الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل ختامي
النقد الأدبي عند ابن خلدون
ابن خلدون والنقد الأدبي
كل ذي حرفة يغلب مصطلح حرفته على شعره
ليست لدينا صورة متكاملة عن النقد الأدبي في الأندلس أثناء القرن الثامن؛ وإذا استثنينا موقف ابن خلدون فكل ما لدينا شذرات أو إشارات إلى شيء من النشاط النقدي، فنحن نعلم مثلاً أن احمد ابن شعيب الجزنائي كاتب أبي الحسن المريني (توفي ابن شعيب سنة 750)(1)" كانت له إمامة في نقد الشعر وبصر به "(2)، ومن ضروب هذا البصر أنه ذاكره ابن رضوان (3) مرة في الشعر وانشده مطلع قصيدة لبعض شعرائهم وهو:
لم أدر حين وقفت بالأطلال
…
ما الفرق بين جديدها والبالي فقال له على البديهة: هذا شعر فقيه (من قوله: ما الفرق؟) وكان حكمه صائباً، ومرد هذا الحكم - في النظر - إلى مبدأ كان قد شاع في المغرب والمشرق وهو أن ألفاظ أصحاب كل حرفة تغلب على أشعارهم؛ وقد وضح الصلاح الصفدي (- 764) هذا المبدأ بقوله: " وكل من عانى
(1) ترجمته في نيل الابتهاج: 68.
(2)
التعريف بابن خلدون: 48.
(3)
كان كاتب العلامة عند السلطان أبي الحسن المريني، راجع دراستي عنه في " كتاب العيد ":(بيروت 1966) .
النظم وغلب عليه فن من الفنون مال به ذلك الفن وغلبت عليه قواعده واستعملها في مقاصده الشعرية وتخيلات معانيه وظهر على ما يرومه اصطلاح ذلك الفن وأحكامه؛ ألا ترى إلى أبي الفتح البستي ومقاطيعه المشهورة في الآداب والحكم كيف يغلب عليها الألفاظ المنجمين (1) ؟؟. هذا الشيخ صدر الدين ابن الوكيل لما كان الفقه يغلب على فنونه نجد كلامه في الغالب إذا خلا من القواعد الفقهية ينحط عن رتبة الحسن " (2) ، وهناك كثير من الأحكام الجزئية التي نجدها في نقد هذا العصر في المشرق والمغرب على السواء.
المؤثرات التي وجهت ابن خلدون في موقعه النقدي
وربما كان ابن خلدون اعظم ناقد في هذا العصر، رغم انه لم يزاول النقد الأدبي، ولم يمنحه من جهده الشيء الكثير؛ وقد تأثر ابن خلدون في تصوره وأحكامه في هذا الميدان بشيوخه وبثقافته الشخصية وبتجربته الذاتية في الشعر والنثر، فهو قد كان شاعراً ثم أضرب عن الشعر بعد مدة من الزمن، وكان ناثراً يكتب نثراً مرسلاً في عصر شديد الكلف بالأسجاع.
حملته على الإكثار من البديع
وقد أخذ ابن خلدون عن شيوخه آراء وافقت هوى في نفسه وفي طليعتها نظرة بعضهم بعين الاستهجان والاستنكار إلى الإكثار من البديع، فقد كان شيخه أبو البركات البلفيقي يتمنى لو أن الدولة تنزل العقوبة القاسية بمن ينتحل فنون البديع في نظمه أو نثره وان تعرضه للتشهير (3)، وكان شيخه الآخر الشريف السبتي يقول: " هذه الفنون البديعية إذا وقعت للشاعر أو
(1) الغيث 1: 124.
(2)
المصدر السابق: 126؛ وهذه النظرة مبكرة ترجع إلى ما قبل هذا العصر، وقد حاولها الكتاب عملياً، بان كتبوا رسائل على السنة أصحاب الحرف والصناعات وتنسب للجاحظ نفسه رسالة من هذا القبيل (انظر رسالة صناعات القواد في رسائل الجاحظ 1: 379 - 393) .
(3)
المقدمة: 1311.
