الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل التاسع
…
فصل
وقول العراقي: (هذه الآية صحيحة لكن الفهم باطل) مما يدل على جهله المركب، وكثافة فهمه، فإن القرآن أغنى وأعلى وأجل وأعظم من أن يعبر عنه بهذه العبارة، أو يقسم إلى صحيح وغيره.
وإنما تستعمل هذه العبارة فيما يقبل القسمة من الأحاديث، لأنها تنقسم إلى صحيح، وحسن، وضعيف، وموضوع1. ولا يُصَحِّح2 إلا من يضعف، ولا يحسّن إلا من يقبح.
وقد أنكر أبو حنيفة على رجل صار يحسن ما يسمع منه من الروايات، وزجره عن ذلك، وقال:"إنما يحسن من يقبح".
هذا في السنة ونحوها، فكيف بالقرآن الذي هو كله حق وهدى، تنزيل من حكيم حميد.
وقوله: (إن الدعاء هو السجود في هذه الآية، وأن نداء الصالحين ليس بعبادة) إلى آخر عبارته.
1 قال النووي في "تقريبه": "الحديث: صحيح، وحسن، وضعيف".
قال السيوطي في شرح كلام النووي هذا: وإنما لم يذكر الموضوع لأنه ليس في الحقيقة بحديث اصطلاحاً، بل يزعم واضعه. اهـ من "تدريب الراوي" 1/ 62.
2 في "أ": "
…
وموضوع، أما القرآن فكله حق وهدى، تنزيل من حكيم حميد" فعلى هذا يكون قد سقط من هذه النسخة أربعة أسطر.
فهذا الكلام نشأ عن جهله باللغة والشرع، وما جاءت به الأنبياء، فإن العبادة تتضمن غاية الخضوع والذل، ومنه طريق مُعَبَّد: إذا كان مذللاً قد وطئته الأقدام، هذا أصلها في اللغة.
وأما في الشرع فهي: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة. قاله شيخ الإسلام.
وقال بعضهم: هي ما أمر به شرعاً، من غير اقتضاء عقلي، ولا اطراد عرفي.
وقال بعضهم: هي فعل ما أمر الله به ورسوله، وترك ما نهى الله عنه ورسوله، ابتغاء وجه الله والدار الآخرة.
فدخل في هذه التعاريف والحدود جميع أنواع العبادات، فلا يقصد بها غير الله، ولا تصرف لسواه.
وهذا الغبي لم يعرف من أفرادها غير السجود.
ودعاءُ المسألة من أفضل أنواعها، وأجلها، كما في حديث النعمان بن بشير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"الدعاء هو العبادة"1.
1 أخرجه الإمام أحمد في مسنده 4/ 267-271-276-277، وأبو داود في سننه –كتاب الصلاة- 2/ 161، والترمذي في سننه –كتاب التفسير- 5/ 211، وفي –كتاب الدعاء- 5/ 456، وابن ماجه في سننه –كتاب الدعاء- 2/ 1258، وابن المبارك في الزهد ص 459، والطيالسي في مسنده ص108، وابن أبي شيبة في المصنف 10/ 200، والبخاري في الأدب المفرد 2/ 178، وابن جرير الطبري في تفسيره 24/ 78-79، وابن حبان في صحيحه –الموارد- (ص595) والطبراني في الصغير (2/97) والحاكم في مستدركه (1/ 490-491) ، والبغوي في شرح السنة 5/ 184، وفي تفسيره
والحصر يقتضي الاختصاص الادعائي، والتمييز على سائر العبادات. قال بعض الشراح: هو كقوله: "الحج عرفة"1. أي ركن العبادة الأعظم هو الدعاء.
-حاشية ابن كثير- 7/ 309، والقضاعي في مسند الشهاب 1/ 51، وأبو نعيم في الحلية 8/ 120 جميعهم من طريق يُسَيْع بن معدان عن النعمان بن بشير مرفوعاً
…
به وسنده صحيح.
وصححه الحاكم وأقره الذهبي، وقال الترمذي: حسن صحيح، وصححه النووي، كما في الأذكار، وقال الحافظ في الفتح: إسناده جيد. 1/ 49. وحسنه السخاوي –كما في شرح الأذكار- لابن علاّن 7/ 191.
والحديث عزاه السيوطي في الدر المنثور 7/ 301 لسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر وأبي حاتم وابن مردويه وأبي نعيم في الحلية 8/ 120، والبيهقي في شعب الإيمان كلهم عن النعمان بن بشير
…
به.
وأخرجه الخطيب في تاريخه 12/ 279، وابن مردويه –كما في الدر- 7/ 301 وأبو يعلى –كما في شرح الأذكار-7/ 191 عن البراء بن عازب رضي الله عنه.
1 أخرجه أبو داود في كتاب الحج من "سننه" باب من لم يدرك عرفة 2/ 485، والترمذي في "سننه" كتاب الحج، باب من أدرك الإمام بجمع فقد أدرك الحج 2/ 188 ط السلفية بالمدينة المنورة، والنسائي في باب من لم يدرك صلاة الصبح مع الإمام بالمزدلفة 5/ 264 من سننه، وابن ماجه في "سننه" كتاب المناسك، باب من أتى عرفة قبل الفجر ليلة جمع 2/ 1003 جميعهم عن بكير بن عطاء عن عبد الرحمن بن يَعْمر:"أن ناساً من أهل نجد أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بعرفة، فسألوه، فأمر منادياً فنادى: "الحج عرفة
…
" الحديث.
قال الترمذي: قال ابن أبي عمر: قال سفيان بن عيينة: "وهذا أجود حديث رواه سفيان الثوري". اهـ.
وقال ابن ماجه: قال محمد بن يحيى: "ما أرى للثوري حديثاً أشرف منه".
وقال الحاكم في المستدرك 1/ 464، 2/ 278: صحيح الإسناد وأقره الذهبي في التلخيص.
وفي حديث أنس: "الدعاء مخ العبادة"1. ومخ الشيء خالصه ولُبُّه.
وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "الدعاء سلاح المؤمن وعماد الدين"2. والعماد والعمود: ما يقوم به الشيء ويعتمد عليه، جعله عماداً3 لأنه لا يقوم إلا به. وأنت ترى كل العبادات الباطنة والظاهرة دالة على الطلب والمسألة على اختلاف المطلوب والمسؤول.
وكان هذا هو الوجه في التعبير بالدعاء دون العبادة في أكثر موارد القرآن والسنة.
ويشهد لهذا قوله صلى الله عليه وسلم: "أفضل الدعاء يوم عرفة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل
1 أخرجه الترمذي في سننه –كتاب الدعاء- 5/ 456 وقال: حديث غريب من هذا الوجه لا نعرفه إلا من حديث ابن لهيعة. اهـ.
2 أخرجه الحاكم في المستدرك 1/ 492 من جهة محمد بن الحسن بن الزبير الهمداني ثنا جعفر بن محمد بن علي بن الحسين عن أبيه عن جده عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
…
فذكره. قال الحاكم: هذا حديث صحيح، فإن محمد بن الحسن هذا هو التَّل، وهو صدوق في الكوفيين. اهـ. وأقره الذهبي في التلخيص.
