المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ متخذ الصورة شريك لصانعها في الوزر واللعنة - إعلان النكير على المفتونين بالتصوير

[حمود بن عبد الله التويجري]

الفصل: ‌ متخذ الصورة شريك لصانعها في الوزر واللعنة

صورة، فأمر بها فطمست وحُكَّت، ثم قال: لو علمت مَن عمل هذا لأوجعته ضربًا، ويتخرج على هذه الرواية عن الإمام أحمد - رحمه الله تعالى - أن تغيير الصور المجسَّدة مطلوب كغير المجسدة بل أولى.

السابعة: إنكار المنكر باليد لِمَن قدر على ذلك.

الثامنة: لعن المصورين، والدعاء عليهم.

التاسعة: أن‌

‌ متخذ الصورة شريكٌ لصانعها في الوزر واللعنة

؛ لأن اتخاذها دليل على الرضا بصناعتها، والراضي بالذنب كفاعله.

وقال الحافظ ابن حجر: إن المتخذ أَوْلَى بالوعيد، وتقدم كلامه في ذلك مع فوائد الحديث الثاني، فيراجع.

العاشرة: التصريح بعجز المصورين عن نفخ الروح فيما يصورون.

الحادية عشرة: الرد على صاحب الأغلال ومَن شاكَلَه من الزنادقة الذين يخشون أو يرجون أن يأتي زمن يوجد فيه إنسان صناعي وحيوان صناعي.

الثانية عشرة: الرد على مَن زعم أن المنع خاص بالصور المجسدة؛ فإن الصور التي أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بمحوها ومحا هو بنفسه الكريمة ما بقي منها قد كانت من غير المجسدة قطعًا.

وأما المجسدة فقد كان صلى الله عليه وسلم يطعنها بعود معه أو يشير به إليها إشارة فتخر على وجوهها وأقفائها، كما جاء ذلك في أحاديث صحيحة عن ابن مسعود وابن عباس وابن عمر وأبي هريرة رضي الله عنهم.

ص: 69

وذكر ابن إسحاق في "السيرة" أن النبي صلى الله عليه وسلم وجد في الكعبة حمامة من عيدان فكسرها بيده ثم طرحها، فقد سوى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الصور المجسدة وغير المجسدة في الإنكار والتغيير، فمَن فرق بينهما فمنع المجسدة وأوجب تغييرها وأجاز غير المجسدة ولم يرَ تغييرها فقد فرق بين متماثلين، وآمن ببعض ما جاء عن الرسول صلى الله عليه وسلم في ذلك وردَّ بعضه.

الثالثة عشرة: النهي الصريح عن اتخاذ الصور في البيوت وعن صناعتها.

الرابعة عشرة: أن النهي يقتضي التحريم وهذا هو الصحيح من قولي العلماء، وقد نُقِل هذا عن مالك والشافعي وهو قول الجمهور، واختاره البخاري - رحمه الله تعالى - قال في آخر كتاب الاعتصام من "صحيحه":(باب نهي النبي صلى الله عليه وسلم على التحريم إلا ما تعرف إباحته).

قال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري": أي: بدلالة السياق، أو قرينة الحال، أو قيام الدليل على ذلك، انتهى.

الخامسة عشرة: مشروعية نقض الصور والتصاليب من الثياب ونحوها إذا أمكن ذلك، فإن لم يمكن فالواجب تلطيخها بما يغير هيئتها.

السادسة عشرة: الأمر الصريح بطمس الصور وأن لا يترك منها شيء، ومن الواجب المتعين على ولاة أمور المسلمين أن يفعلوا كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وكما فعل الخليفة الراشد علي رضي الله عنه فيبعثوا رجالاً يطمسون الصور التي عند رعاياهم ولا يتركوا منها شيئًا، ويجب عليهم أيضًا أن يمنعوا من صناعة التصاوير في سائر بلاد ولايتهم، ومَن

ص: 70

جلبها إليهم من خارج ولايتهم.

ولو سلكوا منهاج الخليفة الراشد عمر بن عبدالعزيز - رحمه الله تعالى - في تأديب المصورين لكان ذلك خيرًا لهم، وليعلم أولو الأمر أنهم مسؤولون يوم القيامة عن رعاياهم فليعدُّوا للسؤال جوابًا.

السابعة عشرة: عموم الأمر بطمس الصور، فيدخل في ذلك كل صورة من صور ذوات الأرواح، سواء كان لها ظل أو لم يكن، وسواء كانت تامة أو ناقصة إذا كان فيها رأس؛ لأن النكرة في قوله صلى الله عليه وسلم:((لا تدع صورة إلا طمستها)) تقتضي العموم، ويدخل في عمومها الرأس المصور وحده؛ لأن تصوير الرأس هو أعظم مقصود بالنهي كما يدل على ذلك قول جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم:"مُرْ برأس التمثال فليقطع فيصير كهيئة الشجرة".

وقد قال بعض الفقهاء إذا فرق بين الرأس والجسد فقد زال المحذور، وكذلك إذا قطع من الصورة ما لا يبقى الحيوان بعد ذهابه كصدره أو بطنه، وكذلك إذا كانت الصورة رأسًا بلا بدن.

وهذا القول ليس بشيء لمخالفته لحديث أبي هريرة رضي الله عنه في قصة جبريل عليه السلام -ولمخالفته أيضًا لعمومات كثير من الأحاديث التي سبق ذكرها،

ص: 71

والصحيح أن المحذور في الصورة الرأس وحده نص عليه الإمام أحمد - رحمه الله تعالى.

وروى ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما وعكرمة، قال أبو داود سمعت أحمد - رحمه الله تعالى - يقول: الصورة الرأس.

وقد تقدم قريبًا ما نقله المروذي عن أحمد - رحمه الله تعالى - من حكِّ الرأس وحده.

ثم قال أبو داود: حدثنا محمد بن محبوب قال: حدثنا وهيب - يعني: بن خالد الباهلي - عن خالد - يعني: الحذاء - عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: الصورة الرأس، فإذا قطع الرأس فليس هو صورة؛ إسناد صحيح على شرط البخاري.

وقال أيضًا: حدثنا أحمد - يعني: الإمام أحمد بن حنبل - قال: حدثنا إسماعيل - يعني: ابن عُلَيَّة - عن خالد، عن عكرمة نحوه، لم يذكر ابن عباس رضي الله عنهما إسناده صحيح على شرط البخاري.

وفي "المسند" من حديث شعبة بن دينار مولى ابن عباس رضي الله عنهما أن المسور بن مخرمة رضي الله عنهما دخل على ابن عباس رضي الله عنهما يعوده من وجع وعليه برد إستبرق، فقال: يا أبا عباس، ما هذا الثوب؟ قال: ما هو؟ قال: هذا الإستبرق، قال: والله ما علمت به، وما أظن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن هذا حين نهى عنه إلا للتجبر والتكبر، ولسنا بحمد الله كذلك، قال: فما هذه التصاوير في الكانون؟ قال: ألا ترى قد

ص: 72

أحرقناها بالنار، فلما خرج المسور قال: انزعوا هذه الثوب عنِّي، واقطعوا رؤوس هذه التماثيل، قالوا: يا أبا عباس، لو ذهبت إلى السوق كان أنفق لها مع الرأس، قال: لا، فأمر بقطع رؤوسها، وهذا حديث حسن قال أحمد وابن معين: شعبة بن دينار لا بأس به، وبقية رجاله "الصحيح".

قال الجوهري وغيره من أهل اللغة: الكانون الموقد؛ يعني: الموضع الذي توقد فيه النار.

