المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌الفصل السابع … فصل قال: (وقد أجمع الحنابلة وغيرهم على طلب الشفاعة من - تحفة الطالب والجليس في كشف شبه داود بن جرجيس

[عبد اللطيف آل الشيخ]

الفصل: ‌ ‌الفصل السابع … فصل قال: (وقد أجمع الحنابلة وغيرهم على طلب الشفاعة من

‌الفصل السابع

فصل

قال: (وقد أجمع الحنابلة وغيرهم على طلب الشفاعة من الرسول بعد موته عند زيارته) .

والجواب أن يقال: هذه دعوى عريضة كبيرة، لا تصدر إلا عن اطلاع كلي، وإحاطة تامة بأقوال أهل العلم، أو عن وقاحة كلية، وتهور في الكذب، وإيغال في الافتراء.

ومن المعلوم ضرورة عند من نظر في كلام هذا من أهل العلم، أنه ليس من القسم الأول، بل هو ممن يجهل الضروريات الإسلامية، والبديهيات الإيمانية اليقينية، مما لا يخفى على عامة المسلمين، فكيف له بمعرفة الإجماع في هذه المسألة.

والمدَّعِي يطالب بتصحيح دعواه. ولكن نتنزل مع هذا ونكتفي منه بتصحيح ذلك عن واحد فقط ممن يحتج به من أئمة العلم والفتوى، من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو من بعدهم من التابعين، وتابعي التابعين، أو الأئمة الأربعة، أو أصحاب الوجوه والترجيحات في مذاهبهم.

وأما من لا يحتج به من الخُلُوْفِ الذين يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فهؤلاء ليسوا بحجة، ولا يرجع إليهم بالاتفاق، والآثارُ والأحاديث دَلَّت على عيبهم وذمهم بما أحدثوه في دين الله من

ص: 83

الأقوال والأفعال، كما في حديث العرباض بن سارية1، وغيره من الأحاديث.

وما علمت أحداً من أهل العلم وأئمة الفتوى، قال هذا، لا من الصحابة ولا من غيرهم.

1 ونصه: قال العرباض بن سارية: "وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب. قلنا: يا رسول الله، إن هذه لموعظة مودع، فماذا تعهد إلينا؟ قال: "وقد تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك، ومن يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بما عرفتم من سنتي، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، وعليكم بالطاعة وإن عبداً حبشياً، عضوا عليها بالنواجذ، فإنما المؤمن كالجمل الأنف حيثما انقيد انقاد". هذا لفظ أحمد. وفي لفظ له:"أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة، وإن كان عبداً حبشياً، فإنه من يعش منكم يرى بعدي اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وإن كل بدعة ضلالة". أخرجه أحمد 4/ 126-127، وأبو داود 5/ 13-14-15، والترمذي 5/ 44-45، وابن ماجه 1/ 15-16-17، وابن حبان 1/ 105، والآجري في الشريعة ص 47، والمروزي في السنة ص21-22، وابن أبي عاصم في السنة 1/ 17-18-19-20-26-27-29-30، والطبراني في الكبير 18/ 245- 246- 247، والحاكم في المستدرك 1/ 95-96-97، وفي المدخل إلى الصحيح ص79-80-81، والبيهقي في الدلائل 6/ 541، وفي مناقب الشافعي 1/ 10-11.

قال الترمذي: حسن صحيح. وقال الحاكم: هذا حديث صحيح ليس له علّة، وأقره الذهبي، وصححه شيخ الإسلام ابن تيمية في الاقتضاء 2/ 579. وقال الحافظ ابن كثير في "تحفة الطالب" ص163: صححه الحافظ أبو نعيم الأصبهاني، والذعولي، وقال شيخ الإسلام الأنصاري: هو أجود حديث في أهل الشام وأحسنه. اهـ.

