المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

سورة البينة مدنية مختلف فيها وآيها ثمان بسم الله الرحمن الرحيم - تفسير أبي السعود = إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم - جـ ٩

[أبو السعود]

الفصل: سورة البينة مدنية مختلف فيها وآيها ثمان بسم الله الرحمن الرحيم

سورة البينة مدنية مختلف فيها وآيها ثمان

بسم الله الرحمن الرحيم

ص: 184

{لَمْ يَكُنِ الذين كَفَرُواْ مّنْ أَهْلِ الكتاب} أي اليهودُ والنَّصارَى وإيرادُهم بذلكَ العنوانِ للإشعارِ بعلةِ ما نُسبَ إليهمْ من الوعدِ باتباعِ الحقِّ فإنَّ مناطَ ذلكَ وجدانُهم لَهُ في كتابِهم وَإِيرادُ الصلةِ فعلاً لما أنَّ كُفرهم حادثٌ بعدَ أنبيائِهم {والمشركين} أيْ عبدة الأصنام وقرئ وَالمشركونَ عطفاً على الموصولِ {مُنفَكّينَ} أي عمَّا كانُوا عليهِ من الوعدِ باتباعِ الحقِّ والإيمانِ بالرسولِ المبعوثِ في آخرِ الزمانِ والعزمِ على إنجازِه وهَذَا الوعدُ من أهلِ الكتابِ مما لا ريبَ فيه حَتَّى إنَّهم كانُوا يستفتحونَ ويقولونَ اللهمَّ افتحْ علينَا وانصرنا بالنبيِّ المبعوثِ في آخرِ الزمانِ ويقولونَ لأعدائِهم منَ المشركينَ قد أظلَّ زمانُ نبيَ يخرجُ بتصديقِ ما قلنَا فنقتلُكُم مَعَهُ قتلَ عادٍ وإرمَ وأما منَ المشركينَ فلعلَّهُ قدْ وقعَ من متأخريهمْ بعدَ مَا شَاعَ ذلكَ من أهلِ الكتابِ واعتقدوا صحتَهُ بَمَا شاهدُوا من نصرتهم على أسلافم كما يشهدُ به أنهم كانوا يسألونهم عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم هلْ هُوَ المذكورُ في كتابِهم وكانوا يغرونَهُم بتغييرِ نعوتِه عليه السلام وانفكاكُ الشيء عن الشيءِ أنْ يزايَلَهُ بعدَ التحامِه كالعظمِ إذا انفكَّ من مفصلِه وفيهِ إشارةٌ إلى كمالِ وكادةِ وعدِهم أيْ لم يكُونوا مفارقينَ للوعدِ المذكورِ بلْ كانُوا مجمعينَ عليهِ عازمينَ على إنجازِه {حتى تَأْتِيَهُمُ‌

‌ البينة}

التي كانُوا قد جعلوا إتيانها ميقاتاً لاجتماعِ الكلمةِ والاتفاقِ عَلى الحقِّ فجعلوه ميقاتاً للانفكاكِ والافتراقِ وإخلافِ الوعدِ والتعبيرُ عن إتيانِها بصيغةِ المضارعِ باعتبارِ حالِ المحكيِّ لا باعتبارِ حالِ الحكايةِ كما في قولِه تعالَى {واتبعوا مَا تَتْلُواْ الشياطين} أي تلتْ وقولُه تعالى

ص: 184

{رَّسُولٍ} بدلٌ منَ البينةِ عبرَ عنه عليه السلام بالبينة للإيدان بغاية ظهورِ أمرِهِ وكونِه ذلكَ الموعودَ في الكتابينِ وقولُه تعالى {مِنَ الله} متعلق بمضمر هو صفة لرسولٍ مؤكِّدٌ لما أفادَه التنوينُ من الفخامةِ الذاتيةِ بالفخامةِ الإضافيةِ أي رسولٌ وأيُّ رسولٍ كائنٌ منْهُ تعالى وقولُه تعالى {يَتْلُو} صفةٌ أخرى له أو حالٌ من الضمير في متعلق الجارِّ {صُحُفاً مُّطَهَّرَةً} أيْ منزهةً عنِ الباطلِ لا يأتيه الباطلُ من بينِ يديهِ ولا من خلفه أو من أنْ يمسَّهُ غيرُ المطهرينَ ونسبةُ تلاوتِها إليه عليه

