المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الحادي عشر - تحفة الطالب والجليس في كشف شبه داود بن جرجيس

[عبد اللطيف آل الشيخ]

الفصل: ‌الفصل الحادي عشر

‌الفصل الحادي عشر

فصل

قال العراقي: "إنكم تكَفِّرون بالحلف بغير الله، ويُكَفِّر به السابقون من أهل بلدكم، وهو ليس بشرك ولا كفر، بل هو مكروه كراهة تنزيه، للأدلة على ذلك، ولأنه قد ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لبعض أصحابه: "لا وأبيك"، ولأن الترمذي ترجم على هذه المسألة بالكراهة، وساق حديث ابن عمر: "من حلف بغير الله فقد أشرك"، وأن هذا يدل على الكراهة للترجمة، ولأنه ساق الرواية الأخرى عن ابن عمر "من حلف بغير الله فقد كفر". وقال بعدُ: هذا محمول على التغليظ والزجر، كالريا الذي فسر به قوله تعالى:{فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا} . الآية [الكهف:110] .

والجواب أن يقال: في هذا الكلام من الجهل والخلط ما يتنزه عنه العاقل فضلاً عن العالم، من ذلك أنه قال: الحلف بغير الله ليس بشرك ولا كفر. ثم ساق حديث ابن عمر: "من حلف بغير الله فقد أشرك" ثم قادته المقادير إلى أن نطق بالرواية الأخرى: "من حلف بغير الله فقد كفر" فقف وتأمل هذه العبر!! ثم استدل بأن الترمذي ترجم بالكراهة، وهو أول من يخالف الترمذي في أكثر ما في سننه، مع أنه لم يفهم كلام الترمذي، ولا حام حول مراده.

ص: 141

ويقال: مسألة الحلف بغير الله تظاهرت وتواترت النصوص النبوية بالنهي عنها، ودلّت على أنه شرك لا يحل ولا يجوز، كما ذكره أصحاب الكتب الستة، وأهل المسانيد من حديث: أبي هريرة، وعمر، و1ابنه، وابن مسعود، وغيرهم، وإنما ساق الترمذي حديث ابن عمر. والترمذي –رحمه الله أثبت أنه شرك، وجعله كالريا، والريا شرك بالنص والإجماع، وهو من الكبائر، إلا أنه ليس مما ينقل عن الملة ويوجب الردة، للآيات والأحاديث. وكلام الترمذي يدل على هذا، وقد جعله مثل الريا، وقاسه عليه في الحكم، وحمله على هذا الحمل والتأويل: أن الرواية الأخرى التي خرجها عن ابن عمر فيها تكفير من حلف بغير الله، والحكم بأنه كفر، وأراد الترمذي أن هذا الكفر ليس هو مما يخرج عن الملة كالشرك الأكبر، بل كفر دون كفر، وشرك دون شرك، وظلم دوم ظلم، كما قاله البخاري في "صحيحه" وتسميته هذا كفراً من باب التغليظ، وهذا مراده رحمه الله، وأما كونه شركاً محرماً فلم ينفِه الترمذي، ولم يتعرض له بتأويل، بل أثبته وقاله به، لأنه جعله مثل الريا.

وهذا الجاهل اغتر بكونه ترجم بالكراهة، والكراهة في عرف هذا الرجل إنما تطلق على التنزيه، هذا وجه ضلاله، ولم يدر أن إطلاقها على كراهة التنزيه عرف حادث، وأن الكراهة في عرف الكتاب والسنة وقدماء الأمة تطلق على التحريم. قال تعالى بعد أن

1 سقطت "و" من ط: آل ثاني.

ص: 142

ذكر المحرمات المتفق عليها في جميع الكتب السماوية {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيٍّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا} . [الإسراء:38] .

وفي الحديث: "إن الله يكره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال"1. وأظن هذا يحمل كل ما تقدم على كراهة التنزيه.

