الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قوله: (وَ
الْفَرْدُ النِّسْبِيُّ:
إِنْ وَافَقَهُ غَيْرُهُ فَهُوَ الْمُتَابِعُ، وَإِنْ وُجِدَ مَتْنٌ يُشْبِهُهُ فَهُوَ الشَّاهِدُ.
وَتَتَبُّعُ الطُّرُقِ لِذَلِكَ هُوَ الِاعْتِبَارُ) ذكر الحافظ -رحمه الله تعالى- اصطلاحات ثلاثة: الشاهد، والمتابع، والتتبع.
والمراد بالمتابع: أي إذا روى راوٍ حديثًا فوجدت راويًا آخر يوافق هذا الراوي يسمى متابِعًا، وإذا روى راوٍ حديثًا متنًا ووجدت متنًا آخر يوافق هذا المتن يسمى شاهدًا، فإذن الشواهد في المتون والمتابع في الرواة، والاعتبار هو البحث عن الشواهد والمتابعات.
فقوله: (وَالْفَرْدُ النِّسْبِيُّ) أي الفرد النسبي انفرد به عن إمام
…
إلخ كما تقدم بيانه، والأصوب -والله أعلم- أن يُقال: مطلق الفردية، أيُّ تفرد وجدت له متابِعًا فيقال: متابِع، أو المتن يشهد له يُقال له شاهد، ولو كان تفردًا مطلقًا -أي تامًا- لأنه قد يظن عالمٌ أنه من باب التفرد الفرد المطلق، لكن بالبحث تجد له متابعًا، فيتبيَّن أنه ليس فردًا مطلقًا، بمعنى: أنه قد ينفرد تابعي عن صحابي بحديث، فيُظن أنه من الفرد المطلق، لكن بعد البحث يتبيَّن أن له متابِعًا، فإذن هذا أشمل من أن يُقال في الفرد النسبي أو المطلق.
وفرَّق الحافظ بين المتابِع والشاهد، وفي استعمال الأولين لا يُفرقون بين هذين الأمرين، فاستعمالهم إلى المعنى اللغوي أقرب منه من المعنى الاصطلاحي، فالأمر عندهم واسع في إطلاق المتابعة وفي إطلاق الشواهد.
ثم من أهم مباحث علم الحديث: دراسة متى يتقوى الحديث بالشواهد والمتابعات، ومتى لا يتقوى؟ وتأصيل هذه المسألة ما تقدم ذكره، أن تقوية الحديث بغيره قد دل عليه الكتاب والإجماع وصنيع أئمة الحديث، قال الله سبحانه:{أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى} [البقرة: 282] واستدل بهذا ابن تيمية كما في (مجموع الفتاوى)، وقد حكى ابن تيمية كما في (تلخيص الاستغاثة) الإجماع على أن الحديث يتقوى بالشواهد والمتابعات، ومثله الألباني في كتابه (تحريم آلات اللهو والطرب)، وأما صنيع المحدثين فقد نص على هذا الإمام أحمد وغيره من أهل الحديث، وكلامهم كثير في هذا، وقد بيَّن هذا ابن رجب وغيره، أن الحديث يتقوى بغيره، وهذا تأصيلًا لا إشكال فيه، الإشكال في التطبيق.
ويتعلق بتقوية الحديث بالشواهد والمتابعات مسائل:
• المسألة الأولى: أن ما كان ضعفه شديدًا لا يتقوَّى بالشواهد والمتابعات، ذكر هذا ابن الصلاح، وذكره غيره، فمن كان ضعفه شديدًا لا يتقوى، وممن ذكر هذا
تأصيلًا ابن حجر في (النكت)، فرواية الكذاب لا تتقوى، ورواية الشاذ كما قال ابن الصلاح لا تتقوى، وسيأتي بيانها أكثر -إن شاء الله تعالى-.
بل أحيانًا كثرة الطرق لا تزيد الحديث إلا وهنًا، كما قال ابن القيم في كتابه (جلاء الأفهام)، وذكره المعلمي -رحمه الله تعالى- في مقدمة (الفوائد المجموعة) أن كثرة الطرق قد لا تزيد الحديث إلا ضعفًا، ثم ذكر أن المتأخرين تساهلوا في تقوية الحديث بكثرة الطرق، وذكر نحوًا من هذا أحمد شاكر في كتابه (الباعث الحثيث)، بل إن السيوطي -وهو من المتأخرين المتساهلين كما يقول الألباني- صرَّح أن رواية الكذاب تتقوى إذا كثرت الطرق، كما في (تدريب الراوي)، وهذا خطأ، وهي خلاف طريقة الأولين.
• المسألة الثانية: الحديث الذي يُراد تقويته بكثرة الطرق إذا خالف ما هو أقوى منه فلا يتقوَّى، ذكر هذا البيهقي فيما نقله السخاوي في كتابه (فتح المغيث)، فإذن كثرة الطرق إذا خالفت ما هو أقوى لا يتقوى.
• المسألة الثالثة: كثرة الطرق إذا خالفت فتاوى الصحابة فإنها لا تتقوى، وقد أشار إلى هذا الإمام أحمد في الوضوء بفضل المرأة، وهذا قد يُفرَّع عما قبله وقد يستقل بمسألة، فإن الصحابة إذا أفتوا بفتاوى ثم جاء حديث يُراد تقويته بطرق ونتيجته يُخالف فتاوى الصحابة فإنه لا يتقوى، لأن فتاوى الصحابة حجة.
• المسألة الرابعة: قال الإمام أحمد: المنكر منكرٌ أبدًا. وهذا من النفائس والدقائق في تقوية الحديث بمجموع الطرق، فكل حديث يتبيَّن فيه أن الراوي أخطأ فيه بأن يكون ثقة خالف من هو أوثق منه إما حفظًا أو عددًا، أو الضعيف يُخالف من هو أوثق منه؛ فإنه ساقط ولا يقوى ولا يتقوَّى لأنه وهم.
ولا أحصي عددًا من صنيع كثير من العلماء المتأخرين أنهم لا ينتبهون لمثل هذا، وقد يكون الراوي خالف الثقات ثم يأتون بهذه الزيادة التي هي خطأ ثم يقوُّون بها حديثًا آخر، وهذا لا يصح؛ لأن المنكر منكرٌ أبدًا كما قال الإمام أحمد، لذا قال ابن الصلاح: ومما لا يتقوى الشاذ، لأن الشاذ خطأ كما تقدم بيانه.
