المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

سورة التين مكية وقيل مدنية وآيها ثمان بسم الله الرحمن الرحيم - تفسير أبي السعود = إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم - جـ ٩

[أبو السعود]

الفصل: سورة التين مكية وقيل مدنية وآيها ثمان بسم الله الرحمن الرحيم

سورة التين مكية وقيل مدنية وآيها ثمان

بسم الله الرحمن الرحيم

ص: 174

{و‌

‌التين

والزيتون} هما هذا التين وهذا الزيتون خصهماالله سبحانَهُ من بينِ الثمارِ بالإقسامِ بهما لاختصاصِهما بخواصَّ جليلةٍ فإنَّ التينَ فاكهةٌ طيبةٌ لا فُضلَ لهُ غذاء لطيفٌ سريعُ الهضمِ ودواءٌ كثيرُ النفعِ يلينُ الطبعَ ويحللُ البلغمَ ويطهرُ الكليتينِ ويزيلُ ما في المثانةِ من الرملِ ويسمن البدنَ ويفتحُ سددَ الكبدِ والطِّحالِ ورَوَى أبو ذرَ رضي الله عنه أنَّه أهدَى للنبي صلى الله عليه وسلم سلٌّ من تينٍ فأكلَ منْهُ وقالَ لأصحابِه كُلوا فلَو قلتُ إن فاكهةً نزلتْ من الجنةِ لقلتُ هذا لأنَّ فاكهةَ الجنَّةِ بلا عجمَ فكلُوهَا فإنَّها تقطعُ البواسيرَ وتنفعُ منَ النِقرسِ وعَنْ عليِّ بنِ مُوسى الرِّضَا التينُ يزيلُ نكهةَ الفمِ ويطولُ الشعرَ وهُوَ أمانٌ منَ الفالجِ وأما الزيتونُ فهو فاكهةٌ وإدامٌ ودواءٌ ولو لم يكنْ له سِوى اختصاصِه بدهنِ كثيرِ المنافعِ معَ حصولِه في بقاعٍ لا دهنيةَ فيهَا لكَفى به فضلاً وشجرتُه هيَ الشجرةُ المباركةُ المشهودُ لهَا في التنزيلِ ومرَّ معاذُ بنُ جبلٍ رضي الله عنه بشجرةِ الزيتونِ فأخذَ منهَا قضيا واستاكَ بهِ وقالَ سمعتُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم يقولُ نعمَ السواكُ الزيتونُ من الشجرةِ المباركةِ يطيبُ الفمَ ويذهبُ بالحفرةِ وسمعتُه يقولُ هوَ سواكِي وسواكُ الأنبياءِ قبلِي وقيلَ هما جبلانِ من الأرضِ المقدسةِ يقال لهما بالسريانية طور تينا وطور زيتا لأنهمَا منبِتا التينِ والزيتونِ وقيل التين جبل ما بينَ حلوانَ وهمدانَ والزيتونُ جبالُ الشامِ لأنهمَا منابتَهما كأنه قيلَ ومنابتِ التينِ والزيتونِ وَقالَ قَتَادةُ التينُ الجبلُ الذي عليهِ دمشقُ والزيتونُ الجبلُ الذي عليهِ بيتُ المقدسِ وقال عكرمةُ وَابنُ زيدِ التينُ دمشقُ والزيتونُ بيتُ المقدسِ وهو اختيارالطبري وقالَ محمدُ بنُ كعبٍ التينُ مسجدُ أصحابِ الكهفِ والزيتونُ مسجدُ إِيْليَا وعن ابن عباس رضي الله عنهماالتين مسجدُ نوحٍ عليه السلام الذي بناهُ على الجُودِيِّ والزيتونُ مسجدُ بيتِ المقدسِ وقالَ الضحَّاكُ التينُ المسجدُ الحرامُ والزيتونُ المسجدُ الأَقْصى والصحيحُ هُوَ الأولُ قالَ ابن عباس رضي الله عنهما هو تينُكُم الذي تأكلونَ وزيتونُكم الذي تعصِرونَ منْهُ الزيتَ وبه قالَ مجاهدٌ وعكرمةُ وإبراهيمُ النخعيُّ وعطاءٌ وجابرٌ وزيدٌ ومقاتلٌ والكلبيُّ