ص: 84

بل حكى الشيخ الإمام أحمد بن عبد الحليم الإجماع على المنع من دعائه صلى الله عليه وسلم، والطلب منه، وقرر أن هذا من شعب الشرك الظاهرة، وسيأتيك بسط كلامه.

وذكر الحنابلة كصاحب "الفروع" و"الإقناع" وغيرهم، حتى أصحاب المختصرات: أن المُسَلِّم عند القبر لا يستقبله عند الدعاء، ولا يدعو الله عنده. وهذا منهم صيانة للتوحيد.

وأبو حنيفة قال: لا يستقبله عند السلام عليه صلى الله عليه وسلم، بل يستقبل القبلة، وحكاه شيخ الإسلام.

وقد كره مالك للرجل أن يدعو عند القبر الشريف، على صاحبه أفضل الصلاة والسلام، وذكر أنه يستقبل القبلة عند الدعاء، كما ذكره في "المبسوط" وغيره من كتب المالكية.

وفي منسك الإمام أحمد مثل هذا، بل كرهوا للرجل من أهل المدينة أن يأتي القبر الشريف كما دخل المسجد، لأنه محدث، لم يفعله أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قال مالك: ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصْلَحَ أوّلَها1.

1 باعث هذه الكلمة التي هي من جوامع الكلم، ما ذكره القاضي عياض –رحمه الله في "الشفا" ج2/ 676 ط الحلبي، نقلاً من "المبسوط" للإمام إسماعيل بن إسحاق الجهضمي، عن الإمام مالك –رحمه الله أنه قال: لا بأس لمن قدم من سفر أن يقف على قبر النبي صلى الله عليه وسلم فيصلي عليه، ويدعو لأبي بكر وعمر –رضي الله عنهما.

فقيل له: فإن ناساً من أهل المدينة لا يقدمون من سفر، ولا يريدونه –أي لا يريدون السفر بل هم مقيمون- يفعلون ذلك في اليوم مرّة أو أكثر عند القبر،

ص: 85

وأما مَنْ قدم من سفر أو أراده من أهل المدينة فرخصوا1 له في إتيان القبر الشريف للسلام، لأن ابن عمر كان يفعله.

قال ابن أخيه عبيد الله بن عمر بن عاصم: لم يفعله أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا ابن عمر2.

وعبيد الله المصغَّر3 من أفضل آل عمر، ومن أعيان وقته، ثقةً وزهداً وعلماً.

وأما دعاؤه، وطلب الشفاعة منه صلى الله عليه وسلم بعد موته، فهم مجمعون على المنع منه.

ولم ينقل عن أحد من أئمة المسلمين، لا الأئمة الأربعة، ولا غيرهم، ما يقتضي الجواز والإباحة.

فيسلمون، ويدعون ساعة؟ فقال: لم يبلغني هذا عن أحد من أهل الفقه ببلدتنا، ولا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها، ولم يبلغني عن أول هذه الأمة وصدرها أنهم كانوا يفعلون ذلك. ويكره إلا لمن جاء من سفر، أو أراده. اهـ.

وانظر "الاقتضاء" لشيخ الإسلام ابن تيمية، 2/ 754.

1 في النسخ الخطية: "فرخص".

2 قال عبد الرزاق في "المصنف" 3/ 576: عن معمر عن أيوب عن نافع قال: كان ابن عمر إذا قدم من سفر أتى قبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال: السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا أبتاه.

وأخبرنا عبد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر. قال معمر: فذكرت ذلك لعبيد الله بن عمر، فقال: ما نعلم أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل ذلك إلا ابن عمر.

3 في ط: آل ثاني "المصفر".

ص: 86

قال شيخ الإسلام أبو العباس –رحمه الله: "والطلب من النبي صلى الله عليه وسلم بعد موته وفي مغيبه1 ليس مشروعاً قط، ولكن كثيراً من الناس يدعو2 الموتى والغائبين من الشيوخ وغيرهم، فتتمثل3 له الشياطين، و4تقضي بعض مآربه، لتضله5 عن سبيل الله كما تفعل الشياطين بعباد الأصنام، وعباد الشمس والقمر، وتخاطبهم، وتتراءى لهم، وهذا كثير يوجد في زماننا، وغير زماننا". انتهى.

