الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
80 سورة عبس (1 3)
سورة عبس مكية وآياتها اثنان وأربعون
بسم الله الرحمن الرحيم
عَبَسَ
وتولى
أَن جَاءهُ الأعمى
رُويَ أنَّ ابنَ أمِّ مكتومٍ واسمُه عبدُ اللَّه بنُ شُريحِ بنِ مالكِ بنِ أبي ربيعةَ الفهريُّ وأمُّ مكتومٍ اسمُ أم أبيهِ أتَى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وعندَهُ صناديدُ قريشٍ عتبةُ وشيبةُ ابنا ربيعةَ وأبُو جهل بنُ هشامٍ والعباسُ بنُ عبدِ المطلبِ وأميةُ بنُ خلفٍ والوليدُ بنُ المغيرةِ يدعُوهم إلى الإسلامِ رجاءَ أنْ يسلمَ بإسلامِهم غيرُهم فقالَ له يا رسولَ الله أقرئْنِي وعلمنِي مما علمكَ الله تعالَى وكررَ ذلكَ وهو لا يعلمُ تشاغلَهُ عليه الصلاة والسلام بالقوم فكرِه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم قطعه لكلامه وعبس اعرض عنه فنزلتْ فكانَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يكرمُه ويقولُ إذا رآه مرحباً بمن عاتبَني فيه ربِّي ويقولُ لهُ هل لكَ من حاجةٍ واستخلفَهُ على المدينة مرتينِ وقرىء عبَّس بالتشديدِ للمبالغةِ وأنْ جاءَهُ علةٌ لتولَّى أو عَبَس على اختلافِ الرأيينِ أيْ لأَنْ جاءَهُ الأعمى والتعرضُ لعنوانِ عماهُ إمَّا لتمهيدِ عُذرِه في الإقدامِ على قطعِ كلامِه عليه الصلاة والسلام بالقومِ والإيذانِ باستحقاقه بالرفق والرأفة وما لزيادةِ الإنكارِ كأنَّه قيلَ تولَّى لكونِه أَعْمى كما أنَّ الالتفاتَ في قولِه تعالى
وَمَا يُدْرِيكَ
لذلكَ فإنَّ المشافهةَ أدخلُ في تشديدِ العتابِ أيْ وأيُّ شيءٍ يجعلُكَ دارياً بحالِه حتى تُعرضَ عنْهُ وقولُه تعالى
لَعَلَّهُ يزكى
استئنافٌ واردٌ لبيانِ ما يلوحُ به ما قبلَه فإنه معَ إشعارِه بأنَّ له شأناً منافياً للإعراضِ عنه خارجاً عن درايةِ الغيرِ وادرائِه مؤذنٌ بأنه تعالَى يُدريه ذلكَ أي لعلَّه يتطهرُ بما يقتبسُ منكَ من أوضارِ الأوزارِ بالكليةِ وكلمةُ لعلَّ مع تحققِ التزكِّي واردةٌ على سَننِ الكِبْرِياء أو على اعتبارِ مَعْنى الترجِّي بالنسبةِ إليه عليه الصلاة والسلام للتنبيه على أن الإعراضَ عنه عند كونِه مرجوَّ التزكِّي مما لا يجوزُ فكيفَ إذا كان مقطوعاً بالتزكِّي كما في قولِك لعلَّك ستندمُ على ما فعلتَ وفيه إشارةٌ إلى أنَّ من تصدَّى لتزكيتهم من الكفرة لا يُرجى منهم التزكِّي والتذكر أصلا
80 سورة عبس (4 11)
وقولُه تعالى
(أَوْ يَذَّكَّرُ
عطفٌ على يزكَّى داخلٌ معه في حكم الترجِّي وقولُه تعالَى
فَتَنفَعَهُ الذكرى
بالنصب على جواب لعلَّ وقرىء بالرفع عطفا على يذكَّرُ أي أو يتذكرُ فتنفعُه موعظتُك إنْ لم يبلغْ درجةَ التزكِّي التامِّ وقيلَ الضميرُ في لعلَّه للكافر فالمَعْنى أنك طمعتَ في أنْ يتزكَّى أو يذكرَ فتقربُه الذكرَى إلى قبولِ الحقِّ ولذلكَ توليتَ عن الأَعْمى وما يُدريكَ أن ذلكَ مرجُّوُ الوقوعِ
أَمَّا مَنِ استغنى
أي عن الإيمان وعما عندك من العلومِ والمعارفِ التي ينطوي عليها القرآنُ
فَأَنتَ لَهُ تصدى
أي تتصدَّى وتتعرضُ بالإقبالِ عليهِ والاهتمامِ بإرشادِه واستصلاحِه وفيه مزيدُ تنفيرٍ له عليه الصلاة والسلام عن مصاحبتِهم فإن الإقبالَ على المُدبرِ ليسَ من شيمِ الكبارِ وقُرِىءَ تصَّدَّى بإدغامِ التَّاءِ في الصَّادِ وقُرِىءَ تُصدى بضمِّ التاءِ أيْ تُعرضُ ومعناهُ يدعوكَ إلى التصدِّي له داعٍ من الحرص والتهالكُ على إسلامِه
وما عليك ان لا يزكى
وليسَ عليكَ بأسٌ في أن لا يتزكى بالإسلام حتَّى تهتمَّ بأمره وتعرضَ عمَّن أسلمَ والجملةُ حالٌ من ضمير تصدى وقيل ما استفهامية للإنكار أيْ أيُّ شيء عليك في أن لا يتزكى ومآله النفيُ أيضاً
وَأَمَّا مَن جَاءكَ يسعى
أيْ حالَ كونِه مسرعاً طالباً لما عندكَ من أحكام الرشدِ وخصالِ الخيرِ
وَهُوَ يخشى
أي الله تعالَى وقيلَ يخشَى أذيةَ الكفارِ في إتيانِك وقيلَ يخشى الكبوةَ إذ لم يكن معهُ قائدٌ والجملةُ حال من فاعل يعسى كما أنه حالٌ من فاعل جاءك
فَأَنتَ عَنْهُ تلهى
تتشاغلُ يقالُ لَهَى عنه والتهِى وتَلهَّى وقُرِىءَ تتلهى وتلهى أي يُلهيك شأنُ الصناديدِ في تقديم ضميرِه عليه الصلاة والسلام على الفعلين تبيه على أنَّ مناطَ الإنكارِ خصوصيتُه عليه الصلاة والسلام أي مثلُك خصوصاً لا ينبغِي أن يتصدَّى للمستغنِي ويتلهَّى الفقيرَ الطالبَ للخيرِ وتقديمُ لَه وعنْهُ للتعريض باهتمامه عليه الصلاة والسلام بمضمونهما رُويَ أنه عليه الصلاة والسلام ما عبسَ بعذ ذلكَ في وجهِ فقيرٍ قط ولا تصدَّى لغنى
كلا
80 سورة عبس (12 15) ردع له عليه الصلاة والسلام عمَّا عُوتبَ عليهِ من التصدِّي لمن استغنَى عمادعاه إليهِ من الإيمانِ والطاعةِ وما يوجبهُما من القرآنِ الكريمِ مبالغاً في الاهتمامِ بأمره متهالكا على إسلامِه معرضاً بسببِ ذلكَ عن إرشادِ من يسترشدُه وقولُه تعالى
إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ أي موعظةٌ يجبُ أن يتعظَ بها ويعملَ بموجبِها تعليلٌ للردعِ عما ذُكِرَ ببيانِ علوِّ رتبةِ القرآنِ العظيمِ الذي استغنى عنه من تصدَّى عليه الصلاة والسلام لهُ وتحقيقُ أن شأنه أن يكونُ موعظةً حقيقةً بالاتعاظِ بها فمن رغبَ فيها اتَّعظَ بها كما نطقَ به قولُه تعالى
فَمَن شَاء ذَكَرَهُ أي حفظَهُ واتَّعظَ بهِ ومن رغبَ عنهَا كما فعلَ المستغنيُّ فلا حاجةَ إلى الاهتمامِ بأمرِه فالضميرانِ للقرآنِ تأنيث الأولُ لتأنيثِ خبرِه وقيلَ الأولُ للسورةِ أو للآياتِ السابقةِ والثانِي للتذكرةِ والتذكيرِ لأنها في مَعْنى الذكرِ والوعظ وليس بذاك فإن السورةَ والآياتِ وإن كانتْ متصفةً بما سيأتِي من الصفاتِ الشريفةِ لكنها ليستْ مما أُلقي على من استغنى عنه واستحقَ بسببِ ذلكَ ما سيأتِي من الدعاءِ عليهِ والتعجبِ من كفرِه المفرطِ لنزولِها بعد الحادثةِ وأما من جوَّز رجوعَهما إلى العتابِ المذكورِ فقد أخطأَ وأساءَ الأدبَ وخبطَ خبطاً يقضي منه العجبُ فتأمَّل وكُن على الحقِّ المبينِ وقولُه وتعالى
فَى صُحُفٍ متعلقٌ بمضمرٍ هُو صفةٌ لتذكرةٌ وما بينهما اعتراضٌ جيءَ به للترغيبِ فيها والحثِّ على حفظِها أي كائنةٌ في صحفٍ منتسخةٍ من اللوحِ أو خبرٌ ثانٍ لأنَّ
مُّكَرَّمَةٍ عندَ الله عزَّ وجلَّ
مَّرْفُوعَةٍ أي في السماءِ السابعةِ أو مرفوعةِ المقدارِ والذكرِ
مُّطَهَّرَةٍ منزهةٍ عن مساسِ أيدِي الشياطينِ
بِأَيْدِى سَفَرَةٍ أي كتبةٍ من الملائكةِ ينتسخونَ الكتبَ من اللوحِ على أنه جمعُ سافرٍ من السفرِ وهو الكتبِ وقيل بأيدِي رسلٍ من الملائكةِ يسفرونَ بالوحْي بينَهُ تعالَى وبين الأنبياءِ على أنه جمعُ سفيرٍ من السفارةِ وحملُهم على الأنبياءِ عليهم السلام بعيدٌ فإن وظيفتَهم التلقِّي من الوَحْي لا الكتبُ منه وإرشادُ الأمةِ بالأمرِ والنَّهي وتعليمُ الشرائعِ والأحكامِ لا مجردُ السفارةِ إليهم وكذَا حملُهم على القراءِ لقراءتِهم الأسفارَ أو على أصحابِه عليه الصلاة والسلام وقد قالُوا هذه اللفظةُ مختصةٌ بالملائكةِ لا تكادُ تطلقُ على غيرِهم وإن جازَ الإطلاقُ بحسبِ اللغةِ والباءُ متعلقةٌ بمطهرةٍ قال القَفَّالُ لما لم يمسَّها إلا الملائكةُ المطهرونَ أضيفَ التطهيرُ إليها لطهارة من يمسُّها وقال القرطبيُّ إن المرادَ بما في قوله تعالى لَا يَمَسُّهُ إِلَاّ المطهرون هؤلاء السفرةُ الكرامُ البررة
سورة عبس (16 23)
كِرَامٍ عند الله عز وجل أو متعطفينَ على المؤمنين يكلمونهم ويستغفرونَ لهم
بَرَرَةٍ أتقياءَ وقيل مطيعينَ لله تعالى من قولهم فلانٌ يبرُّ خالقه أي يطيعه وقيل صادقينَ من برَّ في يمينه
قُتِلَ الإنسان دعاءٌ عليه بأشنعِ الدعواتِ وقوله تعالى
مَا أَكْفَرَهُ تعجبٌ من إفراطه في الكفران وبيانٌ لاستحقاقِه للدعاءِ عليه والمرادُ به إمَّا من استغنَى عن القُرآن الكريمِ الذي ذكرت نعوته الجليلة الموجبة للإقبال عليه والإيمان به وإما الجنسُ باعتبار انتظامه له ولأمثاله من أفراده لا باعتبار جميعِ أفرادِه وفيه مع قصرِ متنه وتقاربِ قُطريه من الإنباءِ عن سخطٍ عظيمٍ ومذمةٍ بالغة مالا غايةَ وراءَهُ وقولُه تعالَى
مِنْ أَىّ شَىْء خَلَقَهُ شروعٌ في بيانِ إفراطِه في الكفرانِ بتفصيلِ ما أفاضَ عليه من مبدأ فطرتِه إلى مُنْتهَى عمرِه من فُنونِ النعمِ الموجبةِ بالشكرِ والطاعةِ مع إخلالِه بذلكَ وفي الاستفهامِ عن مبدأ خلقِه ثم بيانِه بقولِه تعالى
مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ تحقيرٌ له أيِّ شيءٍ حَقيرٍ مهينٍ خلقه من نطفة قدرة خلقَهُ
فَقَدَّرَهُ فهيَّأهُ لما يصلحُ لهُ ويليقُ به من الأعضاءِ والأشكالِ أو فقدَّرَهُ أطْواراً إلى أنْ تمَّ خلقُه وقولُه تعالَى
ثُمَّ السبيل يَسَّرَهُ منصوبٌ بمُضمرٍ يفسرُهُ الظاهرُ أيْ ثم سهَّلَ مخرجَهُ من البطن بأن فتح فتحَ فمَ الرحمِ وألهمَهُ أنْ ينتكسَ أو يسرَ له سبيلَ الخيرِ والشرِّ ومكنه من السلوك وتعريفُ السبيلِ باللامِ دونَ الإضافةِ للإشعارِ بعمومِه
ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ أي جعلَهُ ذَا قبرٍ يُوارَى فيه تكرمةً لهُ ولم يدعْهُ مطروحاً على وجهِ الأرض جرزا للسباعِ والطير كسائرِ الحيوانِ يقالُ قبرَ الميتَ إذَا دفنَهُ وأقبرَهُ إذا أمرَ بدفنِه أو مكنَ منْهُ وعَدُّ الإماتةِ من النعمِ لأنَّها وصلةٌ في الجُملةِ إلى الحياةِ الأبديةِ والنعيمِ المقيمِ
ثُمَّ إِذَا شَاء أَنشَرَهُ أي إذا شاء أنشره وأنشر على القاعدةُ المستمرةُ في حذفِ مفعولِ المشيئةِ وفي تعليقِ الإنشارِ بمشيئتِه تعالى إيان بأنَّ وقتَهُ غيرُ متعينٍ بلْ هُو تابعٌ لهَا وقُرِىءَ نَشَرهُ
كلا ردع للإنسان
سورة (24 27) عمَّا هو عليه وقولُه تعالى
لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ بيانٌ لسبب الرَّدعِ أي لم يقضِ بعدُ من لدُنْ آدمَ عليه السلام إلى هذه الغايةِ مع طولِ المَدَى وامتدادِه ما أمرَهُ الله تعالَى بأسرِه إذْ لا يخلُو أحد عن تقصير ما كذا قالُوا وهكَذا نُقلَ عن مجاهدٍ وقَتَادَةَ ولا ريبَ في أنَّ مساقَ الآياتِ الكريمةِ لبيان غاية عظم جنايةِ الإنسانِ وتحقيقِ كُفرانِه المفرطِ المستوجب للسخطِ العظيمِ وظاهرٌ أنَّ ذلكَ لا يتحققُ بهذا القدرِ من نوع تقصير لايخلو عنْهُ أحدٌ من أفرادِه كيفَ لا وقَدْ قالَ عليه الصلاة والسلام شيَّبتني سورةُ هودٍ لمَا فيهَا من قولِه تعالى فاستقمْ كَما أُمرتَ فالوجُه أنْ يحملَ عدمُ القضاءِ على عمومِ النفي لا على نفي العمومِ إمَّا عَلى أنَّ المحكومَ عليهِ هُو المستغني أو هو الجنسُ لكنْ لا عَلى الإطلاقِ بَلْ على أنَّ مصداقَ الحكمِ بعدمِ القضاءِ بعضُ أفرادِه وقد أُسندَ إلى الكُلِّ كَما في قولِه تعالى إِنَّ الإنسان لَظَلُومٌ كَفَّارٌ للإشباعِ في اللومِ بحكمِ المجانسةِ على طريقةِ قولِهم بنُو فلان قتلُوا فلاناً والقاتلُ واحدٌ منهم وإمَّا على أنَّ مصداقَهُ الكلُّ من حيثُ هو كلٌّ بطريقِ رفعِ الإيجابِ الكليِّ دونَ السلبِ الكليِّ فالمَعْنى لَمَّا يقضِ جميعُ أفرادِه ما أمرَهُ بل أخلَّ به بعضُها بالكفرِ والعصيانِ مع أنْ مُقتضَى ما فُصل من فنون النعماءِ الشاملةِ للكلِّ أنْ لا يتخلفُ عنه أحدٌ أصلاً هذا وقد قيلَ كلَاّ بمَعْنى حقاً فيتعلقُ بما بعدَهُ أي حقَّاً لم يعملْ بِما أمرَهُ به
فَلْيَنظُرِ الإنسان إلى طَعَامِهِ شروعٌ في تعدادِ النعمِ المتعلقةِ ببقائِه بعد تفصيلِ النعمِ المتعلقةِ بحدوثِه أي فلينظرْ إلى طعامِه الذي عليه يدورُ أمرُ معاشهِ كيفَ دبرنَاهُ وقولُه تعالى
أَنَّا صَبَبْنَا الماء صَبّاً أي الغيثَ بدلُ اشتمالٍ من طعامِه لأنَّ الماءَ سببٌ لحدوثِ الطعامِ فهُو مشتَملٌ عليهِ وقُرِىءَ إنَّا على الاستئنافِ وقُرِىءَ أنى بالإمالةِ أي كيفَ صببَنا إلى آخرِه أي صببنَاهُ صبا عجبا
ثُمَّ شَقَقْنَا الأرض أي بالنباتِ
شَقّاً بديعاً لائقاً بما يشقُّها من النباتِ صِغَراً وكِبرَاً وشكلاً وهيئةً وحملُ شقِّها على ما بالكرابِ بجعلِ إسنادِه إلى نونِ العظمةِ من قبيلِ إسنادِ الفعلِ إلى سببِه يأباهُ كلمةُ ثمَّ والفاءُ في قولِه تعالى
فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبّاً فإنَّ الشقَّ بالمَعْنى المذكور لا ترتبَ بينَهُ وبين الأمطارِ أصلاً ولا بينَهُ وبينَ إنبات الحب بلا فإنَّ المرادَ بالنبات ما نبتَ من الأرضِ إلى أن يتكامل النمو وينقعد الحبُّ فإنَّ انشقاقَ الأرضِ بالنباتِ لا يزالُ يتزايدُ ويتسعُ إلى تلكَ المرتبةِ على أنَّ مَساقَ النظمِ الكريمِ لبيانِ النعمِ الفائضةِ من جنابهِ تعالى على وجهٍ بديعٍ خارجٍ عن العادات المعهودة كما ينبىءُ عنه تأكيدُ الفعلينِ بالمصدرينِ فتوسيطُ فعلِ المنعمِ عليهِ في حصولِ تلك النعمِ مخلٌّ بالمرامِ
سورة عبس (28 34) وقوله تعالى
وَعِنَباً عطفٌ على حباً وليسَ من لوازم العطفِ أنْ يُقيدَ المعطوفُ بجميع ما قُيِّد به المعطوفُ عليه فلا ضيرَ في خُلوِّ إنباتِ العنبِ عن شقِّ الأرضِ
وَقَضْباً أي رطبة سُميتْ بمصدرِ قضَبهُ أي قطَعهُ مبالغةً كأنَّها لتكرر قطعِها وتكثرِه نفسُ القطعِ
وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً الكلامُ فيهما وفي أمثلهما كما في العنبِ
وَحَدَائِقَ غُلْباً أي عظاماً وصفَ به الحدائقُ لتكاثفها وكثرةِ أشجارِها أو لأنَّها ذات أشجارِها أو لأنَّها ذاتُ أشجارٍ غلاظٍ مستعارٌ من وصفِ الرقابِ
وفاكهة وَأَبّاً أي مَرْعى من أبَّه إذَا أمَّه أي قصَدُه لأنَّه يُؤمُ ويُنتجعُ أو منْ أبَّ لكذا إذا تهيأ لأنه متهيء للرَّعِي أو فاكهةً يابسةً تؤبُ للشتاءِ وعن الصدِّيقِ رضي الله عنه أنه سُئلَ عن الأبِّ فقالَ أيُّ سماءٍ تُظلِني وأيُّ أرضٍ تُقِلَني إذَا قلتُ في كتاب الله مالا علَم لى بهِ وعن عمر رضي الله عنه أنَّه قرأَ هذه الآيةَ فقالَ كلُّ هذا قد عرفَنا فَما الأبُّ ثم رفض عصاً كانتْ بيدِه وقالَ هَذا لعَمْرُ الله التكلفُ وما عليكَ يا ابنَ أُمِّ عمرَ أنْ لا تدريَ ما الأبُّ ثم قالَ اتبعُوا ما تبينَ لكُم من هذا الكتابِ ومالا فدعُوه
متاعا لَّكُمْ ولأنعامكم إمَّا مفعول له أي فعل ذلكَ تمتيعاً لكُم ولمواشيكُم فإنَّ بعضَ النعمِ المعدودةِ طعامٌ لهم وبعضَها علفٌ لدوابِّهم والالتفاتُ لتكميل الامتنانِ وإمَّا مصدرٌ مؤكِّدٌ لفعله المضمرِ بحذف الزوائدة أي متعكم بذلك متاعا أو لفعلٍ مترتبٍ عليهِ أي متعكم بذلك فتمتعتُم متاعاً أي تمتعا كما مر غيره مرةٍ أو مصدرٌ من غير لفظهِ فإنَّ ما ذُكر من الأفعالِ الثلاثةِ في مَعْنى التمتيعِ
فَإِذَا جَاءتِ الصاخة شروعٌ في بيان أحوالِ معادهم إثرَ بيانِ مبدأِ خلقِهم ومعاشِهم والفاءُ للدلالة على ترتب ما بعدها على ما قبلها من فُنون النعمِ عن قريب كما يشعرُ لفظُ المتاعِ بسرعة زَوَالِها وقربِ اضمحلالِها والصاخةُ هي الداهيةُ العظيمةُ التي يصخُّ لها الخلائقُ أي يصيخونَ لها من صخَّ لحديثِه إذا أصاخَ له واستمتع وصفتْ بها النفخةُ الثانيةُ لأنَّ الناسَ يصيخُونَ لها وقيل هي الصيحةُ التي تصخُّ الآذانَ أي تصمَّها لشدةِ وقعِها وقيلَ هي مأخوذةٌ من صخَّهُ بالحجرِ أي صكَّهُ وقولُه تعالى
يَوْمَ يَفِرُّ المرء مِنْ
سورة عبس (35 41)
أَخِيهِ
وأمِّه وَأَبِيهِ
وصاحبتِه وبنيه وإما منصوبٌ بأعِني تفسيراً للصاخَّة أو بدلٌ منها مبنيٌّ على الفتحِ بالإضافةِ إلى الفعل على رأي الكوفيين وقيلَ بدلٌ من إذَا جاءتْ كما مرَّ في قوله تعالى يوم يتذكر الخ أي يعرضُ عنُهم ولا يصاحبُهم ولا يسألُ عن حالِهم كما في الدُّنيا لاشتغالِه بحالِ نفسِه وأمَّا تعليلُ ذلكَ بعلمِه بأنهم لايغنون عنه شيئاً أو بالحذرِ من مطالبتِهم بالتبعاتِ فيأباهُ قولُه تعالى
لِكُلّ امرىء مّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ فإنَّه استئنافٌ واردٌ لبيانِ سببِ الفرارِ أي لكُلِّ واحدٍ من المذكورينَ شغلٌ شاغلٌ وخطبٌ هائلٌ يكفيِه في الاهتمامِ به وأما الفرار حذار من مطالبتِهم أو بُغضاً لهُم كَما يُروَى عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهُمَا أنَّه يفرُّ قابيلُ من أخيِه هابيلَ ويفر النبي صلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم منْ أُمِّه ويفرُّ إبراهيمُ عليه السلام من أبيهِ ونوحٌ عليه السلام من ابنِه ولوطٌ عليه السلام من امرأتِه فليسَ من قبيلِ هذا الفرارِ وكَذا مَا يُروَى أنَّ الرجلَ يفرُّ من أصحابِه وأقربائِه لئلَاّ يَروَه على ما هُو عليهِ من سُوءِ الحالِ وقُرِىءَ يَعْنِيه بالياءِ المفتوحةِ والعينِ المُهملةِ أي يُهمَّهُ من عناهُ الأمرُ إذا أهمَّه أي أوقعَهُ في الهمِّ ومنْهُ منْ حُسنِ إسلامِ المرءِ تركُه مالا يعنيه لامن عناهُ إذا قصدَهُ كما قيلَ وقولُه تعالى