وذكر الذهبي الحديث في "الميزان" في ترجمة التَّل مثالاً على مناكيره وقال: "فيه انقطاع" ثم ذكر الحديث في ترجمة "محمد بن الحسن بن أبي يزيد الهمداني" وقال: "وفيه انقطاع" وعليه فليحرر من محمد بن الحسن في هذا السند.
والحديث أخرجه أبو يعلى في مسنده 1/ 344 حدثنا الحسن بن حماد الكوفي حدثنا محمد بن الحسن بن أبي يزيد الهمداني عن جعفر بن محمد
…
.
قال الهيثمي في "المجمع" 10/ 147: رواه أبو يعلى وفيه محمد بن الحسن بن أبي يزيد وهو متروك اهـ.
3 في ط: آل ثاني: "عماد".
شيء قدير1. وقد سئل ابن عيينة عن معناه، فأنشد قول أمية في عبد الله بن جدعان:
أأذكر حاجتي أم قد كفاني
…
حياؤك إنَّ شيمتَك الحياءُ
قال في "القاموس": الدعاء هو الرغبة إلى الله. انتهى.
وقال الحسين بن محمد النعمي: الدعاء في الأصل موضوع لأن يكون من فقير عاجز خاضع، لغني قادر عزيز قاهر. انتهى.
والدعاء يَرِدُ في الكتاب والسنة بمعنى الطلب والمسألة بامتثال الأمر واجتناب النهي، ويرد بمعنى المسألة والطلب بالصيغة القولية.
وقد فسر قوله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} . الآية [غافر:60] بدعاء العبادة، وبدعاء المسألة، والقولان معروفان، والآية تشمل النوعين. قاله شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره، وذكر أنهما متلازمان، فكل عابد سائل، وكل سائل عابد.
وقال رحمه الله: والدعاء والدعوة في القرآن يتناول معنيين: دعاء العبادة، ودعاء المسألة –وساق جملة من الآيات- ثم قال: ولفظ الصلاة في اللغة بمعنى الدعاء، وسميت به لتضمنها معنى الدعاء دعاءِ العبادة والمسألة. ثم قال: فأحد الاسمين يتناول الآخر عند تجرده عنه،
1 أخرجه العقيلي في "الضعفاء" في ترجمة فرج بن فضالة الحمصي، من طريقه عن يحيى بن سعيد، عن نافع عن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "دعائي ودعاء الأنبياء قبلي عشية عرفة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير". قال العقيلي: لا يتابع عليه. اهـ ج 3/ 462.
وقال الحافظ ابن حجر في "التلخيص الحبير" ج2/ 272: وفي إسناده فرج بن فضالة وهو ضعيف جداً. قال البخاري: منكر الحديث. اهـ.
ويراد بالعابد من يطلب ذلك بامتثال الأمر، وإن لم يكن في ذلك صيغة سؤال، وسمي الذكر دعاء لما فيه من التعريض بالمسألة.
قال: وهذه الصيغة صيغة الطلب والاستدعاء إذا كانت مما لا1 يحتاج إليه الطالب، أو ممن يقدر على قهر المطلوب منه ونحو ذلك، فإنها تقال على وجه الأمر، إما لما في ذلك من حاجة الطالب، وإما لما فيه من نفع المطلوب منه. وأما إذا كانت من الفقير من كل وجه، للغني من كل وجه، فإنها سؤال محض بتذلل وافتقار. انتهى.
قلت: وقد نص على ما ذكره الشيخ من الفرق علماء المعاني صاحب "المفتاح" وغيره. وفرقوا في الصيغة الواحدة نظراً للمخاطب والمخاطِب –بكسر الطاء- فقالوا: هي من الأعلى أمر، ومن المساوي التماس، ومن دونه مسألة وطلب.
وقد فسر قوله تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً} . [الأعراف:55] بدعاء المسألة، قاله العلامة ابن القيم، وقرر2 أنه في هذه الآية أظهر. وذكر أن استعمال الدعاء في العبادة والمسألة من استعمال اللفظ في حقيقته الواحدة، ليس من المشترك، ولا المتواطئ، ولا المجاز.
وقوله تعالى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ} . [الإسراء:67] ظاهر في دعاء المسألة لمناسبة الحال والواقع.
و3في حديث عكرمة بن أبي جهل لما فرَّ يوم الفتح إلى السِّيْف، وركب البحر، جاءتهم ريح عاصف، وظنوا الهلكة، أخلصوا الدعاء لله،
1 في "أ": "مما يحتاج".
2 في ط: آل ثاني: "وقوله".
3 سقطت "و" من: "جـ" وط: آل ثاني.
وصاروا يتواصون بذلك، ويقول بعضهم لبعض لا ينجي في مثل هذا إلا الله. فقال عكرمة: إن كان لا ينجي في الشدة إلا هوتعالى، فكذلك لا ينجي في الرخاء إلا هو. وقال: لئن أنجاني الله لأرجعن إلى محمد، ولأضعن يدي في يده، فكان ذلك، وأسلم وحسن إسلامه –رحمه الله والقصة معروفة عند أهل العلم1.
وفي الحديث: "دعوة أخي ذي النون ما دعا بها مكروب إلا فرج الله عنه"2 سماها دعوة، وهي سؤال وطلب، وتوسل بالتوحيد.
1 قال الحافظ ابن حجر في "الإصابة": وقد أخرج قصة مجيئه –أي عكرمة- موصولة: الدارقطني (انظر السنن 3/ 59 كتاب البيوع، و4/ 167 في كتاب النذور) والحاكم (انظر المستدرك 2/ 54 كتاب البيوع) وابن مردويه، من طريق أسباط بن نصر عن السدي، عن مصعب بن سعد، عن أبيه قال: "لما كان يوم فتح مكة آمن رسول الله صلى الله عليه وسلم الناسَ إلا أربعة نفر
…
" انتهي. وقد أخرجه البيهقي في "سننه" كتاب الجزية، 9/ 212، وكتاب المرتد 8/ 202، 205.
وأخرجه أيضاً في "دلائل النبوة" ج5/ 59، وانظر "الدلائل" أيضاً جـ 5/ 98 وقد نقله عنه ابن كثير في "السيرة النبوية" –المأخوذة من البداية والنهاية- 3/ 565.
2 أخرجه الإمام أحمد في "المسند" 1/ 170، والترمذي في "الجامع" 5/ 529، والنسائي في "عمل اليوم والليلة" ص416، وأبو يعلى في "مسنده" 2/ 110-111، والبزار –كما في كشف الأستار- 4/ 43، وأبو عبد الله الحاكم في "المستدرك" 1/ 505، و2/ 382-383-583، والبيهقي في "الجامع لشعب الإيمان" 2/ 521، والطبراني في "الدعاء" 2/ 838 جميعهم من طريق يونس بن أبي إسحاق حدثنا إبراهيم بن محمد بن سعد حدثني والدي محمد عن أبيه سعد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "دعوة ذي النون إذ هو في بطن الحوت: لا إله إلا أنت، سبحانك، إني كنت من الظالمين، فإنه لم يدعُ بها مسلمٌ ربَّه في شيء قط إلا استجاب له". هذا لفظ أحمد، وألفاظهم متقاربة. وقد ساق قبله الإمام أحمد وأبو يعلى قصة.
وفي لفظ الحاكم 1/ 505 من هذا الطريق: "ألا أخبركم بشيء إذا نزل برجل منكم
والعراقي يقول: (لا تسمى دعاء وإنما هي نداء) وهذا رد على رسول الله، وتكذيب بآيات الله، وقول على الله بغير علم.
