الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المتنبي والاتساع:
وعلى كل حال تبدو هذه الآية والاتساع فيها مما يدق على الأفهام، ولكنها دقة لازمة تنطوي على الكثير من المعاني المتصيّدة من الكلام. وقد رمق المتنبي سماءها فكثيرا ما كان يجنح الى هذا الضرب من البلاغة فيدق كلامه. فمن اتساعه قوله:
لولا مفارقة الأحباب ما وجدت
…
لها المنايا الى أرواحنا سبلا
فظاهر الكلام يوحي بالبداهة الأولى أن «لها» جار ومجرور متعلقان بوجدت، ولكن فيه تعدّي فعل الفعل الظاهر الى ضميره المتصل، وذلك ممتنع، فيجب أن يقدر صفة في الأصل ل «سبلا» فلما تقدم عليه صار حالا، كما أن قوله:«الى أرواحنا» ، كذلك إذ المعنى: سبلا مسلوكة الى أرواحنا. ولك في «لها» وجه غريب، وهو أن تقدر «لها» جمعا للهاة، كحصى وحصاة، وتكون «المنايا» مضافة إليها، ويكون إثبات اللهوات للمنايا استعارة، شبهت بشيء يبتلع الناس، ويكون أقام اللها مقام الأفواه لمجاورة اللهوات للنعم، فاللهاة بالفتح هي اللحمة المشرفة على الحلق في أقصى سقف الفم.
ومن ذلك قوله في الغزل.
كشفت ثلاث ذوائب من شعرها
…
في ليلة فأرت ليالي أربعا
واستقبلت قمر السماء بوجهها
…
فأرتني القمرين في وقت معا
فليس المعنى كما يظنه الناس من أنه رأى قمرين في وقت واحد القمر ووجهها، وإنما التحقيق أنها لما استقبلت قمر السماء ارتسم خياله في وجهها فرآهما في وقت واحد، كما تقابل الأشكال المرآة، فتنطبع
الصورة فيها، فترى المرآة والأشكال المنطبقة فيها في وقت واحد معا.
وقد أخطا التبريزي حين شرح البيت وقد قال: يجوز أنه أراد قمرا وقمرا، لأنه لا يجتمع قمران حقيقيان في ليلة، كما لا تجتمع الشمس والقمر. وقد تشبث أحد الشعراء بأهداب المتنبي فنظم بيتين أشبه ما يكونان بالشعوذة والألاعيب وهما:
رأت قمر السماء فذكرتني
…
ليالي وصلها بالرقمتين
كلانا ناظر قمرا ولكن
…
رأيت بعينها ورأت بعيني
وأحسن ما يمكن أن يقال فيهما: إن معنى قمرين: قمر حقيقي وهو قمر السماء، وقمر مجازي وهو وجه المحبوبة، فهو يقول: هي رأت القمر المجازي وهو قمر السماء، وأنا رايت وجهها وهو القمر الحقيقي، لأنها هي نظرت الى قمر السماء وهو نظر الى وجهها، فصحّ أنه رأى بعينها وهي رأت بعينه. وهذه مبالغة وإفراط في الوصف، ولكن الشعراء درجوا على أن يجعلوا المحبوب هو القمر الحقيقي، والذي في السماء هو القمر المجازي. وقال آخرون في شرحهما:
يتسير هذا الشاعر الى أن قمر السماء من عشاق محبوبته، وأن محبوبته رأته ذات ليلة فكسته برؤيتها له نور جمالها ومحاسن صفاتها، وألقت عليه شبهها، وأعارته اسمها. فأذكرت هذا العاشق بتلك الليالي التي وصلت بالرقمتين وأنها بوصالها له أفنته وغلبت عليه بصفاتها، حتى صارت معه كالقمر الواحد، وكلاهما ينظره. ولهذا قال كلانا ناظر قمرا أي: قمر واحد تعدّد مظهره، ولكنها تنظره بعينه، وهي عين المحبة، لأن المحب صار محبوبا وهو ينظر بعينها، لأنها أعارته عينا رآها بها، فكأن المبصر لها نفسها. والكلام في الاتساع طويل نجتزىء منه هنا بما تقدم.