للكاتب فيقبح أن يستكثر منها لأنها من محسنات الكلام ومزيناته، فهي بمثابة الخيلان في الوجه يحسن بالواحد والاثنين منها ويقبح بتعدادها " (1) ؛ وإذا كان هذا هو رأي الشيوخ من الزاوية النظرية فان ابن خلدون طبقه من الناحية العملية حين اختار الأسلوب المرسل، قال حين جعله السلطان أبو سالم كاب السر: " وكان أكثرها يصدر عني بالكلام المرسل، ان يشاركني أحد ممن ينتحل الكتابة في الأسجاع، لضعف انتحالها، وخفاء العالي منها على اكثر الناس بخلاف المرسل، فانفردت به يومئذ، وكان مستغرباً عندهم بين أهل الصناعة " (2) . وقد يقال ان ابن خلدون شعر انه لا يستطيع أن يبلغ في النثر المسجع شأو ابن الخطيب الذي كان بشهادته " آية من آيات الله في النظم والنثر " (3) ، ولكن المسالة ابعد غوراً من المنافسة الفردية، فابن خلدون لا ينكر ان في الأسجاع نسقاً عالياً، ولكنه قليل، ولذلك ذاق ذراعاً بالتكلف الذي كان يحيل الكتابة الإنشائية إلى ألفاظ منمقة دون محصل معنوي " فتنحل بالإفادة من اصلها وتذهب بالبلاغة رأساً ولا يبقى في الكلام إلا تلك التحسينات، وهذا هو الغالب اليوم على أهل العصر " (4) وابن خلدون يؤمن أيماناً عميقاً بقيمة الفكرة، ولهذا فهو لا يرضى ان يبددها في ضباب كثيف من المحسنات اللفظية، ومن ثم عد دخول الصنعة في الكتابة الديوانية بداية الفساد فيها، واتهم الصابي بأنه أول من سلك هذا الطريق واتبعه فيه الكتاب " وإنما حمله عليه ما كان في ملوكه من العجمة والبعد عن صولة الخلافة المنفقة لسوق البلاغة؛ ثم انتشرت الصناعة بعده في منثور المتأخرين ونسي عهد الترسيل وتشابهت السلطانيات بالاخوانيات والعربيات بالسوقيات واختلط المعري بالهمل " (5) .
(1) المصدر نفسه.
(2)
التعريف: 70.
(3)
التعريف: 155.
(4)
المقدمة: 1310.
(5)
المقدمة: 1311.
ذم حشد المعاني في البيت الواحد
وكذلك اخذ ابن خلدون عن أشياخه نفورهم من حشد المعاني وتزاحمها في البيت الواحد، مؤثرين السهولة والتبسيط والشعر الذي تسبق معانيه ألفاظه إلى الذهن؛ أما كثرة المعاني في البيت فذلك نوع من التعقيد، والتعقيد شيء كرهه نقاد الأندلس حتى حازم القرطاجني؛ وكان أشياخ ابن خلدون لذلك يعيبون شعر أبي إسحاق ابن خفاجة شاعر شرق الأندلس لكثرة معانيه وازدحامها في البيت الواحد (1) .
الالتزام بطريقة العرب وخروج المتنبي والمعري عنها
وليس أدق في تصوير الذوق العام في الأندلس لدى شيوخ ابن خلدون وغيرهم من أهل الصناعة الأدبية، من قولهم " أن نظم المتنبي والمعري ليس هو من الشعر في شيء لانهما لم يجريا على أساليب العرب من الأمم "(2) ؛ ولم يكن هذا نابعاً عن عداء للفلسفة، بمقدار ما كان ناجماً عن ذوق يتجه نحو الربط بين الشعر والسهولة المطلقة، وهو رأي ربما كان ترجمة مشوهة لقصر " الشعر " على أمثال البحتري، وتسمية كل من المتنبي وأبي تمام " حكيماً) ؛ وهذا لا يدل على ان الذوق بعد حازم قد أصابه انحسار، وإنما يدل على أن وقفة حازم - في النظر إلى المتنبي - كانت خارجة عن الذوق العام في الأندلس والمغرب، ومنذ أن خفت حدة المحاكاة للمتنبي والمعري بعد عصر المرابطين والطوائف، اصبح النموذج الشعري العالي هو " الصورة الغريبة " - المرقص - كما رأينا عند ابن سعيد والشقندي وأضرابهما، وذلك أيضاً هو مقياس الذوق في المشرق.
(1) المقدمة: 1298.
(2)
المقدمة: 1296، وانظر 1298 أيضاً.
