المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

بسم الله الرحمن الرحيم   ‌ ‌مقدمة: من المعلوم أن هذا المتن في علم - إدامة النظر في تحرير نخبة الفكر

[عبد العزيز الريس]

الفصل: بسم الله الرحمن الرحيم   ‌ ‌مقدمة: من المعلوم أن هذا المتن في علم

بسم الله الرحمن الرحيم

‌مقدمة:

من المعلوم أن هذا المتن في علم مصطلح الحديث، وهذا العلم كما لا يخفى هو من علوم الآلة الموصلة إلى معرفة الحديث صحةً وضعفًا.

والطريقة في التعليق على هذا المتن -إن شاء الله- ما يلي:

1 -

بيان مراد الحافظ ابن حجر -رحمه الله تعالى-.

2 -

ذكر ما يهم في بعض المسائل إذا كان هناك ما يستدعي ذلك،

3 -

ذكر بعض الملاحظات على كلام الحافظ -إن وُجد-.

أسأل الله أن يُعلمنا ما ينفعنا وأن ينفعنا بما علمنا إنه الرحمن الرحيم.

وقبل البدء في التعليق على هذا المتن المفيد، أُقدم بمقدمات:

المقدمة الأولى:

ينبغي لطالب العلم أن يجتهد في الجمع بين علم الحديث وعلم الفقه، فإن من جمع بينهما قوي ساعده، وعظمت مكانته في العلم، لذا إذا نظرت في حال كثير من العلماء ممن عُرفوا بالعلم وشُهروا به تجد أنهم قد جمعوا بين هذين العلمين.

ومن الكلمات العظيمة للإمام الشافعي -رحمه الله تعالى- أنه قال: من نظر في الحديث قويت حجته. وصدق -رحمه الله تعالى-، فإن الفقيه يحتاج إلى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يستدل به، ولا يمكن أن يصح له الاستدلال إلا بعد أن يُثبت صحته، وهذا لا يكون إلا بمعرفة علم الحديث.

وقد تكلم ابن حبان في كتابه (المجروحين) عن الجمع بين علم الحديث وعلم الفقه، بكلام نفيس للغاية، فلذا ينبغي أن نجتهد وأن نُجاهد أنفسنا في الجمع بين هذين العلمين، فإن علم الحديث يرجع إلى صحة المصدر الثاني وثبوته، أما علم الفقه فهو يرجع إلى فهم الحديث النبوي وإلى فهم غيره من الأدلة الشرعية.

إلا أنه ينبغي أن يُعلم أنه قد يكون العالم مُقلدًا في علم الحديث، وهذا نقص، لكن لا يصح أن يكون العالم عالمًا في الحلال والحرام ويكون مُقلدًا في علم الفقه، كما أن المحدث قد

ص: 2

يكون محدثًا ولا يكون ذا رسوخ في علم الفقه، بأن يكون مجتهدًا في علم الحديث ويكون مقلدًا في علم الفقه.

والكمال هو أن يُجمع بين الأمرين، بين علم الحديث وعلم الفقه، أسأل الله برحمته وفضله أن يمن علينا جميعًا بالعلم النافع والعمل الصالح، إنه الرحمن الرحيم.

وقد منَّ الله علينا في هذا العصر بعالم مُجدد نادر، وهو العلامة محمد ناصر الدين الألباني -رحمه الله تعالى-، وهذا العالم مُجدد في أبواب كثيرة من الدين، لكن الذي يهمني ما يتعلق بعلم الحديث، فإنه من أدق العلماء المتأخرين في معرفة الحديث صحةً وضعفًا، وفي الإتقان والضبط، فإن كثيرًا من العلماء المتأخرين عنده أوهام في العزو وغير ذلك، أما العلامة الألباني -رحمه الله تعالى-فقلّ أن يوجد عنده مثل هذا.

فهو عالم متبحر في علم الحديث، متمكن وصاحب إتقان ومعرفة وضبط، -رحمه الله تعالى-.

حتى إن أحدهم كتب رسالة يتعقب فيها الشيخ ناصر الدين الألباني في بعض الأحاديث وفي عزوها إلى بعض المصادر

إلخ، فأشار الشيخ ناصر الدين الألباني في (السلسلة) للرد على هذا الذي كتب هذه الرسالة، ووصفه بأنه شاب، وقال: ولو كان ذا معرفة لما تعقَّب، فإني تركت عزوه إلى المصدر الفلاني، لأن هناك زيادة وهو حرف الواو، وهو مؤثر في لفظ الحديث، بخلاف ذاك الحديث

، فتكلم بكلام نفيس -رحمه الله تعالى-.

فالشيخ ناصر الدين الألباني له فضل كبير على أمة محمد صلى الله عليه وسلم في علم الحديث، فقد قرَّبه وسهَّله، وقد منَّ الله عليه بأن وقف على مراجع كثيرة لم يقف عليها كثيرون ممن عاصره -رحمه الله تعالى-.

وقد جالست كثيرين ممن لهم عناية بعلم الحديث، وأطبقوا على أنهم ما عرفوا هذا العلم إلا بأن درسوا في أول أمرهم على الشيخ ناصر الدين الألباني، بل التقيت رجلين معروفين وللأسف بالطعن في الشيخ ناصر الدين الألباني، فلما جرى الكلام معهم قال أحدهم: والله ما عرفت هذا العلم إلا بقراءة كتب الشيخ ناصر الدين الألباني. حتى قال: لا أظن أن أحدًا في هذه الأزمان يستطيع أن يكون محدثًا ولم يتتلمذ على كتبه.

وقال الآخر: في أول أمري كنت عاكفًا على كتبه وقراءته. ومع ذلك جحدوا فضله -رحمه الله تعالى-.

ص: 3

وينبغي أن نعلم أنه لا تلازم بين تعظيم الرجل ومعرفة مكانته وبين أن يُخالف، فإن علماء الإسلام قد أمرونا باتباع الدليل ولو خالفناهم، فلطالب العلم الذي عنده آلة أن يُخالف من يُخالف من أهل العلم بقواعد أهل العلم، مع حفظ منزلتهم ومرتبتهم.

وقد ابتلينا في هذه العصور بمن ينتقص العلامة الألباني ويُنزل من قدره، حتى قرأت لأحدهم يقول: محمد ناصر الدين الألباني ليس محدثًا!! يريد أن يُنكر الشمس في رائعة النهار، ولا أريد أن أطيل في مثل هذا، لكن من أراد أن يعرف هذا العلم فليستفد من كتب الشيخ ناصر الدين الألباني، لاسيما السلسلتان، وإرواء الغليل، وتخريج سنن أبي داود المطوَّل، فإن في هذه الكتب بسطًا وجمعًا للطرق، وذكرًا لبعض الفوائد والقواعد التي لا توجد بسهولة.

أسأل الله أن يغفر له وجميع علماء المسلمين، وأن يجمعني وإياكم وإياه في الفردوس الأعلى إنه الرحمن الرحيم.

المقدمة الثانية:

ينبغي أن يُعلم أنّ الغاية من دراسة علم المصطلح أنه علم آلة ووسيلة لمعرفة اصطلاحات أهل العلم في الحديث، فإذا قال أئمة هذا الشأن وفرسانه: حديث غريب. أو حديث صحيح. إلى غير ذلك من الألفاظ، فالهدف - من علم المصطلح - هو معرفة معنى كلامهم.

ومن الخطأ أن يُحدث بعض من كتب في المصطلح ممن ليس من أهل الحديث تعريفات لاصطلاحات ليست موجودة عند أئمة هذا الشأن وأئمة الحديث الأوائل وفرسانه، فيُعرِّفون بعض الاصطلاحات بتعريفات ليست موجودة عندهم، وهذا خطأ كبير، وسيتضح هذا في ثنايا قراءة كلام الحافظ ابن حجر -رحمه الله تعالى-.

فيُعرِّفون المنكر، أو المحفوظ، أو غيرهما، بتعريفات ليست موجودة عند العلماء الأوائل، والمفترض في علم المصطلح أن يُبيِّنَ معنى استعمال العلماء للألفاظ في علم الحديث، لا أن يُحدث معاني لاصطلاحات استعملها أهل العلم أو أن يُحدث اصطلاحات جديدة لم يتكلم بها العلماء الأولون، كما سيأتي بيانه -إن شاء الله تعالى-.

ص: 4

تنبيه: إن العلماء الأولين إذا تكلموا على الحديث فهم إلى المعنى اللغوي أقرب منه إلى المعنى الاصطلاحي، فأكثر عباراتهم ترجع إلى المعنى اللغوي، ولم يأتوا باصطلاح جديد، وإنما بمعانٍ عربية معروفة.

