الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وجوه الإعجاز في السنة النبوية الشريفة:
ذكرت فيما سبق وجوه الإعجاز في القرآن العظيم الموحى به على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما هي وجوه الإعجاز في السنة النبوية المطهرة؟
أقول في الجواب: لقد سبق أن ذكرت أن السنة النبوية وحي من عند الله تعالى علمه إياها، وليست أقوالاً من عند محمد بن عبد الله القرشي الهاشمي وصل إليها بسعيه وجده، لذلك لا بُدَّ أن تكون وجوه الإعجاز فيها هي وجوه الإعجاز في القرآن الكريم نفسها، اللهم إلا الطرف الأول من الوجه الأول، أقصد: إعجازه اللغوي والصرفي والبلاغي، والبنائي لأن ذلك كان في جانب القرآن لأنه كلام الله أما السنة فاختيار الألفاظ والكلمات من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فلذلك كانت بشرية الألفاظ، فلم تكن معجزة من هذا الجانب.
وفي مقال للشيخ مصطفى الزرقا–يرحمه الله- ذكر الفرق بين أسلوب القرآن والسنة، فقال: الفرق عظيم جداً بين أسلوب الحديث النبوي، وأسلوب القرآن في طريقة البيان العربي، فبينهما شقة واسعة لا يشبه أحدهما الآخر لدى أهل البصر باللغة وأساليبها، وبالمأثور المألوف من بيانها قديمه وحديثه، وإن هذا التفاوت الكبير في الأسلوبين إذا أنعم الإنسان فيه، وكان ذا ملكة بيانية لا يترك لديه مجالاً للشك والريبة في أن الحديث النبوي، والقرآن صادران عن مصدرين مختلفين.
فالحديث النبوي جاء كله على الأسلوب المعتاد للعرب في التخاطب تتجلى فيه لغة المحادثة، والتفهيم، والتعليم، والخطابة في صورها ومناهجها
المألوفة لدى العرب، ويعالج جزئيات القضايا والمسائل، ويجيب عليها، ويحاور ويناقش كما يتخاطب سائر الناس بعضهم مع بعض، ولكن يتميز من الكلام العربي المألوف بأن فيه لغة منتقاة غير نابية وأن فيه إحكاماً في التعبير، وجمعاً للمعاني المقصودة بأوجز طريق، وأقربه دون حشو مما استحق به التسمية بـ "جوامع الكلم"(1) فهو كلام عربي الطراز المعتاد المألوف، ولكنه على درجة عالية من أساليب البلغاء المعهودة.
أما أسلوب القرآن فهو أسلوب مبتكر لا يجد الناظر فيه، والسامع شبيهاً له فيما يعرف من كلام العرب، وأساليبهم يعالج الكليات، ويفرض الأحكام، ويضرب الأمثال، ويوجه المواعظ في عموم لا تشبه العمومات المألوفة، وخطاب فيه من التجريد ما يجعل له طابعاً خاصاً منقطع النظير (2) .
ومع ذلك فإننا نرى أن أحاديث كثيرة من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لها طابع الإعجاز العربي من حيث قوة الأسلوب، ومتانة التركيب، وبلاغة المعنى المقصود، وغزارة المقصود، ولذلك نرى الإمام ابن حجر يقول:" إن دخول القرآن في قوله" بعثت بجوامع الكلم" لا شك فيه، وإنما النزاع هل يدخل غيره من كلامه من غير القرآن؟ ثم ذكر أمثلة من جوامع الكلم في القرآن
(1) جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله"بعثت بجوامع الكلم.." رواه البخاري في الجهاد باب قول النبي صلى الله عليه وسلم نصرت بالرعب مسيرة شهر (2977) 6/149، وأطرافه (6998و7113و7273) ورواه مسلم في المساجد (523) 1/371-372،مع اختلاف في اللفظ ورواه الترمذي والنسائي، وابن ماجه، وأحمد وابن حبان، وأبو عوانة، والبيهقي في الدلائل والسنن، وابن أبي شيبة، والبغوي في شرح السنة، وأبو نعيم في الدلائل، وفي صحيفة همام، وأبو يعلى في المسند، والحميدي في المسند.