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ بيانٌ لما أمرِ المذكورينَ وانقسامِهم إلى السعداءِ والأشقياءِ بعد ذكرِ وقوعِهم في داهيةٍ دهياءَ فوجوهٌ مبتدأٌ وإنْ كانتْ نكرةً لكونِها في حيزِ التنويعِ ومسفرةٌ خبرُهُ ويومئذٍ متعلقٌ به أي مضيئةٌ متهللةٌ منْ أسفرَ الصبحُ إذَا أضاءَ وعن ابنِ عباس رضي الله عنهما أنَّ ذلكَ من قيامِ الليلِ وفي الحديثِ مَنْ كثر صلاته باليل حسُن وجهُه بالنهارِ وعنِ الضحَّاكِ منْ آثارِ الوضوءِ وقيلَ من طولِ ما اغبرّتْ في سبيلِ الله
ضاحكة مُّسْتَبْشِرَةٌ بما تشاهدُ من النعيم المقيمِ والبهجةِ الدائمةِ
وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ أي غبارٌ وكدورةٌ
تَرْهَقُهَا أي تعلُوها وتغشاهَا
قترة أي سوادو ظلمة
سورة عبس (42) وسورة التكوير (1 3)
أولئك إشارةٌ إلى أصحاب تلك الوجوهِ وما فيهِ من معنى البعد للإيذان ببُعد درجتِهم في سُوءِ الحالِ أي أولئكَ الموصوفونَ بسوادِ الوجوهِ وغيره
هُمُ الكفرة الفجرة الجامعونَ بين الكفرِ والفجورِ فلذلكَ جمعَ الله تعالى إلى سواد وجوهِهم الغبرةَ عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم مَنْ قرأَ سورةَ عبسَ جاءَ يومَ القيامةِ وجهه ضاحك مستبشر سورة التكوير مكية وآياتها تسع وعشرون
{إِذَا الشمس كُوّرَتْ} أي لُفَّتْ من كَوَّرتَ العمامةَ إذا لففتَها على أَنَّ المرادَ بذلكَ إمَّا رفعُها وإزالتُها منْ مقرِّها فإنَّ الثوبَ إذا أُريدَ رفعُهُ يُلفُّ لفاً ويُطْوى ونحُوه قولُه تعَالَى يَوْمَ نَطْوِى السماء وأما لف صوئها المنبسطِ في الآفاقِ المُنتشرِ في الأقطارِ على أنَّه عبارةٌ عنْ إزالتها والذهابِ بها بحكمِ استلزامِ زوالِ اللازم لنزوال الملزومِ أو ألقيتْ عن فلكها كَما وُصفتِ النجومُ بالانكدارِ من طعنَهُ فكوَّرَهُ إذا ألقاهُ عَلى الأرضِ وعن أبي صالحِ كُورتْ نُكِّستْ وعن ابنِ عباسٍ رضي الله عنهما تكويرُهُا إدخالُها في العرشِ ومدارُ التركيبِ على الإدارةِ والجمعِ وارتفاعُ الشمسِ على أنَّه فاعلٌ لفعلٍ مضمرٍ يُفسِّرُه المذكورُ وعندَ البعضِ عَلى الابتداءِ
{وَإِذَا النجوم انكدرت} أي انقضَّتْ وَقيلَ تناثرتْ وَتساقطتْ روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه لا يَبْقَى يومئذٍ نجمٌ إلا سقطَ في الأرضِ وعنْهُ رضي الله عنه أنَّ النُّجومَ قناديلُ معلقةٌ بينَ السماءِ والأرضِ بسلاسلَ منْ نورٍ بأيدي ملائكةٍ من نورٍ فإذَا ماتَ من فى السموات ومن في الأرضِ تساقطتْ من أيديهم وقيلَ انكدارُها انطماسُ نُورِها ويُروَى أنَّ الشمسَ والنجومَ تُطرحُ في جهنَم ليراهَا مَنْ عبدَها كما قالَ إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ
{وَإِذَا الجبال سُيّرَتْ} أيْ عنْ أماكنِها بالرجفة الحاصلةِ لافي الجوِّ فإنَّ ذلكَ بعدَ النفخة الثانية
سورة التكوير (4 9)
وَإِذَا العشار جمعُ عُشَراءَ وهيَ الناقةُ التي أتى على حملِها عشرةُ أشهرٍ وهو اسمُها إلى أنْ تضعَ لتمامِ السنةِ وهي أنفسُ ما يكونُ عندَ أهلِها وأعزُّها عليهمْ
عُطّلَتْ تُرِكتْ مهملةً لاشتغالِ أهلِها بأنفسِهم وقيلَ العشارُ السحائبُ فإنَّ العربَ تُشبهها بالحامل ومنهُ قولُه تعالىَ فالحاملات وِقْراً وتعطيلُها عدمُ إمطارِها وقُرِىءَ عُطِلَتْ بالتخفيفِ
وَإِذَا الوحوش حُشِرَتْ أي جُمعتْ من كلِّ جانبٍ وقيلَ بُعثتْ للقصاصِ قالَ قتادةُ يُحشرُ كلُّ شيءٍ حتَّى الذبابُ للقصاصِ فإذَا قُضِيَ بينَها رُدَّتْ تُراباً فلا يَبقْى منها إلا مافيه سرورٌ لبني آدمَ وإعجابٌ بصورته كالطاوس ونحوِه وقُرِىءَ حُشِّرَتْ بالتشديدِ
وَإِذَا البحار سُجّرَتْ أي أحميت أو ملئت يتفجير بعضِها إلى بعضٍ حتَّى تعودَ بحراً واحداً مِنْ سجرَ التنورَ إذا ملأَهُ بالحطبِ ليحميَهُ وقيلَ مُلئتْ نيرانا تضطرم لتعذيب أهلِ النارِ وعن الحسنِ يذهبُ ماؤُها حتَّى لا يبقى فيها قطرةٌ وقرىء سجرت بالتخفيف
إذا النفوس زُوّجَتْ أي قُرِنتْ بأجسادها أو قُرِنتْ كلُّ نفسٍ بشكلِها أو بكتابِها أو بعملِها أو نفوسُ المؤمنينَ بالحُورِ ونفوسُ الكافرينَ بالشياطين
وإذا الموؤدة أي المدفونة حيةً وكانت العرب تئد البنات مخافة الإملاق أو لحوقِ العارِ بهم من أجلهنَّ قيلَ كان رجل منهُم إذَا وُلِدتْ له بنتٌ ألبسها جُبَّةً من صُوفٍ أو شَعَرٍ حَتَّى إذَا بلغتْ ستَّ سنينَ ذهبَ بها إلى الصحراءِ وقد حفرَ لها حُفرةً فيُلقيها فيهَا ويُهيلُ عليها الترابَ وقيلَ كانتِ الحاملُ إذا قربت حفرتْ حُفرةً فتمخضتْ على رأسِ الحُفرةِ فإذا ولدتْ بنتاً رمتْ بهَا وإنْ ولدتْ ابناً حبستْهُ
سُئِلَتْ
بِأَىّ ذَنبٍ قُتِلَتْ توجيهُ السؤالِ إليهَا لتسليتِها وإظهارِ كمالِ الغيظِ والسَّخطِ لوائدها وإسقاطِه عن درجةِ الخطابِ والمبالغةِ في تبكيتِه كما في قوله تعالى أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذونى وَأُمّىَ إلهين وقُرىءَ سَأَلتْ أي خاصمتْ أو سألتِ الله تعالَى أو قاتِلَها وإنما قيلَ قُتلتْ لما أنَّ الكلامَ إخبارٌ عنها لا حكايةٌ لما خُوطبتْ بهِ حينَ سُئلتْ ليقالَ قُتِلْتِ على الخطابِ ولا حكايةٌ لكلامِها حينَ سَألتْ ليقالَ قُتِلْتُ على الحكايةِ عن نفِسها وقد قرىء كذلك بالتشديد أيضاً وعن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما أنه سُئِلَ عن أطفالِ المشركينَ فقال لا يعذبون
سورة التكوير (10 14) واحتجَّ بهذهِ الآيةِ
وَإِذَا الصحف نُشِرَتْ أيْ صحفُ الأعمالِ فإنَّها تُطوى عندَ الموتِ وتنشرُ عند الحساب عنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قالَ يُحشرُ النَّاسُ عُراةً حُفاةً فقالتْ أمُّ سلمةَ فكيفَ بالنساءِ فقالَ شُغلَ الناسُ يا أُمَّ سلمةَ قالتْ وما شغلَهُم قالَ نشرُ الصحفِ فيها مثاقيلُ الذرِّ ومثاقيلُ الخردلِ وقيلَ نُشرتْ أي فُرِّقتْ بينَ أصحابِها وعن مَرْثَدِ بنِ وَدَاعةَ إذَا كانَ يومُ القيامةِ تطايرتِ الصحفُ من تحتِ العرشِ فتقعُ صحيفةُ المؤمنِ في يدِه في جنةٍ عاليةٍ وتقعُ صحيفةُ الكافرِ في يده في سَمومٍ وحميمٍ أي مكتوبٌ فيها ذلكَ وهيَ صُحفٌ غيرُ صحفِ الأعمالِ
وَإِذَا السماء كُشِطَتْ قُطعتْ وأُزيلتْ كما يُكشطُ الإهابُ عن الذبيحةِ والغطاءُ عن الشيء المستور به وقرئ قُشطتْ واعتقابُ الكافِ والقافِ غيرُ عزيز كالكافُور والقافُورِ
وَإِذَا الجحيم سُعّرَتْ أي أوقدت إتقادا شديداً قيلَ سَعَّرهَا غضبُ الله عزوجل وخطايا بنى آدم وقرئ سُعِرَتْ بالتَّخفيفِ
وَإِذَا الجنة أُزْلِفَتْ أي قُرَّبتْ من المتقينَ كقولِه تعالى وَأُزْلِفَتِ الجنة لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ قيلَ هذهِ اثنتا عشرةَ خصلةً ستٌّ منها في الدُّنيا أي فيمَا بينَ النفختينِ وهُنَّ من أول السورةِ إلى قوله تعالى وَإِذَا البحار سُجّرَتْ على أنَّ المرادَ بحشرِ الوحوشِ جمعُها من كل ناحية لأبعثها للقصاصِ وستٌّ في الآخرةِ أي بعدَ النفخةِ الثانيةِ وقوله تعالى
عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا أَحْضَرَتْ جوابُ إذَا على أنَّ المرادَ بها زمانٌ واحدٌ ممتدٌّ يسعَ ما في سباقها وسباقِ ما عُطفَ عليها من الخصالِ مبدؤُه النفخةُ الأُولى ومنتهاهُ فصلُ القضاءِ بينَ الخلائقِ لكنْ لا بمعْنى أنها تعلمُ ما تعلُم في كلُّ جزءٍ من أجزاءِ ذلكَ الوقتِ المديدِ أو عند وقوعِ داهيةٍ من تلكَ الدواهِي بلْ عند نشرِ الصحفِ إلا أنَّه لما كانَ بعضُ تلك الدَّواهِي من مباديهِ وبعضُها من روادفِه نُسبَ علمُها بذلكَ إلى زمان وقع كُلِّها تهويلاً للخطب وتفظيعاً للحال والمرادُ بمَا أَحضرتْ أعمالها من الخير والبشر وبحضورِها إما حضورُ صحائِفها كما يعربُ عنه نشرُها وإما حضورُ أنفسِها على ما قالُوا من أنَّ الأعمالَ الظاهرةَ في هذه النشأة بصورة عرضيةٍ تبرُز في النشأة الآخرة بصور جوهريةٍ مناسبةٍ له في الحسنِ والقُبحِ على كبفيات مخصومة وهيآت مُعينةٍ حتى إنَّ الذنوبَ والمعاصيَ تتجسم هناك وتتصورُ بصورةِ النَّارِ وعَلى ذلكَ حُمل قولُه تعالى وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بالكافرين وقوله تعالى إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ أموال اليتامى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِى بُطُونِهِمْ نَاراً وكذا قولُه
