الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الأشراف) للمزي، فإنه عالم متميز ودقيق، فما يذكره هو أوثق من غيره -والله أعلم-.
قوله: (وَزِيَادَةُ رَاوِيهِمَا مَقْبُولَةٌ مَا لَمْ تَقَعْ مُنَافِيَةً لِمَنْ هُوَ أَوْثَقُ) أي زيادة راوي الحديث الحسن، وزيادة راوي الحديث الصحيح، مقبولة ما لم تقع مُنافية لمن هو أوثق، وهذا تأصيل صحيح، فكل ثقة مقبول تُقبل روايته من حيث الأصل ما لم يُخالف من هو أوثق منه، وهذا تأصيل واضح وقد نص على هذا الإمام الشافعي -رحمه الله تعالى- قال: قد يكون بأن يكون أحفظ أو أكثر عددًا.
وهذه المسألة هي المسماة بمسألة
زيادة الثقة
، وقبل الخوض في هذه المسألة ينبغي أن يُفهم تأصيل مهم ودقيق للغاية وهو: أن المخالفة عند علماء الحديث تُغاير وتختلف عن المخالفة عند علماء الفقه، فليس معنى المخالفة عند علماء الحديث عدم إمكان الجمع، فقد يروي الثقات حديثًا ثم ينفرد ثقة عنهم بزيادة يمكن أن يُجمع بين هذه الزيادة وبين أصل الحديث، لكن هذا عند علماء الحديث يُسمى مخالفة ولو أمكن الجمع بما أنه زاد أمرًا يترتب عليه حكم، بخلاف علماء الفقه.
لذا قول ابن حجر هنا: (مَا لَمْ تَقَعْ مُنَافِيَةً) أي منافيةً على طريقة المحدثين لا على طريقة الفقهاء، كما نبَّه عليه في (هدي الساري) وفي شرحه على البخاري، قال: المُنافاة على طريقة المحدثين. وفرق بين المُنافاة على طريقة المحدثين والمنافاة على طريقة الفقهاء، فعند الفقهاء لو زاد أحد الرواة زيادة فيقولون هذا خاص وذاك عام، أو مُطلق ومُقيد، ويُحاولون الجمع بطرق الجمع الكثيرة، أما المحدثون إذا زاد ثقة عن غيره زيادةً يترتب عليها حكم -أي لها معنًى- فإنها تُعد زيادة وتُبحث بحث زيادة الثقة، ولو أمكن الجمع.
وتقدم ما ذكر ابن القيم في تهذيب السنن تعقيبًا على ابن القطان لما ذكر حديث أنس في تخليل اللحية، قال:"وهذه التجويزات لا يلتفت إليها أئمة الحديث وأطباء علله ويعلمون أن الحديث معلول بإرسال الزبيدي له ولهم ذوق لا يحول بينه وبينهم فيه التجويزات والاحتمالات" فقد حاول ابن القطان أن يجمع على طريقة الفقهاء لكن رد عليه ابن القيم -رحمه الله تعالى-، وبمثل هذا قال ابن حجر لما قال: المُنافاة على طريقة المحدثين.
إذن إذا قال المحدثون: خالف فلانٌ فلانًا. ليس معنى هذا أنه لا يمكن الجمع، بلى يمكن الجمع على طريقة الفقهاء، لكن زاد شيئًا يترتب عليه معنًى ولم يأت بها البقية، ومن
هاهنا قال البلقيني فيما نقل السخاوي، قال: ولو توسعنا في التأويل لدفعنا كثيرًا من العلل التي علل بها أئمة الحديث. وصدق -رحمه الله تعالى-.
ومن أمثلة ذلك: حديث أبي قيس الأودي عن هزيل بن شرحبيل، عن المغيرة بن شعبة. حديث المغيرة بن شعبة مشهور في الصحيحين وغيره، قال:«دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين» ثم هوى فمسح عليهما صلى الله عليه وسلم، أي مسح على الخفين، زاد أبو قيس الأودي زيادةً وقال: مسح على الخفين والنعال، فزاد:"والنعال" هذه الزيادة على طريقة الفقهاء يُمكن أن يُجمع بينهما، فقد ذكر حكمًا لم يأتِ به غيره فلا يضر، لكن المحدثين قالوا: خالف أبو قيس الأودي الناس وأتى بلفظ "النعال" وغيره لم يأت بهذا اللفظ، وقال غيره: خالف هزيل الناس، ومن أولئك الإمام علي بن المديني، فقال: خالف أهل المدينة والبصرة والكوفة وأتى بلفظ "النعال" فلاحظ أنه جعلها مخالفةً، وبمثله ذكر يحيى بن معين، والإمام مسلم، وقد نقل هذه النقولات البيهقي في كتابه (السنن الكبرى)، فلاحظ أن المحدثين عبَّروا بالمخالفة.