وقال الشيخ –رحمه الله: "وكان الصحابة والتابعون –لما كانت الحجرة النبوية منفصلة عن المسجد إلى زمن الوليد بن عبد الملك- لا يدخل أحد إليها، لا لصلاة هناك، ولا لتمسح بالقبر، ولا دعاء هناك، بل هذا جميعاً إنما يفعلونه6 في المسجد7.

وكان السلف إذا سلموا على النبي صلى الله عليه وسلم وأرادوا الدعاء دعوا مستقبلي القبلة، ولم يستقبلوا القبر.

وأما وقوف المُسَلِّم عليه، فقال أبو حنيفة: ليستقبلوا القبلة أيضاًَ، و8لا يستقبلوا القبر.

1 في ط: آل ثاني: "مغيبة".

2 في النسخ الخطية: "يدعوا".

3 في النسخ الخطية: "فتمثل".

4 سقطت "و" من النسخ الخطية.

5 في النسخ الخطية: "لتضلهم".

6 في ط: آل ثاني: "يفعل".

7 في ط: آل ثاني: "بالمسجد".

8 سقطت "و" من النسخ الخطية.

ص: 87

وقال أكثر الأئمة: بل ليستقبلوا القبر عند السلام عليه خاصة، ولم يقل أحد من الأئمة إنه يستقبل القبر عند الدعاء –أي الدعاء الذي يقصده لنفسه1- إلا في حكاية مكذوبة تروى عن مالك، ومذهبه بخلافها.

واتفق الأئمة على أنه لا يمس قبر النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يُقَبِّله. وهذا كله محافظة على التوحيد، فإن من أصول الشرك بالله اتخاذ القبور مساجد.

قالت طائفة من السلف في قوله تعالى: {وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ} . الآية [نوح:23] . هؤلاء كانوا قوماً صالحين في قوم نوح، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم صوّروا تماثيلهم، ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم.

وقد ذكر بعض هذا البخاري في "صحيحه"2 لما ذكر قول ابن عباس. وذكر ابن جرير وغيره عن غير3 واحد من السلف. وذكره وَثِيْمَةُ4 وغيره في "قصص الأنبياء" من عدة طرق. انتهى.

1 في ط: آل ثاني: "بنفسه".

2 ج 8/ 667.

3سقطت "غير" من ط: آل ثاني.

4 هو: وَثِيْمة بن موسى بن الفرات الوَشَّاء، توفي سنة سبع وثلاثين ومائتين، من هجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم.

قال ابن خلّكان في "وفيات الأعيان" ج6/ 12: وصنّف –أي وثيمة- كتاباً في أخبار الردّة

ولم أعرف لوثيمة المذكور من التصانيف سوى هذا الكتاب اهـ.

ص: 88

وقال الحافظ محمد بن عبد الهادي من أكابر الحنابلة وعلمائهم: "والسلف كلهم متفقون على أن الزائر لا يسأله شيئاً –يعني النبي صلى الله عليه وسلم ولا يطلب منه ما يطلب منه في حياته، ويطلب منه يوم القيامة، لا شفاعة ولا استغفاراًَ".

وقال أيضاً: "والحكاية التي تنسب إلى مالك مع أبي جعفر المنصور كذبٌ عند أهل المعرفة بالنقل الصحيح". انتهى.

ومذهب مالك –رحمه الله المعروف عند أصحابه يخالف هذه الحكاية المكذوبة ويردها.

قال القاضي عياض: قال مالك في "المبسوط": "لا أرى أن يقف عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم يدعو1، ولكن يسلم ويمضي".