• المسألة الخامسة: النظر لتقوِّي الحديث بحديث آخر
…
إلخ، ليس له ضابط مطرد، كما بيَّن هذا ابن الصلاح، وقال في كتابه (معرفة علوم الحديث) وهي مقدمة ابن الصلاح المعروفة، قال: وإنما يُعرف بكثرة المِراس. فقد تدل القرائن أحيانًا على عدم التقوِّي، فلا يُقوى.
ومن أمثلة ذلك: «لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه» ، قال أحمد: لا يثبت فيه حديث. هذا الحديث لو جاء بمجموع طرق، ولو أُثبتت هذه الأحاديث لدلَّ على أن التسمية شرط، ويرد هذا أن عثمان بن عفان في الصحيحين، وعبد الله بن زيد بن عاصم في الصحيحين، وابن عباس في البخاري، رووا صفة وضوء النبي صلى الله عليه وسلم مفصلة، لاسيما عثمان، ولم يذكروا قول:"بسم الله"، فدل هذا على أن هذه الطرق لا يُقوِّي بعضها بعضًا، فإنها لو صحَّت لدلت على أن قول "بسم الله" شرط، وكيف تكون شرطًا ولم يذكرها هؤلاء وغيرهم؟ وهم قد ذكروا صفة وضوء النبي صلى الله عليه وسلم تفصيلًا؟
إذن لابد أن يُنظر في القرائن في تقوية الحديث بمجموع الطرق، وهذا إنما يحصل بكثرة المراس كما بيَّنه ابن الصلاح -رحمه الله تعالى-.
وذكر ابن حجر -رحمه الله تعالى- في الشرح أن المتابعة قد تكون قاصرة وقد تكون تامة، بمعنى: أن الراوي الذي أتى بحكم وبعد الاعتبار وُجد راوي آخر يُتابعه، فيقال: متابعة تامة، أما إذا وُجد راوي آخر يُتابع شيخه ولا يُتابعه، فيُقال: متابعة قاصرة.
قال الحافظ ابن حجر -رحمه الله تعالى-:
ثُمَّ الْمَقْبُولُ: إِنْ سَلِمَ مِنَ الْمُعَارَضَةِ فَهُوَ الْمُحْكَمُ. وَإِنْ عُورِضَ بِمِثْلِهِ: فَإِنْ أَمْكَنَ الْجَمْعُ فَمُخْتَلِفُ الْحَدِيثِ. وَإِنْ ثَبَتَ الْمُتَأَخِّرُ فَهُوَ النَّاسِخُ، وَالْآخَرُ الْمَنْسُوخُ، وَإِلَّا فَالتَّرْجِيحُ، ثُمَّ التَّوَقُّفُ.
ثُمَّ الْمَرْدُودُ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ لِسَقْطٍ أَوْ طَعْنٍ:
فَالسَّقْطُ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ مَبَادِئِ السَّنَدِ مِنْ مُصَنِّفٍ، أَوْ مِنْ آخِرِهِ بَعْدَ التَّابِعِيِّ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ.
فَالْأَوَّلُ: الْمُعَلَّقُ. وَالثَّانِي: الْمُرْسَلُ. وَالثَّالِثُ: إِنْ كَانَ بِاثْنَيْنِ فَصَاعِدًا مَعَ التَّوَالِي فَهُوَ الْمُعْضَلُ، وَإِلَّا فَالْمُنْقَطِعُ.
ثُمَّ قَدْ يَكُونُ وَاضِحًا أَوْ خَفِيًّا. فَالْأَوَّلُ: يُدْرَكُ بِعَدَمِ التَّلَاقِي، وَمِنْ ثَمَّ احْتِيجَ إِلَى التَّأْرِيخِ.
وَالثَّانِي: الْمُدَلَّسُ وَيَرِدُ بِصِيغَةِ تَحْتَمِلُ اللَّقْيَ: كَعَنْ، وَقَالَ، وَكَذَا الْمُرْسَلُ الْخَفِيُّ مِنْ مُعَاصِرٍ لَمْ يَلْقَ.
قوله: (ثُمَّ الْمَقْبُولُ: إِنْ سَلِمَ مِنَ الْمُعَارَضَةِ فَهُوَ الْمُحْكَمُ. وَإِنْ عُورِضَ بِمِثْلِهِ: فَإِنْ أَمْكَنَ الْجَمْعُ فَمُخْتَلِفُ الْحَدِيثِ. وَإِنْ ثَبَتَ الْمُتَأَخِّرُ فَهُوَ النَّاسِخُ، وَالْآخَرُ الْمَنْسُوخُ، وَإِلَّا فَالتَّرْجِيحُ، ثُمَّ التَّوَقُّفُ) يظهر لي -والله أعلم- أنه لا يصح أن يُبحث هذا في علم الحديث، لأنه يتعلق بالدراية، ومصطلح الحديث يتعلق بالرواية، فمثل هذا لا ينبغي أن يُبحث في كتب مصطلح الحديث وإنما يُبحث في كتب أصول الفقه.
والأمر الآخر: جعل ابن حجر -رحمه الله تعالى- مختلف الحديث هو إذا لم يمكن الجمع، فمعنى هذا إذا أمكن الجمع لا يُبحث مبحث مختلف الحديث، وهذا فيه نظر، وقد خالفه ابن الصلاح وبيَّن أن مختلف الحديث شامل لما أمكن الجمع ولما لم يُمكن الجمع، ويدل عليه صنيع الإمام الشافعي في مختلف الحديث، وابن قتيبة في كتابه (تأويل مختلف الحديث) والطحاوي في (شرح مشكل الحديث) إلخ.
فإن صنيع العلماء يدل على أنهم أوردوا في كتب مختلف الحديث ما أمكن الجمع وما لم يمكن الجمع، أما الحافظ فظاهر صنيعه أنه خصه بما يمكن الجمع.
قوله: (ثُمَّ الْمَرْدُودُ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ لِسَقْطٍ أَوْ طَعْنٍ) انتهى المصنف -رحمه الله تعالى- من المقبول وانتقل إلى المردود، وبيَّن أن الرد يكون إما لسقط أو طعن، أي يرجع إلى أمرين، إما السقط أو الطعن.