قلت: وهو معروف بهذا الاسم إلى زماننا، ولكنه لنوع من المواقد لا لجميعها.

وفي هذا الحديث والذي قبله دليل على أن حكم الصورة متعلق بالرأس وحده؛ والأصل في هذا قول جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم: مر بالرأس فليقطع فيصير كهيئة الشجرة، فدلَّ على أن المحذور كله في تصوير الرأس، ودلَّ على أن قطع غيره لا يقوم مقامه ولا يكفى في التغيير، ولو كان المقطوع مما لا تبقى الحياة بعد ذهابه كصدره أو بطنه.

وعلى هذا فتحريم التصوير والاتخاذ متعلق بوجود الرأس، وكذلك وجوب الطمس متعلق بوجود الرأس، والله أعلم.

وأما قياس قطع الصدر أو البطن على قطع الرأس فهو قياس مع وجود الفارق؛ لأنها وإن شاركاه في ذهاب الحياة بذهابهما فقد اختفى هو دونهما ودون سائر الأعضاء بشيئين:

ص: 73

أحدهما: أنه إذا قطع صار باقي الجسم كهيئة الشجرة، وخرج عن شكل ذوات الأرواح.

الثاني: أنه مشتمل على الوجه الذي هو أشرف الأعضاء ومجمع المحاسن، وأعظم فارق بين الحيوان وبين غيره من النباتات والجمادات، وبطمسه تذهب بهجة الصورة ورونقها، وتعود إلى مشابهة النباتات والجمادات؛ ولهذا قال جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم:"مر برأس التمثال فليقطع فيصير كهيئة الشجرة".

وبهذا يعرف أن غير الرأس لا يساويه، وأن مَن قاس شيئًا من الأعضاء على الرأس فقياسه غير صحيح فلا يعتدُّ به، والله أعلم.

وقد قال بهذا القياس الفاسد كثير من فقهاء الحنابلة، فخالفوا نص أمامهم مع مخالفتهم لحديث أبي هريرة رضي الله عنه في قصة جبريل عليه السلام ولما ثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: الصورة الرأس، فإذا قطع الرأس فليس بصورة، ولعمومات الأحاديث التي تقدم ذكرها، وخليق بهذا القول أن يضرب به الحائط ولا يعول عليه، والله الموفق.

ويدخل في عموم النكرة أيضًا الوجهُ المصوَّر وحده؛ لإطلاق لفظ الصورة عليه في كلام النبي صلى الله عليه وسلم وكلام أصحابه رضي الله عنهم وكلام أهل اللغة.

فأما إطلاق ذلك عليه في كلام النبي صلى الله عليه وسلم ففي عدة أحاديث:

ص: 74

الأول منها: عن سالم بن عبدالله، عن أبيه رضي الله عنه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تضرب الصور يعني: الوجه؛ رواه الإمام أحمد في "مسنده" بإسناد صحيح على شرط الشيخين.

وقال البخاري - رحمه الله تعالى - في "صحيحه": (باب الوسم والعلم في الصورة) حدثنا عبيد الله بن موسى، عن حنظلة، عن سالم، عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كره أن تعلم الصورة، وقال ابن عمر رضي الله عنهما: نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن تضرب، تابعه قتيبة قال: حدثنا العنقري، عن حنظلة، وقال: تضرب الصورة.

قوله: "أن تعلم الصورة"؛ أي: يجعل في الوجه علامة من كي أوسمة.

قال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري": المراد بالصورة الوجه، قال: وقد أخرج الإسماعيلي الحديث من طريق وكيع عن حنظلة بلفظ أن تضرب وجوه البهائم، ومن وجه آخر عنه أن تضرب الصورة؛ يعني: الوجه.

وأخرجه أيضًا من طريق محمد بن بكر البرساني وإسحاق بن سليمان الرازي كلاهما عن حنظلة قال: سمعت سالمًا يسأل عن العلم في الصورة فقال: كان ابن عمر رضي الله عنهما يكره أن تعلم الصورة، وبلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن تضرب الصورة يعني بالصورة الوجه.

الحديث الثاني: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أول زمرة تلج الجنة صورهم على صورة القمر ليلة البدر))؛ الحديث رواه الإمام أحمد والشيخان والترمذي وابن ماجه.

ص: 75

والمراد بالصور هاهنا الوجوه خاصة؛ لما في الصحيحين عن أبي حازم، عن سهل بن سعد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((ليدخلن الجنة من أمتي سبعون - أو سبعمائة - ألف - لا يدري أبو حازم أيهما قال - متماسكون، آخذ بعضهم بعضًا، لا يدخل أولهم حتى يدخل آخرهم وجوههم على صورة القمر ليلة البدر)).

وفي "المسند" و"صحيح مسلم" عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال - فذكر الحديث وفيه -: ((فتنجوا أول زمرة وجوههم كالقمر ليلة البدر سبعون ألفًا لا يحاسبون)) الحديث.

وفي "المسند" أيضًا من حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أُعْطِيت سبعين ألفًا يدخلون الجنة بغير حساب، وجوههم كالقمر ليلة البدر)).

الحديث الثالث: عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أول زمرة تدخل الجنة على صورة القمر ليلة البدر

)) الحديث؛ رواه الإمام أحمد والترمذي وقال: هذا حديث حسن صحيح.

وفي هذا الحديث والذي قبله تشبيه صور الزمرة الأولى من أهل الجنة بصورة القمر، ومعلوم أن القمر ليس فيه إلا صورة الوجه وحده فدل على أن الوجه

ص: 76

وحده يسمى صورة على الحقيقة، فيحرم تصويره مطلقًا سواء كان معه جسم أو بعض جسم أو كان مفردًا بالتصوير، والله أعلم.

الحديث الرابع: عن أبي سعيد الخدري أيضًا رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وهو يصف يوسف حين رآه في السماء الثالثة قال: ((رأيت رجلاً صورته كصورة القمر ليلة البدر، فقلت: يا جبريل، مَن هذا؟ قال: هو أخوك يوسف))؛ رواه الحاكم في "مستدركه".

وفي هذا الحديث إطلاق لفظ الصورة على الوجه وحده؛ لأنه هو الذي يشبه صورة القمر.

الحديث الخامس: عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أما يخشى أحدكم أو إلا يخشى أحدكم إذا رفع رأسه قبل الإمام أن يجعل الله رأسه رأس حمارٍ، ويجعل الله صورته صورة حمار))؛ رواه الإمام أحمد والشيخان وأهل السنن، وهذا لفظ البخاري، والمراد بالصورة هاهنا الوجه؛ لما في رواية لمسلم:((أن يجعل الله وجهه وجه حمار))، ففي هذه الرواية بيان المراد بالصورة في الرواية الأولى، والله أعلم.

الحديث السادس: عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا سجد يقول: ((اللهم لك سجدت، ولك أسلمت، وبك آمنت، سجد وجهي للذي خلقه، وصوره فأحسن صورته، وشقَّ سمعه وبصره، تبارك الله أحسن الخالقين))؛ رواه الإمام أحمد ومسلم وأبو داود

ص: 77

والنسائي والدارقطني، وهذا لفظ النسائي.

الحديث السابع: عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن ناسًا قالوا: يا رسول الله، الله هل نرى ربنا يوم القيامة؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((نعم)) الحديث بطوله وفيه: ((حتى إذا خلص المؤمنون من النار، فوالذي نفسي بيده ما منكم من أحد بأشد مناشدة في استقصاء الحق من المؤمنين لله يوم القيامة لإخوانهم الذين في النار، يقولون: ربنا، كانوا يصومون معنا ويصلون ويحجون، فيقال لهم: أخرجوا مَن عرفتم فتحرم صورهم على النار))؛ الحديث متفق عليه، وهذا لفظ مسلم.