• تنبيه: إذا فُهم ما تقدم انفتح باب من أبواب العلل قد أغلقه كثيرون لأنهم ساروا على طريقة الفقهاء لا المحدثين، وظنوا أن معنى "منافاة الجمع" أو "المخالفة" أي على وجه لا يُمكن معه الجمع، وقد أخطئوا فليس الأمر كذلك.
وبعد هذا فمبحث زيادة الثقة تتعلق به مسائل:
• المسألة الأولى: صورة المسألة أن يكون الحديث واحدًا، وأن يرويه الثقات على وجه فيُشاركهم ثقة ويرويه على وجه آخر، إما وقفًا أو رفعًا، أو بذكر زيادة، فإذن مبحث زيادة الثقة يُشترط فيه أن يكون الحديث واحدًا، وأن يُشارك الثقة بقية الثقات وينفرد بشيء.
وبعبارة أخرى: أن يكون مخرج الحديث واحدًا، أي أنه لابد أن يتحد المخرج، وقد ذكر هذا ابن رجب في شرح (العلل) وابن عبد الهادي في كتابه (الصارم المنكي)، ومسلم في كتابه (التمييز)، وابن حجر في (النكت)، فلابد أن يكون مخرج الحديث واحدًا.
- المسألة الثانية: زيادة الصحابة بعضهم على بعض ليست داخلة في مبحث زيادة الثقة بل هي مقبولة، ذكر هذا ابن حجر في كتابه (النكت)، وأشار إليه ابن عبد الهادي في كتابه (الصارم المنكي).
• المسألة الثالثة: زيادة الثقة إنما تُبحث فيما إذا زاد الراوي زيادةً يترتب عليها حكم، أي لها معنى وحكم، أما الزيادة التفسيرية أو غير ذلك مما لا يترتب عليها حكم فليست داخلة في مبحث زيادة الثقة، أشار لهذا مسلم في كتابه (التمييز) وذكره المعلمي في الفوائد المجموعة. ويُؤكد ذلك أن جمهور العلماء على جواز رواية الحديث بالمعنى، فدل هذا على أن مبحث زيادة الثقة هو ما يترتب عليه حكم، أما لو روى راويان حديثًا واحدًا بألفاظ مختلفة ولا يترتب عليها حكم فهي من الرواية بالمعنى ولا تُبحث بحث زيادة الثقة.
• المسألة الرابعة: ليس لأئمة هذا الفن وفرسانه قاعدة مطّردة في زيادة الثقة، تارة يقبلونها وتارة يردونها، ويرجعون ذلك إلى القرائن، وقد ذكر هذا جمع كبير من أهل العلم، كابن دقيق العيد، والعلائي، والبقاعي، وابن حجر، وابن رجب، وغيرهم من أهل العلم، فنصوا على أنهم ليس لهم طريقة مطردة، وإنما ينظرون إلى القرائن، لذا من نسب إلى أهل الحديث أنهم يقبلون زيادة الثقة مطلقًا فقد أخطأ، أو من نسب إليهم أنهم يردونها مطلقًا فقد أخطأ، وإنما ينظرون في كل حديث لقرينته، هناك قرائن تدل على القبول أو قرائن تدل على الرد، فيُنظر في القرائن.
• المسألة الخامسة: الأصل في الحديث الواحد -وإن اختلفت ألفاظه- عدم التعدد، ذكر هذا ابن حجر في كتابه (فتح الباري) وهذه فائدة نفيسة، ويدل عليه صنيع المحدثين، أما الفقهاء فيتوسعون ويحملون اختلاف الألفاظ على اختلاف الوقائع، ومن ذلك النووي، فحديث عمر في رواية:«نذرت أن أعتكف ليلة» ، في رواية:«نهارًا» وفي رواية: «يومًا» ، قال النووي: وهذا يدل على تعدد الوقائع. وردَّ هذا العلائي وابن حجر وقالوا: القصة واحدة.