ص: 174

{وَطُورِ سِينِينَ}

ص: 174

هو الجبلُ الذي ناجَى عليهِ موسى ربَّهُ وسينينَ وسيناءُ علمانِ للموضعِ الذي هُوَ فيهِ ولذلكَ أضيفَ إليهمَا وسينونَ كبيرونَ في جوازِ الإعرابِ بالواوِ والياءِ والإقرارِ على الياءِ وتحريكِ النونِ بالحركاتِ الإعرابيةِ

ص: 175

{وهذا البلد الأمين} أيْ الآمنِ من أمنَ الرجلُ أمانةً فهُو أمينٌ وهُوَ مكةَ شرَّفها الله تعَالَى وأمانتُها أنَّها تحفظُ من دخلَها كما يحفظُ الأمينُ ما يؤتمنُ عليهِ ويجوزُ أنْ يكونَ فعيلاً بمَعْنى مفعولٍ من أمنَهُ لأنَّه مأمونُ الغَوَائلِ كما وصفَ بالآمنِ في قولِه تعالَى {حَرَماً آمنا} بمَعْنى ذِي أمنٍ ووجْهُ الإقسامِ بهاتيكَ البقاع المباركةِ المشحونةِ ببركاتِ الدُّنيا والدِّينِ غنيٌّ عن الشَّرحِ والتبيينِ

ص: 175

{لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان} أيْ جنسُ الإنسانِ {فِى أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} أيْ كائناً في أحسنُ ما يكونُ من التقويمِ والتعديلِ صورةً ومَعْنى حيثُ برأه الله تعالَى مستويَ القامةِ متناسبَ الأعضاءِ متصفاً بالحياةِ والعلمِ والقدرةِ والإرادةِ والتكلمِ والسمعِ والبصرِ وغيرِ ذلكَ منَ الصفاتِ التي هيَ مِنْ أنموذجاتٍ منَ الصفاتِ السبحانيةِ وآثارٌ لهَا وقدْ عبرَ بعضُ العلماءِ عنْ ذلكَ بقولِه خلقَ آدمَ علَى صورتِه وفي روايةٍ على صورةِ الرحمن وبَنَى عليهِ تحقيقَ مَعْنى قولِه مَنْ عرفَ نفسَهُ فقدْ عرفَ رَبَّه وقالَ إنَّ النفسَ الإنسانيةَ مجردةٌ ليستْ حالّةً في البدنِ ولا خارجةً عنْهُ متعلقةً بهِ تعلقَ التدبيرِ والتصرفِ تستعملُه كيفمَا شاءتْ فإذَا أرادتْ فعلاً من الأفاعيلِ الجُسمانيةِ تلقيهِ إلى مَا في القلبِ منَ الروحِ الحيوانيِّ الذي هُوَ أعدلُ الأرواحِ وأصفاهَا وأقربُها منْهَا وأقواهَا مناسبةً إلى عالمِ المجرداتِ إلقاءً روحانياً وهو يلقيهِ بواسطةِ ما في الشرايينِ منَ الأرواحِ إلى الدماغِ الذي هُو منبتُ الأعصابِ التي فيهَا القُوَى المحركةُ للإنسانِ فعندَ ذلكَ يحركُ منَ الأعضاءِ ما يليقُ بذلكَ الفعلِ من مباديهِ البعيدةِ والقريبةِ فيصدرُ عنْهُ ذلكَ بهذه الطريقةِ فمَنْ عرفَ نفسَهُ على هذه الكيفيةِ من صفاتِها وأفعالِها تسنَّى لهُ أن يترقى إلى معرفةِ ربِّ العزةِ عَزَّ سلطانُهُ ويطلعُ على أنَّه سبحانَهُ منزهٌ عنْ كونِه داخلاً في العالمِ أو خارجاً عنْهُ يفعلُ فيهِ ما يشاء ويحكُم ما يريدُ بواسطةِ ما رتبَهُ فيهِ منَ الملائكةِ الذينَ يستدلُّ على شؤونِهم بما ذكرَ من الأرواحِ والقُوى المرتبةِ في العالمِ الإنسانيِّ الذي هُوَ نسخةٌ للعالمِ الأكبر وأنموذح مِنْهُ وقوله تعالى