المقدمة الثالثة:

ما دخل علم الكلام علمًا إلا وأفسده، فإن المتكلمين ليسوا علماء بإجماع أهل العلم ولا فقهاء، ذكر الإجماع ابن عبد البر -رحمه الله تعالى- في كتابه (جامع بيان العلم وفضله)، وكلام أئمة أهل السنة كالإمام مالك والشافعي وأحمد وغيرهم في تحريم علم الكلام وذمه كثير مسطور مزبور، نقل طرفًا منه ابن عبد البر في كتابه (جامع بيان العلم وفضله)، وقوام السنة في كتابه (الحجة في بيان المحجة)، وألف الهروي كتابًا كاملًا بعنوان:(ذم الكلام وأهله)، ونقل فيه نقولات مفيدة عن أهل العلم، فإن العلماء متواردون على إنكار علم الكلام وأنه ضلالة وباطل ولا يجوز في الشريعة.

ومن علم الكلام علم المنطق، فإنه محرم بإجماع أهل العلم، حكى الإجماع النووي، وابن الصلاح، وجماعة من أهل العلم، لذا يقول ابن القيم -رحمه الله تعالى-في كتابه (مفتاح دار السعادة): ما دخل علم المنطق علمًا إلا وأفسده. وهكذا علم الكلام الذي منه علم المنطق، ما دخل علمًا إلا وأفسده.

وبعض الناس قد تكون عنده نُهمة، أو لا يكون عارفًا لحقيقة العلم، فيقول: لن أقتنع بفساد علم الكلام حتى أدرسه، وأقل ما في فعله هذا من المفاسد أنه يُضيع عمره فيما لا ينفع، والنبي صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم من حديث زيد بن أرقم كان يقول:«اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع» ، فما بالكم وفيه من المحرمات وما يُؤدي إلى الضلالات ما الله به عليم.

وقد درس هذا العلم جماعات وندموا على دراسته، منهم من المتكلمين الرازي مثلًا، وبرع في هذا العلم وندم على دراسته، ومنهم من هو من أهل السنة ودرسه للرد على المتكلمين كما فعل شيخ الإسلام ابن تيمية، وبيَّن أنه لا فائدة من هذا العلم بل هو سبب للضلالة، ومنهم الشوكاني في شرح حديث:«الحلال بيِّن والحرام بيِّن» قال: أُنبئك عن رجل قد درس هذا العلم وأكمل دراسته حتى بلغ الغاية فيه. ثم بيَّن أنه لا فائدة من هذا العلم، وأن من يغتر بهذا العلم هو من لم يتعمَّق في دراسته، لذلك ما دخل علم الكلام علمًا إلا وأفسده، ومن ذلك علم الحديث.

ص: 5

فقد تأثَّر الخطيب البغدادي في كتابه (الكفاية) في بعض المباحث بعلم الكلام، ومن بعده زاد التأثر بهذا بعلم الكلام أكثر، وقد نبَّه ابن رجب في شرح (العلل) على تأثر الخطيب بعلم الكلام، فقال: وقد تكلم الخطيب البغدادي في مبحث زيادة الثقة وأدخل في ذلك قول المتكلمين.

المقدمة الرابعة:

ينبغي أن يُفرَّق بين كلام أهل الحديث وكلام الفقهاء في علم الحديث ومصطلح الحديث، فهناك فرق بين كلام أهل الحديث وكلام الفقهاء، فإن العمدة والمرجع في كل فن لأهله، وقد نقل ابن أبي حاتم في كتابه (المراسيل) عن أبيه أبي حاتم أن إجماع أهل الحديث حجة، أي في الحديث، وذكر مثل هذا ابن تيمية كما في (مجموع الفتاوى) وابن القيم كما في (مختصر الصواعق)، أن إجماع أهل كل فن حجة في الفن نفسه.

ومن الأخطاء أن يتكلم من ليس ذا تخصص ومعرفة بعلم الحديث في علم الحديث من الفقهاء، فإن من يفعل ذلك يُفسد هذا العلم، كما حصل لابن الصلاح -رحمه الله تعالى- أنه في مبحث زيادة الثقة أدخل كلام الفقهاء في هذا المبحث، وقد نبَّه على هذا البقاعي، فلذلك حصل عند ابن الصلاح خلط في هذا المبحث لأنه خلطه بكلام الفقهاء، والفقهاء ليسوا أهل معرفة في ذلك.

وقد أشار لهذا المعنى ابن دقيق العيد في كتابه (المقترح) لما ذكر: "من غير شذوذ ولا علة" قال: الشذوذ علة اعتنى بها المحدثون وأهملها الفقهاء. فلذا ينبغي أن يُميَّز بين كلام أهل الفن وكلام غيرهم.

وكلام الفقهاء دخل في علم الحديث، وحصل ما حصل فيه، ومن كلمات البلقيني العظيمة ونقلها السخاوي عنه أنه قال: لو توسَّعنا في التأويل لدفعنا كثيرًا من العلل التي كان يُعلل بها أئمة الحديث. فالتوسع في التأويل والجمع بين الأحاديث على طريقة الفقهاء ينتج منها نتيجة وهو أن تُرد كثير من العلل التي أتى بها المحدثون، ولعله يتيسر بيان شيء من هذا -إن شاء الله تعالى-.

المقدمة الخامسة:

إن لعلم الحديث فرسانًا وأئمة وهم العلماء الأوائل المتقدمون، كشعبة، والثوري، وأحمد، وابن المديني، ويحيى بن معين، والرازيين، وأمثالهم.

ص: 6

وهؤلاء الأئمة هم المرجع في هذا العلم، وهم فرسانه وهم أئمته، ولا يصح لأحد أن يُخالفهم، ومن لطيف ما بيَّن ابن القيم -رحمه الله تعالى- في ثنايا كلامه على حديث أنس في تخليل اللحية في كتابه (تهذيب السنن)، لما نقل كلامًا لابن القطان الفاسي في تصحيح حديث قد ضعَّفه محمد بن يحيى الذهلي، قال ابن القيم:"وهذه التجويزات لا يلتفت إليها أئمة الحديث وأطباء علله ويعلمون أن الحديث معلول بإرسال الزبيدي له ولهم ذوق لا يحول بينه وبينهم فيه التجويزات والاحتمالات". وقد ذكر نحوًا من ذلك ابن رجب -رحمه الله تعالى- وقال: أئمة الحديث إذا قالوا قولًا فلا يصح لأحد أن يُخالفهم. ومثل ذلك ابن حجر في كتابه (النكت على ابن الصلاح) قال: إذا تكلم أئمة الحديث وفرسانه في هذا العلم ولم يُخالفوا لم يصح لأحد أن يُخالفهم.

وهذا كله لرسوخهم في هذا العلم ومعرفتهم به، فهم القدوة فيه، وهم الأئمة المتبعون في معرفته.

ثم ينبغي أن يُعلم أننا وإياهم لنا حالان:

• الحال الأولى: أمور نشترك معهم فيها، وهم الأصل فيها ولا يصح أن ننازعهم، لأننا ما نستطيع أن نخرج بنتيجة في ضعف راوٍ أو ثقته إلا بالرجوع إلى كلامهم، وأحسن ما عند أحدنا أن يُحسن جمع كلامهم وأن يُحسن تلخيصه، فلذلك نحن عالة عليهم.

هذا ليس أنا وأنت، وليس في قرننا ولا القرن السابق، بل حتى في وقت الخطيب البغدادي وابن عبد البر، فإن هؤلاء لا ينقدون بسبر حال الراوي، وإنما يعتمدون على كلام الأئمة الماضين، فكيف بي وبك؟

• الحال الثانية: أمور انفصلوا بها عنا، وتمايزوا بها عمن بعدهم، فقد وقفوا على أمور لا يمكن لأحد بعدهم أن يقف على ذلك، ومن أمثلة ذلك: أن الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- طلب من إسماعيل بن أبي أويس أن يُريه كتبه، فأراه كتبه، فانتقى منها الإمام البخاري -رحمه الله تعالى-. ذكر هذا ابن حجر في مقدمته على صحيح البخاري.

ونحن لا نستطيع أن نصل إلى هذه الدرجة، وغاية ما عندنا أن نقرأ كلام العلماء في إسماعيل بن أبي أويس وننظر في الحديث، أما البخاري فقد وقف على كتبه ثم انتقى منها انتقاءً، وهذا لا يتيسر لمن بعدهم.

ص: 7

فلذلك ينبغي أن يُسلَّم للأئمة وألا يُعارضوا، هذا إذا لم يختلفوا، وإذا اختلفوا نستعمل قواعد أهل العلم التي تلقينها عنهم.

المقدمة السادسة:

ينبغي أن يُعلم أن للمتن تأثيرًا في صحة الحديث وضعفه، فمن المتون ما تستقل بحكم شرعي جديد فيُشدد فيها ما لا يُشدد في غيرها، ومن المتون ما لا تأتي بحكم جديد فيُسهَّل فيها ما لا يُسهَّل في غيرها، ومن أمثلة ذلك ما روى البخاري عن أُبيّ بن عباس بن سهل بن سعد الساعدي عن أبيه عن جده في ذكر خيل النبي صلى الله عليه وسلم وكانت في حائط لهم يُقال لها اللخيف.