سورة التكوير
آية (15) عليه الصلاة والسلام في حقِّ مَنْ يشربُ من آنيةِ الذهبِ والفضةِ إنما يُجرجِر في بطنِه نارَ جهنمَ ولا بُعدَ في ذلكَ ألا يُرى أن العلمَ يَظهر في عالمِ المثالِ على صورة البن كما لايخفى على مَنْ له خِبرةٌ بأحوالِ الحضَراتِ الخمس وقد رُوي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه يؤتى بالأعمال الصالحة على صورة حسنةٍ وبالأعمال السيئة على صورة قبيحة فتوضع النفوسِ أو لبعضِ منها للإيذانِ بأن ثبوتَهُ لجميعِ أفرادِها قاطبةً من الظهورِ والوضوحِ بحيثُ لا يكادُ يحومُ حولَهُ شائبةُ اشتباهٍ قطعاً يعرفُه كلُّ أحدٍ ولوجئ بعابرة تدلُّ على خلافِه وللرمزِ إى أنَّ تلكَ النفوسَ العالمةَ بما ذُكِرَ مع توفرِ أفرادِها وتكثرِ أعدادِها مما يُستقل بالنسبةِ إلى جناب الكبرياءِ الذي أشير إلى بعض بدائع شؤنه المنبئةِ عن عظمِ سُلطانِه واما قيلَ منْ أنَّ هذَا من قبيلِ عكسِ كلامِهم الذي يقصِدون به الإفراطَ فيما يُعكسُ عنْهُ وتمثيله بقولِه تعالى رُّبَمَا يَوَدُّ الذين كَفَرُواْ لَوْ كَانُواْ مُسْلِمِينَ وبقول منْ قالَ قَدْ أتركَ القِرْنَ مُصفرّاً أناملُهُ وبقولِ من قالَ حينَ سُئلَ عن عددِ فرسانِه رُبَّ فارسٍ عندِي وعندُه المقانبُ قاصداً بذلكَ التماديَ في تكثير فُرسانِه وإظهارَ براءتِه من التزيد وأنَّه ممَّن يقللُ كثيرَ مَا عندَهُ فضلاً أنْ يتزيدَ فمن لوائحِ النظرِ الجليلِ إلا أنَّ الكلامَ المعكوسَ عنْهُ فيما ذُكِرَ من الأمثلةِ مما يقبلُ الإفراطَ والتماديَ فيه فإنَّه في الأولِ كثيراً ما يودُّ وفي الثانِي كثيراً ما أتركُ وفي الثالث كثيرٌ من الفرسانِ وكلُّ واحدٍ من ذلكَ قابلٌ للإفراطِ والمبالغةِ فيهِ لعدمِ انحصارِ مراتبِ الكثرةِ وقدْ قُصدَ بعكسِه ما ذكر من التمادي في التكثير حسبما فضل أما قيما نحن فيه فالكلام الذي عكس عنه علمت كلُّ نفسٍ ما أحضرتْ كما صرَّحَ به القائلُ وليسَ فيه إمكانُ التكثيرِ حتَّى يُقصدَ بعكسِه المبالغةُ والتَّمادِي فيهِ وإنما الذي يمكنُ فيه من المبالغةِ ما ذكرناهُ فتأملْ ويجوزُ أنْ يكونَ ذلكَ للإشعارِ بأنَّه إذا علمتْ حينئذٍ نفسٌ من النفوسِ ما أحضرتْ وجبَ على كلِّ نفسٍ إصلاحُ عملِها مخافةَ أنْ تكونَ هيَ تلكَ التي علمتْ ما أحضرتْ فكيفَ وكلُّ نفسٍ تعلمُه على طريقةِ قولِك لمن تنصحُه لعلكَ ستندمُ على ما فعلتَ ورُبَّما ندِم الإنسان على مافعل فإنك لا تقصدُ بذلكَ لاتقصد بذلكَ أنَّ ندمَهُ مرجوُّ الوجود لامتيقن بهِ أو نادرُ الوقوعِ بلْ تريدُ أنَّ العاقلَ يجبُ عليهِ أنْ يجتنبَ أمراً يُرجى فيهِ الندمُ أو قلَّماً يقعُ فيهِ فكيفَ بهِ إذَا كانَ قطعى الوجود كثير الوجود
فَلَا أُقْسِمُ بالخنس أي الكواكبِ الرواجع مِنْ خَنَسَ إذا تأخر وهي ماعدا النيرينَ منَ الدَّرارِي الخمسةِ وهيَ بهرامُ وزُحَلُ وعُطَارِدُ والزُّهْرَةُ والمُشتَرى وُصفتْ بقولِه تعالى
سورة التكوير (16 22)
الجوار الكنس لأنها تَجْري مع الشمسِ والقمرِ وترجعُ حتى تخفي تحتَ ضوءِ الشمسِ فخنُوسها رجوعُها وكنوسُها اختفاؤُها تحتَ ضوئها من كنس الوحشى إذا دخلَ كُناسَهُ وهو البيتُ الذي يتخذهُ من أغصانِ الشجرِ وقيل هي جميعُ الكواكبِ تخنِسُ بالنهار فتغيبُ عنِ العُيونِ وتكنسُ بالليل أي تطلعُ في أماكنِها كالوحشِ في كُنُسِها
والليل إِذَا عَسْعَسَ أي أدبرَ ظلامُه أو أقبلَ فإِنَّه منَ الأضَّدادِ وكذلكَ سعسعَ قالَ الفراءُ أجمعَ المفسرونَ على أنَّ معنى عسعسَ أدبر عليه قولُ العَجَّاجِ] حَتَّى إِذَا الصبح لها تَنفَّسَا وَانجَابَ عنَها ليلُها وعَسْعَسَا وقيلَ هيَ لغةُ قريشٍ خاصَّة وقيلَ مَعْنى إقبالِ ظلامِه أوفقُ لقولِه تعالى
والصبح إِذَا تَنَفَّسَ لأنَّه أولُ النهارِ وقيل إدبارُه أقربُ من تنفسِ الصبحِ ومعناهُ أنَّ الصبحَ إذَا أقبلَ يقبلُ بإقبالِه رَوحٌ ونسيمٌ فجعلَ ذلكَ نفساً لَهُ مجازاً فقيلَ تنفَّسَ الصبحُ
أَنَّهُ أي القرآنَ الكريمَ الناطق بما ذكر من الدواهي الهائلة
لقوله رسول كريم وهو جبريلُ عليه السلام قالَه من جهةِ الله عزَّ وجلَّ
ذِى قُوَّةٍ شديدةٍ كقولِه تعالَى شَدِيدُ القوى وقيلَ المرادُ القوةُ في أداءِ طاعةِ الله تعالَى وتركِ الإخلالِ بَها من أولِ الخلقِ إلى آخرِ زمانِ التكليفِ
عِندَ ذِى العرش مَكِينٍ ذِي مكانةٍ رفيعةٍ عندَ الله تعالى عنديةَ إكراما وتشريف لاعندية مكانٍ
مطاع فيما بينَ ملائكتِه المقربينَ يصدرُون عن أمرِه ويرجعونَ إلى رأيه
ثَمَّ أَمِينٍ على الوَحْي وثمَّ ظرفٌ لما قبَلهُ وقيلَ لما بعدَهُ وقرىء ثُمَّ تعظيماً لوصفِ الأمانِةَ وتفضيلاً لها على سائرِ الأَوْصَافِ
وَمَا صاحبكم هو رسولُ الله صلى الله عليه وسلم
بِمَجْنُونٍ كما تبهتُه الكفرةُ والتعرضُ لعنوانِ المصاحبةِ للتلويحِ بإحاطتِهم بتفاصيلِ أحوالِه عليه الصلاة والسلام خبرا علمهم بنزاهتِه عليه السلام عمَّا نسبُوه إليهِ بالكليةِ وقد استُدلَّ بهِ على فضلِ جبريلَ عليِه عليهما السلام للتباين البينِ بين وصفيهما وهو ضعيفٌ إذِ المقصودُ ردُّ قولِ الكفرةِ في حقِّه عليه الصلاة والسلام إنما يعلمه بشرٌ أفترى عَلَى الله كَذِباً أم بهِ جِنَّة لا تعدادُ فضائلها والموازنة
81 سورة التكوير (23 29)
ولقد رآه أي وبالله لقد رأى رسولُ الله جبريلُ عليهما الصلاة والسلام
بلأفق المبين بمطلعِ الشمسِ الأَعْلى
وَمَا هُوَ أي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم
عَلَى الغيب على ما يخبرُه من الوَحْي إليهِ وغيرِه من الغيوبِ
بِضَنِينٍ أي ببخيل بالوَحْي ولا يُقصِّرُ في التبليغ والتعليمِ وقُرِىءَ بظنينٍ أي بمتهمٍ من الظنة وهي التهمةُ
وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شيطان رَّجِيمٍ أي قولِ بعضِ المُسترقةِ للسمعِ وهو نفيٌ لقولِهم إنَّه كهانةٌ وسحرٌ
فَأيْنَ تَذْهَبُونَ استضلالٌ لهم فيما يسلكونَهُ في أمرِ القرآنِ والفاءُ لترتيبِ ما بعدها على ما قبلها من ظهورِ أنَّه وحيٌ مبين وليس مما يقولونه في شيءٍ كما تقولُ لمن تركَ الجادَّةَ بعدَ ظهورِها هذا الطريقُ الواضحُ فأينَ تذهبُ
إِنْ هُوَ مَا هُو
إِلَاّ ذِكْرٌ للعالمين موعظة وتذكيرٌ لهم وقولُه تعالَى
لِمَن شَاء مِنكُمْ بدلٌ من العالمينَ بإعادةِ الجارِّ وقولُه تعالَى
أَن يَسْتَقِيمَ مفعولُ شاءَ أيْ لمَنْ شاء منكم الإستقامة يتحرى الحقِّ وملازمةِ الصوابِ وإبدالُه منَ العالمينَ لأنَّهم المنتفعونَ بالتذكير
وما تشاؤن أي الاستقامةَ مشيئةَ مستتبعةَ لها في وقتٍ من الأوقاتِ
إلا أن يشاء الله أي إلا وقتَ أنْ يشاءَ الله تعالَى تلكَ المشيئةَ أي المستتبِعة للاستقامةِ فإن مشيئتكم لا تستبعها بدون مشيئةِ الله تعالى لها
رَبّ العالمين مالكُ الخلقِ ومربيهم أجمعينَ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مَنْ قرأَ سورةَ التكويرِ أعاذَهُ الله أنْ يفضحَهُ حينَ تُنشرُ صحيفته
82 سورة الإنفطار (1 5)
بسم الله الرحمن الرحيم
إِذَا السماء انفطرت أي انشقتْ لنزول الملائكةِ كقولِه تعالى ويوم تشقق السماء بالغمام وَنُزّلَ الملائكة تَنزِيلاً وقولُه تعالى وَفُتِحَتِ السماء فَكَانَتْ أبوابا والكلامُ في ارتفاع السماءِ كما مرَّ في ارتفاعِ الشمسِ
وَإِذَا الكواكب انتثرت أي تساقطتْ متفرقةً
وَإِذَا البحار فُجّرَتْ فُتحَ بعضُها إلى بعضٍ فاختلطَ العذبُ بالأُجاجِ وزالَ ما بينهما من البرزخ الحاجزِ وصارتِ البحارُ بَحْراً واحِداً ورُويَ أن الأرضَ تنشفُ الماءَ بعد امتلاءِ البحارِ فتصيرُ مستويةً وهو مَعْنى التسجيرِ عند الحسنِ رضي الله عنه وقيلَ إنَّ مياه البحارِ الآنَ راكدةٌ مجتمعةٌ فإذَا فجرتْ تفرقتْ وذهبت وقرئ فُجِرَتْ بالتخفيفِ مبنياً للمفعولِ وَمبنياً للفاعلِ أيضاً بمْعَنى بغتْ من الفجورِ نظراً إلى قولِه تعالى لَا يَبْغِيَانِ
وَإِذَا القبور بُعْثِرَتْ أي قلب وأُخرجَ موتاهَا ونظيرُه بَحْثر لفظاً ومَعْنى وهُما مركبانِ من البعثِ والبحثِ مع راءٍ ضُمَّتْ إليهمَا وقولُه تعالى
عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ جوابُ إذا لكنْ لَا على أنَّها تعلمُه عندَ البعثِ بل عند نشرِ الصحفِ لما عرفتَ من أنَّ المرادَ بها زمانٌ واحدٌ مبدؤُه النفخةُ الأُولى ومنتهاهُ الفصلُ بينَ الخلائق لا أزمنة متعددة حسب تعددِ كلمةِ إذَا وإنما كُررتْ لتهويلِ ما في حيزهَا من الدَّواهِي والكلام في كالذي مرَّ تفصيلُه في نظيره ومَعْنى ما قَدَّم وأخَّر ما أسلفَ من عملِ خيرٍ أو شرَ وأخَّر من سنة حسنة أو سيئةٍ يُعملُ بها بعدَهُ قالَه ابنِ عباسٍ وابنِ مسعودٍ وعن ابن عباسٍ أيضاً ما قدمَ منْ معصيةٍ وأخَّر من طاعةٍ وهو قولُ قتادةٍ وقيلَ ما قدمَ من أمواله لنفسه وماأخر لوثته وقيلَ ما قدمَ من فرض وأخَّر من فرض وقيل أو عملِه وآخرُهُ ومعنى علمِها التفصيليُّ حسبما ذُكِرَ فيَما مر مرارا
يا أيها الإنسان مَا غَرَّكَ بِرَبّكَ الكريم أيْ أيُّ شيءٍ خدعكَ وجرَّأك على عصيانِه وقد علمتَ ما بينَ يديكَ من الدواهِي التامَّةِ والعراقيلِ الطَّامة وما سيكونُ حينئذٍ من مُشاهدةِ أعمالِك كُلِّها والتعرضُ لعنوانِ كرمِه تعالَى للإيذانِ بأنَّه ليسَ مما يصلُح أن يكونَ مدارا لاغتراره يغويهِ الشيطانُ ويقولُ له افعلْ ما شئتْ فإنَّ ربكَ كريمٌ قد تفضلَ عليكَ في الدُّنيا وسيفعلُ مثَلُه في الآخرةِ فإنَّه قياسٌ عقيمٌ وتمنيةٌ باطلةٌ بل هُو ممَّا يوجبّ المبالغةَ في الإقبالِ على الإيمانِ والطاعةِ والاجتنابِ عن الكفرِ والعصيانِ كأنَّه قيلَ ما حملكَ على عصيانِ ربِّكَ الموصوفِ بالصفاتِ الزاجرةِ عنهُ الداعيةِ إلى خلافِه وقولُه تعالى
الذى خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ صفة ثانية مقررة للربويية مبيَّنة للكرم منبهةٌ على أن من مَنْ قدَرَ على ذلكَ بدَءاً قدرَ عليه إعادةً والتسويةُ جعلُ الأعضاءِ سليمةً سويةً مُعدةً لمنافعها وعدلها عدلَ بعضِها ببعضٍ بحيثُ اعتدلتْ وَلَم تتفاوتْ أو صَرْفُها عن خِلْقةٍ غيرِ ملائمةٍ لها وقُرِىءَ فعدّلكَ بالتشديد أى صيرك متعدلا متناسبَ الخلقِ من غير تفاوتٍ فيه
في اي صُورَةٍ مَّا شاء ركبك أى وركبك في أي صورة شاءها من الصور المختلفةِ ومَا مزيدةٌ وشاءَ صفةٌ لصورةٍ أي ركبك في أي صورةٍ شاءَها واختارَها لكَ من الصورِ العجيبةِ الحسنةِ كقولِه تعالَى لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان فى أحسن تقويم وإنما لَمْ يعطفْ الجملةِ على ما قبلَها لأنها بيانٌ لعدلكَ
كَلَاّ ردعٌ عن الاغترارِ بكرمِ الله تعالَى وجعلِه ذريعةً إلى الكفرِ والمعاصِي مع كونِه موجباً للشكرِ والطاعةِ وقولُه تعالى
بَلْ تُكَذّبُونَ بالدين إضرابٌ عن جملة مقدر ينساقُ إليها الكلامُ كأَّنه قيلَ بعد الردعِ بطريق الاعتراضِ وأنتم لا ترتدعونَ عن ذلكَ بل تجترئونَ على أعظمِ من ذلكَ حيثُ تكذبونَ بالجزاءِ والبعثِ رأساً أو بدينِ الإسلامِ الذي هُما من جملةِ أحكامِه فلا تصدقونَ سؤالاً ولا جواباً ولا ثواباً ولا عقاب وقيلَ كأنَّه قيل إنَّكم لا تستقيمونَ على ما توجيه نِعَمِي عليكُم وإرشادِي لكُم بل تكذبونَ الخ وقال القفالُ ليسَ الأمرُ كَما تقولونَ من أنَّه لا بعثَ ولا نشورَ ثم قيلَ أنتُم لا تتبينونَ بهذا البيانِ بل تكذبونَ بيومِ الدينِ وقولُه تعالى
وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لحافظين حالٌ من فاعلِ تكذبونَ مفيدةٌ لبطلان تكذبيهم وتحققِ ما يكذبونَ بهِ أي تكذبونَ بالجزاءِ والحالُ أنَّ عليكُم من قبلِنا لحافظين لأعمالكم
82 سورة الانفطار (11 18)
كراما لدنيا
كاتبين لها
يعملون مَا تَفْعَلُونَ من الأفعالِ قليلاً وكثيراً ويضبطونَهُ نَقيراً وقِطْميراً لتجازوا بذلكَ وفي تعظيمِ الكاتبينِ بالثناءِ عليهم تفخيمٌ لأمرِ الجزاءِ وأنه عند الله عز وجل من جلائلِ الأمورِ حيثُ يستعملُ فيه هؤلاءِ الكرامَ وقولُه تعالَى
إِنَّ الأبرار لَفِى نَعِيمٍ
وَإِنَّ الفجار لَفِى جَحِيمٍ استئنافٌ مسوق لبيان نتيجةِ الحفظِ والكتابِ من الثوابِ والعقابِ وفي تنكيرِ النعيمِ والجحيمِ من التفخيمِ والتهويلِ ما لايخفى وقولُه تعالَى
يَصْلَوْنَهَا إما صفةٌ لجحيمٍ أو استئنافٌ مبنيُّ على سؤالٍ نشأَ منْ تهويلِها كأنَّه قيلَ ما حالُهم فيها فقيلَ يُقاسونَ حرَّهَا
يَوْمِ الدين يومَ الجزاءِ الذي كانُوا يكذِّبون بهِ
وما هم عنهابغائبين طرفةَ عينٍ فإن المرادَ دوام نفى الغيبة لانفى دوامِ الغيبة لما مرَّ مِراراً من أنَّ الجملةَ الاسميةَ المنفيةَ قد يُرادُ بها استمرارَ النَّفِي لا نفيَ الاستمرارِ باعتبارِ ما تفيدُه من الدوامِ والثباتِ بعد النَّفِي لا قبلَهُ وقيل معناهُ وما كانُوا غائبينَ عنها قبل ذلكَ بالكليةِ بل كانُوا يجدونَ سمومَها في قبورِهم حسبما قال النبي صلى عليه وسلم القبرُ روضةٌ من رياض الجنةِ أو حُفرةٌ من حُفَرِ النيرانِ وقولُه تعالَى
وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدين
ثم أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدين تفخيمٌ لشأن يومِ الدينِ الذي يكذبونَ به إثرَ تفخيمٍ وتهويلٌ لأمرِه بعدَ تهويلٍ ببيانِ أنَّه خارجٌ عن دائرة دراية الخلق على أى صورة تصوره فهو فوقَها وكيفما تخيلوه فهو أطمُّ من ذلكَ وأعظمُ أيْ وأيُّ شيءٍ جعلكَ دارياً ما يومُ الدينِ على أنَّ ما الا ستفهامية خبر ليوم الدين إلا بالعكسُ كما هُو رأيُ سيبويهِ لما مرَّ منْ أنَّ مدارَ الافادةِ هُو الخبرُ لا المبتدأُ ولا ريبَ في أنَّ مناطَ إفادةِ الهولِ والفخامةِ هُنا هو مَا لا يومَ الدينِ أيْ أيُّ شيءٍ عجيبٍ هو في الهولِ والفظاعةِ لما مرَّ غيرَ مرةٍ أن كلمةَ مَا قد يطلب بها الوصف وإن كانتْ موضوعةً
لطلبِ الحقيقةِ وشرحِ الاسمِ يقالُ ما زيدٌ فيقالُ في الجوابِ كاتبٌ أو طبيبٌ وفي إظهارِ يومُ الدينِ في موقعِ الاضمارِ تأكيدٌ لهولِه وفخامتِه وقولُه تعالَى
يوم لا تملك نفس لِنَفْسٍ شَيْئاً والأمر يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ بيانٌ إجماليٌّ لشأن يومِ الدينِ إثرَ إبهامِه وبيانِ خروجِه عنْ علومِ الخلقِ بطريقِ إنجازِ الوعدِ فإن لفى إدرائِهم مشعرٌ بالوعد الكريمِ بالإدراءِ قالَ ابنُ عباسٍ رضي الله عنهما كلُّ ما في القرآنِ من قولِه تعالَى مَا أدراكَ فقدْ أدراهُ وكلُّ ما فيهِ من قولِه وما يدريكَ فقد طُويَ عنْهُ ويومَ مرفوعٌ على أنَّه خبر مبتدأ محذوف وحركته الفتحِ لإضافتِه إلى غيرِ متمكنٍ كأنَّه قيلَ هُو يومَ لا يملكُ فيه نفس من النفوس لنفس من النفوسِ شيئاً من الأشياءِ الخ أو منصوبٌ بإصمار اذكر كأنه قيل بعد تفخيمِ أمرِ يومِ الدينِ وتشويقِه عليه الصلاة والسلام إلى معرفتِه اذكُر يومَ لا تملكُ نفسٌ الخ فإنه يُدريكَ ما هُو وقيلَ بإضمارِ يُدانونَ وليسَ بذاكَ فإنه عارٍ عن إفادةِ ما يفيدُه ما قبلَهُ كما أنَّ إبدالهُ من يومِ الدينِ على قراءةِ الرفعِ كذلكَ بل الحقُّ حينئذٍ الرفعُ على أنه خير لمبتدأٍ محذوفٍ عنْ رسولِ الله صلى الله اعليه وسلَّم مَنْ قرأَ سورةَ الا نفطار كتبَ الله تعالَى له بعددِ كلِّ قطرةٍ من السماءِ وبعددِ كلِّ قبرٍ حسنةً والله تعالَى أعلمُ
83 سورة المطففين (1 2)
بسم الله الرحمن الرحيم
ويل للمطففين قبل الويلُ شدةُ الشرِّ وقيلَ العذابُ الأليمُ وقيلَ هو وادٍ في جهنمَ يهوي فيه الكافرُ أربعينَ خريفاً قبل أنْ يبلُغ قَعْرَه وقيلَ وقيلَ وأياً ما كانَ فهو مبتدأٌ وإنْ كان نكرةً لوقوعِه في موقعِ الدُّعاءِ والتطفيفُ البخسُ في الكيل والوزنِ لأنَّ ما يُبخسُ شيءٌ طفيفٌ حقيرٌ ورويَ أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قدَم المدينةَ وكانَ أهلُها من أخبثِ الناسِ كيلاً فنزلتْ فأحسنُوا الكيلَ وقيلَ قدمَها عليه الصلاة والسلام وبها رجلٌ يعرفُ بأبي جهينةَ ومعه صاعانِ يكيلُ بأحدهما وكتال بالآخرِ وقيلَ كانْ أهلُ المدينةِ تجاراً يطففونَ وكانتْ بياعاتهم المنابذة والملامسة والمخاطرة فنزلت فخرج رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فقرأَها عليهمُ وقالَ خمسٍ بخمس ما نقض قوم العهد الإسلط الله عليهم عدوَّهم وما حكمُوا بغيرِ ما أنزلَ الله إلا فشَا فيهم الفقرُ وما ظهرتْ فيهم الموتُ ولا طففُوا الكيلَ الإمنعوا النبات وأخذوا بالسنينَ ولا منعُوا الزكاةَ إلا حُبِس عنهم القطرُ وقولُه تعالَى