ص: 175

{ثُمَّ رددناه أَسْفَلَ سافلين} أيْ جعلنَاهُ من أهلِ النَّارِ الذينَ هُم أقبحُ من كُلِّ قبيحٍ وأسفلُ من كُلِّ سافلٍ لعدمِ جريانِه على موجبِ ما خلقناهُ عليهِ منَ الصفاتِ التي لو عملَ بمقتضاهَا لكانَ في أعْلَى عليينَ وقيلَ رددناهُ إلى أَرْذَلِ العمرِ وهُو الهرمُ بعدَ الشبابِ والضعفُ بعدَ القوةِ كقولِه تعالَى {وَمَن نّعَمّرْهُ نُنَكّسْهُ فِى الخلق} وأياً ما كانَ فأسفلُ سافلينَ إمَّا حالٌ منَ المفعولِ أيْ رددناهُ حالَ كونِه أسفلَ سافلينَ أو صفةٌ لمكانٍ محذوفٍ أيْ رددناهُ مكاناً أسفلَ سافلينَ والأولُ أظهر وقرىء

ص: 175

95 سورة التين آية (6 8) أسفلَ السافلينَ وقولُه تعالَى

ص: 176

{إلا الذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} على الأولِ استثناءٌ متصلٌ منْ ضميرِ رددناه فإنَّه فِي معْنَى الجمعِ وعلى الثاني منقطعٌ أيْ لكنْ الذينَ كانُوا صالحينَ منْ الهَرْمَى {فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} غيرُ منقطعٍ عَلى طاعتِهم وصبرِهم على بلاء الله تعالَى بالشيخوخةِ والهرمِ وعَلى مقاساةِ المشاقِّ والقيامِ بالعبادةِ على تخاذلِ نهوضِهم أو غيرِ ممنونٍ بهِ عليهمْ وهذِه الجملةُ على الأولِ مقررةٌ لمَا يفيدهُ الاستثناءُ منْ خروجِ المؤمنين عن حكم الرد ومبينة لكيفيةِ حالِهم والخطابُ في قولِه تعالَى

ص: 176

{فَمَا يُكَذّبُكَ بَعْدُ بالدين} للرسول صلى الله عليه وسلم أيْ فأيُّ شيءٍ يكذبكَ دلالةً أو نطقاً بالجزاءِ بعدَ ظهورِ هذهِ الدلائلِ الناطقةِ بهِ وقيلَ ما بمعنَى مَنْ وقيلَ الخطابُ للإنسانِ على طريقِ الالتفاتِ لتشديدِ التوبيخِ والتبكيتِ أيْ فَما يجعلكَ كاذباً بسببِ الدينِ وأنكارِه بعدَ هذهِ الدلائلِ والمَعنى أنَّ خلقَ الإنسانِ منْ نطفةٍ وتقويمَهُ بشراً سوياً وتحويلِه منْ حالٍ إلى حالٍ كمالاً ونُقصاناً من أوضحِ الدلائلِ على قُدرةِ الله عز وجل على البعثِ والجزاءِ فأيُّ شيءٍ يضطركَ بعدَ هَذَا الدليلِ القاطعِ إلى أنْ تكونَ كاذباً بسببِ تكذيبهِ أيُّها الإنسانُ