والمراد بالصور هاهنا الوجوه؛ والدليل على ذلك ما رواه مسلم من حديث جابر بن عبدالله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يحترقون فيها إلا دارات وجوههم حتى يدخلون الجنة)).

وأما إطلاق لفظ الصورة على الوجه في كلام الصحابة - رضوان الله عليهم أجمعين - فقد رواه الإمام أحمد في "مسنده" من حديث سالم بن عبدالله، عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما أنه كان يكره العلم في الصورة، وقال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ضرب الوجه.

وقد رواه البخاري في "صحيحه" والإسماعيلي بنحوه، وتقدم ذكره قريبًا.

وروى مسلم في "صحيحه" والبخاري في "الأدب المفرد" من حديث هلال بن يساف قال: كنا نبيع البز في دار سويد بن مقرن فخرجت جارية فقالت لرجل شيئًا فلطمها ذلك الرجل، فقال له سويد بن مقرن: لطمت

ص: 78

وجهها! لقد رأيتُني سابع سبعة وما لنا إلا خادم فلطمها بعضنا فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يعتقها؛ هذا لفظ البخاري.

وفي رواية لمسلم فقال له سويد بن مقرن عجز عليك إلا حر وجهها، وفي رواية لهما عن محمد بن المنكدر قال: حدثني أبي شعبة العراقي، عن سويد بن مقرن، أن جارية له لطمها إنسان فقال له سويد: أما علمت أن الصورة محرمة؟ وذكر تمام الحديث بنحو رواية هلال بن يساف، والمراد بالصورة الوجه كما صرح به في الرواية الأولى، وأشار سويد رضي الله عنه بقوله: أما علمت أن الصورة محرمة؟ إلى ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إذا ضرب أحدكم فليجتنب الوجه))؛ رواه الإمام أحمد ومسلم في "صحيحه" والبخاري في "الأدب المفرد" وأبو داود وغيرهم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

وأما إطلاق لفظ الصورة على الوجه في كلام أهل اللغة فقال ابن الأثير في "النهاية" وتبعه ابن منظور في "لسان العرب": وفي حديث ابن مقرن: "أما علمت أن الصورة محرمة"، أراد بالصورة الوجه، وتحريمها المنع من الضرب واللطم على الوجه، ومنه لحديث كره أن تعلم الصورة؛ أي: يحمل في الوجه كي أوسمة.

وقال مرتضى الحسيني في "تاج العروس": والصورة الوجه، ثم ذكر ما ذكره ابن الأثير وابن منظور.

ومما ذكرنا يعلم أن تصوير الوجه حرام سواء كان مفردًا أو غير

ص: 79

مفرد، وأن اتخاذ ما فيه صورة الوجه حرام إلا فيما يداس ويمتهن؛ كالبساط والوسادة ونحوهما، ويعلم أيضًا أنه يجب طمس صورته أينما وجدت عملاً بقول النبي صلى الله عليه وسلم:((لا تدع صورة إلا طمستها)).

الثامنة عشرة من فوائد الأحاديث التي تقدم ذكرها: إطلاق اسم الصنم على كل صورة سواء كانت مجسدة وغير مجسدة، وسواء كانت تامة أو ناقصة إذا كان فيها رأس.

التاسعة عشرة: أن صناعة التصوير من الكبائر.

العشرون: تكفير المصورين، والمراد به - والله أعلم - كفر دون كفر، إلا في ثلاث صور فإنه يكون كفرًا أكبر:

الأولى: أن يصنع الصور ليعبدها غيره، ومن عبادتها رجاء جلب النفع أو دفع الضر منها، ولقد ذُكِر لنا أن بعض السفهاء في بعض البلاد المجاورة كانوا يمشون في الأسواق بصورة أحد الفراعنة في زماننا يبيعونها وينادون عليها: مَن يشتري صورةً تحفظه في بيته بثمن قليل أو كلمة نحوها، وهذا هو الشرك الأكبر.

الثانية: مَن يستحل صناعتها مع اعتقاده للتحريم؛ لأن من استحل محرمًا فقد كفر.

الثالثة: مَن يصنعها قاصدًا بذلك مضاهاة الباري تبارك وتعالى والله سبحانه وتعالى أعلم.

* * *

ص: 80

فصل

والتصوير من الكبائر كما تقدم بيان ذلك في مواضع متعددة، ومع هذا فقد تلاعَب الشيطان بكثير من المسلمين والمنتسبين إلى الإسلام وفتنهم بصناعة التصاوير واتخاذها، فأطاعوه وعصوا الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.

وقد حذر الله تبارك وتعالى عباده من طاعة الشيطان بأبلغ التحذير؛ فقال - تعالى -: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر: 6].

وقال - تعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [النور: 21].

وصناعة التصاوير واتخاذها من أعظم المنكر الذي يأمر به الشيطان ويرضاه، والآيات في التحذير من طاعة الشيطان كثيرة.

وكذلك قد حذر تبارك وتعالى من معصيته ومعصية رسوله صلى الله عليه وسلم بأبلغ التحذير، وأخبر أن ذلك ضلال عن طريق الهدى؛ فقال - تعالى -:{وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُبِينًا} [الأحزاب: 36]، وقال - تعالى -:{وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} [النساء: 14]، والآيات في هذا المعنى كثيرة جدًّا.

ومن معصية الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وتعدي حدود الله - تعالى - صناعة

ص: 81

التصاوير واتخاذها، فليحذر المصورون من الإصرار على محادة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فقد قال الله - تعالى -:{أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 63].

وقد تقدم النص على أن التصوير من أظلم الظلم، وقد قال الله - تعالى -:{وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} [الشعراء: 227]، وقال - تعالى -:{أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ} [الشورى: 45].

وتقدم أيضًا النص على أن كل مصور في النار، وأنه يجعل له بكل صورة صورها نفس فيعذب بها في جهنم، وتقدم أيضًا النص على أن المصورين أشد الناس عذابًا يوم القيامة.

فاتقوا الله أيها المضاهون بخلق الله، ولا تغترُّوا بحلم الله وإمهاله؛ فإنه يمهل ولا يهمل فاحذروا أخذه وعقوبته، ففي الصحيحين عن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله ليملى للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته))، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم:{وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود: 102].

* * *

فصل

وكما أن المصور ملعون ومتوعَّد بالنار في الدار الآخرة فكذلك من أمر بالتصوير أو طلبه أو رضي به؛ لأن الآمر والطالب كالمباشر، والراضي بالذنب كفاعله.

والدليل على هذا قول الله - تعالى -: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ

ص: 82

أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ} [النساء: 140].

وقد رُوِي عن عمر بن عبدالعزيز - رحمه الله تعالى - أنه رُفِع إليه قوم شربوا خمرًا فأمر بجلدهم فقيل له: إن فيهم صائمًا، فقال ابدؤوا به، أما سمعتم الله - تعالى - يقول:{وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ} [النساء: 140].

فاستدلَّ عمر بن عبدالعزيز - رحمه الله تعالى - بهذه الآية الكريمة على أن الراضي بالذنب كفاعله، واعتبر الجلوس مع العصاة رضًا بأعمالهم.

وقد ذكر عبدالله بن الإمام أحمد في "زوائد الزهد" عن عبدالله بن شميط، عن أبيه، كان يقول: مَن رضي بالفسق فهو من أهله.