وقد يُقال -والله أعلم-: أن الرد يرجع إلى أمور ثلاثة:
• الأمر الأول: السقط، أي الانقطاع.
• الأمر الثاني: الطعن، أي الضعف في الراوي.
• الأمر الثالث: المُخالفة، فإن الثقة قد يُرد حديثه وهو لا يُطعن فيه لوجود المخالفة.
والحافظ ذكر المخالفة لكنه أدخلها في الطعن، والأمر سهل في هذا، ولو قيل بالأسباب الثلاثة لكان أصح -والله أعلم- لأن المخالفة قد تكون من الثقة الذي لا يُطعن في حفظه.
قوله: (فَالسَّقْطُ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ مَبَادِئِ السَّنَدِ مِنْ مُصَنِّفٍ، أَوْ مِنْ آخِرِهِ بَعْدَ التَّابِعِيِّ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ فَالْأَوَّلُ: الْمُعَلَّقُ. وَالثَّانِي: الْمُرْسَلُ. وَالثَّالِثُ: إِنْ كَانَ بِاثْنَيْنِ فَصَاعِدًا مَعَ التَّوَالِي فَهُوَ الْمُعْضَلُ، وَإِلَّا فَالْمُنْقَطِعُ) ذكر الحافظ -رحمه الله تعالى- أن السقط -أي الانقطاع- له أحوال، الحال الأولى أن يكون من شيخ المصنف ويسمى المعلق، فإذن المصنف كالبخاري أو أبي داود أو مسلم أو غيرهم، إذا روى حديثًا ولم يذكر شيخه وإنما ذكر شيخ شيخه، أو شيخ شيخ شيخه، لكنه لم يذكر شيخه، فهنا الانقطاع من مبادئ السند من المصنف فيسمى معلقًا.
وقد يكون الانقطاع من آخر السند، أي قبل النبي صلى الله عليه وسلم أي من الصحابي بأن يرويه التابعي عن الصحابي، فيسمى مرسلًا، وقد يكون الانقطاع في أي جهة في الإسناد غير مبادئ السند وغير منتهى السند، ويسمى منقطعًا، وقد يكون الانقطاع لانقطاع اثنين على التوالي فيسمى معضلًا، هذا ملخص ما أورده الحافظ.
وأقرب ذلك بالأرقام: لنفرض أن شيخ المصنف رقمه واحد، يروي عن رقم اثنين عن رقم ثلاثة عن رقم أربعة عن رقم خمسة وهو الصحابي، عن النبي صلى الله عليه وسلم.
فلو قدر أسقط رقم واحد يسمى معلقًا، ولو أسقط رقم خمسة الصحابي وروى التابعي عن النبي صلى الله عليه وسلم يسمى مرسلًا، ولو أسقط في أثناء الإسناد كرقم ثلاثة فقط يسمى منقطعًا، ولو أسقط اثنين على التوالي، أي رقم اثنين ورقم ثلاثة يسمى معضلًا.
وقد يُسقط رقم واحد واثنين ويُسمى معلقًا، وقد يُسقط رقم واحد واثنين وثلاثة ويسمى معلقًا، لأن شيخ المصنف سقط، ولأن فيه سقطين فيسمى معضلًا، فيقال معلق ومعضل.
وقد يسقط الإسناد كله فيقول: قال النبي صلى الله عليه وسلم. فيُقال: معلق أسقط شيخه، ويُقال مرسل أسقط الصحابي، ويُقال معضل، وعلى هذا فقس، هذا ما قرره الحافظ -رحمه الله تعالى- وهو المشهور عند علماء المصطلح.
وبعد هذا نرجع إلى المتن ونأخذ بعض المسائل المتعلقة به، فقوله:(ثُمَّ الْمَرْدُودُ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ لِسَقْطٍ أَوْ طَعْنٍ) السقط: الانقطاع، والطعن: الضعف، وسيأتي الكلام عليه، فالسقط -وهو الانقطاع- ضعيف عند أهل العلم لأن الواسطة مجهولة كما قال ابن عبد البر في أوائل كتابه (التمهيد) لما تكلم عن المرسل، قال: وهو ضعيف عند أهل العلم لأن الواسطة مجهولة ولا تعلم.
وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم تُعامل معاملة الاحتياط خشية أن يكون الواسطة ضعيفًا، هذا سبب رد العلماء للانقطاع.
لما ذكر الإمام مسلم الحديث المرسل -وهو فيه انقطاع من جهة إسقاط التابعي للصحابي- ذكر أن علماء الحديث على رده، كما ذكر في مقدمة صحيح مسلم، والسبب الجهالة كما تقدم، لأنه لا يُدرى من الذي أُسقط.
إذن الأصل في الانقطاع الرد، لكن قد تدل القرينة على قبول الانقطاع وإن كان الأصل الرد، وقد تكون القرينة إسنادية أو متنية، أما القرينة المتنية فقد روى البخاري من حديث حنظلة بن أبي سفيان عن سالم بن عبد الله بن عمر، أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا على سهيل بن عمرو، والحارث بن هشام. في هذه الرواية سمى المدعويين، والرواية الموصولة في البخاري عن ابن عمر لم يسم المدعويين، وهذه الرواية مرسلة؛ لأنها من رواية حنظلة بن أبي سفيان، عن سالم بن عبد الله بن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم.
ومع ذلك تساهل البخاري وأورد هذه الرواية المرسلة، لأنه لا ينبني عليها حكم، والرواية الموصولة في الصحيحين يدعو على فلان وفلان ولم يسمهم، وفي هذه الرواية سماهم، وهذا لا ينبني عليه حكم، فنزل قوله تعالى:{لَيْسَ لَكَ مِنْ الأَمْرِ شَيْءٌ} [آل عمران: 128] إلى آخر الحديث.
ومن القرائن المتنية: ما روى مالك في الموطأ وأبو داود وغيرهما عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف، عن النبي صلى الله عليه وسلم أن رجلًا نبط أباه -أي أصاب أباه بعين- والحديث مرسل، لأن أبا أمامة بن سهل تابعي ولم يُدرك النبي صلى الله عليه وسلم-فلم يدرك القصة ومع ذلك أخرجه مالك في الموطأ، والأصل فيما يُخرجه مالك في الموطأ أنه حجة، وهذا الحديث كذلك، والسبب في التساهل فيه أن هذه قصة تتعلق بأهله، فمثلها يشتهر بين أهله، فتساهلوا فيها، وهذه قرينة أخرى متنية.