ص: 176

{أَلَيْسَ الله بِأَحْكَمِ الحاكمين} أي أليسَ الذي فعلَ ما ذُكرَ بأحكمِ الحاكمينَ صنعاً وتدبيراً حتَّى يتوهَم عدمُ الإعادةِ والجزاءِ وحيثُ استحالَ عدمُ كونهِ أحكَمَ الحاكمينَ تعينَ الإعادةُ والجزاءُ فالجملةُ تقريرٌ لما قبلَها وقيلَ الحكمُ بمعْنَى القضاءِ فهي وعيدٌ للكفارِ وأنَّه يحكمُ عليهم بما يستحقونَهُ منَ العذابِ

عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه كانَ إذَا قَرأها يقولُ بَلَى وأنَا عَلى ذلكَ منَ الشاهدينَ وعنْهُ صلى الله عليه وسلم من قرأ سورة التين أعطاهُ الله تعالى الخصلتينِ العافيةَ واليقينَ ما دامَ في دار الدُّنيا وإذا ماتَ أعطاهُ الله تعالى من الأجر بعدد من قرأ هذه السورة

ص: 176

سورة العلق سورة العلق مكية وأيها تسع عشرة

بسم الله الرحمن الرحيم

ص: 177

{اقرأ} أيْ مَا يوحَى إليكَ فإنَّ الأمرَ بالقراءةِ يقتَضي المقروءَ قطعاً وحيثُ لَمْ يُعينَ وجبَ أنْ يكونَ ذلكَ ما يتصلُ بالأمرِ حتماً سواءً كانتِ السورةُ أولَ ما نزلَ أولا والأقربُ أنَّ هَذا إلى قولِه تعالى {مَا لَمْ يَعْلَمْ} أولُ ما نزلَ عليه عليه الصلاة والسلام كما ينطقُ بهِ حديثُ الزهر المشهورُ وقولِه تعالى {باسم رَبّكَ} متعلقٌ بمضمرٍ هُو حالٌ من ضميرالفاعل أي اقرأْ ملتبساً باسمهِ تعالى أيْ مُبتدئاً بِه لتتحقق مقارنته لجميع أجزاءِ المقروءِ والتعرّضُ لعنوانِ الربوبيةِ المُنْبئة عن التَّربيةِ والتبليغِ إلى الكمالِ اللائقِ شيْئاً فشيئا مع الإضافة إلى ضميرِه عليه السلام للإشعارِ بتبليغِه عليه السلام إلى الغايةِ القاصيةِ منَ الكمالاتِ البشريةِ بإنزالِ الوَحي المتواتِرِ ووصفُ الربَّ بقولِه تعالَى {الذى خَلَقَ} لتذكيرِ أولِ النعماءِ الفائضةِ عليهِ عليه الصلاة والسلام منه تعالى والتنبيهِ على أنَّ منْ قدرَ عَلى خلقِ الإنسانِ على ما هو عليه من الحياةَ وما يتبعُها منَ الكمالاتِ العلميةِ والعمليةِ منْ مادةٍ لم تشمَّ رائحةَ الحياةِ فضلاً عن سائرِ الكمالاتِ قادرٌ على تعليمِ القراءةِ للحيِّ العالمِ المتكلمِ أي الذي أنشأَ الخلقَ واستأثرَ بِه أوْ خلَقَ كُلّ شَىْء وقولُه تعالى