قال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية - رحمه الله تعالى -: مَن حضر المنكر باختياره ولم ينكره فقد عصى الله ورسوله بترك ما أمره به من بغض المنكر وإنكاره والنهي عنه، وإذا كان كذلك فهذا الذي يحضر مجالس الخمر باختياره من غير ضرورة ولا ينكر المنكر كما أمر الله هو شريك الفُسَّاق في فسقهم فيلحق بهم.

قلت: ومثله مَن يحضر مواضع التصوير باختياره ولا ينكر على المصورين فهو شريكهم في ظلمهم وإثمهم.

وقد روى أبو داود الطيالسي في "مسنده" ومسلم في "صحيحه" والبخاري

ص: 83

في "التاريخ الكبير" عن أم سلمة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((يُسْتَعمل عليكم أمراء فتعرفون وتنكرون، فمَن كره فقد برئ، ومَن أنكر فقد سلم، ولكن مَن رضي وتابع))، وفي هذا الحديث دليل على أن الراضي بالذنب كفاعله.

ومما يدل على ذلك أيضًا ما أخبر الله به عن ثمود أنهم عقروا الناقة، وإنما كان الذي عقرها واحدًا منهم والباقون أقرُّوه ورضوا بفعله فصاروا شركاءه في الإثم والعقوبة؛ قال الله - تعالى -:{كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا * إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا * فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا * فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا * وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا} [الشمس: 11 - 15].

قال عبدالواحد بن زيد قلت للحسن: يا أبا سعيد، أخبرني عن رجل لم يشهد فتنة ابن المهلب إلا أنه رضي بقلبه، قال: يا ابن أخي، كم يد عقرت الناقة؟ قال: قلت: يد واحدة، قال: أليس قد هلك القوم جميعًا برضاهم وتمالئهم؟ رواه الإمام أحمد في "الزهد".

إذا عُلِم هذا فقد يزعم بعض الناس أنه ممن يكره التصوير وينكره، فإذا أراد سفرًا إلى بعض البلاد المجاورة أو ما وراءها من الممالك الأجنبية جاء إلى المصور طائعًا مختارًا وطلب منه أن يصور صورته في كتاب جوازه.

ص: 84

وكذلك إذا عرض لبعض الناس وظيفة لا تحصل له إلا بالتصوير فإنه يأتي إلى المصور طائعًا مختارًا ويطلب منه أن يصور صورته، وهذا ينافي ما يزعمونه من كراهة التصوير وإنكاره، ومن أمكن من تصوير نفسه طائعًا مختارًا فقد رضي بالتصوير وتابَع عليه شاء أم أبى، فيكون شريكًا للمصور فيما يلحقه من اللعنة والعذاب، عياذًا بالله من موجبات غضبه وأليم عقابه.

ثم إن بعض الناس يفتي نفسه أو يفتيه بعض المنتسبين إلى العلم ممن لا تحقيق عندهم بأنه لا بأس بطلب التصوير لِمَن كان سفره أو توظيفه متوقفًا على التصوير، ويعللون ذلك بأنه في حكم المُلْجَأ إلى التصوير، وليس الأمر كما يظنون، ومَن طلب التصوير وأفتى نفسه بهذه الفتيا فقد جمع بين أمرين عظيمين؛ أحدهما: استحلال المحرم بالشبه الباطلة، والثاني: القول على الله بغير علم.

ومَن أفتى غيره بهذه الفتيا فقد أحل له ما حرمه الله - تعالى - على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم وعلى المفتي بذلك أثم العاملين بفتياه؛ لقول الله - تعالى -: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} [النحل: 25].

ص: 85

وفي "سنن أبي داود" وابن ماجه و"مستدرك الحاكم" عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مَن أُفْتِي بغير علم كان أثمه على مَن أفتاه)) هذا لفظ أبي داود، ولفظ ابن ماجه:((مَن أُفْتِي بفتيا غير ثَبْت فإنما إثمه على مَن أفتاه))، ورواه الحاكم باللفظين جميعًا.

ورواه البخاري في "الأدب المفرد" بنحو رواية ابن ماجه، قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ولا أعرف له علة، ووافقه الحافظ الذهبي في "تلخيصه".

والقول بأنه في حكم المُلْجَأ قول باطل؛ لأن المُلْجَأ مَن يؤتى به قهرًا ويُوقَف للتصوير بغير اختياره، فأما مَن يأتي بنفسه طائعًا مختارًا طالبًا لتصوير فهذا لا شك في رضاه بالتصوير باختياره، ويقف أمام المصور مقرًّا له على تصويره، فكلٌّ منهما شريك للمصور فيما يلحقه، والله أعلم.

وقد روى ابن بطة بإسناد جيد عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا ترتكبوا ما ارتكب اليهود فتستحلُّوا محارم الله بأدنى الحِيَل))، ويُسْتَثنى مما ذكرنا مَن يكون مريضًا مرضًا مخيفًا ولم يوجد له علاج إلا في الخارج، فهذا قد يقال: إنه في حكم المُلْجَأ

ص: 86

إلى التصوير؛ لأنه يخشى على نفسه، ويُسْتَثنى من ذلك أيضًا مَن يكون له مال كثير في الخارج ولا يتمكَّن من أخذه إلا بالسفر فهذا قد يقال: إنه في حكم الملجأ إلى التصوير؛ لأنه يخشى من ضياع ماله الخطير، والله أعلم.

* * *

فصل

وقد عظمت البلوى في زماننا بصناعة التصاوير واتخاذها، واستحلَّ ذلك كثير من المسلمين، فضلاً عن المنتسبين إلى الإسلام وغيرهم من أمم الكفر والضلال، فلا ترى صحيفة ولا مجلة إلا وهي مملوءة بالتصاوير، وكذلك كثير من الدكاكين والمجالس، ولا سيما المجالس الرسمية فقد نصبت فيها تصاوير الكبراء، ومَن أراد سفر إلى البلاد المجاورة أو ما وراءها من الممالك الأجنبية فإنه لا يمكن من السفر إلا بعد أخذ صورته ووضعها في كتاب جوازه، وكذلك لا يكتب لأحد جنسية إلا بصورته.

وكذلك لا يُمَكَّن أحد من العمل عند الشركات الأجنبية إلا بصورته، وكذلك لا يُعْطَى أحد رخصة القيادة للسيارة إلا بصورته، والسُّرَّاق وأصحاب الجرائم يصوَّرون.

وغالب الموظفين لا يوظفون إلا بصورة، حتى إن دائرة المعارف - وهي في الحقيقة دائرة المجاهل - يأمرون بتصوير المعلمين والمتعلمين،

ص: 87

ويأمرون التلاميذ بالتصوير، ويجعلونه قسمًا من أقسام دروسهم، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

وكل ما يفعله المسلمون وغيرهم مما ذكرنا هاهنا، وما لم نذكره فإنما هو محض التشبُّه بأعداء الله - تعالى - واتباع سننهم حذو النعل بالنعل.

وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((مَن تشبه بقوم فهو منهم))؛ رواه الإمام أحمد وأبو داود من حديث عبدالله بن عمر رضي الله عنهما وصححه ابن حبان.

وقال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية - رحمه الله تعالى -: إسناده جيد.

وفي "جامع الترمذي" من حديث عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ليس منَّا مَن تشبه بغيرنا، لا تشبهوا باليهود ولا بالنصارى)).

