المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌سورة الأنفال هي مدنية كلها، وهو الأصح كما في الخازن، وإن - تفسير القرآن الكريم وإعرابه وبيانه - الدرة - جـ ٤

[محمد علي طه الدرة]

الفصل: ‌ ‌سورة الأنفال هي مدنية كلها، وهو الأصح كما في الخازن، وإن

‌سورة الأنفال

هي مدنية كلها، وهو الأصح كما في الخازن، وإن كانت الآيات السبع المذكورة في شأن المؤامرة التي عقدها زعماء قريش ليلة الهجرة في مكة، إذ لا يلزم من كون الواقعة في مكة أن تكون الآيات التي في شأنها كذلك، فالآيات المذكورة، نزلت بالمدينة تذكيرا للنبي صلى الله عليه وسلم بما وقع في مكة.

وهي خمس وسبعون آية، وألف وخمس وسبعون كلمة، وخمسة آلاف، وثمانون حرفا، وانظر شرح الاستعاذة والبسملة وإعرابهما في أول سورة (الفاتحة).

بسم الله الرحمن الرحيم

بسم الله الرحمن الرحيم

{يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (1)}

الشرح: {الْأَنْفالِ} : الغنائم، جمع نفل بفتح النون والفاء، هذا والنّفل: الزيادة، ومنه نافلة الصلاة والصوم والحج، والصدقة التي يفعلها الإنسان المسلم زيادة على المكتوبات، وجمع النافلة: نافلات، ونوافل، هذا والنافلة العطية بدون مقابل كأنها مغنم، ومن هذا قوله سبحانه ممتنّا على إبراهيم عليه السلام {وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً} [الأنبياء: 72].

{لِلّهِ} : علم على الذات الواجب الوجود، المستحق لجميع المحامد، وهو اسم الله الأعظم، الذي إذا دعي به أجاب، وإذا سئل به أعطى، وإنما تخلفت الإجابة في بعض الأحيان عند الدعاء به؛ لتخلف شروط الإجابة التي أعظمها أكل الحلال.

{وَالرَّسُولِ} : المراد به هنا: محمد صلى الله عليه وسلم، هذا وتعريفه بالنسبة لجميع الرسل: هو ذكر، حر، من بني آدم، سليم عن منفر طبعا، أوحي إليه بشرع يعمل به، ويؤمر بتبليغه، وإن لم يؤمر بالتبليغ؛ فهو نبي، هذا والنبي مأخوذ من النبأ وهو: الخبر؛ لأنه يخبر عن ربه فيما أوحي إليه، وقيل: بل هو مأخوذ من النّبوة، وهو الارتفاع؛ لأنه رتبة النبي ارتفعت عن رتب سائر الخلق.

وانظر عدد الأنبياء والمرسلين، وما ذكرته بشأنهم في الآية رقم [163] (النساء). و [86] (الأنعام) تجد ما يسرك. {فَاتَّقُوا}: أمر من التقوى وهي حفظ النفس من العذاب الأخروي بامتثال

ص: 5

أوامر الله، واجتناب نواهيه؛ لأن أصل المادة من الوقاية، وهي الحفظ والتحرز من المهالك في الدنيا والآخرة، وانظر ما وصف الله به المتقين في أول سورة البقرة، هذا وأصل اتقوا:(اتّقيوا) فحذفت الضمة التي على الياء للثقل، ثم حذفت الياء لالتقاء الساكنين، ثم قلبت كسرة القاف ضمة لمناسبة واو الجماعة.

{ذاتَ} : مؤنث ذو، الذي هو بمعنى صاحب، وقد يثنى على لفظه، فيقال: ذاتا، أو ذاتي كذا، من غير رد لام الكلمة، وهو القياس، كما يثنى ذو بذوا، أو ذوي على لفظه، ويجوز فيها (ذواتا) على الأصل برد لام الكلمة، وهي الياء ألفا لتحرك العين، وهو الواو قبلها، وهو الكثير في الاستعمال، قال تعالى {ذَواتا أَفْنانٍ} وقال {ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ} وانظر الآية رقم [119] من آل عمران تجد ما يسرك. ومعنى {وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ} الحال التي بينكم أصلحوها بالمودة وترك النزاع، والمواساة والمساعدة فيما رزقكم، وتسليم الأمر لله ورسوله، هذا و «البين» يطلق على الوصال، والفراق، والبعاد، كما رأيت في الآية رقم [94] الأنعام. {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}: انظر الإيمان في الآية رقم [1] الأعراف. هذا؛ و «السؤال» في هذه الآية سؤال استفتاء: لأن هذا أول تشريع الغنيمة، و «سأل» تارة يكون لاقتضاء معنى في نفس المسئول، فيتعدى بعن، كهذه الآية، وقد يكون لاقتضاء مال، ونحوه، فيتعدى لاثنين، نحو سألت زيدا مالا.

تنبيه: سبب نزول الآية الكريمة وما بعدها اختلاف المسلمين في غنائم بدر: أنها كيف تقسم؟ ومن يقسم له: المهاجرون، أو الأنصار؟ وقيل: شرط رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن كان له عناء أن ينفله، فتسارع شبانهم إلى القتال حتى قتلوا سبعين رجلا من المشركين، وأسروا سبعين منهم، ثم طلبوا ما شرط لهم النبي صلى الله عليه وسلم من العطية، وكان المال المكتسب من المشركين قليلا، فقال الشيوخ، والوجوه الذين كانوا عند الرايات مرابطين: إنا كنا ردءا لكم، وفئة تنحازون إليها، فنزلت الآية الكريمة، فبينت: أن الغنائم لله ورسوله يجعلانها حيث شاءا، والله قد وكل إلى نبيه أمر تقسيمها، فهو يمتثل أمر الله فيها، فقسمها بينهم على السواء، وانظر الآية رقم [42] الآتية، فإنها ناسخة لحكم هذه الآية، وهذه الآية ناسخة لشرع من كان قبلنا؛ حيث كانت الغنائم محرمة عليهم، إذا هذه الآية ناسخة من وجه، ومنسوخة من وجه. تأمل، وتدبر، وربك أعلم.

الإعراب: {يَسْئَلُونَكَ} : فعل وفاعل ومفعول به، وفاعل السؤال يعود إلى معلوم، وهو من حضر بدرا. {عَنِ الْأَنْفالِ}: متعلقان بالفعل قبلهما، وهما المفعول الثاني، وقيل:{عَنِ} صلة، والأنفال مجرور لفظا، منصوب محلا، وأيد بقراءة سعد بن أبي وقاص، وابن مسعود، وعلي بن الحسين وغيرهم، رضي الله عنهم أجمعين «(يسألونك الأنفال)» بدون عن، والصحيح أن هذه القراءة على إرادة حرف الجر. انتهى. جمل، نقلا عن السمين، والجملة الفعلية ابتدائية لا محل لها. {قُلِ}: فعل أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» . {الْأَنْفالِ} : مبتدأ.

ص: 6

{لِلّهِ} : متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول، وجملة {قُلِ} إلخ مستأنفة لا محل لها. {وَالرَّسُولِ}: معطوف على لفظ الجلالة. {فَاتَّقُوا} : الفاء:

هي حرف عطف على رأي من يجيز عطف الإنشاء على الخبر، وابن هشام يعتبرها للسببية المحضة، وأراها وأمثالها الفصيحة. (اتقوا): أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق. {اللهَ}: منصوب على التعظيم، وجملة:{فَاتَّقُوا اللهَ} لا محل لها على جميع الوجوه المعتبرة في الفاء. {وَأَصْلِحُوا} : فعل وفاعل، والجملة معطوفة على ما قبلها.

{ذاتَ} : مفعول به منصوب، و {ذاتَ} مضاف و {بَيْنِكُمْ} مضاف إليه، والكاف في محل جر بالإضافة، وجملة {وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ} معطوفة على ما قبلها {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} انظر إعراب هذه الجملة في الآية رقم [14] التوبة، وجواب الشرط محذوف لدلالة ما قبله عليه، التقدير: إن كنتم مؤمنين فاتقوا الله

إلخ، أي: فإن الإيمان يقتضي أمورا ثلاثة، التقوى، وإصلاح ذات البين، وطاعة الله ورسوله.

{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2)}

الشرح: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ} أي: الكاملون في الإيمان. {وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} : فزعت لذكر الله، استعظاما له، وتهيبا من جلاله، وقيل: هو الرجل يهم بمعصية، فيقال له: اتق الله، فينزع عنها خوفا من عقابه. {وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً} أي: كلما جاءهم شيء من عند الله؛ آمنوا به، فيزدادون بذلك إيمانا وتصديقا، وذلك لاطمئنان النفس، ورسوخ اليقين بتظاهر الأدلة أو بالعمل بموجبها، وهو قول من قال: الإيمان يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية، وهو قول الأشاعرة، وهو الصحيح.

وقال الماتريدية: الإيمان التصديق، وهو لا يزيد ولا ينقص، وتأولوا ما ورد في ذلك بأن الزيادة إنما هي في المؤمن به، وقال الأشاعرة: الإيمان أربعة أقسام: يزيد وينقص، وهو إيمان الأمة إنسا وجنا، ولا يزيد ولا ينقص، وهو إيمان الملائكة على المشهور، ويزيد ولا ينقص، وهو إيمان الأنبياء، وينقص ولا يزيد، وهو إيمان الفساق، وقد احتجوا على ذلك بحجج نقلية وعقلية، فمن النقلية الآية وغيرها، وما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم:

الإيمان يزيد وينقص؟ قال: «نعم يزيد حتى يدخل صاحبه الجنة، وينقص حتّى يدخل صاحبه النار» . وقوله عليه الصلاة والسلام: «لو وزن إيمان أبي بكر بإيمان هذه الأمّة لرجح به» . قال اللقاني رحمه الله تعالى: [الرجز]

ورجّحت زيادة الإيمان

بما تزيد طاعة الإنسان

ص: 7

ونقصه بنقصها، وقيل: لا

وقيل: لا خلف كذا قد نقلا

وانظر ما ذكرته في الآية رقم [125] التوبة و [126] منها تجد ما يسرك، وكذلك الآية رقم [67] المائدة. وجملة القول إن الإيمان هو التصديق، وإن النطق بالشهادتين شرط لإجراء الأحكام الدنيوية، وإن الإيمان يزيد، وينقص كما هو التحقيق نتيجة لأعمال الفرد. وانظر شرح (زاد) في الآية رقم [68] الأنعام، {وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ}: يفوضون أمورهم، ولا يخشون ولا يرجون إلا إياه. وانظر شرح {رَبِّكُمْ} في الآية رقم [3] الأعراف. {وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ}: انظر الآية رقم [62] الآتية.

تنبيه: ذكر الله في هذه الآية: أن المؤمنين يخافون الله عند ذكره، وذكر في قوله:{الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ} والجمع بين الآيتين: أن الخوف يكون من ذكر عقابه، والاطمئنان يكون بذكره بصفات الجمال، فينشرح الصدق بنور المعرفة، ويطمئن القلب بقوة اليقين، وهذا مقام الخوف والرجاء، وقد جمعا في آية واحدة {اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللهِ} والمعنى: تقشعر جلودهم من خوف عقاب الله، ثم تلين جلودهم وقلوبهم عند ذكر الله رجاء ثوابه.

قال القرطبي-رحمه الله تعالى-فهذه حالة العارفين بالله، الخائفين من سطوته وعقابه، لا كما يفعله جهال العوام، والمبتدعة الطغام من الزعيق والزئير، ومن النهاق الذي يشبه نهاق الحمير، فيقال لمن تعاطى ذلك، وزعم: أن ذلك وجد وخشوع، لم تبلغ أن تساوي حال الرسول، ولا حال أصحابه في المعرفة بالله والخوف منه، والتعظيم لجلاله، ومع ذلك فكانت حالهم عند المواعظ الفهم عن الله، والبكاء خوفا من الله. انتهى. وانظر الآية رقم [35].

تنبيه: فإذا كانت الآية الكريمة قد أفادت: أن إيمان الصحابة كان يزداد بنزول الآيات، فآية البقرة رقم [10] قد أفادت بأن نفاق المنافقين كان يزداد نفاقا كلما نزلت الآيات القرآنية، وكذلك الآية رقم [125] وما بعدها من سورة التوبة.

الإعراب: {إِنَّمَا} : كافة ومكفوفة. {الْمُؤْمِنُونَ} : مبتدأ مرفوع، وعلامة رفعه الواو نيابة عن الضمة لأنه جمع مذكر سالم، والنون عوض من التنوين في الاسم المفرد. {الَّذِينَ}: اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع خبر. {إِذا} : انظر الآية رقم [200] الأعراف. {ذُكِرَ} :

ماض مبني للمجهول. {اللهُ} : نائب فاعله، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة {إِذا} إليها على المشهور المرجوح، وجملة {وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} جواب {إِذا} لا محل لها، و {إِذا} ومدخولها صلة الموصول، والجملة الاسمية {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ..} . إلخ ابتدائية أو مستأنفة لا محل لها، وإعراب {وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً} واضح إن شاء الله تعالى، و {إِذا} ومدخولها معطوف على ما قبله، فهو من جملة الصلة. {وَعَلى رَبِّهِمْ}: متعلقان بما بعدهما، الهاء ضمير

ص: 8

متصل في محل جر بالإضافة، والميم علامة جمع الذكور. {يَتَوَكَّلُونَ}: مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون، والواو فاعله، والجملة الفعلية في محل نصب حال من الضمير المنصوب، والرابط الواو والضمير، أو هي مستأنفة، وجوز عطفها على جملة الصلة وعلى هذين الوجهين لا محل لها.

{الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (3)}

الشرح: {يُقِيمُونَ الصَّلاةَ..} . إلخ أي: يؤدون الصلاة المفروضة بحدودها وأركانها في أوقاتها، وينفقون أموالهم فيما أمرهم الله به في وجوه الخير، ويدخل فيه النفقة في الزكاة، والحج، والجهاد، وغير ذلك من الإنفاق في أنواع البر والطاعات. انتهى. خازن بتصرف، هذا؛ وانظر شرح الصلاة والزكاة في الآية رقم [6] التوبة.

هذا؛ وقد قال الزمخشري: إن كل ما فاؤه نون، وعينه فاء يدل على معنى الخروج والذهاب، مثل: نفق ونفد، ونفث، ونفخ ونفش

إلخ، هذا؛ وأصل يقيمون:(يؤقومون) حذفت الهمزة للتخفيف، حملا على المبدوء بهمزة المضارعة، مثل: أأقوم، الذي حذفت همزته الثانية للتخلص من ثقل الهمزتين، فصار. (يقومون) ثم يقال في إعلاله: اجتمع معنا حرف صحيح ساكن، وحرف علة متحرك، والحرف الصحيح أولى بالحركة من حرف العلة، فنقلت حركة الواو، وهي الكسرة إلى القاف، فصار (يقومون) ثم قلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها، وهذا الإعلال يجري في كل فعل ثلاثي مزيدة الهمزة في أوله للتعدية، مثل أجاب يجيب، وأكرم يكرم

إلخ، كما حذفت الهمزة الثانية من يؤمنون؛ لأن ماضيه آمن، وأصله أأمن، والمضارع يؤأمن أؤمن، فتحذف من الأول، وتسهل في الثاني، وقد يجيء على القياس، وهو الأصل المهجور، كما في قول أبي حيان الفقعسي:[الرجز]

فإنّه أهل لأن يؤكرما

ولا تنس: أن هذه المزيدة تحذف من اسمي الفاعل والمفعول المأخوذين من الفعل الثلاثي المزيدة فيه الهمزة، وذلك مثل: مكرم ومكرم، والقياس مؤكرم ومؤكرم، وقس على ذلك، تنبه لذلك واحفظه، وقل في {يُنْفِقُونَ} ما قلته فيه، فإنه من أنفق الرباعي أيضا.

تنبيه: وصف الله المؤمنين في هذه الآيات بخمس صفات: ثلاث منها قلبية، وهي المذكورة في الآية السابقة، واثنتان في هذه الأولى، إحداهما: بدنية، وهي الصلاة. وثانيتهما:

مالية، وهي إنفاق الأموال، وانظر ما وصف الله بها المتقين في مطلع سورة البقرة، وما وصف به المخبتين في سورة الحج رقم [35] والله أعلم بمراده وأسرار كتابه.

ص: 9

الإعراب: {الَّذِينَ} : بدل مما قبله، وقول الجمل: صفة ل {الَّذِينَ} قبله لا وجه له البتة، وجملة {يُقِيمُونَ الصَّلاةَ} صلته لا محل لها. {وَمِمّا}: متعلقان بما بعدهما، و (ما) تحتمل الموصولة والموصوفة، فهي مبنية على السكون في محل جر ب (من)، والجملة الفعلية بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد أو الرابط محذوف، إذ التقدير: رزقناهم إياه، ولا تحتمل (ما) المصدرية، وجملة:{وَمِمّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ} معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها.

{أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4)}

الشرح: {أُولئِكَ..} . إلخ: أي: الموصوفون بالصفات الخمس المذكورة. {هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا؛} لأنهم حققوا إيمانهم بمكارم أعمال القلوب من الخشية والإخلاص، والتوكل، ومحاسن أعمال الجوارح؛ التي هي عبارة عن الصلاة، وإنفاق الأموال. انتهى. بيضاوي بتصرف، ومعنى {حَقًّا}: يقينا لا شك فيه، قال الخازن: وفيه دليل على أنه لا يجوز أن يصف أحد نفسه بكونه مؤمنا حقا؛ لأن الله سبحانه وتعالى إنما وصف بذلك أقواما مخصوصين على صفات مخصوصة، وكل أحد لا يتحقق وجود تلك الصفات فيه، وللفقهاء اختلاف في ذلك ونحوه.

فقال أبو حنيفة-رحمه الله تعالى-يجوز أن يقول المسلم: أنا مؤمن حقا، ولا يجوز أن يقول: أنا مؤمن إن شاء الله.

وقال الشافعي-رحمه الله تعالى-يجوز أن يقول: أنا مؤمن إن شاء الله ولكل وجهة هو موليها.

{دَرَجاتٌ} : كرامة وعلو منزلة.

وقيل: درجات الجنة يرتقونها بأعمالهم؛ لأن المؤمنين تتفاوت أحوالهم في الأخذ بتلك الأوصاف المذكورة، ودرجات الجنة على قدر الأعمال، فعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال:

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن في الجنة مائة درجة، ما بين كل درجتين مائة عام» . أخرجه الترمذي. وله أيضا عن أبي سعيد الخدري-رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ في الجنة مائة درجة، لو أنّ العالمين اجتمعوا في إحداهنّ لوسعتهم» . {وَمَغْفِرَةٌ} أي: لذنوبهم. {وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} أي:

لا ينتهي عدده، ولا ينقطع مدده، صاف عن كد الاكتساب، وخوف الحساب، لا منة فيه، ولا عذاب. هذا؛ ومعنى {عِنْدَ رَبِّهِمْ،} هذه العندية عندية تشريف، لا عندية مكان وإحاطة، وقيل: المراد بها: المجاز عن قربهم بالتكرمة، وعلو الشأن. والله أعلم بمراده وأسرار كتابه.

الإعراب: {أُولئِكَ} : اسم إشارة مبني على الكسر في محل رفع مبتدأ، والكاف حرف خطاب لا محل له. {هُمُ}: ضمير فصل لا محل له. {الْمُؤْمِنُونَ} : خبر المبتدأ مرفوع

إلخ، هذا؛ ويجوز اعتبار {هُمُ} مبتدأ ثانيا مبنيا على السكون في محل رفع. {الْمُؤْمِنُونَ}:

ص: 10

خبره، والجملة الاسمية في محل رفع خبر المبتدأ الأول، والجملة الاسمية {أُولئِكَ..}. إلخ مستأنفة لا محل لها. {حَقًّا}: مفعول مطلق بفعل محذوف، التقدير: أحقه حقا، أو هو صفة لمصدر محذوف، التقدير: هو المؤمنون إيمانا حقا، أو هو حال مؤكد لمضمون الجملة الاسمية، كقولك: هو عبد الله حقا، أي: حالة كونه محقا. {لَهُمْ} : متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {دَرَجاتٌ} : مبتدأ مؤخر. {عِنْدَ} : ظرف مكان متعلق بمحذوف صفة {دَرَجاتٌ،} و {عِنْدَ} : مضاف و {رَبِّهِمْ} مضاف إليه، والهاء في محل جر بالإضافة. {وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ}:

معطوفان على {دَرَجاتٌ،} {كَرِيمٌ} : صفة (رزق)، والجملة الاسمية {لَهُمْ دَرَجاتٌ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها.

{كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ (5)}

الشرح: {كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ} : هذا خطاب من الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا الخروج كان للتعريض لعير قريش، ثم تحول للقتال في وادي بدر، وذلك أن عير قريش رجعت من بلاد الشام، وفيها تجارة عظيمة، ومعها أربعون رجلا بزعامة أبي سفيان بن حرب، فأخبر جبريل عليه السلام النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، فندب المسلمين لتلقيها، ففرحوا لقلة الرجال، وكثرة المال، فلما خرجوا بلغ الخبر أهل مكة، فوقف أبو جهل فوق الكعبة، ونادى: يا أهل مكة النجاء، النجاء، على كل صعب وذلول، عيركم وأموالكم، إن أصابها محمد، فلن تفلحوا بعدها أبدا.

وكانت عاتكة بنت عبد المطلب رأت في منامها قبل ثلاثة أيام: أن ملكا نزل من السماء، فأخذ صخرة من الجبل، فحلق بها فوق مكة ورماها، فلم يبق بيت من مكة إلا أصابه منها، فحدثت بذلك العباس، وبلغ ذلك أبا جهل اللعين، فقال: ما يرضى رجالهم حتى تنبأت نساؤهم، ثم خرج بأهل مكة، وسار بهم إلى بدر، وهو واد فيه ماء، كانت العرب تجتمع عليه لسوقهم يوما في السنة.

وكان الرسول صلى الله عليه وسلم بوادي دفران، فنزل جبريل عليه السلام بالوعد بإحدى الطائفتين، إما العير، وإما قريش، فاستشار فيه أصحابه، فقال بعضهم: هلا ذكرت لنا القتال حتى نتأهل له، إنا خرجنا للعير، فرد عليهم، وقال: إن العير قد مضت على ساحل البحر، وهذا أبو جهل قد أقبل، فقالوا: يا رسول الله عليك بالعير، ودع العدو، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقام أبو بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما، فأحسنا، ثم قال مقداد بن عمرو: امض لما أمرك الله، فإنا معك حيث ما أحببت ولا نقول لك كما قال بنو إسرائيل لموسى: اذهب أنت وربك، فقاتلا إنا هاهنا قاعدون، ولكن اذهب أنت وربك، فقاتلا إنا معكما مقاتلون، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال:

أشيروا علي أيها الناس، وهو يريد الأنصار؛ لأنهم كانوا قد شرطوا حين بايعوه بالعقبة أنهم برآء

ص: 11

من ذمامه حتى يصل إلى ديارهم، فتخوف أن لا يروا نصرته إلا على عدو دهمه بالمدينة، فقام سعد بن معاذ فقال: لكأنك تريدنا يا رسول الله، قال: أجل.

قال: إنا قد آمنا بك، وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، فامض يا رسول الله لما أردت، فو الذي بعثك بالحق، لو استعرضت بنا هذا البحر، فخضته لخضناه معك، ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا، وإنا لصبر عند الحرب، صدق عند اللقاء، ولعل الله يريك منا ما تقر به عينك فسر بنا على بركة الله، فسر عليه الصلاة والسلام بذلك، ثم قال:

سيروا على بركة الله، وأبشروا، فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين: العير أو النفير، والله لكأني أنظر إلى مصارع القوم، وانتهت غزوة بدر بقتل سبعين وأسر سبعين من رجال قريش، وعلى رأسهم رأس الكفر أبو جهل الخبيث لعنه الله تعالى. {فَرِيقاً}: انظر الآية رقم [30] من سورة الأعراف. {لَكارِهُونَ} أي: الخروج إلى القتال كما رأيت، وتفسير السورة آية آية يوضح لك غزوة بدر، وقد أغرب القرطبي كل الغرابة حين قال: أي لكارهون ترك مكة وترك أموالهم وديارهم؛ فإن مجرى الآيات لا يؤيده أبدا!

الإعراب: {كَما} الكاف: حرف تشبيه وجر. ما: مصدرية. {أَخْرَجَكَ} : ماض، والكاف مفعول به. {رَبُّكَ}: فاعل، والكاف في محل جر بالإضافة. {مِنْ بَيْتِكَ}: متعلقان بالفعل قبلهما، والكاف في محل جر بالإضافة. {بِالْحَقِّ}: متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من الكاف المفعول به، أي ملتبسا بالحق، و (ما) المصدرية والفعل بعدها في تأويل مصدر في محل جر بالكاف، والجار والمجرور، ذكر السمين في تعليقهما عشرين وجها، كلها غير معقولة المعنى سوى اعتبارهما متعلقين بمحذوف صفة لمصدر محذوف واقع مفعولا مطلقا، التقدير: قل: الأنفال ثابتة لله والرسول مع كراهيتهم ثبوتا مثل ثبوت إخراج ربك إياك من بيتك، وهم كارهون، وأرى وجها لم يذكره أحد، وهو أن الجار والمجرور متعلقان بخبر محذوف مع مبتدأ محذوف يؤخذ من معنى الكلام السابق، التقدير: شأنهم في اختلاف الغنائم كائن كإخراجك من بيتك بالحق في حال كراهيتهم لهذا الخروج، وقدر الجلال وابن هشام في مغنيه قريبا من هذا، ولكنه غير واضح مثله. تأمل. {وَإِنَّ}: الواو: واو الحال. (إن): حرف مشبه بالفعل. {فَرِيقاً} : اسم (إن). {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} : متعلقان ب {فَرِيقاً} أو بمحذوف صفة له.

{لَكارِهُونَ} : اللام: هي المزحلقة. (كارهون): خبر (إن) مرفوع، وعلامة رفعه الواو

إلخ وفاعله مستتر فيه، ومفعوله محذوف، انظر تقديره في الشرح، والجملة الاسمية (إن

) إلخ في محل نصب حال من كاف الخطاب، والرابط الواو فقط على حد قوله تعالى {قالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ} .

ص: 12

{يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (6)}

الشرح: {يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ..} . إلخ: أي يجادلك بعض المؤمنين في إيثارك الجهاد لإظهار الحق، وهم يؤثرون تلقى العير، وجدالهم كان بقولهم: لم تخبرنا أنا نلقى العدو فنستعد لقتالهم، وإنما خرجنا لطلب العير، {بَعْدَ ما تَبَيَّنَ} أي: لهم أنك لا تصنع شيئا إلا بأمر ربك، وتبين لهم صدقك في الوعد. {كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ..}. إلخ: أي يكرهون القتال كراهة من يساق إلى الموت: وهو يشاهد أسبابه، وكان ذلك لقلة عددهم وعدم تأهبهم، لا لضعف إيمانهم. هذا؛ والموت انتهاء الحياة بخمود حرارة البدن، وبطلان حركته، وموت القلب:

قسوته فلا يتأثر بالمواعظ، ولا ينتفع بالنصائح، والله أعلم بمراده وأسرار كتابه.

الإعراب: {يُجادِلُونَكَ} : فعل وفاعل ومفعول به. {فِي الْحَقِّ} : متعلقان بما قبلهما. {بَعْدَ ما} :

(بعد): ظرف زمان متعلق بما قبله أيضا. (ما): مصدرية. {تَبَيَّنَ} : ماض، والفاعل يعود إلى الحق في الظاهر، وفي الحقيقة محذوف، انظر تقديره في الشرح، و (ما) المصدرية والفعل {تَبَيَّنَ} في تأويل مصدر في محل جر بإضافة (بعد) إليه، التقدير: بعد تبيين صدقك في الوعد، وجملة {يُجادِلُونَكَ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها، وجوز اعتبارها حالا من كاف الخطاب، أو من الضمير المستتر في {لَكارِهُونَ} والرابط على الاعتبارين الضمير فقط. {كَأَنَّما}: كافة ومكفوفة.

{يُساقُونَ} : مضارع مبني للمجهول مرفوع

إلخ، والواو نائب فاعله. {إِلَى الْمَوْتِ}: متعلقان به، وجملة {كَأَنَّما..} . إلخ في محل نصب حال من الضمير المستتر في {لَكارِهُونَ} فهي حال متعددة، أو من واو الجماعة، فتكون حالا متداخلة. {وَهُمْ}: ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ، وجملة {يَنْظُرُونَ} مع المفعول المحذوف في محل رفع خبره، والجملة الاسمية في محل نصب حال من نائب الفاعل، والرابط: الواو والضمير، وهي حال متداخلة.

{وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ (7)}

الشرح: {يَعِدُكُمُ} : انظر إعلال {تَجِدُ} في الآية رقم [17] الأعراف. فهو مثله، وانظر الوعد في الآية رقم [44] الأعراف. {اللهَ}: انظر الآية رقم [1]. {إِحْدَى الطّائِفَتَيْنِ} : العير أو النفير، وانظر الآية رقم [87](الأعراف)، {وَتَوَدُّونَ}: تحبون. {غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ} أي:

العير، فإنه لم يكن معها سوى أربعين فارسا، ولذلك تمنوا لقاءها، وكرهوا ملاقاة النفير لكثرتهم وكثرة عددهم، والشوكة: الحدة مستعارة من واحدة الشوك، والمراد غير صاحبة السلاح والقوة والبأس، {وَيُرِيدُ اللهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ} أي: يظهر الحق ويعلي شأنه، والمراد دين الإسلام الذي

ص: 13

هو الحق لا ريب فيه، انظر {ذاتَ} في الآية رقم [1] وشرح {وَيُرِيدُ} في الآية رقم [89] (الأعراف). وإعلال {يُقِيمُونَ} في الآية رقم [3] فهو مثله. {بِكَلِماتِهِ} أي: الموحى بها في هذه الحال، أو بأوامره للملائكة بالإمداد، وقال القرطبي، أي بوعده، فإنه وعد نبيه ذلك في سورة الدخان، فقال:{يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنّا مُنْتَقِمُونَ} أي: من أبي جهل وأصحابه، وقال {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} هذا؛ وقرئ:«بكلمته» ، وانظر شرح {كَلِمَتُ} في الآية رقم [137] الأعراف، {وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ} أي: يهلكهم عن آخرهم، وانظر {كَفَرُوا} في الآية رقم [66] من سورة (الأعراف).