ص: 177

{خَلَقَ الإنسان} عَلى الأولِ تخصيص لخلق اإلإنسان بالذكر من بين سائر المخلوقاتِ لاستقلالِه ببدائعِ الصنعِ والتدبيرِ وَعَلى الثاني إفرادٌ للإنسانِ منْ بينِ سائرِ المخلوقاتِ بالبيانِ وتفخيمٌ لشأنِه إذْ هُو أشرفُهم وإليهِ التنزيلُ وهُو المأمورُ بالقراءةِ ويجوزُ أنْ يرادَ بالفعلِ الأولِ أيضاً خلقُ الإنسانِ ويقصدُ بتجريدِه عن المفعولِ الإبهامِ ثمَّ التفسيرِ رَوْماً لتفخيمِ فطرتِه وقولُه تعالى {مِنْ عَلَقٍ} أيْ دمٍ جامدٍ لبيانِ كمالِ قُدرتِه تعالى بإظهارِ مَا بينَ حالتِه الأولى والآخرةِ من التباينِ البينِ وإيرادُه بلفظِ الجمعِ بناءً على أنَّ الإنسانَ في مَعْنى الجمعِ لمراعاةِ الفواصلِ ولعلَّه هو السرُّ في تخصيصِه بالذكرِ منْ بينِ سائرِ أطوارِ الفطرة الإنسانيةِ معَ كونِ النطفةِ والترابِ أدلَّ منْهُ عَلَى كمالِ القُدرةِ لكونِهما أبعدَ منْهُ بالنسبةِ إلى الإنسانيةِ ولَمَّا كانَ خلقُ الإنسان أول النعمُ الفائضةِ عليه عليه الصلاة والسلام منه تعالى

ص: 177

96 سورة العلق آية (3 7) وأقدم الدلائلِ الدالةِ على وجودِه عز وجل وكمالِ قُدرتِه وعلمِه وحكمتِه وصفَ ذاتَه تَعالى بذلكَ أولاً ليستشهدَ عليه السلام بهِ على تمكينهِ تعالى لَه منَ القراءةِ ثم كررَ الأمرَ بقولِه تعالى

ص: 178

{اقرأ} أي افعلْ ما أُمرت بِه تأكيداً للإيجابِ وتمهيداً لما يعقُبه منْ قولِه تعالى {وَرَبُّكَ الاكرم} الخ فأنَّه كلامٌ مستأنفٌ واردٌ لإزاحةِ ما بينَهُ عليه السلام منَ العُذرِ بقولِه عليه السلام مَا أنَا بقارىءٍ يريدُ أنَّ القراءةَ شأنُ منْ يكتبُ ويقرأُ وأنَا أُميٌّ فقيلَ لَهُ وربُّكَ الذي أمركَ بالقراءةِ مبتدئاً باسمِه هو الأكرمُ

ص: 178

{الذى عَلَّمَ بالقلم} أي علمَ ما علمَ بواسطةِ القلم لا غيره فكما علَّم القارىءَ بواسطةِ الكتابةِ والقلمِ يعلمكَ بدونِهما وقولُه تعالَى

ص: 178

{عَلَّمَ الإنسان مَا لَمْ يَعْلَمْ} بدلُ اشتمالٍ منْ عَلَّمَ بالقلمِ أي علَّمه بهِ وبدونِه منَ الأمورِ الكليةِ والجزئيةِ والجليةِ والخفيةِ مالم يخطرُ ببالِه وفي حذفِ المفعولِ أولاً وإيرادِه بعنوانِ عدمِ المعلوميةِ ثانياً من الدلالةِ عَلى كمالِ قُدرتِه تعالى وكمالِ كَرَمِه والإشعارِ بأنَّه تعالى يعلمُه من العلوم ما لا تحيطُ بِه العقولُ ما لا يخفى

ص: 178

{كَلَاّ} ردعٌ لمن كفرَ بنعمةِ الله تعالى بطغيانِه وإن لم يسبقْ ذكرُهُ للمبالغةِ في الزجرِ وقولُه تعالَى {إِنَّ الإنسان ليطغى} أيْ ليجاوزُ الحدَّ ويستكبرُ عَلى ربِّه بيانٌ للمردوعِ والمردوعِ عَنْهُ قيلَ هَذَا إلى آخرِ السورةِ نزلَ في أبي جهلٍ بعدَ الزمان وهو الظاهرُ وقولُه تعالَى