* * *

فصل

ومن الناس مَن يستحلُّ صناعة التصوير المحرم واتخاذ الصور المحرمة بأنواع من الشُّبَه الباطلة؛ فمن ذلك قول بعضهم: إن التصوير مكروه لا محرم، وعلَّلوا ذلك بعلة باطلة سيأتي ذكرها قريبًا - إن شاء الله تعالى - وهذه الشبهة قديمة، وقد ذكرها ابن دقيق العيد في "شرح العمدة" وبالغ في ردها.

قال في شرح حديث عائشة رضي الله عنها: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجدًا، وصوروا

ص: 88

فيه تلك الصور، فأولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة))؛ متفق عليه، فيه دليل على تحريم مثل هذا الفعل، وقد تضافرت دلائل الشريعة على المنع من التصوير والصور.

ولقد أبعد غاية البعد مَن قال: إن ذلك محمول على الكراهة، وأن هذا التشديد كان في ذلك الزمان؛ لقرب عهد الناس بعبادة الأوثان وهذا الزمان حيث انتشر الإسلام وتمهَّدت قواعده لا يساويه في هذا المعنى فلا يساويه في هذا التشديد هذا أو معناه، وهذا القول عندنا باطل قطعًا؛ لأنه قد ورد في الأحاديث الأخبار عن أمر الآخرة بعذاب المصورين، وأنهم يقال لهم: أحيوا ما خلقتم، وهذه علة مخالفة لما قاله هذا القائل وقد صرح بذلك في قوله عليه الصلاة والسلام:((المشبهون بخلق الله))، وهذه علة عامة مستقلة مناسبة لا تخص زمانًا دون زمان، وليس لنا أن نتصرف في النصوص المتظاهرة المتضافرة بمعنى خيالي يمكن أن يكون هو المراد مع اقتضاء اللفظ التعليل بغيره وهو التشبه بخلق الله.

قلت: وأكثر الأحاديث التي تقدم ذكرها تردُّ هذه الشبهة أيضًا، وقد ذكرت ما فيها من الدلالة على التحريم في مواضع كثيرة ولله الحمد والمنة، وأذكر هاهنا ما لم يذكره ابن دقيق العيد.

فمن ذلك قوله في الحديث القدسي: "ومَن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي"، وهذا لفظ عام يقتضي تحريم التصوير في كل زمان، والعلة فيه المضاهاة بخلق الله - تعالى - وهي علة عامة مستقلة لا تخص زمانا دون زمان،

ص: 89

ووصفه تبارك وتعالى للمصورين بارتكاب أعظم الظلم يقتضي العموم لكل مصور في كل زمان ومكان.

ومن ذلك لعن المصورين على الإطلاق، وذلك مما يقتضى تحريم التصوير على العموم في كل زمان.

ومن ذلك الأمر بطمس الصور على العموم، وذلك مما يقتضى تحريم التصوير في كل زمان.

ومن ذلك قوله: ((مَن عاد إلى صنعة شيء من هذا فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم)، وهذا يعمُّ كلَّ زمان من وقت هذا القول إلى قيام الساعة، وفي هذا الحديث من التشديد في التصوير وتغليظ تحريمه ما ليس في غيره من الأحاديث، والله أعلم.

* * *

فصل

ومن الشبه الباطلة أيضًا فتيا بعض العصريين بإباحة حضور السينما لرؤية ما يُصَوَّر فيها من ساحات القتال، وحجَّته أن ذلك مما يبعث على الشجاعة والإقدام على القتال، وهذه حجة داحضة، والجواب عنها من وجوه:

أحدها: أن السينما من أنواع السحر التخييلي بل هي أخبث منه؛ لأن كل ما يأتيه به أصحاب السحر التخييلي يمكن الإتيان به فيها وزيادة، والسحر لا يجوز تعاطيه ولا الحضور عند مَن يعمله، وهكذا الأمر في السينما فلا يجوز عملها ولا الحضور عندها؛ لأن الحضور عندها بدون

ص: 90

تغيير دليل على الرضا بالسحر، والراضي بالذنب كفاعله.

الثاني: أن الحضور عند السينما دليلٌ على الرضا بما رُكِّب فيها من صور الآدميين والحيوانات، والراضي بالصور شريك للمصورين كما تقدم تقرير ذلك.

الثالث: أن الإفتاء بجواز حضور السينما يتضمن رد الأحاديث الدالة على تحريم التصوير والمنع من اتخاذ الصور ومشروعية طمسها، ومَن أفتى بخلاف الأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم فهو إما جاهل ضال، وإما معاند مشاق للرسول صلى الله عليه وسلم وعلى كلا التقديرين فعليه إثم العاملين بفتياه؛ لقول الله - تعالى -:{لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} [النحل: 25].

ولما رواه أبو داود وابن ماجه في سننيهما والبخاري في "الأدب المفرد" والحاكم في "مستدركه" عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مَن أُفْتِي بفتيا غير ثبت فإنما إثمه على مَن أفتاه))؛ قال الحاكم صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ولا أعرف له علة، ووافقه الذهبي في "تلخيصه".

الرابع: أن الحضور عند السينما لرؤية ما فيها من الصور مخالف لهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وموافق لهدي النصارى والمشركين، فأما هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد تقدم أنه لم يدخل الكعبة حتى محيت الصور منها.

وتقدم أيضًا أنه صلى الله عليه وسلم رجع عن دخول بيت علي رضي الله عنه -

ص: 91

لما رأى فيه سترًا تصاوير.

وتقدم أيضًا أنه لما رأى نمرقة عائشة رضي الله عنها وقف بين البابين ولم يدخل.

وتقدم أيضًا ما رُوِي عن عمر رضي الله عنه أنه امتنع من دخول الكنيسة من أجل الصور.

وتقدم أيضًا ما روي عن ابن مسعود وأبي مسعود رضي الله عنهما في ذلك، وكفى بالخليفة الراشد عمر رضي الله عنه قدوة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعد أبي بكر الصديق رضي الله عنه.

وقد روى الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه من حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((اقتدوا باللذَين من بعدي؛ أبي بكر، وعمر))؛ قال الترمذي: هذا حديث حسن.

وله أيضًا من حديث ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه.

وأما النصارى والمشركون فقد كانوا مفتونين بصناعة التصاوير واتخاذها والنظر إليها كما تقدم بيان ذلك، وعلى هذا فالمتَّخذون للسينما والحاضرون عندها لرؤية ما فيها من الصور كلهم منحرفون عن هَدْي رسول الله صلى الله عليه وسلم ومتشبِّهون بالنصارى والمشركين ومَن تشبه بقوم فهو منهم.

الوجه الخامس: أن يقال: ليس كل ما بعث على الشجاعة والإقدام يكون جائزًا، بل يُنْظَر في الشيء فإن كان مما لا بأس به فالتدريب به

ص: 92

على الشجاعة والإقدام جائز وقد يكون مندوبًا إليه؛ كالمسابقة على الخيل، وتعلم الرمي، وغير ذلك من القُوَى الحربية الحادثة في هذه الأزمان.

وإن كان مما به بأس فالتدريب به غير جائز، وقد يكون محرمًا شديد التحريم؛ كالخمر فقد قيل: إنها تبعث على الشجاعة والإقدام؛ كما قال حسان بن ثابت رضي الله عنه:

وَنَشْرَبُهَا فَتَتْرُكُنَا مُلُوكًا وَأُسْدًا مَا يُنَهْنِهُنَا اللِّقَاءُ

ومع هذا فشربها حرام على كل حال.