الحفظ وأثره في تكوين الملكة الشعرية
أما ثقافة ابن خلدون فكانت العامل الثاني في توجيه أحكامه وآرائه النقدية، وأعني بالثقافة هنا - على وجه الخصوص - محفوظات الرجل في مختلف الموضوعات، فقد أشار عليه أستاذه أبو عبد الله محمد بن بحر بحفظ الشعر، فحفظ " كتاب الأشعار الستة والحماسة للأعلم وشعر حبيب وطائفة من شعر المتنبي ومن أشعار كتاب الأغاني "(1) ، واجتمع إلى هذا ما حفظه من القرآن والأحاديث والعربية الفقه وما في بعض هذه العلوم من المتون كقصيدتي الشاطبي الكبرى والصغرى في القراءات (2) ، وان كان يقر بأن محفوظه كان قليلا (3) ؛ ولكن هذه القلة كانت هامة في ذاتها، فإن اقتصاره مثلاً على كتاب الأغاني (في باب الكتب الأدبية) جعل لهذا الكتاب منزلة خاصة في نفسه حتى قال فيه:" فإن ذلك الكتاب هو كتاب العرب وديوانهم وفيه لغتهم وأخبارهم وأيامهم وملتهم (4) العربية وسيرتهم وآثار خلفائهم وملوكهم وأشعارهم وغناؤهم وسائر مغانيهم، فلا كتاب أوعب منه لأحوال العرب "(5) ومثل هذا الحكم - الذي يمكن ان يرد في غير موطن - لا يصدر إلا عن قلة المحفوظ.
غير أن المحفوظ أياً كان مقداره هو الذي قدم لابن خلدون فكرة ثابتة حول طبيعة الصناعة الأدبية من شعر أو نثر. وقد أبتدأ ابن خلدون من واقع الثقافة في عصره، فرأى أن الإنشاء " ملكة " لم تعد تتكون سليقة لان الناس يتعلمون اللغة تعلماً، وأن العامل الذي يكون تلك الملكة هو " الحفظ "
(1) التعريف: 17 - 18.
(2)
المقدمة: 1305.
(3)
المصدر نفسه.
(4)
كذا ولعلها " وملكتهم ".
(5)
المقدمة: 1285 وانظر أيضاً ص: 1268 " ولعمري إنه ديوان العرب وجامع أشتات المحاسن التي سلفت لهم في كل فن من فنون الشعر والتاريخ والغناء وسائر الأحوال، ولا يعدل به كتاب في ذلك فيما نعلمه ".
فمن أراد أن يكون شاعراً كان لابد له من أن يحفظ نماذج من الشعر العربي " حتى تنشأ في النفس ملكة ينسج على منوالها "(1) وأقل ما يحتاجه من يريد ان يصبح شاعراً شعر أحد الفحول الإسلاميين واكثر ما يحتاجه " شعر كتاب الأغاني، لأنه جمع شعر أهل الطبقة الإسلامية كله والمختار من شعر الجاهلية "(2) ، وكلما كثر المحفوظ تعددت النماذج وأصبح النسج على منوالها ايسر، فإذا تدرب الناظم واكثر من التدرب، استحكمت الملكة لديه، وربما كان من الخير له، لو زالت من ذهنه المحفوظات وبقيت رسومها فإنه عندئذ يكون اكثر اعتماداً على نفسه في اجتلاب التراكيب. ولعل هذه الحال ليست خاصة بعصر ابن خلدون، وإنما يرجع تاريخها إلى أقدم الأزمنة حين كان الشاعر الناشئ يعمل راوية عند شاعر مشهور، ولكن ابن خلدون هنا أبطل " الموهبة " جملة، وذهب إلى ان الملكة اكتساب خالص، ونفذ من ذلك إلى نتائج غريبة؛ فإنه جعل لطبيعة المحفوظ قيمة كبرى في تشكيل الملكة، فالمحفوظ الحر النقي الكثير الأساليب يشكل ملكة مختلفة عن التي يشكلها حفظ الشعر النازل، فملكة البلاغة العالية الطبقة في جنسها إنما تحصل بحفظ العالي في طبقته من الكلام " (3) فمن حفظ شعر أبي تمام أو ابن المعتز أو الرضي ورسائل ابن المقفع وسهل ابن هارون كانت ملكته أجود وأعلى مقاماً ورتبة في البلاغة ممن يحفظ شعر ابن سهل الإسرائيلي أو ابن النبيه أو ترسل البيساني والعماد الاصبهاني (4) . ونوع المحفوظ يقرر اتجاه صاحبه في الأدب أو العلم: فالملكة الشعرية تنشا بحفظ الشعر، وملكة الكتابة بحفظ الأسجاع والترسيل، والعلمية بمخالطة العلوم والادراكات والأبحاث والانظار، والفقهيه بمخالطة الفقه؟ الخ (5) ؛ والسابق إلى الحفظ
(1) المقدمة: 1296.