أما القرينة الإسنادية فهي رواية أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود عن أبيه، رواية أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود عن أبيه روايةٌ منقطعة، فإن أبا عبيدة لم يُدرك أباه عبد الله بن مسعود، وقد نص على الانقطاع علي بن المديني، والنسائي، والترمذي، وغيرهم من أهل العلم، ومع ذلك أجمعوا على قبولها، حكى الإجماع يعقوب بن شيبة، قال: درسها أهل العلم فرأوها مستقيمة، وذكر نحوًا من هذا ابن تيمية كما في (مجموع الفتاوى)، وقرر هذا ابن رجب في شرح (العلل).
وسبب قبولهم لها أنهم رأوا أن روايته مستقيمة، ويؤيد ذلك أنها رواية ابن عن أبيه، فتساهلوا في هذه القرينة، فلذلك العلماء على قبول رواية أبي عبيدة عن أبيه، وإن كانوا يُصرحون بالانقطاع، وهذه قرينة إسنادية.
ومن الأحاديث التي رُويت من هذا الطريق: ما رواه الترمذي والنسائي وأبو داود من حديث أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود، عن أبيه، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا جلس في التشهد الأول فكأنما يجلس على الرضف -أي من العجلة- ثم يقوم.
والرضف: الحجر المحمي بالنار، فيدل هذا على الاستعجال في التشهد الأول وعدم الإطالة، وقد قال الترمذي بعد أن رواه: والعمل على هذا عند أهل العلم. قال ابن رجب: وقول الترمذي: والعمل على هذا عند أهل العلم، إشعار بالإجماع في المسألة. ذكر هذا في مسألة أخرى في شرحه على البخاري.
فإذن أهل العلم على عدم الإطالة في التشهد الأول، بخلاف التشهد الثاني، فالمقصود أن هذه قرينة إسنادية تساهلوا بها، وإلا الأصل ألا تُقبل، وهذا مبحث مهم، فأهل الحديث ينظرون إلى القرائن ويعتنون بذلك، ومن كلمات العلامة الكبير المجدد محمد ناصر الدين الألباني -رحمه الله تعالى- أنه قال: وعلم الحديث ليس (واحد زائد واحد يساوي اثنين)، وإنما يُنظر فيه إلى القرائن.
قوله: (الْمُعَلَّقُ) ممن اشتهر بتعليق الأحاديث أبو داود في سننه وأكثر من ذلك، وممن اشتهر بالتعليق أيضًا الإمام البخاري، وله طريقة، وذلك أنه يُعلق الحديث هو وغيره لكن اشتهر كلام أهل العلم على البخاري وخصوا الكلام عليه لعنايتهم ودراستهم له، وقالوا: معلقات البخاري قسمان:
• القسم الأول: بصيغة التمريض، كأن يقول البخاري: يُذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم، أو: يُذكر عن ابن عباس.
• القسم الثاني: بصيغة الجزم، فقد يقول: قال النبي صلى الله عليه وسلم، قال صلة، قال عمار
…
إلخ.
أما ما جزم به فهو صحيح إلى من جزم به، فإذا قال: قال صلة، قال عمار، فإذن صحيح إلى صلة، أما ما بعد صلة فتنظر في الإسناد، فإذا جزم به عن النبي صلى الله عليه وسلم فهو صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أما إذا علقه البخاري بقوله: يُذكر
…
إلخ، قال ابن حجر في (النكت): إن كان حديثًا عن النبي صلى الله عليه وسلم وساقه مساق الاحتجاج فهو إما أن يكون صحيحًا أو حسنًا أو ضعيفًا ينجبر بغيره.
أما معلقات الإمام مسلم فهي قليلة، وكلها وصلها إلا حديثًا واحدًا وهو حديث أبي جهم، الذي فيه إماطة القرام، وإلا كل أحاديثه المعلقة وصلها -رحمه الله تعالى-، وكذلك ممن اشتهر بالتعليق أبو داود كما تقدم.
قوله: (وَالثَّانِي: الْمُرْسَلُ) فالمرسل على طريقة أهل الحديث مردود كما تقدم في كلام الإمام مسلم في مقدمة صحيحه، ويدل عليه كلام غيره، هذا بالنظر إلى الإسناد روايةً فهو مردود، لأن الواسطة مجهولة كما تقدم في كلام ابن عبد البر، أما من جهة الدراية فإنهم يقبلون المرسل بالنظر لأمور أخر، بالنظر للشواهد والمتابعات، وبالنظر إلى أنه لم يأت بحكم جديد فيُسهل فيه، إلخ، كما بيَّن هذا النووي -رحمه الله تعالى- في شرحه على
مسلم، وابن رجب في شرح (العلل) وقال: قال ابن جرير: ورد المرسل بدعة حصلت بعد المائتين. ومراده: رده من جهة الدراية والاحتجاج لا من جهة الرواية، أما من جهة الدراية والاحتجاج فلا يُرد مطلقًا، بل يُنظر فيه كما بيَّن ذلك الشافعي في كتابه (الرسالة)، وشرح هذا ابن عبد الهادي في كتابه (الصارم المنكي)، وابن رجب في شرح (العلل).
فإذن بالنظر إلى الرواية فهو مردود، وبالنظر للدراية فلا يُرد مطلقًا، بل يُنظر لنوع المرسل، وهل له شواهد أو ليس له شواهد، وهل أتى بحكم جديد أم لا؟
…
إلخ.
ثم ينبغي أن يُعلم أن مراسيل الصحابة مقبولة بالإجماع كما بيَّنه ابن حجر وغيره، إلا أنهم لا يقبلون مراسيل صغار الصحابة، أي الذين رأوا النبي صلى الله عليه وسلم وكانوا صغارًا ولم يرووا عنه، كطارق بن شهاب ونحوه، نص على هذا الحافظ ابن حجر في كتابه (الإصابة) وكتاب (النكت).
فقول العلماء إن مراسيل الصحابة مقبولة: أي من يصلح للتحمل، أما من لا يصلح للتحمل لصغره فإن مراسيله لا تُقبل، وينبغي أن يُفصل في هذا حتى لا يُظن أن قولهم بأن مراسيل الصحابة مقبولة شاملة حتى لمن لا يصلح منه التحمل، كطارق بن شهاب ونحوه.