ومن هذا الباب حضور السينما فإنه حرام على كل حال سواء كان باعثًا على الشجاعة والإقدام أو لم يكن؛ لأن الحضور عندها دليل على الرضا بما فيها من المضاهاة بخلق الله، ودليل على الرضا بما فيها من السحر، ودليل على الرضا بما يُمَثَّل فيها من أنواع الفسوق والعصيان، وقد ذكرت مرارًا أن مَن رضي بشيء من المعاصي فهو شريك لصاحب المعصية، وذكرت الدليل على ذلك قريبًا فليراجع.

* * *

فصل

ومن الشُّبَه الباطلة أيضًا قول بعض العصريين أن المحرم التصوير المنقوش باليد فأما المأخوذ بالآلة الفوتوغرافية فلا، وهذه الشبهة من أغرب الشُّبَه وفيها دليل على حماقة قائلها وكثافة جهله.

ومثلها لا يحتاج إلى جواب؛ لظهور بطلانها لكل عاقل فضلاً عمن له أدنى علم ومعرفة، ولو قال قائل: إنه لا يحرم من الخمر إلا ما اعتصر

ص: 93

بالأيدي فقط فأما ما اعتصر بالآلات المعدَّة للاعتصار فلا يحرم وإن كان أشد إسكارًا مما اعتصر بالأيدي لما كان بين قوله وبين قول صاحب هذه الشبهة فرقٌ؛ لأن كلاًّ منهما قد حرم شيئًا وأباح ما هو أعظم من جنسه وما هو أولى بالتحريم والمنع مما حرمه.

وقد ذكرت قريبًا أن علة تحريم التصوير هي المضاهاة بخلق الله - تعالى - كما يدل على ذلك حديث أبي هريرة وحديث عائشة رضي الله عنهما وهذه العلة تشمل كلَّ تصوير سواء كان منقوشًا بالأيدي أو مأخوذًا بالآلة الفوتوغرافية، وكلما كان التصوير أقرب إلى مشابهة الحيوانات فهو أشد تحريمًا؛ لما فيه من مزيد المضاهاة بخلق الله - تعالى.

ولا يخفى على عاقل أن التصوير الفوتوغرافية هو الذي يطابق صور الحيوانات غاية المطابقة بخلاف التصوير المنقوش بالأيدي فإنه قد لا يطابقها من كل وجه، وعلى هذا فيكون التصوير بالآلة الفوتوغرافية أشد تحريمًا من التصوير المنقوش بالأيدي، والله أعلم.

* * *

فصل

ومن الشبه الباطلة أيضًا قول مَن قال: إن المحرم تصوير ماله ظل وهي الصور المجسمة، فأما ما لا ظل له؛ كالمنسوج في الثياب ونحوها، وكالمنقوش في القراطيس والحيطان والأواني والآلات وغيرها فهذا لا بأس به، وهذا قول باطل وتفريق لا دليل عليه.

ص: 94

وقد تقدم ردُّه في مواضع كثيرة عند ذكر فوائد الأحاديث في تحريم التصوير، وذكرت هناك كلام النووي وابن حجر العسقلاني في ردِّه.

وذكرت أيضًا كلام الخطابي وابن بطال في التسوية بين الصور المجسمة وغير المجسمة.

والأدلة على بطلان هذه الشبهة كثيرة:

منها حديث أبي هريرة رضي الله عنه في قصة امتناع جبريل عليه السلام من دخول بيت النبي صلى الله عليه وسلم من أجل الستر الذي فيه التصاوير، ثم أمر أن تقطع رؤوسها أو يجعل الستر بساطًا يُوطَأ ويُمْتَهن.

ومنها إنكار النبي صلى الله عليه وسلم على عائشة رضي الله عنها نصب الستر الذي فيه التماثيل وهتكه إياه بيده الكريمة.

ومنها إنكاره صلى الله عليه وسلم على علي رضي الله عنه وخروجه من بيته لما رأى فيه سترًا فيه تصاوير.

ومنها أمره صلى الله عليه وسلم بمحو الصور التي في الكعبة، ومحوه لبعضها بيده الكريمة، وهي صور منقوشة في حيطان الكعبة وأعمدتها؛ ويدل على ذلك أنه صلى الله عليه وسلم دعا بدلو من ماء فجعل يبل ثوبًا معه ويضرب به على الصور.

ومنها قول عائشة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يترك في بيته شيئًا فيه تصاليب - وفي بعض الروايات تصاوير - إلا نقضه.

ومنها إنكار أبي هريرة رضي الله عنه على المصور الذي يصور في حيطان دار مروان بن الحكم، واستدلاله على المنع بالحديث القدسي.

ومنها إنكار مسروق للتماثيل التي في دار يسار بن نمير، واستدلاله

ص: 95

على التحريم بحديث عبدالله بن مسعود رضي الله عنه.

ومنها حديث علي رضي الله عنه في الأمر بطمس الصور كلها.

وكل هذه الأحاديث قد تقدمت ولله الحمد والمنة فلتراجع ففيها كفاية في رد هذه الشبهة، بل كل حديث منها يكفي وحده في ردها، والله الموفق.

* * *

فصل

ومما يتشبَّث به المفتونون بصناعة التصاوير واتخاذها ما ذكره كثيرٌ من الفقهاء أنه إذا فرق بين رأس الصورة وجسدها فقد زال المحذور، وكذلك إذا قطع من الصورة ما لا يبقى الحيوان بعد ذهابه كصدره أو بطنه وكذلك إذا كانت الصورة رأسًا بلا جسد.

وقد تقدم رد هذه الشبهة بما أغنى عن إعادته هاهنا، وبينت هناك أن المحذور كله في تصوير الرأس، وأنه يجب تغييره ولا يجوز إبقاؤه مع القدرة على إزالته.

* * *

فصل

ومن أقوى ما يتعلَّق به المصورون ومَن يفتيهم قوله في حديث أبي طلحة وسهل بن حنيف رضي الله عنهما إلا رقمًا في ثوب.

والجواب أن يقال: ليس في هذا الاستثناء ما يدل على جواز صناعة الصور أصلاً، وغاية ما فيه أنه يدل على جواز اتخاذ الثياب

ص: 96

والستور التي فيها الصور، وفي هذا خلاف تقدم ذكره بعد سياق حديث أبي طلحة وسهل بن حنيف رضي الله عنهما.

وقد بيَّنت هناك أن قول المجيزين مرجوح، وأن النهي عن اتخاذ التصاوير عام إلا ما كان في بساط ومخدة ونحوهما مما يداس ويمتهن، فهذا مخصوص من العموم.

كما تدل على ذلك الأحاديث الصحيحة عن عائشة رضي الله عنها وحديث أبي هريرة رضي الله عنه في قصة جبريل عليه السلام.

وأما تحريم صناعة الصور والنهي عن ذلك والتشديد فيه فعمومه محفوظ لم يدخله تخصيص أصلاً، والله أعلم.

* * *

فصل

ومن أقوى ما يتعلق به المصورون أيضًا حديث عائشة رضي الله عنها قالت: كنت ألعب بالبنات عند النبي صلى الله عليه وسلم وكان لي صواحب يلعبن معي فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل ينقمعن منه فيسر بهن إلي فيلعبن معي؛ رواه الشافعي وأحمد والشيخان وأهل السنن إلا الترمذي.

وفي رواية لمسلم: كنت ألعب بالبنات في بيته وهن اللعب.