المعنى الإجمالي للآية: إن الله وعدكم على لسان نبيكم أن تفوزوا بكسب إحدى الفرقتين:

العير بقيادة أبي سفيان، أو النفير بقيادة أبي جهل، وأنتم ترغبون بكسب الأولى التي ليس فيها حرب ولا طعان، والله يريد إعزاز دينه، وإظهار الحق، وهذا لا يكون إلا بالطعن والنزال، ومحاربة النفير الذي يقوده رأس الكفر، وزعيم الضلالة أبو جهل اللعين.

الإعراب: {وَإِذْ} : الواو: حرف استئناف. (إذ): مفعول به لفعل محذوف، تقديره: اذكر، أو هو ظرف متعلق بالفعل المحذوف، فهو مبني على السكون في محل نصب على الاعتبارين.

{يَعِدُكُمُ اللهُ} : مضارع، ومفعوله الأول، وفاعله. {إِحْدَى}: مفعوله الثاني، فهو منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على الألف المقصورة، و {إِحْدَى} مضاف، و {الطّائِفَتَيْنِ} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الياء لأنه مثنى، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، وجملة:

{يَعِدُكُمُ..} . إلخ في محل جر بإضافة (إذ) إليها، والكلام مستأنف لا محل له. {أَنَّها}: حرف مشبه بالفعل، و «ها»: اسمها. {لَكُمْ} : متعلقان بمحذوف خبرها، وأن واسمها وخبرها في تأويل مصدر في محل نصب بدل اشتمال من:{إِحْدَى،} وتقدير الكلام، وإذ يعدكم الله ملك إحدى الطائفتين. {وَتَوَدُّونَ}: فعل وفاعل. {أَنَّ} : حرف مشبه بالفعل. {غَيْرَ} : اسمها، و {غَيْرَ} مضاف، و {ذاتِ} مضاف إليه، و {ذاتِ} مضاف، و {الشَّوْكَةِ} مضاف إليه.

{تَكُونُ} : مضارع ناقص، واسمه مستتر تقديره هي يعود إلى ما قبله. {لَكُمْ}: متعلقان بمحذوف خبر {تَكُونُ،} وجملة: {تَكُونُ لَكُمْ} في محل رفع خبر {أَنَّ،} و {أَنَّ} واسمها وخبرها في تأويل مصدر في محل نصب مفعول به، وجملة:{وَتَوَدُّونَ..} . إلخ معطوفة على جملة: {يَعِدُكُمُ..} . إلخ فهي في محل جر مثلها، أو هي في محل رفع خبر لمبتدإ محذوف، التقدير: «وأنتم تودون

» إلخ وهذه الجملة الاسمية في محل نصب حال من الكاف الواقعة مفعولا به، والرابط: الواو، والضمير. {وَيُرِيدُ اللهُ}: مضارع وفاعله.

و {أَنْ يُحِقَّ} في تأويل مصدر في محل نصب مفعول به. {الْحَقَّ} : مفعول به. {بِكَلِماتِهِ} :

متعلقان بالفعل (يحق)، والهاء في محل جر بالإضافة، وجملة:{وَيُرِيدُ..} . إلخ معطوفة على

ص: 14

جملة: {يَعِدُكُمُ..} . إلخ فهي في محل جر مثلها. {وَيَقْطَعَ} : معطوف على {يُحِقَّ،} فهو منصوب مثله، وفاعله يعود إلى {اللهُ}. {دابِرَ}: مفعول به، وهو مضاف، و {الْكافِرِينَ} مضاف إليه مجرور

إلخ، و {وَيَقْطَعَ} يؤول بمصدر مع الناصب المقدر، وتقدير الكلام، ويريد الله إحقاق الحق وقطع دابر الكافرين.

{لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (8)}

الشرح: {لِيُحِقَّ الْحَقَّ..} . إلخ: المعنى أراد الله وقدر أن يلتقي المؤمنون بالكافرين في بدر، وتقع الحرب بين الفريقين ليظهر الحق، وهو دينه، ويعليه على الشرك بمحقه وإذلاله، وكسر شوكته، {وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ} أي: كره المشركون ما تقدم ذكره. هذا؛ وانظر شرح {الْحَقِّ} في الآية رقم [32] الأعراف وانظر شرح ال {باطِلٌ} في الآية رقم [139] الأعراف، وتفسير {الْمُجْرِمُونَ} بالمشركين هو في الغالب، ولا تنس أن في المسلمين مجرمين يقترفون الكبائر والمنكرات، ويفعلون الشنيع من السيئات، ولا سيما في هذا العصر الذي طغت فيه المادة، وران على قلوب أكثر المسلمين حب المال والمنصب والجاه، وغير ذلك.

تنبيه: لا يقال: إن ما في هذه الآية تكرار لما في قبلها؛ لأن المراد بالأول: تثبيت ما وعد الله به في هذه الواقعة من النصرة، والظفر بالأعداء، والمراد بالثاني: تقوية الدين وإظهار الشريعة؛ لأن ما وقع يوم بدر من نصر المؤمنين مع قلتهم، ومن قهر الكافرين مع كثرتهم، كان سببا لإعزاز الدين وقوته. انتهى. جمل بتصرف. أقول: لذا لما ترامت الأنباء بهذا النصر المظفر لم تكد قبائل العرب المنتشرة في الجزيرة العربية تصدق به، وكذلك دهش اليهود المقيمون في المدينة له.

الإعراب: {لِيُحِقَّ} : مضارع منصوب ب «أن» مضمرة جوازا بعد لام التعليل، والفاعل يعود إلى الله. {الْحَقَّ}: مفعول به، و «أن» المضمرة والمضارع في تأويل مصدر في محل جر باللام، والجار والمجرور متعلقان بفعل محذوف، انظر تقديره في الشرح. {وَيُبْطِلَ}: معطوف على ما قبله منصوب مثله، والفاعل يعود إلى الله. {الْباطِلَ}: مفعول به، و {وَيُبْطِلَ} يؤول بمصدر مع الناصب المقدر، معطوف على ما قبله، وتقدير الكلام: أراد الله ما حصل وقدره لإحقاق الحق، ولإبطال الباطل. {وَلَوْ}: الواو: واو الحال. (لو): وصلية. {كَرِهَ} : ماض. {الْمُجْرِمُونَ} :

فاعل مرفوع

إلخ، والمفعول محذوف، انظر تقديره في الشرح، وجملة:{وَلَوْ كَرِهَ..} . إلخ في محل نصب حال من إحقاق الحق وإبطال الباطل، والرابط: الواو، والضمير الذي رأيت تقديره، وانظر الآية رقم [82] من سورة (يونس) عليه السلام.

ص: 15

{إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9)}

الشرح: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ} : تطلبون الغوث منه تعالى، والغوث: النجاة والمعاونة، واستغاثة الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين كانت لما علموا وأيقنوا أن لا محيص من القتال أخذوا يقولون:

ربنا انصرنا على أعدائك، أغثنا يا غياث المستغيثين! وعن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نظر إلى المشركين، وهم ألف، وإلى أصحابه، وهم ثلاثمائة، فاستقبل القبلة ومد يديه يدعو:«اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض» . فما زال كذلك حتى سقط رداؤه، فقال أبو بكر: يا نبي الله كفاك مناشدتك ربك فإنه سينجز لك ما وعدك. والسين والتاء للطلب، بخلافهما بقوله {فَاسْتَجابَ} فإنهما زائدتان؛ لأن استجاب بمعنى أجاب، قال كعب بن سعد الغنوي يرثي أخاه:[الطويل]

وداع دعا يا من يجيب إلى النّدى

فلم يستجبه عند ذاك مجيب

{مُمِدُّكُمْ} : معينكم ومقويكم. {بِأَلْفٍ} : وعدهم الله أولا بألف من الملائكة، ثم صاروا ثلاثة، ثم خمسة آلاف، كما في سورة (آل عمران) الآية رقم [124] وما بعدها. {الْمَلائِكَةِ}:

انظر الآية رقم [11] الأعراف، {مُرْدِفِينَ}: متبعين المؤمنين أو متبعين بعضهم بعضا، وقرئ بفتح الدال بصيغة المفعول، بمعنى: يتبعهم غيرهم، وقرئ بتشديد الدال مع فتحها وكسرها وتثليث الراء. هذا؛ وقال سبحانه في سورة (آل عمران){مُسَوِّمِينَ} وما أجدرك أن تنظر ذلك هناك مع ما ذكرته من الحكمة في قتال الملائكة، فإنه جيد بحمد الله تعالى وتوفيقه. {رَبَّكُمْ}:

انظر الآية [3] من سورة (الأعراف).

الإعراب: {إِذْ} : بدل من {وَإِذْ يَعِدُكُمُ،} أو هي على إضمار: «اذكر» ، أو هي متعلقة بالفعل ليحق، ونحوه. {تَسْتَغِيثُونَ}: فعل وفاعل. {رَبَّكُمْ} : مفعول به، والكاف في محل جر بالإضافة من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة {إِذْ} إليها. {فَاسْتَجابَ}: ماض، والفاعل يعود إلى {رَبَّكُمْ}. {لَكُمْ}: جار ومجرور متعلقان به، وجملة:{فَاسْتَجابَ لَكُمْ} معطوفة على ما قبلها، فهي في محل جر مثلها، وساغ عطف الماضي على المضارع؛ لأن الأول حكاية حال ماضية، وإن كان مضارعا.

{أَنِّي} : حرف مشبه بالفعل، وياء المتكلم اسمها. {مُمِدُّكُمْ}: خبر (أن)، والكاف: في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه، وأن واسمها وخبرها في تأويل مصدر في محل جر بحرف جر محذوف، التقدير: بأني، أو هو في محل نصب بنزع الخافض، هذا؛ وقرئ بكسر الهمزة، وعليه فالجملة اسمية، وهي في محل نصب مقول القول

ص: 16

لقول محذوف، أو هي في محل نصب ب (استجاب)؛ لأن الاستجابة من القول. تأمل.

{بِأَلْفٍ} : متعلقان ب {مُمِدُّكُمْ؛} لأنه اسم فاعل. {مِنَ الْمَلائِكَةِ} : متعلقان بمحذوف صفة (ألف). {مُرْدِفِينَ} : بفتح الدال حال من الكاف، أو هو صفة (ألف)، وبكسر الدال يحتمل الصفة ل (ألف)، أو هو حال من الملائكة، واعتباره صفة لها لا يحسن لأنه نكرة، وهي معرفة.

{وَما جَعَلَهُ اللهُ إِلاّ بُشْرى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاّ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (10)}

الشرح: {وَما جَعَلَهُ اللهُ} : الهاء تعود على الألف، وقيل: تعود على الإرداف المفهوم مما قبله، وقيل: تعود على الإمداد المفهوم مما قبله، وقيل: تعود على قبول الدعاء المفهوم مما قبله، وكذلك الهاء في {بِهِ} تحتمل الوجوه كلها. انتهى. مكي بتصرف. {اللهُ}: انظر الآية رقم [1]. {بُشْرى} : بشارة لكم بالنصر والعزة والكرامة. {وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ} : لتهدأ وتسكن قلوبكم، فيزول ما بها من الخوف، فكان ما ذكر من مرجع الضمير بمنزلة السكينة لبني إسرائيل، بشارة بالنصر، وطمأنينة للقلوب. {وَمَا النَّصْرُ..}. إلخ: أي لا من عند المقاتلة، ولا من عند الملائكة، ولكن الإمداد مما يقوي به الله رجاء النصرة والطمع في الرحمة، وكذلك كثرة العدد، فلا تيأسوا من النصر بفقد ما ذكر {عَزِيزٌ}: قوي غالب على أمره. {حَكِيمٌ} : يضع الأمور مواضعها، وقدم عزيز لتقدم العلم بقدرته على العلم بحكمته.

تنبيه: هذه الآية ذكرت بجميع ألفاظها بسورة (آل عمران) برقم [126] مع تقديم وتأخير ببعض ألفاظها، وذكر الله بعدها هناك قوله {لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ} وهذه الآية بينت نتائج القتال في بدر.

الإعراب: {وَما} : الواو: حرف استئناف. (ما): نافية. {جَعَلَهُ} : ماض، والهاء مفعول به. {اللهُ}: فاعله، والجملة الفعلية مستأنفة لا محل لها. {إِلاّ}: حرف حصر. {بُشْرى} :

مفعول لأجله مستثنى من عموم العلل، أو هو مفعول به ثان، والأول أقوى منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على الألف للتعذر، هذا؛ وحذف المتعلق، وذكر في آل عمران، وهو لكم. {وَلِتَطْمَئِنَّ}: مضارع منصوب ب «أن» مضمرة بعد لام التعليل. {بِهِ} : متعلقان بما قبلهما. {قُلُوبُكُمْ} : فاعله، والكاف في محل جر بالإضافة، و «أن» المضمرة والمضارع في تأويل مصدر في محل جر باللام، والجار والمجرور معطوفان على {بُشْرى،} فهما مفعول لأجله، وجر باللام لفقد شرط النصب من اتحاد الفاعل كما لا يخفى. انتهى. جمل. أو هما

ص: 17

متعلقان بفعل محذوف، التقدير: فعل ذلكم بكم لاطمئنان قلوبكم، وهذا على اعتبار {بُشْرى} مفعولا به ثانيا، والأول أقوى كما رأيت. {وَما}: الواو: حرف استئناف. (ما): نافية.

{النَّصْرُ} : مبتدأ. {إِلاّ} : حرف حصر. {مِنْ عِنْدِ} : متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ، و {عِنْدِ} مضاف، و {اللهُ} مضاف إليه، والجملة الاسمية مستأنفة لا محل لها. {إِنَّ}: حرف مشبه بالفعل. {اللهُ} : اسمها. {عَزِيزٌ} : خبر أول. {حَكِيمٌ} : خبر ثان، والجملة الاسمية تعليل لحصر {(النَّصْرُ إِلاّ مِنْ عِنْدِ اللهِ)} لا محل لها.

{إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ (11)}

الشرح: {يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ} يقرأ بتخفيف الشين من أغشاه. أي: أنزله بكم، وأوقعه عليكم، ويقرأ {يُغَشِّيكُمُ} بتشديد الشين، من غشّاه تغشية غطاه، ويقرأ «(يغشاكم النعاس)» مثل:

يلقاكم من غشيه إذا أتاه وأصابه، فيه ثلاث قراءات سبعية، فعلى الأولين يكون {النُّعاسَ} مفعولا به، وعلى الأخيرة يكون فاعلا، هذا؛ والنّعاس والسّنة والوسن: أوائل النوم. {أَمَنَةً مِنْهُ} : أمنا منه تعالى أي: أمانا لكم من عدوكم أن يغلبكم.

قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: النعاس في القتال أمنة من الله، وفي الصلاة من الشيطان، والفائدة في كون النعاس أمنة في القتال: أن الخائف على نفسه لا يأخذه النوم، فصار حصول النوم وقت الخوف الشديد دليلا على الأمن، وإزالة الخوف، وانظر الآية رقم [154] من سورة (آل عمران)، تجد مثل ذلك، ولكن هناك حصل نعاس لم يعقبه نوم، بخلافه هنا، كما ستعرفه. {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} أي: يطهركم بالماء من الجنابة التي حصلت لبعضكم بالاحتلام، انظر شرح {السَّماءِ} في الآية رقم [96] الأعراف. {السَّماءِ}: انظر الآية رقم [99] من سورة (الأنعام)، {وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ}: وسوسة الشيطان، والرجز:

العذاب كما رأيت في الآية رقم [134] الأعراف، وجاز أن يسمى رجزا لأنه سبب للرجز، وهو العذاب، وقرئ «(رجس)» بالسين، وهو في الأصل الشيء القذر، فجعل ما يفضي إلى العذاب رجسا استقذارا له. {وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ} أي: باليقين والصبر، والربط في اللغة: الشد، وكل من صبر على أمر، فقد ربط نفسه عليه، ففيه استعارة تصريحية تبعية؛ لأن الربط هو الشد بالحبل. {وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ} أي: بالماء الذي نزل.

روي أن المسلمين نزلوا يوم بدر على كثيب رمل أعفر، تسوخ فيه الأقدام، وحوافر الدواب، وكان المشركون قد سبقوهم إلى ماء بدر، فنزلوا عليه، وأصبح المسلمون على غير ماء، وبعضهم محدث، وبعضهم جنب، وأصابهم العطش، فوسوس لهم الشيطان وقال:

ص: 18

تزعمون أنكم على الحق، وفيكم نبي الله، وأنتم أولياء الله، وقد غلبكم المشركون على الماء، وأنتم تصلون محدثين ومجنبين، فكيف ترجون أن تظهروا على عدوكم؟ فأنزل الله سبحانه وتعالى مطرا سال منه الوادي، فشرب منه المؤمنون، واغتسلوا، وتوضئوا، وسقوا الركاب، وملئوا الأسقية، وأطفأ الغبار، ولبّد الأرض، حتى ثبتت عليها الأقدام، وزالت عنهم وسوسة الشيطان، وطابت نفوسهم، وعظمت النعمة من الله عليهم بذلك، وكان دليلا على حصول النصر والظفر.

انتهى. خازن بتصرف.

الإعراب: {إِذْ} : بدل ثان من {وَإِذْ يَعِدُكُمُ} أو هو متعلق ب {النَّصْرُ،} أو بإضمار (اذكر).

{يُغَشِّيكُمُ} : مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل، والكاف مفعول به أول، والفاعل مستتر تقديره:«هو» ، يعود إلى الله. {النُّعاسَ}: مفعول به ثان، هذا؛ وعلى قراءة «(يغشاكم النعاس)» يكون {النُّعاسَ} فاعلا، كما رأيت في الشرح. {أَمَنَةً}: مفعول لأجله، أو هو مفعول مطلق لفعل محذوف، والأول أرجح. {أَمَنَةً}: متعلقان ب {أَمَنَةً،} أو بمحذوف صفة له. {وَيُنَزِّلُ} : مضارع، والفاعل يعود إلى الله. {عَلَيْكُمْ}: متعلقان بما قبلهما.

{مِنَ السَّماءِ} : متعلقان به أيضا، أو هما متعلقان بمحذوف حال من {السَّماءِ،} كان صفة له، فلما قدم عليه صار حالا على القاعدة (نعت النكرة إذا تقدم عليها صار حالا). {السَّماءِ}: مفعول به، وجملة:{وَيُنَزِّلُ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، فهي في محل جر مثلها. {لِيُطَهِّرَكُمْ}: مضارع منصوب ب «أن» مضمرة بعد لام التعليل، والكاف مفعول به، و «أن» المضمرة والمضارع في تأويل مصدر في محل جر باللام، والجار والمجرور متعلقان بالفعل (ينزل). {بِهِ}: متعلقان بما قبلهما. {وَيُذْهِبَ} : مضارع معطوف على ما قبله منصوب مثله، والفاعل يعود إلى الله.

{عَنْكُمْ} : متعلقان بما قبلهما. {رِجْزَ} : مفعول به، وهو مضاف، و {الشَّيْطانِ} مضاف إليه، وإعراب الباقي مثل سابقه بلا فارق، وهو واضح إن شاء الله تعالى.

{إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاِضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ (12)}

الشرح: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ} أي: أوحى الله إلى الملائكة الذين أمد بهم النبي صلى الله عليه وسلم، وأصحابه: أني معكم بالمعونة والنصر، وانظر (الوحي) في الآية رقم [163] من سورة (النساء). {فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا} أي: قووا قلوبهم، واختلف في كيفية هذه التقوية، والتثبيت، فقيل: كما أن للشيطان قوة إلقاء الوسوسة في قلب ابن آدم بالشر، فكذلك للملك قوة في إلقاء الإلهام في قلب ابن آدم بالخير، ويسمى الأول: وسوسة. والثاني: لمة، وإلهاما، وقيل: إن التثبيت هو حضورهم معهم القتال. {سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ} أي: الخوف،

ص: 19

وكان ذلك نعمة من الله على المؤمنين، وانظر (الإيمان) في الآية رقم [1]. {فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ}: هذا الأمر للملائكة، وفيه دليل على أنهم باشروا القتال، وهو المعتمد، فيكون متصلا بما قبله، وقيل: هذا أمر للمؤمنين فيكون منقطعا عما قبله، والمراد ب {فَوْقَ الْأَعْناقِ}:

الرءوس. {وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ} أي: كل مفصل من أجسامهم.

وقال ابن عباس-رضي الله عنهما-يعني الأطراف، هذا؛ و «بنان» جمع: بنانة، وهي أطراف الأصابع، سميت بذلك لأن بها صلاح الأحوال التي يمكن الإنسان أن يبين ما يريد أن يعمله بيديه، وإنما خصت بالذكر من دون سائر الأطراف؛ لأن الإنسان يقاتل بها، ويمسك بها السلاح في الحرب، هذا؛ وقوله تعالى في سورة (القيامة){بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ} يلفت النظر إلى أهمية خلق البنان حيث جعل خلقها دليلا على قدرته، وقد ظهرت في هذا العصر حكمة ذلك حيث ثبت أن بنانة شخص لا تشبه بنانة آخر، ولذا يعتمد على طبعة البنانة في الوثائق التي تدون بين المتعاملين بالنسيئة، هذا؛ والإلقاء في الأجرام: الطرح والرمي والقذف، فاستعير {سَأُلْقِي} هنا للمعاني.

تنبيه: روي عن أبي داود المازني-وكان شهد بدرا-قال: إني لأتبع رجلا من المشركين لأضربه، إذ وقع رأسه قبل أن يصل إليه سيفي، فعرفت أنه قد قتله غيري. وعن سهل بن حنيف، قال: لقد رأيتنا يوم بدر، وإن أحدنا ليشير بسيفه إلى المشرك، فيقع رأسه عن جسده قبل أن يصل إليه السيف. انتهى خازن. والله أعلم بمراده وأسرار كتابه.

الإعراب: {إِذْ} : بدل ثالث من {وَإِذْ يَعِدُكُمُ} أو هو متعلق بالفعل (يثبت) أو ب (اذكر) محذوفا. {يُوحِي} : مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء. {رَبُّكَ}: فاعله، والكاف في محل جر بالإضافة من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله ضمير مستتر فيه. والجملة الفعلية في محل جر بإضافة {إِذْ} إليها. {إِلَى الْمَلائِكَةِ}: متعلقان بالفعل قبلهما. {أَنِّي} : حرف مشبه بالفعل، وياء المتكلم اسمها. {مَعَكُمْ}: ظرف مكان متعلق بمحذوف خبر (أن)، والكاف في محل جر بالإضافة، وأن واسمها وخبرها في تأويل مصدر في محل نصب مفعول به، وقيل في محل جر بحرف جر بمحذوف، التقدير: بأني، هذا؛ وقد قرئ بكسر الهمزة، وفيها وجهان: أحدهما: أن ذلك على إضمار القول، وهو مذهب البصريين، والثاني على إجراء {يُوحِي} مجرى القول؛ لأنه بمعناه، وهو مذهب الكوفيين. {فَثَبِّتُوا}: الفاء: هي الفصيحة، وانظر الآية رقم [1]. (ثبتوا): أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق، وانظر إعراب {اُسْجُدُوا} في الآية رقم [11] الأعراف. {الَّذِينَ}: اسم موصول مبني على الفتح في محل نصب مفعول به. {آمَنُوا} : ماض وفاعله، والألف للتفريق، وانظر إعراب {قالُوا} في الآية رقم [5] من سورة (الأعراف) وجملة:

{فَثَبِّتُوا} لا محل لها على جميع الوجوه المعتبرة في الفاء. {سَأُلْقِي} : السين: حرف وعد هنا

ص: 20

وتحقيق. (ألقي): مضارع مثل {يُوحِي،} والفاعل مستتر تقديره: «أنا» . {فِي قُلُوبِ} : متعلقان بما قبلهما، و {قُلُوبِ} مضاف، و {الَّذِينَ} مضاف إليه، وجملة:{كَفَرُوا} صلة الموصول.

{الرُّعْبَ} : مفعول به، وجملة:{سَأُلْقِي..} . إلخ مستأنفة لا محل لها. {فَاضْرِبُوا} : مثل {فَثَبِّتُوا} وتقدير الكلام، وإذا كان ذلك واقعا {فَاضْرِبُوا}. {فَوْقَ}: فيه أوجه: أحدها: أنه ظرف مكان متعلق بما قبله، والمفعول محذوف، التقدير: اضربوهم فوق الأعناق، وثانيها: أنه مفعول به على الاتساع، وهذا غير جيد؛ لأنه ظرف غير متصرف، وثالثها: أن {فَوْقَ} بمعنى على، أي: على الأعناق. ويكون المفعول محذوفا، تقديره: فاضربوهم على الأعناق، ورابعها: أن {فَوْقَ} زائدة، أي: اضربوا الأعناق. قاله الأخفش، وهو غير مسلم؛ لأن زيادة الأسماء لا تجوز، {مِنْهُمْ} متعلقان بمحذوف حال من {كُلَّ بَنانٍ،} كان صفة له، كما في الآية السابقة. {كُلَّ}: مفعول به، وهو مضاف، و {بَنانٍ} مضاف إليه وجملة:{وَاضْرِبُوا..} . إلخ معطوفة على ما قبلها لا محل لها مثلها. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم.

{ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشاقِقِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (13)}

الشرح: {ذلِكَ} : إشارة إلى الضرب المذكور في الآية السابقة والأمر به، وأيضا إلقاء الرعب في قلوبهم، يدخل تحت الإشارة. {شَاقُّوا}: خالفوا الله ورسوله، والمشاقة: المخالفة؛ لأن كل واحد من المتعاديين يكون في شق خلاف شق الآخر، وانظر شرح الاسمين الكريمين في الآية رقم [1]. {وَمَنْ يُشاقِقِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ}: هذا وعيد وتهديد، وفحواه: أن ما وقع بهم في الدنيا من قتل وأسر شيء قليل بجانب ما أعد الله لهم في الآخرة من العقاب الشديد، والعذاب الأليم، هذا؛ و {يُشاقِقِ} هنا بالفك، وفي سورة الحشر بالإدغام، ولم أر من تعرض للفرق بينهما، ولا أرى سوى: أنهما قراءتان والقراءة توقيفية، والقواعد النحوية تجيز في المضارع المضعف المجزوم بجازم الفك والإدغام، هذا؛ وللشقاق ثلاثة معان:

أحدها الخلاف، كما في هذه الآية، ومنه قوله تعالى:{وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما..} . إلخ الآية رقم [35] من سورة (النساء)، والثاني: العداوة مثل قوله تعالى: {لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي..} . إلخ الآية رقم [88] من سورة (هود) عليه السلام، والثالث: الضلال مثل قوله تعالى: {وَإِنَّ الظّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ} الآية رقم [53] من سورة (الحج) وقوله تعالى {وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ} رقم [175] من سورة (البقرة).

الإعراب: {ذلِكَ} : اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع مبتدأ، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب. {بِأَنَّهُمْ}: الباء: حرف جر. (أنهم): حرف مشبه بالفعل، والهاء اسمها.

ص: 21

{شَاقُّوا} : فعل وفاعل، والألف للتفريق. {اللهَ}: منصوب على التعظيم. {وَرَسُولَهُ} : معطوف على ما قبله، والهاء في محل جر بالإضافة، وجملة:{شَاقُّوا..} . إلخ في محل رفع خبر أن، وأن واسمها وخبرها في تأويل مصدر في محل جر بالباء، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ، أي: ذلك قد وقع بهم بسبب كونهم شاقوا.. إلخ، والجملة الاسمية مستأنفة لا محل لها. {وَمَنْ}: الواو: حرف استئناف. (من): اسم شرط جازم مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {يُشاقِقِ} : مضارع فعل الشرط، وحرك بالكسرة لالتقاء الساكنين، والفاعل يعود إلى (من) تقديره:«هو» . {اللهَ} : منصوب على التعظيم. {وَرَسُولَهُ} : معطوف على ما قبله. الفاء: واقعة في جواب الشرط. (إن): حرف مشبه بالفعل. {اللهَ} : اسمها. {شَدِيدُ} : خبرها، وهو مضاف، و {الْعِقابِ} مضاف إليه من إضافة الصفة المشبهة لفاعلها، إذ التقدير: شديد عقابه، والجملة الاسمية:{فَإِنَّ..} . إلخ في محل جزم جواب الشرط عند الجمهور، والدسوقي يقول: لا محل لها لأنها لم تحل محل المفرد، هذا؛ وقد اختلف في خبر المبتدأ الذي هو (من) فقيل: هو جملة الشرط، وقيل: هو جملة الجواب، وقيل: هو الجملتان، وهو المرجح لدى المعاصرين، هذا؛ ولا بد من تقدير رابط في جملة الجواب، أي: شديد العقاب له، هذا؛ وإن اعتبرت الجواب محذوفا، أي: من يشاقق الله ورسوله يعاقبه الله، فتكون الجملة الاسمية:{فَإِنَّ اللهَ..} . إلخ مفيدة للتعليل. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم.

{ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النّارِ (14)}

الشرح: {ذلِكُمْ} : الإشارة إلى ما تقدم ذكره في الآية السابقة، والخطاب للكفار، وفي الآية السابقة للنبي صلى الله عليه وسلم، فيكون في الكلام التفات من المفرد إلى الجمع، وانظر الالتفات في الآية رقم [6] من سورة (الأنعام). {فَذُوقُوهُ} أي: ذوقوا ما تقدم ذكره، ففي ذلك استعارة تصريحية تبعية، حيث شبه ما حل بهم بالطعام الذي يؤكل، ثم حذفه، ورمز إليه بشيء من لوازمه، وهو الإذاقة، هذا؛ والذوق يكون محسوسا ومعنى، وقد يوضع موضع الابتلاء والاختبار، تقول: اركب هذا الفرس فذقه، أي: اختبره، وانظر فلانا فذق ما عنده، قال الشماخ يصف فرسا:[الطويل]

فذاق فأعطته من اللّين جانبا

كفى ولها أن يغرق السّهم حاجز

وأصله من الذوق بالفم. انتهى. قرطبي، وانظر الآية رقم [106] من (آل عمران).

{النّارِ} : أصلها النّور، تحركت الواو وانفتح ما قبلها، فقلبت ألفا، وهي من المؤنث المجازي. وقد تذكر، وتصغيرها: نويرة، والجمع: أنور، ونيران، ونيرة، ويكنى بها عن جهنم التي سيعذب الله بها الكافرين والفاسقين، وانظر الآية رقم [12] من سورة (الأعراف)، تجد ما يسرك.