وقال القاضي إسماعيل في "المبسوط" قال مالك: "لا أرى أن يقف الرجل عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم ويدعو1، ولكن يسلم على النبي، وعلى أبي بكر، وعمر، ثم يمضي".

ولما نقل ابن وهب عن مالك أنه يدعو1 للنبي2 صلى الله عليه وسلم عند القبر، حمله أكابر أصحابه على الصلاة علي النبي صلى الله عليه وسلم. وابن

قلت: ومن كتبه أيضاً كتاب "قصص الأنبياء" الذي أشار إليه شيخ الإسلام ابن تيمية في "اقتضاء الصراط المستقيم" ج 2/ 767-768. وقال الحافظ ابن حجر –رحمه الله تعالى- في "لسان الميزان" جـ6/ 217: ووقفت له على تصنيف كبير في المبتدأ وقصص الأنبياء.

1 في النسخ الخطية: "يدعوا".

2 في ط: آل ثاني: "النبي" وهو خطأ فاحش.

ص: 89

عبد البر يقول: لفظ1 الرواية على ما ذكره ابن القاسم والقعنبي وغيرهما: يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، هذا لفظ مالك.

وقال بعض المالكية: المراد بالدعاء السلام، بدليل أنه ذكر في رواية ابن وهب نفسه يقول: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله.

وقد تقدم مذهب الحنابلة وأبي حنيفة.

وإذا كان هذا ممنوعاً مع أنه دعاء الله، فما ظنك بدعاء الرسول نفسه، وطلب الشفاعة منه صلى الله عليه وسلم؟

فالأول مُنِع منه لأنه وسيلة وذريعة إلى هذا المحذور الذي هو سؤال غير الله، وقصده في الحاجات. ولم يكن في عهد السلف شيء من هذا، وإنما حدث أوائله ومباديه بعد القرون المفضلة، وأنكرها أهل العلم والإيمان، محافظةً منهم2 على السنة، وحمايةً لجانب التوحيد، وطاعة لله ورسوله، وسداً لذرائع الشرك ووسائله.

وقد روى الضياء في "المختارة" عن الحسن بن الحسن أنه رأى رجلاً يجيء إلى فرجة عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم فنهاه عن ذلك، قال:"ألا أحدثكم حديثاً سمعته من أبي عن جدي، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "لا تتخذوا قبري عيداً، ولا بيوتكم قبوراً، وصلوا عليَّ فإن صلاتكم تبلغني حيثما كنتم"3.

1 في ط: آل ثاني: "لفظاً لرواية".

2 في النسخ الخطية: "منه".

3 هذا اللفظ الذي ذكره المؤلف هو لفظ حديث علي بن الحسين، انظر التعليقة رقم "1" من الصفحة القادمة.

ص: 90

وروي أيضاً عن علي بن الحسين زين العابدين.

وهذان الإمامان هما أفضل أهل البيت في زمانهما.

وقد روي هذا الحديث عن أبي هريرة في سنن أبي داود بلفظ: "لا تجعلوا بيوتكم قبوراً، ولا قبري عيداً

" الحديث1.

1 أخرجه الإمام أحمد في "المسند" 2/ 367، وأبو داود في كتاب المناسك من "سننه" 2/ 534 من طريق عبد الله بن نافع أخبرني ابن أبي ذئب عن سعيد المقبري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تتخذوا قبري عيداً، ولا بيوتكم قبوراً، وحيثما كنتم فصلوا عليَّ فإن صلاتكم تبلغني". هذا لفظ أحمد.

ولفظ أبي داود: "لا تجعلوا بيوتكم قبوراً، ولا تجعلوا قبري عيداً، وصلوا عليَّ فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم".

قال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية بعد أن ساق سند الحديث في "الاقتضاء" 2/ 654:

وهذا إسناد حسن، فإن رواته كلهم ثقات مشاهير. لكن عبد الله بن نافع الصائغ الفقيه المدني صاحب مالك فيه لين لا يقدح في حديثه. قال يحيى بن معين: هو ثقة، وحسبك بابن معين موثقاً. وقال أبو زرعة: لا بأس به.