قال الترمذي رحمه الله: "باب كراهة الحلف بغير الله" وساق بسنده حديث ابن عمر: "من حلف بغير الله فقد أشرك". وسكت الترمذي علذكر المحرمات المتفق عليها في جميع الكتب السماوية {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيٍّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا} . [الإسراء:38] .

وفي الحديث: "إن الله يكره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال"1. وأظن هذا يحمل كل ما تقدم على كراهة التنزيه.

قال الترمذي رحمه الله: "باب كراهة الحلف بغير الله" وساق بسنده حديث ابن عمر: "من حلف بغير الله فقد أشرك". وسكت الترمذي على هذا، ولم يتعقبه بتأويل. ثم قال:"بابٌ"2 وساق بسنده الرواية الأخرى عن ابن عمر "من حلف بغير الله فقد كفر" 3 وتأَوَّلَ لفظه "كفر" بأنها على وجه الزجر والتغليظ، لأن

1 أخرجه البخاري في صحيحه –كتاب الاستقراض- 3/ 87 ط إستانبول، ومسلم في صحيحه –كتاب الأقضية- 3/ 1341، عن المغيرة بن شعبة أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول:"إن الله كره لكم ثلاثاً: قيل وقال، وإضاعة المال، وكثرة السؤال". وله ألفاظ عندهما.

2 في نسخة الترمذي المطبوعة مع شرحه "تحفة الأحوذي" 5/ 132-135، و"عارضة الأحوذي" 7/ 16-18، والطبعة السلفية 3/ 45: باب كراهية الحلف بغير الله وساق فيه حديث: "ألا، إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم" "

ليحلف حالف بالله أو ليسكت". ثم قال: باب، وساق حديث ابن عمر "من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك". وفي طبعة الحلبي، 3/ 109-110: باب ما جاء في كراهية الحلف بغير الله. ثم ساق الأحاديث السابقة تحت هذه الترجمة ولم يفصل بـ"باب"، وكذا في طبعة الدعّاس، 5/ 251-254.

قلت: لعل المؤلف وقع في يده نسخة من سنن الترمذي على ما وصف، لا سيما وتغاير النسخ في كتاب الترمذي أمر مشاهد.

3 أخرجه أبو داود –كتاب الأيمان والنذور- من سننه 3/ 570، والترمذي –كتاب الأيمان والنذور- من سننه 4/ 110، والإما أحمد في مسنده، وابن حبان فيى

ص: 143

لأن الحلف بغير الله لا ينقل عن الملة، بل هو كالريا في عدم الردة، وإن كان شركاً.

إذا عرفت هذا فالعراقي دلّس، وجعل البابين باباً واحداً، وجعل كلام الترمذي في تأويله لفظة "كفر" راجعاً إلى كلا البابين، وأن الحلف مكروه كراهة تنزيه، والترمذي لم يتعرض لكونها للتنزيه.

وأما قوله: "إنكم تكفرون به، وترون أنه كفر" فهو كذب بحت، وفرية ظاهرة، ما قال أحد ممن يعتدُّ به عندنا إنه كفر مخرج عن الملة. وقد يُطلق العالم والمفتي ما أطلقه الرسول صلى الله عليه وسلم في مثل هذا، ويقف حيث وقف، ومن أنكر هذا الإطلاق فقد أنكر على الرسول صلى الله عليه وسلم.

على أن ابن قيم الجوزية قال: قد يكون ذلك شركاً أكبر بحسب ما قام بقلب قائله، وقاله القاضي عياض من المالكية. وهذا ظاهر لا يخفى إذا قصد تعظيم من حُلف به كتعظيم الله.

وأما استدلال هذا العراقي على عدم التحريم بقوله صلى الله عليه وسلم: "من حلف باللات والعزى فليقل: لا إله إلا الله" 1 فهذا الاستدلال والفهم ليس بشيء.