(2)
انظر المقال في مجلة البحوث الإسلامية- المجلد الأول –العدد الأول (1395هـ) ص91-95.
والسنة، ثم قال:
" إلى غير ذلك مما يكثر بالتتبع. قال: وإنما يسلم ذلك فيما لم تتصرف الرواة في ألفاظه"(1) .
أما في الجانب الثاني من الوجه الأول للإعجاز وهو: كونه عربياً، فيشترك في ذلك القرآن والسنة، لأننا نستطيع أن نستخرج أحكام الشريعة من السنة كما نستخرجها من كتاب الله تعالى بالفهم الصحيح والاستنباط المبني على الأصول التي استخرجها علماء الأصول، ولهذا وجدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يحث على التبليغ عنه، فيقول:"نضَّر الله امرءاً سمع منا حديثاً، فأداه كما سمعه، فرب مبلغ أوعى من سامع"(2) .
وقال صلى الله عليه وسلم: "بلغوا عني ولو آية"(3) . وقال صلى الله عليه وسلم: "ألا فليبلغ الشاهد منكم
(1) انظر فتح الباري 13/262.
(2)
جاء هذا الحديث عن زيد بن ثابت رضي الله عنه: رواه أبو داود في العلم باب فضل نشر العلم (3660) 3/322، والترمذي في العلم باب الحث على تبليغ السماع (2794) وقال: حديث حسن 4/142، وابن ماجه في المقدمة باب من بلغ علماً (230) 1/84، وأحمد في المسند 5/183، والدارمي في المقدمة باب الاقتداء بالعلماء (230) 1/84، كما رواه ابن عبد البر في الجامع والرامهرمزي، وابن أبي حاتم في مقدمة الجرح والخطيب البغدادي في الفقيه، وفي شرف أصحاب الحديث وفي الكفاية، والحاكم، وأبو نعيم، وابن أبي عاصم، وابن حبان، والطحاوي، والطبراني، والسخاوي والصدفي. انظر تتمة التخريج: الإعجاز العلمي في السنة النبوية1/160-163.
(3)
الحديث عن ابن عمرو رضي الله عنهما: رواه البخاري في الأنبياء باب ما ذكر عن بني إسرائيل (3461) 6/572، والترمذي في العلم باب ما جاء في الحديث عن بني إسرائيل (2807-2808) وقال: حسن صحيح4/147، وابن حبان 14/51/ و (6223) 8/51، وأحمد في المسند (7006) 2/159و214،والدارمي (569) فتح المنان3/332.
الغائب، فرب مبلغ أوعى من سامع" (1) . فكونه صلى الله عليه وسلم يبين أنه قد يأتي بعض المُبَلَّغين عنه يكون في الوعي، والإدراك، والفهم، والمقدرة على الاستنباط أكثر ممن يسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ليدلنا على أن حديثه مليء بالحكم والأحكام التي يستطيع أهل العلم استخراجها وبيانها للناس ليعملوا بها، وقد كان ذلك في عصر الفقه والفقهاء الذين لم يبتدئوا بأبي حنيفة، ولم ينتهوا بأحمد بن حنبل - رضي الله عن الجميع - الذين كان لهم باع طويل في أخذ الأحكام من الكتاب والسنة، وما يزال أهل العلم في كل مكان، وكل زمان لهم من هذين الأصلين معين لا ينضب، ومورد يحلو ماؤه للواردين.
وأما الوجه الثاني: من وجوه الإعجاز وهو كونه حقاً، فقد سبق أن ذكرت حديث ابن عمرو رضي الله عنهما أنه عندما سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كتابة كل ما يسمعه منه من الحديث أومأ إلى فمه الشريف وقال:"اكتب، فوالذي نفسي بيده ما خرج منه إلا حق" فهذا يدل على أن كل ما جاء في السنة المطهرة حق لا مرية فيه، سواء كان إشارة إلى حقيقة علمية، أو قصة تاريخية عن نبي من الأنبياء، أو عن أحد من أهل زمانه، أو إثبات نسب، أو إثبات خاصية دوائية في طعام ما أو شراب فإن كل ذلك حق لا يجوز الامتراء
(1) رواه البخاري في العلم باب قول النبي صلى الله عليه وسلم "رب مبلغ أوعى من سامع"(671/190، وأطرافه: (105و1741و3197و4406و4662و5550و7078و7447) ورواه مسلم في القسامة (1679) 3/1305، كما رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه، والبيهقي في المعرفة، وابن حبان، والدارمي، وابن أبي حاتم، وابن عبد البر، وانظر تتمة التخريج كتاب الإعجاز العلمي في السنة النبوية1/164.