وقال أبو حاتم الرازي: ليس بالحافظ وهو لين تعرف حفظه وتنكر. فإن هذه العبارات منهم تنزل حديثه من مرتبة الصحيح إلى مرتبة الحسن، إذ لا خلاف في عدالته وفقهه، وأن الغالب عليه الضبط، لكن قد يغلط أحياناً ثم هذا الحديث مما يعرف من حفظه، ليس مما ينكر، لأنه سنة مدنية، وهو محتاج إليها في فقهه، ومثل هذا يضبطه الفقيه.

وللحديث شواهد من غير طريقه، فإن الحديث روي من جهات أخرى، فما بقي منكراً.

وكل جملة من هذا الحديث رويت عن النبي صلى الله عليه وسلم بأسانيد معروفة، وإنما الغرض هنا النهي عن اتخاذه عيداً.

ص: 91

_________

فمن ذلك ما رواه أبو يعلى في مسنده: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا زيد بن الحباب حدثنا جعفر بن إبراهيم من ولد ذي الجناحين حدثنا علي بن عمر عن أبيه عن علي بن الحسين أنه رأى رجلاً يجيء إلى فرجة كانت عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم فيدخل فيدعو، فنهاه فقال: ألا أحدثكم حديثاً سمعته عن أبي عن جدي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:"لا تتخذوا قبري عيداً، ولا بيوتكم قبوراً، فإن تسليمكم يبلغني أينما كنتم". رواه أبو عبد الله محمد بن عبد الواحد المقدسي الحافظ فيما اختاره من الأحاديث الجياد الزائدة على الصحيحين، وشرطه فيه أحسن من شرط الحاكم في صحيحه. اهـ كلام شيخ الإسلام.

قال الهيثمي في المجمع 4/ 3 على هذا الحديث: "رواه أبو يعلى وفيه حفص بن إبراهيم الجعفري ذكره ابن أبي حاتم ولم يذكر فيه جرحاً وبقية رجاله ثقات" اهـ.

قلت: كذا في الأصل "حفص" والصواب "جعفر" كما ساقه شيخ الإسلام، وكما في المصنف لابن أبي شيبة 2/ 375 –وفضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم للجهضمي ص33.

وفي سنده علي بن عمر بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ذكره ابن حبان في "الثقات" وقال: يعتبر حديثه من غير رواية أولاده عنه. اهـ من التهذيب. وقال الحافظ ابن حجر في "التقريب": "مستور". اهـ.

ثم ذكر شيخ الإسلام لهذا الحديث شاهدين فقال في المصدر السابق:

وروى سعيد بن منصور في سننه: حدثنا حبان بن علي حدثني محمد بن عجلان عن أبي سعيد مولى المهري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تتخذوا بيتي عيداً ولا بيوتكم قبوراً وصلوا علي حيثما كنتم فإن صلاتكم تبلغني". انتهى كلام شيخ الإسلام.

وحبان بن علي هذا ضعفه الأئمة كما في التهذيب 2/ 173. وأبو سعيد مولى المَهْري قال عنه الحافظ ابن حجر في التقريب: مقبول. اهـ. يعني حيث يتابع وإلا فلين كما نص على هذا في المقدمة.

ص: 92

فانظر هذه السنة المأخوذة عن أقرب الناس من رسول الله صلى الله عليه وسلم نسباً وداراًَ. وتأمل ما دلت عليه من الحِكم والفوائد: من ذلك نهيه عن اتخاذ قبره عيداً، والعيد ما يعتاد مجيئه في وقت مخصوص. وتأمل حكمة ذلك ومقصوده، وما فهمه السلف منه1 من النهي عن التردد إلى القبر الشريف، كلما دخل المسجد.

وفيه: أن الصلاة والسلام يبلغه، وإِنْ بَعُدَ المُسَلِّم.