ص: 178

{أن رآه استغنى} مفعولٌ لَهُ أي يطغى لأنْ رَأى نفسَهُ مستغنياً عَلى أنَّ استغنى مفعولٌ ثانٍ لرأى لأنه بمَعْنى علمَ ولذلكَ ساغَ كونُ فاعلِه ومفعولِه ضميريْ واحدٍ كَمَا في علمتني وإن جَوَّزَهُ بعضُهم فِي الرؤيةِ البصريةِ أيضاً وجعلَ من ذلك قول عائشةَ رضي الله عنها لقد رأيتُنا معَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وما لَنا طعامٌ إلَاّ الأسودانِ وتعليلُ طُغيانِه برؤيتهِ لا بنفسِ الاستغناءِ كمَا ينبىء عنه قوله تعالى {وَلَوْ بَسَطَ الله الرزق لِعِبَادِهِ لَبَغَوْاْ فِى الارض} للإيذانِ بأنَّ مَدَارَ طُغيانهِ زعمه الفاسد

رُوِيَ أنَّ أَبا جهلٍ قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم أتزعمُ أنَّ منِ استغنى طغَى فاجعلُ لنَا جبالَ مكةَ فضةً وذهباً لعلنَا نأخذُ منْهَا فنطغَى فندعَ ديننَا ونتبعَ دينكَ فنزلَ عليهِ جبريلُ عليه السلام فقالَ إن شئْتَ فعلنَا ذلكَ ثُمَّ إنْ لَمْ يُؤمنوا فعلْنا بهمْ مَا فعلنَا بأصحابِ المائدةِ فكفَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الدُّعاءِ إبقاءً عليهمْ وقوله تعالى

ص: 178

96 سورة العلق آية (8 14)

ص: 179

{إِنَّ إلى رَبّكَ الرجعى} تهديدٌ للطاغي وتحذيرٌ لَهُ من عاقبةِ الطغيانِ والالتفاتُ للتشديدِ في التهديدِ والرُّجعى مصدرٌ بمعنَى الرُّجوعِ كالبشرى وتقديمُ الجار والمجرور عليه لقصره عليهِ أيْ إنَّ إلى مالكِ أمركِ رجوعَ الكُلِّ بالموتِ والبعثِ لا إلى غيره استقلالا ولااشتراكا فسترى حينئذٍ عاقبةَ طُغيانِكَ وقوله تعالى

ص: 179

{أرأيتَ الَّذي يَنْهى عبْداً إِذَا صلى} تقبيحٌ وتشنيعٌ لحالهِ وتعجيبٌ منهَا وإيذانٌ بأنَّها منَ الشناعةِ والغرابةِ بحيثُ يجبُ أنْ يَراهَا كلُّ منْ يتأتى منْهُ الرؤيةُ ويقضي منهَا العجبَ

رُوِيَ أنَّ أَبا جهلٍ قالَ في ملأٍ من طُغاةِ قريشٍ لئِنْ رأيتُ محمداً يُصلي لأطأنَّ عنقَهُ فرآهُ عليه السلام في الصَّلاةِ فجاءَهُ ثُمَّ نكصَ على عقبيه فقالوا مالك قال إن بيني وبينهُ لخندقاً منْ نارٍ وهولاً وأجنحةً فنزلتْ ولفظُ العبدِ وتنكيرُه لتفخيمِه عليه السلام واستعظامِ النَّهي وتأكيدِ التعجبِ منْهُ والرؤيةُ هَهُنا بصريةٌ وأمَّا ما في قولِه تعالى