وأبي بن عباس ضعيف، وتابعه أخوه عبد المهيمن وهو أضعف منه، ومع ذلك أخرجه البخاري، قال ابن حجر في (النكت): تساهل البخاري في إخراجه لأنه ليس من أحاديث الأحكام ولا يترتب عليه شيء، فتسهَّل فيه البخاري -رحمه الله تعالى-.

فلذلك هذا الإسناد لو وضعته على متن آخر في الأحكام لم يصح، لكن صح في مثل هذا، فإذن ينبغي أن يُدقق في نوع المتن، فإنه ينبني على معرفة نوع المتن التشديد في الإسناد أو التسهيل.

لأجل هذا تساهل العلماء في أحاديث الترغيب والترهيب، قال النووي في كتابه (الأذكار): اتفق العلماء على التساهل في أحاديث الترغيب والترهيب. وكلام الإمام أحمد والرازي وغيرهم قالوا: إذا روينا في الحلال والحرام شددنا، وفي الترغيب والترهيب تساهلنا.

ووجه ذلك كما يقول ابن تيمية كما في (مجموع الفتاوى) في المجلد الثامن عشر، وذكر نحوًا من ذلك الشاطبي في كتابه (الاعتصام)، والألباني في مقدمة (صحيح الترغيب والترهيب)، قالوا: المراد التساهل في أحاديث الترغيب والترهيب التي لا ينبني عليها أحكام، فيكون الحكم ثابتًا بأدلة صحيحة، فثبت استحبابه أو وجوبه، ثم يرد في حديث آخر ذكر فضل ما تضمنه هذا الحديث، فمثل هذا يُتساهل فيه، بشروط كأن لا يكون ضعفه شديدًا، وغير ذلك.

ص: 8

وسبب التساهل فيه أن فضل الله واسع، وكم من عبادة نعملها ولا نعرف فضلها وقد يكون لها من الفضائل ما الله به عليم، ففضل الله واسع، ثم لا يترتب على ذلك حلال ولا حرام، فلذلك يُسهَّل فيه ما لا يُسهَّل في غيره.

ويُخطئ كثيرون ويُصححون أحاديث في الترغيب والترهيب وأصل الحكم الذي دل عليها هذا الأحاديث ليس ثابتًا بطريق صحيح، فرجع تصحيحهم لهذا الحديث إلى أن صححوه في الأحكام، فمثل هذا ينبغي أن يُشدد فيه، ومن أمثلة ذلك: حديث فضل الذكر عند دخول السوق، والحديث ضعيف ضعفه ابن عدي وغيره، لكن لو أراد رجل أن يتساهل في هذا الحديث بحجة التسهيل في أحاديث الترغيب والترهيب، فيقال: تصحيح هذا الحديث ينتج منه استحباب هذا الذكر، فرجع إلى الأحكام؛ لأن ما دل على الاستحباب أو الوجوب أو الحرمة أو الكراهة فهو راجع إلى الأحكام، فإنه لم يصح حديث في استحباب هذا الذكر، ثم جاء حديث في بيان فضله، فلو صح حديث في استحباب هذا الذكر ثم جاء حديث في بيان فضله لتُسوهل في هذا الفضل، أما وأن يُبنى الأمر على تصحيح حديث في الفضل وينتج منه القول باستحبابه فإن مثل هذا لا يجوز.

وهذا أمر ينبغي أن يُتفطن إليه وأن يُعرف وأن يُدرك.

المقدمة السابعة:

هذا العلم العظيم يُدرك بكثرة المِرَاس والتطبيقات، ليس بالشيء النظري، فإن بعض الناس تجده مُبرزًا في دراسة علم المصطلح نظريًا، لكنه في باب التطبيق والممارسة ضعيف وقليل التجربة، فمثل هذا لا يكون ذا معرفة بالأحاديث صحةً وضعفًا.

وقد رأيت بعضهم متميزًا في دراسة علم المصطلح ومتوسعًا فيه، لكنه ضعيف للغاية في معرفة الأحاديث صحيحةً أو ضعيفة، وهذا خطأ كبير، فينبغي أن يكون طالب العلم ذا مِرَاس وتجربة وتطبيقات كثيرة حتى يشتد ساعده ويقوى، فإن هذا العلم لا يُدرك إلا بكثرة الممارسة، وقد ذكر هذا الخطيب البغدادي -رحمه الله تعالى-، وابن حجر في كتابه (النكت)، وابن رجب في شرحه على (العلل)، وابن الصلاح في بعض المباحث.

فإن من أكثر التخريج وحاول أن يعرف كيف العلماء حكموا بالصحة والضعف، وتدرب كثيرًا اشتدَّ ساعده وقوي في هذا العلم، لذا أوصيك بأن تجتهد في ذلك وأن تستفيد من كتب الشيخ ناصر الدين الألباني -رحمه الله تعالى-، وألا تقف عندها، بل أوصيك أن تبتدئ بها وأن تتوسع بعد ذلك، وأن تعلوا وترتفع حتى ترجع إلى أئمة وفرسان هذا العلم.

ص: 9

بعد هذا أبتدئ بالتعليق على هذا المتن المبارك، وأسأل الله أن يغفر لابن حجر -رحمه الله تعالى-.

ص: 10

قال الحافظ ابن حجر -رحمه الله تعالى-:

بسم الله الرحمن الرحيم

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَزَلْ عَلِيمًا قَدِيرًا، وَصَلَّى اللهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ الَّذِي أَرْسَلَهُ إِلَى النَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا، وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا. أَمَّا بَعْدُ:

فَإِنَّ التَّصَانِيفَ فِي اصْطِلَاحِ أَهْلِ الْحَدِيثِ قَدْ كَثُرَتْ، وَبُسِطَتْ وَاخْتُصِرَتْ، فَسَأَلَنِي بَعْضُ الْإِخْوَانِ أَنْ أُلَخِّصَ لَهُمُ الْمُهِمَّ مِنْ ذَلِكَ، فَأَجَبْتُهُ إِلَى سُؤَالِهِ؛ رَجَاءَ الِانْدِرَاجِ فِي تِلْكَ الْمَسَالِكِ.

سلك الحافظ ابن حجر -رحمه الله تعالى- طريقة المناطقة في الترتيب والتقسيم، وهي طريقة السبر والتقسيم، وفعل ذلك من باب التقريب والتسهيل، ومثل هذا لا يُقال إنه مُحدث، فإن طريقة السبر والتقسيم دل عليها القرآن، وسار عليها أهل العلم قبل هؤلاء المناطقة والمتكلمين.

قوله: (فَسَأَلَنِي بَعْضُ الْإِخْوَانِ) سأله جماعة منهم الزركشي الشافعي، ذكر هذا السخاوي -رحمه الله تعالى- في كتابه:(الجواهر والدرر).

ص: 11

قال الحافظ ابن حجر -رحمه الله تعالى-:

فَأَقُولُ: الْخَبَرُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ: طُرُقٌ بِلَا عَدَدٍ مُعَيَّنٍ، أَوْ مَعَ حَصْرِ بِمَا فَوْقَ الِاثْنَيْنِ، أَوْ بِهِمَا، أَوْ بِوَاحِدٍ. فَالْأَوَّلُ: الْمُتَوَاتِرُ: الْمُفِيدُ لِلْعِلْمِ الْيَقِينِيِّ بِشُرُوطِهِ.

وَالثَّانِي: الْمَشْهُورُ، وَهُوَ الْمُسْتَفِيضُ عَلَى رَأْيٍ.

وَالثَّالِثُ الْعَزِيزُ، وَلَيْسَ شَرْطًا لِلصَّحِيحِ خِلَافًا لِمَنْ زَعَمَهُ.

وَالرَّابِعُ: الْغَرِيبُ.

وَكُلُّهَا - سِوَى الْأَوَّلِ - آحَادٌ. وَفِيهَا الْمَقْبُولُ وَالْمَرْدُودُ؛ لِتَوَقُّفِ الِاسْتِدْلَالِ بِهَا عَلَى الْبَحْثِ عَنْ أَحْوَالِ رُوَاتِهَا دُونَ الْأَوَّلِ. وَقَدْ يَقَعُ فِيهَا مَا يُفِيدُ الْعِلْمَ النَّظَرِيَّ بِالْقَرَائِنِ عَلَى الْمُخْتَارِ.

ذكر ابن حجر -رحمه الله تعالى- أن وصول الحديث والخبر إلينا له طريقان، والذي ذكر -رحمه الله تعالى- لفظ الخبر، وينبغي أن يُعلم أن لفظ (الحديث) و (الخبر) و (الأثر) كلها تُطلق على الحديث المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ لذلك ألَّف المجد ابن تيمية:(منتقى الأخبار) فسمى أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم بالأخبار، وأيضًا ألَّف الطحاوي:(شرح معاني الآثار) فسمى أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم بالآثار.