(2)
المصدر نفسه.
(3)
المقدمة: 1304.
(4)
المقدمة: 1303.
(5)
المقدمة: 1304.
هو الذي يشكل الملكة ويلونها، فمن بدأ بالفقه تلونت ملكته بالعبارات الفقهية، ومن بدأ بالنحو تشكلت لديه الملكة النحوية، حتى إذا ورد على هذه الملكة تمرس بالبلاغة لم تسطع إحكامها، ولهذا كان شعر الفقهاء والنحويين والمكلمين والنظار غاية في القصور (1) ؛ إن الملكة لا تستطيع أن تفسح المجال لغير صناعة واحدة تبلغ بها درجة الإتقان: حتى الشعر والترسل لا يمكن اجتماعهما لدى امرئ واحد إلا في النادر، غذ الملكة المتقدمة هي المتحكمة، فإذا نازعتها مكانها ملكة أخرى لم تجد موضعاً تستقر فيه، وبقيت الأولى تدفع كل ما عداها؛ وهذا شيء يكاد يكون عاماً لا في الشئون الأدبية واللغوية والعلمية وحسب بل في جميع الصناعات، وإذا اعتبرته في اللغات وجدت أن الأعجمي " الذي سبقت له اللغة الفارسية لا يستولي على ملكة العربي، ولا يزال قاصراً فيه ولو تعلمه وعلمه، وكذا البربري والرومي والإفرنجي قل أن تجد أحداً منهم محكماً لملكة اللسان العربي "(2) .
سلامة المكلة بان لا تدخل عليها عوامل تخدشها
ولا يقف ابن خلدون عند هذا الحد بل يطور رأيه بناء على تجربته الذاتية في الشعر، ويذهب إلى ما يشبه التأكيد بان سلامة الملكة وتفردها دون ان تنازعها ملكة أخرى ادعى إلى إتقان الفن الذي توفرت عليه، وان الصراع بين ملكتين قد يصيب الأولى المتمكنة منهما ببعض الوهن؛ لقد نشأ ابن خلدون - بسبب محفوظه الشعري الأصيل - قادراً على قول الشعر ولكنه لحظ انه يحس " باستصعاب " فيه كلما حاول النظم، وحدث لسان الدين ابن الخطيب بهذا الذي يعتريه ثم علل ذلك التعسر بالتزاحم بين محفوظه الأصيل من الفن الشعري وحفظه للمتون والقصائد
(1) المصدر نفسه.
(2)
المقدمة: 1288.
التعليمية قال " فامتلأ محفوظي من ذلك وخدش وجه الملكة التي استعددت لها بالمحفوظ الجيد من القرآن والحديث وكلام العرب، فعاق القريحة عن بلوغها " فما كان من لسان الدين إلا أن أبدى إعجابه الكبير بهذا الرأي قائلاً " لله أنت! وهل يقول هذا إلا مثلك! " لأنه وجد في الرأي أنصافاً للذات، وصواباً في التعليل.
بلاغة الإسلاميين ارفع من بلاغة الجاهلين بسبب القرآن
وانبثق عن هذه النظرية حول المحفوظ والملكة رايان نقديان خطيران: أولهما أن بلاغة الإسلاميين أمثال حسان والحطيئة وعمر وجرير والفرزدق وذي الرمة ونصيب والأحوص وبشار ارفع طبقة من شعر النابغة وعنترة وابن كلثوم وغيرهم من شعراء الجاهلية، وما ذلك إلا لان الإسلاميين أتيح لهم محفوظ من القرآن والحديث، اللذين عجز البشر عن الإتيان بمثلهما، لم يكن متاحاً للجاهليين فارتقت ملكاتهم في الباغة على ملكات من قبلهم من أهل الجاهلية ممن لم يسمع هذه الطبقة ولا نشأ عليها، فكان كلامهم في نظمهم ونثرهم أحسن ديباجة واصفى رونقاً من أولئك، وارصف مبنى واعدل تثقيفاً بما استفادوه من الكلام العالي الطبقة " (1) . وقد عرض ابن خلدون هذا الرأي على أستاذه الشريف أبي القاسم قاضي غرناطة فاعجب به، وبسببه كان يقربه ويشهد له بالنباهة في العلوم (2) ، ولو وافق المرء ابن خلدون في أساس هذا الحكم لما استطاع أن يفسر كيف يندرج مثل حسان والحطيئة في هذا السياق، إذ كان الواحد منهم مفضلاً على نفسه وعلى غيره في آن، لانهما شهدا الجاهلية ثم شهدا الإسلام. ويكفينا هذا في الاعتراض، دون أن نتساءل عن مدى تأثر الحطيئة بالقرآن أو عن التفاوت بين شعر حسان قبل الإسلام وبعده.