وفي السنن من حديث حصين بن عبد الرحمن الخزاعي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له حين أسلم: "كم كنت تعبد؟ قال: سبعة، واحد في السماء، وستة في الأرض، قال: "فمن الذي تعد لرغبتك ورهبتك؟ " قال: الذي في السماء"1.
ومن هذا الباب قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُكُم إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللهِ تَدْعُونَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} . [الأنعام:40] الآية. وهذا الدعاء ظاهر في دعاء المسألة حال الشدة والضرورة.
1 أخرجه الترمذي في "سننه" كتاب الدعوات، 5/ 519 من طريق أبي معاوية عن شبيب بن شيبة عن الحسن البصري عن عمران بن حصين
…
الحديث.
وقال عقبه: هذا حديث غريب.
وقد روى هذا الحديث عن عمران بن حصين من غير هذا الوجه. اهـ.
وأخرجه البخاري في التاريخ الكبير من هذا الطريق أيضاً، واختصر المتن 3/ 3.
وأخرجه أحمد في "المسند" 4/ 444 من طريق منصور عن ربعي بن حراش عن عمران بن حصين أو غيره
…
الحديث، وليس فيه سؤال النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه زيادة في الدعاء الذي قاله النبي صلى الله عليه وسلم له.
وأخرجه الحاكم من هذا الطريق أيضاً، وقال: حديث صحيح على شرط الشيخين وأقره الذهبي. (المستدرك 1/ 510) .
تنبيه: في الطبعة الأولى من هذا الكتاب –بتعليقي- حاشية على هذا الحديث فيها: (أخرجه الإمام أحمد 1/ 170) وهذا خطأ وذلك لأن هذا العزو لأحمد برقم هذه الصفحة وهذا الجزء إنما هو لحديث سعد بن أبي وقاص الذي تقدم تخريجه قبل هذا الحديث ص113، فدمجه الطابع –هداه الله- مع تخريج هذا الحديث، مع أني قد رقمته بيدي في تخريج الحديث السابق، فلينتبه.
وقال تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} . [العنكبوت:65] .
وما زال أهل العلم يستدلون بالآيات التي فيها الأمر بدعاء الله، والنهي عن دعاء غيره، على المنع من مسألة المخلوق ودعائه، بما لا يقدر عليه إلا الله، وكتبهم مشحونة بذلك، لا سيما شيخ الإسلام، وتلميذه ابن القيم، اللذين1 يزعم هذا العراقي أنه على طريقتهما.
أيها المدَّعِي سُلَيْمى سفاهاً2
…
لستَ منها ولا قلامةَ ظُفْرِ
إنما أنتَ من سُلَيْمى3 كواوٍ
…
ألحقت في الهجاء ظلماً بعَمْرِو
يوضح هذا أن ما لا يقدر عليه إلا الله4 من الأمور العامة الكلية لهداية القلوب، ومغفرة الذنوب، والنصر على الأعداء، وطلب الرزق من غير جهة معينة، والفوز بالجنة، والإنقاذ من النار، ونحو ذلك غاية في القصد والإرادة، فسؤاله وطلبه غاية في السؤال والطلب، وفي ذلك من الذل وإظهار الفاقة والعبودية، ما لا ينبغي أن يكون لمخلوق، أو يقصد به غير الله. وهذا أحد الوجوه في الفرق بين دعاء المخلوق فيما يقدر عليه من الأسباب العادية الجزئية، وبين ما تقدم، مع أن سؤال المخلوق قد يحرم مطلقاً.
1 في ط: آل ثاني: "الذين".
2 في "أ" و"جـ": (وصل ليلى) .
3 في "أ" و"جـ": (ليلى) .
4 سقطت: "إلا الله" من ط: آل ثاني.
ومسألة المخلوق في الأصل محرمة، وإنما أبيحت للضرورة. قال تعالى:{فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ*وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} . [الشرح:7-8] .
وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه بايع نفراً من أصحابه أن لا يسألوا الناس شيئاً. فكان أحدهم يسقط السوط من يده فلا يقول لأحد ناولنيه1.
وقد اشتهر عنه صلى الله عليه وسلم أنه منع من تعليق الأوتار والتمائم، وأمر بقطعها، وبعث رسوله بذلك2، كما في السنن وغيرها. وقال: "من
1 أخرج الإمام مسلم في "صحيحه" كتاب الزكاة 2/ 721 عن عوف بن مالك الأشجعي قال: "كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم تسعة أو ثمانية أو سبعة. فقال: "ألا تبايعون رسول الله؟ " وكنا حديث عهد ببيعة، فقلنا: قد بايعناك يا رسول الله. ثم قال: "ألا تبايعون رسول الله؟ " فقلنا: قد بايعناك يا رسول الله. ثم قال: "ألا تبايعون رسول الله؟ " فبسطنا أيدينا وقلنا: قد بايعناك يا رسول الله، فعلامَ نبايعك؟ قال: "على أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً، والصلوات الخمس، وتطيعوا –وأسرّ كلمة خفيفة- ولا تسألوا الناس شيئاً" فلقد رأيت بعض أولئك النفر يسقط سوط أحدهم، فما يسأل أحداً يناوله إياه".
2 أخرج البخاري في صحيحه –كتاب الجهاد- باب ما قيل في الجرس ونحوه في أعناق الإبل، 6/ 141، ومسلم في صحيحه –كتاب اللباس والزينة- 3/ 1672-1673، كلاهما من طريق عبد الله بن أبي بكر عن عباد بن تميم أن أبا بشير الأنصاري أخبره أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره –قال عبد الله: حسبت أنه قال: والناس في مبيتهم –فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم رسولاً: "لا يبقين في رقبة بعير قلادة من وتر أو قلادة إلا قطعت".
قال الإمام مسلم بعد إخراجه: قال مالك: أرى ذلك من العين. اهـ.
تعلق شيئاً وكل إليه"1.
1 أخرجه الإمام أحمد في "مسنده" 4/ 310-311، والترمذي في "جامعه" كتاب الطب –باب ما جاء في كراهية التعليق- كلاهما من جهة محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن عيسى أخيه، قال: دخلتُ على عبد الله بن عُكيم أبي معبد الجهني أعوده، وبه حمرة، فقلنا: ألا تعلق شيئاًَ؟ قال: الموت أقرب من ذلك. قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من تعلق شيئاً وكل إليه". هذا سياق الترمذي، وقال عقب إخراجه: حديث عبد الله بن عكيم إنما نعرفه من حديث محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، وعبد الله بن عكيم لم يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم، وكان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: كتب إلينا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم. اهـ.
ونسبه المنذري في "الترغيب والترهيب" 5/ 268، والتبريزي في "مشكاة المصابيح" 2/ 1285، وابن الأثير في "جامع الأصول" 7/ 575، والشيخ سليمان بن عبد الله في "تيسير العزيز الحميد" ص 168: إلى أبي داود. وقد نفى المعلق على "جامع الأصول" وجود الحديث في أبي داود.
ومما يؤيد ذلك أن المزي –رحمه الله تعالى- لم ينسبه إلى أبي داود في "التحفة" 5/ 317، وقال الحافظ ابن مفلح في "الآداب" 3/ 77: وقال بعضهم: رواه أبو داود. اهـ.