قوله: (إِنْ كَانَ بِاثْنَيْنِ فَصَاعِدًا مَعَ التَّوَالِي فَهُوَ الْمُعْضَلُ، وَإِلَّا فَالْمُنْقَطِعُ) صنيع العلماء الماضين أنهم يطلقون المرسل على أي انقطاع، سواء كان على المعلق وعلى المنقطع بالمعنى عند علماء المصطلح، وعلى المرسل بمعناه عندهم، فأي انقطاع يسمونه مرسلًا، كما يدل على هذا كتاب ابن أبي حاتم في المراسيل، وكتاب أبي داود في المراسيل، وذكر هذا جمع من أهل العلم كالسخاوي وغيره، أنهم يطلقون المرسل على أي انقطاع، ولا يخصونه بالانقطاع بسقوط الصحابي ورواية التابعي كما تقدم، وكذلك الانقطاع يُطلق على أي انقطاع ولو كان على التوالي.
وقولهم: المعضل، يُطلق على انقطاع اثنين على التوالي، وأيضًا يطلقون المعضل على المعضل في فهمه من جهة المتن.
قوله: (ثُمَّ قَدْ يَكُونُ وَاضِحًا أَوْ خَفِيًّا. فَالْأَوَّلُ: يُدْرَكُ بِعَدَمِ التَّلَاقِي، وَمِنْ ثَمَّ احْتِيجَ إِلَى التَّأْرِيخِ. وَالثَّانِي: الْمُدَلَّسُ وَيَرِدُ بِصِيغَةِ تَحْتَمِلُ اللَّقْيَ: كَعَنْ، وَقَالَ، وَكَذَا الْمُرْسَلُ الْخَفِيُّ
مِنْ مُعَاصِرٍ لَمْ يَلْقَ) هذه مباحث دقيقة، فقوله:(قَدْ يَكُونُ وَاضِحًا أَوْ خَفِيًّا. فَالْأَوَّلُ: يُدْرَكُ بِعَدَمِ التَّلَاقِي) بأن يروي تابعي عن النبي صلى الله عليه وسلم كأبي العالية أو عطاء، أو الحسن، أو غيرهم، فيُعلم بالتاريخ بعدم التلاقي، أن هذا مُرسل.
وقوله: (وَمِنْ ثَمَّ احْتِيجَ إِلَى التَّأْرِيخِ) بأن يُنظر في تاريخ ولادة هذا وفي تاريخ موت هذا، وهكذا فيمن دون ذلك من رواية راوٍ عن راوٍ آخر، وعلى هذا فقس، فإذن الأول الذي يكون واضحًا يُدرك بعدم التلاقي، وهذا معروف عند المحدثين، بخلاف غيرهم.
قوله: (وَالثَّانِي
…
) أي الخفي، والخفي يُطلق على نوعين: على المدلس، وعلى المرسل الخفي، والفرق بين المدلس والمرسل الخفي: على ما قرر الحافظ -رحمه الله تعالى- أن المدلس قد روى عن شيخه أحاديث سمعها وأوهم أنه يروي عنه أحاديث أخرى لم يسمعها، وأتى بصيغة غير صريحة في التحديث، كما روى الإمام مسلم من حديث الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة: «ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله
…
» الحديث.
قال الترمذي: قال الأعمش: حُدثت عن أبي صالح. فدل هذا على أن الأعمش لم يسمعه من أبي صالح، وفي صحيح مسلم قال:"عن" ولم يأت بصيغة صريحة في السماع، والأعمش سمع من أبي صالح أحاديث، لكن هذا الحديث لم يسمعه، فيُقال عنه مدلس، إذن المدلس سمع من شيخه أحاديث وأوهم أنه سمع منه أحاديث أخرى، بشرط أن تكون الصيغة ليست صريحة في السماع، لأنها لو كانت صريحة في السماع ولم يسمعها لكان كذابًا.
والمرسل الخفي هو الذي يروي عن راوٍ قد أدركه وعاصره، لكن لم يسمع منه، فروى عنه بصيغة تحتمل السماع وليست صريحة، فإذن الفرق بين المرسل الخفي والمدلس: أن المدلس قد سمع أحاديث وأوهم أنه سمع أحاديث أخرى لم يسمعها، أما المرسل إرسالًا خفيًا فهو لم يسمع شيئًا لكن يمكنه أن يسمع، وكلاهما أتيا بصيغة تحتمل السماع وليست صريحة.
قوله: (
…
مِنْ مُعَاصِرٍ لَمْ يَلْقَ) أي بإمكانه أن يلقاه، ولاحظ قوله:(كَعَنْ، وَقَالَ) لأنها ليست صريحة في السماع، هذا هو الفرق بين المدلس والمُرسل إرسالًا خفيًا، أو المُدلَّس والمرسل إرسالًا خفيًا، وهذا على طريقة الحافظ، وسبقه إلى ذلك البزار، وابن القطان الفاسي، قال العراقي في (التقييد والإيضاح): وطريقة المحدثين على خلاف صنيع البزار
وابن القطان الفاسي، وهو أنهم يُطلقون على المُرسِل إرسالًا خفيًا مُدلسًا، والجامع له المعنى اللغوي وهو التدليس، أن فيه تدليسًا، وهذا ما يُستفاد من كلام الخطيب في كتابه (الكفاية) وابن الصلاح في مقدمته.
فالذي يظهر -والله أعلم- أن العلماء يصفون من يُرسل إرسالًا خفيًا بأنه مدلس، لكن قد لا يصفونه وقد يصفونه، والجامع التدليس، وهو شامل للإرسال الخفي وشامل للتدليس المعروف.
وترد مسائل مهمة في التدليس:
• المسألة الأولى: حكم التدليس، حكمه من حيث الأصل جائز، لأنه ليس صريحًا في الكذب وإنما هو تورية، وإن كان الأفضل ألا يفعل، لكنه من حيث الأصل جائز، لأنه ليس كذبًا، وهو استعمال قد شاع بين المحدثين، فهو جائز وهذا هو الشائع عند أهل العلم، خلافًا لمن شدد فيه ورعًا أو رأى حرمته.