الذين إِذَا اكتالوا عَلَى الناس يَسْتَوْفُونَ إلخ صفةٌ كاشفةٌ للمطففينَ شارحةٌ لكيفية تطفيفهم الذين استحقُّوا بهِ الذمَّ والدعاءَ بالويل أي إذَا اكتالُوا منَ النَّاسِ مكيلَهم بحكمِ الشراءِ ونحوِهِ يأخذونَهُ وافياً وافراً وتبديلُ كلمةِ عَلَى بمِنَ لتضمينِ الاكتيالِ مَعْنى الاستيلاءِ أو للإشارةِ إلى أنَّه اكتيال مضربهم لكنْ لَا علَى اعتبارِ الضررِ في حيزِ الشرطِ الذي يتضمنُه كلمةُ إذَا لإخلالِه بالمَعْنى بلْ في نفسِ الأمرِ بموجبِ الجوابِ فإن المراد بلاستيفاء ليسَ أخذَ الحقِّ وافياً من غيرِ نقصٍ بل مجردُ الأخذِ الوافِي الوافِر حسبما أرادُوا بأيِّ وجهٍ تيسرَ من وجوهِ الحيلِ وكانُوا يفعلونَهُ بكبسِ المكيلِ وتحريك المكيال واحتيال في ملئهِ وأما ما قيلَ من أنَّ ذلكَ للدلالةِ على أنَّ اكتيالَهُم لمَا لَهُم على النَّاسِ فمعَ اقتضائِه لعدمِ شمولِ الحكمِ لاكتيالِهم قبلَ أنْ يكونَ لهم على الناسِ شئ بطريقِ الشراءِ ونحوِه معَ أنَّه الشائعْ فيما بينَهم يقتضِي أنْ يكونَ معنى الاستيفاءِ أخذُ ما لهم عليهم وافياً من غيرِ نقصٍ إذْ هُو المتبادَرُ منه عند الإطلاقِ في معرضِ الحقِّ فلا يكونُ مداراً لذمِّهم والدعاءِ عليهم وحملِ ما لهم عليهم على مَعْنى ما سيكونُ
83 سورة (3 6)
لهم عليهم مع كونِه بعيداً جداً مما لا يُجدي نفعاً فإنَّ اعتبارَ كونِ المكيلِ لهم حالاً كان أو مآلا لا يستدعِي كونَ الاستيفاءِ بالمعنى المذكورِ حَتْماً وهكذا حالُ ما نُقلَ عنِ الفرَّاءِ من أنَّ مِنْ وعَلَى تعتقبانِ في هذا الموضعِ لأنَّه حقٌّ عليهِ فإذَا قال اكتلت عليك فأنه قال أخذتُ ما عليكَ وإذا قالَ اكتلتُ منكَ فكقولِه استوفيتُ منكَ فتأملْ وقد جُوِّز أن تكون على متعلقةً بيستوفونَ ويكون تقديمُها على الفعلِ لإفادة الخصوصيةِ أي يستوفونَ على النَّاسِ خاصَّة فأما أنفسُهم فيستوفونَ لها وأنتَ خبيرٌ بأن القَصْر بتقديم الجار والمجرور انما يكونُ فيما يمكنُ تعلقُ الفعلِ بغير المجرورِ أيضاً حسبَ تعلقِه به فيقصد بالتقديمِ قصرُه عليه بطريقِ القلبِ أو الإفرادِ أو التعيينِ حسبما يقتضيهِ المقامُ ولا ريب في أن الاستيفاءَ الذي هو عبارةٌ عن الأخذ الوافي مما لا يُتصوّر أن يكونَ على أنفسهم حَتَّى يقصد بتقديم الجارِّ والمجرورِ قصرُه على النَّاسِ على أنَّ الحديثَ واقعٌ في الفعلِ لا فيما وقعَ عليهِ فتدبرْ والضميرُ البارزُ في قولِه تعالى
واذا كالوهم أو وزونوهم
للناس أي اذا كالُوا لهم أو وزنُوا لهم للبيعِ ونحوِه
يُخْسِرُونَ
أي ينقصونَ يقالُ خسِر الميزانَ وأخسرَهُ فحذفَ الجارَّ وأوصلَ الفعلَ كما في قولِه
وَلَقَدْ جَنَيتُكَ أَكْمُؤاً وعَسَاقِلاً
أي جنيتُ لكَ وجعلُ البارزِ تأكيداً للمستكنِّ مما لا يليقُ بجزالةِ التنزيلِ ولعلَّ ذكرَ الكيلِ والوزنِ في صورةِ الإخسارِ والاقتصار على الاكتيالِ في صورةِ الاستيفاءِ لما أنهم لم يكونوا متمكنينَ من الاحتيالِ عند الاتزانِ تمكنهم منه عند الكيلِ والوزنِ وعدمُ التعرضِ للمكيلِ والموزونِ في الصورتينِ لأن مساقَ الكلام لبيان سواء معالمتم في الأخذِ والإعطاءِ لا في خصوصيةِ المأخوذِ والمُعطَى وقولُه تعالى
أَلا يَظُنُّ أُوْلَئِكَ أَنَّهُمْ مَّبْعُوثُونَ
استئنافٌ واردٌ لتهويلِ ما ارتكبُوه من التطفيفِ والتعجيبِ من اجترائِهم عليهِ وأولئكَ إشارةٌ إلى المطففينَ ووضعه موضع ضميرهم للإشعارِ بمناطِ الحُكمِ الذي هُو وصفُهم فإنَّ الإشارةَ إلى الشيءِ متعرضةٌ له من حيثُ اتِّصافُه بوصفِه وأما الضميرُ فلا يتعرضُ لوصفِه وللإيذانِ بأنَّهم ممتازونَ بذلكَ الوصفِ القبيحِ عن سائرِ النَّاسِ أكملَ امتيازٍ نازلون منزلة الأمور المشارِ إليها إشارةً حسيةً وما فيه من معنى البعدِ للإشعارِ ببُعد درجتِهم في الشَّرارةِ والفسادِ أي ألا يظنُّ أولئكَ الموصوفونَ بذلكَ الوصفِ الشنيعِ الهائلِ أَنَّهُمْ مَّبْعُوثُونَ
لِيَوْمٍ عَظِيمٍ
لا يُقادَرُ قدرُ عِظَمِه وعِظَمِ ما فيهِ ومحاسبونَ فيهِ على مقدارِ الذرةِ والخردلةِ فإنَّ من يظنُّ ذلكَ وإن كان ظناً ضعيفاً متاخماً للشكِّ والوهمِ لا يكادُ يتجاسرُ على أمثالِ هاتيكَ القبائحِ فكيفَ بمن تيقنُه وقولُه تعالَى
يوم يقوم الناس لرب العالمين
83 سورة المطففين (7 13)
أي لحُكمِه وقضائِه منصوبٌ بإضمارِ أعنِي وقيلَ بمبعوثونَ أو مرفوعُ المحلِّ خبراً لمبتدأٍ مضمرٍ أو مجرورٌ بدلاً من يومٍ عظيمٍ مبني على الفتح لإضافته إلى الفعلِ وإنْ كانَ مضارعا كما هو رأيُ الكوفيِّينَ ويؤيد الأخيرينِ القَراءةُ بالرفعِ وبالجَرِّ وفي هَذا الإنكارِ والتعجيبِ وإيرادِ الظنِّ ووصفِ اليومِ بالعِظمِ وقيامِ الناسِ فيه كافَّة لله تعالَى خاضعينَ ووصفِه تعالَى بربوبيَّةِ العالمين من البيانِ البليغِ لعظمِ الذنبِ وتفاقمِ الإثمِ فِي التطفيف وأمثاله مالا يَخْفى
كلا
ردع عمَّا كانوا عليهِ من التطفيفِ والغفلةِ عن البعثِ والحسابِ وقوله تعالى
إِنَّ كتاب الفجار لَفِى سِجّينٍ
الخ تعليل للردع أو وجوب الارتداعِ بطريقِ التحقيقِ وسجينٌ علمٌ لكتابٍ جامعٍ هو ديوانُ الشرِّ دْوّنَ فيه أعمالُ الشياطينِ وأعمالُ الكفرةِ والفسقةِ من الثقلينِ منقولٌ من وصف كخاتم وأصلُه فِعِّيلٌ من السجنِ وهو الحبسُ والتضييقُ لأنَّه سببُ الحبسِ والتضييقِ في جهنَمَ أو لأنَّه مطروحٌ كما قيلَ تحتَ الأرضِ السابعةِ في مكانٍ مُظلمٍ وحش وهو مسكنُ إبليسَ وذريتِه فالمَعْنى أنَّ كتابَ الفجَّارِ الذينَ من جُمْلتِهم المطففونَ أي ما يكتبُ من أعمالِهم أو كتابةَ أعمالِهم لفي ذلكَ الكتابِ المُدونِ فيه قبائحُ أعمالِ المذكورينَ وقوله تعالى
وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجّينٌ
تهويلٌ لأمرِه أي هُو بحيثُ لا يبلغه درايةُ أحدٍ وقولُه تعالى
كتاب مَّرْقُومٌ
أي مسطورٌ بينُ الكتابةِ أو معلَّمٌ يعلُم مَنْ رآهُ أنه لا خيرَ فيه وقيلَ هو اسمُ المكانِ والتقديرُ ما كتابُ السجينِ أو محلُّ كتابٍ مرقومٍ وقولُه تعالى
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذّبِينَ
متصلٌ بقولِه تعالى يَوْمَ يَقُومُ الناس لِرَبّ العالمين وما بينهما اعتراض بقوله تعالى
الذين يُكَذّبُونَ بِيَوْمِ الدين
إما مجرورٌ على أنه صفةٌ ذامةٌ للمكذبينَ أو بدلٌ منه أو مرفوعٌ أو منصوبٌ على الذمِّ
وَمَا يُكَذّبُ بِهِ إِلَاّ كُلُّ مُعْتَدٍ
أي متجاوزِ عن حدودِ النَّظرِ والاعتبارِ غالٍ في التقليدِ حتَّى استقصرَ قُدرةَ الله تعالى وعلمَهُ عنِ الإعادةِ مع مشاهدتِه للبدءِ
أَثِيمٍ
أي منهمكٍ في الشهواتِ المخدجةِ الفانيةِ بحيثُ شغلتْهُ عمَّا وراءَها منَ اللذاتِ التامةِ الباقيةِ وحملتْه على إنكارِها
اذا تتلى عليه
83 سورة المطففين (14 18) آياتنا
الناطقةُ بذلكَ
قَالَ
من فرطِ جهلهِ وإعراضِه عن الحق الذي لا محيد عنْهُ
أساطير الأولين
أي هي حكاياتُ الأولينَ قال الكلبيُّ المرادُ بالمُعتدي الأثيمِ هو الوليد بن المغيرة وقيل النضر بن الحرث وقيلَ عامٌّ لكلِّ مَن اتصفَ بالأوصافِ المذكورةِ وقُرِىءَ إذَا يُتلى بتذكيرِ الفعلِ وقُرِىءَ أَإِذَا تُتلى على الاستفهامِ الإنكاريِّ
كَلَاّ
ردعٌ للمعتدي الأثيمِ عن ذلكَ القولِ الباطلِ وتكذيبٌ له فيهِ وقولُه تعالَى
بَلْ رَانَ على قلبوهم مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ
بيانٌ لما أدَّى بهم إلى التفوهِ بتلكَ العظيمةِ أي ليسَ في آياتِنا ما يصحُّ أنْ يقالَ في شأنِها مثلُ هذه المقالاتِ الباطلةِ بلْ رَكِبَ على قلوبِهم وغلبَ عليها ما كانوا يكسبونها من الكفرِ والمعاصِي حتى صارتْ كالصدأِ في المرآةِ فحالَ ذاكَ بينُهم وبينَ معرفةِ الحقِّ كما قال صلى الله عليه وسلم إنَّ العبدَ كلما أذنبَ ذنباً حصلَ في قلبِه نكتة سوداء حتى يسودَّ قلبُه ولذلكَ قالُوا ما قالُوا والرينُ الصدأُ يقالُ رانَ عليهِ الذنبُ وغانَ عليهِ ريناً وغيناً ويُقالُ رانَ فيه النومُ أي رسخَ فيهِ وقُرِىءَ بإدغامِ اللامِ في الراءِ
كَلَاّ
ردعٌ وزجرٌ عن الكسبِ الرائنِ
إِنَّهُمْ عَن رَّبّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ
فَلا يكادونَ يَرَونَهُ بخلافِ المؤمنينَ وقيلَ هو تمثيلٌ لإهانتِهم بإهانةِ من يُحجبُ عن الدخولِ على الملوكِ وعن ابنِ عبَّاسٍ وقَتَادةَ وابنِ أبي مليكةَ محجوبونَ عن رحمتِه وعن ابنِ كيسانَ عن كرامتِه
ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُواْ الجحيم
أي داخلوا النارِ وثمَّ لتراخِي الرتبةِ فإنَّ صلْيَ الجحيمِ أشدُّ من الإهانةِ والحرمانِ من الرحمةِ والكرامةِ
ثُمَّ يُقَالُ
لهُم توبيخاً وتقريعاً من جهةِ الزبانيةِ
هذا الذى كُنتُمْ بِهِ تُكَذّبُونَ
فذوقُوا عذابَهُ
كلا
ردع عما كانوا عليه بعد ردع زجر اثررجر وقوله تعالى
إن كتاب الأبرار لَفِى عِلّيّينَ
استئنافٌ مسوقٌ لبيانِ محلِ كتابِ الأبرارِ بعدَهُ بيانُ سوءِ حالِ الفُجَّارِ مُتصلاً ببيانِ سُوءِ حالِ كتابِهم وفيه تأكيد للردع ووجوب الاتداع وكتابُهم ما كُتبَ من أعمالِهم وعليونَ علمٌ لديوانِ الخيرِ الذي دُوِّنَ فيه كل ما أعملته الملائكةُ وصلحاءُ الثقلينِ منقولٌ من جمعٍ على فعيلٍ من العُلوِّ سُمِّيَ بذلكَ إمَّا لأنَّه سببُ الارتفاعِ إلى أعالِي الدرجاتِ في الجنةِ وإمَّا لأنَّهُ مرفوعٌ في السماءِ السابعةِ حيثُ يسكنُ الكروبيونَ تكريماً له وتعظيماً والكلامُ في قولِه تعالى
83 سورة المطففين (19 26)
وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلّيُّونَ
كتاب مَّرْقُومٌ
كما مرَّ في نظيرِه وقولُه تعالَى
يَشْهَدُهُ المقربون
صفةٌ أُخرى لكتابَ أي يحضرونَهُ ويحفظونَهُ أو يشهدونَ بما فيه يومَ القيامةِ
إِنَّ الأبرار لَفِى نَعِيمٍ
شروعٌ في بيانِ محاسنِ أحوالِهم إثرَ بيانِ حالِ كتابهم على طريقة مامر في شأن الفجَّارِ
على الأرائك
أي على الأسرةِ في الحجالِ ولا يكادُ تطلقُ الأريكةُ على السرير عندهم كونِه في الحَجَلةِ
يُنظَرُونَ
أي الا ما شاؤا مدَّ أعينِهم إليه من رغائب مناظرِ الجنةِ وإلى ما أولاهُم الله تعالى من النعمةِ والكرامةِ وإلى أعدائهم يعذبونَ في النارِ وما تحجبُ الحجالُ أبصارَهُم عن الإدراك
{تَعْرِفُ فِى وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النعيم} أي بهجةَ التنعمِ وماءَهُ ورونَقُه والخطابُ لكلِّ أحدٍ ممن له حظ منَ الخطابِ للإيذانِ بأنَّ مالهم النعيم أي بهجةَ التنعمِ وماءَهُ ورونَقُه والخطابُ لكلِّ أحدٍ ممن له حظ منَ الخطابِ للإيذانِ بأنَّ مالهم من آثارِ النعمةِ وأحكامِ البهجةِ بحيثُ لا يختصُّ برؤيته راءٍ دُونَ راءٍ
{ختامه مِسْكٌ} أي مختومٌ أوانيه وأكوابُه بالمسكِ مكانَ الطينِ ولعلَّه تمثيلٌ لكمالِ نفاستِه وقيل ختامُه مسكٌ أي مقطعُه رائحةُ مسكٍ وقُرِىءَ خَاتَمهُ بفتحِ التاء وكسرِها أي ما يُختم به ويُقطع {وَفِى ذَلِكَ} إشارةٌ إلى الرحيقِ وهو الأنسبُ لما بعدَهُ أو إلى ما ذُكر من أحوالِهم وما فيهِ من مَعْنى البُعدِ إما للإشعارِ بعلوِّ مرتبتِه وبُعد منزلتِه أو لكونِه في الجنةِ أي في ذلكَ خاصَّةً دونَ غيرِه
فَلْيَتَنَافَسِ المتنافسون
أي فليرغبْ الراغبونَ بالمبادرة إلى طاعةِ الله تعالى وقيلَ فليعملِ العاملونَ كقولِه تعالى لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ العاملون وقيل فليستبقِ المستبقونَ وأصلُ التنافسِ التغالبُ في الشيء النفيس النفس وأصلُه من النفس لعزتها قال الواحديُّ نفستُ الشيءَ أنفسُه نفاسةً والتنافسُ تفاعلٌ منه كأنَّ كلَّ واحدٍ من الشخصينِ يريدُ أنْ يستأثرَ به وقال البغويُّ وأصله من الشيء النفس الذي يحرص
9 -
83 سورة المطففين (27 33)
عليه نفوس الناس ويزيده كلُّ أحدٍ لنفسِه وينفسُ به على غيرِه أي يضنّ بهِ
وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ
عطفٌ على ختامُه صفةٌ أخرى لرحيقٍ مثله وما بينَهما اعتراضٌ مقررٌ لنفاستِه أي ما يمزج به على الرحيق من ما تسنيمٍ على أنَّ مِن بيانيةٌ أو تبعيضيةٌ أو من نفِسه على أنَّها ابتدائيةٌ والتسنيمُ علمٌ لعينٍ بعينِها سميتُ به إمَّا لأنَّها أرفعُ شرابٍ في الجنة واما لأنها تأتيم من فوقِ رُويَ أنَّها تجري في الهواء متسئمة فتصب في أوانيهم
عَيْناً
نصبَ على الاختصاصِ وجوازُ أنْ يكونَ حالاً من تسنيمٍ مع كونِه جامدا لاتصافه وقولُه تعالى
يَشْرَبُ بِهَا المقربون
فإنَّهم يشربونها صِرفاً وتمزجُ لسائر أهلِ الجنةِ فالباءُ مزيدةٌ أو بمَعْنى من قولِه تعالَى
إِنَّ الذين أَجْرَمُواْ
الخ حكايةٌ لبعضِ قبائحِ مُشركي قريشٍ جيءَ بها تمهيداً لذكرِ بعضِ أحوالِ الأبرارِ في الجنةِ
كَانُواْ
في الدنيا
من الذينَ آمنوا يضحكونَ
أي يستهزئونَ بفقرائهم كعمارٍ وصهيبٍ وخبَّابٍ وبلالٍ وغيرِهم من فقراءِ المؤمنينَ وتقديمُ الجارِّ والمجرورِ إمَّا للقصرِ إشعاراً بغايةِ شناعةِ ما فعلُوا أي كانُوا من الذينَ آمنوا يضحكونَ مع ظهور عدمِ استحقاقِهم لذلكَ على منهاج قوله تعالى أَفِى الله شَكٌّ أو لمراعاةِ الفواصلِ
وَإِذَا مَرُّواْ
أي فقراءُ المؤمنين
بِهِمُ
أي بالمشركينَ وهم في أنديتِهم وهو الأظهر وان جازَ العكسُ أيضاً
يَتَغَامَزُونَ
أي يغمزُ بعضهم بعضاً ويشيرونَ بأعينِهم
وَإِذَا انقلبوا
من مجالسهِم
إلى أَهْلِهِمْ انقلبوا فَكِهِينَ
ملتذينَ بذكرِهم بالسوءِ والسخريةِ منهم وفيه إشارةٌ إلى أنَّهم كانُوا لا يفعلونَ ذلكَ بمرأى من المارينَ بهم ويكتفونَ حينئذٍ بالتغامزِ وقُرِىءَ فاكهينَ قيلَ هُمَا بمَعْنَى وقيلَ فكهينَ أشرينَ وقيلَ فرحينَ وفاكهينَ متفكهينَ وقيلَ ناعمينَ وقيلَ مازحينَ
وَإِذَا رَأَوْهُمْ
أينما كانُوا
قالوا إن هؤلاء لضالون
أي نسبُوا المسلمينَ ممن رأوهم ومن غيرهم إلى الضلال بطريق التأكيد
وَمَا أُرْسِلُواْ عَلَيْهِمْ
على المسلمينَ
حافظين
حالٌ من واو
سورة المطففين (34 36)
قالوا أي قالو ذلك والحال أنهم ما أرسلوا من جهة الله تعالى موكلينَ بهم يحفظونَ عليهم أحوالَهم ويهيمنونَ على أعمالِهم ويشهدونَ برشدِهم وضلالِهم وهذا تهكمٌ بهم وإشعارٌ بأنَّ ما اجترؤا عليه من القولِ من وظائفِ من أرسلَ من جهته تعالى ووقد جُوِّزَ أن يكونَ ذلك من جملةِ قولِ المجرمينَ كأنَّهم قالُوا إنَّ هؤلاءِ لضالونَ وما أُرسلوا علينا حافظينَ إنكاراً لصدِّهم عن الشركِ ودعائِهم إلى الإسلامِ وإنما قيلَ عليهم نقلاً له بالمعنى كما في قولك حلفَ ليفعلنَّ لا بالعبارةِ كما في قولِك حلف لأفعلنَّ
فاليوم الذين آمنوا
أي المعهودون من الفقراءِ
مّنَ الكفار
أي من المعهودينَ وهو الأظهر وان أمكن التنعيم من الجانبينِ
يَضْحَكُونَ
حين يرونهم أذلاء مغلولينَ قد غِشيهم فنونُ الهوانِ والصَّغارِ بعد العزةِ والكبرِ ورهقهم ألوانُ العذابِ بعد التنعمِ والترفهِ وتقديمُ الجارِّ والمجرورِ للقصرِ تحقيقاً للمقابلةِ أي فاليومَ هم من الكفارِ يضحكونَ لا الكفارُ منهم كما كانُوا يفعلونَ في الدُّنيا وقولُه تعالى
عَلَى الأرائك يَنظُرُونَ
حالٌ من فاعلِ يضحكونَ أي يضحكون منهم ناظرين اليه وإلى ما هُم فيه من سوءِ الحالِ وقيلَ يفتح للكفارِ بابٌ إلى الجنةِ فيقالُ لهم اخرجُوا اليها فاذا وصولا إليها أُغلقَ دُونهم يفعلُ بهم ذلكَ مراراً ويضحكُ المؤمنونَ مِنْهُمْ ويأباهُ قولُه تعالى
هَلْ ثُوّبَ الكفار مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ
فإنه صريحٌ في أنَّ ضحكَ المؤمنين منهم جزاءٌ لضحكِهم منهم في الدُّنيا فلا بدَّ من المجانسةِ والمشاكلةِ حتماً والتثويبُ والإثابةُ المجازاةُ وقُرِىءَ بإدغامِ اللامِ في الثاءِ وعنه صلى الله عليه وسلم منْ قرأَ سورةَ المطففينَ سقاهُ الله تعالى يومَ القيامةِ من الرحيقِ المختومِ
84 سورة الانشقاق (1 5)
سورة الانشقاق مكية وآيها خمس وعشرون
بسم الله الرحمن الرحيم
إِذَا السماء انشقت
أي بالغمامِ كما في قولِه تعالى ويوم تشقق السماء بالغمام وعَنْ عليَ رضي الله عنه تنشقُ من المجرةِ
وأذنب لِرَبّهَا
أي واستمعتْ أي انقادات وأذعنتْ لتأثيرِ قُدرتِهِ تعالى حين تعلقتْ إرادتهُ بانشقاقِها انقيادَ المأمورِ المطواعِ إذا وردَ عليه أمرُ الآمرِ المُطاعِ والتعرضُ لعنوانِ الربوبيةِ مع الإضافة إليها للإشعارِ بعلةِ الحُكْمِ وهذه الجملةُ ونَظيرتُها الآتيةُ بمنزلة قولِه تعالى أَتَيْنَا طَائِعِينَ في الإنباء عن كونِ ما نُسبَ إلى السماءِ والأرضِ من الانشقاق المد وغيرِهما جارياً على مُقتضى الحكمةِ كما أُشيرَ إليهِ فيما سلفَ
وَحُقَّتْ