ووقع عند من نسبه إلى أبي داود: "عن عيسى بن حمزة قال: دخلت على عبد الله
…
". والصواب: عيسى بن عبد الرحمن.
والحديث أخرجه –من طريق ابن أبي ليلى
…
به- غير من تقدم: ابن أبي شيبة في "المصنف" كتاب الطب 8/ 13، والحاكم في "المستدرك" كتاب الطب 4/ 216، والبيهقي في "سننه" كتاب الضحايا –باب التمائم 9/ 351، والطبراني في "المعجم الكبير" 22/ 385 في ترجمة أبي معبد الجهني، وقال الطبراني: وقد قيل إنه عبد الله بن عكيم اهـ. قلت: بذا جزم الحاكم وغيره.
قال الهيثمي في "مجمع الزوائد": رواه الطبراني في ترجمة أبي معبد الجهني، في الكنى، قال: وقد قيل: إنه عبد الله بن عكيم. قلت: فإن كان هو فقد ثبتت صحبته بقوله:
_________
سمعت. وفي إسناده محمد بن أبي ليلى وهي سيئ الحفظ. انتهى كلام الهيثمي.
قال كاتبه: لا يثبت سماعه من النبي صلى الله عليه وسلم بمثل هذا السند الذي فيه ابن أبي ليلى، والذي عليه الأئمة أبو حاتم، والبخاري، وأبو نعيم، وأبو زرعة، وابن حبان وغيرهم: أنه لم يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً.
وللحديث شاهد من حديث أبي هريرة، أخرجه النسائي في "سننه" كتاب تحريم الدم، باب الحكم في السحرة، من طريق عباد بن ميسرة المنقري عن الحسن عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من عقد عقدةً ثم نفث فيها فقد سحر، ومن سحر فقد أشرك، ومن تعلق شيئاً وكل إليه".
قال الحافظ المنذري في "الترغيب والترهيب" 4/ 32:
رواه النسائي من رواية الحسن عن أبي هريرة، ولم يسمع منه عند الجمهور. اهـ.
وقال العلامة الحافظ ابن مفلح –رحمه الله تعالى- في "الآداب" 3/ 78 بعد أن نقل عن الذهبي قوله في "الميزان2/ 378": لا يصح –أي هذا الحديث- للين عبّاد، ولانقطاعه. قال ابن مفلح: كذا قال، ويتوجه أنه حديث حديث حسن. اهـ. قلت: أي بشواهده.
ومن شواهد الحديث: ما أخرجه عبد الرزاق في "المصنف" 11/ 209: أخبرنا معمر عن أبان عن الحسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من علق علقة وكل إليها".
وأخرجه البيهقي في "سننه" 9/ 351 من طريق جرير بن حازم قال: سمعت الحسن البصري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
…
فذكره.
ومن شواهده أيضاً ما أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" 8/ 17: حدثنا وكيع عن شعبة عن قتادة عن واقع بن سحبان قال: قال عبد الله: "من تعلق شيئاً وكل إليه".
وأخرجه البيهقي في "السنن" 9/ 351 من جهة شعبة عن قتادة عن واقع بن سحبان عن أسير بن جابر قال: قال عبد الله
…
فذكره.
وواقع بن سحبان هو أبو عقيل البصري، ذكره البخاري في "التاريخ الكبير" 8/ 189 وابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل" 9/ 49، ولم يذكرا فيه جرحاً ولا تعديلاً.
بل نهى عن قول الرجل: ما شاء الله وشئت. وقال لمن قال له ذلك: "أجعلتني لله نداً"1.
وذكره ابن حبان في "الثقات" 5/ 498.
وقد روى عنه: قتادة بن دعامة السدوسي، وثابت البناني، وحميد الطويل.
وروى عن: أبي موسى، وعمران بن حصين، وأسير بن جابر.
ولم يذكر من ترجمه أنه روى عن عبد الله بن مسعود، فلعل ما وقع في سند ابن أبي شيبة خطأ من الناسخ، فليحرر.
ومن شواهده أيضاً ما رواه ابن حبان في "صحيحه" أخبرنا الفضل بن حباب، حدثنا أبو الوليد الطيالسي، حدثنا مبارك بن فضالة، عن الحسن، عن عمران بن حصين:"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى في يد رجل حلقة من صفر، فقال: ما هذا؟ قال: من الواهنة. قال: ما تزيدك إلا وهناً، انبذها عنك، فإنك إن تمت وهي عليك وكلت إليها".
وأخرجه أيضاً من جهة أبي عامر الخزاز عن الحسن عن عمران
…
به، وفيه "أيسرّك أن توكل إليها؟ ".
قال الحافظ المنذري في "الترغيب والترهيب" 5/ 268-269 بعد أن عزا الحديث لأحمد وابن ماجه وابن حبان والحاكم، وبَيَّنَ ألفاظهم:
رووهم كلهم عن مبارك بن فضالة عن الحسن عن عمران. ورواه ابن حبان أيضاً بنحوه عن أبي عامر الخزاز عن الحسن عن عمران، وهذه جيدة، إلا أن الحسن اخنلف في سماعه من عمران، وقال ابن المديني وغيره: لم يسمع منه، وقال الحاكم: أكثر مشايخنا على أن الحسن سمع من عمران. والله أعلم. اهـ.
وقال ابن مفلح في "الآداب" على هذا الحديث: "
…
ورواه ابن ماجه من حديث وكيع عن المبارك. والمبارك مختلف فيه، وهو مدلس. وقال أحمد: ما روى عن الحسن لا يحتج به. اهـ.
1 أخرجه الإمام أحمد في "المسند" 1/ 214-224-283-347، وابن ماجه في "السنن" 1/ 684، والبخاري في "الأدب المفرد" 2/ 253 –مع شرحه- والنسائي
ومنع من التبرك بالأشجار والأحجار. وقال لأبي واقد الليثي وأصحابه من مسلمة الفتح لما قالوا له: اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط: " قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى {اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} "1.
في "عمل اليوم والليلة" 545-546، وابن أبي الدنيا في "الصمت وآداب اللسان" ص 414، وابن السني في "عمل اليوم والليلة" ص 180-181، رقم 667، والطحاوي في "مشكل الآثار" 1/ 90، والطبراني في "الكبير" 12/ 244، والبيهقي في "السنن" 3/ 217، وفي "الأسماء والصفات" ص 182، وأبو نعيم في "الحلية" 4/ 99، والخطيب في "تاريخ بغداد" 8/ 105، جميعهم من جهة الأجلح بن عبد الله عن يزيد بن الأصم عن ابن عباس
…
به.
قال البوصيري في "الزوائد": وفي إسناده الأجلح بن عبد الله مختلف فيه، ضعفه الإمام أحمد، وأبو حاتم، والنسائي، وأبو داود، وابن سعد. ووثقه ابن معين، ويعقوب بن سفيان، والعجلي. وباقي الإسناد ثقات. اهـ.
وقد لخص الحافظ ابن حجر أقوال أهل الجرح والتعديل فيه فقال: "صدوق" كما في التقريب. وكذا قال الذهبي في "ديوان الضعفاء" ص 15.
وعلى هذا قال العلامة المحدث الشيخ محمد ناصر الدين الألباني –حفظه الله تعالى- في "السلسلة الصحيحة" 139: إسناده حسن.