فيه، أو الزعم بأنه من أمور الدنيا التي يمكن أن يخطئ فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم (1) ، وقد أوردت في كتابي المذكور بعضاً من الأمور التي وردت في السنة النبوية، وأرجو الله تعالى أن يمكنني أو غيري من استخراج كل الأمور العلمية التي سبق بها رسول الله صلى الله عليه وسلم عصره بالإخبار عنها.
وأما الوجه الثالث: وهو: كون السنة هدى، فالقرآن قد نص في بيانه الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يهدي إلى الطريق الحق كقوله تعالى:{الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [إبراهيم: 1] وقال -جل ثناؤه-: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْأِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ} [الشورى: 52-53] .
وقال-جل جلاله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً، وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً} [الأحزاب: 45-46] .
(1) وهنا أريد أن أنبه أن من يزعم أن رسول الله في إخباره عن بعض الأمور كان مخبراً عن أمور دنيوية لا علاقة لها بالشرع قد أخطأ خطأً فاحشاً في حق رسول الله صلى الله عليه وسلم ووصفه بوصف لا يجوز أن يتصف به الإنسان العدل فكيف برسول رب العالمين الذي كان خليل رب العالمين! وليعلم هذا القائل بهذا أن الخبر يفيد الصدق والكذب إن كان من غير الشارع، أما من الشارع فالخبر لا يفيد إلا الصدق، سواء أكان ذلك يتعلق بأمور الدنيا أم يتعلق بأمور الآخرة أعاذني الله وإياك من أن نخطئ في حق الله تعالى، أو في حق رسوله المصطفى صلى الله عليه وسلم.
فالسنة النبوية هداية للأمة في طريق الحياة الذي تحياه، تدلها على أفضل السبل، وتأخذ بأيديها إلى ما فيه خيرها في الدار الدنيا والدار الأخرى، ولذلك من أراد معرفة طرق الدعوة إلى الله تعالى، وإلى دينه وشريعته، فما عليه إلا أن يدرس حياة المصطفى صلى الله عليه وسلم من أولها إلى آخرها، فإنه واجد فيها ما يريد من أصول الترغيب والترهيب، وضرب المثل، وإيراد القصص الهادف، وانتهاز الفرص.... إلى ما هنالك من الأساليب الدعوية الناجعة، والناجحة، والتي أثمرت خير قرن وجد فوق هذه الأرض بتربية هذا الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، فقد أرسله الله داعياً إلى الحق قال تعالى:{وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [المؤمنون: 73] .
وأما الوجه الرابع: من وجوه الإعجاز وهو كونه ذا شرف ورفعة:
فكذلك السنة النبوية لها شرف، وتورث من اشتغل بها، وقام بخدمتها، وأفاد الناس بما فيها، وطبق أحكامها، ونشر نصوصها بين الناس.. شرفاً ومكانة ورفعة، وقد سبق ذكر حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم "نضر الله امرءاً سمع مني حديثاً فبلغه كما سمعه.." فهو يدعو لمن بلغ حديثه أن يرزقه الله نضارة في وجهه، فكيف بمن دافع عنها، وطبقها في حياته، وعلمها الناس؟! أسأل الله تعالى أن يجعلنا من أهل السنة النبوية الذين تهمهم، ويهمهم أمرها وتصحيحها والسهر على خدمتها، إنه سميع مجيب، هذا وقد ألف حافظ المشرق الخطيب البغدادي–يرحمه الله- كتاباً أسماه"شرف أصحاب الحديث" بين فيه الآثار الواردة في فضل أهل الحديث، كما ألف حافظ المغرب الإمام ابن عبد البر الأندلسي-يرحمه الله- كتابه"جامع بيان العلم وفضله، وما ينبغي في روايته وحمله".