(1) المقدمة: 1306.
(2)
المصدر نفسه.
ومن الغريب أن يذهب ابن خلدون هذا المذهب، وهو الذي قرر من قبل أن القرآن لا ينشأ عنه ملكة في الغالب " لما أن البشر مصروفون عن الإتيان بمثله، فهم مصروفون لذلك عن الاستعمال على أساليبه والاحتذاء بها، وليس لهم ملكة في غير اساليبه، فلا يحصل لصاحبه ملكة في اللسان العربي، وحظه الجمود في العبارات وقلة التصرف في الكلام "(1) ، ولعل وجه الغرابة يتضاءل حين نجد ابن خلدون يخص الاقتصار على القرآن وحده بهذا الحكم، فأما إذا اجتمع إلى القرآن محفوظات أخرى فإنها قادرة على تكوين ملكة في اللسان العربي.
طريقة النظم وصورة القوالب في البناء
وأما الرأي الثاني الناجم عن هذه النظرية في المحفوظ فهو تصور ابن خلدون لطريقة النظم: بعد أن يرتاض المرء في حفظ الشعر، ترسخ في ذهنه قوالب معينة، فإذا أراد أن ينظم قصيدة فما عليه إلا أن يستحضر القالب في نفسه، ثم أن يملاه بالقوالب الصغيرة أو التراكيب، " فغن مؤلف الكلام هو كالبناء أو النساج، والصورة الذهنية المنطبقة كالقالب الذي يبنئ فيه أو المنوال الذي ينسج عليه، فإن خرج عن القالب في بنائه أو على المنوال في نسجه كان فاسداً "(2) ، وأقل ما يمكن ان يقال في هذا التصور - حتى ولو كان قائماً على واقع الحال يومئذ - انه وضع الشعر في صورة العمل اليدوي لا من حيث إتقان الصنعة - كما هي الحال في تمثيلات عبد القاهر - بل من حيث تشابه الصنعتين.
وما دام الحفظ هو الذي يعين على تصور القوالب، فإن الطريق إلى إتقان الشعر لا يتم بدراسة النحو أو البيان أو العروض؛ نعم إن الشاعر لابد من أن يراعي قوانين هذه العلوم ولكن شاعريته لا تتكون بالاقتصار على
(1) المقدمة: 1242.
(2)
المقدمة: 1293.
هذه العلوم بل لابد له من حفظ كلام العرب شعراً ونثراً (1) ؛ وليس معنى ذلك أن تربية الملكة تجعل عمل الشعر شيئاً ميسراً، فالشعر فن صعب على أهل العصور المتأخرة ولذلك يحتاج صاحبه إلى " تلطف في تلك الملكة حتى يفرغ الكلام الشعري في قوالبه التي عرفت له، في ذلك المنحى من شعر العرب "(2) ؟. إذن فإن الملكة في اللسان وحدها لا تكفي بل لابد من أن يجتمع معها ذلك التلطف في مراعاة الأساليب الشعرية التي جعلتها العرب وقفاً على الشعر (3) .
تعريف جديد للشعر
ولكن ما هو الشعر؟ لقد درج العروضيون على أن يقولوا في حدة إنه الكلام الموزون المقفى؛ وهذا الحد لا يعجب ابن خلدون لأنه قاصر ولا يلائم غلا النظرة العروضية، ولذا فهو يضع للشعر الحد التالي:" الشعر هو الكلام البليغ المبني على الاستعارة والأوصاف، المفصل بأجزاء متفقة في الوزن والروي، مستقل كل جزء منها في غرضه ومقصده عما قبله وما بعده، الجاري على أساليب العرب المخصوصة به "(4) ؛ وأهم جزء من هذا التعريف وأشده غموضاً هو " الجاري على أساليب العرب "، فإذا لم يجر على تلك الأساليب، وإن احتوى جميع العناصر الأخرى فإنه لا يعد شعراً وإنما هو كلام منظوم، أو أي شيء غير ذلك، وبهذا السبب يخرج المتنبي والمعري من نطاق الشعر، كما سبق القول.