وفيه: أن الذي يجب له صلى الله عليه وسلم من التوقير والتكريم، والصلاة والسلام، مطلوب في كل مكان، وعلى أي حال، وذلك أكمل وأتم2 ممن يعتاد ذلك عند مجيئه إلى القبر، أو يزيد بالغلو والإطراء، فإذا بَعُدَ عنه فهو من أشد الناس معصية وجفاءً.

قال شيخ الإسلام في المصدر السابق: وقال سعيد: حدثنا عبد العزيز بن محمد أخبرني سهيل بن أبي سهيل قال: رآني الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عند القبر فناداني –وهو في بيت فاطمة يتعشى- فقال: هلم إلى العشاء. فقلت: لا أريده، فقال: ما لي رأيتك عند القبر؟ فقلت: سلمت على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إذا دخلت المسجد فسلم، ثم قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تتخذوا بيوتكم مقابر، لعن الله اليهود اتخذوا قبور أنبائهم مساجد، وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيثما كنتم"، ما أنتم ومن بالأندلس إلا سواء.

فهذان المرسلان من هذين الوجهين المختلفين يدلان على ثبوت الحديث، لا سيما وقد احتج به من أرسله؛ وذلك يقتضي ثبوته عنده، هذا لو لم يكن روي مسنداً من وجوه غير هذا، فكيف وقد تقدم مسنداًَ.

1 "منه" ليست في ط: آل ثاني.

2 في ط: آل ثاني "وأعم".

ص: 93

وفيه حماية أصل الدين وقاعدنه بصرف الوجوه إلى الله، وإنابة القلوب إليه، واعتمادها عليه.

ورعاية هذا الأصل من أهم1 أصول الشريعة، ومداركِ الأحكام.

وسؤال المخلوق وصرف الوجه إليه بالمسألة والطلب في الأمور الكلية يعود على هذا الأصل بالهدم والقلع.

فمن عرف هذا حق المعرفة، ونظر في أدلته وأصوله: تبين له علم السلف، ودقة نظرهم، وحسن سياستهم للناس بما يصلح دينهم ودنياهم.

وقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم اليهود والنصارى على اتخاذ قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد2.

1 سقطت "أهم" من "أ".

2 أخرجه الإمام أحمد 1/ 218-6/ 34-228-275، والبخاري في كتاب الصلاة من صحيحه 1/ 532-وفي المغازي 8/ 140-وفي الأنبياء 6/ 494-وفي اللباس 10/ 277.

ومسلم في كتاب المساجد من صحيحه 1/ 377 جميعهم من طريق الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن عائشة وابن عباس قالا

الحديث.

وأخرجه أحمد 6/ 274 عن عبيد الله عن عائشة

به.

وأخرجه الإمام أحمد أيضاً 6/ 80-121-255، والبخاري في كتاب الجنائز من صحيحه 3/ 200-255 كلاهما عن عروة عن عائشة.

وأخرجه الإمام أحمد 6/ 146-252 عن قتادة عن سعيد بن المسيب عن عائشة

به.

ص: 94

وذكر أبو بكر الإمام الأثرم وغيره من أئمة الحنابلة: أن العلة في ذلك كون الصلاة ونحوها من العبادات عند القبور وسيلة وذريعة إلى تعظيم أربابها بما لم يشرع من الغلوِّ، والدعاء، وعبادتها مع الله.

فكيف والحالة هذه يقال بجواز طلب الشفاعة من الرسول صلى الله عليه وسلم أو أن ذلك مجمع عليه، كما زعمه المفتري، الجاهل بالله تعالى ومعرفة حقه، وحق رسله، فنعوذ بالله من الخذلان.

والعلمُ يَدْخُلُ كُلَّ قلبِ موفقٍ

من غير بَوَّابٍ ولا استئذانِ

ويرده المحرومُ من خِذلانه

لا تشقِنَا اللهمَّ بالخِذْلَانِ

ص: 95