• المسألة الثانية: التدليس من حيث الجملة نوعان:
o النوع الأول: تدليس شيوخ، وتدليس إسناد، والمراد بتدليس الشيوخ: يروي عن شيخه بأسماء وألقاب وكنًى مختلفة يُوهم أنه أكثر من شيخ وهو شيخ واحد، وله دوافع وأسباب.
o النوع الثاني: تدليس الإسناد، وهو أن يُوهم سماعه من هذا الشيخ وهو لم يسمع منه، كما تقدم في قول الأعمش: حُدثت عن أبي صالح، وفي صحيح مسلم: عن أبي صالح.
وأكثر البحث في كتب الحديث والمصطلح هو تدليس الإسناد، لأنه ينبني عليه الصحة والضعف، ويبحثون تدليس الشيوخ ليُميز الراوي، لكن البحث الكثير هو التدليس في الإسناد.
• المسألة الثالثة: ليس كل مدلس تُرد روايته إذا لم يأت بلفظ صريح في السماع، وإنما تُرد رواية من كثر تدليسه وغلب في حديثه بالنسبة إلى رواياته، فقد يكون كثير الرواية كأبي إسحاق، وقد يُدلس كثيرًا لكنه قليل بالنسبة إلى رواياته، ومثل ذلك الأعمش، تدليسه كثير لكن قليل بالنسبة إلى رواياته، ذكر هذا علي بن المديني، قال: تُرد رواية المدلس إذا أكثر. رواه عنه الخطيب البغدادي، ونقله ابن حجر في (النكت).
وقال أبو حاتم في (العلل) لما ذكر رواية الأعمش عن مجاهد، قال: أخشى أنه لم يسمعه منه، لأنه قليل الرواية عنه. فلاحظ نظر إلى القلة والكثرة، لكن هنا القلة في رواياته كلها وإنما في روايته عن هذا المعين.
فإذن إذا كان الراوي يُدلس لا يُرد حديثه مطلقًا، وإنما يُرد إذا كثُر تدليسه بالنسبة إلى رواياته، فروى حديثًا محتملًا للسماع فإنه يُرد، وذكر يعقوب الفسوي أن رواية الأعمش وأبي إسحاق السبيعي والثوري صحيحة، وذلك -والله أعلم- لأن تدليسهم قليل بالنسبة إلى رواياتهم.
فإن قلت: كيف أميز من كان تدليسه قليلًا بالنسبة إلى روايته أو كثيرًا؟
يُقال: بأمور، فأحيانًا يُصرح العلماء أنفسهم، فإذا صرحوا رُدَّ كما صرح أحمد في ابن جريج، وكما صرح غيره في محمد بن إسحاق صاحب السير والمغازي، وعلى هذا فقس، فيصرحون أنه إذا أتى بصيغة غير صريحة في السماع لا تُقبل، وتارة يُعرف هذا بالنظر إلى صنيع صاحب الشيخين البخاري ومسلم، كثيرًا ما يروون إذا أكثروا الرواية عن راوي موصوف بالتدليس بلفظ غير صريح بالسماع وتبيَّن بالبحث أو بنص العلماء أنه لم يُصرح بالسماع في مواضع أخر، فيدل على أن تدليسه قليل بالنسبة إلى رواياته.
وقد سأل السبكي المزي عن المدلسين في الصحيحين وأنهم عنعنوا، هل سمعوا منهم في موضع آخر؟ قال المزي: لم يثبت سماعهم عنه في موضع آخر، لكن هذا يُقال إحسانًا بالصحيحين. نقله ابن حجر في (النكت).
فإذن إذا روى صاحبا الصحيح كالبخاري ومسلم حديثًا برواية مدلس بالعنعنة ولم يُعرف تصريحه بالسماع في موضع آخر، فهذه إشارة إلى أن تدليسه قليل بالنسبة إلى رواياته، وهكذا يُبحث في القرائن الأخرى، ومما اشتهر عند المتأخرين أنهم يردون رواية أبي إسحاق السبيعي إذا عنعن، والأعمش إذا عنعن، وهذا فيه نظر، الأصل أن تُقبل رواية أبي إسحاق السبيعي كما ذكر يعقوب الفسوي، وكما هو صنيع البخاري ومسلم في صحيحيهما، ومثله تقبل رواية الأعمش، إلا فيمن يُقل الرواية عنه كمجاهد، كما نص على هذا أبو حاتم في العلل، وعلى هذا فقس.
• تنبيه: قد يثبت عند أحد العلماء المحدثين أن فلانًا دلس، ومع ذلك يقبل حديثه، وذلك لقرائن خارجية كما تقدم أنهم يقبلون رواية المنقطع لقرائن خارجية، كحديث الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة: «ما جلس قوم في بيت من بيوت
الله
…
»، تساهل فيه مسلم وأخرجه في صحيحه، لأن له شواهد، ثبت عن أبي سعيد في صحيح مسلم، ثم إذا تدبرت معناه لم تره أتى بحكم جديد، فلذلك تساهل فيه الإمام مسلم -رحمه الله تعالى-، وقد تقدم أنهم يتساهلون في الانقطاع لقرينة متنية أو لقرينة إسنادية.
• المسألة الرابعة: إذا عُرف الراوي واشتهر بكثرة التدليس لا يُقبل حديثه حتى يُصرح بالسماع، نص على هذا الإمام مسلم في كتابه (التمييز)، وذكر هذا الإمام أحمد -رحمه الله تعالى- في رواية ابن جريج، وذكره غيره في غيره من الرواة، كابن عدي في كتابه (الكامل).
فإذن إذا كان المدلس مشهورًا ومُكثرًا من التدليس بالنسبة إلى رواياته فإنه لا يُقبل حتى يُصرح بالسماع، وقد رأيت بعض المعاصرين وقع في بدعة وقال: تُقبل رواية المدلس أكثَر أو لم يُكثر ولو روى بصيغة ليست صريحة بالسماع، وزعم أن السلف الأولين على ذلك، وقد أخطأ ووقع في بدعة كبرى تنبني عليها أخطاء كثيرة، فقد تقدم كلام الإمام أحمد وكلام مسلم في (التمييز) وغيرهم من أهل العلم، فلابد أن يُفرق بين من أكثر من التدليس بالنسبة إلى رواياته وبين من لم يُكثر على ما تقدم تفصيله.