1 رواه البخاري في صحيحه –كتاب الأيمان والنذور- 11/ 536، ومسلم في صحيحه –كتاب الأيمان- 3/ 1267-1268.

ص: 145

والحديث دليل على التحريم، والاستدلال به عليه هو عين الفقه عن الله ورسوله، لأنه أَمَرَ من حلف بغير الله أن يكفِّر بتجديد الإسلام، والإتيان بكلمة الإخلاص التي تضمنت البراءة من الشرك، وإثبات التوحيد.

وقد قال لقريش وغيرهم من عباد الأصنام: "قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا"1. وقال لعمه: "قل لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله" 2.

1 أخرجه الإمام أحمد في مسنده 5/ 376 عن شيخ من بني مالك بن كنانة قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بسوق ذي المجاز يتغللها يقول: "يا أيها الناس، قولوا لا إله إلا الله تفلحوا

".

قال الهيثمي في مجمع الزوائد 6/ 22: رجاله رجال الصحيح. اهـ.

وأخرجه الإمام أحمد في مسنده أيضاً 4/ 341 عن ربيعة بن عباد من بني الديل وكان جاهلياً قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجاهلية في سوق ذي المجاز وهو يقول

فذكره.

قال الهيثمي في المجمع 6/ 22: رواه أحمد وابنه والطبراني في الكبير بنحوه والأوسط باختصار بأسانيد، وأحد أسانيد عبد الله بن أحمد ثقات الرجال

اهـ.

وفي الطبراني عن منبت الأزدي نحوه. قال الهيثمي في المجمع 6/ 21: وفيه منبت بن مدرك ولم أعرفه، وبقية رجاله ثقات. اهـ.

وفي الطبراني أيضاً عن مدرك نحوه. قال الهيثمي: ورجاله ثقات. اهـ.

2 أخرجه البخاري في صحيحه –كتاب التفسير- 8/ 506، ومسلم في كتاب الإيمان من صحيحه 1/ 54 كلاهما عن سعيد بن المسيب عن أبيه

به.

وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة.

ص: 146

فإن1 كان ذاك يدل على الكراهة، فهذا أيضاً إنما يدل عليها. فسبحان من حال بين قلوب هؤلاء وبين الفقه عنه، ومعرفة المراد من كلامه وكلام رسوله.

وفي الحديث: "إن حسنة التوحيد تمحو الشرك وتكفره، فإن الإسلام يَجُبُّ ما قبله". قال ابن مسعود: "لأن أحلف بالله كاذباً أحب إلي من أن أحلف بغيره صادقاً"2.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية –قُدِّس سِرُّه- بعد أن ذكر تحريم الحلف، واستدل له: ومعنى قول ابن مسعود: "أن حسنة التوحيد أعظم من حسنة الصدق، وسيئة الشرك أعظم من سيئة الكذب" مع أن الكذب محرم بالإجماع.

وأما ما حكاه عن شيخنا الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله أنه قال في "مختصر الإنصاف": ويكره الحلف بغير الله، وأن الشيخ استدل للكراهة. فلا يخفى أن العراقي دلس ولبّس، فأسقط من العبارة كلام ابن عبد البر، وحكاية الإجماع على التحريم، هذا تدليسه، وأما تلبيسه: فإن الشيخ قال بعد ذلك: وقيل يجوز. فأخره وحكاه بصيغة التمريض. وذكر أن القائل استدل لهذا: بأن الله أقسم بمخلوقاته، وبقوله:"أفلح وأبيه إن صدق" وبقوله في حديث أبي

1 في ط: آل ثاني: "فإذا".

2 رواه الطبراني في الكبير 9/ 205 قال الهيثمي في المجمع 4/ 177: رجاله رجال الصحيح.

ص: 147

العشراء: "أما وأبيك، لو طعنت في فخذها أجزأك"1. ثم تعقب الشيخ هذا، وذكر أن أحمد لم يثبت حديث أبي العشراء. واستدل بقوله: "إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت"2. وبحديث ابن عمر "من حلف بغير الله فقد أشرك" وقرر الشيخ أدلة التحريم.