وعنها رضي الله عنها قالت: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك أو خيبر وفي سهوتها ستر فهبت ريح فكشفت ناحية الستر عن بنات لعائشة لعب فقال: ((ما هذا يا عائشة؟))، قالت: بناتي، ورأى بينهن فرسًا له جناحان من رقاع فقال:((ما هذا الذي أرى وسطهن))، قالت: فرس، قال: ((وما

ص: 97

هذا الذي عليه))، قالت: جناحان، قال:((فرس له جناحان!))، قالت: أما سمعت أن لسليمان خيلاً لها أجنحة، قالت: فضحك حتى رأيت نواجذه؛ رواه أبو داود والنسائي.

قال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري": استدلَّ بهذا الحديث على جواز اتخاذ صور البنات واللعب من أجل لعب البنات بهن، وخص ذلك من عموم النهي عن اتخاذ الصور، وبه جزم عياض ونقله عن الجمهور، وأنهم أجازوا بيع اللعب للبنات؛ لتدريبهن من صغرهن على أمر بيوتهن وأولادهن.

قال: وذهب بعضهم إلى أنه منسوخ، وإليه مال ابن بطال وحكى عن بن أبي زيد عن مالك أنه كره أن يشتري الرجل لابنته الصور، ومن ثم رجح الداودي أنه منسوخ وقال البيهقي بعد تخريجه: ثبت النهي عن اتخاذ الصور فيحمل على أن الرخصة لعائشة في ذلك كان قبل التحريم وبه جزم ابن الجوزي، وقال المنذري: إن كانت اللعب كالصورة فهو قبل التحريم، وإلا فقد يسمى ما ليس بصورة لعبة وبهذا جزم الحليمي فقال: إن كانت صورة كالوثن لم يَجُزْ وإلا جاز، انتهى المقصود مما ذكره ابن حجر - رحمه الله تعالى.

وأحسن هذه الأقوال وأقربها إلى الصواب قول المنذري والحليمي، وأما ما جزم به عياض وغيره من جواز اتخاذ صور البنات وأن ذلك مخصوص من عموم النهي عن اتخاذ الصور فإنه قول مردود،

ص: 98

والجواب عنه من وجوه:

أحدها: أنه ليس في حديث عائشة رضي الله عنها تصريح بأن لعبها كانت صورًا حقيقة، وبانتفاء التصريح بأنها كانت صورًا حقيقة ينتفي الاستدلال بالحديث على جواز اتخاذ اللعب من الصور الحقيقة، ومَن ادَّعى أن لعب عائشة رضي الله عنها كانت صورًا حقيقة فعليه إقامة الدليل على ذلك، ولن يجد إلى الدليل سبيلاً.

وأما تسمية اللعب بنات كما في حديث عائشة رضي الله عنها فلا يلزم منه أنها كانت صورًا حقيقة، كما قد يظن ذلك مَن قصر فهمه، بل الظاهر - والله أعلم - أنها كانت على نحو لعب بنات العرب في زماننا فإنهن يأخذن عودًا أو قصبة أو خرقة ملفوفة أو نحو ذلك فيضعن قريبًا من أعلاه عودًا معترضًا ثم يلبسنه ثيابًا ويضعن على أعلاه نحو خمار المرأة، وربما جعلته على هيئة الصبي في المهد، ثم يلعبن بهذه اللعب ويسمينهن بنات لهن على وَفْق ما هو مرويٌّ عن عائشة وصواحباتها رضي الله عنهن.

وقد رأينا البنات يتوارثن اللعب بهذه اللعب اللاتي وصفنا زمانًا بعد زمان، ولا يبعد أن يكون هذا التوارث قديمًا ومستمرًّا في بنات العرب من زمن الجاهلية إلى زماننا هذا، والله أعلم.

وليس كل بنات العرب في زماننا يلعبن باللعب اللاتي وصفنا، بل كثير منهن يلعبن بالصور الحقيقة من صور البنات وغير البنات من

ص: 99

أنواع الحيوانات، وهؤلاء هن اللاتي دخلت عليهن وعلى أهليهن المدنية الإفرنجية وكثرت مخالطتهم للأعاجم وأشباه الأعاجم.

وأما السالمات من أدناس المدنية الإفرنجية ومن مخالطة نساء الأعاجم وأشباه الأعاجم فهؤلاء لم يزلن على طريقة بنات العرب، ولعبهن على ما وصفنا من قبل، وكما أن بين لعب هؤلاء ولعب أولئك بونًا بعيدًا في الحقيقة والشكل الظاهر فكذلك الحكم فيهما مختلف أيضًا.

فأما اللعب اللاتي على ما وصفنا فلا بأس بعملهن واتخاذهن واللعب بهن؛ لأنهن لسن بصور حقيقية، وأما اللعب اللاتي على صور البنات وأنواع الحيوانات فصناعتهن حرام، وبيعهن حرام، وشراؤهن واتخاذهن حرام، والتلهِّي بهن حرام، وإتلافهن واجب على مَن قدر على ذلك؛ لأنهن من الأصنام وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بطمس الأصنام كما تقدم في حديث علي رضي الله عنه.

والقول في الفرس الذي كان مع لعب عائشة رضي الله عنها كالقول في لعبها سواء، ومَن ادعى أنها كانت صورة حقيقة لها رأس ووجه فعليه إقامة الدليل على ذلك، ولن يجد إليه سبيلاً.

والظاهر - والله أعلم - أنها على نحو لعب صبيان العرب في زماننا فإنهم يأخذون العظم ونحوه ويجعلون عليه شبه الإكاف ويسمونه حمارًا وربما سموه فرسًا، ويأخذون أيضًا من كرب النخل ويغرزون في ظهر كل واحدة عودين كهيئة عودي الرحل، ثم يضعون بينهما شبه ما يوضع

ص: 100

على النجائب من الأخراج وغيرها، ويجعلون لها مقودًا يقودونها به، وربما اتخذوا ذلك من خشبة منجورة في أعلاها مثل السنام وبين يديه ومن خلفه عودان كهيئة عودي الرحل، يُوضَع بينها شبه ما يُوضَع على النجائب ومن أمامها عودٌ كهيئة الرقبة يوضع فيه المقود، ولها أربع عجلات تمشى عليهن، ويسمون هذه اللعب والتي قبلها إبلاً، وليست هذه اللعب من الصور المحرمة في شيء والنسبة بينها وبين الصور الحقيقة بعيدة جدًّا، ومما يدل على أن الفرس كان على نحو لعب صبيان العرب ولم يكن صورة حقيقة أن النبي صلى الله عليه وسلم لما رآه سأل عائشة رضي الله عنها:((ما هذا؟))، فقالت: فرس، ولو كان صورة حقيقية لعرفه النبي صلى الله عليه وسلم من أول وهلة ولم يحتج إلى سؤال عائشة عنه، وكذلك سؤاله صلى الله عليه وسلم عن اللعب يدل على أنها لم تكن صورًا حقيقة، ولو كانت صورًا حقيقية لم يحتج إلى السؤال عنها، والله أعلم.

الوجه الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم أنكر على عائشة رضي الله عنها نصب الستر الذي فيه الصور وتلوَّن وجهه لما رآه، ثم تناوله بيده الكريمة فهتكه، وقد تقدمت الأحاديث بذلك، وهذا يدل على أن لعب عائشة رضي الله عنها لم تكون صورًا حقيقة، ولو كانت صورًا حقيقة لكانت أَوْلَى بالتغيير من الصور المرقومة في الستر؛ لأن الصور المجسدة أقرب إلى مشابهة الحيوانات وأبلغ في المضاهاة بخلق الله - تعالى - من الصور المرقومة فكانت أشد تحريمًا وأَوْلَى بالتغيير

ص: 101

من الصور المرقومة.

