الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثامن
…
فصل
قال العراق: (والمقصود أن تكفير الناس بمجرد فهم واحد من كتاب الله لم يفهمه النبي صلى الله عليه وسلم، كقوله تعالى: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} . [فاطر:13] . وهذه الآية صحيحة، ولكن هذا الفهم باطل، لأن الدعاء المذكور هو1 السجود على أنها أرباب، وهي الأصنام، وهم كانوا يعبدونها على أنها أرباب لهم، وهي أخشاب وأحجار لا تملك شيئاً، فالذي يستدل بهذه الآية يقال له: أين مذكور تفسير هذه الآية أنَّ المراد بها الأنبياء والشهداء والأولياء الذين يناديهم المسلم نداء لا عبادة؟ فإن هذا لم يذكر قط في تفسير، ولا في حديث، ولا في أقوال السلف. نعم ذكر الشيخ تقي الدين وقال: إنه باب الزجر والتغليظ والإشارة، لا باب الحكم على المسلم بالردة، فله أكثر من مائة عبارة تنفي ذلك، والدعاء ليس في كل مكان يراد به العبادة، قال تعالى: {فَلْيَدْعُ نَادِيَه*سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ} . [العلق:17-18] . أيقال: إن الله تعالى عبد الزبانية لأنه دعاهم) انتهى كلامه.
وإنما سقناه بحروفه ليعلم المؤمن قدر ما أنعم الله عليه به من
1 في النسخ الخطية: "و".
نعمة الإسلام، وما اختصه به من الكرامة ورفع المقام، وليعتبره بما يراه من حال هؤلاء الضالين، كيف تلاعب بهم الشيطان، وأوصلهم إلى غاية من الجهل والضلال، حجبهم بها عن معرفة الله، ودينه، وحقه على عبيده، وعن معرفة رسله، ومعرفة حقهم، وما يجب لهم، وما يستحيل، وأوهمهم مع ذلك أنهم من أهل العلم بشرعه ودينه في التحريم والتحليل، وهم كما ترى ليس معهم من الإسلام أصل ولا خبر، ولم يقعوا من ذلك على عين ولا أثر.
فإن حاصل ما قرره هنا: أن الله تعالى لم يحرم عبادة الأنبياء والملائكة والصالحين، ودعاءهم1، وإنما حَرَّم اعتقاد الاستقلال من دونه، واعتقاد الربوبية فيها. وأن العبادة هي السجود فقط، مع اعتقاد أنها أرباب –وهي الأصنام والأخشاب والأحجار- لا تملك شيئاً. وأن النداء يجوز لأنه ليس بعبادة، وأنه2 لم يذكر قط كون النداء عبادة، وما ذكره الشيخ تقي الدين من باب الزجر والإشارة، وله أكثر من مائة عبارة تنفي كون نداء الأنبياء والصالحين عبادة. ومن فهم من كلام الله تحريم دعاء الصالحين فهو مخطئ ضال، منفرد بهذا الفهم.
هذا حاصل كلامه، فيا ويحه ما أكبر زلته، وما أغلظ كفره، وما أشدَّ عداوته لما جاءت به الرسل [وما أكثف حجابه عن معرفة ما أرسلت به الرسل] 3 واتفقت عليه دعوتهم، وهذا النوع من
1 في النسخ الخطية: "دعائهم".
2 تفي ط: آل ثاني: "وإن".
3 ما بين المعقوفتين ليس في ط: آل ثاني.
الناس1 هم أعوان إبليس وأنصاره في زمان ومكان، ظهروا للناس في ثياب القراء والعلماء، وهم من أجهل من تحت أديم السماء.
يا فرقةً ما خان دينَ محمدٍ
…
وجنى عليه ومله إلا هي
وفي هذا من الكذب على الله، والكذب على رسوله، وعلى أولي العلم من ورثته، والقول عليه بغير علم، وتحريف الكلم عن مواضعه، والكذب على اللغة والشرع ما يعزُّ استيفاء الكلام عليه واستقصاؤه.
فقوله: (إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفهم من هذه الآية ونحوها تكفير من دعا الأنبياء والصالحين) كذب على الرسول، ونسبة ما لا يليق بآحاد المؤمنين إليه.