ص: 184

سورة البينة آية (3 5) السلامُ منْ حيثُ إنَّ تلاوةَ مَا فيها بمنزلةِ تلاوتِها وقولُه تعالى

ص: 185

{فِيهَا كُتُبٌ قَيّمَةٌ} صفةٌ لصحفاً أوْ حالٌ منْ ضميرها في مطهرةٍ ويجوزُ أنْ يكونَ الصفةُ أو الحالُ الجارَّ والمجرورَ فَقَطْ وكتبٌ مرتفعاً بِه على الفاعليَّةِ ومَعْنى قيمةٌ مستقيمةٌ ناطقةٌ بالحقِّ والصوابِ

وقولُه تعالَى

ص: 185

{وَمَا تَفَرَّقَ الذين أُوتُواْ الكتاب} إلخ كلامٌ مسوقٌ لغايةِ تشنيعِ أهلِ الكتابِ خاصَّةٌ وتغليظِ جناياتِهم ببيانِ أنَّ ما نسبَ إليهمْ من الانفكاكِ لم يكُنْ لاشتباهٍ مَا في الأمرِ بلْ كانَ بعدَ وضوحِ الحقِّ وتبينِ الحالِ وانقطاعِ الأعذار بالكليةِ وهُوَ السرُّ في وصفِهم بإيتاءِ الكتابِ المنبئ عن كمالِ تمكنِهم منْ مطالعتِه والإحاطةِ بَما فِي تضاعيفِه من الأحكامِ والأخبارِ التي مِنْ جُملتِها نعوتُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم بعدَ ذكِرَهم فيما سبقَ بما هُوَ جارٍ مَجْرَى اسمِ الجنسِ للطائفتينِ ولَمَّا كانَ هؤلاءِ وَالمشركونَ باعتبارِ اتفاقِهم عَلَى الرأي المذكورِ في حكمِ فريقٍ واحدٍ عبرَ عَمَّا صدرَ عنهمْ عقيبَ الاتفاقِ عندِ الإخبارِ بوقوعِه بالانفكاكِ وعندَ بيانِ كيفية وقوعه بالتفرق اعتبارا لاستقلال كل من فريقي أهل الكتاب وإيذاناً بأن انفكاكهم عن الرأي المذكور ليس بطريق الاتفاق على رأي أخر بل بطريق الاختلاف القديم وقولُه تعالى {إِلَاّ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ البينة} استثناءٌ مفرغٌ منْ أعمِّ الأوقاتِ أيْ وما تفرقُوا في وقتٍ منَ الأوقاتِ إِلَاّ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الحجةُ الواضحةُ الدالَّةُ على أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم هو الموعودُ في كتابِهم دلالةً جليةً لا ريبَ فيَها كقولِه تعالى {وَمَا اختلف الذين أُوتُواْ الكتاب} إِلَاّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ العلم وقولُه تعالى