1 أخرجه الإمام أحمد في "المسند" 5/ 218، والترمذي في كتاب الفتن من "جامعه" 4/ 475، والنسائي في الكبرى –كما في تحفة الأشراف 11/ 112، والاقتضاء لشيخ الإسلام ابن تيمية 1/ 146، والشافعي "بدائع المنن" 23، والطيالسي في "مسنده" ص 191، وعبد الرزاق في "المصنف" 11/ 369، وابن أبي شيبة في "المصنف" 15/ 101، والحميدي في "المسند" 2/ 375، وابن أبي عاصم في "السنة" 1/ 37، والمروزي في "السنة" ص 11-12، والطبراني في "الكبير" 3/ 275-276، وابن حبان في "صحيحه" –الإحسان- 8/ 248، والبيهقي في
ونهى عن الصلاة عند القبور وإن لم يقصدها المصلي. ولعن من فعل ذلك، وأخبر أنهم شرار الخلق عند الله1.
"دلائل النبوة" 5/ 124-125، وفي "المعرفة" 1/ 108، وابن إسحاق –كما في سيرة ابن هشام 4/ 70-71 والبداية والنهاية 4/ 362، وابن جرير الطبري في "تفسيره" 9/ 45-46، والبغوي في "تفسيره" 3/ 544 –حاشية ابن كثير- جميعهم عن سنان بن أبي سنان الدؤلي عن أبي واقد الليثي
…
به.
1 يشير المؤلف –رحمه الله تعالى- إلى عدّة أحاديث، فأما حديث النهي عن الصلاة عند القبور فتقدم.
وأما حديث: "لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد
…
". فأخرجه الإمام أحمد 1/ 218-6/ 34-228-275، والبخاري في كتاب الصلاة من "صحيحه" 1/ 532 – وفي المغازي 8/ 140- وفي الأنبياء 6/ 494 – وفي اللباس 10/ 277.
ومسلم في كتاب المساجد من "صحيحه" 1/ 377 جميعهم من طريق الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن عائشة وابن عباس قالا:
…
الحديث.
وأخرجه أحمد 6/ 274 عن عبيد الله عن عائشة
…
به.
وأخرجه الإمام أحمد أيضاً 6/ 80-121-255، والبخاري في كتاب الجنائز من "صحيحه" 3/ 200-255 كلاهما عن عروة عن عائشة.
وأخرجه الإمام أحمد 6/ 146-252 عن قتادة عن سعيد بن المسيب عن عائشة
…
به.
وأخرجه أحمد أيضاً 2/ 284، 285، 366، 396، 435، 454 ومسلم في "صحيحه" 1/ 376 من طريق الزهري عن ابن المسيب عن أبي هريرة.
وأخرجه الإمام أحمد في "المسند" 2/ 246 عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة.
وأخرجه مسلم 1/ 377 عن يزيد بن الأصم عن أبي هريرة.
وللحديث طرق وشواهد غير ما ذكر.
وأما الحديث الثالث الذي يشير إليه المؤلف، فأخرجه البخاري في "صحيحه" –كتاب الصلاة- 1/ 523، 524، 531، وفي كتاب الجنائز، 3/ 208، وفي كتاب مناقب الأنصار 7/ 187-188.
ونهى عن الذبح لله في مكان يذبح فيه لغيره1، حسماً لمادة الشرك، وقطعاً لوسائله، وسداً لذرائعه، وحماية للتوحيد، وصيانة لجانبه.
فمن المستحيل شرعاً وفطرة وعقلاً؛ أن تأتي هذه الشريعة المطهرة الكاملة بإباحة دعاء الموتى والغائبين، والاستغاثة بهم في المهمات والملمات، كقول النصراني: يا والدة المسيح اشفعي لنا إلى الإله، أو يا عيسى، أعطني كذا، وافعل بي2 كذا، وكذلك قول القائل: يا علي، أو يا حسين، أو يا عباس، أو يا عبد القادر، أو يا عيدروس، أو يا بدوي، أو فلان وفلان: أعطني كذا، أو أجرني من كذا، أو أنا في حسبك، أو نحو ذلك من الألفاظ الشركية، التي3
ومسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة من "صحيحه" كلاهما عن عائشة أن أم حبيبة وأم سلمة ذكرتا كنيسة رأينها بالحبشة، فيها تصاوير، لرسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح، فمات، بَنَوْا على قبره مسجداً، وصوّروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة".
1 يشير المؤلف –رحمه الله تعالى- إلى ما رواه أبو داود في سننه –كتاب الأيمان والنذور- 3/ 607 من جهة يحيى بن أبي كثير، قال: حدثني أبو قلابة، قال حدثني ثابت بن الضحاك، قال:"نذر رجل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينحر إبلاً ببُوانة، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إنى نذرت أن أنحر إبلاً ببوانة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد؟ " قالوا: لا. قال: "هل كان فيها عيد من أعيادهم؟ " قالوا: لا. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أوفِ بنذرك، فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله، ولا فيما لا يملك ابن آدم".
قال الحافظ ابن حجر في "التلخيص الحبير" 4/ 198: "بسند صحيح".
2 في ط: آل ثاني: "لي".
3 في "أ": "اللتي".
تتضمن1 العدل بالله، والتسوية به تعالى وتقدس، فهذا لا تأتي شريعة ولا رسالة بإباحته قط، بل هو من شُعَب الشرك الظاهرة الموجبة للخلود في النار، ومقتِ العزيز الغفار.
وقد نص على ذلك مشايخ الإسلام، حتى ذكره ابن حجر في "الإعلام" مقرراً له.
وتأويل الجاهلين، والميل إلى شبه المبطلين، هو الذي أوقع هؤلاء وأسلافهم الماضين، من أهل الكتاب والأميين، في الشرك بالله رب العالمين.
فبعضهم يستدل على شركه بالمعجزات والكرامات.
وبعضهم برؤيا المنامات.
وبعضهم بالقياس على السوالف والعادات.
وبعضهم بقول من يُحَسِّن به الظن.
وكل هذه الأشياء ليست من الشرع في شيء، وعند رهبان النصارى وعباد الصليب والكواكب من هذا الضرب شيء كثير، وبعضهم أحذق من هذا العراقي وأمثاله، الذين لم يفهموا من العبادة سوى السجود، ولم يجدوا في معلومهم سواه، فأين الحب والخضوع، والتوكل والإنابة، والخوف والرجاء، والرغب والرهب، والطاعة والتقوى، ونحو ذلك من أنواع العبادة الباطنة والظاهرة؟ فكل هذا عند العراقي يصرف لغير الله، ولا يكون عبادة، لأن
1 في "أ": "تتظمن".
العبادة السجود فقط، بل عبارته تفهم أن السجود لا يحرم إلا على من زعم الاستقلال، وقد رأينا من المشركين، ولم نرَ مثل هذا الرجل في جهله ومجازفته وبلادته.
ولولا ما نقصده من انتفاع من اطلع على هذه الرسالة لم نتعرض لرد شيء من كلامه، لظهور بطلانه.