وهل وقعت الخصومة، وجرد السيف، ودعي من دعي2 من أهل الكتاب إلى المباهلة، وأمر بقتالهم حتى يسلموا، أو يعطوا الجزية، إلا لأجل عبادة الأنبياء والصالحين، ودعائهم. وهل صُوِّرَتِ الأصنام وعبدت إلا باعتبار من هي على صورته وتمثاله من الأنبياء والملائكة والصالحين؟
1 "من الناس" ليست في ط: آل ثاني.
2 في ط: آل ثاني "ودعا من دعا".
والآيات التي يعبَّر فيها بالموصول وصلته كقوله: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} . [فاطر:13] ونحوها من الآيات، كقوله تعالى:{وَلَا تَدْعُ مِن دُونِ اللهِ مَا لَا يَنفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ} . [يونس:106] . {قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ} . [الإسراء:56] .
فهذه الموصولات في كلام الله وكلام رسوله واقعة على كل مدعوّ ومعبود نبياً كان أو ملكاً أو صالحاًَ، إنسياً أو جنياً، حجراً أو شجراً، متناولة لذلك بأصل الوضع.
فإن الصلة كاشفة ومبنية للمراد، وهي واقعة على كل مدعوٍّ من غير تخصيص، وهي أبلغ وأدل وأشمل من الأعلام الشخصية والجنسية، وهذا هو الوجه في إيثارها على الأعلام، وشرط الصلة أن تكون معهودة عند المخاطب. تقول: جاء الذي قام أبوه، لمن يعهد قيام الأب، ويجهل النسبة بينه وبين من جاء.
والمعهود عند كل من يعقل من أصناف بني آدم أن الأنبياء والملائكة والصالحين قد عُبِدوا مع الله، وقصدهم المشركون بالدعاء في حاجاتهم وملماتهم، كما جرى لليهود والنصارى في عبادة الأنبياء والأحبار والرهبان، وكما جرى لقوم نوح في ودٍّ وسواع ويغوث ويعوق ونسر1، وكما جرى للعرب في عبادة الملائكة، واللات، وهو رجل صالح كان يلت السويق للحاج.
1 في النسخ الخطية: "نسرا".
وهذا أوضح من أن يحتاج لتقرير، وأظهر من أن يتوقف على كشف وتفسير. فإن العربي سليم الذوق والفطرة يعرفه1 بعربيته وفطرته، وجميع المفسرين يقررون هذا بضروب من العبارات والتقريرات، ويفهمها الذكي، ومَنْ خَصَّ الأصنام في بعض المواضع فهو لا يمنع أنها عبدت باعتبار من هي على صورته.
وقد ذكر هذا ابن كثير في "تفسيره" وذكره غيره من أهل العلم. وقد كذب هذا عليهم، نسبهم إلى الجهل، كما كذب على الله ورسوله، قال تعالى:{وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْمُتَكَبِّرِينَ} . [الزمر:60] .
وأيضاً فقد2 قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} . [الأنبياء:25] .
فإن نازع هذا في عموم النفي فهو على مذهب من قال: (أجعل الآلهة إلهاً واحداً إن هذا لشيء عجاب) . وإن سلم العموم، وزعم أن دعاء الصالحين ونداءهم3 ليس بعبادة ولا دعاء فقد خرج عن المعقول والمنقول، وأتى بجهالة حمقى، خرج بها عَمَّا قاله جميع أئمة العلم والهدى.
1 في: "ب" و"جـ" وط: آل ثاني: (يعرف) .
2 في "أ": "قد".
3 في النسخ الخطية: "دعائهم".
وقوله تعالى عن نبيه يوسف: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} . [يوسف:39] هي من هذا الباب، فإن تفرق الآلهة والأرباب يصدق بعبادة الأنبياء والصالحين.
ومن نازع في هذا فليس من جملة العقلاء1 ولا ممن يعرف الضروريات التي يعرفها الحمقى.
هذا لو لم يرد في عبادة الأنبياء والصالحين الملائكة نصوص خاصة، فكيف2 وقد جاء في ذلك ما فيه الهدى والشفاء.