ص: 185

{وَمَا أُمِرُواْ إِلَاّ لِيَعْبُدُواْ الله} جملةُ حاليةٌ مفيدةٌ لغايةِ قبحِ ما فعلُوا أيْ والحالُ أنَّهم ما أُمروا في كتابِهم إلا لأجلِ أنْ يعبدُوا الله وقيلَ اللامُ بمَعْنى أنْ أي إلا بأنْ يعبدُوا الله ويعضدُه قراءةُ إلا أنْ يعبدُوا الله {مُخْلِصِينَ لَهُ الدين} أي جاعلينَ دينَهُم خَالِصاً له تعالَى أو جاعلينَ أنفسَهُم خالِصةً لَهُ تعالَى في الدِّينِ {حُنَفَاء} مائلينَ عن جميعِ العقائدِ الزائغةِ إلى الإسلامِ {ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة} إنْ أُريدَ بهما ما في شريعتِهم من الصَّلاةِ والزَّكاةِ فالأمرُ ظاهرٌ وإنْ أُريدَ ما في شريعتِنا فمَعْنى أمرِهم بهما في الكتابينِ أنَّ أمرَهُم باتباعِ شريعتِنا أمرٌ لهم بجميعِ أحكامِها التي هُمَا من جُملتها {وَذَلِكَ} إشارةٌ إلى ما ذُكِرَ من عبادةِ الله تعالى وبالإخلاص وإقامةِ الصلاةِ وإيتاءِ الزكاةِ وما فيه من معنى البُعدِ للإشعارِ بعلوِّ رتبتِه وبُعد منزلتِه {دِينُ القيمة} أي دينُ الملةِ القيمةِ وقرئ الدينُ القيمةُ على تأويلِ الدينِ بالملةِ هذا وقد قيلَ قولُه تعالى {لَمْ يَكُنِ الذين كَفَرُواْ} إلى

ص: 185

98 سورة البينة آية (6 7) قولِه {كتبٌ قيمةٌ} حكايةٌ لما كانُوا يقولونَهُ قبلَ مبعثِه عليه السلام من أنَّهم لا ينفكونَ عنْ دينِهم إلى مَبْعثِه ويعدون أنْ ينفكُّوا عنه حينئذٍ ويتفقوا على الحقِّ وقولُه تعالَى {وَمَا تَفَرَّقَ الذين أوتوا الكتاب} الخ بيان لإخلافِهم الوعدَ وتعكيسِهم الأمرَ بجعلِهم ما هُو سببٌ لانفكاكِهم عن دينِهم الباطلِ حسبَما وعدُوه سبباً لثباتِهم عليهِ وعدمِ انفكاكِهم عنه ومثلُ ذلكَ بأنْ يقولَ الفقيرُ الفاسقُ لمن يعظهُ لا أنفكُّ عمَّا أنَا فيه حتَّى أستغني فيستغني فيزدادُ فسقاً فيقولَ له واعظُه لم تكنْ منفكَّاً عن الفسقِ حتى توسرَ وما عكفتَ على الفسقِ إلا بعدَ اليسارِ وأنت خبيرٌ بأنَّ هَذا إنَّما يتسنّى بعد اللَّتيا والتي على تقدير أن يرادَ بالتفرقِ تفرقُهم عن الحقِّ بأنْ يقال التفرقُ عن الحقِّ مستلزمٌ للثباتِ على الباطلِ فكأنَّه قيلَ وما أجمعُوا على دينِهم إِلَاّ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ البينةُ وأما على تقديرِ أنْ يرادَ به تفرقُهم فرقاً فمنُهم من آمنَ ومنُهم من أنكرَ ومنُهم من عرفَ وعاندَ كَمَا جوَّزه القائلُ فلا فتأملْ