ويزيد هذا ظهوراً ما جاء في الحديث من قوله: "من سأل الناس وله ما يغنيه جاءت مسألته خدوشاً أو خموشاً في وجهه يوم القيامة"1. وقوله: "لا تزال المسألة بأحدكم حتى يلقى الله وليس على
1 أخرجه الإمام أحمد في "المسند" 1/ 388-441، وأبو داود في "سننه" كتاب الزكاة -2/ 277-278، والترمذي في "سننه" كتاب الزكاة -3/ 31-32، والنسائي في "سننه" كتاب الزكاة -5/ 97، وابن ماجه في "سننه" كتاب الزكاة -1/ 589، جميعهم من طريق حكيم بن جبير عن محمد بن عبد الرحمن بن يزيد عن أبيه عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
…
فذكره.
قال الترمذي: حديث ابن مسعود حديث حسن. وقد تكلم شعبة في حكيم بن جبير من أجل هذا الحديث. اهـ.
وقال أبو داود: قال يحيى-أي ابن آدم- فقال عبد الله بن عثمان لسفيان: حفظي أن شعبة لا يروي عن حكيم بن جبير. فقال سفيان: فقد حدثنا زبيد عن محمد بن عبد الرحمن بن يزيد. اهـ. وقد ذكر هذه المحاورة النسائي وابن ماجه.
وزبيد هو ابن الحارث بن عبد الكريم: ثقة ثبت عابد، فالإسناد صحيح من طريقه.
قال الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على المسند 5/ 248: فقد ظهر مما روى أبو داود والترمذي عن سفيان أن الحديث صحيح من جهة زبيد اليامي، لم ينفرد به حكيم بن جبير. اهـ.
وجهه مزعة لحم" 1.
وقوله: "من نزلت به فاقة فأنزلها بالناس لم تسد فاقته، ومن أنزلها بالله أَوْشَكَ 2 له بالغنى: إما 3 بموت عاجل، أو غنى عاجل"4.
1 أخرجه البخاري في "صحيحه" كتاب الزكاة –باب من سأل الناس تكثراً- 2/ 536 ط مصطفى البُغا، ومسلم في "صحيحه" كتاب الزكاة 3/ 720 عن ابن عمر رضي الله عنهما.
2 في ط: آل ثاني: "أو شكر".
3 في النسخ الخطية، والمطبوعة:"أو" والمثبت من مصادر الحديث.
4 أخرجه الإمام أحمد في المسند 1/ 389، 442: حدثني وكيع حدثني بشير بن سلمان عن سيار أبي الحكم عن طارق بن شهاب عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
…
فذكره.
ووقع في الموضع الأول من المسند: "بشر بن سليمان" وهو خطأ نبه عليه الشيخ أحمد شاكر. وبشير بن سلمان هو أبو إسماعيل الكندي وثقه أحمد وابن معين.
وأخرج الحديث الترمذي فقال: عن بشير أبي إسماعيل، عن سيّار، عن طارق بن شهاب
…
إلخ. "السنن 4/ 563".
وأخرجه أبو داود فقال: عن بشير بن سلمان عن سيّار أبي حمزة عن طارق
…
إلخ. "السنن 2/ 296".
وقوله "عن سيار أبي حمزة" هو الصحيح، وما وقع في "المسند" خطأ نبه عليه غير واحدٍ من العلماء.
قال عبد الله بن الإمام أحمد "المسند 1/ 442": "حدثني أبي ثنا عبد الرزاق أنا سفيان عن بشير أبي إسماعيل عن سيار أبي حمزة
…
فذكره. قال أبي: وهو الصواب سيار أبو حمزة. قال: وسيار أبو الحكم لم يحدث عن طارق بن شهاب بشيء". اهـ.
قال الحافظ ابن حجر في "التهذيب" في ترجمة سيار أبي الحكم: "وروى أبو داود
_________
والترمذي حديث بشير بن إسماعيل ثنا سيار أبو الحكم عن طارق بن شهاب عن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أصابته فاقة فأنزلها بالناس لم تسد فاقته
…
الحديث".
قال أبو داود عقبه: هو سيار أبو حمزة، ولكن بشيراً كان يقول: سيار أبو الحكم، وهو خطأ. قال أحمد: هو سيار أبو حمزة، وليس قولهم: سيار أبو الحكم بشيء". اهـ.
قلت: هكذا قال ابن حجر: والذي في سنن أبي داود المطبوعة –رواية اللؤلؤي- وكذا في "تحفة الأشراف" 7/ 61: "عن سيار أبي حمزة" وليس لأبي داود كلام عقب هذا الحديث في النسخ المطبوعة التي بين يدي.
ثم قال الحافظ: "وقال الدارقطني: قول البخاري: سيار أبو الحكم سمع طارق بن شهاب وهمٌ منه، وممن تابعه، والذي يروي عن طارق هو: سيار أبو حمزة، قال ذلك أحمد ويحيى وغيرهما".
ثم قال الحافظ أيضاً: "
…
وتبع البخاري في أنه يروي عن طارق مسلمٌ في الكنى، والنسائيُّ، والدولابيُّ، وغير واحد، وهو وهمٌ كما قال الدارقطني". اهـ كلام ابن حجر.
وقال في "التقريب" في ترجمة أبي الحكم: وليس هو الذي يروي عن طارق بن شهاب. اهـ. وفي ترجمة أبي حمزة منه: "ووقع في الإسناد عن سيار أبي الحكم عن طارق، والصواب: عن سيار أبي حمزة". اهـ.
وقال –رحمه الله أيضاً في ترجمة "سيار أبي حمزة": قد ذكر الخطيب في التلخيص أن الثوري روى عن بشير عن سيار أبي حمزة عن طارق عن ابن مسعود حديثاً، واختلف فيه على سفيان، فقال عبد الرزاق وغيره عنه هكذا. وقال المعافى بن عمران عن سفيان عن بشير عن سيار أبي الحكم
…
اهـ.
وقد رجح الشيخ أحمد شاكر في التعليق على المسند 5/ 258 أن سياراًَ هذا هو أبو الحكم، وعلى هذا صحح الإسناد. فإن أبا الحكم ثقة، وأبا حمزة مجهول.
وقال الحاكم بعد إخراجه للحديث: صحيح الإسناد ولم يخرجاه. اهـ. وأقره الذهبي في التلخيص.
وقوله: "لا تحل المسألة إلا لثلاثة: الذي غرم مفضع، أو فقر مدقع، أو دم موجع"1. هذا في سؤال الخلق ما يقدرون عليه من الأسباب الجزئية، فكيف ترى بما لا يقدر عليه إلا الله من الأمور العامة الكلية.
وعلى زعم هذا العراقي لا يكره شيء من ذلك ولا يمنع لمن قصد الصالحين ودعاهم.
وقوله: (على أنها أرباب) يريد به ما مَرَّ من أن دعاءها2 ومسألتها بطريق السبب والشاعة لا يضر. وقد تقدم رد هذا بما يغني عن إعادته.
وقد عُلِّق على الحكم بالكفر وإباحة الدم والمال بنفس الشرك، وعبادة غير الله، قال تعالى:{وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً} . [التوبة:36] . وقال: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ} .
1 أخرجه أبو داود في "سننه" كتاب الزكاة –باب ما تجوز فيه المسألة 2/ 292، وابن ماجه في "سنن" كتاب التجارات –باب بيع المزايدة- 2/ 740-741 كلاهما من طريق الأخضر بن عجلان عن أبي بكر الحنفي، عن أنس بن مالك
…
الحديث وفيه قصة.