قوله: (وَكَذَا الْمُرْسَلُ الْخَفِيُّ مِنْ مُعَاصِرٍ لَمْ يَلْقَ) سيتكلم المصنف -رحمه الله تعالى- عن اشتراط السماع واللقاء
…
إلخ، لكن المرسل إرسالًا خفيًا وهو أن يُرسل عمن لم يسمع ويُمكن أن يسمع منه لكن لم يسمع منه بصيغة تحتمل السماع، فهذا يسمى مرسلًا خفيًا، ويُطلق عليه التدليس كما تقدم.
وينبغي أن يُنتبه إلى أمر مهم وهو أنه عند دراسة الأحاديث لا يكتفى بالنظر إلى ثقة الراوي بل لابد إذا كانت الصيغة غير صريحة في السماع أن يُرجع إلى كتب السماع، وكلام العلماء في عدم سماع فلان من فلان أُفردت فيه مصنفات ويُذكر في كتب التراجم، كما ذكره المزي في (تهذيب الكمال) وابن حجر في (تهذيب التهذيب)، وذكره بشار عواد في حاشيته على (تهذيب الكمال) وذكر فوائد كثيرة عن مغلطاي وغيره، وأفرد العلائي كتابًا مفيدًا في ذلك سماه:(جامع التحصيل)، وكذلك كتب العراقي كتابًا بعنوان:(تحفة التحصيل)، أورد ما ذكر العلائي وزاد عليه.
ومن الكتب المفيدة في ذلك نسخة جديدة طُبعت لتحفة التحصيل، ذكر محققها في الحاشية فوائد كثيرة تتعلق بالسماع وعدمه، وأيضًا طُبع تقريب التهذيب لحسان عبد المنان، وذكر كلام الحافظ وزاد على ذلك بأن ذكر السماعات وعدمها، وهذا مفيد للغاية، بعيدًا عن ذات حسان عبد المنان وسوئه وتكلم الألباني عليه -رحمه الله تعالى- لكن يهمني نقله وعزوه.
وأيضًا مما ينفع كتب العلامة مقبل الوادعي، فهو مهتم بهذا، ومن ذلك:(أحاديث معلة ظاهرها الصحة) فهذا كتاب نفيس للغاية، ويذكر عللًا دقيقة، ومنها السماعات وغيرها، إلى غير ذلك من الكتب، فينبغي أن يُعتنى بالسماع وعدمه، فما أكثر الأحاديث التي صُححت وثبت أنه لم يسمع الراوي عن شيخه، وأحيانًا ثبت أنه لم يسمع منه في الحديث نفسه وأحيانًا لم يسمع منه البتة.
ومن أمثلة ذلك: ما روى أبو داود من حديث خالد الحذَّاء عن أبي العالية، عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في سجود التلاوة: «سجد وجهي الذي خلقه، وشق سمعه وبصره
…
» الحديث، ذكر أبو داود أن خالدًا الحذاء يرويه عن رجل عن أبي العالية، فدل هذا على أن خالد الحذاء لم يسمعه، وقد أفاد ابن الصلاح في مقدمته، وابن رجب في شرح (العلل) على أن العلماء الأولين يستدلون على عدم سماع الراوي من الراوي بأنه في مواضع يُدخل بينهما رجلًا وأحيانًا رجلين، فيستدلون بهذا على أنه لم يسمع منه.
فلذا ينبغي أن يُعتنى بمثل هذا، وأن يُدقق فيه، ورأيت بعضهم أراد أن يُقوي حديث عائشة في سجود التلاوة: «سجد وجهي الذي خلقه وشق سمعه وبصره
…
» بما في مسلم من حديث علي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في سجوده: «سجد وجهي الذي خلقه، وشق سمعه وبصره
…
».
فيقال: لا يصح أن يكون هذا شاهدًا لذاك، لأن هذا في جميع السجدات، والبحث في سجود التلاوة، فلا يصح أن يكون هذا شاهدًا لذاك، وهذا من تساهل المتأخرين في الشواهد.
ومن أمثلة تساهلهم في الشواهد فيما نحن بصدده: أنه روى أبو داود أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول بين الركن اليماني والحجر الأسود: «ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار» ، في إسناده راوٍ مجهول ولا يصح، ورأيت بعضهم صححه بأنه ثبت عن عمر أنه كان يقول ذلك في الطواف كله، فيقال: فرق بين الطواف
كله وبين أن يُقال باستحبابه بين الركنين، فمثل هذا لا يصح أن يكون شاهدًا له. فهذه المسائل تحتاج إلى دقة ومعرفة.
قال الحافظ ابن حجر -رحمه الله تعالى-:
ثُمَّ الطَّعْنُ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ لِكَذِبِ الرَّاوِي، أَوْ تُهْمَتِهِ بِذَلِكَ، أَوْ فُحْشِ غَلَطِهِ، أَوْ غَفْلَتِهِ، أَوْ فِسْقِهِ، أَوْ وَهْمِهِ، أَوْ مُخَالَفَتِهِ، أَوْ جَهَالَتِهِ، أَوْ بِدْعَتِهِ، أَوْ سُوءِ حِفْظِهِ.
فَالْأَوَّلُ: الْمَوْضُوعُ، وَالثَّانِي: الْمَتْرُوكُ، وَالثَّالِثُ: الْمُنْكَرُ عَلَى رَأْيٍ، وَكَذَا الرَّابِعُ وَالْخَامِسُ.
ثُمَّ الْوَهْمُ: إِنِ اطُّلِعَ عَلَيْهِ بِالْقَرَائِنِ، وَجَمْعِ الطُّرُقِ: فَالْمُعَلَّلُ.
ثُمَّ الْمُخَالَفَةُ: إِنْ كَانَتْ بِتَغْيِيرِ السِّيَاقِ: فَمُدْرَجُ الْإِسْنَادِ، أَوْ بِدَمْجِ مَوْقُوفٍ بِمَرْفُوعٍ: فَمُدْرَجُ الْمَتْنِ، أَوْ بِتَقْدِيمٍ أَوْ تَأْخِيرٍ: فَالْمَقْلُوبُ، أَوْ بِزِيَادَةِ رَاوٍ: فَالْمَزِيدُ فِي مُتَّصِلِ الْأَسَانِيدِ، أَوْ بِإِبْدَالِهِ وَلَا مُرَجِّحَ: فَالْمُضْطَّرِبُ.
وَقَدْ يَقَعُ الْإِبْدَالُ عَمْدًا امْتِحَانًا، أَوْ بِتَغْيِيرٍ مَعَ بَقَاءِ السِّيَاقِ: فَالْمُصَحَّفُ وَالْمُحَرَّفُ.