ص: 186

{إِنَّ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب والمشركين فِى نَارِ جَهَنَّمَ} بيانٌ لحالِ الفريقينِ في الآخرةِ بعد بيانِ حالِهم في الدُّنيا وذَكَرَ المشركينَ لئلَاّ يتوهَم اختصاصُ الحكمِ بأهلِ الكتابِ حسبَ اختصاصِ مشاهدةِ شواهدِ النبوةِ في الكتابِ بهم ومَعْنى كونِهم فيها أنَّهم يصيرون إليها يومَ القيامةِ وإيرادُ الجملةِ الاسميةِ للإيذان بتحقق مضمونِها لا محالةَ أو أنَّهم فيها الآنَ إما على تنزيل ملابستِهم لما يوجبُها منزلَة ملابستِهم لها وإما عَلى أنَّ ما هُم فيه من الكفر والمعاصي عينُ النارِ إلا أنَّها ظهرتْ في هذهِ النشأةِ بصور عَرَضيةٍ وستخلعُها في النشأة الآخرة وتظهر بصورتها الحقيقة كما مر في قوله تعالى {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بالكافرين} في سورة الأعرافِ {خالدين فِيهَا} حالٌ من المستكنِّ في الخبرِ واشتراكُ الفريقينِ في دخولِ دارِ العذابِ بطريقِ الخُلودِ لا يُنافِي تفاوتَ عذابِهم في الكيفيةِ فإنَّ جهنَم دركاتٌ وعذابَها ألوانٌ {أولئك} إشارةٌ إليهم باعتبارِ اتصافِهم بما هُم فيه من القبائحِ المذكورة وما فيه من مَعْنى البُعدِ للإشعارِ بغايةِ بُعدِ منزلتِهم في الشرِّ أي أولئكَ البعداءُ المذكورونَ {هُمْ شَرُّ البرية} شرُّ الخليقةِ أي أعمالاً وهو الموافقُ لما سيأتِي في حقِّ المؤمنينَ فيكونُ في حيزِ التعليلِ لخلودِهم في النارِ أو شرُّهم مقاماً ومصيراً فيكونَ تأكيداً لفظاعةِ حالهم وقرئ بالهمزة على الأصل

ص: 186

{إن الذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} بيانٌ لمحاسن أحوالِ المُؤمنين إثرَ بيانُ سوءِ حالِ الكفرةِ جرياً على السنةِ القرآنيةِ من شفعِ الترهيبِ بالترغيبِ {أولئك} المنعوتونَ بَما هُو في القاصيةِ من الشرفِ والفضيلةِ من الإيمان والطاعة {هُمْ خير البرية} وقرئ خيارُ البريةِ وهو جمعُ خيِّر نحوٌ جيدٌ وجيادٌ

ص: 186

98 سورة البينة آية (8)

ص: 187

{جَزَآؤُهُمْ} بمقابلةِ ما لهُم من الإيمانِ والطاعةِ {عِندَ رَبّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار} إن أُريد بالجنَّاتِ الأشجارُ الملتفةُ الأغصانِ كمَا هو الظاهرُ فجريانُ الأنهارِ من تحتها ظاهرٌ وإنْ أُريد بها مجموعُ الأرضِ ومَا عليها فهُو باعتبارِ الجزءِ الظاهرِ وأيا ما كان فالمرادُ جريانُها بغيرِ أخدودٍ {خالدين فيها أبدا} متنعمين بفنونِ النعمِ الجُسمانيةِ والروحانيةِ وفي تقديمِ مدحِهم بخيرية وذكرِ الجزاءِ المؤذنِ بكونِ ما مُنحوهُ في مقابلةِ ما وُصفوا بهِ وبيان كونُه من عندِه تعالَى والتعّرضُ لعنوان الربوبيةِ المنبئة عن التَّربيةِ والتبليغِ إلى الكمال مع الإضافة إلى ضميرِهم وجمعِ الجنَّاتِ وتقييدِها بالإضافةِ وبما يزيدُها نعيماً وتأكيد الخلودِ بالأبودِ من الدلالةِ على غايةِ حُسنِ حالِهم مالا يَخْفى {رَّضِىَ الله عَنْهُمْ} استئنافٌ مبينٌ لما يتفضلُ عليهم زيادةً على ما ذُكرَ من أجزيةِ أعمالِهم {وَرَضُواْ عَنْهُ} حيثُ بلغُوا من المطالبِ قاصيتَها وملكُوا من المآربِ ناصيتَها وأُتيحَ لهم مالا عينٌ رأتْ ولا أذنٌ سمعت ولا خطر على قلبِ بشرٍ {ذلك} أيْ ما ذكرمن الجزاءِ والرضوانِ {لِمَنْ خَشِىَ رَبَّهُ} فإنَّ الخشيةَ التي هيَ من خصائصِ العلماءِ بشؤون الله عز وجل مناطٌ لجميعِ الكمالاتِ العلميةِ والعمليةِ المستتبعةِ للسعادةِ الدينيةِ والدنيويةِ والتعرضُ لعُنوانِ الرُّبوبيةِ المُعربةِ عن المالكيةِ والتربيةِ للإشعارِ بعلَّةِ الخشيةِ والتحذيرِ من الاغترارِ بالتربيةِ

عنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم مَنْ قرأَ سورةَ البينة لم يكن كانَ يومَ القيامةِ مع خيرِ البريةِ مساءً ومَقيلاً

ص: 187

سورة الزلزلة مدنية مختلف فيها وآيها ثمان

بسم الله الرحمن الرحيم

ص: 188

{إِذَا زُلْزِلَتِ الأرض} أَيْ حُرِّكتْ تحريكاً عنيفاً مُتكرراً متداركا أي الزلزالُ المخصوصُ بَها على مقتضى المشيئةِ المبنيةِ على الحِكَم البالغة وهُو الزلزالُ الشديدُ الذي لا غايةَ وراءَه أو زلزالُها العجيبُ الذي لا يُقَادرُ قدرُهُ أو زلزالُها الداخلُ في حيزِ الإمكانِ وقرئ بفتح بفتح الزاء وهو اسمٌ وليسَ في الأبنيةِ فعلالٌ بالفتحِ إلا في المضاعف وقولهم ناقة خَزْعَالٌ نادرٌ وقَدْ قيلَ الزلزالُ بالفتحِ أيضاً مصدرٌ كالوَسواسِ والجرَجارِ والقَلقالِ وذلكَ عندَ النفخةِ الثانيةِ لقولِه عزَّ وجلَّ

ص: 188

{وَأَخْرَجَتِ الأرض أَثْقَالَهَا} أي ما في جوفها من الأمواتِ والدفائنِ جمعُ ثَقَلٍ وهُو متاعُ البيتِ وإظهارُ الأرضِ في موقعِ الإضمارِ لزيادةِ التقريرِ أوْ للإيماءِ إلى تُبَدَّلُ الأرضِ غَيْرَ الأرضِ أو لأنَّ إخراجَ الأثقالِ حالُ بعضِ أجزائِها

ص: 188

{وَقَالَ الإنسان} أيْ كُلُّ فردٍ من أفرادِه لما يَدهمُهْم منَ الطامَّةِ التامَّةِ ويبهرهُم مِنَ الدَّاهيةِ العامَّةِ {مَا لَهَا} زُلزلتْ هذهِ المرتبةَ الشديدةَ منَ الزلزالِ وأخرجتْ ما فيَها منَ الأثقالِ استعظاماً لما شاهدُوه منَ الأمرِ الهائلِ وقد سيرتِ الجبالُ في الجَوِّ وصيرتْ هباءً وقيلَ هُو قول الكافر إذا لمْ يكُنْ مؤمناً بالبعثِ والأظهرُ هُو الأولُ عَلى أنَّ المؤمنَ يقولُه بطريقِ الاستعظامُ والكافرُ بطريق التعجبِ

ص: 188

{يومئذ} بدل من إذا وقولُه تعالَى {تُحَدّثُ أَخْبَارَهَا} عَامِلٌ فيهمَا ويجوزُ أن يكونَ إذَا منتصباً بمضمرٍ أيْ يومُ إذْ زلزلتْ الأرضُ تحدثُ الخلقَ أخبارِها إمَّا بلسانِ الحالِ حيثُ تدلُّ دلالةً ظاهرةً على ما لأجلِه زلزالُها وإخراجُ أثقالِها وإما بلسانِ المقالِ حيثُ يُنطقها الله تعالَى فتخبرُ بما عُمِلَ عليَها منْ خيرٍ وشرَ ورُوِيَ عنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنها تشهدُ على كُلِّ أحدٍ بما عَمِلَ عَلى