ص: 179

{أرأيت إِن كَذَّبَ وتولى} فقلبيةٌ معناهُ أخبرني فإنَّ الرؤيةَ لما كانت سبباً للإخبارِ عنِ المَرئي أجرى الاستفهامُ عنْهَا مجرى الاستخبارِ عنْ متعلَّقها والخطابُ لكلِّ منْ صلُحَ للخطابِ ونظمُ الأمرِ والتكذيبِ والتولِّي في سلكِ الشرط المتردد بين الوقوع وعدمه ليس ليسَ باعتبارِ نفسَ الأفعالِ المذكورةِ منْ حيثُ صدورُها عن الفاعلِ فإنَّ ذلكَ ليسَ في حيزِ الترددِ أصلاً بلْ باعتبارِ أوصافها التي هِيَ كونُها أمراً بالتقوى وتكذيباً وتولياً كَمَا في قوله تعالى {قل أرأيتم إن كان مِنْ عِندِ الله ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ} كَمَا مرَّ والمفعولُ الأولُ لأرأيتَ محذوفٌ وهو ضميرٌ يعودُ إلى الموصولِ أو اسمُ إشارةِ يُشارُ بهِ إليهِ ومفعولُه الثاني سدَّ مسدَّهُ الجملةُ الشرطيةُ بجوابها المحذوفِ فإنَّ المفعولَ الثاني لأرأيتَ لا يكونُ إلا جملةً استفهاميةً أو قسميةً والمعَنى أخبرني ذلك الناهي إن كان على الهدى فيمَا ينهي عَنْهُ منْ عبادةِ الله تعالى أوْ آمراً بالتَّقوى فيمَا يأمرُ بهِ من عبادةِ الأوثانِ كما يعتقدُه أوْ مكذباً للحق معرضا عن الصوب كما نقول نحن

ص: 179

{ألم يعلم بأن الله يرى} أيْ يطلعُ على أحواله فيجازيه

ص: 179

96 سورة العلق آية (15 18) بِهَا حتَّى اجترأ على ما فعلَ وإنَّما أفردَ التكذيبَ والتولِّي بشرطيةٍ مستقلةٍ مقرونةٍ بالجوابِ مصدرةٍ باستخبارٍ مستأنفِ ولم ينظمَا في سلكِ الشرطِ الأولِ بعطفهما على كانَ للإيذانِ باستقلالهما بالوقوعِ في نفسِ الأمرِ واستتباعِ الوعيدِ الذي ينطقُ بهِ الجوابُ وأما القسمُ الأولُ فأمرٌ مستحيلٌ قد ذكر في حيزالشرط لتوسيعِ الدائرةِ وهو السرُّ في تجريدِ الشرطيةِ الأولى عنِ الجوابِ والإحالةِ بهِ على جوابِ الثانيةِ هَذا وقد قيلَ أرأيتَ الأولُ بمعنى أخبرني مفعولُه الأولُ الموصولُ ومفعولُه الثاني الشرطيةُ الأولى بجوابها المحذوفِ لدلالةِ جوابِ الشرطيةِ الثانيةِ عليه وأرأيتَ في الموضعينِ تكريرٌ للتأكيدِ ومعناهُ أخبرني عمَّنْ ينهى بعضَ عبادِ الله عن صلاته إنْ كانَ ذلكَ النَّاهي علَى طريقةٍ سديدةِ فيما ينهى عنْ عبادةِ الله تعالى أوْ كانَ آمراً بالمعروفِ والتَّقوى فيما يأمر به من عبادة الأوثان كما يعتقده وكذلكَ إنْ كانَ على التكذيبِ للحقِّ والتولِّي عنِ الدينِ الصحيح كما نقولُ نحن {ألم يعلم بأن الله يرى} ويطلعُ على أحوالِه منْ هُداهُ وضلالهِ فيجازيَهُ عَلى حسبِ ذلكَ فتأملْ وقيلَ المَعْنى أرأيتَ الَّذي يَنْهى عبْداً يُصلي والمُنهيُّ عنِ الهُدى آمرٌ بالتقوى والناهي مكذب متول فما أعجبَ من ذَا وقيلَ الخطابُ الثاني للكافرِ فإنَّه تعالَى كالحاكمِ الذي حضَرهُ الخصمانِ يخاطبُ هذا مرةً والآخرَ أُخرى وكأنَّه قالَ يا كافرُ أخبرني إنْ كانَ صلاتُه هُدى ودُعاؤُه إلى الله تعالى أمراً بالتَّقوى أتنهاهُ وقيلَ هُو أُميةُ بنُ خلفٍ كانَ ينْهى سلمانَ عنِ الصَّلاةِ