(1) المقدمة: 1294 وانظر 1290 - 1291 حيث يقول أن الإعراب والبيان والعروض علوم خارجة عن الصناعة الشعرية.
(2)
المقدمة: 1290.
(3)
المصدر نفسه.
(4)
المقدمة: 1295.
الفصل التام بين الشعر والنثر
هذه التفرقة الصارمة " بالاستعارة والأوصاف والجريان على أساليب العرب " جعلت ابن خلدون - على عكس ما كانت الحال عليه لدى أمثال ابن طباطبا وابن الأثير - يضع حداً فاصلاً بين الشعر والنثر، مبايناً بذلك الاتجاه الذي جرى عليه الكتاب المتأخرون " وقد استعمل المتأخرون أساليب الشعر وموازينه في المنثور، من كثرة الأسجاع والتزام التقفيه وتقديم النسيب بين يدي الأغراض، وصار هذا المنثور إذا تأملته من باب الشعر وفنه ولم يفترقا إلا في الوزن "(1) . ويعتقد ابن خلدون أن ضياع الحدود بين الشعر والنثر ليس صواباً من جهة البلاغة، إذ أن الأمور التي تناسب الأساليب الشعرية ليست مما يناسب الأساليب النثرية:" إذ الأساليب الشعرية تناسبها اللوذعية وخلط الجد بالهزل والإطناب في الأوصاف وضرب الأمثال وكثرة التشبيهات والاستعارات حيث لا تدعو ضرورة إلى ذلك في الخطاب؛ والتزام التقفيه أيضاً من اللوذعية والتزيين، وجلال الملك والسلطان وخطاب الجمهور عن الملوك بالترغيب والترهيب ينافي ذلك كله ويباينه؟ وما حمل عليه أهل العصر إلا استيلاء العجمة على ألسنتهم وقصورهم لذلك عن إعطاء الكلام حقه في مطابقته لمقتضى الحال، فعجزوا عن الكلام المرسل لبعد أمده في البلاغة وانفساح خطوبه، وولعوا بهذا المسجع يلفقون به ما تقصهم من بالأسجاع والألقاب البديعة، ويغفلون عما سوى ذلك "(2) ؛ ويؤاخذ ابن خلدون كتاب المشرق وشعراءه على تضحيتهم أحياناً بالصحة اللغوية والنحوية إذا استقام لهم سجع أو جناس أو مطابقة، مظهرين بذلك شغفاً غير طبيعي بالمحسنات الخارجية على حساب المبنى والمعنى (3) . ويبدو مما
(1) المقدمة: 1286.
(2)
المقدمة: 1287.
(3)
المصدر نفسه.
قاله ابن خلدون في الفصل بين الشعر والنثر أنه بعني الكتابة الديوانية على وجه الخصوص دون سائر الفنون النثرية.
البواعث على قول الشعر
فإذا جاء إلى عد البواعث الحافزة على قول الشعر أعاد ما ذكره ابن قتيبة وما أجمله ابن رشيق في العمدة؛ والحق أن ابن خلدون يكمل النظرة الأندلسية نحو هذا الكتاب، فقد أصبح معتمد النقد لدى أهل الأندلس ولذلك يوليه ثناء كثيراً حتى ليقول " وهو الكتاب الذي انفرد بهذه الصناعة واعطاء حقها، ولم يكتب فيها أحد قبله ولا بعده "(1) ؛ ولو تأمل ابن خلدون فيما قرره من قبل لوجد أن البواعث الخارجية كمناظر المياه والأزهار وأوقات البكر عند الهبوب من النوم ليست إلا عاملاً ثانوياً في الحفز على الشعر، إذ الحافز الأكبر هو إدارة القالب في النفس مراراً حتى تأنس إليه ترتاح، ثم تجيء العبارات لتملأ ذلك القلب، فإذا لم يحضر القالب على نحو حافز فإن جميع الدوافع الخارجية تصبح غير ذات قيمة.