فالخبر يُطلق على الحديث النبوي وعلى غيره، والأثر يُطلق على الحديث النبوي وعلى غيره، وقد ذكر النووي -رحمه الله تعالى- أن طريقة المحدثين أن الخبر يُطلق على الحديث، وأن بعض الخراسيين فرَّق بين الأثر والحديث، وقال: الأثر ما يُطلق على غير النبي صلى الله عليه وسلم، أما الحديث فهو ما يُطلق على النبي صلى الله عليه وسلم، والصواب أن يُقال: إن الخبر والأثر والحديث كلها تُطلق على أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم وأقواله وأفعاله وتقريراته.

فإذن وصول الخبر إلينا له حالان:

• الحال الأولى: أن يبلغ مبلغ التواتر.

• الحال الثانية: ألا يبلغ مبلغ التواتر وهو الآحاد.

ص: 12

فإذن كل ما ليس متواترًا فهو آحاد، والآحاد أقسامٌ ثلاثة:

1 -

غريب.

2 -

عزيز.

3 -

مشهور.

وأبدأ ببيان معنى المتواتر؛ لأن ما ليس متواترًا فإنه آحاد، فالمتواتر عند علماء المصطلح كما بيَّنه الحافظ في شرحه على هذا المتن وهو نزهة النظر: ما رواه جمعٌ عن جمعٍ تُحيل العادة توافقهم وتواطؤهم على الكذب، من أول السند إلى منتهاه، ويكون مستندهم الحس.

فإذن يُشترط في التواتر ما يلي:

• الأمر الأول: أن يكون الرواة جماعةً.

• الأمر الثاني: أن تُحيل العادة توافقهم وتواطؤهم على الكذب.

• الأمر الثالث: أن يكون من أول السند إلى منتهاه.

• الأمر الرابع: أن يكون مستندهم الحس، بأن يقول: سمعت، أو رأيت، ونحو ذلك.

والفرق بين التواطؤ والتوافق: أن التواطؤ ما كان بتعمُّد، أي لو حاول هؤلاء الجماعة أن يتفقوا على الكذب لما استطاعوا، أما التوافق: أي أن يتفقوا على الكذب بلا تواطؤ. وقد ذكر هذا المناوي في تعليقاته على (نخبة الفكر).

فكل حديث جمع هذه الشروط فهو حديث متواتر، وما لم يجمع هذه الشروط فإنه آحاد، والآحاد أقسم ثلاثة:

القسم الأول: الغريب.

وهو أن يكون في أحد طبقات الإسناد راوٍ واحد، فلو قدر أن حديثًا يرويه خمسة عن خمسة عن واحد عن خمسة، فهو غريب.

القسم الثاني: العزيز.

وهو أن يكون في أقل طبقات الإسناد راويان، فلو روى خمسة عن خمسة عن اثنين عن خمسة فهو حديث عزيز.

ص: 13

القسم الثالث: المشهور.

وهو ما كان الرواة جماعة أكثر من اثنين ثلاثة فأكثر، لكن لم تنطبق عليهم شروط المتواتر، فكل جماعة عن جماعة

إلخ ولم ينطبق عليهم شروط التواتر فهو مشهور.

وينبغي أن تُعلم قاعدة مهمة في علم المصطلح وهو: أن القلِّة تغلب الكثرة. فإذا أردت أن تحكم على الحديث هل هو متواتر أو آحاد، وهل هو غريب أو عزيز أو مشهور فانظر إلى أقل طبقة من رواة الإسناد، فالعبرة بالأقل.

فلو روى ألف عن ألف عن ألف عن واحد عن ألف، فيُقال: إنه غريب، لأن النظر إلى الأقل، وكذلك لو روى ألف عن ألف عن ألف عن اثنين عن ألف، فالحديث عزيز، لأنه يُنظر إلى الأقل، وكذلك لو روى ألف عن ألف عن اثنين عن واحد عن ثلاثة فهو غريب، فالنظر إلى الأقل. كما بيَّن ذلك الحافظ في (النزهة).

قوله: (فَأَقُولُ: الْخَبَرُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ: طُرُقٌ بِلَا عَدَدٍ مُعَيَّنٍ) قوله بلا عدد معين: هذا المتواتر، وهذا هو القسم الأول، والقسم الثاني قوله:(أَوْ مَعَ حَصْرِ بِمَا فَوْقَ الِاثْنَيْنِ، أَوْ بِهِمَا، أَوْ بِوَاحِدٍ) هذا الآحاد، وأشار إلى أن الآحاد أنواع ثلاثة، فقوله:(أَوْ مَعَ حَصْرِ بِمَا فَوْقَ الِاثْنَيْنِ) هذا المشهور، وقوله:(أَوْ بِهِمَا) أي برواية اثنين، وهذا هو العزيز، وقوله:(أَوْ بِوَاحِدٍ) وهذا هو الغريب.

قوله: (فَالْأَوَّلُ: الْمُتَوَاتِرُ: الْمُفِيدُ لِلْعِلْمِ الْيَقِينِيِّ بِشُرُوطِهِ) جعل المتواتر مفيدًا للعلم اليقيني بشروطه، وتقدم ذكر شروط التواتر.

وينبغي أن يُعلم أن العلم نوعان:

• النوع الأول: علم ضروري ويقيني، وهو الذي لا يحتاج إلى نظر ولا استدلال ولا بحث.

• النوع الثاني: علم نظري، وهو الذي يحتاج إلى نظر واستدلال.

فقد جعل الحافظ ابن حجر المتواتر مفيدًا العلم الضروري اليقيني، أي بلا نظر واستدلال، وفي هذا نظر -والله أعلم-؛ وذلك أنه قد يروي الحديث الواحد كثيرون ويكون مرجع الكثرة إلى رجل كذاب، أو سُراق يسرق الأحاديث فيكثر الطرق كذبًا، فلذلك لابد من نظر واستدلال، وقد نبَّه على هذا العلامة الألباني -رحمه الله تعالى- في تعليقاته على

ص: 14

(نخبة الفكر)، وصدق -رحمه الله تعالى-، وقد أشار لهذا المعلمي في تعليقاته على كتاب (الفوائد المجموعة) للشوكاني -رحمه الله تعالى-.

قوله: (وَالثَّانِي: الْمَشْهُورُ، وَهُوَ الْمُسْتَفِيضُ عَلَى رَأْيٍ) أي الذي يرويه جماعة ولم يبلغ حد التواتر، قوله:(وَهُوَ الْمُسْتَفِيضُ عَلَى رَأْيٍ) أي أن من العلماء من يُسمي المشهور مستفيضًا ومنهم من يُغاير بين المشهور والمستفيض، وبيَّن ابن حجر أن البحث في المستفيض ليس من مباحث هذا الفن، كما بيَّنه في شرحه على (نخبة الفكر)، فمنهم من يقول إن الكثرة لابد أن تكون في أول السند ومنتهاه، أي أن تكون الكثرة في السند كله ابتداء وانتهاء وفيما بينهما، فمثل هذا يُسمى مستفيضًا وما عداه فيسمى مشهورًا، وذكر أقوالًا أخر ثم قال: وهذا ليس من مباحث هذا الفن. وصدق -رحمه الله تعالى-.

قوله: (وَالثَّالِثُ الْعَزِيزُ، وَلَيْسَ شَرْطًا لِلصَّحِيحِ خِلَافًا لِمَنْ زَعَمَهُ) العزيز أن يرويه اثنان كما تقدم، ومثل هذا ليس شرطًا للحديث الصحيح، وقال:(خِلَافًا لِمَنْ زَعَمَهُ) والذي زعم ذلك المعتزلة، كالجبائي وغيره، وهؤلاء لا ينبغي أن يُذكر خلافهم فخلافهم غير معتبر ولا يُحتج به في الدين كله، فكيف بعلم الحديث؟

وقد نُسب هذا إلى أبي عبد الله الحاكم في كتابه (معرفة علوم الحديث)، وفي هذه النسبة نظر، فقد صحح أحاديث كثيرة برواية راوٍ واحد، وإنما أراد الحاكم -رحمه الله تعالى- أنه لا تثبت صحبة الصحابي إلا بأن يروي عنه اثنان، على تفصيل عنده، والمهم أنه لا يشترط لصحة الحديث أن يرويه اثنان، لا أبو عبد الله الحاكم ولا غيره من أهل السنة ولا أئمة هذا الشأن من أهل الحديث.

قوله: (وَالرَّابِعُ: الْغَرِيبُ) وقد تقدم أن الغريب ما رواه راوٍ واحد، فإنه يُسمى غريبًا، وأؤكد أن القلة في هذا الفن تغلب الكثرة، فيُنظر إلى أقل الطبقات روايةً، وبناءً عليه يُوصف الحديث هل هو متواتر أو آحاد، ثم يُنظر إلى أي أقسام الآحاد أهو الغريب أو العزيز أو المشهور؟.

ثم ينبغي أن يُعلم أن لفظ (الغريب) له معنى عند العلماء الأوائل يختلف عن معناه عند المتأخرين، وذلك أنهم إذا قالوا:"حديث غريب" أي: يريدون به أنه حديث ضعيف. ومن ذلك صنيع الترمذي -رحمه الله تعالى-، فيقول: هذا حديث غريب. أي: ضعيف.