ص: 22

الإعراب: {ذلِكُمْ} : ذكر فيه السمين أربعة أوجه: أحدها أنه خبر لمبتدإ محذوف، أي:

العقاب ذلكم، أو: الأمر ذلكم. الثاني: أنه مبتدأ، والخبر محذوف، أي: ذلكم العقاب، وعلى هذين يكون ما بعده كلاما مستأنفا، والثالث: أن {ذلِكُمْ} مبتدأ، والخبر ما بعده، وهذا على رأي الأخفش، الذي يرى زيادة الفاء في الخبر مطلقا، أعني: سواء تضمن المبتدأ معنى الشرط أم لا، وأما غيره فلا يجيز زيادتها إلا بشرط أن يكون المبتدأ مشبها لاسم الشرط، أي: كما في الآية رقم [15] من سورة (النساء). والآية رقم [41] من سورة (المائدة). الرابع: أن {ذلِكُمْ} منصوب بفعل مضمر، يفسره ما بعده، ويكون من باب الاشتغال. انتهى. جمل بتصرف كبير.

{فَذُوقُوهُ} : الفاء: حرف استئناف، أو هي زائدة انظر الإعراب المتقدم. (ذوقوه): أمر، وفاعله، ومفعوله، والجملة الفعلية مستأنفة، أو هي في محل رفع خبر المبتدأ، أو هي مفسرة حسب ما رأيت فيما تقدم من الإعراب. {وَأَنَّ}: حرف مشبه بالفعل. {لِلْكافِرِينَ} : متعلقان بمحذوف خبر (أن) تقدم على اسمها. {عَذابَ} : اسمها المؤخر، و {عَذابَ} مضاف، و {النّارِ} مضاف إليه، و {وَأَنَّ} واسمها وخبرها في تأويل مصدر معطوف على {ذلِكُمْ} على جميع الوجوه المذكورة فيه، أو هو في محل نصب على أنه مفعول معه، هذا؛ وقرئ بكسر الهمزة، وعليه فالجملة اسمية، وهي مستأنفة لا محل لها، وإن اعتبرتها حالا فيكون الرابط الواو فقط.

{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ (15)}

الشرح: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا..} . إلخ: هذا النداء يعم كل مؤمن في كل زمان ومكان إلى يوم القيامة، وانظر «الإيمان» في الآية رقم [2] من سورة (الأعراف) {إِذا لَقِيتُمُ..}. إلخ: أي:

في الحرب، ومعنى {لَقِيتُمُ}: قابلتم، ومصدره «اللّقي» بضم اللام وكسر القاف، و «اللّقى» بضم اللام مقصورا، و «اللقاء» بكسرها ممدودا ومقصورا، {زَحْفاً} أي: زاحفين، هذا؛ والزحف الدنو قليلا قليلا، وأصله: الاندفاع على الإلية، ثم سمي كل ماش في الحرب إلى آخر زاحفا، يقال: زحف إلى العدو زحفا، أي: مشى بعضهم إلى بعض. {الْأَدْبارَ} : جمع دبر، أي: فلا تعطوا ظهوركم إلى الكفار منهزمين، فإن المنهزم يولي ظهره ودبره.

الإعراب: {يا أَيُّهَا} : (يا): حرف نداء ينوب مناب أدعو. (أيها): نكرة مقصودة مبنية على الضم في محل نصب بأداة النداء، و «ها»: حرف تنبيه لا محل له. {الَّذِينَ} : اسم موصول مبني على الفتح بدل من أي، وانظر الآية رقم [158] الأعراف ففيها الدواء الشافي. {آمَنُوا}: فعل وفاعل والألف للتفريق، والمتعلق محذوف، وجملة:{آمَنُوا} صلة الموصول لا محل لها.

{إِذا} : ظرف لما يستقبل من الزمان، خافض لشرطه، منصوب بجوابه، صالح لغير ذلك، مبني على السكون في محل نصب. {لَقِيتُمُ}: فعل وفاعل، {الَّذِينَ}: مفعول به، مبني على الفتح

ص: 23

في محل نصب مفعول به، وجملة:{كَفَرُوا} صلة الموصول لا محل لها. {زَحْفاً} : حال من الفاعل والمفعول بمعنى متزاحفين يدبون إليكم، وتدبون إليهم فلا تنهزموا، أو من الفاعل وحده.

{فَلا} : الفاء: واقعة في جواب {إِذا} . (لا): ناهية. {تُوَلُّوهُمُ} : مضارع مجزوم ب (لا)، وعلامة جزمه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والهاء مفعول به أول.

{الْأَدْبارَ} : مفعول به ثان، وجملة:{فَلا تُوَلُّوهُمُ..} . إلخ جواب {إِذا} لا محل لها، و {إِذا} ومدخولها كلام لا محل له مثل الجملة الندائية، إذ هي مستأنفة مثلها. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم.

{وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاّ مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (16)}

الشرح: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاّ مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ} أي: ومن ينهزم ويعط ظهره للكفار يوم الحرب والقتال، إلا محتالا بأن يري عدوه من نفسه الانهزام، وقصده طلب الكرة على العدو، والعود إليه، وهذا من مكايد الحرب وخدعها. {أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ}: أو منضما إلى جماعة أخرى من المؤمنين ليستعين بهم، ويتقوى بكثرتهم. {فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ} أي: رجع بغضب من الله واستحق عقابه. {وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ} : مستقره وملجؤه جهنم، وانظر الآية رقم [151] من سورة (آل عمران) للفرق بين مأوى ومثوى. {وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}: بئس المرجع والمآل. هذا؛ وانظر شرح {يَوْمَئِذٍ} في الآية رقم [8] من سورة (الأعراف). {فِئَةٍ} : جماعة من الناس، وهي اسم جمع لا واحد له من لفظه، مثل قوم وفريق ومعشر

إلخ. {وَبِئْسَ} : انظر الآية رقم [40] الآتية.

تنبيه: جاء في الحديث الشريف عدّ الفرار من القتال في السبع الموبقات، ولا يكون هذا إلا إذا كان العدو دون مثلي جيش المسلمين. أما إذا كان العدو أكثر من ضعفي عدد المسلمين، فإن الفرار يوم الزحف لا يكون كبيرة، وانظر آية المصابرة الآية رقم [65] والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

الإعراب: {وَمَنْ} : الواو: حرف استئناف. (من): اسم شرط جازم مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {يُوَلِّهِمْ} : مضارع فعل الشرط مجزوم، وعلامة جزمه حذف حرف العلة من آخره، وهو الياء، والكسرة قبلها دليل عليها، والفاعل مستتر تقديره:«هو» يعود إلى (من)، والهاء: مفعول به أول. {يَوْمَئِذٍ} : ظرف زمان متعلق بالفعل قبله، وإذ ظرف لما مضى من الزمان مبني على السكون في محل جر بالإضافة، وحرك بالكسر لالتقاء الساكنين. {دُبُرَهُ}:

مفعول به ثان، والهاء في محل جر بالإضافة. {إِلاّ}: حرف حصر. {مُتَحَرِّفاً} : حال من

ص: 24

الفاعل المستتر، وقيل: منصوب على الاستثناء من المولين، التقدير: إلا رجلا متحرفا.

{لِقِتالٍ} : متعلقان ب {مُتَحَرِّفاً} . {مُتَحَيِّزاً} : معطوف على ما قبله. {إِلى فِئَةٍ} : متعلقان به. {فَقَدْ} : الفاء: واقعة في جواب الشرط. (قد): حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال.

{باءَ} : ماض والفاعل يعود إلى (من) أيضا تقديره: «هو» . {بِغَضَبٍ} : متعلقان بالفعل قبلهما. {مِنَ اللهِ} : متعلقان ب (غضب)، أو بمحذوف صفة له، وخبر المبتدأ الذي هو من مختلف فيه، كما رأيت في الآية رقم [13] والجملة الاسمية مستأنفة لا محل لها. {وَمَأْواهُ}:

الواو: واو الحال. (مأواه): مبتدأ مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف، والهاء: في محل جر بالإضافة. {جَهَنَّمُ} : خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل نصب حال من فاعل باء المستتر، والرابط الواو والضمير، وعطفها على جملة جواب الشرط لا يأباه المعنى:

{وَبِئْسَ} : الواو: حرف استئناف. (بئس): فعل ماض جامد دال على إنشاء الذم. {الْمَصِيرُ} :

فاعله، والمخصوص الذم محذوف، التقدير: وبئس المصير جهنم، وهذا المخصوص فيه وجهان: كونه مبتدأ مؤخرا، والجملة الفعلية في محل رفع خبر مقدم، وكونه خبرا لمبتدإ محذوف، التقدير: هي جهنم، والجملة:{وَبِئْسَ الْمَصِيرُ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها.

{فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (17)}

الشرح: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ} : الخطاب للمؤمنين، أي: إنكم لم تقتلوا المشركين يوم بدر، {وَلكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ} أي: بنصركم عليهم، وإلقاء الرعب في قلوبهم. {وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ}:

الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، أي: لم ترم رميا توصله إلى أعين الكافرين حين رميت التراب، وذريته في الهواء. {وَلكِنَّ اللهَ رَمى} أي: الذي أوصل التراب إلى أعينهم إنما هو الله تعالى. هذا؛ وقرئ بتخفيف: «(لكن)» ورفع لفظ الجلالة في الجملتين. {وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً} أي:

ولينعم الله على المؤمنين نعمة عظيمة بالنصر والغنيمة، والعزة والكرامة، هذا؛ وليبلي بمعنى ليختبر، وهذا الابتلاء والاختبار يكون بالخير والشر، انظر الآية رقم [168] من سورة (الأعراف) -ففيها الكفاية. {سَمِيعٌ}: لأقوال المؤمنين ودعائهم واستغاثتهم. {عَلِيمٌ} : بنياتهم وخفايا صدورهم، وهما صيغتا مبالغة بمعنى كثير العلم وشديد السمع. {اللهَ}: انظر الآية رقم [1]. {بَلاءً} : اسم مصدر لا مصدر، وأصله بلاي، وإعلاله مثل إعلال {السَّماءِ} في الآية رقم [96] من سورة (الأعراف).

تنبيه: روي أنه لما طلعت قريش، ورآها الرسول صلى الله عليه وسلم، قال:«اللهم هذه قريش جاءت بخيلائها وفخرها يكذبون رسولك، اللهم إني أسألك ما وعدتني» . فأتاه جبريل عليه السلام،

ص: 25

وقال له: خذ قبضة من تراب فارمهم بها، فلما التقى الجمعان، تناول كفّا من الحصباء، فرمى بها في وجوههم، وقال:«شاهت الوجوه!» ، فلم يبق مشرك إلا وشغل بعينه، فانهزموا وتبعهم المؤمنون يقتلونهم ويأسرونهم، ثم لما انصرفوا أقبلوا على التفاخر، فيقول الرجل: قتلت وأسرت، فنزلت الآية.

تنبيه: وقيل: المعنى ما رميت بالرعب إذ رميت بالحصباء، ولكن الله رمى بالرعب في قلوبهم، وقيل: إنه نزل في طعنة طعن بها الرسول صلى الله عليه وسلم أبي بن خلف يوم أحد، ولم يخرج منه دم، فجعل يخور حتى مات، وقيل: إن هذا الرمي كان يوم وقعة حنين، وقيل: إن المراد بالرمي السهم الذي رمى به رسول الله صلى الله عليه وسلم في حصن خيبر، فأصاب به ابن أبي الحقيق وهو نائم على فراشه، والمعتمد أن الرمي كان في غزوة بدر.

الإعراب: {فَلَمْ} : الفاء: مفاد كلام الزمخشري: أنها الفصيحة، إذ قدر: إن افتخرتم بقتلهم فلم تقتلوهم، وأراها حرف استئناف، وقيل: هي لربط الكلام بعضه ببعض، فإن أريد معنى، فلا بأس، وإن أريد إعرابا فلا وجه له. (لم): حرف نفي وقلب وجزم. {تَقْتُلُوهُمْ} : مضارع مجزوم ب (لم)، وعلامة جزمه حذف النون لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والهاء مفعوله، والجملة الفعلية لا محل لها على جميع الوجوه المعتبرة في الفاء. {وَلكِنَّ}: الواو:

حرف عطف. (لكن): حرف مشبه بالفعل. {اللهَ} : اسمها، أو هو مبتدأ على القراءة الثانية.

{قَتَلَهُمْ} : ماض ومفعوله، والفاعل يعود إلى (الله)، والجملة الفعلية في محل رفع خبر (لكن)، أو خبر المبتدأ، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها. {وَما}: الواو: حرف عطف. (ما):

نافية. {رَمَيْتَ} : فعل وفاعل. {إِذْ} : ظرف لما مضى من الزمان مبني على السكون في محل نصب متعلق بالفعل قبله، وجملة:{رَمَيْتَ} مع المفعول المحذوف في محل جر بإضافة {إِذْ} إليها، وجملة:{وَما رَمَيْتَ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها لا محل لها، وجملة:{وَلكِنَّ اللهَ رَمى} إعرابها مثل سابقتها، وهي معطوفة عليها. {وَلِيُبْلِيَ}: مضارع منصوب ب «أن» مضمرة بعد لام التعليل، والفاعل يعود إلى (الله). {الْمُؤْمِنِينَ}: مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الياء نيابة عن الفتحة لأنه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد. {مِنْهُ}: متعلقان باسم المصدر بعدهما، وتعليقهما بمحذوف حال منه جيد؛ وعليه فهو في الأصل صفة، فلما قدم عليه صار حالا، انظر الآية رقم [11] وقيل: يعود الضمير على الظفر، وقيل: على الرمي، وعليهما فالجار والمجرور متعلقان بالفعل (ليبلي). {حَسَناً}: صفة {بَلاءً،} و «أن» المضمرة والفعل المضارع في تأويل مصدر في محل جر باللام، والجار والمجرور معطوفان على مثلهما، وهما متعلقان جميعا بفعل محذوف، وتقدير الكلام: فعل الله ذلك؛ ليقهر الكافرين، وليختبر المؤمنين، وهذا الكلام مستأنف لا محل له. {إِنَّ}: حرف مشبه بالفعل. {اللهَ} : اسمها.

ص: 26

{سَمِيعٌ} : خبر. {عَلِيمٌ} : خبر ثان، والجملة الاسمية هذه مستأنفة أيضا لا محل لها. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم.

{ذلِكُمْ وَأَنَّ اللهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ (18)}

الشرح: {ذلِكُمْ} : الخطاب للمؤمنين، والإشارة إلى البلاء الحسن، وهو النصر والظفر بالمشركين، أو إلى الرمي المذكور في الآية السابقة. {وَأَنَّ اللهَ مُوهِنُ..}. إلخ: أي: واعلموا أن الله مضعف كيد الكافرين ومذلهم بالقتل والأسر، وقد حقق الله وعده، ونصر عبده، وأعز جنده، هذا؛ والكيد: المكر كما رأيت في الآية رقم [183] من سورة (الأعراف). {اللهَ} : انظر الآية رقم [1] وانظر {كَفَرُوا} في الآية رقم [66] من سورة (الأعراف). هذا؛ وقد قرئ:

«(موهن)» بتشديد الهاء وتخفيفها، وتنوين النون وعدمه.

الإعراب: {ذلِكُمْ} : اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع مبتدأ خبره محذوف، التقدير: ذلكم الإبلاء حق، وقيل: خبر لمبتدإ محذوف. التقدير: المقصود أو الأمر ذلكم، والأمر ذلكم، والأول أصح وأقوى. الواو: حرف عطف.. (أن): حرف مشبه بالفعل. {اللهَ} :

اسمها. {مُوهِنُ} : خبرها، وهو مضاف، و {كَيْدِ} مضاف إليه، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وعلى قراءة التنوين، ف (كيد) مفعول به منصوب. وعلى الوجهين ففاعل {مُوهِنُ} مستتر تقديره:

«هو» يعود إلى {اللهَ،} و {كَيْدِ} مضاف، و {الْكافِرِينَ} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الياء نيابة عن الكسرة لأنه جمع مذكر سالم، والنون بدل من التنوين في الاسم المفرد، و {وَأَنَّ} واسمها وخبرها في تأويل مصدر في محل رفع معطوف على {ذلِكُمْ} على الوجهين المعتبرين فيه، هذا؛ ويجوز أن يكون المصدر في محل نصب مفعول به لفعل محذوف، التقدير: واعلموا أن الله

إلخ، وقال الزمخشري: معطوف على (ليبلي)، وليس بشيء.

{إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (19)}

الشرح: {إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ} : الخطاب لأهل مكة على سبيل التهكم؛ لأنهم الذين وقع بهم الهلاك والذلة، وذلك: أنهم حين أرادوا الخروج إلى بدر تعلق أبو جهل وغيره بأستار الكعبة، وقالوا: اللهم انصر أعلى الجندين، وأهدى الفئتين، وأكرم الحزبين، وهذا الدعاء في الواقع عليهم، وإن قصدوا به الدعاء على الرسول صلى الله عليه وسلم وحزبه، {وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} أي: إن تنتهوا عن الكفر ومعاداة الرسول فهو خير لكم لتضمنه سلامة الدارين، و {خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ}: الجنة أو النار. {وَإِنْ تَعُودُوا} أي: لمحاربة محمد ومعاداته. {نَعُدْ} أي: لنصرته عليكم. {وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ..} . إلخ:

ص: 27

أي: لا تنفعكم كثرتكم مهما بلغت، وقوتكم مهما عظمت. {وَأَنَّ اللهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ}: بالنصر والمعونة والتأييد، هذا؛ وقرئ بفتح همزة:(أنّ) وكسرها، هذا؛ وقال البيضاوي: وقيل: الآية خطاب للمؤمنين، والمعنى إن تستنصروا فقد جاءكم النصر، وإن تنتهوا عن التكاسل في القتال، والرغبة عما يستأثره الرسول صلى الله عليه وسلم فهو خير لكم، وإن تعودوا إليه نعد عليكم بالإنكار والتوبيخ، أو تهييج العدو، ولن تغني عنكم حينئذ كثرتكم، إذا لم يكن الله معكم بالنصر والتأييد، فإنه مع الكاملين في إيمانهم، ويؤكد ذلك الآية التالية. انتهى. بتصرف.

الإعراب: {إِنْ} : حرف شرط جازم. {تَسْتَفْتِحُوا} : مضارع فعل الشرط مجزوم، وعلامة جزمه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية لا محل لها لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي. {فَقَدْ} : الفاء: واقعة في جواب الشرط. (قد): حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال. {جاءَكُمُ} : ماض ومفعوله، والميم في الكل علامة جمع الذكور. {الْفَتْحُ}: فاعل، والجملة الفعلية في محل جزم جواب الشرط عند الجمهور، والدسوقي يقول: لا محل لها لأنها لم تحل محل المفرد، و (إن) ومدخولها كلام مستأنف لا محل له، وإعراب:{وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} . {وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ} مثل إعراب ما قبلهما بلا فارق، وهو ظاهر، إن شاء الله تعالى. {وَلَنْ}: الواو: حرف استئناف. (لن): حرف نصب ونفي واستقبال. {تُغْنِيَ} : مضارع منصوب ب (لن). {عَنْكُمْ} : متعلقان بما قبلهما.

{فِئَتُكُمْ} : فاعل، والكاف في محل جر بالإضافة. {شَيْئاً}: مفعول به، وقيل: نائب مفعول مطلق، التقدير: إغناء شيئا. {وَلَوْ} : الواو: واو الحال. (لو): وصلية. {كَثُرَتْ} : ماض، والتاء للتأنيث، والفاعل يعود إلى فئتكم، والجملة الفعلية في محل نصب حال من فئتكم، والرابط الواو والضمير، هذا؛ وإن اعتبرت (لو) شرطية؛ يكن جوابها محذوفا لدلالة ما قبله عليه، والجملة الفعلية:{وَلَنْ تُغْنِيَ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها. {وَإِنْ} : حرف مشبه بالفعل. {اللهَ} : اسمها.

{مَعَ} : ظرف مكان متعلق بمحذوف خبر (أن)، و {مَعَ} مضاف، و {الْمُؤْمِنِينَ} مضاف إليه مجرور

إلخ، و {وَإِنْ} واسمها وخبرها في تأويل مصدر في محل جر بحرف جر محذوف، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف، قدره السمين بتقديرين: الأول: ولأن الله مع المؤمنين كان كيت وكيت، والثاني: ولأن الله مع المؤمنين امتنع عنادهم، وقدر ثالثا على أنه خبر مبتدأ محذوف، التقدير: والأمر: أن الله مع المؤمنين، وهذا الوجه الأخير يقرب في المعنى من قراءة الكسر؛ لأنه استئناف. انتهى. بتصرف بسيط. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم.

{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (20)}

الشرح: {اللهَ وَرَسُولَهُ} : انظر الآية رقم [1]. {وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ} أي: لا تتولوا عن الرسول صلى الله عليه وسلم، فإن المراد من الآية الأمر بطاعته، والنهي عن الإعراض عنه، وذكر طاعة الله

ص: 28

للتوطئة، والتنبيه على أن طاعته في طاعة الرسول، لقوله تعالى {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ} هذا؛ وقد حذفت تاء المضارعة من الفعل:{تَوَلَّوْا} إذ أصله: تتولوا، وهذا الحذف مستعمل وكثير في الآيات القرآنية، وفي الكلام العربي، هذا؛ وقد قيل: إن الضمير يعود للجهاد، أو للأمر الذي دل عليه الطاعة. {وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ}: القرآن والمواعظ سماع قبول وتصديق، وانظر الآية رقم [100] من سورة (الأعراف) -تجد فيها بحثا جيدا في متعلق الفعل، هذا؛ وانظر الحديث في الآية رقم [12] من سورة (التوبة) تجد ما يسرك.

الإعراب: {يا أَيُّهَا} : (يا): حرف نداء ينوب مناب أدعو. (أيها): نكرة مقصودة مبنية على الضم في محل نصب بأداة النداء، و «ها»: حرف تنبيه لا محل له من الإعراب، وأقحم للتوكيد، وهو عوض من المضاف إليه. {الَّذِينَ}: اسم موصول مبني على الفتح بدل من أي، وانظر الآية رقم [158] الأعراف ففيها بحث جيد. {آمَنُوا}: فعل وفاعل، والألف للتفريق، والمتعلق محذوف، والجملة الفعلية صلة الموصول {أَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ} انظر الآية رقم [1]، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية كالجملة الندائية قبلها. {وَلا}: ناهية جازمة. {تَوَلَّوْا} : مضارع مجزوم ب (لا) الناهية، وعلامة جزمه حذف النون لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها لا محل لها أيضا. {عَنْهُ}: متعلقان بالفعل قبلهما. {وَأَنْتُمْ} : الواو: واو الحال. (أنتم): ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {تَسْمَعُونَ} : فعل وفاعل والمفعول محذوف، كما رأيت في الشرح، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية:{وَأَنْتُمْ..} . إلخ في محل نصب حال من واو الجماعة، والرابط: الواو، والضمير.

{وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (21)}

الشرح: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا} أي: بألسنتهم كالكفرة والمنافقين. {سَمِعْنا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ} أي: سماع تدبر وتفكر وانتفاع، فهم بمنزلة من لم يسمع وأعرض عن الحق، ومفعول الفعل محذوف كما في الآية السابقة.

قال القرطبي: نهى الله المؤمنين أن يكونوا مثلهم، فدلت الآية على أن قول المؤمن: سمعت وأطعت، لا فائدة فيه ما لم يظهر أثر ذلك عليه بامتثال فعله، فإذا قصر في الأوامر، فلم يأتها، واعتمد النواهي فاقتحمها، فأي: سمع وطاعة عنده؟! وإنما يكون حينئذ بمنزلة المنافق الذي يظهر الإيمان ويسر الكفر. انتهى. بتصرف. وانظر القول في الآية رقم [5] الأعراف.

الإعراب: {وَلا} : الواو: حرف عطف. (لا): ناهية جازمة. {تَكُونُوا} : مضارع ناقص مجزوم ب (لا)، وعلامة جزمه حذف النون، والواو اسمه والألف للتفريق. {كَالَّذِينَ}: جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر {تَكُونُوا،} هذا؛ وإن اعتبرت الكاف اسما بمعنى مثل، فتكون هي

ص: 29

الخبر، وتكون مضافا، و (الذين) مبني على الفتح في محل جر بالإضافة، وجملة:{سَمِعْنا} مع المفعول المحذوف في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالُوا..} . إلخ صلة الموصول لا محل لها، وإعراب {وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ} مثل إعراب:{وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ} في الآية السابقة، ومحلها كمحلها بلا فارق.

{إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (22)}

الشرح: {شَرَّ} : انظر الآية رقم [12] الأعراف. {الدَّوَابِّ} : جمع دابة، وهي تشمل كل ما يدب على وجه الأرض من إنسان، وحيوان. {الصُّمُّ} أي: عن سماع الحق سماع تدبر وتفهم. {الْبُكْمُ} أي: عن النطق بالحق، والأول جمع: أصم، وهو فاقد السمع، والثاني جمع: أبكم، وهو المعقود لسانه عن الكلام. {الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ} أي: لا يفهمون ما يقال لهم، ومعنى {عِنْدَ اللهِ} أي: في حكمه وقضائه وتقديره، هذا؛ وقد جعل الله الكفار شر الدواب، وهو ما نوهت به الآية رقم [179] من سورة (الأعراف)، انظرها تجد ما يسرك.

قال ابن عباس-رضي الله عنهما: هم نفر من بني عبد الدار بن قصي، كانوا يقولون:

نحن صم بكم عمي عما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم فقتلوا جميعا يوم أحد، وكانوا أصحاب اللواء، ولم يسلم منهم إلا رجلان: مصعب بن عمير، وسويبط بن حرملة رضي الله عنهما. انتهى. خازن.

وقال البيضاوي: عدهم الله من البهائم، ثم جعلهم شرها، لإبطالهم ما ميزوا به، وفضلوا لأجله عن الحيوان، أي: وهو العقل. انتهى. بتصرف.

هذا؛ والعقل: نور روحاني به تدرك النفس ما لا تدركه بالحواس، وسمي العقل عقلا؛ لأنه يعقل صاحبه، أي: يمنعه من فعل الرذائل، لذا فإن كل شخص لا يسير على الجادة المستقيمة لا يكون عاقلا بالمعنى الصحيح، فقد ورد: أنه مر رجل معتوه على مجلس النبي صلى الله عليه وسلم، فقال الصحابة-رضي الله عليهم- «هذا رجل مجنون» فقال:«هذا مصاب إنما المجنون من أصر على معصية الله» هذا؛ والعقل: الدية سميت بذلك لأن الإبل المؤداة تعقل بباب ولي المقتول، والعقال بكسر العين: الحبل الذي تشد به ركبة الجمل عند بروكه ليمنعه من القيام والمشي، والعقال أيضا صدقة عام، قال شاعر يهجو عاملا على الصدقات:[البسيط]

سعى عقالا، فلم يترك لنا سبدا

فكيف لو قد سعى عمرو عقالين؟

لأصبح النّاس أوبادا، ولم يجدوا

عند التّفرّق في الهيجا جمالين

الإعراب: {إِنَّ} : حرف مشبه بالفعل. {شَرَّ} : اسمها، وهو مضاف، و {الدَّوَابِّ}:

مضاف إليه. {عِنْدَ} : ظرف مكان متعلق ب {شَرَّ} لأنه أفعل تفضيل، و {عِنْدَ}: مضاف،

ص: 30

و {اللهِ} : مضاف إليه. {الصُّمُّ} : خبر {إِنَّ} . {الْبُكْمُ} : خبر ثان. {الَّذِينَ} : اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع خبر ثالث، وجملة:{لا يَعْقِلُونَ} صلة الموصول لا محل لها، والجملة الاسمية:{إِنَّ شَرَّ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها من الإعراب.

{وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23)}

الشرح: {وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً} أي: لو سبق علم الله أن فيهم خيرا، وهذا يكون بتقدير أزلي. {لَأَسْمَعَهُمْ} أي: الحجج والبراهين إسماع تفهم، ولكن سبق علمه بشقاوتهم. {وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ}: وقد علم أن لا خير فيهم. {لَتَوَلَّوْا} : لأعرضوا عن الإيمان، ولم ينتفعوا به، أو ارتدوا بعد التصديق والقبول، هذا؛ وقيل: كانوا يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم: أحي لنا قصيّا، فإنه كان شيخا مباركا حتى يشهد لك، ونؤمن بك، ويكون المعنى: ولو أسمعهم كلام قصي، والله أعلم بمراده وأسرار كتابه.

الإعراب: {وَلَوْ} : (لو): حرف لما كان سيقع لوقوع غيره. {عَلِمَ اللهُ} : فعل وفاعل، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي. {فِيهِمْ} :

متعلقان بما قبلهما. {خَيْراً} : مفعول به، وجملة:{لَأَسْمَعَهُمْ} جواب (لو) لا محل لها، و (لو) ومدخولها كلام مستأنف لا محل له. {لَتَوَلَّوْا}: ماض مبني على فتح مقدر على الألف المحذوفة لالتقائها ساكنة مع واو الجماعة، التي هي فاعله، والألف للتفريق، واللام واقعة في جواب (لو)، والجملة الفعلية جواب (لو) الثانية لا محل لها، و (لو) ومدخولها كلام معطوف على ما قبله لا محل له مثله، والجملة الاسمية:{وَهُمْ مُعْرِضُونَ} في محل نصب حال من واو الجماعة، والرابط:

الواو، والضمير، وهي حال مؤكدة مثل قوله تعالى:{وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} .

{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اِسْتَجِيبُوا لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ وَاِعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24)}

الشرح: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا..} . إلخ: هذا الخطاب للمؤمنين المصدقين بلا خلاف، والاستجابة الإجابة، وتكون بالطاعة والانقياد، وانظر الآية رقم [1] لشرح الاسمين الكريمين. {إِذا دَعاكُمْ} أي: الرسول صلى الله عليه وسلم، وإنما وحد الضمير الفاعل؛ لأن إجابة الرسول استجابة لله تعالى، وإنما يذكران معا للتوكيد، وهذه الآية تدل على أنه لا بد من الإجابة في كل ما دعا الله ورسوله إليه. عن أبي سعيد بن المعلى، قال: «كنت أصلي في المسجد، فدعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم أجبه، ثم أتيته، فقلت: يا رسول الله إني كنت أصلي، فقال: «ألم يقل الله:

{اِسْتَجِيبُوا لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ»} . رواه البخاري.