وَلَا يَجُوزُ تَعَمُّدُ تَغْيِيرِ الْمَتْنِ بِالنَّقْصِ وَالْمُرَادِفِ إِلَّا لِعَالِمٍ بِمَا يُحِيلُ الْمَعَانِي.
فَإِنْ خَفِيَ الْمَعْنَى احْتِيجَ إِلَى شَرْحِ الْغَرِيبِ، وَبَيَانِ الْمُشْكِلِ.
ثُمَّ الْجَهَالَةُ: وَسَبَبُهَا أَنَّ الرَّاوِيَ قَدْ تَكْثُرُ نُعُوتُهُ فَيُذْكَرُ بِغَيْرِ مَا اشْتُهِرَ بِهِ لِغَرَضٍ، وَصَنَّفُوا فِيهِ الْمُوَضِّحَ.
وَقَدْ يَكُونُ مُقِلًّا فَلَا يَكْثُرُ الأَخْذُ عَنْهُ، وَصَنَّفُوا فِيهِ الوُحْدَانَ، أَوْ لَا يُسَمَّى اخْتِصارًا، وَفِيهِ المُبْهَمَاتُ، وَلَا يُقْبَلُ المُبْهَمُ وَلَوْ أُبْهِمَ بِلَفْظِ التَّعْدِيلِ عَلَى الْأَصَّحِ.
فَإِنْ سُمِّيَ وَانْفَرَدَ وَاحِدٌ عَنْهُ: فمَجْهُولُ الْعَيْنِ، أَوِ اثْنَانِ فَصَاعِدًا، وَلَمْ يُوَثَّقْ: فَمَجْهُولُ الحَالِ، وَهُوَ الْمَسْتُورُ.
ثُمَّ الْبِدْعَةُ: إِمَّا بِمُكَفِّرٍ، أَوْ بِمُفَسِّقٍ.
فَالْأَوَّلُ: لَا يَقْبَلُ صَاحِبَهَا الْجُمْهُورُ. وَالثَّانِي: يُقْبَلُ مَنْ لَمْ يَكُنْ دَاعِيَةً فِي الْأَصَّحِ، إلَّا أنْ يَرْوِيَ مَا يُقوِّي بِدْعَتَهُ فَيُرَدُّ عَلَى الْمُخْتَارِ، وَبِهِ صَرَّحَ الْجَوْزَجَانِيُّ شَيْخُ النَّسَائِيِّ.
ثُمَّ سُوءُ الْحِفْظِ: إِنْ كَانَ لَازِمًا فَهُوَ الشَّاذُّ عَلَى رَأْيٍ، أَوْ طَارِئًا فَالْمُخْتَلِطُ، وَمَتَى تُوبِعَ سَيْئُّ الْحِفْظِ بِمُعْتَبَرٍ، وَكَذَا الْمَسْتُورُ، وَالْمُرْسَلُ، وَالْمُدلَّسُ: صَارَ حَدِيثُهُمْ حَسَنًا لَا لِذَاتِهِ، بَلْ بِالْمَجْمُوعِ.
قوله: (ثُمَّ الطَّعْنُ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ لِكَذِبِ الرَّاوِي) هذا واضح، أي أن الراوي يكذب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وإذا كان الراوي يكذب على النبي صلى الله عليه وسلم فإنه لا يصح حديثه بل يكون موضوعًا كما سيأتي بيانه.
قوله: (أَوْ تُهْمَتِهِ بِذَلِكَ) وتُعرف بأمرين: أن ينفرد برواية حديث يُخالف قواعد الإسلام، أو أن يكون معروفًا بالكذب في حديث الناس، فإذا كان معروفًا بكذبه في حديث الناس فلا يُقبل حديث.
قوله: (أَوْ فُحْشِ غَلَطِهِ) أي المراد كثرة غلطه، وقوله:(أَوْ غَفْلَتِهِ) أي أن يكون ذا غفلة لا يُتقن إذا روى الأحاديث، وقوله:(أَوْ فِسْقِهِ) أي أن يكون فاسقًا، والفاسق عند أهل السنة هو صاحب الكبيرة الذي لم يتب منها، كما بيَّنه السفاريني في منظومته، ويدل عليه كلام غيره، وبعضهم قال: من غلبت عليه المعاصي، وهذا فيه نظر، وإنما من فعل كبيرة واحدة ولم يتب منها فهو فاسق عند أهل السنة، وقد تقدم أن الفسق ليس سببًا لرد الحديث كما تقدم بيانه.
قوله: (أَوْ وَهْمِهِ) أي أنه يروي الأحاديث وهو شاكٌ في صحتها على سبيل التوهم، وقوله:(أَوْ مُخَالَفَتِهِ) تقدم البحث في المخالفة، وقوله:(أَوْ جَهَالَتِهِ) سيأتي البحث في الجهالة، والأصل في الجهالة أنه مردود، لأنه لا يُقبل في حديث النبي صلى الله عليه وسلم إلا الثقة وهو مبني على الاحتياط.
قوله: (أَوْ بِدْعَتِهِ) سيأتي الكلام على أن البدعة ليست سببًا لرد الحديث.
قوله: (أَوْ سُوءِ حِفْظِهِ) أي تساوى وهمه مع ضبطه، أو غلب وهمه.
هذا ملخص ما بيَّنه الحافظ في شرحه على النخبة في كتابه (النزهة).
ثم بعد ذلك سيذكر حكم كل حديث، وهذا الذي سيُقرره فيه نظر، لأنه جعل الموضوع هو حديث الكذاب، وهذا على الإطلاق فيه نظر، لاشك أن حديث الكذاب موضوع، لكن قد
يوصف أيضًا بالوضع ما ليس كذلك، فمما حققه ابن تيمية لما قيل: هل في مسند أحمد أحاديث موضوعة أم لا؟ قال: إن أريد برواية كذاب بقصد فلا، وإن أريد أن هناك من أخطأ فأصبح الحديث موضوعًا فنعم، أي أصبح موضوعًا بلا قصد.
فلذلك الحافظ ذكر هذه الأسباب العشرة ثم ذكر أحكامها، وهذا التقنين والتقسيم فيه نظر، وإنما يختلف العلماء في الحكم بالنظر في المتن وحال الراوي كما تقدم بيانه.