الوجه الثالث: ما تقدم من حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يترك في بيته شيئًا فيه تصاليب إلا نقضه وفي رواية إلا قبضه، وفي رواية تصاوير بدل تصاليب، وصيغة هذا الحديث تقتضي العموم؛ لأن "شيئًا" نكرة في سياق النفي فتعم كل تصليب وصورة، وهذا يدل على أن لعب عائشة رضي الله عنها لم تكن صورًا حقيقة، ولو كانت صورًا حقيقة لنقضها النبي صلى الله عليه وسلم كسائر التصاليب والصور.

الوجه الرابع: أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن الملائكة لا تدخل بيتًا فيه كلب ولا صورة وقد تقدمت الأحاديث بذلك، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أيضًا عن جبريل عليه السلام أنه أتاه ليلة فلم يدخل البيت من أجل كلب فيه، ومن أجل ما فيه من تمثال الرجال، ثم قال للنبي صلى الله عليه وسلم: مر بقطع رأس التمثال وإخراج الكلب، وهذا يدل على أن لعب عائشة رضي الله عنها لم تكن صورًا حقيقة، ولو كانت صورًا حقيقة لمنعت الملائكة من دخول بيتها، وما كان النبي صلى الله عليه وسلم ليترك في بيته شيئًا يمنع من دخول الملائكة فيه، فتعيَّن أن لعب عائشة رضي الله عنها لم تكن صورًا حقيقة، وإنما هي على نحو ما وصفته في الوجه الأول.

الوجه الخامس: ما تقدم من رواية عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم مكة أبى أن يدخل البيت وفيه الآلهة، فأمر بها فأخرجت.

ص: 102

وفي رواية: أنه صلى الله عليه وسلم لما رأى الصور في البيت لم يدخل حتى أمر بها فمُحِيَت، وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد امتنع من دخول الكعبة مرة واحدة من أجل ما فيها من الصور فكيف يُظَنُّ به أنه كان يدخل بيت عائشة رضي الله عنها في اليوم والليلة مرارًا متعددة وفيه الصور، فتعين أن لعب عائشة رضي الله عنها لم تكن صورًا حقيقة، وبهذا تجتمع الأحاديث وينتفي عنها التعارض.

والوجه السادس: ما تقدم من حديث أبي الهياج الأسدي قال: قال لي على رضي الله عنه: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا تدع تمثالاً إلا طمسته، ولا قبرًا مشرفًا إلا سويته، وفي رواية: ولا صورة إلا طمستها.

وفي رواية: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر عليًّا رضي الله عنه أن يُسَوَّى كل قبر ويُطْمَس كل صنم، والنكرة في هذا الحديث من صِيَغ العموم كما تقدم تقرير ذلك.

ويستفاد من هذا أن لعب عائشة رضي الله عنها لم تكن صورًا حقيقية، ولو كانت صورًا حقيقة لكانت داخلة في عموم ما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بطمسه، ولم يجئ عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا حرف واحد يقتضي استثناء لعب عائشة رضي الله عنها من هذا العموم، فتعين كونها من غير الصور الحقيقة.

الوجه السابع: ما تقدم من حديث علي رضي الله عنه أن رسول الله

ص: 103

- صلى الله عليه وسلم قال: ((مَن عاد لصنعة شيء من هذا فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم)، وفي هذا الزجر الأكيد أوضح دليل على تحريم اتخاذ الصور كلها، ولا فرق بين أن تكون لعبًا أو غير لعب.

وأكثر الأحاديث التي تقدم ذكرها تدل على ما دل عليه هذا الحديث من عموم تحريم الصنعة والاتخاذ لكل صورة من صور ذوات الأرواح، وعلى هذا فيتعين القول بأن لعب عائشة رضي الله عنها لم تكون صورًا حقيقية.

الوجه الثامن: أن التخصيص نوعٌ من النسخ؛ لكونه رفعًا لبعض أفراد الحكم العام بدليل خاص، والنسخ لا بُدَّ فيه من أمرين:

أحدهما: ثبوت دليل النسخ.

والثاني: تأخر تاريخه عن تاريخ المنسوخ، وإذا فرضنا إمكان ما زعمه عياض وغيره من تخصيص صور البنات من عموم النهي عن الصور بناءً على أن لعب عائشة رضي الله عنها كانت صورًا حقيقية فلا بُدَّ إذًا من إقامة الدليل على أن لعب عائشة رضي الله عنها كانت صورًا حقيقية.

ولا بُدَّ أيضًا من ثبوت التخصيص بأن يكون النبي صلى الله عليه وسلم رأى تلك الصور عند عائشة رضي الله عنها بعد نهيه العام عن الصور فأقرها على الاتخاذ، وإذا كان كل من الأمرين معدومًا فلا شك في بطلان ما زعمه عياض ومَن قال بقوله.

ص: 104

وقد قال المروذي في كتاب "الورع": (باب كراهة شراء اللعب وما فيه الصور) قيل لأبي عبدالله - يعني: الإمام أحمد بن حنبل -: ترى للرجل الوصي تسأله الصبية أن يشتري لها لعبة؟ فقال: إن كانت صورة فلا، وذكر فيها شيئًا، قلت: الصورة إذا كانت يدًا أو رجلاً فقال: عكرمة يقول: كل شيء له رأس فهو صورة، قال أبو عبدالله: فقد يصيرون لها صدرًا وعينًا وأنفًا وأسنانًا، قلت: فأحب إليك أن يجتنب شراءها؟ قال: نعم.

وقال الإمام أحمد أيضًا في رواية بكر بن محمد وقد سُئِل عن حديث عائشة رضي الله عنها كنت ألعب بالبنات، قال: لا بأس بلعب اللعب إذا لم يكن فيه صورة، فإذا كان فيه صورة فلا، وهذا نص من أحمد - رحمه الله تعالى - على منع اللعب باللعبة إذا كانت صورة.

وفي رواية المروذي: منع شراء الصورة للصبية.

وقد كان أحمد - رحمه الله تعالى - من أكثر الناس اتباعًا للسنة، ومن أعلمهم بأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقد روى في "مسنده" حديث عائشة رضي الله عنها أنها كانت تلعب باللعب عند النبي صلى الله عليه وسلم كما تقدم ذكره ذلك، ومع هذا فقد أفتى بما ذكر المروذي وبكر بن محمد عنه.

ولو ثبت عنده أن لعب عائشة رضي الله عنها كانت صورًا حقيقية وأنها مخصوصة من عموم النهي عن الصور لما أفتى بخلاف ذلك، هذا هو المعروف من حاله

ص: 105

- رضي الله عنه وشدة تمسُّكه بما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه - رضوان الله عليهم أجمعين.

وبما قررتُه في هذا الفصل يزول الإشكال عن لعب عائشة رضي الله عنها ويتبين الصواب لكل منصف مؤثر لاتباع السنة النبوية.

ويتبين أيضًا بطلان قول مَن أجاز اتخاذ اللعب من الصور المحرمة، والله سبحانه وتعالى أعلم.

وهذا آخر ما تيسر جمعه والحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه، ومَن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليمًا كثيرًا.

وقد وقع الفراغ من تسويد هذه النبذة في يوم الاثنين السادس عشر من شهر جمادى الأولى سنة 1382 هـ، ثم كان الفراغ من كتابة هذه النسخة في يوم السبت الخامس والعشرين من شهر رجب سنة 1382 هـ على يد كاتبها وجامعها الفقير إلى الله - تعالى - حمود بن عبدالله التويجري غفر الله له ولوالديه، ولجميع المسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.

ص: 106