ص: 31

هذا؛ واختلف في إجابته صلى الله عليه وسلم، فقيل: إن إجابته لا تقطع الصلاة؛ لأن الصلاة أيضا إجابة، وقيل: إن دعاءه كان لأمر لا يحتمل التأخير، وهذه الآية مختصة بالنبي صلى الله عليه وسلم، فعلى هذا ليس لأحد أن يقطع صلاته لدعاء أحد آخر، وقيل: لو دعاه أحد لأمر مهم لا يحتمل التأخير، فله أن يقطع صلاته. {لِما يُحْيِيكُمْ}: قال السدي: هو الإيمان؛ لأن الكافر ميت، فيحيا بالإيمان، وقال قتادة: هو القرآن؛ لأنه حياة القلوب، وفيه النجاة والعصمة في الدارين، وقال محمد بن إسحاق: هو الجهاد لأن الله أعزه به بعد الذل، وقيل: هو الشهادة لأن الشهداء أحياء عند ربهم يرزقون، وقيل: هو العلوم الدينية، فإنها حياة القلوب، والجهل موتها، رحم الله القائل:[الرجز]

لا تعجبنّ الجهول حلّته

فذاك ميّت، وثوبه كفن

{وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} : قال السدي: يحول بين الإنسان وقلبه، فلا يستطيع أن يؤمن، أو يكفر إلا بإذن الله، قال الخازن: وقد دلت البراهين العقلية على هذا القول؛ لأن أحوال القلوب اعتقادات ودواعي، وتلك الاعتقادات والدواعي لا بد أن تتقدمها الإرادة، وتلك الإرادة لا بد لها من فاعل مختار، وهو الله، فثبت بذلك أن المتصرف في القلب كيف شاء هو الله تعالى. فعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنّ قلوب بني آدم بين إصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفه حيث شاء ثم قال: اللهم مصرّف القلوب ثبّت قلوبنا على طاعتك» . متفق عليه. وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول: «يا مقلب القلوب ثبّت قلوبنا على دينك» . فقلنا: يا رسول الله قد آمنّا بك، وبما جئت به، فهل تخاف علينا؟ قال:«نعم إن القلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلّبها كيف شاء» . أخرجه الترمذي، وهذا الحديث من أحاديث الصفات، فيجب تأويلها لتنزيه الله عن الجارحة والجسم، وقيل: معنى {يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} هو تمثيل لغاية قربه تعالى من العبد، كقوله {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} وتنبيه على أنه مطلع على مكنونات القلوب ما عسى يغفل عنها صاحبها، وقيل غير ذلك. وفي {يَحُولُ} استعارة تبعية، فمعنى {يَحُولُ} يقرب، أو تمثيلية، وقيل: مجاز مرسل. انتهى. جمل. هذا؛ و {الْمَرْءِ} بفتح الميم وتضم في لغة، والمراد منه الإنسان، وقرئ:«(المر)» بفتح الميم وتشديد الراء، وتوجيهها أن يكون نقل حركة الهمزة إلى الراء، ثم شدد الراء، وأجرى الوصل مجرى الوقف. انتهى. جمل نقلا عن السمين. وانظر الآية رقم [175] من سورة (النساء).

الإعراب: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} : انظر إعراب هذه الكلمات في الآية رقم [20] والمحال عليها.

{اِسْتَجِيبُوا} : فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق، وانظر إعراب:

{اُسْجُدُوا} في الآية رقم [11] الأعراف والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية كالجملة الندائية قبلها. {لِلّهِ} : متعلقان بما قبلهما. {وَلِلرَّسُولِ} : معطوفان على ما قبلهما. {إِذا} : ظرف متعلق

ص: 32

بالفعل {اِسْتَجِيبُوا} . {دَعاكُمْ} : ماض مبني على فتح مقدر على الألف للتعذر، والفاعل يعود إلى الرسول، والكاف مفعول به. {لِما}: متعلقان بالفعل قبلهما، وما: تحتمل الموصولة والموصوفة والمصدرية، فعلى الأولين مبنية على السكون في محل جر باللام. {يُحْيِيكُمْ}: مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء، والفاعل يعود إلى الرسول، والكاف مفعول به، والجملة الفعلية صلة ما، أو صفتها، والعائد أو الرابط محذوف، إذ التقدير: يحييكم به، وعلى اعتبار ما مصدرية تؤول مع الفعل بعدها بمصدر في محل جر باللام، أي: لإحيائكم، واعتبار {إِذا} شرطية ضعيف هنا. {أَنَّ}: حرف مشبه بالفعل. {اللهَ} : اسمها. {يَحُولُ} : مضارع، وفاعله يعود إلى (الله)، والجملة الفعلية خبر {أَنَّ،} و {أَنَّ} واسمها وخبرها في تأويل مصدر في محل نصب سد مسد مفعولي: (اعلموا)، والجملة الفعلية هذه معطوفة على جملة {اِسْتَجِيبُوا} لا محل لها مثلها. {بَيْنَ}: ظرف مكان متعلق بالفعل قبله، و {بَيْنَ}: مضاف، و {الْمَرْءِ}: مضاف إليه.

{وَقَلْبِهِ} : معطوف على ما قبله، والهاء: في محل جر بالإضافة. {وَأَنَّهُ} : حرف مشبه بالفعل، والهاء: اسمها. {إِلَيْهِ} : متعلقان بما بعدهما. {تُحْشَرُونَ} : مضارع مبني للمجهول، والواو نائب فاعله، والجملة الفعلية في محل رفع خبر (أن)، و (أن) واسمها وخبرها في تأويل مصدر معطوف على سابقه، فهو في محل نصب مثله.

{وَاِتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاِعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (25)}

الشرح: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ..} . إلخ: أي: احذروا وخافوا فتنة، إن كثرت، ونزل العذاب بسببها لا يقتصر على الظالمين والفاسدين، بل يعم الصالح والمفسد، والتقي والشقي، قال ابن عباس-رضي الله عنهما-أمر الله المؤمنين ألا يقروا المنكر بين أظهرهم، فيعمهم العذاب، وهذا هو الذي تعضده الأحاديث الصحيحة، ففي صحيح مسلم عن زينب بنت جحش:

أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله! أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: «نعم إذا كثر الخبث» . وفي سنن الترمذي «إنّ الناس إذا رأوا الظّالم، ولم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعذاب من عنده» . وانظر الآية رقم [104] آل عمران والآية رقم [81] المائدة وما بعدها، والآية رقم [162] الأعراف، وما بعدها.

هذا؛ وقال البيضاوي: اتقوا ذنبا يعمكم أثره، كإقرار المنكر بين أظهركم، والمداهنة في الأمر بالمعروف، وافتراق الكلمة، وظهور البدع، والتكاسل في الجهاد. وهذا على تفسير الفتنة بالذنب، وأما على تفسيرها بالبلاء الذي يتسبب عن المنكر، وهو العذاب الدنيوي، فيكون بالأمراض الخبيثة، والقحط، والغلاء، وتسلط الظلمة، وغير ذلك كافتراق الكلمة. {وَاعْلَمُوا أَنَّ}

ص: 33

اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ أي: أيقنوا أن الله شديد الانتقام ممن عصاه، وممن رضي بالمعصية، وسكت، ولم ينكرها بما يقدر، ويغيرها بيده أو بلسانه، فعن عدي بن عميرة الكندي، قال: حدثني مولى لنا أنه سمع جدي يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله لا يعذب العامّة بعمل الخاصّة حتى يروا المنكر بين ظهرانيهم، وهم قادرون على أن ينكروه فلا ينكروه، فإذا فعلوا ذلك عذّب الله العامة والخاصّة» . رواه البغوي، والذي ذكره ابن الأثير في جامع الأصول عن عدي المذكور: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا عملت الخطيئة في الأرض كان من شهدها فأنكرها، كمن غاب عنها، ومن غاب عنها فرضيها، كان كمن شهدها» . أخرجه أبو داود، والأحاديث في ذلك كثيرة.

الإعراب: {وَاتَّقُوا} : أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق، {فِتْنَةً}: مفعول به، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها لا محل لها أيضا. {لا تُصِيبَنَّ}:

لا: نافية. {تُصِيبَنَّ} : مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة التي هي حرف لا محل له، وهو في محل جزم في جواب الأمر، وهو في الحقيقة مجزوم بشرط مقدر عند البصريين كما يلي:(إن تتقوا فتنة لا تصيبن) وعند الكوفيين كما يلي: (واتقوا فتنة إن أصابتكم لا تصيبن)، وفيه أن جواب الشرط متردد فلا يليق به النون المؤكدة، لكنه لما تضمن معنى النهي ساغ فيه، كقوله تعالى حكاية عن قول النملة لجماعتها:{اُدْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ} هذا وجه لإعراب هذه الجملة، والوجه الثاني أن الجملة في محل نصب صفة {فِتْنَةً،} و {لا} للنفي، وفيه شذوذ؛ لأن النون لا تدخل المنفي في غير القسم، أو هي (لا) الناهية، ولا يصح إلا على تقدير القول كقول الشاعر:[الرجز]

حتّى إذا جنّ الظلام واختلط

جاءوا بمذق، هل رأيت الذّئب قط؟

التقدير في الآية الكريمة: اتقوا فتنة مقولا فيها: {لا تُصِيبَنَّ،} وفي البيت: بمذق مقول فيه: هل رأيت

إلخ، فالقول المقدر وقع صفة ل {فِتْنَةً،} ولمذق كما ترى، والوجه الثالث: أن الجملة جواب لقسم مقدر، التقدير: والله لا تصيبن، ويؤيده قراءة من قرأ:

«(لتصيبنّ)» بلا ألف، قال المهدوي: يجوز أن تكون اللام مقصورة من (لا) حذفت الألف كما حذفت من (ما) وهي أخت (لا) في نحو: أم والله لأفعلنّ، وشبهه، ويجوز أن تكون مخالفة لقراءة الجماعة، فيكون المعنى: أنها تصيب الظالم خاصة، أقول: وهذا المعنى غير مراد من الآية كما رأيت فيما سبق، والقسم وجوابه كلام مستأنف لا محل له، وقيل: صفة ل {فِتْنَةً،} فيقع المحذور السابق الذي من أجله قدر مقول محذوف لأن القسم إنشاء، وعلى جميع الوجوه المتقدمة فالفاعل مستتر تقديره هي يعود إلى {فِتْنَةً}. {الَّذِينَ}: اسم موصول مبني على الفتح في محل نصب مفعول به. {ظَلَمُوا} : فعل وفاعل، والألف للتفريق، والجملة الفعلية صلة الموصول لا محل لها. {مِنْكُمْ}: متعلقان بمحذوف حال من واو الجماعة. {خَاصَّةً} : صفة

ص: 34

لمفعول مطلق محذوف، التقدير: لا تصيبن

إصابة خاصة، وقيل: هي حال من الفاعل المستكن بالفعل: {تُصِيبَنَّ} . (اعلموا): إعرابه مثل إعراب: (اتقوا). {أَنَّ} : حرف مشبه بالفعل. {اللهَ} : اسمها. {شَدِيدُ} : خبرها، وهو مضاف، و {الْعِقابِ}: مضاف إليه من إضافة الصفة المشبهة لفاعلها، إذ الأصل شديد عقابه، و {أَنَّ} واسمها وخبرها في تأويل مصدر في محل نصب سد مسد مفعولي:{وَاعْلَمُوا} وهذه الجملة معطوفة على ما قبلها.

{وَاُذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النّاسُ فَآواكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (26)}

الشرح: {وَاذْكُرُوا..} . إلخ: هذا الخطاب للمهاجرين، وقيل: للعرب عامة، فإنهم كانوا أذلاء تحت سيطرة الروم والفرس. {مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ}: في مكة يستضعفكم قريش.

{تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النّاسُ} : كفار قريش، أو من عداهم، فإنهم جميعا كانوا معادين للمسلمين مضادين لهم، هذا؛ والخطف: الأخذ بسرعة، وانظر شرح {النّاسُ} في الآية رقم [82] الأعراف. {فَآواكُمْ} أي: إلى المدينة، وجعلها لكم مأوى تتحصنون به، هذا؛ وأوى إليه اطمأن وسكن إليه، ومنه قوله تعالى حكاية عن قول لوط عليه السلام {لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ}. {وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ}: فقواكم وشد عزيمتكم على الكفار، وكان ذلك بإمداد الملائكة، أو بمعاونة الأنصار على الكفار. {وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ}: المراد بها الغنائم التي أحلت للمؤمنين ولم تحل لمن قبلهم. {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} أي: تشكرون الله على نعمه عليكم، وانظر مثل هذا الترجي في الآية رقم [168](الأعراف).

هذا؛ وقال الخازن: لما أمر الله المؤمنين بطاعة الله وطاعة رسوله، وحذرهم من الفتنة ذكرهم نعمته عليهم، فقال تعالى، اذكروا يا معشر المهاجرين المؤمنين، إذ أنتم

إلخ، وهذه الآية نزلت بعد غزوة بدر تذكر المسلمين بما أنعم الله عليهم.

الإعراب: {وَاذْكُرُوا} : (اذكروا): أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق، وانظر إعراب:{اُسْجُدُوا} في الآية رقم [11] من سورة (الأعراف). {إِذْ} : ظرف لما مضى من الزمان مبني على السكون في محل نصب متعلق بما قبله. {أَنْتُمْ} : ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {قَلِيلٌ} : خبر أول. {مُسْتَضْعَفُونَ} : خبر ثان مرفوع

إلخ، {فِي الْأَرْضِ}: متعلقان ب {مُسْتَضْعَفُونَ،} وجملة: {تَخافُونَ} في محل رفع خبر ثالث، أو هي في محل نصب حال من الضمير المستتر ب {مُسْتَضْعَفُونَ،} والمصدر المؤول من {أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النّاسُ} في محل نصب مفعول به، والجملة الاسمية:{أَنْتُمْ قَلِيلٌ..} . إلخ في محل جر بإضافة {إِذْ} إليها، وجملة (اذكروا

) إلخ معطوفة على ما قبلها لا محل لها أيضا.

ص: 35

{فَآواكُمْ} : ماض مبني على فتح مقدر على الألف، والفاعل يعود إلى الله، وهو مفهوم من المقام، والكاف مفعول به، والجملة الفعلية معطوفة على الجملة الاسمية قبلها، فهي في محل جر مثلها، وتقدير مبتدأ قبلها فيه تكلف، وما بعدها معطوف عليها، ولا تنس أن مفعول (رزق) الثاني محذوف، تقديره: حلالا. {لَعَلَّكُمْ} : حرف مشبه بالفعل، والكاف اسمها.

{تَشْكُرُونَ} : فعل وفاعل، والمفعول محذوف كما رأيت في الشرح، والجملة الفعلية في محل رفع خبر لعل، والجملة الاسمية:{لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} تعليل للنعم المذكورة.

{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (27)}

الشرح: {آمَنُوا} : انظر الإيمان في الآية رقم [2] الأعراف. {اللهَ وَالرَّسُولَ} : انظر الآية رقم [1]. وخيانة الله ورسوله تكون بتعطيل الفرائض والسنن، أو بأن يظهر الإنسان خلاف ما يضمر، وهذا نفاق، وتكون الخيانة بالغلول في الغنائم، هذا؛ وأصل الخون: الغدر والنقص، كما أن أصل الأمانة الوفاء والتمام، والخيانة بجميع أنواعها صفة ذميمة تستوجب الذم، كيف لا؟ والرسول صلى الله عليه وسلم، قد استعاذ منها بقوله:«اللهمّ إنّي أعوذ بك من الجوع فإنّه بئس الضّجيع وأعوذ بك من الخيانة فإنّها بئست البطانة» . أخرجه النسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه، هذا؛ وانظر الأمانة في الآية رقم [58] من سورة (النساء). {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}: أنكم تخونون، أو: أنتم علماء تميزون الحسن من القبيح، أو ما في الخيانة من القبح والعار.

تنبيه: نزلت الآية في أبي لبابة، قال الجلال: اسمه مروان بن عبد المنذر، وقيل: اسمه رفاعة، وقيل: اسمه هارون، وقيل: عمرو، وهو أنصاري-رضي الله عنه-وكانت الحادثة فيما يروى: أن النبي صلى الله عليه وسلم حاصر بني قريظة بعد نقضهم العهد والميثاق، وانضمامهم إلى قريش في محاصرة المدينة المنورة في غزوة الخندق إحدى وعشرين ليلة، فسألوه الصلح كما صالح إخوانهم بني النضير، وبني قينقاع، على أن يخرجوا إلى أذرعات وأريحاء بأرض الشام، فأبى إلا أن ينزلوا على حكم سعد بن معاذ رضي الله عنه، فأبوا، وقالوا: أرسل لنا أبا لبابة، وكان مناصحا لهم لأن عياله وأمواله في أيديهم، فبعثه إليهم، فقالوا: يا أبا لبابة، ما ترى؟ أننزل على حكم سعد بن معاذ؟ فقال: نعم، وأشار إلى حلقه: أنه الذبح، قال أبو لبابة. فما زالت قدماي حتى علمت أني خنت الله ورسوله، ثم انطلق على وجهه، ولم يأت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشد نفسه على سارية من سواري المسجد، وقال: والله لا أذوق طعاما ولا شرابا حتى أموت، أو يتوب الله علي، فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خبره، قال: أما لو جاءني لاستغفرت له، أما إذ فعل ما فعل، فإني لا أطلقه حتى يتوب الله عليه، فمكث سبعة أيام لا يذوق طعاما ولا شرابا حتى خر مغشيا عليه، ثم تاب الله عليه، فقيل له: يا أبا لبابة قد تيب عليك، فقال: والله لا أحل نفسي حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم هو

ص: 36

الذي يحلني، فجاءه فحله بيده، ثم قال يا رسول الله! إن تمام توبتي أن أهجر دار قومي التي أصبت فيها الذنب، وأن أنخلع من مالي، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم:«يجزيك الثلث أن تتصدق به» . فنزلت الآية الكريمة والتي بعدها، وقد تضمنتا الحادثة، وفيها إشارة إلى قبول توبته والعفو عنه.

وأما بنو قريظة فقد حكم فيهم سعد رضي الله عنه أن تقتل الرجال، وتقسم الأموال، وتسبى الذراري والنساء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة» . أي:

سبع سماوات، وذلك جزاء من ينقض العهد، ويحارب الله ورسوله. وسترى ذلك مفصلا في سورة (الأحزاب) إن شاء الله تعالى.

الإعراب: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} انظر إعراب هذه الجملة في الآية رقم [20]. {لا تَخُونُوا} :

مضارع مجزوم ب {لا} الناهية، وعلامة جزمه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية كالجملة الندائية قبلها.

{اللهَ} : منصوب على التعظيم. {وَالرَّسُولَ} : معطوف على ما قبله. {وَتَخُونُوا} : مجزوم بسبب العطف على ما قبله، أو هو منصوب. ب «أن» مضمرة بعد واو المعية، والجزم أو النصب بحذف النون، وعلى النصب تؤول «أن» المضمرة مع الفعل بمصدر معطوف على مصدر متصيد من الفعل السابق، والتقدير: لا يكن منكم خيانة لله ورسوله، ولا خيانة لأماناتكم، {أَمِنْتُكُمْ}:

مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مؤنث سالم، والكاف: في محل جر بالإضافة. {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} انظر إعراب مثل هذه الجملة ومحلها في الآية رقم [20] ومفعول الفعل محذوف، كما رأيت في الشرح للتعميم.

{وَاِعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (28)}

الشرح: {وَاعْلَمُوا} : أيقنوا. {أَمْوالُكُمْ} : قال ابن الأثير: المال في الأصل ما يملك من الذهب والفضة، ثم أطلق على كل ما يقتنى ويملك من الأعيان، وأكثر ما يطلق المال عند العرب على الإبل؛ لأنها أكثر أموالهم، وقال الجوهري: ذكر بعضهم: أن المال يؤنث، وأنشد لحسان رضي الله عنه:[البسيط]

المال تذري بأقوام ذوي حسب

وقد تسوّد غير السّيّد المال

وعن الفضل الضبي: المال عند العرب الصامت والناطق، فالصامت الذهب، والفضة، والجواهر، والناطق هو البعير والبقرة والشاة، فإذا قلت عن حضري: كثر ماله فهو الصامت، وإذا قلت عن بدوي كثر ماله فالمراد الناطق، والنشب: المال الثابت كالضياع، ونحوها، فلا يقال للمنقول من المال المذكور آنفا، قال عمرو بن معد يكرب الزبيدي:[البسيط]

أمرتك الخير فافعل ما أمرت به

فقد تركتك ذا مال، وذا نشب

ص: 37

هذا؛ وقد قيل: إن الذي لا تجب فيه الزكاة لا يقال له: مال، وهو مردود بقول النبي صلى الله عليه وسلم:

«يقول ابن آدم مالي مالي، وإنّما له من ماله ما أكل فأفنى، أو لبس فأبلى، أو تصدّق فأمضى» .

{فِتْنَةٌ} : ابتلاء واختبار وامتحان، أو سبب في الوقوع في الإثم. {وَأَنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} أي: ثواب كبير، وذلك لمن آثر رضا الله على المال والولد، وراعى حدوده، فلم يفتتن بشيء من ذلك، انظر الآية رقم [14] آل عمران وما بعدها ففيهما الدواء الشافي.

تنبيه: في الآية الكريمة تحذير من حب المال والولد، وتفضيلهما على طاعة الله ورسوله، فيجب على العاقل أن يحذر من المضار المتولدة من حبهما؛ لأن ذلك يشغل القلب، ويصيره محجوبا عن خدمة المولى، وهذا من أعظم الفتن، وروى البغوي بسنده عن عائشة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بصبي، فقبله، وقال:«أما إنهم مبخلة مجبنة، وإنهم لمن ريحان الله» .

وأخرج الترمذي عن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، قال: زعمت المرأة الصالحة خولة بنت حكيم، قالت: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم، وهو محتضن أحد ابني بنته، وهو يقول:«إنكم لتبخّلون وتجبّنون، وتجهّلون، وإنكم لمن ريحان الله» . قال الترمذي: لا نعرف لعمر بن عبد العزيز سماعا عن خولة، ومعنى لمن ريحان الله: لمن رزق الله، وآيات التغابن رقم [15/ 14] تؤكد هذه الفتنة وتزيد عليها العداوة.

الإعراب: {وَاعْلَمُوا} : (اعلموا): فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق. {أَنَّما}: كافة ومكفوفة. {أَمْوالُكُمْ} : مبتدأ. و {وَأَوْلادُكُمْ} : معطوف على المبتدأ، والكاف فيهما في محل جر بالإضافة، والميم علامة جمع الذكور. {فِتْنَةٌ}: خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في تأويل مصدر في محل نصب سد مسد مفعولي الفعل، وهذا المصدر مأخوذ من أن واسمها وخبرها، ولما كفت عن العمل بقي معناها كما هو ظاهر، ويؤيده المصدر المؤول بعدها. {عِنْدَهُ}: ظرف مكان متعلق بمحذوف خبر مقدم، والهاء في محل جر بالإضافة. {أَجْرٌ}: مبتدأ مؤخر. {عَظِيمٌ} : صفته، والجملة الاسمية في محل رفع خبر (أن)، هذا؛ وإن اعتبرت الظرف متعلقا بمحذوف خبر (أن)، فيكون {أَجْرٌ} فاعلا بهذا الظرف، أي:

بمتعلقه، والمصدر المؤول من (أن) واسمها وخبرها معطوف على ما قبله، فهو محل نصب مثله، وجملة:{وَاعْلَمُوا..} . إلخ معطوفة على جملة: {لا تَخُونُوا..} . إلخ لا محل لها مثلها.

{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)}

الشرح: {فُرْقاناً} : قال البيضاوي: هداية تفرقون بها بين الحق والباطل، أو نصرا يفرق بين المحق والمبطل بإعزاز المؤمنين، وإذلال الكافرين، أو مخرجا من الشبهات، أو

ص: 38

نجاة عما تحذرون في الدارين. انتهى. وقال القرطبي: فإذا اتقى العبد ربه، فاتبع أوامره، واجتنب نواهيه، وترك الشبهات مخافة الوقوع في المحرمات، وشحن قلبه بالنية الخالصة، وجوارحه بالأعمال الصالحة، وتحفظ من شوائب الشرك الخفي والظاهر بمراعاة غير الله في الأعمال، والركون إلى الدنيا بالعفة عن المال، جعل الله له بين الحق والباطل فرقانا، ورزقه فيما يريد من الخير إمكانا. انتهى. {وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ}: يمحوها. {وَيَغْفِرْ لَكُمْ} أي: ذنوبكم؛ أي: بالتجاوز والعفو عنكم، قيل: السيئات: الصغائر، والذنوب: الكبائر، انظر الآية رقم [193] آل عمران، وقيل: المراد ما تقدم، وما تأخر؛ لأنها في أهل بدر، وقد غفرهما الله لهم، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «وما يدريك لعلّ الله اطّلع على أهل بدر، فقال:

اعملوا ما شئتم، فقد غفرت لكم».

{وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} : تنبيه على أن ما وعده لهم على التقوى إنما هو تفضل منه وإحسان، وأنه ليس مما يوجبه تقواهم كالسيد إذا وعد عبده إنعاما على عمل، قال الجلال:

والآية نزلت في توبة أبي لبابة، ولم يقل به أحد غيره، والأولى التعميم لأهل بدر، وهي تشمل كل من اتقى الله إلى يوم القيامة؛ لأن خصوص السبب لا يمنعه. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم.

الإعراب: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} انظر إعراب هذه الجملة في الآية رقم [20]. {إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً} إعراب هذه الجملة مثل إعراب: {إِنْ تَسْتَفْتِحُوا..} . إلخ في الآية رقم [19] والجملة الشرطية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية كالجملة الندائية قبلها. {وَيُكَفِّرْ} : مضارع معطوف على جواب الشرط، مجزوم مثله، ويجوز فيه الرفع والنصب، كما رأيت في الآية رقم [283](البقرة)، وهو مقرر في القواعد النحوية كما يلي:(إذا عطف مضارع بالواو أو بالفاء على فعل الشرط، يجوز جزمه ونصبه، وإذا عطف على الجواب مضارع بالواو أو بالفاء يجوز جزمه ونصبه ورفعه) فالنصب على إضمار: أن، والرفع على الاستئناف، ولكن لم أر من تعرض للقراءة على هذين الوجهين، والفاعل يعود إلى {اللهَ}. {عَنْكُمْ}: متعلقان بالفعل قبلهما. {سَيِّئاتِكُمْ} :

مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة لأنه جمع مؤنث سالم، والكاف في محل جر بالإضافة. {وَيَغْفِرْ لَكُمْ} معطوف، وقل فيه مثل ما قلت بسابقه. {وَاللهُ}: مبتدأ.

{ذُو} : خبر مرفوع، وعلامة رفعه الواو نيابة عن الضمة لأنه من الأسماء الستة، و {ذُو}:

مضاف، و {الْفَضْلِ}: مضاف إليه. {الْعَظِيمِ} : صفته، والجملة الاسمية في محل نصب حال من فاعل الفعل المستتر والرابط: الواو وإعادة الاسم الكريم بلفظه، هذا؛ وإن اعتبرت الجملة الاسمية مستأنفة فلست مفندا.

ص: 39

{وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (30)}

الشرح: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا} : قال الخازن: لما ذكر الله المؤمنين نعمه عليهم؛ أي:

في الآية رقم [26] ذكر نبيه صلى الله عليه وسلم نعمه عليه فيما جرى له بمكة من قومه؛ لأن هذه السورة مدنية، وهذه الواقعة كانت بمكة قبل الهجرة، والمعنى: واذكر يا محمد إذ يمكر بك الذين كفروا.

انتهى. {لِيُثْبِتُوكَ} : بالوثاق، أو بالحبس، أو الإثخان بالجرح، من قولهم: ضربه حتى أثبته لا حراك به، ولا براح، وقرئ الفعل بتشديد الباء، وقرئ:«(وليبيتوك)» من البيات، و «(ليقيدوك)» .

{أَوْ يَقْتُلُوكَ} : بسيوفهم. {أَوْ يُخْرِجُوكَ} : من مكة، وذلك أنهم لما سمعوا بإسلام الأنصار، ومتابعتهم للرسول صلى الله عليه وسلم فزعوا، واجتمعوا في دار الندوة متشاورين في أمره، فدخل عليهم إبليس في صورة رجل هرم، وقال: أنا شيخ من نجد، سمعت بالذي اجتمعتم له، فأردت أن أحضركم، ولن تعدموا مني رأيا ونصحا، فأذنوا له بالدخول.

فقال أبو البختري: أرى أن تحبسوه في بيت، وتسدوا منافذه، غير كوة، تلقون إليه طعامه وشرابه منها حتى يموت، فقال الشيخ: بئس الرأي هذا، يأتيكم من يقاتلكم من قومه، ويخلصه من أيديكم، فقال هشام بن عمرو: أرى أن تحملوه على جمل فتخرجوه من أرضكم، فلا يضركم ما صنع، فقال إبليس: بئس الرأي؛ يفسد قوما غيركم، ويقاتلكم بهم، فقال أبو جهل: أرى أن تأخذوا من كل بطن غلاما جلدا، وتعطوه سيفا صارما، فيضربوه ضربة رجل واحد، فيتفرق دمه في القبائل، فلا يقوى بنو هاشم على حرب قريش كلهم، فإذا طلبوا العقل؛ عقلناه، أي: أدينا ديته، فقال إبليس الخبيث، هذا هو الرأي السديد، والقول الحميد! وتفرقوا على ذلك، فأخبر جبريل عليه السلام الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك، وأمره بالهجرة، فبيت ابن عمه عليا رضي الله عنه في فراشه، ودعا الله أن يعمي عليهم أمره، فطمس الله على أبصارهم، فخرج من بين صفوفهم، ووضع التراب على رءوسهم، وهو يقرأ قوله تعالى:{إِنّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ} .. إلى قوله: {فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ} من سورة (يس).

فلما أصبحوا؛ خرج عليهم علي كرم الله وجهه، فعلموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد فات ونجا، وخرج مع أبي بكر-رضي الله عنه-وتوجها إلى غار ثور. {وَيَمْكُرُونَ}: المكر: تدبير الأمر في خفية، وهو أيضا: احتيال وخداع. {وَيَمْكُرُ اللهُ} : يردّ الله مكرهم، ويجازيهم عليه، هذا؛ والله منزه عن المكر بالمعنى المذكور، واستعمال العقاب والجزاء بلفظ المكر إنما هو من باب المشاكلة وقد مر معنا كثير من هذا، انظر الآية رقم [142] من سورة (النساء). وانظر {خَيْرُ} في الآية رقم [12] الأعراف ومعنى {خَيْرُ الْماكِرِينَ}: أقواهم؛ لأنه سينتقم منهم، وفيه تنبيه على أن

ص: 40

كل مكر يبطله الله ويدحضه، وقيل: ليس المراد بالآية التفضيل؛ لأن فعل الله كله خير. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم.