فإذن الأصل إذا كان الحديث واحدًا فإنه لا يدل على تعدد الوقائع، وإنما تكون الواقعة واحدة، ذكر هذا ابن حجر في شرحه على البخاري –كما تقدم-، وذكر نحوًا منه ابن رجب، وهو صنيع العلماء الأولين فإنهم يجعلونه حديثًا واحدًا ثم ينظرون فإذا ترتب على الزيادة حكم شددوا، وقد يقول الراوي: سجد النبي صلى الله عليه وسلم في إحدى صلاتي العشي، وفي بعض الروايات: صلاة العصر.
فهذا لا يترتب عليه حكم، لذلك لا يُشدد فيه، وقوله:«نذرت أن أعتكف ليلة» أو «نهارًا» أو «يومًا» فهذا لا يترتب عليه حكم، أما الذي يترتب عليه حكم هو الذي يُبحث مبحث زيادة الثقة، وكثير من الفقهاء يخطئ في مثل هذا من جهتين:
o الجهة الأولى: يُرجعه إلى تعدد الوقائع، وقد تقدم أن هذا غلط.
o الجهة الثانية: يستنبط منه أحكامًا.
ففي صحيح مسلم: «من توضأ يوم الجمعة ثم أتى
…
» والألفاظ الكثيرة: «من اغتسل» ، فقال بعضهم: هذا يدل على عدم وجوب الاغتسال، وإن كان الاغتسال ليس واجبًا لأدلة أخرى، لكن هذا اللفظ لا يصح أن يُعتمد عليه لأن المخرج واحد، ولابد أن يُرجح بين لفظ الاغتسال أو الوضوء.
أما الفقهاء لا ينتبهون لمثل هذا، وقد ذكر هذا العلائي كما تقدم وعاب على الفقهاء ابن دقيق العيد، وابن تيمية، وابن القيم، وغيرهم من أهل العلم، وقالوا: إن الحديث واحد، فلابد أن يُرجح فيه، ولا يُستنبط من كل حديث حكمًا، بل لابد من الترجيح، وهذا مبحث دقيق ومهم، فإذا كان الحديث واحدًا وزاد بعضهم لفظًا ينبني عليه حكم فيُشدد فيه ويُرجح بين الألفاظ ولا يُستنبط من هذا حكمًا ومن هذا حكمًا.
لذا لما ذكر ابن القيم -رحمه الله تعالى- في كتابه (الهدي) الإسراء والمعراج وأنه جاء ذكره في أكثر من حديث، قال: ذهب ظاهرية الإسناد إلى تعدد الوقائع، قال: والواقعة واحدة. وهذه فائدة نفيسة من ابن القيم -رحمه الله تعالى-.
• المسألة السادسة: تقدم أن مبحث زيادة الثقة إذا كان المخرج واحدًا، ومع ذلك يُوجد في كلام فرسان وأئمة هذا الفن أنهم يُعلون حديثًا بحديث آخر، ولو اختلفت المخارج، فإنه بسعة نظره واطلاعه يعلم أن الحديثين حديث واحد، فيُعل هذا بهذا، وقد يحصل في هذا خلاف بينهم، ومن أمثلة ذلك: أن الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- أعلَّ ما روى مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم أدرك أناسًا من المسلمين فقال: «من أنتم؟» قالوا: المسلمون، قالوا: ومن أنت؟ قال: «أنا رسول الله» صلى الله عليه وسلم، فرفعت إليه امرأة صبيًا وقالت: ألهذا حج؟ قال: «نعم، ولكِ أجر» . أخرجه مسلم من حديث ابن عباس.
أعلَّه البخاري بقول ابن عباس: "أيما صبي حج ثم بلغ الحنث فعليه الحج حجةً أخرى" أعله في كتابه (التاريخ الصغير) وبعضهم يسميه: (التاريخ الأوسط) في مبحث ذكره -رحمه الله تعالى- والمقصود من هذا أنه أعل حديثين لم يتفق
مخرجهما، وقد يصنع هذا أئمة الحديث، وهذا كثير في صنيع الدارقطني وغيره، وقد نبَّه على هذا ابن رجب -رحمه الله تعالى- في شرحه على (العلل)، وهذا مفيد ومبحث نفيس، فقد يُعل حديثان وإن كانا مختلفي المخرج، لكن لا يُقال هذا مبحث زيادة الثقة، وإنما يُعل هذا بذاك، وذكرته استطرادًا حتى لا يختلط بمبحث زيادة الثقة.