ص: 15

قال الإمام أحمد: إذا رأيت أهل الحديث يقولون: فائدة أو غريب، فاتركه. فبيَّن بهذا أنه حديث ضعيف، فالعلماء إذا قالوا: فوائد أبي تمام، فوائد كذا، أي أحاديثه الضعاف، وهذا اصطلاح درج عليه العلماء الأوائل رحمهم الله رحمة واسعة-.

قوله: (وَكُلُّهَا - سِوَى الْأَوَّلِ - آحَادٌ. وَفِيهَا الْمَقْبُولُ وَالْمَرْدُودُ؛ لِتَوَقُّفِ الِاسْتِدْلَالِ بِهَا عَلَى الْبَحْثِ عَنْ أَحْوَالِ رُوَاتِهَا دُونَ الْأَوَّلِ) بيَّن -رحمه الله تعالى- أن الآحاد بأقسامه الثلاثة يحتاج إلى بحث واستدلال ونظر حتى يتبيَّن أهو صحيح أو ضعيف؟، وقوله:(- سِوَى الْأَوَّلِ -) الذي هو المتواتر، وقد تقدم أن في هذا نظرًا، وأن المتواتر يحتاج إلى بحث واستدلال.

ثم بيَّن أن الآحاد فيه المقبول والمردود بخلاف المتواتر، والصواب أن في جميع الأحاديث سواء كان متواترًا أو آحادًا المقبول والمردود كما تقدم بيانه.

قوله: (وَقَدْ يَقَعُ فِيهَا مَا يُفِيدُ الْعِلْمَ النَّظَرِيَّ بِالْقَرَائِنِ عَلَى الْمُخْتَارِ) هذا مبحث في أحاديث الآحاد وإفادتها لغلبة الظن أو العلم،

وقد ذهب جماهير أهل العلم إلى أن أحاديث الآحاد تفيد غلبة الظن، وممن اختار هذا ابن تيمية في كتابه (منهاج السنة) وكما في (مجموع الفتاوى)، لكن بيَّن ابن تيمية -رحمه الله تعالى- في بحث مفيد في (مقدمة أصول التفسير) وفي (رد الاعتراضات المصرية على الفتوى الحموية) أن حديث الآحاد إذا احتفت به القرائن فإنه يفيد العلم، وعزا هذا إلى علماء المذاهب الأربعة، بل قال أبو إسحاق الإسفراييني: الحديث الذي يرويه البخاري ومسلم يفيد العلم بالإجماع. فهذه قرينة إلى أنه يفيد العلم، مع أن أبا إسحاق الإسفراييني من المتكلمين ومع ذلك ذكر أن الحديث إذا اتفق عليه البخاري ومسلم يُفيد العلم إجماعًا.

لذلك خبر الآحاد إذا احتفَّت به القرائن فإنه ينتقل من غلبة الظن إلى العلم، ومن القرائن: أن تعمل الأمة به، أو أن يرويه البخاري ومسلم، أو أن تتلقاه الأمة بالقبول، إلى غير ذلك من القرائن الكثيرة.

وقد ذهب بعض العلماء كابن القيم كما في (مختصر الصواعق) أن خبر الآحاد يُفيد العلم بمجرد صحته دون أن تحتف به القرائن، ونسب هذا إلى مالك وأحمد والشافعي وجماعة، ثم قال ابن القيم: وهذا العلم يتفاوت في قوته. فكأن خلاف ابن القيم مع من يقول إنه يفيد

ص: 16

غلبة الظن خلاف قريب من اللفظي، لأنه اعترف أن هذا الذي يفيد العلم أيضًا يتفاوت في العلم الذي يُفيده، فالأمر فيه سهل، لكن ينبغي أن يُعلم ما يلي:

• الأمر الأول: أن خبر الآحاد حجة في الفقه والعمل، وقد دلت على ذلك أدلة كثيرة، وقد ذكرها الشافعي -رحمه الله تعالى- في كتابه (الرسالة)، وبسطها الخطيب البغدادي في كتابه (الفقيه والمتفقه)، ثم حكى الإجماع على أن خبر الآحاد حجة في العمل به جماعة من أهل العلم منهم ابن القاص، نقله عنه الخطيب البغدادي في كتابه (الفقيه والمتفقه) وأقره الخطيب، ومنهم ابن عبد البر في أوائل كتابه (التمهيد)، ومنهم ابن تيمية في (دفع الاعتراضات المصرية)، ومنهم ابن القيم كما في (مختصر الصواعق).

• الأمر الثاني: خبر الآحاد حجة في العقائد بالإجماع، وذلك للأدلة الكثيرة على قبول خبر الآحاد في العقائد، ومنها ما روى البخاري ومسلم عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث معاذًا إلى اليمن وقال:«إنك تأتي قومًا أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا لله» الحديث، فقد أقام الحجة بمعاذ رضي الله عنه ومن معه، وهؤلاء لم يبلغوا حد التواتر على ضابط التواتر عند المتكلمين.

أما الإجماع على أن خبر الآحاد حجة في باب العقائد فقد حكاه جماعة منهم ابن عبد البر في أوائل كتابه (التمهيد) وابن تيمية في (دفع الاعتراضات المصرية).

بعد هذا: إن ذكر التواتر في علم الحديث أمرٌ قد ذكره العلماء الماضون، وممن ذكر ذلك الإمام البخاري، فقد قال في حديث:«لا صلاة لمن لم يقرأ بأم القرآن» : حديث متواتر.

لكن للتواتر معنًى عند أئمة وفرسان هذا الفن يختلف عن معناه عند علماء المصطلح، فما تقدم ذكره من شروط التواتر هو قول المتكلمين لا الفقهاء ولا أئمة السلف الأولين، وأول من ذكره في كتب مصطلح الحديث الخطيب البغدادي -رحمه الله تعالى-، وإلا أصله مأخوذ من المتكلمين.

لذا ليس لهذه الشروط ذكر في كلام العلماء الماضين، لا تصريحًا ولا تلميحًا، بل لهم كلام يدل على خلاف ذلك، فإن للشافعي كلامًا يدل على نقد بعض شروط التواتر، ومثله الدارمي في رده على بشر المريسي.

ص: 17

والتواتر بهذه الشروط لا وجود له في الأحاديث النبوية، وقد صرَّح بهذا ابن حبان في مقدمة صحيحه، وقال: السنة كلها آحاد. وصدق -رحمه الله تعالى-، فإنه على هذه الشروط لا يوجد له مثال، وذكر مثل هذا الحازمي -رحمه الله تعالى-، وابن النجار وهو من المتكلمين الأصوليين في شرح (الكوكب)، ثم ابن الصلاح في العبارة التي نقلها الحافظ في (النزهة) قال: إلا أن يُدَّعى في حديث: «من كذب عليَّ متعمدًا» ، أيضًا أن يُدعى، أي لا يُجزم به.

فإذن التواتر بهذا المعنى لا وجود له في الحديث النبوي، وقد تقدم أن علم مصطلح الحديث يدرس اصطلاحات أهل العلم، وهو علم وسيلة لا غاية لمعرفة الأحاديث النبوية صحة وضعفًا، فإذن القول بالتواتر بهذه المعنى لا وجود له.

• تنبيه: قد عبر العلماء الماضون بالتواتر، لكن معنى المتواتر عندهم: أي المتكاثر، فإن عباراتهم كما سبق أقرب إلى المعنى اللغوي، والتواتر يختلف، فقد يروي حديثًا ثلاثة ويكون متواترًا، وقد يرويه عشرة ولا يكون متواترًا، قال ابن تيمية: وذلك باختلاف حال الرواة. ثم شبَّه هذا ابن تيمية بالطعام، قال: من الطعام ما إن أكلت منه قليلًا شبعت كاللحم، ومن الطعام ما إن أكلت منه كثيرًا لم تشبع. ونسب هذا إلى أهل الحديث.

وصدق -رحمه الله تعالى- فقد يروي حديثًا ثلاثة من الرواة فيكون متواترًا، وقد يرويه خمسة فيكون متواترًا، وقد يرويه عشرة فلا يكون متواترًا، وذلك بالنظر إلى حال الرواة، فإذن التواتر موجود في كلامهم لكن على خلاف هذه الشروط التي أحدثها المتكلمون والتي لا وجود لها في الحديث النبوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ص: 18

قال الحافظ ابن حجر -رحمه الله تعالى-:

ثُمَّ الْغَرَابَةُ: إِمَّا أَنْ تَكُونَ فِي أَصْلِ السَّنَدِ، أَوْ لَا.

فَالْأَوَّلُ: الْفَرْدُ الْمُطْلَقُ. وَالثَّانِي: الْفَرْدُ النِّسْبِيُّ، وَيَقِلُّ إِطْلَاقُ الْفَرْدِيَّةِ عَلَيْهِ.