قال تعالى: {وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} . [آل عمران:80] . والأرباب هنا هم الآلهة المعبودة3، فإن الرب وضع للمعبود كما وضع للمالك والمربي والخالق، وليس هذا من المشترك، ولا من المتواطئ، بل هو من استعمال اللفظ في حقيقته اللغوية، والشرعية.
وبهذا يتبين لك خطأ العراقي في قوله: (على أنها أرباب) فإنه يريد بهذا القيد أنها لا تكون عبادة إلا مع اعتقاد التدبير والتأثير لها، كما تقدم عنه صريحاً.
وقال تعالى فيمن عبد الصالحين بطاعتهم من دون الله، وغلا في الأنبياء:{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} . الآية
1 في النسخ الخطية: "بل ولاممن..".
2 سقطت من ط: آل ثاني: "فكيف".
3 في النسخ الخطية: "المعبودون".
[التوبة:31] . فسرها النبي صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم بطاعتهم في التحليل والتحريم المخالف لأحكام الله تعالى1.
1 أخرجه الترمذي في سننه –كتاب التفسير- 5/ 278، وابن جرير الطبري في تفسيره 10/ 114، والطبراني في الكبير 17/ 92، والبيهقي في سننه –كتاب آداب القاضي- 10/ 116 كلهم من طريق عبد السلام بن حرب عن غطيف بن أعين عن مصعب بن سعد عن عدي بن حاتم قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وفي عنقي صليب من ذهب فقال: "يا عدي اطرح عنك هذا الوثن" وسمعته يقرأ في سورة براءة {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} . قال: "أما، إنهم لم يكونوا يعبدونهم، ولكنهم كانوا إذا أحلوا لهم شيئاً استحلوه، وإذا حرموا عليهم شيئاً حرموه". هذا لفظ الترمذي. وهذا إسناد ضعيف علته غطيف بن أعين وقيل غضيب، ضعفه الدراقطني وغيره –وبه أعل الترمذي هذا الحديث فقال عقبه:"هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث عبد السلام بن حرب، وغطيف بن أعين ليس بمعروف في الحديث" اهـ. وعبد السلام بن حرب ثقة إمام حافظ إلا أن له مناكير.
والحديث عزاه السيوطي في الدرّ المنثور 4/ 174 لابن سعد، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ، وابن مردويه. وعزاه ابن كثير في تفسيره 2/ 348 للإمام أحمد، ولم أجده في مسند عدي والله أعلم.
وللحديث شاهد من حديث حذيفة موقوفاً أخرجه –كما في الدر المنثور 4/ 174- عبد الرزاق، والفريابي، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، والبيهقي في سننه كلهم من طريق أبي البَخْتَري سعيد بن فيروز قال: سأل رجل حذيفة –رضي الله عنه فقال: أرأيت قوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} . الآية. أكانوا يعبدونهم؟ قال: لا، ولكنهم كانوا إذا أحلوا لهم شيئاً استحلوه، وإذا حرموا عليهم شيئاً حرموه.
وأخرجه من هذا الطريق ابن جرير في تفسيره 10/ 114-115 وإسناده ضعيف للانقطاع بين أبي البختري وحذيفة. فإن أبا البختري لم يسمع من حذيفة، إنما أرسل عنه، كما في تهذيب الكمال للمزي، وجامع التحصيل.
وقال تعالى فيمن عبد الصالحين: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً} . [الإسراء:56] . وهذه فيمن عبد الصالحين من الجن والإنس والملائكة كما فسرها بذلك غير واحد من السلف، ويدل عليه قوله:{أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ} . [الإسراء:57] . وقد وصفهم بأنهم لا يملكون كشف الضر ولا تحويله من حال إلى حال وإن قَلَّ، كما تفيده1 النكرة في سياق النفي، فبطل دعاؤهم بما لا يقدر عليه إلا الله.
وقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ} . [سبأ:22] . نفى أن يكون لهؤلاء المدعوين مُلْكٌ في السموات والأرض ولو قَلَّ كمثقال ذرة، وهذا هو الذي يعبر عنه بالاستقلال.
ونفى أن يكون لهم فيهما شرك ولو قَلَّ، كما يفيده قوله:(من شرك) 2، فإنه يفيد استغراق النفي.
ثم عزا السيوطي في "الدر" أثر حذيفة هذا إلى أبي الشيخ والبيهقي في شعب الإيمان –والذي يظهر من صنيع السيوطي أنه من طريق آخر غير طريق أبي البختري فلينظر.