والشيخ رحمه الله في كتاب "التوحيد" استدل على هذه المسألة بقوله تعالى: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} . [البقرة:22] . وترجم بالآية على هذه المسألة، وساق حديث ابن عمر، وما روي عن ابن عباس، ومنه: والله وحياتك.

1 أخرجه أحمد 4/ 334، والترمذي 4/ 74، وأبو داود في سننه 8/ 23 –كتاب الأضاحي –باب في ذبيحة المتردية، والنسائي 7/ 228، وابن ماجه 2/ 1063 كلهم عن حماد بن سلمة عن أبي العشراء الدارمي عن أبيه قال:"قلت: يا رسول الله، أما تكون الذكاة إلى في الحلقِ واللَّبَّة؟ قال: "لو طعنت في فخذها لأجزأ عنك". هذا لفظه عندهم.

وفي رواية لأحمد: "وأبيك".

قال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث حماد بن سلمة، ولا نعرف لأبي العشراء عن أبيه غير هذا الحديث، واختلفوا في اسم أبي العشراء

إلخ. اهـ.

وقال الخطابي: ضعفوا هذا الحديث لأن راويه مجهول، وأبو العشراء لا يدرى من أبوه، ولم يرو عنه غير حماد بن سلمة. اهـ من المعالم.

وقال الذهبي في الميزان 4/ 551 في ترجمة أبي العشراء بعد أن ذكر قول البخاري في أبي العشراء: في حديثه واسمه وسماعه من أبيه نظر. قلت: ولا يدرى من هو ولا من أبوه. وانفرد عنه حماد بن سلمة

اهـ.

2 رواه البخاري في صحيحه –كتاب الأيمان والنذور- 11/ 530 ومسلم في صحيحه –كتاب الأيمان- 3/ 1266-1267.

ص: 148

وأما الجواب عن قوله: "أفلح وأبيه" وقوله: "أما وأبيك" فلأهل العلم عنه أجوبة معرفة في محلها، منها: أن هذا ليس من جنس اليمين المقصودة بل هو مما جرى على ألسنتهم من غير قصد، مثل قوله:"تربت يداك، ثكلتك أمك، ويح عمار". وهذا الجواب ذكره كثير من الناس.

وقيل: إن ذلك منسوخ. واستدل القائل لهذا القول بما لا يمكن أمثال هذا العراقي نقضه، وبعضهم تكلم في المسند ولم يثبت هذا كما تقدم عن أحمد في حديث أبي العشراء.

وهذا آخر ما أوردناه، والحمد لله حمداً كثيراً كما ينبغي لكرم وجهه، وعز جلاله، وعظيم سلطانه. وصلى الله على عبده ورسوله محمد النبي الأمي، وعلى آله وأصحابه، وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين آمين1.

1 اتفقت النسخ على هذه الخاتمة، وبعدها في "أ":"كتبه من إملاء مؤلفه –عفا الله عنه ورحمه- عبد العزيز بن ناصر بن راشد بن تريكي" اهـ. وفي "جـ": "رحم الله مؤلفه وعفا عنه وعن والديه وجزاه عن الإسلام والمسلمين خيراً وغفر الله لكاتبه ووالديه وذريته وإخوانه ولجميع المسلمين. آمين يا رب العالمين". اهـ. وعلى جنب الصفحة: "بلغ مقابلة وتصحيحاً حسب الطاقة والإمكان".

قال كاتبه –عفا الله عنه- تم الفراغ من مقابلة هذه الرسالة، والتعليق عليها قدر الطافة في اليوم الثاني والعشرين من شهر الله الحرام، سنة عشر وأربعمائة وألف من هجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم. والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

كتبه/ عبد السلام بن برجس بن ناصر آل عبد الكريم.

ص: 149