بمنزلة كلام الحسن البصري
(1) الفصل 3: 15 وما بعدها.
(2)
الفصل 3: 17.
وسهل بن هارون وشعر امرئ القيس، ومعاذ الله من هذا لان كل من يسبق في طبقته لم يؤمن أن يأتي من يماثله، ضرورة " (1) ؛ وإنما ينفي ابن حزم أن يكون القرآن في أعلى درجات البلاغة في كلام المخلوقين، لأنه يعتقد انه ليس من جنس كلام المخلوقين، لا من أعلاه ولا من أدناه ولا من أوسطه، ومن ثم بطلت المقايسة - حتى في درجات الجودة - بين القرآن وبلاغة المخلوقين.
(1) الفصل 3: 18.
النقد الأدبي في القرنين السادس والسابع