وأخرجه الترمذي في أبواب البيوع من "سننه" 4/ 214 ط المكتبة الإسلامية-استانبول، والنسائي في البيوع من "سننه" باب البيع فيمن يزيد 7/ 259 كلاهما من طريق الأخضر بن عجلان عن أبي بكر الحنفي عن أنس مختصراً، ليس فيه موضع الشاهد.
قال الترمذي عقبه: حديث حسن. اهـ.
2 في "أ": "دعائها".
[الأنفال: 39] . والفتنة: الشرك. وقال تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ} . الآية [المائدة: 72] . وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} . [النساء:48] .
ومن المشتهر عندهم أن تعليق الحكم بالمشتق يؤذن بالعِلِّية. وهذا الأحمق زاد قيداً فقال: "لا يشرك إلا من قصد واعتقد الاستقلال من دون الله". وفي تلبية المشركين في الجاهلية: "لبيك لا شريك لك، إلا شريكاً هو لك، تملكه وما ملك"1.
فهؤلاء لم يدَّعوا الاستقلال. وعلى زعم هذا ليسوا بمشركين.
وقوله: (وهذا نداء لا دعاء) من أدل الأشياء على جهله، وعدم ممارسته لشيء من العلم وإن قَلَّ، فإن النداء هو رفع الصوت بالدعاء، أو الأمر، أو النهي، ويقابله النجا الذي هو المسارَّة وخفض الصوت.
هذا بإجماع أهل اللغة، كما حكاه ابن القيم في "نونيته" وشيخ الإسلام في "تسعينيته" وليس قسيماً للدعاء كما ظنه الغبي. قال تعالى:{وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ} . الآية [الكهف: 52] . ما فعلوه عين ما أمروا به، وكفى بهذه الآية حجة على إبطال قوله. وقال تعالى:{وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ} . [الأنبياء:83] .
1 أخرجه مسلم في صحيحه –كتاب الحج- 2/ 843 عن ابن عباس –رضي الله عنهما قال: كان المشركون يقولون: لبيك لا شريك لك. قال: فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ويلكم قدِ قدٍ". فيقولون: إلا شريكاً هو لك، تملكه وما ملك. يقولون هذا وهم يطوفون بالبيت.
{وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِن قَبْلُ} . [الأنبياء:76] . {وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ} . [الأنبياء:87] . وقال تعالى: {ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا*إِذْ نَادَى رَبَّهُ} . [مريم:2، 3] . وسمى هذا النداء دعاءً في كتابه العزيز. قال عن نوح عليه السلام {فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ} . [القمر:10] . وقال: {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ} . [آل عمران:38] .
وفي الحديث: "دعوة أخي ذي النون ما دعا بها مكروب إلا فرج الله عنه"1.
وفيه أيضاً: "لولا دعوة أخينا سليمان لأصبح موثقاً"2. يعني الشيطان الذي تفلت عليه صلى الله عليه وسلم.
وفيه: "ألا أنبئكم بأول أمري وآخره: دعوة أبي إبراهيم، وبشارة عيسى"3.
1 تقدم الكلام عليه، ص 83.
2 أخرج البخاري في صحيحه –كتاب التفسير- 8/ 546 من طريق شعبة عن محمد بن زياد عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن عفريتاً من الجنّ تفلت عليَّ البارحة –أو كلمة نحوها- ليقطع علىَّ الصلاة، فأمكنني الله منه، وأردت أن أربطه إلى سارية من سواري المسجد، حتى تصبحوا وتنظروا إليه كلكم، فذكرت قول أخي سليمان: "رَبِّ هَبْ لِيْ مُلْكاً لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِيْ".
وأخرجه أيضاً في كتاب أحاديث الأنبياء من صحيحه 6/ 457 من هذا الطريق بهذا اللفظ.
وأخرجه أيضاً مسلمٌ والنسائي من طريق شعبة
…
به.
وأخرج الحديث مسلمٌ في صحيحه –كتاب المساجد ومواضع الصلاة -1/ 385 عن أبي الدرداء رضي الله عنه
…
به وفيه قصة.
3 قال الحافظ ابن كثير في "تفسيره" 4/ 382 ط مكتبة النهضة: وقال محمد بن
يشير بدعوة سليمان إلى قوله: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي} . الآية [ص:35] . وبدعوة إبراهيم إلى قوله تعالى: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ} . [البقرة:129] . فسمى هذه المسألة دعوة، والتاء فيها للوحدة.
وقال معاذ –رضي الله تعالى عنه- في الطاعون: "إنه ليس برجز، إنه دعوة نبيكم، وموت الصالحين قبلكم، ورحمة بكم" يشير إلى قوله: "اللهم اجعل فناء أمتي بالطعن والطاعون"1.
فانظر هذه النصوص، وما أفادت من إطلاق اسم الدعاء على المسألة والطلب. وقد تقدم بعض هذا، وكُرِّر تتميماً للفائدة، وربما جَرَّ شأن شؤوناً.
وأما قول العراقي: (إن الشيخ ذكر هذا على سبيل التغليظ والزجر، وله مائة عبارة تنفي ذلك وتخالفه) فيكفي من هذا العراقي أن يصحح دعواه بعبارة واحدة، ولا نكلفه تصحيح المائة، لأنه أعجز وأقلّ.
إسحاق حدثني ثور بن يزيد عن خالد بن معدان عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم قالوا: "يا رسول الله، أخبرنا عن نفسك، قال: "دعوة أبي وبشرى عيسى
…
" الحديث. وهذا إسناد جيد، وروي له شواهد من وجوه أُخَر
…
ثم ساق ابن كثير رحمه الله تعالى شواهده في مسند أحمد فلينظر.
1 قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" 2/ 312: رواه أحمد 4/ 417، والطبراني في "الكبير" ورجال أحمد ثقات. اهـ.
وقد تقدم التنبيه على كذبه ومجازفته، وأنه وجد كتباً وموادّ1 شَتَّت فهمه، وحجبت إدراكه وعلمه، فلم يزدد بها إلا حيرة وشكاًَ وما أحسن ما قيل:
جهد المغفَّل في الزمان مضيَّع
…
وإن ارتضى أستاذَه وزمانَه
كالثور في الدولاب يسعى وهو لا
…
يدري الطريقَ فلا يزالُ مكانَه
وعبارات الشيخ في هذا الباب –أعني: إنكار الشرك، وتكفير أهله، والحكم عليهم بما حكم الله به ورسوله في الدنيا والآخرة- موجود مشهور، لو تتبعناه لعزَّ حصره واستقصاؤه، ولكن نشير ببعضه2 إلى ما وراءه.
قال رحمه الله: وما علمتُ عالماً نازع في أن الاستغاثة بالنبي أو غيره فيما لا يقدر عليه إلا الله لا تجوز. قال: وعلو درجته صلى الله عليه وسلم بعد الموت لا تقتضي أن يسأل، كما لا تقتضي أن يستفتى، ولا يمكن أحدا أن يذكر دليلاً شرعياً على أن سؤال الموتى من الأنبياء والصالحين وغيرهم مشروع، بل الأدلة على تحريم ذلك كثيرة.
وقال رحمه الله: من جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم، ويتوكل عليهم، ويسألهم: كفر إجماعاً.
قال البهوتي في شرحه على هذا الموضع: لأنه فِعْل عبّاد الأصنام القائلين: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} . [الزمر:3] .