كذلك فإن ابن خلدون لا يخرج عن الوصايا النقدية المعتمدة في تجنب الكلام المولد أو ارتكاب الضرورات، وينهى عن التعقيد وازدحام المعاني في البيت الواحد، ويوصي بمجانبة الوحشي والسوقي المبتذل - من لفظ ومعنى، ويخلص إلى تعليل الضعف العام فيشعر الزهد والامداح النبوية بقوله: عن السر في ذلك " لان معانيها متداولة بين الجمهور فتصير بذلك مبتذلة "(2) .
(1) المقدمة: 1297.
(2)
المقدمة: 1298.
الأصل هو الفظ
ويعود بناء إلى مشكلة اللفظ والمعنى فيرى - وهذا اغرب ما يمكن أن يقوله كاتب مفكر مثله - أن الأصل في صناعة النظم والنثر إنما هو اللفظ، والمعاني تابعة للفظ؛ " لأن المعاني موجودة عند كل واحد، وفي طوق كل فكر منها ما يشاء ويرضى فلا تحتاج إلى صناعة "(1) ، ويورد تشبيهاً على ذلك ماء البحر، فقد يغترف بآنية الذهب والفضة والصدف والزجاج والخزف، بينما الماء واحد في نفسه، وإنما الاختلاف قائم بين الأواني؛ مرة أخرى نلتقي بنظرية " المعاني المطروحة " - تلك الفكرة التي بدأت عند شخص من أشد الناس تنويعاً في موضوعاته وافكاره، وانتهت عند شخص من اعمق الدارسين فكراً في شئون الحياة والمجتمع؛ هل مرد ذلك إلى أن كلاص من هذين المفكرين، كان ينظر إلى ما يملك نظرته إلى شيء لا ينفق عناءً في سبيل الحصول عليه؟ قد يكون الباعث على ذلك الثقة النفسية لدى كل منهما، وإذا كان الجاحظ قد أوجد تلك النظرية خدمة لفكرة الإعجاز، فإن ابن خلدون لم يكن له تلك الغاية؛ ولكن حين تفهم المعاني بأنها " الحقائق العامة في الحياة "، فغن الالتفات إلى اللفظ (أو إلى الصياغة) يمكن قبوله على نحو ما.
حديث عن المطبوع والمصنوع
وبعد أن عرفنا ابن خلدون بطبيعة الشعر في عصره وما وصل إليه من تكلف وصنعة، نكاد نستغرب إيراده القول في " المطبوع والمصنوع "؛ ذلك لأن المطبوع قد فات زمنه، ولم يعد له وجود؛ ولكن ابن خلدون كان ينظر إلى المشكلة نظرة ولكن ابن خلدون كان ينظر إلى المشكلة نظرة تاريخية ويحاول أن يفيد من كتاب العمدة؛ ويستوقفنا حديثه هنا عن لذة الذهن في انتقاله بين درجات الدلالات في التركيب، وهذه اللذة هي " الظفر " بالمدلول من دليله " والظفر من أسباب
(1) المقدمة: 1302.
اللذة كما علمت " (1) ؛ فهذا يذكرنا بحديث حازم عن الظفر، ولكن من الصعب أن يقال إن ابن خلدون اقتبس هذا من حازم، لان حديث هذا الناقد عن الظفر إنما كان في حال الأفعال الإنسانية (2) ؛ غير أنه يلتقي بحازم في نظرته إلى هوان الشعر على الناس، ولكنه يعدل ذلك تعليلاً مخلفاً، فهو يرى أن ما نشأ نحو الشعر من نفور واستهجان منذ أبي تمام والمتنبي وابن هانئ إنما سببه الكذب والنفاق والاستجداء، ولذلك " انف منه أهل الهمم والمراتب من المتأخرين، وتغير الحال وأصبح تعاطيه هجنة في الرياسة ومذمة لأهل المناصب الكبيرة " (3) ، ولا ندري متى حدث ذلك فقبل ابن خلدون بأقل من قرن ألف ابن الأبار " الحلة السيراء " ليثبت أن " أهل المراتب والمناصب الكبيرة " كانوا يجدون في الشعر مجالاً للتعبير عما تجيش به نفوسهم؛ إن هوان الشعر لانعدام القدرة على تذوقه كما قال حازم أدق من هذا الذي أورده ابن خلدون.