وَخَبَرُ الْآحَادِ بِنَقْلِ عَدْلٍ تَامِّ الضَّبْطِ، مُتَّصِلِ السَّنَدِ، غَيْرِ مُعَلَّلٍ وَلَا شَاذٍّ: هُوَ الصَّحِيحُ لِذَاتِهِ. وَتَتَفَاوَتُ رُتَبُهُ بِتَفَاوُتِ هَذِهِ الْأَوْصَافِ.

وَمِنْ ثَمَّ قُدِّمَ صَحِيحُ الْبُخَارِيِّ، ثُمَّ مُسِلِمٍ، ثُمَّ شَرْطُهُمَا.

فَإِنْ خَفَّ الضَّبْطُ: فَالْحَسَنُ لِذَاتِهِ، وَبِكَثْرَةِ طُرُقِهِ يُصَحَّحُ.

فَإِنْ جُمِعَا فَلِلتَّرَدُّدِ فِي النَّاقِلِ حَيْثُ التَّفَرُّدُ، وَإِلَّا فَبِاعْتِبَارِ إِسْنَادَيْنِ.

وَزِيَادَةُ رَاوِيهِمَا مَقْبُولَةٌ مَا لَمْ تَقَعْ مُنَافِيَةً لِمَنْ هُوَ أَوْثَقُ.

فَإِنْ خُولِفَ بِأَرْجَحَ فَالرَّاجِحُ الْمَحْفُوظُ، وَمُقَابِلُهُ الشَّاذُّ. وَمَعَ الضَّعْفِ فَالرَّاجِحُ الْمَعْرُوفُ، وَمُقَابِلُهُ الْمُنْكَرُ.

وَالْفَرْدُ النِّسْبِيُّ: إِنْ وَافَقَهُ غَيْرُهُ فَهُوَ الْمُتَابِعُ، وَإِنْ وُجِدَ مَتْنٌ يُشْبِهُهُ فَهُوَ الشَّاهِدُ.

وَتَتَبُّعُ الطُّرُقِ لِذَلِكَ هُوَ الِاعْتِبَارُ.

قوله: (ثُمَّ الْغَرَابَةُ: إِمَّا أَنْ تَكُونَ فِي أَصْلِ السَّنَدِ، أَوْ لَا. فَالْأَوَّلُ: الْفَرْدُ الْمُطْلَقُ. وَالثَّانِي: الْفَرْدُ النِّسْبِيُّ، وَيَقِلُّ إِطْلَاقُ الْفَرْدِيَّةِ عَلَيْهِ) مراده بهذا أن الغرابة تكون في أصل الإسناد أي: من عند الصحابي أو لا، والنظر للغرابة ليس من عند الصحابي نفسه وإنما في الرواة عن الصحابة وهم التابعون، لأن في مثل هذا البحث يُنظر لمن بعد الصحابي لا يُنظر إلى الصحابة أنفسهم، فإذا روى عن الصحابي راوٍ واحد وكان التابعي واحدًا فإنه يكون غريبًا في أصل الإسناد، فيُقال: فردٌ مطلق.

أما إذا كانت الغرابة في أحد طبقات الإسناد إما عن عالم معين كشعبة، فينفرد عن شبعة واحد، إلى غير ذلك، فهذه غرابة لكن يُقال عنها: فرد نسبي.

ص: 19

وجعل الحافظ -رحمه الله تعالى- الغريب قسمين، إما في أصل الإسناد أو ما بعد ذلك، ففي أصل الإسناد يُقال: الفرد المطلق، وما بعد ذلك يُقال الفرد النسبي، والنسبي كأن يتفرد عن شعبة، فمثل هذا يقل أن يُطلق عليه الفردية، وإنما يُقال: غريب من حديث كذا، أما التفرُّد فيُطلق إذا كان في أصل الإسناد، والذي يظهر -والله أعلم- من صنيع أئمة أهل الحديث أنهم لا يلحظون مثل هذا، فمتى ما رأوا تفردًا وكان لذكر التفرد فائدة سواء في أصل الإسناد أو غير ذلك قالوا: لم يروه عن فلان إلا فلان. ولا يُراعون مثل هذا -والله أعلم-.

قوله: (وَخَبَرُ الْآحَادِ بِنَقْلِ عَدْلٍ تَامِّ الضَّبْطِ، مُتَّصِلِ السَّنَدِ، غَيْرِ مُعَلَّلٍ وَلَا شَاذٍّ: هُوَ الصَّحِيحُ لِذَاتِهِ) بدأ في بيان الأحاديث المقبولة والمردودة، وينبغي أن يُعلم أن الأحاديث من حيث الجملة نوعان:

• النوع الأول: أحاديث مقبولة، وهي أقسام أربعة:

o القسم الأول: الصحيح لذاته.

o القسم الثاني: الصحيح لغيره.

o القسم الثالث: الحسن لذاته.

o القسم الرابع: الحسن لغيره.

• النوع الثاني: أحاديث مردودة، وسيأتي الكلام عليه وعن أسباب رده -إن شاء الله تعالى-.

فبدأ الحافظ ببيان تعريف الصحيح لذاته، وذكر له شروطًا خمسة، ثلاثة منها شروط إيجابية وشرطان سلبيان، ومن الشروط ما يتعلق بالسند فحسب ومنها ما يتعلق بالمتن أيضًا، فالشاذ والمعلّ يتعلق بالمتن أيضًا، أما رواه عدلٌ تام الضبط فهذا يتعلق بالسند، أما الشذوذ والعلة فإنها تتعلق بالسند والمتن.

قوله: (بِنَقْلِ عَدْلٍ تَامِّ الضَّبْطِ

) الشرط الأول/ أن يكون عدلًا، والشرط الثاني/ أن يكون تام الضبط، والشرط الثالث/ أن يكون متصل الإسناد، والشرط الرابع/ ألا يكون مُعلًا، والشرط الخامس/ألا يكون شاذًا.

فإذا اجتمعت هذه الشروط الخمسة في حديث فإنه يكون صحيحًا، أما إذا اختلَّ شرط من هذه الشروط فإنه ينقص في صحته أو يكون حسنًا أو ضعيفًا، بحسب النقص في الشرط.

ص: 20

والعدل: أي أن يكون الراوي ذا تقوى ومروءة، ومن لم يكن كذلك فإن حديثه لا يكون صحيحًا، كأن يكون مبتدعًا أو فاسقًا، فإذا كان الراوي مبتدعًا أو فاسقًا فإن حديثه ضعيف؛ لأن هذا الشرط اطَّرده حتى في الحسن، فإذا اختلَّ هذا الشرط فإن الحديث ينتقل من أن يكون صحيحًا إلى أن يكون ضعيفًا.

وهذا -والله أعلم- فيه نظر، أما الفسق فإنه لا يمنع قبول الرواية ولا ترى في كلام العلماء أئمة هذا الفن أنهم ردُّوا حديثًا عن رجل لأنه فاسق بما أنه صادق ضابط، ويُؤكد ذلك ما سيأتي وهو أن العلماء الماضين كالمجمعين على قبول رواية المبتدع الذي هو أشد من الفسق، ولو كان داعيةً، كما ذكر هذا الخطيب البغدادي في كتابه (الكفاية) ونقله عن جمع من أهل العلم وأطال النقل في ذلك، ولعله يأتي بيان هذا أكثر -إن شاء الله تعالى-.

فإذن اشتراط أن يكون عدلًا بألا يكون فاسقًا ومن باب أولى ألا يكون مبتدعًا فيه نظر -والله أعلم-.

وتمام الضبط في ظاهر العبارة: أي أن يبلغ من الضبط أعلاه، وبالتقديرات العصرية يُقال: مائة بالمائة، لأنه لما ذكر نقص هذا الشرط قال: الحسن ما خفَّ ضبطه، وهذا فيه نظر -والله أعلم-، وسيأتي بيانه أكثر في الكلام عن الحسن، وذلك أن من الثقات ما ينقص تمام ضبطه ولا يزال ثقة، حتى إن للذهبي كلمة مفادها أن ما من ثقة إلا وقد أخطأ، وهذا في الغالب.

قوله: (مُتَّصِلِ السَّنَدِ، غَيْرِ مُعَلَّلٍ وَلَا شَاذٍّ) سيأتي الكلام عن الاتصال -إن شاء الله تعالى-.

لكن يُقال: معلل، أو معلول، أو مُعلّ، ألفاظ مترادفة، ولفظ (مُعل) يوجد في كلام أهل اللغة من أثبته، ومثله لفظ (معلول)، أما لفظ (مُعلل) فقد أنكره كثير من أهل اللغة، والأمر في هذا سهل -إن شاء الله تعالى.

والمقصود أن علماء المصطلح جعلوا العلة أمرًا خفيًا قادحًا في صحة الحديث، ومعنى هذا أن الأمر الظاهر لا يسمى علةً، وقد استدرك على هذا النووي، والعراقي، والسخاوي، وجماعة، وبيَّنوا أن العلة تُطلق على الأمر الخفي والأمر الظاهر، أي على القادح الخفي وعلى القادح الظاهر.