أي جُعلت حقيقةً بالاستماع والانقيادِ لكنْ لا بعدَ أنْ لم تكن كذلك بل في نفسها وحدذاتها من قولهم هو محقوقٌ بكَذا وحقيقٌ به والمَعْنى انقادتْ لربِّها وهيَ حقيقةٌ بذلكَ لكنْ لا على أنَّ المرادَ خصوصيةُ ذاتها من بين سائرِ المقدوراتِ بل خصوصية القدرة القاهرةِ الربانيةِ التي يتأتى لها كلُّ مقدورٍ ولا يتخلفُ عنها أمرٌ من الأمورِ فحقُّ الجملةِ أن تكونَ اعتراضاً مقرراً لما قبلَها لا معطوفةً عليهِ
وَإِذَا الأرض مُدَّتْ
أي بُسطتْ بإزالة جبالِها وآكامِها من مقارِّها وتسويتِها بحيثُ صارتُ قاعاً صفصفاً لا ترى فِيهَا عِوَجاً وَلا أَمْتاً أو زيدتْ سعَةً وبسطةً منْ مدَّهُ بمعنى أمدَّه أي زادَهُ
وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا
أي رمتْ ما في جوفِها من الموتَى والكنوزِ كقولِه تعالى وَأَخْرَجَتِ الارض أَثْقَالَهَا
وخلتْ عمَّا فيها غايةَ الخلوِّ حتَّى لم يبقَ فيها شيءٌ منه كأنَّها تكلفتْ في ذلكَ أقصَى جُهدِها
وَأَذِنَتْ لِرَبّهَا
في الإلقاءِ والتخلِّي
وَحُقَّتْ
أيْ وهيَ حقيقةٌ بذلكَ أي شأنُها ذلكَ بالنسبةِ إلى القدرةِ
84 سورة الانشقاق (6 13)
الربانيةِ وتكريرُ كلمةِ إذا ما اتحادِ الأفعالِ المنسوبةِ إلى السماءِ والأرضِ وقُوعاً في الوقتِ الممتدِّ الذي هُو مدلولُها قد مرَّ سِرُّه فيمَا مَرَّ
يأَيُّهَا الإنسان إِنَّكَ كَادِحٌ إلى رَبّكَ كَدْحاً
أي جاهدٌ ومجدٌّ إلى الموت وما بعدَهُ من الأحوالِ التي مُثِّلتْ باللقاءِ مبالغٌ في ذلكَ فإنَّ الكدحَ جهدُ النفسِ في العملِ والكدُّ فيهِ بحيثُ يؤثرُ فيها من كدح جله إذا خدَشَةُ
فملاقيه
أي فملاقٍ لهُ عقيبَ ذلكَ لا محالة من غير صارف يلويك عنه قوله تعالى
فَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كتابه بِيَمِينِهِ
فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً
الخ قيلَ جوابُ إذا كما في قوله تعالى فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم منى هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ وقولُه تعالى يأيها الإنسان الخ اعتراضٌ وقيلَ هو محذوفٌ للتهويل والإيماءِ إلى قصورِ العبارةِ عن بيانِه أوْ للتعويلِ على مامر في سورةِ التكويرِ والانفطارِ عليهِ وقيلَ هو ما دل عليه قوله تعالى يأيها الانسان الخ تقديره لا قي الإنسانُ كَدحَهُ وقيلَ هو قولهُ تعالى فملاقيهِ وما قبله اعتراضٌ وقيلَ هو يأيها الإنسانُ الخ بإضمارِ القولِ يسير سهلاً لا مناقشةَ فيه ولا اعتراضَ وعن الصديقةِ رضي الله عنها هُو أن يُعرّفَ ذنوبَهُ ثم يُتجاوزَ عَنْهُ
وَيَنقَلِبُ إلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً
أي عشيرتِه المؤمنينَ أو فريقَ المؤمنينَ مُبتهجاً بحالِه قائلا هاؤم اقرؤا كتابيه وقيلَ إلى أهلهِ في الجنةِ من الحورِ والغلمانِ
وَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كتابه وَرَاء ظَهْرِهِ
أي يُؤتاهُ بشمالِه من وراءِ ظهرِه قيلَ تُغلُّ يمناهُ إلى عنقِه ويجعلُ شمالُه وراءَ ظهرِه فيؤتى كتابَهُ بشمالِه وقيلَ تخلعُ يدُه اليُسْرَى من وراءِ ظهرِه
فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُوراً
أي يتمنَّى الثبورَ وهو الهلاكُ ويدعوه يا ثبوراه تعالى فإنه أوانُكَ وأنَّى له ذلكَ
ويصلى سَعِيراً
أي يدخلُها وقُرِىءَ يُصلّى كقوله تعالى وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ وقرىءَ ويصلى كما في قوله تعالى ونصليه جهنم
إِنَّهُ كَانَ فِى أَهْلِهِ
فيما بينَ أهلِه وعشيرتِه في الدنيا
مسرورا
84 سورة الانشقاق (14 20)
مترفاً بَطِراً مستبشراً كديدنِ الفجارِ الذينَ لا يهمهم ولا يخطر ببالهم أمورُ الآخرةِ ولا يتفكرونَ في العواقبِ ولم يكُنْ حَزيناً متفكراً في حالهِ ومآلهِ كسنةِ الصلحاءِ والمتقينَ والجملةُ استئنافٌ لبيانِ علةِ ما قَبلها وقولُه تعالى
إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ
تعليلٌ لسرورِه في الدنيا أي ظن أنْ لَنْ يرجِعُ إلى الله تعالى تكذبيا للمعادِ وإنْ مخففةٌ مِنْ أنَّ سادّةٌ معَ ما في حيزِها مسدَّ مفعولَيْ الظنِّ أو أحدَهُما عَلى الخِلافِ المعروفِ
بلى
إيجابٌ لما بعدَ لَنْ وقولُه تعالى
إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيراً
تحقيقٌ وتعليلٌ لهُ أيْ بَلَى ليحورَنَّ البتةَ إنَّ ربَّهُ الذي خلقَهُ كانَ به وبأعمالِه الموجبةِ للجزاءِ بصيراً بحيثُ لا يَخْفى منها خافيةٌ فلا بُدَّ منْ رجعهِ وحسابِه وجزائِه عليها حَتماً وقيلَ نزلتْ الآيتانِ في أبي سَلَمةَ بنِ عبْدِ الأشد وأخيه الأسودِ
فَلَا أُقْسِمُ بالشفق
هي الحمرةُ التي تُشاهدُ في أفقِ المغربِ بعد الغروبِ أو البياضُ الذي يليها سُميَ بهِ لرقتِه ومنْهُ الشفقةُ التي هي عبارةٌ عن رقة القلب
والليل وَمَا وَسَقَ
وما جمعَ وضمَّ يقالُ وسقَهُ فاتَّسقَ واستوسقَ أي جمعهُ فاجتمعَ وما عبارةٌ عمَّا يجتمعُ بالليلِ ويأوِي إلى مكانهِ من الدوابِّ وغيرِها
والقمر إِذَا اتسق
أي اجتمعَ وتمَّ بدراً ليلة اربع عشر
لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَن طَبقٍ
أي لتُلاقُنَّ حالاً بعدَ حالٍ كُلُّ واحدةٍ منهَا مطابقةٌ لأختها في الشدةِ والفظاعةِ وقيلَ الطبقُ جمع طبقةٍ وهي المرتبةُ وهو اأوفق للركوبِ المنبىءُ عن الاعتلاءِ والمَعْنَى لتركَبُنَّ أحوالاً بعدَ أحوالٍ هي طبقاتٌ في الشدةِ بعضُها أرفعُ من بعضٍ وهي الموتُ وما بعدَه من مواطنِ القيامةِ ودواهيها وقُرِىءَ لتَرْكَبَنَّ بالإفرادِ على خطابِ الإنسانِ باعتبارِ اللفظِ لا باعتبارِ شمولهِ لأفرادِه كالقراءةِ الأولى وقُرِىءَ بكسر الباء على خطابِ النفسِ وليَرْكَبَنَّ بالياءِ أي ليركَبَنَّ الإنسانُ ومحلُّ عن طبقٍ النصبِ على أنَّه صفةٌ لطبقاً أي طبقاً مجاوزاً لطبقٍ أو حال من الضمير في لتركبنَّ طبقاً مجاوزينَ أو مجاورا أو مجاوزةً على حسبِ القراءةِ والفاءُ في قولِه تعالى
فما لهم لايؤمنون
لترتيب ما بعَدَها منَ الإنكار والتعجيبِ على ما قبلها من أحوالِ القيامةِ وأهوالِها الموجبة
84 سورة الانشقاق (21 25)
للإيمانِ والسجودِ أيْ إذا كانَ حالُهم يومَ القيامةِ كما ذُكِرَ فأيُّ شيءٍ لهم حالَ كونِهم غيرَ مؤمنينَ أي أيُّ شيءٍ يمنعُهم من الإيمانِ معَ تعاضدِ موجباتِه وقولُه تعالى
واذا قرىء عليهم القرآن لَا يَسْجُدُونَ
جملةٌ شرطيةٌ محلُّها النصبُ عَلى الحاليةِ نسقاً على ما قَبلَها أيْ فأيُّ مانعٍ لهم حالُ عدمِ سجودِهم وخضوعِهم واستكانتهم عندَ قراءةِ القُرآنِ وقيلَ قرأ النبيُّ عليه الصلاة والسلام ذاتَ يومٍ واسجدْ واقتربْ فسجدَ هُو ومَنْ مَعَهُ من المؤمنينَ وقريش تصفق فوق رؤسهم وتصفرْ فنزلتْ وبه احتجَّ أبو حنيفة رحمه الله تعالَى عَلى وجوبِ السجدةِ وعن ابن عباس رضي الله عنهما ليسَ في المفصلِ سجدةٌ وعن أبي هريرةَ رضي الله عنه أنَّه سجَدَ فيها وقالَ والله ما سجدتُ إلا بعدَ أن رأيتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم يسجدُ فيها وعن أنسٌ رضي الله عنه صليتُ خلفَ أبي بكرٍ وعمرَ وعثمانَ رضي الله عنهم فسجدُوا وعن الحسنِ هي غيرُ واجبةٍ
بَلِ الذين كَفَرُواْ يُكَذّبُونَ
بالقُرآنِ النَّاطقِ بما ذُكر من أحوال القيامة وأهوال مع تحققِ موجباتِ تصديقهِ ولذلكَ لا يخضعونَ عندَ تلاوتِه
والله أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ
بما يضمرونَ في قلوبِهم ويجمعونَ في صدورِهم من الكفرِ والحسدِ والبغي والبغضاءِ أو بما يجمعونَ في صحفهم من أعمال السواء ويدخرون لأنفسهم من أنواع العذابِ علماً فعلياً
فَبَشّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ
لأنَّ علمَهُ تعالَى بذلكَ على الوجه المذكورِ موجبٌ لتعذيبهم حتما
الا الذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ
استثناءٌ منقطعٌ إنْ جُعل الموصولُ عبارةً عن المؤمنينَ كافَّة ومتصلٌ إنْ أريدَ به منْ امنَ منهمُ بعدَ ذلكَ وقولُه تعالى
لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ
أي غيرُ مقطوعٍ أو ممنونٍ به عليم استئنافٌ مقررٌ لما أفادَهُ الاستثناءُ من انتفاءِ العذابِ عنهم ومبينٌ لكيفيتهِ ومقارنتِه للثوابِ العظيمِ عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم مَنْ قرأَ سورةَ الانشقاق أعاذَهُ الله تعالَى أنْ يعطيَهُ كتابَهُ وراءَ ظهرِه