• المسألة السابعة: التفرد علة اعتنى بها الأولون، وأعلوا بها كثيرًا، وأغفلها المتأخرون، وقد تكلم على التفرُّد الإمام مسلم في كتابه (التمييز)، وابن رجب في شرح (العلل) ونقلها عن الأئمة الأوائل، وذكره غيرهما من أهل العلم، والتفرد قد يشترك مع زيادة الثقة وقد ينفرد، بمعنى: إذا اشترك الرواة في رواية حديث ثم انفرد أحدهم بزيادة فهذه يُقال لها تفرد ويُقال لها زيادة ثقة، لكن إذا لم يُشاركه غيره وإنما انفرد هو بالحديث كله فهذا مبحث التفرد.
ومن أمثلة ذلك -والله أعلم-: حديث عاصم بن كليب، عن أبيه عن وائل بن حجر، في صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم فإنه قد تفرد بهذا الحديث عاصم بن كليب، ومثله لا يُحتمل تفرده كما بيَّنه الإمام علي بن المديني، لذلك أكثر من ذكر هذه الرواية ابن خزيمة في صحيحه، وذكر شيئًا منها أبو داود وغيره، وقد أعلَّ تفردات عاصم بن كليب الإمام علي بن المديني.
والتفرد علة ينبغي أن يُدقق فيها، فقد ذكر الإمام أحمد أن تفرد الثقة يُشدد فيه، وقال: وقد يُضعَّف ما انفرد به الأئمة الكبار، كالثوري وغيره. نقله ابن رجب في شرح (العلل)، وقد تكلم على هذا بكلام مفيد ابن رجب في شرح (العلل)، فلذلك إذا انفرد عالم بحديث ينبغي أن يُدقق في هذا الحديث، وفي أن تفرد مثله يحتمل وهكذا
…
وهل انفرد عن شيخ هو أكثر ملازمة له أم لا؟ إلى غير ذلك من المعاني، وهذه علة أغفلها المتأخرون غاية الإغفال، واعتنى بها كثيرًا الأولون، وهي مفيدة للغاية في التعامل مع الأحاديث.
وأذكر مثالًا على زيادة الثقة زيادةً على ما تقدم:
روى عاصم بن كليب عن أبيه عن جده صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم ورواه عن عاصم جماعة منهم الثوري، وابن عيينة، وشعبة، وآخرون.
ورواه عن الثوري جماعة، وانفرد عن الثوري مؤملُ بن إسماعيل، وذكر فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم وضع يديه على الصدر في الصلاة، وينفرد بهذا مؤمل بن إسماعيل، وتابعه محمد بن يوسف الفريابي وهو من أوثق الناس في الثوري وآخرون ولم يأت بهذه الزيادة، ثم تابع الثوري جماعة منهم ابن عيينة وشعبة وغيره ولم يأتوا بها، فهذا كله يدل على أن زيادة ذكر وضع اليدين على الصدر منكرة وشاذة ولا تصح؛ لأن مؤمل بن إسماعيل خالف الثقات وأتى بها، زيادةً على انفراد عاصم بن كليب بالحديث على ما تقدم تقريره.
لذا قال ابن المنذر: لم يصح حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في وضع اليدين على الصدر، وقال الإمام أحمد في مسائل أبي داود: أكره وضع اليدين على الصدر.
ومثالٌ ثانٍ: وهو أن حديث وائل بن حجر المتقدم رواه جماعة وممن رواه عن الثوري كما تقدم الفريابي وغيره، لكن الحديث رواه جماعة عن عاصم بن كليب ثم عن عاصم بن كليب رواه جماعة، ثم انفرد عن أحدهم عبد الرزاق الصنعاني، وأتى بزيادة:"قال أشار بأصبعه ثم سجد"، فذهب ابن القيم في كتابه (الهدي) وتبعه شيخنا ابن عثيمين -رحمه الله تعالى- إلى أنه يُستحب الإشارة بالأصبع بين السجدتين، وهذه الزيادة منكرة وشاذة، خالف فيها عبد الرزاق الناس، لذا فقهيًا لا تجد من العلماء من ذكر هذه المسألة إلا ابن القيم ومن تبعه كما بيَّن هذا العلامة الألباني -رحمه الله تعالى-، أما حديثيًا فهي شاذة ومنكرة، ليس عليها عمل العلماء الأولين.