وكتب أئمة العلل كالإمام علي بن المديني، والرازيين، والدارقطني، دالة على أنهم يذكرون فيها ما كان مُعلًا سواء كان بعلة ظاهرة أو خفية، وقد شاع عند علماء المصطلح

ص: 21

أنهم يحصرون العلة في الأمر الخفي، وقد تكلم بنحو من هذا أبو عبد الله الحاكم في (معرفة علوم الحديث)، لكن قد يُقال إن كلامه من باب الغالب، لأن كلام الأولين أبعد عن الحد والضبط عن كلام من بعدهم، فإن المتأخرين معتنون غاية الاعتناء بالحدود، وإذا عرَّفوا تعريفًا فيريدون كونه جامعًا مانعًا

إلخ.

فالمقصود أن العلة في كلام العلماء الماضين تُطلق على الأمر القادح سواء كان خفيًا أو ظاهرًا.

قوله: (وَلَا شَاذٍّ) عرَّف الشاذ -كما سيأتي- بمخالفة الثقة لمن هو أوثق، إما ضبطًا أو كثرةً وعددًا، فإذا خالف الواحد جمعًا من الثقات أو من هم أوثق منه فيُقال عنه: شاذ.

والذي يظهر -والله أعلم- أن الشذوذ أشمل من هذا، وإن كان دالًا على هذا لكنه أشمل من هذا، وكل ما دلَّ لغةً على أنه شذَّ -أي انفرد انفرادًا لا يُقبل- فإنه يُقال عنه شاذ، سواء انفرد الثقة أو الضعيف، وسيأتي بيان هذا أكثر -إن شاء الله تعالى-.

ثم ليُعلم أن تعبير العلماء بلفظ (الشاذ) في كتب العلل نادر أو لا يكاد يوجد، وقد قلَّبت ما يسر الله منها ولم أجدهم عبَّروا عن حديث بأنه شاذ، وإنما يقولون: منكر، وخطأ، وغير ذلك.

إذن المُعوَّل على الرواة أن يكونوا ضابطين، وأن يكونوا صادقين، فيجمعوا بين الصدق والضبط، ثم ألا يكون السند منقطعًا بينه وبين شيخه، ثم ألا يكون في المتن ما يمنع من قبوله بأن يُخالف غيره مما هو أصح منه فيستوجب رده، فإذا اجتمعت هذه الأمور في حديث فإنه يكون حديثًا صحيحًا.

أما أن يكون الراوي مُسلمًا فهذا شرط بالإجماع، فإن الكافر لا تُقبل روايته، حكى الإجماع النووي -رحمه الله تعالى-.

قوله: (وَتَتَفَاوَتُ رُتَبُهُ بِتَفَاوُتِ هَذِهِ الْأَوْصَافِ) صدق -رحمه الله تعالى- وهذا يدل على أن قوله: (تَامِّ الضَّبْطِ) فيه نظر، فلا يشترط التمام، وإنما يبلغ في الضبط كمالًا لكن لا يشترط أن يكون تامًا -والله أعلم-.

ثم ينبغي أن يُعلم أن الضبط عند العلماء نوعان: ضبط صدر، وضبط كتاب.

ص: 22

قوله: (وَمِنْ ثَمَّ قُدِّمَ صَحِيحُ الْبُخَارِيِّ، ثُمَّ مُسِلِمٍ، ثُمَّ شَرْطُهُمَا) أي لأن رتب الصحيح تتفاوت فقُدم صحيح البخاري على صحيح مسلم، فأحاديث البخاري صحيحة وأحاديث مسلم صحيحة، لكن أحاديث البخاري أصح منه، فما كان على شرط البخاري ومسلم مُقدم على ما كان على شرط البخاري، وما كان على شرط البخاري مُقدم على ما كان على شرط مسلم.

تنبيهات:

التنبيه الأول: ما اتفق عليه الشيخان مقدم على غيره من حيث الجملة علمًا أن بين المحدثين والفقهاء خلافًا في اصطلاح المتفق عليه، فيشترط المحدثون أن يكون المتن والصحابي واحدًا في الصحيحين، أما الفقهاء فلو اختلف الصحابي جعلوه متفقًا عليه بما أن المتن في البخاري ومسلم، أفاده ابن حجر في النكت. فعلى هذا حديث:" إن من البيان لسحرًا" متفق عليه عند الفقهاء بخلاف المحدثين، لأن مسلمًا أخرجه عن عمار بن ياسر، والبخاري أخرجه عن ابن عمر.

التنبيه الثاني: أحاديث صحيح البخاري مُقدمة في الصحة على أحاديث صحيح مسلم من حيث الجملة لا فردًا، كما بيَّن هذا الزركشي -رحمه الله تعالى-.

التنبيه الثالث: حقق ابن حجر في كتابه (النكت) وفي (النزهة) -التي هي شرح (النخبة) - أنه لا يُعرف عن أحد من أهل العلم أنه فضَّل صحيح مسلم على صحيح البخاري، وقال: يُوجد في المغاربة من فضَّل صحيح مسلم على صحيح البخاري لكن أراد الترتيب والتنسيق ولم يُرد الصحة.

قوله: (ثُمَّ شَرْطُهُمَا) ينبغي أن يُعلم معنى قول العلماء: على شرط البخاري، أو شرط مسلم، أصح الأقوال أن معنى قول العلماء:"على شرط البخاري" أو "على شرط مسلم" أي بأن يكون سند الحديث على صورة سند الحديث في صحيح البخاري، أو على صورة سند الحديث في صحيح مسلم، أو على صورة سند حديث في الصحيحين، لا أن المراد رجال البخاري ومسلم.

وقد حقق هذا ابن دقيق العيد، والذهبي، وابن الصلاح، وابن حجر، والسخاوي، وجمع من أهل العلم.

ص: 23

فإذن من أراد أن يقول في حديث إنه على شرط البخاري أو مسلم لابد أن ينظر في إخراجهم لرواة الحديث على الصورة التي أخرجها البخاري أو مسلم أو كليهما.

ثم بعد هذا يُقال: ينبغي أن يُعلم أن البخاري ومسلمًا لم ينصا على شرط، ذكر هذا أبو الفضل بن طاهر المقدسي في شروط الأئمة الستة، وإنما غاية من يتكلم في هذا يتكلم استنباطًا، فيقول: هذا على شرط البخاري، وهذا على شرط مسلم.

الذي يظهر -والله أعلم- أنه عند التدقيق لا يصح أن يُقال في حديث إنه على شرط البخاري ولا على شرط مسلم ولا على شرطهما، وذلك لما يلي:

• الأمر الأول: أن العلماء ينظرون للمتن والسند، قد يرضى البخاري لهذا السند على هذا المتن، ولا يرضى لهذا السند على متنٍ آخر، كما تقدم ذكره في المقدمة، فقد روى البخاري عن أبي بن عباس بن سهل بن سعد الساعدي عن أبيه عن جده في ذكر خيل النبي صلى الله عليه وسلم في حائط لهم يُقال لها اللخيف، فهذا السند لو كان على متن آخر في الأحكام لم يقبله البخاري، فلو أن أحدًا رأى هذا السند وأورده على متن آخر في الأحكام لصار ضعيفًا، فهل يصح أن يُقال ضعيف على شرط البخاري؟ هذا لا يصح بحال.

فإذن العلماء الماضون يُراعون المتن مع السند، فالبخاري قد يتساهل في إسناد بالنظر إلى المتن، ولا يتساهل في هذا الإسناد بالنظر إلى متن آخر، ولهذا أمثلة ولعله يأتي ذكر بعضها في ثنايا الشرح -إن شاء الله تعالى-.

• الأمر الثاني: أن الإمام البخاري والإمام مسلمًا ينتقون، وتقدم أن البخاري انتقى من أحاديث إسماعيل بن أبي أويس، فروى ما رآه منتقًى صحيحًا، فلا يصح لمن بعدهم أن يأتي لأي حديث في إسماعيل بن أبي أويس فيرويه فيقول: على شرط البخاري، على الصورة التي أخرجها البخاري، ثم يقول إنه على شرط البخاري.

فإذن الذي يظهر -والله أعلم- أنه لا يصح أن يُقال في حديث إنه على شرط البخاري أو على شرط مسلم أو على شرطهما، لما تقدم ذكره، وأؤكد إنهما لم ينصا على شروطهما نصًا ظاهرًا، وإنما أشار مسلم في المقدمة إلى أنه يروي من الطبقة الأولى والثانية وينتقي من الثالثة، بخلاف البخاري فيروي من الأولى والثانية، والبخاري لم ينص على هذا أيضًا، وإنما استُنبط من فعله استنباطًا. وما تقدم ذكره قد يُستفاد من كلام ابن حجر -رحمه الله تعالى- في كتابه (النكت على ابن الصلاح).