ص: 180

{كَلَاّ} ردعٌ للناهي اللعينِ وخسوءٌ لَهُ واللامُ في قولِه تعالَى {لَّئِن لَّمْ يَنتَهِ} موطئةٌ للقسمِ أي والله لئِن لَمْ ينتِه عَمَّا هُو عليهِ ولمْ ينزجرْ {لَنَسْفَعاً بالناصية} لنأخذنَّ بناصيتهِ ولنسحبنّهُ بِهَا إلى النَّارِ والسفعُ القبضُ على الشيءِ وجذبُه بعنفٍ وشدةٍ وقُرِىءَ لنسفعنَّ بالنونِ المشددةِ وقُرِىءَ لأسفعنَّ وكتبتهُ في المصحفِ بالألفِ عَلى حكمِ الوقفِ والاكتفاءُ بلامِ العهدِ عنِ الإضافةِ لظهورِ أنَّ المرادَ ناصيةُ المذكورِ

ص: 180

{نَاصِيَةٍ كاذبة خَاطِئَةٍ} بدلٌ منَ الناصيةِ وإنَّما جازَ إبدالُها منَ المعرفةِ وهي نكرةٌ لوصفِها وقُرئَتْ بالرفعِ على هِيَ ناصيةٌ وبالنصبِ وكلاهُما على الذمِّ والشتمِ ووصفُها بالكذبِ والخطإِ على الإسنادِ المجازيِّ وهُمَا لصاحبها وفيه من الجزالة ما ليس في قولك ناصية كاذب المخطىء

ص: 180

{فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ} أيْ أهلَ ناديهِ ليعينوهُ وهُو المجلسُ الَّذي ينتدي فيه القومُ أي يجتمعونَ

رُوِيَ أنَّ أَبا جهلٍ مرَّ برسولِ الله صلى الله عليه وسلم وهُو يُصلي فقالَ ألم أنهكَ فأغلظَ لَهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالَ أتهددني وأنا أكثرُ أهلِ الوادي نادياً فنزلتْ

ص: 180

{سَنَدْعُ الزبانية} ليجروه إلى النار والزبانية

ص: 180

96 سورة العلق آية (19) الشرطُ الواحدُ زبْنيةٌ كعفريةٍ من الزِّبنِ وهُوَ الدَّفعْ وقيلَ زَبَنِي وكأنَّه نسبَ إلى الزبنِ ثُمَّ غير كأمْسى وأصلُها زَبَاني فقيلَ زبانيةٌ بتعويضِ التاءِ عن الياءِ والمرادُ ملائكةُ العذابِ وعن النبيِّ صلى الله عليه وسلم لَوْ دَعا ناديه لأخذتْهُ الزبانيةُ عياناً

ص: 181

{كَلَاّ} ردعٌ بعدَ ردعٍ وزجرٌ إثرَ زجرٍ {لَا تُطِعْهُ} أيْ دُم عَلى ما أنت عليه من معاصاتِه {واسجد} وواظبْ عَلى سجودِكَ وصلاتك غيرَ مكترثٍ بِه {واقترب} وتقربْ بذلك إلى ربِّكَ وفي الحديثِ أقربُ ما يكونُ العبدُ إلى ربِّه إذَا سجدَ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مَنْ قرأَ سورةَ العلقِ أُعطيَ منَ الأجرِ كأنَّما قرأالمفصل كله

ص: 181