ص: 188

99 سورة الزلزلة آية (5 8) ظهرها وقرئ تنبي أخبارها وقرئ منَ الإنباءِ

ص: 189

{بِأَنَّ رَبَّكَ أوحى لَهَا} أي تحدثُ أخبارَهَا بسببِ إيحاءِ ربِّكَ لَها وَأمْرِهِ إيَّاهَا بالتَّحديثِ عَلَى أَحَدِ الوجهينِ وَيَجُوزُ أَنْ يكُونَ بَدَلاً مِنْ أَخْبَارِهَا كَأنَّه قيلَ تحدثُ بأخبارِهَا بأَنَّ ربَّكَ أوحى لأَنَّ التحديثَ يستعمل بالباء وبدونها وأَوْحَى لَها بمعنى أَوْحَى إليَها

ص: 189

{يومئذ} أي يوم إذ يقعُ ما ذُكِرَ {يَصْدُرُ الناس} من قبورِهم إلى موقفِ الحسابِ {أَشْتَاتاً} متفرقينَ بحسبِ طبقاتِهم بيضِ الوجوهِ آمنينَ وسودِ الوجوهِ فزعينَ كما مر في قوله تعالَى {فتأتونَ أفواجاٍ} وقيلَ يصدرُون عن الموقفِ أشتاتاً ذات اليمين إلى الجنة وذاتَ الشمالِ إلى النارِ {لّيُرَوْاْ أَعْمَالَهُمْ} أي أجزيةَ أعمالِهم خيراً كانَ أَوْ شراً وقرئ ليَروا بالفتحِ وقولُه تعالَى

ص: 189

{فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ} {وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} تفصيل ليروا وقرئ يُرَه والذرةُ النملةُ الصغيرةُ وَقيلَ ما يُرى في شعاعِ الشَّمسِ منَ الهباءِ وَأياً مَا كان فمَعنى رؤية ما يعادلُها منْ خيرٍ وشرَ إما مشاهدةُ جزائِه فَمَنِ الأُولى مختصةٌ بالسُّعداءِ والثانيةُ بالأشقياءِ كيفَ لا وحسناتُ الكافرِ محبطةٌ بالكفرِ وسيئاتُ المؤمنِ المجتنبِ عن الكبائرِ معفوةٌ وما قيلَ مِنْ أن حسنةَ الكافرِ تؤثرُ في نقصِ العقابِ يردُّه قولُه تعالَى {وَقَدِمْنَا إلى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُوراً} وأما مشاهدةُ نفسِه من غيرِ أنْ يعتبرَ مَعَهُ الجزاءُ ولَا عدمُه بلْ يفوضُ كلٌّ منَهما إلى سائرِ الدلائلِ الناطقةِ بعفوِ صغائرِ المؤمنِ المجتنبِ عنِ الكبائرِ وإثابتِه بجميعِ حسناتِه وبحبوطِ حسناتِ الكافرِ ومعاقبتِه بجميعِ معاصيهِ فالمَعْنى ما رُوي عن ابنِ عباس رضي الله عنهما ليس منْ مؤمنٍ وَلَا كافرٍ عملَ خيراً أو شراً إلا أراهُ الله تعالَى إيَّاهُ أما المؤمنُ فيغفرُ له سيئاتِه ويثيبُه بحسناتِه وأما الكافِرُ فيردُّ حسناتِه تحسراً ويعاقبُه بسيئاتِه

عنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم مَنْ قرأَ سورةَ الزلزلة أربعَ مراتٍ كانَ كمَنْ قرأَ القرآنَ كُلَّه والله أعلم

ص: 189