1 في "أ" و"جـ": "مواداً".
2 في ط آل ثاني: "لبعضه".
وقال –رحمه الله بعد أن سرد جملة من الآيات: وتفصيل القول: أن مطلوب العبد إن كان من الأمور التي لا يقدر عليها إلا الله سبحانه وتعالى، ومثل أن يطلب شفاء مريض من الآدميين والبهائم، ووفاءَ دَينه من غير جهة معينة، أو عافية أهله، أو ما به من بلاء الدنيا والآخرة، وانتصاره على عدوه، وهداية قلبه1، وغفران ذنبه، أو دخول الجنة، ونجاته من النار، أو أن يتعلم القرآن، أو2 العلم، أو أن يصلح قلبه، أو2 يحسن خلقه، ويزكي نفسه، وأمثال ذلك: فهذه الأمور لا يجوز أن تطلب إلا من الله تعالى، ولا يجوز أن يقال لملك ولا نبي ولا شيخ سواء كان حياً أو ميتاً: اغفر ذنبي، ولا انصرني على عدوي، ولا اشفِ3 مريضي، ولا عافِ4 أهلي ودوابي، وما أشبه ذلك. ومن سأل ذلك مخلوقاً كائناً من كان، فهو مشرك بربه، من المشركين الذين يعبدون الملائكة والتماثيل التي يصورونها على صورهم، ومن جنس دعاء النصارى: المسيحَ وأمَّه.
قال الله تعالى: {وَإِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ} . الآية [المائدة:116]، وقال تعالى:{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيْحَ ابْنَ مَرْيَمَ} الآية [التوبة:31] .
وقال رحمه الله: وكثير من الناس يقع في الشرك والإفك
1 ما بعد: "وهداية قلبه" سقط من "جـ" إلى قوله: "ويحسن خلقه".
2 في "أ": "و".
3 في "أ": "اشفي".
4 في "أ": "عافي".
جهلاً وضلالاً من المشركين، وأهل الكتاب، وأهل البدع، والله سبحانه وتعالى قد أرسل جميع رسله، وأنزل جميع كتبه: بأن لا يعبد إلا الله وحده لا شريك له، لا يعبد معه لا ملك، ولا نبي، ولا صالح، ولا تماثيلهم، ولا قبورهم، ولا شمس، ولا قمر، ولا كوكب، ولا ما صُنع من التماثيل لأجلهم، ولا شيئاً من الأشياء، وبَيَّنَ أن كل ما يعبد من دونه فإنه يضر ولا ينفع، وإن كان ملكاً أو نبيًّا، وأن عبادته كفر.
قال تعالى: {قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلَا تَحْوِيلاً} . إلى قوله: {مَحْذُوْراً} . [الإسراء:56-57] . بَيَّن سبحانه أن كل ما يدعى من دونه من الملائكة والجن والإنس ما يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلاً1، وأن هؤلاء المدعوين من الملائكة والأنبياء يتقربون إلى الله، ويرجونه، ويخافونه، وكذلك كان قوم من الإنس يعبدون رجالاً من الجن، فآمنت الجن المعبودون، وبقي عابدوهم يعبدونهم، كما ذكر ذلك ابن مسعود.
وقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} .إلى قوله: {وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} . [سبأ:22-23] . بَيَّنَ سبحانه أن كل ما يدعى من دونه، من الملائكة والبشر وغيرهم ليس لهم مثقال ذرة في السموات والارض، ولا لهم نصيب فيهما، وليس لله ظهير يعاونه من خلقه.
1 في "أ": "كشف الضر ولا تحويله".
وهذه الأقسام الثلاثه هي التي تحصل مع المخلوقين، إما أن يكون لغيره ملك دونه، أو يكون شريكاً له، أو يكون معيناً وظهيراً له، والرب تعالى ليس من خلقه مالك، ولا شريك، ولا ظهير له1، لم يبق إلا الشفاعة، وهو دعاء الشافع وسؤاله لله في المشفوع له، فقال:{وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} . [سبأ:23] .
ثم إنه خص بالذكر الملائكة والأنبياء في قوله: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ -إلى قوله- بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} . [آل عمران:79-80] بين أن اتخاذهم أرباباً كفر.
وقال تعالى: {لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَآلُواْ إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ -إلى قوله - وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} . [المائدة:17] . وقد بين أن من دعا المسيح وغيره، فقد دعا ما لا يملك له ضراً ولا نفعاً.
وقال لخاتم الرسل: {قُل لَاّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ} . [الأنعام: 50]، وقال:{قُل لَاّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَاّ مَا شَاء اللهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ} . الآية [الأعراف:188] . وقال: {قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا} . [الجن:21] . وقال: {لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنقَلِبُواْ خَآئِبِينَ*لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} . [آل عمران:127-128] . وقال: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء} . [القصص:56] .
1 سقطت: "له" من "أ" و"جـ".
وقال: {إِن تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي مَن يُضِلُّ} . [النحل:37] انتهى.
وكلامه في هذا المعنى يعزُّ حصره أو يتعذر. وكذلك صاحبه شمس الدين ابن القيم. كلامه في هذا الباب أشهر من أن يذكر، وأكثر من أن يحصر، إلا بكلفة ومشقة، وتقدم قوله في "المدارج".
وقال أبو الوفاء بن عقيل: لما صعبت التكاليف على الجهال والطَّغام، عدلوا عن أوضاع الشرع1 إلى تعظيم أوضاع وضعوها هم لأنفسهم، فسهلت عليهم2، إذ لم يدخلوا بها تحت أمر3 غيرهم، وهم عندي كفار بهذه الأوضاع، مثل خطاب الموتى بالحوائج، ودَسِّ الرقاع في قبورهم، فيها: يا مولاي، افعل بي كذا وكذا، وتعليق الستور على القبور اقتداءً بمن عبد اللات والعزى، والويل عندهم لمن لم يحضر مشهد الكف4، أو لم يَعْقِد على قبره، أو قبر أبيه بالآخر، ولم يقل الحمالون على جنازته: أبو بكر وعمر. انتهى.
والمقصود أن النصوص بهذا المعنى كثيرة شهيرة، والعاقل يسير فينظر.
ويكفي المؤمن أن دعاء الموتى والغائبين لا يُعْرَف عن أحد من أهل العلم والإيمان الذين لهم لسن صدق في الأمة، ولم تأتِ به
1 في ط: آل ثاني: "الشرك" وهو خطأ فاحش.
2 في ط: آل ثاني: "غيرهم".
3 سقطت: "أمر" من ط: آل ثاني.
4 في ط: آل ثاني: "الكفر".
شريعة من الشرائع، بل المنقول عن جميع الأنبياء يرده ويبطله، فإن الله حكى أدعيتهم وتوجهاتهم، وما قالوه وأمروا به، وندب عباده إلى الاقتداء بهم فقال تعالى:{أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} . [الأنعام:90] .
وقد أجمع المسلمون على ذم البدع وعيبها. قال تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ} . [الشورى:21] . وقال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِّن قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} . [الأحقاف:4] .
وفي حديث العرباض بن سارية: "إنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة"1.
وهذا الوجه كافٍ2 في الجواب، للاتفاق على وجوب الاعتصام بالكتاب والسنة.
1 تقدم تخريجه ص 84.
2 في "أ" و"جـ": "كافي".