ص: 24

قوله: (فَإِنْ خَفَّ الضَّبْطُ: فَالْحَسَنُ لِذَاتِهِ) جعل الفرق بين الصحيح لذاته والحسن لذاته خِفَّة الضبط، قد ذكر الذهبي في كتابه (الموقظة) قال: أنا على إياس أن يُوجد ضابط للحديث الحسن. أي يقول: أنا على يأس أن يُذكر للحديث الحسن ضابط، فظن بعضهم أن الحافظ ابن حجر لما قال: فإن خفَّ ضبطه فهو الحديث الحسن، أنه قد أتى بالضابط، وهذا فيه نظر، وقد بيَّن هذا الصنعاني في كتابه (نتائج الأفكار)، فقال -رحمه الله تعالى-: وما ضابط خفة الضبط؟

فقد سبق أن الأحاديث الصحيحة يتفاوت رواته في ضبطه، ومن باب التقريب: من كان حفظه مائة بالمائة، يُقال صحيح، ومن كان حفظه تسعين بالمائة يُقال صحيح، ومن كان حفظه ثمانين بالمائة يُقال صحيح، ومن حفظه ثمانون بالمائة بالنسبة إلى مائة بالمائة قد خفَّ ضبطه، ومع ذلك يُقال صحيح، فإذن ما ضابط الخفة التي تجعل الحديث حسنًا؟

بهذا يُعلم -والله أعلم- أنه ليس للحديث الحسن ضابطٌ يُجزم به، فلذا ينبغي ألا يُشدد في ضابط الحديث الحسن، والعلماء الأوائل كانوا يُدخلون الحديث الحسن في الحديث الصحيح، وقد ذكر ابن تيمية الإجماع على ذلك، قال: حتى أتى الترمذي وقسَّم الحديث إلى أقسام ثلاثة، نقله عنه السخاوي في كتابه (فتح المغيث).

فكانت القسمة عند العلماء الأوائل صحيحًا وضعيفًا، فكل ما ليس ضعيفًا فهو صحيح، ويدخل في ذلك الحسن، وهذا أسهل وإن كان قد يقول عالم: هذا حديث حسن. ويُشير إلى أنه في أنزل مراتب الضبط، أي أنزل مراتب الصحة، لكن الحسن لا يخرج عن كونه صحيحًا.

وتقدم ذكر بعض المسائل في الحديث الصحيح، أما مسائل الحديث الحسن فإن هناك عدة مسائل وقد تقدم ذكر بعضها في ثنايا الشرح، لكن من المسائل:

• المسألة الأولى: أن العلماء الأولين يُدخلون الحديث الحسن في الحديث الصحيح، حكى هذا ابن تيمية إجماعًا فيما نقله السخاوي في كتابه (فتح المغيث)، فلذلك التقسيم عندهم ما بين صحيح وضعيف كما تقدم بيانه، وهذا أدق من التقسيم الثلاثي لما تقدم ذكره من أنه ليس هناك ضابط دقيق للحديث الحسن.

• المسألة الثانية: الذي قسَّم الحديث من حيث القبول إلى حديث صحيح وحسن وضعيف هو الترمذي -رحمه الله تعالى-، فهو الذي اشتهر عنه تقسيم الحديث إلى

ص: 25

هذه الأقسام الثلاثة، وأراد بها من جهة الصحة والرد، كما بيَّن هذا شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى-، لذا قال: وأول من أفرد الحديث الحسن هو الترمذي.

• المسألة الثالثة: يوجد في كلام العلماء الأولين إطلاق الحسن، ويريدون به معاني عدة، إما حُسن المتن أو حُسن ألفاظه أو غرابة المتن، لذا قال شعبة: من حُسنها فررت

إلى غير ذلك من المعاني، وقد نقل هذا ابن حجر -رحمه الله تعالى- في كتابه (النكت).

• المسألة الرابعة: قال الإمام أحمد -رحمه الله تعالى-: الحديث الضعيف أحب إليَّ من الرأي. لا يريد الإمام أحمد -رحمه الله تعالى- الحديث الضعيف الذي يُقابل الصحيح -أي المردود- وذلك لأن العلماء مجمعون على أن الحديث الضعيف الذي يُرادف المردود والذي يُقابل الصحيح لا يُحتج به في الأحكام، حكى الإجماع ابن تيمية كما في (مجموع الفتاوى)، وإنما مراد الإمام أحمد: الحسن لغيره، أي الذي صار مقبولًا بشواهده، فإذا نظرت إليه من جهة ذاته صار ضعيفًا، وإذا نظرت إليه من جهة شواهده صار مقبولًا، أي حسنًا لغيره، وقد بيَّن هذا الإمام ابن تيمية كما في (مجموع الفتاوى) وابن القيم في (أعلام الموقعين) وابن رجب في شرحه على (العلل)، وذكر نحوًا من ذلك الشاطبي في كتابه (الاعتصام).

فإذن قول الإمام أحمد: "الحديث الضعيف أحب إليَّ من الرأي" أي الحديث الذي ينجبر، أي الحسن لغيره، لذا قال ابن تيمية: وهو معنى قول الترمذي في الحديث الحسن: ما يُروى من غير وجه، وألا يكون شاذًا ولا مُعللًا. أي الذي يتقوى بأكثر من طريق وهو الحسن لغيره.

• المسألة الخامسة: أؤكد أنه لا ضابط دقيق للحديث الحسن، وأن قول الحافظ ابن حجر: إن خفَّ ضبطه. ليس ضابطًا دقيقًا في التفريق بين الحديث الحسن من الحديث الضعيف.

قوله: (وَبِكَثْرَةِ طُرُقِهِ يُصَحَّحُ) يدل هذا على أن الحديث يتقوَّى بمجموع طرقه، وسيأتي بحث هذا -إن شاء الله تعالى-، لكن تقوية الحديث بمجموع طرقه بأن يُقوى الحديث الضعيف إلى الحسن، والحسن إلى الصحيح، هذا مجمع عليه، حكى الإجماع ابن تيمية -رحمه الله تعالى- كما في كتابه (تلخيص الاستغاثة)، وأيضًا حكى الإجماع الألباني -رحمه الله تعالى- في (رسالة في تحريم آلات اللهو والطرب)، وقد نص على هذا الإمام

ص: 26

أحمد -رحمه الله تعالى-، أي نصَّ على أن الحديث يتقوى بمجموع طرقه، ويدل عليه القرآن، قال ابن تيمية كما في (مجموع الفتاوى): قال تعالى: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى} [البقرة: 282] قال: هذا دليل على أن الحديث يتقوى بمجموع طرقه، وسيأتي البحث في هذا أكثر -إن شاء الله تعالى-.

قوله: (فَإِنْ جُمِعَا فَلِلتَّرَدُّدِ فِي النَّاقِلِ حَيْثُ التَّفَرُّدُ، وَإِلَّا فَبِاعْتِبَارِ إِسْنَادَيْنِ) فقوله: (فَإِنْ جُمِعَا) أي إذا قيل في حديث: حسنٌ صحيح. يقول الحافظ هذا له حالان:

• الحال الأولى: إما ألا يكون له إلا طريق واحد فيكون الجمع على وجه التردد، بحيث إن الناقد متردد هل هو حديث صحيح أو حديث حسن.

• الحال الثانية: أن يكون له طريقان، فيكون أحد الطريقين حسنًا والآخر صحيحًا، هذا ما ذكره الحافظ، وهذا فيه نظر -والله أعلم- فإن صنيع العلماء على خلاف ذلك، لذا أكثر ما يقول فيه الترمذي: حديث حسن صحيح. فهو من أصح الصحيح، وهو ما اتفق عليه الشيخان، ذكر هذا ابن رجب -رحمه الله تعالى- في شرحه على (العلل)، وابن حجر في كتابه (النكت).

فلذا قول الترمذي: حسنٌ صحيح. هو إشارة إلى أصح الصحيح في الغالب.

• تنبيه: أكثر من يستعمل هذه الألفاظ الترمذي -رحمه الله تعالى- في جامعه، وقد عرَّف منها شيئًا واحدًا وهو الحسن، فذكر فيه ثلاثة شروط، قال: أن يُروى من غير وجه، وألا يكون شاذًا ولا مُعللًا، أما الغريب فصنيع العلماء على أنه بمعنى ضعيف كما تقدم.

أما قول: حسن صحيح. فاستقراء ابن رجب وابن حجر أنه أصح الصحيح كما تقدم ذكره، أما قوله: لا يُروى إلا من هذا الوجه. هذا واضح أنه يعني به التفرُّد، إما التفرد المطلق أو النسبي، وتقدم أن العلماء لا يُدققون في هذا وأن استعمالاتهم إلى اللغة أكثر منها إلى الاصطلاح.

• تنبيه: يكثر الاختلاف في نسخ الترمذي، ففي بعض النسخ: حديثٌ حسن. وفي بعض النسخ: حديث حسن صحيح. إلخ وأضبطها-والله أعلم- ما نقله المزي في كتابه (تحفة الأشراف)، فإذا شككت في النسخ التي بين أيدينا فراجع (تحفة

ص: 27