وقد حسن شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية هذا الحديث كما في كتابه "الإيمان" ص64 وعلى معنى هذا الحديث جمهور المفسرين. والله أعلم.
1 في ط: آل ثاني: "يفيده".
2 ليس في النسخ الخطية "شرك".
ونفى أن يكون له منهم من1 ظهير يعاونه ويؤازره، وإذا بطل الملك والشركة والمعاونة لم يبقَ سوى الشفاعة، فنفاها بقوله:{وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} . [سبأ:23] . فإن هذا يفيد إبطال الشفاعة التي ظنها المشرك ودعا غير الله لأجلها، وقد دل القرآن على نفيها في مواضع.
والشفاعة المثبتة التي دلَّ عليها الاستثناء، وجاءت بها الأحاديث النبوية، نوع آخر غير ما ظنه المشركون.
وحقيقتها: أن الله تعالى إذا أراد رحمة عبده ونجاته أذن لمن شاء في الشفاعة رحمة للمشفوع فيه، وكرامة للشافع.
وقُيِّدت الشفاعة المثبتة بقيود منها: إذنه تعالى للشافع. ونكتة هذا القيد وسره: صرف الوجوه إلى الله، وإسلامها له، وعدم التعلق على غيره لأجل الشفاعة، ولذلك يساق هذا بعد ذكر التوحيد، وما يدل على وجوب عبادة الله وحده.
وهذا الموضع لم يفهمه كثير2 من الناس، ظنوا أن الاستثناء يفيد إثبات الشفاعة مطلقاً وطلَبَها من غير الله، فعادوا إلى ما ظنه المشركون وقصدوه، قال تعالى:{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} . [يونس:18] .
ومنها: أنه لا يشفع أحد إلا فيمن رضي الله قوله وعمله. قال تعالى:
1 سقطت: "من" من "أ".
2 إلى هنا انتهت نسخة "ب" المصورة من جامعة الملك سعود.
{وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} . [النجم: 26] . وقال تعالى: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} . [الأنبياء:28] . ومن الآيات الخاصة بمن يدعو الملائكة وأمثالهم قوله تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاء إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ} . الآية [سبأ:40] .
وقال تعالى في شأن المسيح: {وَإِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِن دُونِ اللهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلَاّمُ الْغُيُوبِ*مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَاّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُواْ اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ*إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} . [المائدة: 116، 117، 118]1. فتأمل ما فيها من العلوم، إن كنت من ذوي الألباب والفهوم.
منها: أن اتخاذ الأنبياء والصالحين آلهة شرك ينبغي تنزيه الرب تعالى عنه.
وفيها براءة أولياء الله ممن أشرك بهم.
وفيها: أن الرسل ما أمرت الخلق إلا بما أرسلوا به من عبادة الله وحده.
1 في "أ" وط: آل ثاني لم تذكر الآيات، وإنما فيها مبدأ الآية الأولى، إلى قوله:{إِلَهَيْنِ مِن دُونِ اللهِ} .
وفيها: برهان ما جاءت به الرسل من الأمر بالعبادة. وأن الرب الذي عمت ربوبيته جميع خلقه هو المستحق أن يعبد. وأن العبد المربوب ولو علت درجته كعيسى وغيره من الرسل أو الملائكة لا يكون شريكاً لربه ومالكه {ضَرَبَ لَكُم مَّثَلًا مِنْ أَنفُسِكُمْ هَل لَّكُم مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن شُرَكَاء فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ} . الآية [الروم:28] .
والقرآن كله يدل على هذا، ولكن من عادة القرآن مراعاة1 ما تقتضيه الحال، فيطنب في محل الإطناب، ويوجز في محل الإيجاز، والبلاغة مطابقة الكلام لمقتضى الحال.
فظهر أن آية سورة فاطر التي أوردها دالة على ما دل عليه سائر الآيات، وأن فيها من العموم المستفاد من الصلة ما لا يتأتى معه التخصيص، وأن ما تقدم من الآيات دال على ذلك يعضد مفهوم من أوردها في المنع من دعاء الصالحين.
1 في "أ" و"جـ": "مراعات".