الشعر نشاط إنساني لا ينفرد به العرب، اهتمامه بالشعر العامي في الأمصار
ويرى ابن خلدون أن الشعر نشاط إنساني عام، وليس شيئاً يتميز به العرب، وهو يعلم ان في الفرس شعراء وفي يونان كذلك، وقد ذكر ارسطو الشاعر اوميروس في كتاب المنطق، وكان في حمير أيضاً شعراء؛ وفي عصر ابن خلدون كان لسان مضر قد اصبح عدة لهجات عامية متباينة في مختلف الأقطار، ولذلك وجد في كل قطر شعر خاص به، بلجة اهله، ولكن لا يتذوقه علماء اللسان المحافظون على الصياغة القديمة، مع أن في هذا الشعر بلاغة فائقة، وإنما وقع استهجانه أحياناً لخلوه من الأعراب، " والأعراب لا مدخل له في البلاغة، غنما البلاغة مطابقة الكلام للمقصود ولمقتضى الحال "(4) . وهكذا ظهر أخيراً الناقد
(1) المقدمة: 1314.
(2)
المقدمة: 1316.
(3)
المقدمة: 1314
(4)
المقدمة: 1316.
الذي لا يكتفي بتسجيل صور من الشر العامي في عصره بل يدافع عن مستواه الفني؛ ولما كان كل قطر قد استقل بلهجته وذوقه، لم يعد في الإمكان أن يستطيع ناقد واحد الحكم على نتاج تلك الأقطار، لابد من تعدد النقاد، بعد أن تعددت البلاغة، وأصبح الأندلسي لا يستطيع أن يتذوق البلاغة في شعر أهل المغرب، والمغربي يعجز عن إدراك البلاغة، وأصبح الأندلسي لا يستطيع أن يتذوق البلاغة في شعر أهل المغرب، والمغربي يعجز عن إدراك البلاغة التي فيشعر أهل الأندلس والمشرق وهكذا؛ إنما تذوق البلاغة لا يتم غلا بمعرفة اللهجة وإتقانها والاطلاع على طرق استعمالها (1) . ترى هل كان يحس ابن خلدون وهو يصور الواقع يومئذ انه يلغي مهمة الناقد " الكلاسيكي "؟ وهل كان في مقدور البيئات الشعبية أن تخرج ناقداً يضع القواعد والأحكام لتلك الفنون الشائعة يومئذ؛ أم أن الأمر ظل رهن التذوق العام الذي يعجز عن التعليل؟ إن ابن خلدون نفسه أرخ بعض أنواع ذلك الشعر، وأورد نماذج منه، واكتفى في الاتكاء على الذوق؛ حتى وهو يتحدث عن الفرق بين موشحات الأندلس وموشحات المشارقة. لم يجد ما يقوله غير الحكم العام وهو أن " التكلف ظاهر على ما عانوه (أي المشارقة) من موشحات "(2) . غير أنه بكل ذلك قد كشف عن جوانب القصور في الحركة النقدية عامة، وعن تطور الفنون الجديدة بمعزل عن النقد جلة، سوى استحسان الجمهور لها أو نفوره عنها.
ونلحظ من مجموع آراء ابن خلدون في النقد أن آراءه مستمدة من تجربته الخاصة ومن التيار العربي الخالص في النقد الأدبي، وأنها موصولة بمفهوماته الاجتماعية، وليس لها صلة بالمؤثرات اليونانية أو حتى بالمفهومات الكبرى عند حازم التي تمثل تزاوجاً بين التيارين النقديين: العربي الخالص
(1) انظر المقدمة 1316، 1354 وقد حاول الصفي الحلي في " العاطل الحالي " أن يدرس نماذج من الأزجال في غير لهجته، فكانت دراسته تسجيلاً لبعض ظواهر اللهجة، دون إظهار أحكام نقدية قائمة على التذوق الفني.
(2)
المقدمة: 1339.
والعربي المتأثر بالثقافات غير العربية، ويبدو أن العودة إلى المؤثرات اليونانية في النقد بعد حازم قد أغلقت دونها الأبواب فلا نجد منها إلى ما يشبه ذكريات عابرة (1) .
(1) من ذلك في المشرق مثلا حديث العلامة شمس الدين محمد بن إبراهيم بن ساعد الأنصاري شيخ الصفدي عن عروض الشعر اليوناني " أن الشعر اليوناني له وزن مخصوص، واليونان عروض لبحور الشعر، والتفاعيل عندهم تسمى الأيدي والأرجل؛ قال: ولا يبعد أن يكون وصل إلى الخليل بن أحمد شيء من ذلك فأعانه على إبراز العروض إلى الوجود ". (الغيث المسجم 1: 30) .