وعلى هذا فقس، فإن هناك أمثلة كثيرة ينبغي أن تُدرس وأن تُضبط، فهذا المبحث مبحث زيادة الثقة تنبني عليه مسائل كثيرة، ومن أهم مباحثها ما تقدم ذكره من المسائل، وأهم هذه المسائل أن يُعرف معنى المخالفة والمنافاة عند الأولين من المحدثين لا الفقهاء.
قوله: (فَإِنْ خُولِفَ بِأَرْجَحَ فَالرَّاجِحُ الْمَحْفُوظُ، وَمُقَابِلُهُ الشَّاذُّ. وَمَعَ الضَّعْفِ فَالرَّاجِحُ الْمَعْرُوفُ، وَمُقَابِلُهُ الْمُنْكَرُ) قسَّم الحافظ ابن حجر -رحمه الله تعالى- المخالفة إلى قسمين:
• القسم الأول: مخالفة الثقة لمن هو أوثق منه، إما عددًا أو حفظًا، فإذا خالف الثقة من هو أوثق منه إما عددًا أو حفظًا تكون رواية الثقة مردودة وتسمى شاذة، ويُقابله رواية الثقات أو الأوثق ويُقال عنها محفوظ، فالمردود يقال عنه شاذ، والمقبول يسمى محفوظًا.
- القسم الثاني: يخالف الضعيف الثقة، فقد جعل حديث الضعيف مردودًا أولًا لضعفه وثانيًا لمخالفته وسماه منكرًا، وجعل رواية الثقة مقبولة وتسمى معروفًا، يُقال: المنكر ويُقابله المعروف.
وقد ذكر ابن قطلوبغا في شرحه على (نخبة الفكر) أن طريقة العلماء الأولين على خلاف هذا، وقد صدق -رحمه الله تعالى- فإن الأولين يطلقون المحفوظ أكثر من إطلاقهم للمعروف، لكن يُطلقون المحفوظ في مقابل الخطأ، أي قد يُخالف الضعيف غيره من الضعفاء، لكن غيره أوثق منه فيقال: طريق الأوثق معروف، وإن كان مردودًا، وقد يُقال: محفوظ، وإن كان مردودًا.
• تنبيه: قد يقول المحدثون: هذا الطريق صحيح، وليس معناه أنه ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما ليس خطأً، وقد يُعبرون عنه بقولهم محفوظ أو معروف، وليس مرادهم أنه صحيح وثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما مرادهم أنه ليس خطأً كالطريق الآخر.
وإذا قلبت كتب العلل تراهم يقولون: والمحفوظ عن فلان
…
والصحيح عن فلان، ولا يعنون بذلك أنه الثابت، وإنما هذا الوجه الصواب والذي يُقابله وجه خطأ، ثم يبحث في الوجه الصواب صحة وضعفًا ويُعبر عن الوجه الصواب الذي يُقابل الخطأ بالمعروف ويُقال عنه محفوظ ويُقال عنه صحيح، ويكثر في قولهم: الصحيح عن فلان، والمعروف والمحفوظ عن فلان، ويُوجد في كلامهم المعروف، لكنه أقل استعمالًا.
فإذن لا يُفرقون بين مخالفة الثقة لمن هو أوثق أو مخالفة الضعيف للثقات خلافًا لما ذكره الحافظ ابن حجر، ويؤيد ذلك أنه روى أبو داود من حديث همام بن يحيى، عن ابن جريج، عن الزهري، عن أنس، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل الخلاء وضع خاتمه، قال أبو داود: هذا حديث منكر، خالف همام
…
إلخ.
وهمام بن يحيى ثقة، ومع ذلك عبَّر بقوله: منكر. فإذن كل خطأ يُقال عنه منكر، سواء من ثقة أو من ضعيف، أي كل مخالفة مردودة على طريقة المحدثين يُقال عنها منكر، سواء كانت من ثقة أو من ضعيف، وسواء كان يُقابل الثقات أو الضعفاء.
وهذا ينفعنا فيما سيأتي ذكره في الشواهد والمتابعات -إن شاء الله تعالى-.