الإعراب: {وَإِذْ} : (إذ): مفعول به لفعل محذوف، أو هو ظرف لهذا المحذوف مبني على السكون في محل نصب، التقدير: اذكر وقت مكرهم بك، وهذه الجملة معطوفة على مثلها في الآية رقم [26]. {يَمْكُرُ}: مضارع. {بِكَ} : متعلقان به. {الَّذِينَ} : اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع فاعله، وجملة:{كَفَرُوا} مع المتعلق المحذوف صلة الموصول.

{لِيُثْبِتُوكَ} : مضارع منصوب ب «أن» مضمرة بعد لام التعليل، وعلامة نصبه حذف النون لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والكاف مفعول به، و «أن» المضمرة والفعل المضارع في تأويل مصدر في محل جر باللام، والجار والمجرور متعلقان بالفعل (يمكر)، واللام بمعنى من، إذ التقدير: من أجل إثباتك، أو تثبيتك، أو تقييدك، و {يَقْتُلُوكَ} و {يُخْرِجُوكَ} معطوفان على ما قبلهما، منصوبين مثله

إلخ، وجملة:{وَيَمْكُرُونَ} مستأنفة لا محل لها. وجملة: {وَيَمْكُرُ اللهُ} معطوفة عليها لا محل لها مثلها، والجملة الاسمية:{وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ} مستأنفة لا محل لها أيضا، وإن اعتبرتها في محل نصب حال من الاسم الكريم؛ فالمعنى لا يأباه، ويكون الرابط: الواو وإعادة الاسم الكريم بلفظه، وهو إظهار في محل الإضمار.

تنبيه: مجيء اللام الجارة بمعنى من مستعمل لغة، كقولك: سمعت له صراخا؛ أي: منه، وقال جرير من قصيدة يهجو بها الأخطل:[الطويل]

لنا الفضل في الدّنيا، وأنفك راغم

ونحن لكم يوم القيامة أفضل

إذ المعنى: ونحن أفضل منكم يوم القيامة.

{وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا إِنْ هذا إِلاّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (31)}

الشرح: {تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا} : تقرأ عليهم آيات القرآن، والمراد جميع قريش. {قالُوا}:

القائل: هو النضر بن الحارث من بني عبد الدار، قال البيضاوي: وإسناده إلى الجميع، إسناد ما فعله رئيس القوم إليهم، فإنه كان قاضيهم، وصاحب مشورتهم، هذا؛ وانظر القول في الآية رقم [5] (الأعراف). {سَمِعْنا} أي: مثل هذا القرآن؛ وهو التوراة والإنجيل، وانظر {لا يَسْمَعُونَ} في الآية رقم [100] الأعراف. {نَشاءُ}: انظر الآية رقم [89](الأعراف). {لَقُلْنا مِثْلَ هذا} أي: مثل القرآن، وهذا صلف منهم ووقاحة لأنهم دعوا إلى أن يأتوا بسورة واحدة من مثل القرآن، فلم يأتوا، وهو دليل عجزهم؛ إذ لو استطاعوا ذلك فما منعهم أن يشاءوا، وقد

ص: 41

تحداهم مرارا، وقرعهم بالعجز عشر سنين، ثم قارعهم بالسيف، فلم يعارضوا سورة مع أنفتهم أن يغلبوا خصوصا في باب الفصاحة والبلاغة، هذا؛ وانظر {مِثْلَ} في الآية رقم [93] من سورة (الأنعام) {إِنْ هذا إِلاّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ}: انظر الآية رقم [25] من سورة (الأنعام)، ففيها الكفاية، وانظر إعلال (قلنا) في الآية رقم [11] من سورة (الأعراف).

تنبيه: نزلت الآية الكريمة في النضر بن الحارث من بني عبد الدار، كان خرج إلى الحيرة في التجارة، فاشترى أحاديث كليلة ودمنة، وكسرى وقيصر، فلما قص رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبار من مضى، قال النضر: لو شئت لقلت مثل هذا، وكان يقول: يأتيكم محمد بأخبار عاد وثمود، وأنا آتيكم بأخبار القياصرة والأكاسرة، يقصد بذلك أذى النبي صلى الله عليه وسلم، فلما حصلت غزوة بدر الكبرى، وقع أسيرا في أيدي المسلمين، فأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بقتله صبرا، فحزنت عليه أخته قتيلة، وأرسلت أبياتا للنبي صلى الله عليه وسلم مطلعها:[الكامل]

أمحمد، ولأنت نجل نجيبة

في قومها والفحل فحل معرق

ما كان ضرّك لو مننت، وربّما

منّ الفتى، وهو المغيظ المحنق

فلما سمع النبي صلى الله عليه وسلم قصيدتها، قال:«لو سمعتها تقول هذا قبل أن أقتله ما قتلته، ولعفوت عنه» . ثم قال: «لا تقتل قريش أحدا بعد هذا صبرا» . انظر الشاهد [470] من كتابنا فتح القريب المجيب تجد ما يسرك.

الإعراب: {وَإِذا} : (إذا): انظر الآية رقم [201] من سورة (الأعراف). {تُتْلى} : مضارع مبني للمجهول مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر. {عَلَيْهِمْ}: متعلقان به.

{آياتُنا} : نائب فاعل، و (نا): في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة (إذا) إليها على القول المشهور المرجوح. {قالُوا}: فعل وفاعل، والألف للتفريق، وانظر الآية رقم [5] الأعراف. {قَدْ}: حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال. {سَمِعْنا} : فعل وفاعل. {لَوْ} :

حرف لما كان سيقع لوقوع غيره. {نَشاءُ} : مضارع وفاعله مستتر تقديره: «نحن» ، ومفعوله محذوف، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي.

{لَقُلْنا} : اللام: واقعة في جواب {لَوْ} . {مِثْلَ} : تنازعه كل من الفعلين: {سَمِعْنا} و (قلنا).

و {مِثْلَ} : مضاف، وهذا اسم إشارة مبني على السكون في محل جر بالإضافة، والهاء حرف تنبيه لا محل له، وجملة:{لَقُلْنا..} . إلخ جواب {لَوْ} لا محل لها، هذا؛ والكلام بمجموعه {قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا} في محل نصب مقول القول {إِنْ هذا إِلاّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ} انظر إعراب هذا الكلام في الآية رقم [25] من سورة (الأنعام). وهو محل نصب مقول القول، وجملة:

{قالُوا..} . إلخ جواب (إذا) لا محل لها، و (إذا) ومدخولها كلام مستأنف لا محل له.

ص: 42

{وَإِذْ قالُوا اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ اِئْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (32)}

الشرح: {قالُوا} : القائل هو النضر المذكور في الآية السابقة حكاه مجاهد وابن جبير، وقيل: هو أبو جهل حكاه عنه أنس بن مالك رضي الله عنهم أجمعين، والمعتمد الأول. إذ روي أن النضر لما قال {إِنْ هذا إِلاّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ..}. قال له النبي صلى الله عليه وسلم:«ويلك إنه كلام الله» .

فقال {اللهُمَّ إِنْ..} . إلخ. {اللهُمَّ} : أصله يا الله، فحذفت يا النداء، وعوض عنها الميم المشددة في الآخر، ولا يجمع بين العوض والمعوض عنه، إلا في الضرورة الشعرية، وهذا الحذف والتعويض من خصائص الاسم الكريم، كدخول «يا» عليه مع لام التعريف، وقطع همزته، وتاء القسم. {الْحَقَّ}: قراءة الجمهور النصب، وقرأ الأعمش، وزيد بن علي برفعه، وانظر شرحه في الآية رقم [33] من سورة (الأعراف). {فَأَمْطِرْ}: انظر الآية رقم [84] الأعراف. {حِجارَةً مِنَ السَّماءِ} أي: كالحجارة التي أمطرت على قوم لوط، {اِئْتِنا}: انظر الآية رقم [35](الأعراف) وانظر {اِئْذَنْ} في الآية رقم [50] من سورة (التوبة) تجد ما يسرك، والمراد مثل ما عذبت به الأمم الماضية. وما قاله النضر تهكم واستهزاء وإيهام أنه على بصيرة وجزم ببطلانه، وفيه نزل قوله تعالى:{سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ} .

تنبيه: حكي: أن يهوديّا لقي عبد الله بن عباس-رضي الله عنهما-فقال اليهودي: ممن أنت؟ قال: من قريش، فقال: أنت من القوم الذين قالوا: {اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ..} . إلخ؟ فهلا عليهم أن يقولوا: إن كان هذا هو الحق، فاهدنا له! إن هؤلاء قوم يجهلون. قال ابن عباس-رضي الله عنهما: وأنت يا إسرائيلي من القوم الذين لم تجف أرجلهم من بلل البحر الذي أغرق الله فيه فرعون وقومه، وأنجى موسى وقومه، حتى قالوا:

{اِجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ} فقال لهم موسى: {إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} فأطرق اليهودي مفحما، وانظر الآية رقم [138] من سورة (الأعراف).

تنبيه: روي أن معاوية بن أبي سفيان قال لرجل من سبأ: ما أجهل قومك حين ملكوا عليهم امرأة! قال: أجهل من قومي قومك حيث قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين دعاهم إلى الإسلام: {اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ..} . إلخ ولم يقولوا: اللهم إن كان هذا هو الحق..

فاهدنا إليه، وهذا من الأجوبة المسكتة.

الإعراب: {وَإِذْ} : الواو: حرف عطف. (إذ): معطوفة على مثلها في الآية رقم [30].

{قالُوا} : فعل وفاعل، والألف للتفريق. {اللهُمَّ}: منادى مفرد علم مبني على الضم في محل نصب ب (يا) المحذوفة، والمعوض عنها الميم المشددة في الآخر. {إِنْ}: حرف شرط جازم.

ص: 43

{كانَ} : ماض ناقص مبني على الفتح في محل جزم فعل الشرط. {هذا} : اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع اسم {كانَ،} والهاء: حرف تنبيه لا محل له. {هُوَ} : ضمير فصل لا محل له، والكوفي يقول: هو حرف عماد. {الْحَقَّ} : خبر {كانَ} منصوب، هذا؛ وعلى قراءة الرفع {هُوَ الْحَقَّ} مبتدأ وخبر، والجملة الاسمية في محل نصب خبر {كانَ،} وجملة: {كانَ..} . إلخ لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي.

{مِنْ عِنْدِكَ} : متعلقان بمحذوف حال من {الْحَقَّ،} والكاف في محل جر بالإضافة، وجملة:

{فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً} في محل جزم جواب الشرط عند الجمهور، والدسوقي يقول: لا محل لها؛ لأنها لم تحل محل المفرد. {مِنَ السَّماءِ} : متعلقان بمحذوف صفة {حِجارَةً} . {أَوِ} :

حرف عطف. {اِئْتِنا} : أمر مبني على حذف حرف العلة من آخره، وهو الياء، والكسرة قبلها دليل عليها، والفاعل ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره «أنت» ، و (نا): مفعول به، والجملة الفعلية معطوفة على جواب الشرط. {بِعَذابٍ}: متعلقان بالفعل قبلهما. {أَلِيمٍ} : صفة عذاب، والكلام:{اللهُمَّ إِنْ..} . إلخ كله في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالُوا..} . إلخ في محل جر بإضافة (إذ) إليها.

{وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33)}

الشرح: {وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} : هذا بيان من الله تعالى لما كان الموجب لإمهالهم، وتأخير نزول العذاب بهم، وسببه وجود النبي صلى الله عليه وسلم فيهم، أي: إقامته في مكة المكرمة؛ لأن سنة الله في خلقه بأن لا يعذب قوما كافرين، ونبيهم بين أظهرهم، فإذا خرج وتركهم نزل العذاب بهم، وهذا لا ينافي قوله تعالى:{قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ} فإن المراد بالأول: عذاب الاستئصال، والمراد بالثاني: العذاب الحاصل بالمحاربة والمقاتلة، وهذا كان بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم، ومغادرته مكة المعظمة. {وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}: اختلف بهذا الاستغفار، فقيل: المراد به ما كانوا يقولونه في طوافهم (غفرانك غفرانك) وقيل: المراد به استغفار المؤمنين المستضعفين المقيمين في مكة.

وقال ابن عباس-رضي الله عنهما-المراد: أن فيهم من سبق له من الله العناية أنه يؤمن، ويستغفر مثل أبي سفيان بن حرب، وصفوان بن أمية، وعكرمة بن أبي جهل، وخالد بن الوليد وغيرهم، وقال أهل المعاني: دلت الآية الكريمة على أن الاستغفار أمان وسلامة من العذاب، فعن أبي موسى الأشعري-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ الله أنزل عليّ أمانين لأمّتي: {وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} فإذا مضيت تركت فيهم الاستغفار إلى يوم القيامة» . أخرجه الترمذي.

ص: 44

تنبيه: نزلت الآية الكريمة كردّ لما طلبوه من نزول العذاب بهم، وبيان لتأخير العذاب وسببه، وقيل: هذا كلام مستأنف أخبر الله به عن نفسه تعالى وتقدس، وعن سنته في إهلاك الكافرين المعاندين لرسلهم.

الإعراب: {وَما} : الواو: حرف عطف، أو استئناف. (ما): نافية. {كانَ} : ماض ناقص. {اللهُ} : اسمها. {لِيُعَذِّبَهُمْ} : مضارع منصوب ب «أن» مضمرة بعد لام الجحود، والفاعل يعود إلى {اللهُ،} والهاء مفعول به، والميم في الكل: حرف دال على جماعة الذكور، و «أن» المضمرة والفعل المضارع، في تأويل مصدر في محل جر باللام، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر {كانَ،} التقدير: وما كان الله مريدا تعذيبهم، وجملة:{وَما كانَ..} . إلخ لا محل لها على الوجهين المعتبرين في الواو، والاستئناف أقوى. {وَأَنْتَ}:

ضمير منفصل مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ. {فِيهِمْ} : متعلقان بمحذوف خبره، والجملة الاسمية في محل نصب حال من الضمير المنصوب، والرابط: الواو، والضمير، وجملة:{وَما كانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ} معطوفة على ما قبلها لا محل لها مثلها، والهاء في محل جر بالإضافة من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {وَهُمْ}: مبتدأ. {يَسْتَغْفِرُونَ} : فعل وفاعل، والمفعول محذوف، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل نصب حال من الضمير المجرور محلا بالإضافة، والرابط: الواو، والضمير.

{وَما لَهُمْ أَلاّ يُعَذِّبَهُمُ اللهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (34)}

الشرح: {وَما لَهُمْ أَلاّ يُعَذِّبَهُمُ اللهُ} أي: وما يمنعهم من العذاب، فلا ريب أنهم مستحقون العذاب لما ارتكبوا من القبائح والأسباب، ولكن لكل أجل كتاب فعذبهم الله بعد خروج النبي صلى الله عليه وسلم من بين أظهرهم بالقتل والأسر يوم بدر، وما تلاه من هزائم وقعت بهم، وهم يصدون عن المسجد الحرام: أي: وهم يمنعون المؤمنين من الطواف بالبيت، وذلك حين صدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأصحابه عن البيت الحرام عام الحديبية، وكان قد قصده لأداء العمرة. {وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ} أي: ما كانوا مستحقين ولاية أمر المسجد الحرام مع شركهم، وهو ردّ لما كانوا يقولون: نحن ولاة البيت والحرم، فنصد من نشاء، وندخل من نشاء. {إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ} أي: لا يستحق ولاية البيت الحرام، ورعاية شئونه إلا المتقون. {وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ}: أن لا ولاية لهم عليه، كأنه سبحانه نبه بالأكثر على أن منهم من يعلم ذلك، ولكنه يعتند معاندة، هذا؛ وقيل: المراد بالأكثر الجميع، أو المراد: لا يعلمون حكمة الله في أحكامه وتصريفه الأمور على حسب مشيئته وتقديره، وذكر الأكثر؛ لأن البعض لا يعرف الحق لنقصان عقله، أو التقصير في النظر.

ص: 45

{اللهُ} : انظر الآية رقم [1]. {يَصُدُّونَ} : انظر الآية رقم [45] الأعراف. {الْمَسْجِدِ} :

انظر الآية رقم [29] منها. {أَوْلِياءَهُ} : انظر معناه الحقيقي في الآية رقم [3] منها. {الْمُتَّقُونَ} :

انظر التقوى في الآية رقم [26] منها أيضا. هذا؛ ومعنى المسجد الحرام: المحرم فيه اللغو والرفث والإيذاء، وكل فعل قبيح، وعمل فاحش، وإن كان في غيره حراما، فهو فيه أشد حرمة، وكذلك محرم على الكفار، فلا يجوز أن يدخله كافر أبدا، وانظر الآية رقم [100] من سورة (المائدة) تجد ما يسرك.

الإعراب: {وَما} : الواو: حرف استئناف. (ما): اسم استفهام مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {لَهُمْ} : جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ، والاستفهام إنكاري بمعنى النفي، انظر الشرح. {أَلاّ}:(أن): حرف مصدري ونصب واستقبال. (لا): نافية.

{يُعَذِّبَهُمُ} : مضارع منصوب ب (أن)، والهاء مفعول به، والميم علامة جمع الذكور. {اللهُ}:

فاعل، و (أن) المصدرية والفعل المضارع في تأويل مصدر في محل جر بحرف جر محذوف، انظر الشرح، هذا؛ ويجوز اعتبار (ما) نافية، و {لَهُمْ}: متعلقان بمحذوف خبر مقدم، والمصدر المؤول في محل رفع مبتدأ مؤخر، ومثل إعراب هذه الآية إعراب قول الشاعر:

[البسيط]

وما علينا-إذا ما كنت جارتنا-

أن لا يجاورنا إلاّك ديّار

وهو من شواهد «فتح القريب المجيب» و «فتح رب البرية» رقم [73] وعلى الوجهين فالجملة الاسمية، وهي مستأنفة لا محل لها. {وَهُمْ}: مبتدأ. {يَصُدُّونَ} : فعل وفاعل، ومفعوله محذوف، تقديره: الناس. {عَنِ الْمَسْجِدِ} : متعلقان بما قبلهما. {الْحَرامِ} : صفته، وجملة:

{يَصُدُّونَ..} . إلخ في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية (هم

) إلخ في محل نصب حال من الضمير المنصوب، والرابط: الواو، والضمير. {وَما}:(ما): نافية. {كانُوا} :

ماض ناقص مبني على الضم، والواو اسمه، والألف للتفريق. {أَوْلِياءَهُ}: خبر كان، والهاء:

في محل جر بالإضافة، وجملة:{وَما كانُوا..} . إلخ في محل نصب حال من واو الجماعة، والرابط: الواو، والضمير، وهي حال متداخلة. {إِنْ}: حرف نفي. {أَوْلِياؤُهُ} : مبتدأ، والهاء في محل جر بالإضافة. {أَلاّ}: حرف حصر. {الْمُتَّقُونَ} : خبر المبتدأ مرفوع، وعلامة رفعه الواو نيابة عن الضمة لأنه جمع مذكر سالم، والنون عوض من التنوين في الاسم المفرد، والجملة الاسمية مستأنفة لا محل لها. {وَلكِنَّ}:(لكن): حرف مشبه بالفعل. {أَكْثَرَهُمْ} :

اسمها، والهاء في محل جر بالإضافة. {أَلاّ}: نافية. {يَعْلَمُونَ} : فعل وفاعل، والمفعول محذوف، انظر الشرح، والجملة الفعلية خبر (لكن)، والجملة الاسمية:{وَلكِنَّ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها لا محل لها مثلها.

ص: 46

{وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلاّ مُكاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (35)}

الشرح: {وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ} : لم يؤنث الفعل؛ لأن الصلاة ليست مؤنثا حقيقيا، فيجوز تذكير الفعل وتأنيثه. {مُكاءً}: صفيرا، يقال: مكا الطير، يمكو: إذا صفر، والمكاء: اسم طير أبيض يكون بالحجاز له صفر. {وَتَصْدِيَةً} : تصفيقا، وفي أصله واشتقاقه قولان: أحدهما: أنه من الصدى، وهو الصوت الذي يرجع من الجبل ونحوه، كالمجيب للمتكلم، ولا يرجع إلى شيء، الثاني: قال أبو عبيدة: أصله تصددة، فأبدلت الياء من الدال الثانية، وفي فعلهم هذا قولان: الأول: أنهم كانوا يطوفون بالبيت عراة الرجال والنساء مشبكين بين أصابعهم يصفرون، ويصفقون فيها، والثاني: أنهم كانوا يفعلون ذلك إذا أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يصلي، يخلطون عليه، يريدون إيذاءه، وهذا مناسب لقولهم:{لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ} وسماها الله صلاة؛ لأنهم كانوا يعتقدون ذلك المكاء والتصدية صلاة، فخرج ذلك على حسب معتقدهم، وزعمهم. {فَذُوقُوا الْعَذابَ}: فيه استعارة. انظر الآية رقم [14]. {تَكْفُرُونَ} : انظر الآية رقم [66](الأعراف). وهذا؛ وإعلال: {كُنْتُمْ} مثل إعلال {قُلْنا} في الآية رقم [11] من سورة (الأعراف).

قال القرطبي رحمه الله تعالى: ففيه رد على الجهال من الصوفية الذين يرقصون ويصفقون، وذلك كله منكر تنزه عن مثله العقلاء، ويتشبه فاعله بالمشركين فيما كانوا يفعلونه عند البيت.

وانظر ما نقلته عنه في الآية رقم [2].

الإعراب: {وَما} : الواو: حرف تعليل. (ما): نافية. {كانَ} : ماض ناقص.

{صَلاتُهُمْ} : اسم {كانَ،} والهاء في محل جر بالإضافة. {عِنْدَ} : ظرف مكان متعلق بصلاتهم، أو بمحذوف حال من {صَلاتُهُمْ،} و {عِنْدَ} : مضاف، و {الْبَيْتِ}: مضاف إليه.

{إِلاّ} : حرف حصر. {مُكاءً} : خبر {كانَ} . {وَتَصْدِيَةً} : معطوف على ما قبله، وهذا؛ وقرئ بنصب {صَلاتُهُمْ} على أنه خبر مقدم، ورفع {مُكاءً} على أنه اسم {كانَ} مؤخر، وجملة:{وَما كانَ..} . إلخ كالتعليل لقوله {وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ} . {فَذُوقُوا} : الفاء:

هي الفصيحة، انظر الآية رقم [1]. (ذوقوا): فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق، وانظر إعراب:{اُسْجُدُوا} في الآية [11] الأعراف. والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها جواب شرط غير جازم، التقدير: وإذا كانت صلاتهم كذلك، فيقال لهم يوم القيامة:

ذوقوا. فتبين بهذا التقدير: أن الجملة مقولة لجواب الشرط المقدر. {الْعَذابَ} : مفعول به.

{بِما} : الباء: حرف جر. ما: مصدرية. {كُنْتُمْ} : ماض ناقص مبني على السكون، والتاء

ص: 47

اسمه، وجملة:{تَكْفُرُونَ} في محل نصب خبر {كانَ،} و (ما) المصدرية والفعل بعدها في تأويل مصدر في محل جر بالباء، والجار والمجرور متعلقان بالفعل (ذوقوا)، التقدير: ذوقوا العذاب بسبب كفركم. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم.

{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ} الشرح: {يُنْفِقُونَ} : انظر الآية رقم [3]. {أَمْوالَهُمْ} : انظر الآية رقم [28]. {لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ} : ليمنعوا الناس من الدخول في دين الإسلام، وانظر {يَصُدُّونَ} في الآية رقم [45] الأعراف. وانظر {سَبِيلِ} في الآية رقم [142] الأعراف. {اللهِ}: انظر الآية رقم [1].

{فَسَيُنْفِقُونَها} أي: فسيعلمون عاقبة إنفاقها من الخيبة، وعدم الظفر بالمقصود، فحصلت المغايرة بين الإنفاقين. انتهى. بتصرف. {ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ} أي: ما أنفقوا من أموالهم يكون عليهم حسرة وندامة يوم القيامة؛ لأن أموالهم تذهب، ولا يظفرون بما يؤملون في نهاية الأمر، وإن ظفروا في بعض الأحيان، وانظر {ثُمَّ} في الآية رقم [103](الأعراف).

تنبيه: نزلت الآية الكريمة في المطعمين يوم بدر، وكانوا اثني عشر رجلا من قريش، يطعم كل واحد منهم كل يوم عشر جزر، أو في أبي سفيان استأجر ليوم أحد ألفين من العرب سوى من استجاش من العرب، وأنفق عليهم أربعين أوقية، أو في أصحاب العير، فإنه لما أصيبت قريش ببدر، قيل لهم: أعينوا بهذا على حرب محمد لعلنا ندرك منه ثأرنا، ففعلوا. انتهى بيضاوي.

الإعراب: {إِنَّ} : حرف مشبه بالفعل. {الَّذِينَ} : اسم موصول مبني على الفتح في محل نصب اسمها، وجملة:{كَفَرُوا} مع المتعلق المحذوف صلة الموصول، وجملة:{يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ} في محل رفع خبر {إِنَّ،} والجملة الاسمية: {إِنَّ الَّذِينَ..} . إلخ لا محل لها؛ لأنها مستأنفة، أو ابتدائية. {لِيَصُدُّوا}: مضارع منصوب ب «أن» مضمرة بعد لام التعليل، وعلامة نصبه حذف النون لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والألف للتفريق، ومفعوله محذوف.

تقديره: الناس، و «أن» المضمرة والمضارع في تأويل مصدر في محل جر باللام، والجار والمجرور متعلقان بالفعل قبلهما، التقدير: ينفقون أموالهم لصدّ الناس. {عَنْ سَبِيلِ} : متعلقان بالفعل قبلهما، و {سَبِيلِ}: مضاف، و {اللهِ}: مضاف إليه. {فَسَيُنْفِقُونَها} : الفاء: حرف استئناف. السين: حرف استقبال. (ينفقونها): مضارع، وفاعله، ومفعوله، والجملة الفعلية مستأنفة لا محل لها. {ثُمَّ}: حرف عطف. {تَكُونُ} : مضارع ناقص، واسمه مستتر تقديره:

«هي» ، يعود على الأموال. {عَلَيْهِمْ}: متعلقان بمحذوف حال من حسرة، كان صفة له، فلما قدم عليه صار حالا على القاعدة:«نعت النكرة إذا تقدم عليها صار حالا» . {حَسْرَةً} : خبر

ص: 48

{تَكُونُ} . وجملة: {تَكُونُ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها لا محل لها مثلها. {يُغْلَبُونَ} :

مضارع مبني للمجهول مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون لأنه من الأفعال الخمسة، والواو نائب فاعله، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها لا محل لها أيضا.

{وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} الشرح: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا} أي: ثبتوا على الكفر، وسلموا من القتل والأسر يوم بدر.

{جَهَنَّمَ} : واد من أودية النار. وانظر دركات النار في الآية رقم [145] من سورة (النساء).

{يُحْشَرُونَ} : يساقون ويجمعون فيها.

الإعراب: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا} : مبتدأ، وانظر باقي الإعراب في الآية السابقة. {إِلى جَهَنَّمَ}:

متعلقان بالفعل بعدهما، وعلامة الجر الفتحة نيابة عن الكسرة لأنه ممنوع من الصرف للعلمية والعجمة. {يُحْشَرُونَ}: إعرابه مثل إعراب: {يُغْلَبُونَ} في الآية السابقة، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية:{الَّذِينَ..} . إلخ مستأنفة، أو معطوفة على ما قبلها لا محل لها على الوجهين.

{لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (37)}

الشرح: {لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} : يفصل الخبيث من الطيب، وماضيه «ماز» ، ومثله: ميّز وأماز بمعنى: فرز الشيء عن غيره، وبمعنى فضله على سواه، و {لِيَمِيزَ} يقرأ بتشديد الياء وتخفيفها، وامتاز القوم: تميز بعضهم على بعض، قال تعالى:{وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ} أي: انفردوا عن المسلمين، وهذا يكون يوم القيامة، والمراد بالخبيث: الكفر والنفاق، أو الكافرون والمنافقون، والمراد بالطيب: الإيمان أو المؤمنون، كما يطلقان على العمل الصالح والسيئ وانظر الآية رقم [179] من سورة (آل عمران). {وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً}: فيجمعه، ويضم بعضه على بعض حتى يتراكم ويتراكب لكثرته، ثم يجعله، أي: يلقيه في جهنم، وهي واد من أودية النار. {أُولئِكَ}: اسم إشارة إلى المنفقين في سبيل الشيطان. {هُمُ الْخاسِرُونَ} أي: خسروا الدنيا والآخرة لأنهم اشتروا بأموالهم عقاب الآخرة، وانظر الآية رقم [149] الأعراف تجد ما يسرك، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

الإعراب: {لِيَمِيزَ} : مضارع منصوب ب «أن» مضمرة بعد لام التعليل. {اللهُ} : فاعله.

{الْخَبِيثَ} : مفعول به. {مِنَ الطَّيِّبِ} : متعلقان بالفعل (يميز)، أو بمحذوف حال من

ص: 49

{الْخَبِيثَ،} و «أن» المضمرة والفعل (يميز) في تأويل مصدر في محل جر باللام، والجار والمجرور متعلقان بالفعل {تَكُونُ،} أو ب {يُغْلَبُونَ،} أو ب {يُحْشَرُونَ} . {وَيَجْعَلَ} :

معطوف على يميز، والفاعل يعود إلى {اللهُ}. {الْخَبِيثَ}: مفعول به. {بَعْضَهُ} : بدل من {الْخَبِيثَ،} والهاء في محل جر بالإضافة. {عَلى بَعْضٍ} : متعلقان بالفعل يجعل على أنهما مفعوله الثاني، أو هما متعلقان بمحذوف حال من {بَعْضَهُ،} أي: بعضه عاليا على بعض.

{فَيَرْكُمَهُ} : معطوف على {وَيَجْعَلَ} والفاعل يعود إلى {اللهُ،} والهاء مفعول به. {جَمِيعاً} :

حال من الضمير المنصوب، فيه معنى التوكيد. {فَيَجْعَلَهُ}: معطوف على ما قبله، والفاعل يعود إلى {اللهُ،} والهاء مفعول به. {فِي جَهَنَّمَ} : متعلقان بالفعل قبلهما على أنهما مفعوله الثاني، وعلامة الجر الفتحة نيابة عن الكسرة لأنه ممنوع من الصرف للعلمية والعجمة.

{أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ} انظر إعراب مثل هذه الجملة في الآية رقم [178] من سورة (الأعراف) وهي هنا مستأنفة لا محل لها.

{قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ (38)}

الشرح: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا} أي: قل يا محمد لمشركي قريش أبي سفيان وأتباعه، وانظر (القول) في الآية رقم [5] الأعراف. {إِنْ يَنْتَهُوا}: عن الكفر وعن قبائح أعمالهم من إيذاء الرسول صلى الله عليه وسلم وسب الإسلام، وغير ذلك، ودخلوا في دين الله. {يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ} أي: من كفرهم، وما اقترفوه من آثام، ولقد أحسن أبو سعيد أحمد بن محمد الزبيري رحمه الله في قوله:[الرجز]

يستوجب العفو الفتى إذا اعترف

ثمّ انتهى عمّا أتاه واقترف

لقوله سبحانه في المعترف

إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف

هذا؛ وقرئ بالخطاب «(إن تنتهوا يغفر لكم ما قد سلف)» . {وَإِنْ يَعُودُوا} : إلى ما كانوا عليه من الكفر ومعاداة الرسول صلى الله عليه وسلم وقيل: إلى القتال. {فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ} أي: بإهلاك أعداء الدين، ونصر الأنبياء والمرسلين، ففي هذه الآية الكريمة تصريح بأن الكافر إذا أسلم تغفر له جميع ذنوبه السابقة، ولا يطالب بشيء من قضاء العبادات البدنية والمالية، ويكون ساعة إسلامه كيوم ولدته أمه. {مَضَتْ}: أصله (مضى) فلما اتصلت به تاء التأنيث، صار مضات، فحذف الألف لالتقائها ساكنة مع تاء التأنيث. {سُنَّتُ}: وهي الشريعة والطريقة، وانظر الآية رقم [137] من آل عمران. {الْأَوَّلِينَ}: جمع أول وانظر الآية رقم [143] من سورة (الأعراف)

ص: 50

لشرحه، وهذه الجملة تجمع بين الوعيد والتهديد، وفي التمثيل بمن هلك من الأمم في سالف الدهر ما فيه من مزدجر لقوم يعقلون.

الإعراب: {قُلْ} : أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» . {لِلَّذِينَ} : متعلقان بالفعل قبلهما.

{كَفَرُوا} : فعل وفاعل، والألف للتفريق، والمتعلق محذوف، تقديره: بالله ورسوله، والجملة الفعلية صلة الموصول لا محل لها. {إِنْ}: حرف شرط جازم. {يَنْتَهُوا} : مضارع فعل الشرط مجزوم، وعلامة جزمه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والألف للتفريق، والمتعلق محذوف، انظر الشرح، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي. {يُغْفَرْ} : مضارع مبني للمجهول جواب الشرط. {لَهُمْ} : متعلقان بما قبلهما. {ما} : اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل رفع نائب فاعل، وجملة:{قَدْ سَلَفَ} صلة {ما،} أو صفتها، والعائد أو الرابط: رجوع الفاعل إليها، وجملة:

{يُغْفَرْ..} . إلخ لا محل لها؛ لأنها جملة جواب الشرط، ولم تقترن بالفاء، ولا بإذا الفجائية، و {إِنْ} ومدخولها في محل نصب مقول القول، وجملة:{قُلْ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها {وَإِنْ يَعُودُوا} مثل سابقه، وجملة:{فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ} في محل جزم جواب الشرط عند الجمهور، والدسوقي يقول: لا محل لها؛ لأنها لم تحل محل المفرد.

{وَقاتِلُوهُمْ حَتّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّهِ فَإِنِ اِنْتَهَوْا فَإِنَّ اللهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (39)}

الشرح: {وَقاتِلُوهُمْ} : هذا الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه. {حَتّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} :

شرك، وقيل: بلاء. {وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّهِ} أي: خالصا لله ليس للشيطان فيه نصيب، بل وتضمحل جميع الأديان أمامه، هذا؛ وانظر {دِيناً قِيَماً} في الآية رقم [162] (الأنعام) تجد ما يسرك. {فَإِنِ انْتَهَوْا} أي: عن الكفر

إلخ، انظر الآية السابقة. {فَإِنَّ اللهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} أي: فإن الله لا يخفى عليه شيء من أعمالهم ونياتهم، فهو يثيبهم على ما يستحقون من خير وشر، وانظر الآية تشبه الآية السابقة وما فيها من وعد ووعيد. هذا؛ وهذه الآية تشبه الآية المذكورة في سورة (البقرة) برقم [192] مع اختلاف في بعض الألفاظ، هذا؛ وإعلال:(انتهوا) مثل إعلال: (أتوا) في الآية رقم [138] الأعراف هذا؛ ويقرأ: «(تعملون)» بالتاء، فيكون في الكلام التفات من الغيبة إلى الخطاب، وانظر التفات في الآية رقم [6] من سورة (الأنعام).

الإعراب: {وَقاتِلُوهُمْ} : الواو: حرف استئناف. (قاتلوهم): أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والهاء مفعوله، والجملة مستأنفة لا محل لها. {حَتّى}: حرف غاية وجر. {لا} :

نافية. {تَكُونَ} : مضارع تام بمعنى توجد منصوب ب «أن» مضمرة بعد (حتى). {فِتْنَةٌ} :

ص: 51

فاعله، و «أن» المضمرة والفعل المضارع في تأويل مصدر في محل جر ب {حَتّى،} والجار والمجرور متعلقان بالفعل: (قاتلوهم)، ولا تنس أن {حَتّى} هنا بمعنى (إلى أن) {وَيَكُونَ}:

معطوف على ما قبله، منصوب مثله، وهو ناقص. {الدِّينُ}: اسمه. {كُلُّهُ} : مبتدأ، والهاء في محل جر بالإضافة. {لِلّهِ}: متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ، والجملة الاسمية:{كُلُّهُ لِلّهِ} في محل نصب خبر {وَيَكُونَ،} وجملة: {وَقاتِلُوهُمْ} مستأنفة لا محل لها، وقال الجمل:

معطوفة على قوله: {قُلْ لِلَّذِينَ} لكن لما كان الغرض من الأول التلطف بهم، وهو وظيفة النبي وحده جاء بالإفراد، ولما كان الغرض من الثاني تحريض المؤمنين على القتال جاء بالجمع فخوطبوا جميعا. انتهى. بتصرف. {فَإِنِ}: حرف شرط جازم. {اِنْتَهَوْا} : ماض مبني على فتح مقدر على الألف المحذوفة لالتقائها ساكنة مع واو الجماعة التي هي فاعله، وهو في محل جزم فعل الشرط، والألف للتفريق، والجملة لا محل لها لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي، ولا تنس: أن المتعلق محذوف. {فَإِنِ} : الفاء: واقعة في جواب الشرط. (إن): حرف مشبه بالفعل. {اللهَ} : اسمها. {بِما} : جار ومجرور متعلقان ب {بَصِيرٌ} بعدهما، وما تحتمل الموصولة، والموصوفة، والمصدرية، فعلى الأولين مبنية على السكون في محل جر بالباء، والجملة الفعلية بعدها صلتها، أو صفتها والعائد أو الرابط محذوف. التقدير: بالذي أو بشيء يعملونه، وعلى اعتبار (ما) مصدرية تؤول مع الفعل بعدها بمصدر في محل جر بالباء، التقدير:

بعلمهم. {بَصِيرٌ} : خبر (إن)، والجملة الاسمية:{فَإِنِ..} . إلخ في محل جزم جواب الشرط عند الجمهور، والدسوقي يقول: لا محل لها؛ لأنها لم تحل محل المفرد، و (إن) ومدخولها كلام مستأنف، أو معترض في آخر الكلام لا محل له الغرض منه ما رأيته في الشرح، هذا؛ ويجوز اعتبار {كُلُّهُ} توكيدا ل {الدِّينُ} فيكون {لِلّهِ} متعلقين بمحذوف خبر:{وَيَكُونَ} .

{وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (40)}

الشرح: {وَإِنْ تَوَلَّوْا} أي: أعرض كفار قريش عن الإيمان بالله ورسوله، ولم ينتهوا عن معاداة الرسول صلى الله عليه وسلم، وإيذائه وإيذاء المؤمنين. {فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَوْلاكُمْ} أي: اعتقدوا، وأيقنوا أن الله ناصركم عليهم، وحافظكم من كيدهم. هذا؛ وانظر الآية رقم [3] الأعراف تجد ما يسرك، وانظر {الْمَوْلى} في الآية رقم [52] من سورة (التوبة).

{نِعْمَ} فعل ماض لإنشاء المدح، وضدها:«بئس» فعل ماض لإنشاء الذم، قال في المختار:(نعم) منقول من نعم فلان بفتح النون وكسر العين: إذا أصاب النعمة، و (بئس) منقول من بئس فلان بفتح الباء وكسر الهمزة: إذا أصاب بؤسا، فنقلا إلى المدح والذم، فشابها الحروف فلم يتصرفا، وفيهما أربع لغات: نعم وبئس بكسر فسكون، وهي أفصحهن، وهي لغة

ص: 52

القرآن، ثم نعم وبئس بكسر أولهما وثانيهما، غير أن الغالب في (نعم) أن يجيء بعده ما، كقوله تعالى:{نِعِمّا يَعِظُكُمْ بِهِ} و (بئس) جاءت بعدها (ما) على اللغة الأولى الفصحى، كقوله تعالى:

{بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ} واللغة الثالثة: نعم وبأس بفتح فسكون، والرابعة: نعم وبئس بفتح فكسر، وهي الأصل فيهما، ولا بد لهما من شيئين: فاعل ومخصوص بالمدح أو الذم، والقول بفعليتهما إنما هو قول البصريين، والكسائي؛ بدليل دخول تاء التأنيث عليهما في قول الرسول صلى الله عليه وسلم:«من توضّأ يوم الجمعة فبها ونعمت، ومن اغتسل فالغسل أفضل» . وقال الكوفيون إلا الكسائي: هما اسمان بدليل دخول حرف الجر عليهما في قول أعرابي، وقد أخبر بأن امرأته ولدت بنتا له:(والله ما هي بنعم الولد، نصرها بكاء وبرّها سرقة) وقول غيره: (نعم السير على بئس العير) وأوّله البصريون على حذف كلام مقدر، إذ التقدير: والله ما هي بولد مقول فيه: نعم الولد، ونعم السّير على عير مقول فيه: بئس العير. انتهى. والمعتمد في ذلك قول البصريين.

الإعراب: {وَإِنْ تَوَلَّوْا} : انظر إعراب: {فَإِنِ انْتَهَوْا} في الآية السابقة. {فَاعْلَمُوا} : الفاء:

واقعة في جواب الشرط. (اعلموا): أمر وفاعله، والألف للتفريق، {إِنْ}: حرف مشبه بالفعل.

{اللهَ} : اسمها. {مَوْلاكُمْ} : خبر {إِنْ} مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر، والكاف في محل جر بالإضافة، و {إِنْ} واسمها وخبرها في تأويل مصدر في محل نصب سد مسد مفعولي (اعلموا)، وجملة:{فَاعْلَمُوا..} . إلخ في محل جزم جواب الشرط.. إلخ، و (إن) ومدخولها معطوف على مثله في الآية السابقة، هذا هو الظاهر، وعند التأمل يظهر لك أن جواب الشرط محذوف، التقدير: فلا تخشوهم، والجملة بعدها مفيدة للتعليل، التقدير: لأن الله مولاكم

إلخ. انتهى. جمل، وفيه تكلف ظاهر. {نِعْمَ الْمَوْلى}: فعل وفاعل، والمخصوص بالمدح محذوف، تقديره: هو، وهذا فيه وجهان: أحدهما: أنه مبتدأ مؤخر خبره الجملة الفعلية قبله، والثاني: أنه خبر لمبتدإ محذوف، التقدير: هو، أي: هو الله، والكلام مستأنف لا محل له.

{وَاِعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ اِلْتَقَى الْجَمْعانِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (41)}

الشرح: {وَاعْلَمُوا} : من العلم والمعرفة. {وَلِذِي الْقُرْبى} أي: قرابة الرسول صلى الله عليه وسلم.

{وَالْيَتامى} : جمع يتيم، وهو من الحيوان من فقد أمه فقط، ومن بني آدم من فقد أباه أو أمه، أو فقدهما معا، والمراد بهم هنا من فقدوا معيلهم، وهو الأب، وهناك يتيم العلم، والعقل، والتربية، والخلق، والدين، وهو أسوأ حالا من الأول، وإن كان قد بلغ من العمر الستين والسبعين، ويملك من الأموال الملايين، ولله درّ القائل:[البسيط]

ص: 53

ليس اليتيم الذي قد مات والده

إنّ اليتيم يتيم العقل والأدب

ومنه من أهمل أبوه وأمه تربيته مع كونهما موجودين، وخذ قول الآخر:[الكامل]

ليس اليتيم من انتهى أبواه من

همّ الحياة، وخلّفاه ذليلا

إنّ اليتيم هو الذي تلقى له

أمّا تخلّت، أو أبا مشغولا

{وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} : سأتكلم عن هذين في الآية رقم [61] من سورة (التوبة) إن شاء الله تعالى. {كُنْتُمْ} : انظر إعلال {قُلْنا} في الآية رقم [11] من سورة (الأعراف)، {وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ}: الذي أنزله الله وتكرم به على نبيه وعلى المؤمنين يوم بدر من الآيات الباهرة والمعجزات الظاهرة من نزول الملائكة والنصر المبين الذي رفع الله به شأن الإسلام والمسلمين، وسمي يوم بدر يوم الفرقان لأنه فرق فيه بين الحق والباطل، و {الْجَمْعانِ} جمع المسلمين وجمع المشركين، هذا، وانظر (نا) في الآية رقم [7](الأعراف) و {يَوْمَ} في الآية رقم [128](الأنعام). هذا؛ وذكر الرسول بلفظ {عَبْدِنا} للتشريف والتعظيم، فإن الله أضافه لنفسه، ولم يجعل لغيره فيه حظا ونصيبا، وانظر الآية رقم [23] (البقرة). {وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} أي: مقتدر لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، ومن ذلك نصره العدد القليل على الكثير يوم بدر، هذا؛ والغنيمة في اللغة ما يناله الإنسان بسعيه، والمغنم والغنيمة بمعنى، والمراد به في الآية الكريمة: ما أخذه المسلمون من الكفار على وجه الغلبة والقهر، هذا؛ والفيء: ما وصل ليد المسلمين من غير حرب، ولا إيجاف خيل، ولا ركاب، كالجزية، وما يصالح عليه الكفار المسلمين، وانظر ما ذكرته في الآية رقم [69] الآتية.

تنبيه: رأيت في أول السورة كيف اختلف المسلمون في غنائم بدر، وكيف وكل الله أمر تقسيمها لنبيه صلى الله عليه وسلم، ثم نزلت هذه الآية لتبين حكم ما يغنمه المسلمون من الكفار، إلى يوم القيامة حيث تقسم خمسة أخماس، فأربعة تعطى للمحاربين الغانمين الذين شهدوا الوقعة، وحازوا الغنيمة، فيعطى للفارس ثلاثة أسهم، سهم له، وسهمان لفرسه ويعطى الراجل سهما واحدا، وقيل: غير ذلك، وأما الخمس الآخر فيقسم خمسة أخماس، وظاهر النص أنه يقسم ستة أسداس، ولكن الله لم يرد شيئا من المال؛ لأن الدنيا والآخرة كلها له تعالى، وإنما ذكر اسمه على سبيل التبرك، وهذا قول الحسن، وقتادة، وعطاء، وإبراهيم النخعي، فقد قالوا: سهم الله وسهم رسوله واحد، وقيل: سهم الله يصرف إلى جميع هؤلاء الأصناف المذكورين بالسوية، وحكمه باق، غير أن سهم الرسول صلى الله عليه وسلم يصرف إلى ما كان يصرفه إليه من مصالح المسلمين، كما فعله أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، وقيل: إلى الإمام، وقيل: إلى الأصناف الأربعة، وقال أبو حنيفة-رحمه الله تعالى-: سقط سهمه وسهم ذوي القربى بوفاته، وصار الكل مصروفا إلى

ص: 54

الثلاثة الباقية، وعن مالك-رحمه الله تعالى-: الأمر فيه مفوض إلى رأي الإمام يصرفه إلى ما يراه أهم، وذهب أبو العالية إلى ظاهر الآية، فقال: يقسم ستة أقسام، يصرف سهم الله إلى الكعبة؛ لما روي أنه صلى الله عليه وسلم كان يأخذ منه قبضة فيجعلها للكعبة؛ ثم يقسم ما بقي على خمسة، وقيل: سهم الله لبيت المال، وقيل: غير ذلك، وذو القربى: بنو هاشم، وبنو المطلب، لما روي: أن النبي صلى الله عليه وسلم قسم سهم ذوي القربى عليهما، فقال له عثمان بن عفان، وجبير بن مطعم:

هؤلاء إخوتك بنو هاشم لا ننكر فضلهم لمكانك الذي جعلك الله منهم، أرأيت إخواننا من بني المطلب أعطيتهم، وحرمتنا، وإنما نحن وهم بمنزلة. فقال صلى الله عليه وسلم:«إنهم لم يفارقونا في جاهلية، ولا في إسلام» . وشبك بين أصابعه. وقيل: بنو هاشم وحدهم، وقيل: جميع قريش، والغني والفقير سواء، وقيل: هو مخصوص بفقرائهم كسهم ابن السبيل، وقيل: الخمس كله لهم، والمراد باليتامى والمساكين وابن السبيل من كان منهم، والعطف للتخصيص. انتهى. بيضاوي.

الإعراب: {وَاعْلَمُوا} : (اعلموا): أمر، والواو فاعله، والألف للتفريق. {أَنَّما}:(أن):

حرف مشبه بالفعل. (ما): اسم موصول مبني على السكون، أو هي نكرة موصوفة في محل نصب اسم (أن). {غَنِمْتُمْ}: فعل وفاعل، والجملة الفعلية صلة (ما)، أو صفتها، والعائد أو الرابط محذوف، إذ التقدير: الذي: أو شيئا غنمتموه. {مِنْ شَيْءٍ} : متعلقان بمحذوف حال من الضمير المحذوف، و (من) بيان لما أبهم في (ما). {فَأَنَّ}: الفاء: صلة. (أن): حرف مشبه بالفعل. {لِلّهِ} : متعلقان بمحذوف خبر (أن) تقدم على اسمها، وهو خمسة، و (أن) واسمها وخبرها في تأويل مصدر في محل رفع خبر لمبتدإ محذوف، التقدير: فحكمه أن لله خمسه، هذا؛ وقرئ بكسر همزة «(إن)» ، وعلى الوجهين فالجملة اسمية، وهي في محل رفع خبر (أن) الأولى ودخلت الفاء على الخبر؛ لأن الموصول يشبه الشرط في العموم، و (أن) واسمها وخبرها في تأويل مصدر في محل نصب سد مسد مفعولي:{وَاعْلَمُوا} والجملة هذه معطوفة على جملة:

{وَقاتِلُوهُمْ..} . إلخ أو هي مستأنفة لا محل لها. {وَلِلرَّسُولِ} : معطوفان على {لِلّهِ} . {وَلِذِي} :

جار ومجرور معطوفان أيضا، وعلامة الجر الياء نيابة عن الكسرة؛ لأنه من الأسماء الخمسة، و «ذي»: مضاف، و {الْقُرْبى}: مضاف إليه مجرور وعلامة جره كسرة مقدرة على الألف للتعذر.

{وَالْيَتامى} : معطوف على {لِلّهِ} مجرور

إلخ. {وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} : معطوفان أيضا على {وَلِلرَّسُولِ} . {فَأَنَّ} : حرف شرط جازم. {كُنْتُمْ} : ماض ناقص مبني على السكون، والتاء اسمه، وجملة:{آمَنْتُمْ بِاللهِ} في محل نصب خبر كان، والجملة:{كُنْتُمْ..} . إلخ لا محل لها لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي، وجواب الشرط محذوف لدلالة ما قبله عليه، التقدير: إن كنتم

فاعلموا. {وَما} : اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل جر معطوف على {وَلِلرَّسُولِ} والجملة بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد أو

ص: 55

الرابط محذوف، التقدير: أنزلناه. {عَلى عَبْدِنا} : متعلقان بما قبلهما، ونا: في محل جر بالإضافة. {يَوْمَ} : ظرف زمان متعلق ب {أَنْزَلْنا،} و {يَوْمَ} : مضاف، و {الْفُرْقانِ}: مضاف إليه. {يَوْمَ} : بدل من سابقه. {اِلْتَقَى} : ماض. {الْجَمْعانِ} : فاعله مرفوع، وعلامة رفعه الألف نيابة عن الضمة لأنه مثنى، والنون عوض من التنوين في الاسم المفرد، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة {يَوْمَ} إليها. {وَاللهُ}: مبتدأ. {عَلى كُلِّ} : متعلقان ب {قَدِيرٌ} بعدهما، و {كُلِّ}: مضاف، و {شَيْءٍ}: مضاف إليه. {قَدِيرٌ} : خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة لا محل لها. تأمل وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم.

{إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَواعَدْتُمْ لاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ وَلكِنْ لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (42)}

الشرح: {إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا} : هذا خطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولمن معه من المؤمنين، والتقدير: اذكروا إذ كنتم بالعدوة، وقد قرئ بتثليت العين، والمشهور الضم والكسر، وهي طرف الوادي. {الدُّنْيا}: تأنيث الأدنى بمعنى الأقرب، من: دنا، يدنو. والمراد بالعدوة الدنيا: مما يلي المدينة. {الْقُصْوى} : البعدى تأنيث الأقصى، من: قصا، يقصو، وقياس الاستعمال أن يكون القصيا بالياء؛ لأنه صفة كالدنيا والعليا، وفعلى إذا كانت صفة قلبت واوها ياء فرقا بين الاسم والصفة، فجاء على الأصل، وهو أكثر استعمالا من القصيا، والمراد من الآية بيان موقف المسلمين وموقف المشركين في وادي بدر الذي حصلت فيه الموقعة.

{وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ} : المراد ركب أبي سفيان، وهو قافلة التجارة التي كانت راجعة من بلاد الشام، فلما سمع أبو سفيان بمخرج النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه؛ غير طريقه وسلك طريق الساحل.

هذا؛ والركب: أصحاب الإبل في السفر دون الدواب، وهم العشرة فما فوقها، والركبان الجماعة منهم، قال أبو البقاء: الركب: جمع راكب في المعنى، وليس بجمع في اللفظ. انتهى. ولا تقول العرب: ركب إلا للجماعة الراكبي الإبل، ولا يقال لمن كان على فرس أو غيرها. هذا؛ وكان الركب على ثلاثة أميال من بدر، بحيث لو استغاث العدو به؛ لأغاثه.

{وَلَوْ تَواعَدْتُمْ لاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ} أي: لو تواعدتم أنتم وهم للقتال، ثم علمتم حالكم في القلة، وحالهم في الكثرة لاختلفتم أنتم وهم في الميعاد، خوفا منهم لكثرتهم ويأسا من الظفر عليهم، ليتحققوا أن ما اتفق وحصل من النصر ليس إلا توفيقا من الله، خارقا للعادة، فيزدادوا إيمانا بالله، وشكرا له، هذا؛ والميعاد أصله: الموعاد، قلبت الواو ياء لسكونها وانكسار ما

ص: 56

قبلها، وهو بمعنى الموعد يحتمل الزمان والمكان، وانظر الوعد في الآية رقم [44] الأعراف.

{وَلكِنْ} أي: ولكن الله جمع بينكم على غير ميعاد.

{لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً} : حقيقا من نصر أوليائه وإعزاز دينه، وإهلاك أعدائه وقهرهم. {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ} أي: ليموت من مات بعد إقامة الحجة عليه وبرهان عاينه وشاهده؛ لئلا يكون له حجة ومعذرة يوم القيامة. {وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ} : ويعيش من عاش في هذه الدنيا عن علم ومعرفة بأحكام ربه، وتعاليم نبيه، هذا؛ ويمكن أن يراد بالأول: كفر من كفر، وبالثاني: إيمان من آمن عن وضوح بينة على استعارة الهلاك للكفر، والحياة للإسلام والإيمان، انظر ما ذكرته في الآية رقم [22] من سورة (الأنعام) تجد ما يسرك. {لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ} أي: بكفر من كفر وعقابه، وإيمان من آمن وثوابه، هذا؛ وقرئ الفعل (حيّ) بالفك والإدغام.

تنبيه: في الآية الكريمة تذكير للمؤمنين بما أنعم الله عليهم في غزوة بدر، وبيّن البيضاوي -رحمه الله تعالى-: أن الجملة الحالية: {وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ} فائدتها: الدلالة على قوة العدو، واستظهارهم بالركب، وحرصهم على المقاتلة عنها، وتوطين نفوسهم على أن لا يخلو مراكزهم، ويبذلوا منتهى جهدهم، وضعف شأن المسلمين، والتباس أمرهم، واستبعاد غلبتهم عادة، ولذا ذكر الله مراكز الفريقين، فإن العدوة الدنيا كانت رخوة تسوخ فيها الأرجل، ولا يمشى فيها إلا بتعب ولم يكن فيها ماء بخلاف العدوة القصوى. والله أعلم بمراده وأسرار كتابه.

الإعراب: {إِذْ} : ظرف لما مضى من الزمان مبني على السكون في محل نصب بدل من {يَوْمَ الْفُرْقانِ،} وجوز اعتباره منصوبا بفعل محذوف تقديره: اذكر، وقيل: هو ظرف متعلق ب {قَدِيرٌ} . {أَنْتُمْ} : ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {بِالْعُدْوَةِ} : متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل جر بإضافة {إِذْ} إليها. {الدُّنْيا}: صفة العدوة مجرور، وعلامة جره كسرة مقدرة على الألف، وجملة:{وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى} مثل سابقتها في إعرابها، وهي معطوفة عليها. {وَالرَّكْبُ}: مبتدأ. {أَسْفَلَ} : ظرف مكان متعلق بمحذوف خبر المبتدأ، هذا؛ وأجاز الأخفش والكسائي والفراء رفعه على الخبرية، ولم أره قراءة، والجملة الاسمية في محل نصب حال من الضمير المستتر في متعلق {بِالْعُدْوَةِ} .

{مِنْكُمْ} : متعلقان ب {أَسْفَلَ} . الواو: حرف استئناف، (لو): حرف لما كان سيقع لوقوع غيره. {تَواعَدْتُمْ} : فعل وفاعل، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي، وجملة:{لاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ} جواب (لو) لا محل لها، و (لو) ومدخولها كلام مستأنف لا محل له. {وَلكِنْ}: الواو: حرف عطف. (لكن): حرف استدراك لا محل له. {لِيَقْضِيَ} : مضارع منصوب ب «أن» مضمرة بعد لام التعليل. {اللهُ} : فاعله.

{أَمْراً} : مفعول به، وجملة:{كانَ مَفْعُولاً} في محل نصب صفة {أَمْراً،} و «أن» المضمرة

ص: 57

والمضارع في تأويل مصدر في محل جر باللام، والجار والمجرور متعلقان بفعل محذوف، انظر تقديره في الشرح. {لِيَهْلِكَ}: بدل من {لِيَقْضِيَ} وهو مثله في إعرابه، وجوز تعليقه ب {مَفْعُولاً،} وقيل: هو على إرادة حرف العطف، أي: وليهلك، فيكون متعلقا بما تعلق به سابقه. {مَنْ}: اسم موصول مبني على السكون في محل رفع فاعل، وجملة:{هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ} صلة الموصول، والعائد رجوع الفاعل إليه. {وَيَحْيى}: معطوف على {لِيَهْلِكَ} فهو منصوب مثله، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على الألف للتعذر. {مَنْ}: فاعله، وجملة:{حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ} صلة الموصول، والعائد رجوع الفاعل إليه، والجملة الاسمية:{وَإِنَّ اللهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ} معترضة في آخر الكلام وتذييل له، الغرض منها ما ذكرته في الشرح.

{إِذْ يُرِيكَهُمُ اللهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلكِنَّ اللهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (43)}

الشرح: {إِذْ يُرِيكَهُمُ اللهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلاً} : هذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، أي: اذكر يا محمد نعمة الله عليك إذ يريك المشركين في نومك قليلا، قال مجاهد: أراهم الله في منامه قليلا، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بذلك، وكان ذلك تثبيتا لهم، وتقوية لقلوبهم، وانظر «النوم» في الآية رقم [97] الأعراف. {وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً} أي: في المنام وأخبرت أصحابك بذلك.

{لَفَشِلْتُمْ} : لجبنتم وضعف رأيكم. {وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ} أي: في أمر القتال بين الثبات والفرار. {وَلكِنَّ اللهَ سَلَّمَ} : أنعم بالسلامة من الجبن واختلاف الرأي. {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ} : يعلم ما يكون فيها، وما يغير أحوالها من جراءة وجبن وصبر وجزع، هذا؛ وانظر {ذاتَ} في الآية رقم [1].

الإعراب: {إِذْ} : متعلق ب (اذكر) محذوفا، أو هو بدل ثان من:{يَوْمَ الْفُرْقانِ،} أو هو متعلق ب {عَلِيمٌ،} فهو مبني على السكون في محل نصب. {يُرِيكَهُمُ} : مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل، والكاف مفعول به أول، والهاء مفعول به ثان. {اللهُ}: فاعله.

{فِي مَنامِكَ} : متعلقان بالفعل قبلهما، والكاف في محل جر بالإضافة. {قَلِيلاً}: مفعول به ثالث؛ لأن (يري) ينصب ثلاثة مفاعيل، ولا تنس أن الفعل (يري) هنا حلمي، وقد عومل معاملة الفعل العلمي بتعديته إلى ثلاثة مفاعيل. وجملة:{يُرِيكَهُمُ..} . إلخ في محل جر بإضافة {إِذْ} إليها. {وَلَوْ} : حرف لما كان سيقع لوقوع غيره {أَراكَهُمْ كَثِيراً} إعراب هذه الجملة مثل إعراب سابقتها مع ملاحظة أن فعلها ماض، ولا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي. {لَفَشِلْتُمْ} : فعل وفاعل، واللام واقعة في جواب (لو)، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها جواب (لو)، و (لو) ومدخولها كلام معطوف على الجملة قبله، فهو في محل جر مثلها،

ص: 58

وهو أولى من الاستئناف. وجملة: {وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ} معطوفة على جواب (لو) لا محل لها مثله. {وَلكِنَّ} : (لكن): حرف مشبه بالفعل. {اللهُ} : اسمها، وجملة:{سَلَّمَ} خبرها، والجملة الاسمية معطوفة على جواب (لو)، لا محل لها مثله. {إِنَّهُ}: حرف مشبه بالفعل، والهاء اسمها. {عَلِيمٌ}: خبرها. {بِذاتِ} : متعلقان ب {عَلِيمٌ،} وذات مضاف، و {الصُّدُورِ}:

مضاف إليه، والجملة الاسمية:{إِنَّهُ..} . إلخ مستأنفة أو تعليلية لا محل لها على الاعتبارين.

{وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ اِلْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (44)}

الشرح: {وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ..} . إلخ: هذا خطاب للمؤمنين الذين شهدوا بدرا، وهو من تذكيرهم بنعمة الله عليهم حيث جعل المشركين في أعينهم قليلا قبل التحام القتال لتقوى قلوبهم، وتشتد عزيمتهم للحرب حتى قال ابن مسعود رضي الله عنه لمن كان بجانبه: أتراهم سبعين؟ فقال: أراهم مائة. {وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ} : حيث جعل المؤمنين في أعين المشركين قليلين، وذلك قبل التحام القتال ليجترءوا عليهم، ولا يستعدوا لهم، حتى قال أبو جهل الخبيث في ذلك اليوم: إنما هم أكلة جزور، خذوهم أخذا، واربطوهم بالحبال، فلما أخذوا في القتال عظم المسلمون في أعينهم وكثروا، كما قال جل شأنه في الآية رقم [13] آل عمران {يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ} وذلك لتفاجئهم الكثرة، فتبهتهم، وتكسر قلوبهم، وهذا من عظائم آيات تلك الوقعة، فإن البصر، وإن كان قد يرى الكثير قليلا، والقليل كثيرا، لكن لا على هذا الوجه، ولا إلى هذا الحد، وإنما يتصور ذلك بصد الله الأبصار عن إبصار بعض دون بعض من التساوي في الشرط. انتهى. بيضاوي.

{لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً} : تكرر هذا؛ لأن المعنى في الأول: من اللقاء والمواجهة، وفي الثاني: من قتل المشركين، وإعزاز الدين، وهو إتمام النعمة على المسلمين.

{وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ} أي: مصيرها ومردها إلى الله تعالى، فيجازي كل عامل على قدر عمله، فالمحسن بإحسانه والمسيء بإساءته، هذا؛ وانظر شرح العين في الآية رقم [116] (الأعراف). {تُرْجَعُ}: انظر الآية رقم [150](الأعراف). {اللهُ} : انظر الآية رقم [1].

{لِيَقْضِيَ اللهُ..} . إلخ: قال الشيخ أبو منصور رحمه الله تعالى: القضاء يحتمل الحكم، أي:

ليحكم ما قد علم أنه يكون كائنا، أو ليتم أمرا كان قد أراده، وما أراد كونه فهو مفعول لا محالة.

انتهى. هذا؛ والمصدر قضاء بالمد؛ لأن لام الفعل ياء، إذ أصل ماضيه (قضي) بفتح الياء، فقلبت ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها، ومصدره (قضيا) بالتحريك، كطلب طلبا، فتحركت الياء فيه أيضا، وانفتح ما قبلها، فقلبت ألفا، فاجتمع ألفان، فأبدلت الثانية همزة، فصار قضاء ممدودا، وجمع

ص: 59

القضاء أقضية، كعطاء، وأعطية، وهو في الأصل: إحكام الشيء، وإمضاؤه، والفراغ منه، ويكون أيضا بمعنى الأمر، قال تعالى:{وَقَضى رَبُّكَ أَلاّ تَعْبُدُوا إِلاّ إِيّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً} .

وبمعنى العلم، تقول: قضيت بكذا، أي: أعلمتك به، وبمعنى الإتمام قال تعالى:{فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ} وبمعنى الفعل، قال تعالى حكاية عن قول السحرة لفرعون:{فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ} وبمعنى الإرادة، قال تعالى:{وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} وبمعنى الموت، كقوله تعالى حكاية عن قول أهل النار:{وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ} .

وبمعنى الكتابة، قال تعالى:{وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا} أي: مكتوبا في اللوح المحفوظ، وبمعنى الفصل، قال تعالى:{وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} وبمعنى الخلق، قال تعالى:

{فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ} وبمعنى بلوغ المراد والأرب، قال تعالى:{فَلَمّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها} وبمعنى وفاء الدين، كقولك: قضيت ديني. انتهى قسطلاني بتصرف. وأضيف أنه يكون بمعنى «أوحينا» كما في قوله تعالى: {وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ..} . إلخ.

قال القرطبي-رحمه الله تعالى-: فإذا كان القضاء يحتمل هذه المعاني، فلا يجوز إطلاق القول بأن المعاصي بقضاء الله؛ لأنه إن أريد به الأمر فلا خلاف أنه لا يجوز ذلك؛ لأن الله تعالى لم يأمر بها، فإنه لا يأمر بالفحشاء، وقال زكريا بن سلام: جاء رجل إلى الحسن، فقال:

إنه طلق امرأته ثلاثا، فقال: إنك قد عصيت ربك، وبانت منك، فقال الرجل: قضى الله ذلك علي، فقال الحسن-وكان فصيحا-: ما قضى الله ذلك، أي: ما أمر الله به؛ وقرأ قوله تعالى:

{وَقَضى رَبُّكَ أَلاّ تَعْبُدُوا إِلاّ إِيّاهُ} . انتهى.

الإعراب: {وَإِذْ} : (إذ): معطوف على مثله في الآية السابقة. {يُرِيكُمُوهُمْ} : انظر إعراب مثله في الآية السابقة، والفاعل يعود إلى (الله)، والميم علامة جمع الذكور، وحركت بالضم، لتحسين اللفظ، فتولدت واو الإشباع، وهي حرف لا محل له. {إِذْ}: ظرف متعلق بما قبله، مبني على السكون في محل نصب. {اِلْتَقَيْتُمْ}: فعل وفاعل، وانظر إعراب:{وَجَعَلْنا} في الآية رقم [10] الأعراف، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة {إِذْ} إليها. {فِي أَعْيُنِكُمْ}: متعلقان بالفعل «يري» والكاف في محل جر بالإضافة. {قَلِيلاً} : حال من هاء الغائبين؛ لأن الفعل «يري» بصري. {وَيُقَلِّلُكُمْ} : مضارع، والكاف مفعول به، والفاعل يعود إلى (الله)، والجملة الفعلية معطوفة على {يُرِيكُمُوهُمْ} فهي في محل جر مثلها. {فِي أَعْيُنِهِمْ}: متعلقان بما قبلهما، والهاء في محل جر بالإضافة {لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً} انظر الإعراب في الآية رقم [43] والجار والمجرور الحاصلان من:{لِيَقْضِيَ} متعلقان بأحد الفعلين {يُرِيكُمُوهُمْ،} {وَيُقَلِّلُكُمْ} .

{وَإِلَى اللهِ} : متعلقان بالفعل بعدهما. {تُرْجَعُ} : يقرأ بالبناء للفاعل وللمفعول. {الْأُمُورُ} :

فاعل، أو نائب فاعل، والجملة الفعلية مستأنفة لا محل لها.

ص: 60

{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاُذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45)}

الشرح: {آمَنُوا} : انظر الآية رقم [2]. {لَقِيتُمْ} : لقي بمعنى: صادف، ومصدره: اللقي بضم اللام، وكسر القاف، واللقى بضم اللام مقصورا، واللقاء بكسرها ممدودا ومقصورا.

{فِئَةً} : جماعة، والمراد: الكفار. وترك وصفها؛ لأن المؤمنين ما كانوا يحاربون إلا الكفار.

وانظر الآية رقم [16]. {فَاثْبُتُوا} أي: في ساحة الحرب، ولا تهربوا، وظاهر اللفظ يوجب الثبات في الميدان على كل حال، وذلك يوهم نسخ ما ذكر في الآية رقم [16] من التحرف والتحيز، والجواب أن آية التحرف والتحيز؛ لا تقدح في حصول هذا الثبات في المحاربة، بل ربما كان الثبات لا يحصل إلا بذلك التحرف، والتحيز. {وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً} أي: في مواطن الحرب، داعين له، مستظهرين بذكره، مترقبين لنصره. {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}: تظفرون بمرادكم من النصرة والمثوبة، وفيه تنبيه على أن العبد ينبغي أن لا يشغله شيء عن ذكر الله، وأن يلتجئ إليه عند الشدائد، ويقبل عليه بقلب فارغ البال، واثقا بأن لطفه لا ينفك عنه في شيء من الأحوال. وانظر مثل هذا الترجي في الآية رقم [168] من سورة (الأعراف).

الإعراب: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} : انظر الإعراب في الآية رقم [20]. {إِذا} : ظرف لما يستقبل من الزمان، خافض لشرطه، منصوب بجوابه، صالح لغير ذلك، مبني على السكون في محل نصب. {لَقِيتُمْ}: فعل وفاعل، {فِئَةً،} مفعول به، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة {إِذا} إليها على القول المرجوح المشهور. {فَاثْبُتُوا}: الفاء: واقعة في جواب {إِذا} .

(اثبتوا): فعل أمر مبني على حذف النون، الواو فاعله، والألف للتفريق. وانظر المتعلق في الشرح، والجملة الفعلية جواب {إِذا} لا محل لها، و {إِذا} ومدخولها كلام لا محل له؛ لأنه كلام ابتدائي كالجملة الندائية قبله. {وَاذْكُرُوا}:(اذكروا): فعل أمر وفاعله، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها لا محل لها مثلها. {اللهَ}: منصوب على التعظيم. {كَثِيراً} : صفة لمفعول مطلق محذوف، التقدير: ذكرا كثيرا، ويجوز اعتباره نائب مفعول مطلق، {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}: إعراب هذه الجملة ومحلها مثل جملة: {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} في الآية رقم [26].

{وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاِصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصّابِرِينَ (46)}

الشرح: {وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ} أي: فيما يأمرانكم به من الجهاد والثبات عند لقاء العدو، وقرن سبحانه طاعة نبيه بطاعته، وهذا يتكرر في القرآن الكريم، انظر الآية رقم [68] من سورة

ص: 61

(النساء). {وَلا تَنازَعُوا} أي: لا تختلفوا. {فَتَفْشَلُوا} : فتضعفوا وتجبنوا عند لقاء العدو.

{وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} : تذهب قوتكم، فقد استعار الريح للقوة، من حيث إنها في تمشي أمرها، ونفاذه مشبهة بها في هبوبها ونفوذها، كما تقول: الريح لفلان؛ إذا كان غالبا في الأمر.

قال الشاعر: [الوافر]

إذا هبّت رياحك فاغتنمها

فإنّ لكلّ خافقة سكون

ولا تغفل عن الإحسان فيها

فما تدري السكون متى يكون

هذا؛ والريح في الأصل: الهواء المسخر بين السماء والأرض، وأصله الروح، قلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها، والجمع: أرواح ورياح، وأصل رياح رواح، فعل فيه كما فعل بأصل ريح، والأكثر في الريح التأنيث كما في الآية الكريمة، وقد تذكر على معنى الهواء، والرياح الأصول أربع:

إحداها: الشمال، وتأتي من ناحية الشمال، وهي شمال من استقبل مطلع الشمس، وهذه الريح حارة في الصيف، باردة في الشتاء، والثانية: الجنوب، وهي مقابلتها، أي: تأتي من جهة يمين من استقبل مطلع الشمس، وهي الريح اليمانية، والثالثة: الصبا بفتح الصاد، وتأتي من مطلع الشمس، وتسمى القبول أيضا، والرابعة الدبور، وتأتي من جهة الغرب، وما أتى منها من بين تلك الجهات يقال لها:

النكباء؛ ثم إن خرجت من بين الجنوب والشرق، قيل لها: أزيب بفتح الهمزة وسكون الزاي وفتح الياء، وإن خرجت من بين الشمال والغرب، قيل لها: جربيا بكسر الجيم، وسكون الراء وكسر الباء، وإن خرجت من بين الشمال والشرق، قيل لها: صابية، وإن خرجت من بين الجنوب والغرب، قيل لها: هيف، بفتح الهاء وسكون الياء، وقد جمع الثمانية النواجي في قوله:[الطويل]

صبا ودبور، والجنوب وشمال

بشرق وغرب والتّيمّن والضّدّ

ومن بينها النّكباء أزيب جربيا

وصابية والهيف خاتمة العدّ

هذا؛ وأضيف أن ريح الصبا نصر الله بها نبيه صلى الله عليه وسلم في غزوة الخندق، حيث فعلت بقريش العجائب، فارتدوا على أعقابهم خاسئين، وأن ريح الدبور، أهلك الله بها قوم عاد، ونبيهم هود عليه الصلاة والسلام، كما رأيت في الآية رقم [65] من سورة (الأعراف) وما بعدها. قال الرسول صلى الله عليه وسلم:«نصرت بالصّبا، وأهلكت عاد بالدّبور» . {وَاصْبِرُوا} أي: على مقاساة الحرب وشدائدها. {إِنَّ اللهَ مَعَ الصّابِرِينَ} : بالمعونة والنصر، والتأييد والظفر، وانظر (الصبر) في الآية رقم [127] من سورة (الأعراف)، هذا؛ ومعية الله على نوعين: عامة وخاصة، فالأولى: لكل الناس، وهي معية بالعلم والقدرة، والثانية: للمؤمنين المتقين والمحسنين، وهي بالحفظ والنصر، والمعونة والظفر

إلخ، قال تعالى:{إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ،} وقال هنا: {إِنَّ اللهَ مَعَ الصّابِرِينَ} .

ص: 62

عن عبد الله بن أبي أوفى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أيامه التي لقي فيها العدو، انتظر حتى إذا مالت الشمس قام فيهم خطيبا، فقال:«أيّها الناس لا تتمنّوا لقاء العدوّ، واسألوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا، واعلموا أنّ الجنة تحت ظلال السّيوف» ثم قال «اللهمّ منزل الكتاب، ومجري السحاب، وهازم الأحزاب، اهزمهم وانصرنا عليهم» .

الإعراب: {وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ} : انظر إعراب (اثبتوا) في الآية السابقة، والآية رقم [1].

{وَلا} : الواو: حرف عطف. (لا): ناهية جازمة. {تَنازَعُوا} : مضارع مجزوم ب (لا)، وعلامة جزمه حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية معطوفة مع ما قبلها على جملة (اثبتوا) في الآية السابقة لا محل لها مثلها. {فَتَفْشَلُوا}: مضارع معطوف على ما قبله مجزوم مثله، أو هو منصوب ب «أن» مضمرة بعد الفاء، ويقويه عطف (تذهب) عليه بالنصب، كما قرئ بجزمه، وعلامة الجزم أو النصب حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والألف للتفريق، وعلى وجه النصب تؤول «أن» المضمرة مع الفعل بمصدر معطوف على مصدر متصيد من الفعل السابق، التقدير: لا يكن منكم تنازع ففشل لكم، وذهاب ريحكم. {رِيحُكُمْ}:

فاعله، والكاف في محل جر بالإضافة. {وَاصْبِرُوا}: فعل وفاعل، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها لا محل لها أيضا. {إِنَّ}: حرف مشبه بالفعل. {اللهَ} : اسمها. {مَعَ} : ظرف مكان متعلق بمحذوف خبر {إِنَّ،} و {مَعَ} : مضاف، و {الصّابِرِينَ}: مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الياء نيابة عن الكسرة؛ لأنه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، والجملة الاسمية:{إِنَّ اللهَ..} . إلخ تعليل للأمر لا محل لها.

{وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً وَرِئاءَ النّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَاللهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (47)}

الشرح: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ..} . إلخ: هذا نهي للمؤمنين عن التشبه بالكافرين البطرين المرائين، أبي جهل الخبيث وأمثاله الذين خرجوا لحماية العير التي كانت مع أبي سفيان في عودته من بلاد الشام، فقد خرجوا فلما بلغوا الجحفة وافاهم رسول أبي سفيان، وقال لهم: ارجعوا، فقد سلمت عيركم، فقال أبو جهل الخبيث: لا والله حتى نقدم بدرا، ونشرب فيها الخمر، وتعزف علينا القينات، ونطعم من حضرنا من العرب، فوافوها، ولكنهم سقوا كأس المنايا، وناحت عليهم النوائح. هذا؛ وانظر شرح:{دِيارِهِمْ} في الآية رقم [78] الأعراف، والبطر: الفخر، والكبر، والأشر، قال القرطبي: هو التقوية بنعم الله عز وجل، وما ألبسه من العافية على المعاصي، وقيل: البطر: صرف النعمة في المفاخرة على الأقران، وتكاثر بها أهل الزمان، وإنفاقها في غير طاعة الرحمن، والرياء: إظهار الجميل ليراه الناس مع إبطان

ص: 63

القبيح، وهو من النفاق، وقيل في الفرق بينهما: النفاق إظهار الإيمان مع إبطان الكفر، والرياء إظهار الطاعة مع إبطان المعصية، وانظر الآية رقم [263](البقرة). هذا؛ وأصل {وَرِئاءَ} ريايا، فالهمزة الأولى بدل من ياء هي عين الكلمة، والثانية بدل من ياء هي لام الكلمة؛ لأنها وقعت طرفا بعد ألف زائدة، والمفاعلة في رئاء على بابها؛ لأن المرائي يري الناس أعماله حتى يروه الثناء عليه والتعظيم له. {وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ}: يمنعون الناس من الدخول في دين الإسلام، وانظر الآية رقم [45] الأعراف فإنه جيد. {اللهِ}: انظر الآية رقم [1]. {مُحِيطٌ} أي: عليم علما دقيقا فلا يفوته الكافرون، ولا يعجزونه، وأصله محوط؛ لأنه من حاط يحوط، فقل في إعلاله: اجتمع معنا حرف صحيح ساكن، وحرف علة متحرك، والحرف الصحيح أولى بالحركة من حرف العلة، فنقلت حركة الواو إلى الحاء فصار محوط، ثم قلبت الواو ياء لمناسبة الكسرة.

الإعراب: {وَلا} : الواو: حرف عطف. (لا): ناهية جازمة. {تَكُونُوا} : مضارع ناقص مجزوم ب (لا) الناهية، وعلامة جزمه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو اسمه، والألف للتفريق. {كَالَّذِينَ}: متعلقان بمحذوف خبر الفعل الناقص، وإن اعتبرت الكاف اسما بمعنى مثل فهي الخبر، وهي مضاف، و (الذين) اسم موصول مبني على الفتح في محل جر بالإضافة، وجملة:{خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ} صلة الموصول لا محل لها. {بَطَراً} : مفعول لأجله، أو هو حال على تأويل المصدر باسم الفاعل. {وَرِئاءَ}: معطوف على ما قبله على الاعتبارين، وجملة:{وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ} معطوفة على بطرا ورئاء، والمعنى، وصادين الناس عن الدخول في دين الله تعالى. {وَاللهُ}: مبتدأ. {بِما} : متعلقان ب {مُحِيطٌ} بعدهما، و (ما) تحتمل الموصولة، والموصوفة، والمصدرية، فعلى الأولين مبنية على السكون في محل جر بالباء، والجملة بعدها صلتها أو صفتها، والعائد أو الرابط محذوف، إذ التقدير بالذي، أو بشيء يعملونه، وعلى اعتبار (ما) مصدرية تؤول مع الفعل بعدها بمصدر في محل جر بالباء، التقدير:

بعملهم، والجار والمجرور متعلقان ب {مُحِيطٌ}. {مُحِيطٌ}: خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة أو معترضة في آخر الكلام لا محل لها، المراد منها التهديد والوعيد.

{وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَقالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ فَلَمّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ وَقالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخافُ اللهَ وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقابِ (48)}

الشرح: {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ} أي: اذكر يا محمد، واذكروا يا مؤمنون وقت زين وحسن إبليس لمشركي قريش أعمالهم الخبيثة من كفر بالله ورسوله، وصد للناس عن الإسلام، ومحاربة للمسلمين. هذا؛ والمزين في الحقيقة هو الله تعالى، هذا مذهب أهل السنة، وإنما جعل

ص: 64

الشيطان آلة بإلقاء الوسوسة في قلوبهم، وليس له قدرة أن يضل أو يهدي أحدا، وإنما له الوسوسة فقط، فمن أراد الله شقاوته سلطه عليه، حتى يقبل وسوسته، هذا؛ والشيطان اسم يطلق على عدو الله إبليس، وقد يطلق على كل نفس عاتية خبيثة، خارجة عن الصراط المستقيم من الإنس، والجن، والحيوان، وما أكثر الشياطين بهذا المعنى من بني آدم، انظر الآية رقم [112] من سورة (الأنعام) وما ذكرته في شرحها. وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم لأبي ذر الغفاري-رضي الله عنه «يا أبا! ذرّ تعوّذ بالله من شياطين الإنس والجنّ». قال: أو للإنس شياطين؟ قال: «نعم» .

ولا تنس أن لكل واحد من الإنس شيطانا قرينا له، بدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة-رضي الله عنها «أجاءك شيطانك؟» قالت: أولي شيطان؟ قال: «ما من أحد، إلاّ وله شيطان» . قالت:

وأنت يا رسول الله؟ قال: «وأنا إلاّ أنّني أعانني الله عليه فأسلم، فلا يأمر إلاّ بخير» . أسلم:

يروى بفتح الميم على أنه ماض، وفاعله يعود إلى الشيطان فيكون من الإسلام، ويروى بضم الميم على أنه مضارع، وفاعله مستتر تقديره:«أنا» ، فيكون من السلامة، هذا؛ والشيطان مأخوذ من شطن إذا بعد، وقيل: مأخوذ من شاط إذا احترق، فعلى الأول: هو مصروف لأن النون أصلية، وعلى الثاني: هو غير مصروف، لزيادة الألف والنون، وشطن من باب قعد، وشاط من باب ضرب. وقال: أي: الشيطان، {لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النّاسِ} أي: لا يغلبكم اليوم أحد من الناس في هذه الحرب، انظر اليوم في الآية رقم [128] الأنعام. {النّاسِ}: انظر الآية رقم [82](الأعراف). {وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ} : مجير لكم من أعدائكم، هذا؛ والجار هو المجاور لك في المسكن، أو في المتجر، أو في الحقل، ويطلق على الشريك في العقار، والخفير، والمستجير، والحليف، والناصر، وجمعه في القلة: جيرة، وفي الكثرة: جيران، وأجوار، وجوار. {تَراءَتِ الْفِئَتانِ}: رأت كل فئة عدوتها، والمراد الجيشان: جيش الإيمان وجيش الكفر، وانظر شرح {فِئَةٍ} في الآية رقم [16]. {نَكَصَ}: رجع، قال الشاعر:[البسيط]

ليس النّكوص على الأدبار مكرمة

إنّ المكارم إقدام على الأسل

وقال الشاعر: [الطويل]

وما ينفع المستأخرين نكوصهم

ولا ضرّ أهل السّابقات التّقدّم

{عَلى عَقِبَيْهِ} أي: فارا راجعا، وعقبيه مثنى عقب، وهو مؤخر قدم الإنسان، وفي ذلك استعارة لإبطال كيده ومكره وخداعهم له. {إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ}: أعلن براءته منهم، وهم في أحرج الأوقات، وأحلك الساعات. وانظر شرح براءة في الآية رقم [1] من سورة (التوبة). {إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ}: إني أنظر وأبصر ما لا تبصرون. {إِنِّي أَخافُ اللهَ} : قيل: خاف إبليس أن يكون يوم بدر اليوم الذي أنظر إليه، والأصح أنه كذب في قوله، ولكنه علم: أنه لا قوة له

ص: 65

ولا حيلة في نصر المشركين عند ما عاين الملائكة، هذا؛ وإعلال {أَرى} مثل إعلال (ترى) في الآية رقم [142] الأعراف وإعلال {تَرَوْنَ} مثل إعلال {تَحْيَوْنَ} في الآية [25](الأعراف).

تنبيه: قيل: إن ما ذكر في الآية الكريمة إنما هو وسوسة وتخييل للمشركين بأنهم لا يغلبون، ولا يطاقون لكثرة عدوهم وعددهم، وأوهمهم أن اتباعهم إياه هو الحق، حتى قالوا: اللهم انصر أهدى الفئتين وأفضل الدينين، وقال جمهور المفسرين: تصور إبليس لهم بصورة سراقة بن مالك المدلجي، وكان تزيينه لما أجمعت قريش على المسير إلى بدر ذكرت الذي بينها وبين بني بكر من حروب، فخافوا من مداهمة مكة، فتبدّى لهم إبليس في صورة سراقة، وكان من أشراف بني كنانة، وقال: أنا جار لكم من أن يأتيكم من كنانة شيء تكرهونه، فخرجوا سراعا، وهو معهم، ويده بيد الحارث بن هشام أخي أبي جهل، فلما حمي وطيس المعركة، وعاين الملائكة تنزل مددا للمسلمين فر هاربا، فقال له الحارث: أتخذلنا في هذه الحالة؟ فقال: إني أرى ما لا ترون، ودفع في صدر الحارث، وانطلق، فانهزموا، فلما بلغوا مكة، قالوا: هزم الناس سراقة، فلما بلغه ذلك، قال: والله ما شعرت بمسيركم، حتى بلغتني هزيمتكم، فلما أسلموا؛ علموا: أنه الشيطان الرجيم.

عن طلحة بن عبيد الله بن كريز: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما رؤي الشيطان يوما، هو فيه أصغر، ولا أدحر، ولا أغيظ، ولا أحقر منه في يوم عرفة، وما ذاك إلا لما يرى من تنزل الرّحمة، وتجاوز الله عن الذّنوب العظام، إلاّ ما رأى يوم بدر، فإنه قد رأى جبريل يزع الملائكة» . أخرجه مالك في موطئه.

الإعراب: {وَإِذْ} : الواو: حرف استئناف. (إذ): مفعول به لفعل محذوف، تقديره: اذكر، أو هو ظرف متعلق بالمحذوف، مبني على السكون في محل نصب. {زَيَّنَ}: ماض. {لَهُمُ} :

متعلقان بالفعل قبلهما. {الشَّيْطانُ} : فاعل. {أَعْمالَهُمْ} : مفعول به، والهاء في محل جر بالإضافة، والميم في الكل حرف دال على جماعة الذكور، وجملة:{زَيَّنَ..} . إلخ في محل جر بإضافة (إذ) إليها. {وَقالَ} : ماض، والفاعل يعود إلى {الشَّيْطانُ}. {لا}: نافية للجنس.

{غالِبَ} : اسم {لا} مبني على الفتح في محل نصب. {لَكُمُ} : جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر {لا،} وهذا على لغة الحجازيين الذين يجيزون ذكر خبر {لا،} وأما على لغة بني تميم الذين يوجبون حذفه، فالجار والمجرور متعلقان بمحذوف صفة {غالِبَ،} ولا يجوز تعليقهما ب {غالِبَ} : إذ لو كان كذلك لوجب نصب {غالِبَ،} وتنوينه؛ لأنه حينئذ يكون شبيها بالمضاف. {الْيَوْمَ} : ظرف زمان متعلق بمحذوف خبر ثان على لغة الحجازيين، ومتعلق بمحذوف صفة ثانية ل {غالِبَ} على لغة بني تميم، الذين يوجبون حذف الخبر، ويقدرونه بموجود أو حاصل. {مِنَ النّاسِ}: متعلقان بمحذوف حال من الضمير في متعلق {لَكُمُ} هذا؛ واعتبر أبو البقاء {الْيَوْمَ} ظرفا متعلقا في متعلق {لَكُمُ،} وجملة: {لا غالِبَ..} . إلخ

ص: 66

في محل نصب مقول القول، وجملة:{وَقالَ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها فهي في محل جر مثلها. {وَإِنِّي} : الواو: حرف عطف. (إني): حرف مشبه بالفعل، وياء المتكلم ضمير متصل في محل نصب اسمها. {جارٌ}: خبرها. {لَكُمُ} : متعلقان ب {جارٌ} أو بمحذوف صفة له، وجملة:{وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ} معطوفة على ما قبلها فهي في محل نصب مقول القول مثلها.

{فَلَمّا} : الفاء: حرف استئناف. (لما): حرف وجود لوجود عند سيبويه، وبعضهم يقول: حرف وجوب لوجوب، وهي ظرف بمعنى حين عند الفارسي، وابن السراج، وابن جني وجماعة، تتطلب جملتين مرتبطتين ببعضهما ارتباط فعل الشرط بجوابه، وصوب ابن هشام الأول، والمشهور الثاني. {تَراءَتِ}: ماض مبني على فتح مقدر على الألف المحذوفة لالتقائها ساكنة مع تاء التأنيث الساكنة. {الْفِئَتانِ} : فاعل مرفوع، وعلامة رفعه الألف نيابة عن الضمة؛ لأنه مثنى، والنون عوض من التنوين في الاسم المفرد، وجملة:{تَراءَتِ الْفِئَتانِ} لا محل لها على القول بحرفية (لما)؛ لأنها حينئذ ابتدائية، وهي في محل جر بإضافة (لما) إليها على القول بظرفيتها، وعلى اعتبارها متعلقة بالجواب. {نَكَصَ}: ماض، والفاعل يعود إلى {الشَّيْطانُ،} والجملة الفعلية جواب: (لما)، لا محل لها، و (لما) ومدخولها كلام مستأنف لا محل له. {عَلى عَقِبَيْهِ}: جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، وعلامة الجر الياء، نيابة عن الكسرة؛ لأنه مثنى، وحذفت النون للإضافة؛ والهاء: في محل جر بالإضافة {إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ} إعراب هذه الجملة مثل إعراب: {وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ} وهي في محل نصب مقول القول، وجملة:

{وَقالَ..} . إلخ معطوفة على جواب (لما) لا محل لها مثله. {إِنِّي} : حرف مشبه بالفعل، وياء المتكلم اسمها. {أَرى}: مضارع مرفوع

إلخ، والفاعل مستتر تقديره:«أنا» ، وهو بصري؛ فلذا اكتفى بمفعول واحد، والجملة الفعلية في محل رفع خبر (إن)، والجملة الاسمية:{إِنِّي..} .

إلخ تعليل لبراءته منهم. {فَلَمّا} : اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل نصب مفعول به، والجملة الفعلية بعدها المنفية صلتها، أو صفتها، والعائد أو الرابط محذوف؛ إذ التقدير: الذي، أو شيئا لا ترونه، والجملة الاسمية:{إِنِّي أَخافُ اللهَ} تعليل آخر لبراءته منهم، والجملة الاسمية:{وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقابِ} تعليل آخر، إن كانت من قول إبليس، ومستأنفة إن كانت من قول الله تعالى، ويكون المراد منها الوعيد الشديد، والتهديد البليغ.

{إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَإِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (49)}

الشرح: {يَقُولُ} : انظر القول في الآية رقم [5] الأعراف. {الْمُنافِقُونَ} : أرجو أن تنظر ما ذكرته في الآية رقم [138] النساء، ففيها الكفاية. {وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} أي: شك،

ص: 67

ونفاق، فهو يمرض قلوبهم، أي: يضعفها بضعف الإيمان فيها، والمرض: حقيقة ما يعرض للبدن، فيخرجه عن الاعتدال اللائق به، ويوجب الخلل في أفعاله، وقد يؤدي إلى الموت، استعير هنا لما في قلوبهم من الجهل، وفساد العقيدة، هذا؛ وقد اختلف في هؤلاء، فقيل: هم المنافقون، والعطف للترادف، وقال الخازن: هم قوم من أهل مكة تكلموا بالإسلام، ولم يقو الإيمان في قلوبهم، فلما خرج كفار قريش إلى بدر خرجوا معهم، فلما رأوا قلة المسلمين وكثرة المشركين ارتابوا وارتدوا، وقالوا {غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ} أي: خدع المسلمين دينهم الجديد الذي اعتنقوه رجاء الثواب الموهوم، والأجر المزعوم، وانظر شرح:(الدين) في الآية رقم [161] الأنعام. {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ} أي: يسلم أمره إليه، ويفوض شئونه لأمره، ويعتمد عليه في جميع أموره وأحواله. {فَإِنَّ اللهَ عَزِيزٌ}: قوي غالب لا يذل من استجار به واعتمد عليه.

{حَكِيمٌ} : يفعل بحكمته البالغة ما يستبعده العقل، ويعجز عن إدراكه، وانظر الآية رقم [10].

الإعراب: {إِذْ} : هو مثل الآية السابقة. {يَقُولُ} : مضارع. {الْمُنافِقُونَ} : فاعله مرفوع

إلخ، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة {إِذْ} إليها، والجملة المقدرة (اذكر

) إلخ مستأنفة لا محل لها. {وَالَّذِينَ} : اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع معطوف على المنافقون. {فِي قُلُوبِهِمْ} : متعلقان بمحذوف خبر مقدم، والهاء في محل جر بالإضافة. {مَرَضٌ}:

مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية صلة الموصول لا محل لها، هذا؛ ويجوز اعتبار:{فِي قُلُوبِهِمْ} متعلقين بمحذوف صلة الموصول، ويكون {مَرَضٌ} فاعلا بذلك المحذوف، والتقدير: الذين استقر في قلوبهم مرض. {غَرَّ} : ماض. {هؤُلاءِ} : اسم إشارة مبني على الكسر في محل نصب مفعول به، والهاء: حرف تنبيه لا محل له. {دِينُهُمْ} : فاعل {غَرَّ،} والهاء في محل جر بالإضافة، وجملة:{غَرَّ..} . إلخ في محل نصب مقول القول {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَإِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} انظر إعراب مثل هذا الكلام في الآية رقم [13] ومحله مثله أيضا.

{وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (50)}

الشرح: {وَلَوْ تَرى} : هذا الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، ومعناه: عاينت وشاهدت؛ لأن «لو» ترد المضارع إلى معنى الماضي، كما ترد (إن) الماضي إلى معنى الاستقبال. {إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ}: وقت قبض الملائكة أرواح الكفار والمشركين. {الْمَلائِكَةُ} : انظر الآية رقم [11](الأعراف). {يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ} : اختلف في وقت هذا الضرب، فقيل: هو عند الموت تضرب الملائكة وجوه المشركين وأدبارهم بسياط من نار، وهذا عام في كل مشرك وكافر عند الموت، وهو ما تفيده الآية رقم [27] من سورة (محمد صلى الله عليه وسلم، وقيل: كان هذا في

ص: 68

غزوة بدر، قيل: كان مع الملائكة مقامع من حديد محمية بالنار، يضربون بها الكفار، فتلتهب النار في جراحاتهم، والمراد بالأدبار: الظهور والأعجاز. {وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ} أي: وتقول لهم الملائكة ذلك عند الضرب، وهو مختلف في وقته كسابقه، وهو وقت الضرب، وانظر ما ذكرته في الآية رقم [14] بشأن {وَذُوقُوا،} و {عَذابَ} انظر شرحه في الآية رقم [38](الأعراف). {الْحَرِيقِ} : بمعنى الحرق. هذا؛ وانظر ما يقال لهم، وهم في غمرات الموت في الآية رقم [93](الأنعام).

الإعراب: {وَلَوْ} : الواو: حرف استئناف. (لو): حرف لما كان سيقع لوقوع غيره.

{تَرى} : مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر، والفاعل ضمير مستتر تقديره:«أنت» ، ومفعوله محذوف، التقدير: ترى حال الكفار. {إِذْ} : ظرف لما مضى من الزمان مبني على السكون في محل نصب متعلق بالفعل قبله. {يَتَوَفَّى} : مضارع مرفوع مثل {تَرى} . {الَّذِينَ} : مفعول به، وجملة:{كَفَرُوا} صلة الموصول لا محل لها.

{الْمَلائِكَةُ} : فاعل {يَتَوَفَّى،} والجملة الفعلية في محل جر بإضافة {إِذْ} إليها، وجملة:

{يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ} في محل نصب حال من الملائكة، أو من {الَّذِينَ كَفَرُوا؛} لأن فيها ضميرا يعود عليهما، هذا؛ ويقرأ:{يَتَوَفَّى} بالتاء والياء، وساغ ذلك؛ لأن الملائكة جمع تكسير؛ ولأنه فصل بين الفعل وفاعله، هذا؛ ويجوز أن يكون فاعل {يَتَوَفَّى} ضميرا تقديره:

«هو» يعود إلى الله؛ وعليه ف: {الْمَلائِكَةُ} مبتدأ، والجملة بعده خبره، والجملة الاسمية على هذا الاعتبار في محل نصب حال من {الَّذِينَ كَفَرُوا،} والرابط الضمير فقط، وجملة:

{تَرى..} . إلخ لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي، وجواب (لو) محذوف، التقدير: لرأيت أمرا فظيعا، و (لو) ومدخولها كلام مستأنف لا محل له. {وَذُوقُوا}:

أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق، وانظر إعراب:{اُسْجُدُوا} في الآية رقم [11] من سورة (الأعراف). {عَذابَ} : مفعول به، وهو مضاف، و {الْحَرِيقِ..}.: مضاف إليه من إضافة الموصوف لصفته، إذ الأصل العذاب المحرق، وجملة:{وَذُوقُوا..} . إلخ في محل نصب مقول القول لقول محذوف، إذ التقدير: ويقولون لهم: {وَذُوقُوا..} . إلخ. وهذه الجملة معطوفة على جملة: {يَضْرِبُونَ..} . إلخ. على الوجهين المعتبرين فيها.

{ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلاّمٍ لِلْعَبِيدِ (51)}

الشرح: {ذلِكَ} : إشارة إلى الضرب والعذاب المذكور في الآية السابقة. {بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ} : بسبب ما كسبتم من الكفر والمعاصي، ومحاربة الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، وعبر بالأيدي عن الأنفس لأن سائر الأعمال بهن، وانظر شرح {يَدَهُ} في الآية رقم [108] الأعراف.

{لَيْسَ بِظَلاّمٍ لِلْعَبِيدِ} : انظر الآية رقم [182] من سورة (آل عمران) تجد ما يسرك.

ص: 69

تنبيه: الآية الكريمة مذكورة في الآية رقم [182] من آل عمران بألفاظها وحروفها مع اختلاف المراد من الآيتين، ولكن الإعراب لا يختلف أبدا؛ فلذا، أحيلك على إعرابها هناك، روما للاختصار، والله المعين والموفق.

{كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ (52)}

تنبيه: هذه الآية مذكورة بسورة (آل عمران) برقم [11] مع اختلاف بسيط في بعض كلماتها، وهو لا يؤثر في معناها ولا في إعرابها؛ فلذا أحيلك على شرحها وإعرابها هناك روما للاختصار، وانظر الآية رقم [55] الآتية.

{ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (53)}

الشرح: {ذلِكَ} : الإشارة إلى ما حل بهم يوم بدر من قتل، وأسر في الدنيا، وما يحل بهم عند الموت من عذاب. {بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً..}. إلخ: أي: بسبب أن الله لا ينزع نعمة من قوم حتى يفسدوا ويفعلوا المنكرات، والفواحش، هذا؛ والنعمة التي أنعمها الله على قريش هي الخصب، والسعة، والأمن، والعافية، قال تعالى:{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} وقال السدي: نعمة الله عليهم محمد صلى الله عليه وسلم، فكفروا به، فنقل إلى المدينة وحل بالمشركين العقاب. {سَمِيعٌ} أي: لأقوال خلقه، لا يخفى عليه شيء من كلامهم. {عَلِيمٌ}:

بما في صدورهم من خير وشر، فيجازي كل واحد على عمله، وانظر الآية رقم [17].

{اللهَ} : انظر الآية رقم [1]. {يَكُ} : أصله (يكون) فلما دخل الجازم عليه صار: لم يكون، فحذفت الواو لالتقاء الساكنين، فصار (يكن) ثم حذفت النون الساكنة للتخفيف، ولكثرة الاستعمال، وهذا الحذف جائز وغير لازم، وله شروط: أن يكون مضارعا ناقصا من «كان» ، وأن يكون مجزوما بالسكون، وأن لا يكون بعده ساكن، ولا يتصل به ضمير كما في الآية الكريمة وغيرها كثير، وهو وارد في الشعر وفي الكلام العربي، ولا تحذف النون عند فقد أحد الشروط إلا في ضرورة الشعر، كما في قول الخنجر بن صخر الأسدي:[الطويل]

فإن لم تك المرآة أبدت وسامة

فقد أبدت المرآة جبهة ضيغم

وقول الآخر: [الطويل]

إذا لم تك الحاجات من همّة الفتى

فليس بمغن عنك عقد الرّتائم

ص: 70

وقرئ شاذا قوله تعالى: «(لم يك الذين كفروا من أهل الكتاب)» ولم تحذف من قول أبي الأسود الدؤلي لجريانه على القاعدة: [الطويل]

دع الخمر تشربها الغواة فإنّني

رأيت أخاها مجزئا بمكانها

فإلاّ يكنها، أو تكنه فإنّه

أخوها غذته أمّه بلبانها

يريد نقيع التمر، وانظر شرح {قَوْمٍ} في [32] من سورة (الأعراف) وشرح {بِأَنْفُسِهِمْ} في الآية [9] منها.

الإعراب: {ذلِكَ} : اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع مبتدأ، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب لا محل له. {بِأَنَّ}: الباء: حرف جر. (أن): حرف مشبه بالفعل.

{اللهَ} : اسمها. {لَمْ} : حرف قلب ونفي وجزم. {يَكُ} : مضارع ناقص مجزوم ب {لَمْ،} وعلامة جزمه سكون النون المحذوفة للتخفيف، واسمه ضمير مستتر تقديره:«هو» يعود إلى الله.

{مُغَيِّراً} : خبر {يَكُ،} وفاعله مستتر فيه. {نِعْمَةً} : مفعوله؛ لأنه اسم فاعل يعمل عمل الفعل.

{أَنْعَمَها} : ماض ومفعوله، والفاعل يعود إلى {اللهَ،} والجملة الفعلية صفة: {نِعْمَةً} . {عَلى قَوْمٍ} : متعلقان بالفعل قبلهما، وجملة:{لَمْ يَكُ..} . إلخ في محل رفع خبر (أن)، و (أن) واسمها وخبرها في تأويل مصدر في محل جر بالباء، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ؛ والجملة الاسمية:{ذلِكَ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها. {حَتّى} : حرف غاية وجر. {يُغَيِّرُوا} :

مضارع منصوب ب (أن) مضمرة بعد {حَتّى،} وعلامة نصبه حذف النون

إلخ، والواو فاعله، والألف للتفريق. {ما}: اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل نصب مفعول به. {بِأَنْفُسِهِمْ}: متعلقان بمحذوف صلة {ما،} أو بمحذوف صفتها، و (أن) المضمرة والفعل المضارع، في تأويل مصدر في محل جر ب {حَتّى،} والجار والمجرور متعلقان ب {مُغَيِّراً} أيضا. {وَأَنَّ} : حرف مشبه بالفعل. {اللهَ} : اسمها. {سَمِيعٌ} : خبرها. {عَلِيمٌ} :

خبر ثان، و (أن) واسمها وخبرها في تأويل مصدر معطوف على المصدر المؤول السابق، هذا؛ ويقرأ بكسر همزة «(إنّ)» ، وعليه فالجملة الاسمية مستأنفة لا محل لها. تأمل، وتدبر، وربك أعلم وأجل، وأكرم.

{كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كانُوا ظالِمِينَ (54)}

الشرح: {كَدَأْبِ} : الدأب: العادة والشأن والحال، وهو أيضا مصدر دأب في العمل من باب قطع: إذا جد، واستمر فيه، وهو بمعانيه كلها تفتح الهمزة وتسكن. {آلِ فِرْعَوْنَ}: انظر

ص: 71

الآية رقم [103] و [109] من سورة (الأعراف). {وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} أي: من الأمم كقوم نوح، وقوم صالح، وقوم هود، وغيرهم. {كَذَّبُوا}: فلم يصدقوا، وهو معنى: كفروا. {بِآياتِ رَبِّهِمْ} :

الآيات: جمع آية، وهي في الأصل العلامة الظاهرة، وتقال للمصنوعات في هذا الكون المترامي الأطراف من حيث إنها تدل على وجود الصانع وعلمه وقدرته، كما تقال لكل طائفة من القرآن.

انتهى. بيضاوي بتصرف، {فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ} أي: بسبب ذنوبهم التي من أعظمها الكفر، والإهلاك كان بالرجفة والزلزلة، أو بالخسف، أو بالحجارة، أو بالرياح العاتية، أو بالغرق، وإهلاك كفار قريش كان بالسيف. {وَكُلٌّ كانُوا ظالِمِينَ} أي: كل من الأمم التي أهلكت كانت ظالمة لنفسها بالكفر بالله، ولنبيها بالتكذيب، فلم يهلك الله قوما استئصالا بدون ذنب وكفر، وانظر الظلم والبغي في الآية رقم [146] من سورة (الأنعام). وانظر (نا) في الآية رقم [7] من سورة (الأعراف).

الإعراب: {كَدَأْبِ} : جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر لمبتدإ محذوف، التقدير:

حالهم، وشأنهم كحال، وشأن آل فرعون، أو التقدير: غير كفار قريش نعمة الله تغييرا كائنا مثل تغيير آل فرعون وغيرهم نعمة الله، وهذا يعني أن:{كَدَأْبِ} متعلقان بمحذوف صفة لمفعول مطلق محذوف مع فعله. تأمل. و (دأب): مضاف، و {آلِ}: مضاف إليه، و {آلِ}: مضاف، و {فِرْعَوْنَ}: مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الفتحة نيابة عن الكسرة؛ لأنه ممنوع من الصرف للعلمية والعجمة. {وَالَّذِينَ}: اسم موصول مبني على الفتح في محل جر معطوف على {آلِ} .

{مِنْ قَبْلِهِمْ} : متعلقان بمحذوف صلة الموصول، والهاء في محل جر بالإضافة. {كَذَّبُوا}: فعل وفاعل، والألف للتفريق، وانظر إعراب:{قالُوا} في الآية رقم [5] الأعراف. {بِآياتِ} :

متعلقان بالفعل قبلهما، و {بِآياتِ}: مضاف، و {رَبِّهِمْ}: مضاف إليه، وجملة:{كَذَّبُوا..} . إلخ في محل نصب حال من آل فرعون، وما عطف عليه، والرابط الضمير فقط، وهي على تقدير (قد) قبلها، والجملتان {فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ} . {وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ} معطوفتان عليها، فهما في محل نصب حال مثلها. {وَكُلٌّ}: مبتدأ، والمضاف إليه محذوف، أي: كلهم. {كانُوا} : ماض ناقص مبني على الضم، والواو اسمه، والألف للتفريق. {ظالِمِينَ}: خبر كان منصوب، وعلامة نصبه الياء

إلخ، وجملة:{كانُوا ظالِمِينَ} في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية:{وَكُلٌّ كانُوا..} . إلخ في محل نصب حال من واو الجماعة، أو من الضمير المنصوب، والرابط: الواو، والضمير الذي رأيت تقديره. هذا؛ والاستئناف ممكن.

تنبيه: قال سليمان الجمل: كرر {كَدَأْبِ..} . إلخ لأن الأول: إخبار عن عذاب لم يمكن الله أحدا من خلقه على فعله، وهو ضرب الملائكة وجوههم وأدبارهم عند نزع أرواحهم.

والثاني: إخبار عن عذاب مكن الله الناس من فعل مثله، وهو الإهلاك بالسيف والإغراق، وقيل: غير ذلك. انتهى.

ص: 72

{إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (55)}

الشرح: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ} : انظر الآية رقم [22]. {كَفَرُوا} : انظر الآية رقم [66] من سورة (الأعراف)، والمراد أن الكفر رسخ في قلوبهم، وتغلغل بدمائهم وعظامهم. {فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ}: فلا يتوقع منهم إيمان.

تنبيه: نزلت الآية الكريمة وما بعدها في بني قريظة من اليهود، وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم قد عاهدهم بعد هجرته إلى المدينة المنورة، أن لا يحاربوا ولا يعاونوا عليه، فنقضوا العهد، وأعانوا مشركي مكة بالسلاح على قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأصحابه، ثم قالوا: نسينا وأخطأنا، فعاهدهم ثانية فنقضوا العهد أيضا، ومالئوا الكفار يوم الخندق، وهذا شيء معروف فصلته سورة (الأحزاب)، وذهب كعب بن الأشرف إلى مكة، فوافق المشركين على مخالفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعاداة الإسلام والمسلمين، انظر ما ذكرته في شرح الآية رقم [51] من سورة (النساء).

الإعراب: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الَّذِينَ كَفَرُوا} انظر إعراب هذا الكلام في الآية رقم [22] ففيه الكفاية. الفاء: حرف تعليل. (هم): ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ.

{لا} : نافية. {يُؤْمِنُونَ} : فعل وفاعل، والمتعلق محذوف، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية:{فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} معطوفة على ما قبلها لا محل لها مثلها، الأولى بالاستئناف، والثانية بالاتباع.

{الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ (56)}

الشرح: {الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ} : عقدت معهم معاهدة عدم اعتداء، وعدم ممالأة مع الكفار من أهل مكة. {ثُمَّ}: انظر الآية رقم [103] الأعراف. {يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ} : فيه استعارة، فقد استعار الحبل للعهد، وفكه لإبطال العهد بجامع الإفساد في كل. {وَهُمْ لا يَتَّقُونَ} أي:

لا يخافون الله في نقض العهد؛ لأن عادة من يرجع إلى دين وعقل وحزم أن يتقي نقض العهد؛ حتى يسكن الناس إلى قوله، ويثقون بكلامه، فبين الله عز وجل: أن من جمع بين الكفر ونقض العهد هم من شر الدواب. والله أعلم بمراده وأسرار كتابه.

الإعراب: {الَّذِينَ} : يجوز فيه أوجه: أحدها الرفع على أنه بدل بعض من الموصول قبله، أو على النعت له، أو عطف البيان والنصب على الذم بفعل محذوف، والرفع على أنه مبتدأ، والخبر الجملة الشرطية في الآية التالية، ودخلت الفاء لشبه الموصول بالشرط. انتهى. جمل

ص: 73

نقلا عن السمين بتصرف كبير مني، كما جوز اعتباره خبرا لمبتدإ محذوف، التقدير: هم الذين.

{عاهَدْتَ} : فعل وفاعل. {مِنْهُمْ} : متعلقان بالفعل قبلهما على تضمينه معنى (أخذت منهم) وقيل: (من) حرف صلة، فيكون الضمير مجرورا لفظا، منصوبا محلا على أنه مفعول به. وقال أبو البقاء:{مِنْهُمْ} متعلقان بمحذوف حال من العائد المحذوف، وقيل:(من) بمعنى «بعض» أي: عاهدت بعضهم، والجملة الفعلية صلة الموصول لا محل لها. وجملة:{يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ} معطوفة عليها لا محل لها مثلها. {فِي كُلِّ} : متعلقان بالفعل قبلهما، و {كُلِّ}:

مضاف، و {مَرَّةٍ}: مضاف إليه، وجملة:{وَهُمْ لا يَتَّقُونَ} في محل نصب حال من واو الجماعة، والرابط: الواو، والضمير، وانظر إعراب مثلها في الآية السابقة.

{فَإِمّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (57)}

الشرح: {فَإِمّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ} : فإما تصادفنهم وتظفرن بهم، ويأتي بمعنى: تجدنهم، وهو ما في الآية رقم [190] من سورة (البقرة) وأصل الثقف الحذق في إدراك الشيء، علما كان أو عملا، فهو يتضمن معنى الغلبة، ولذلك استعمل فيها، قال الشاعر:[الوافر]

فإمّا تثقفوني فاقتلوني

فمن أثقف فليس إلى الخلود

{فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ} أي: فرق عن محاربتك ومناصبتك بقتلهم شر قتلة حتى لا يجرؤ عليك بعدهم أحد اعتبارا بهم واتعاظا بحالهم، وقال الزجاج: افعل بهم ما تفرق به جمعهم، وتطرد به من عداهم، هذا؛ وقرئ:«(فشرذ)» بالذال وهو بمعنى الأول، كما قرئ:{مَنْ خَلْفَهُمْ} بكسر الميم، والمعنى واحد. {لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ}: لعل المشردين يتعظون، أو لعل من خلفهم يعتبرون ويتعظون بهم، وبما حل بهم، والترجي في هذه الآية وأمثالها إنما هو بحسب عقول البشر؛ لأن الله تعالى لا يحصل منه ترج لشيء من عباده، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.

الإعراب: {فَإِمّا} : (إما): هي (إن) الشرطية مدغمة في (ما) الزائدة لتؤكد معنى الشرط؛ لأن معنى (إن) في الأصل الشك، فزال هذا المعنى بسبب (ما) ولذا أكد الفعل بنون التوكيد.

{تَثْقَفَنَّهُمْ} : مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، والفاعل تقديره:«أنت» ، والهاء مفعول به، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي. {فِي الْحَرْبِ} : متعلقان بما قبلهما. الفاء: واقعة في جواب الشرط. (شرد): أمر، وفاعله مستتر فيه وجوبا تقديره:«أنت» . {بِهِمْ} : متعلقان بما قبلهما. {مَنْ} : اسم موصول أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل نصب مفعول به. {خَلْفَهُمْ} : ظرف مكان متعلق

ص: 74

بمحذوف صلة الموصول، أو بمحذوف صفة {مَنْ} على اعتبارها نكرة موصوفة، والهاء: في محل جر بالإضافة {لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} إعراب هذه الجملة مثل إعراب: {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} في الآية رقم [26] وجملة: {فَشَرِّدْ..} . إلخ في محل جزم جواب الشرط عند الجمهور، والدسوقي يقول: لا محل لها؛ لأنها لم تحل محل المفرد، والجملة الشرطية:{فَإِمّا..} . إلخ في محل رفع خبر المبتدأ على وجه مر ذكره في الآية السابقة، أو هي مستأنفة لا محل لها.

{وَإِمّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ (58)}

الشرح: {وَإِمّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً} أي: إذا ظهرت لك آثار الخيانة من قوم معاهدين وثبتت دلائلها عندك. {فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ} أي: فاطرح إليهم عهدهم على عدل وطريق قصد في العداوة، ولا تداهمهم الحرب فإنه يكون خيانة منك، وهذا يكون بإعلام العدو بنبذ العهد، أو بإعلان الحرب عليهم. {إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ} أي: الذين يخونون بالعهود، ويخلفون الوعود.

وجملة القول في الآية الكريمة: أنه إذا ظهرت للإمام آثار نقض العهد ممن هادنهم من المشركين بأمر ظاهر مستفيض استغنى الإمام عن نبذ العهد وإعلامهم بالحرب كما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم بأهل مكة، وإن ظهرت الخيانة بأمارات تلوح وتتضح للإمام من غير أمر مستفيض، فحينئذ يجب عليه أن ينبذ إليهم العهد، ويعلمهم بالحرب كما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم ببني النضير وقريظة. {سَواءٍ}: يأتي بمعنى مستو، وبمعنى الاستواء، كما في الآية رقم [6](البقرة). ويأتي بمعنى الوسط، كما في الآية رقم [108] البقرة، ويأتي بمعنى المساواة، وقد أتى هنا بمعنى العدل، وهو بكل معانيه مصدر، أو اسم فاعل؛ فلذا صح الإخبار به عن متعدد في بعض الحالات، وهو لا يثنى ولا يجمع، وقالوا: هما وهم سواء، فإذا أرادوا لفظ المثنى، قالوا:

سيان، وإن شئت قلت: سواءان، وفي الجمع هم أسواء، وهذا كله ضعيف ونادر، وأيضا على غير قياس: هم سواس وسواسية، أي: متساويان، ومتساوون، هذا؛ ومعنى محبة الله لعبده:

رضاته عنه، وغفر ذنوبه، وستر عيوبه، وعدم محبته له عكس ما ذكر، وانظر الآية رقم [55] من سورة (الأعراف).

الإعراب: {وَإِمّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ} فإعراب هذا الكلام مثل إعراب الكلام في الآية السابقة. {عَلى سَواءٍ} : جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال من فاعل (انبذ) المستتر، أو من الضمير المجرور محلا ب (إلى)، والأول هو النابذ، والثاني هو المنبوذ، أو هما متعلقان بمحذوف حال من الفاعل والمفعول بمعنى متساويين، ومفعول (انبذ) محذوف، التقدير: انبذ إليهم عهدهم. {إِنَّ} : حرف مشبه بالفعل. {اللهَ} : اسمها. {لا} : نافية. {يُحِبُّ} : مضارع، وفاعله ضمير يعود إلى {اللهَ}. {الْخائِنِينَ}: مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الياء نيابة عن

ص: 75

الكسرة؛ لأنه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، وجملة:{لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ} في محل رفع خبر {إِنَّ،} والجملة الاسمية: {إِنَّ اللهَ..} . إلخ تعليل للأمر لا محل لها، والجملة الشرطية {وَإِمّا تَخافَنَّ..} . إلخ معطوفة على مثلها في الآية السابقة.

{وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ (59)}

الشرح: {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} : ولا يظنن الذين، ماضيه بكسر السين، ومضارعه بكسرها وفتحها، أي: هو من بابين الرابع والسادس، والفعل يقرأ بتاء المضارعة وبالياء.

{سَبَقُوا} أي: أفلتوا من القتل والأسر يوم بدر، فهم لا يفوتون الله، ولا يجدون طلبهم عاجزا عن إدراكهم. {إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ} أي: لا يعجزون الله، فهو ينتقم منهم في الدنيا بالقتل وفي الآخرة بالنار، وفيه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم فيمن فاته من المشركين يوم بدر، والذين كانوا يؤذونه شديد الأذى، ولم ينتقم منهم، فأعلمه ربه: أنهم لا يعجزونه، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

الإعراب: {وَلا} : الواو: حرف استئناف. {لا} : ناهية جازمة. {يَحْسَبَنَّ} : مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة وهو في محل جزم ب {لا} الناهية، والفاعل مستتر تقديره:«أنت» ، أي: النبي صلى الله عليه وسلم. {الَّذِينَ} : اسم موصول مبني على الفتح في محل نصب مفعول به أول، وجملة:{كَفَرُوا} صلة الموصول، والمتعلق محذوف، وجملة:{سَبَقُوا} في محل نصب مفعول به ثان. {إِنَّهُمْ} : حرف مشبه، والهاء: اسمها. {لا} : نافية، وجملة:{يُعْجِزُونَ} مع المفعول المحذوف في محل رفع خبر (إن)، والجملة الاسمية مستأنفة لا محل لها، هذا؛ ويقرأ بفتح همزة «(أن)» وهي تؤول مع اسمها وخبرها بمصدر في محل جر بلام تعليل محذوفة، التقدير: لكونهم لا يعجزون الله، هذا؛ وقد قال أبو البقاء العكبري:{لا} زائدة على الوجهين:

كسر الهمزة، وفتحها: وأرى: أن المعنى يختل على الوجهين باعتبارها زائدة. تأمل هذا؛ وعلى قراءة الفعل {يَحْسَبَنَّ} بالياء، ف {الَّذِينَ} فاعله، والمفعول الأول محذوف، تقديره: أنفسهم، وجملة:{سَبَقُوا} المفعول الثاني، وقيل: إن التقدير: (أن سبقوا) ف (إن) مخففة من الثقيلة، وتؤول مع اسمها وخبرها بمصدر في محل نصب سد مسد مفعولي الفعل:{يَحْسَبَنَّ،} وقيل: إن الفاعل مستتر تقديره: «هو» يعود إلى {مَنْ خَلْفَهُمْ،} و {الَّذِينَ} : مفعوله الأول، وجملة:

{سَبَقُوا} مفعوله الثاني، وعلى الأوجه الثلاثة فهمزة {إِنَّهُمْ} مكسورة، والجملة الاسمية مستأنفة، و {لا} نافية، هذا؛ والوجه المرتضى عندي أن تعتبر جملة:{سَبَقُوا} في محل نصب حال من واو الجماعة، وهي على تقدير (قد) قبلها، والرابط: الضمير فقط و {إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ} بفتح الهمزة في تأويل مصدر في محل نصب سد مسد مفعولي {يَحْسَبَنَّ} و (لا) صلة.

ص: 76

{وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اِسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (60)}

الشرح: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} : أمر الله سبحانه المؤمنين بإعداد القوة للأعداء بعد أن أكد طلب التقوى فيما سبق، وإن الله جلت قدرته لو شاء لهزمهم بالكلام، والتفل في وجوههم، وبحفنة من تراب، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة بدر، ولكنه أراد أن يبتلي بعض الناس ببعض بعلمه السابق، وقضائه النافذ، وكل ما تعده لصديقك من خير، أو لعدوك من شر، فهو داخل في عدتك. انتهى. قرطبي.

ولا يخفى أن عدة الحرب في هذا الزمن تختلف كل الاختلاف عن العدة في الزمن الماضي، فيجب على المسلمين أن يتخذوا العدة التي توائم وتناسب العصر الذي هم فيه، كما يجب عليهم أن يسايروا العصر بما يكون فيه من مخترعات وصناعات، وأنواع الأسلحة المستحدثة، ولكن المسلمين-ويا للأسف-أهملوا ذلك في هذا الزمن حتى صاروا أضحوكة بين الناس، بل وصاروا لقمة سائغة لأعدائهم، وذلك بسبب التفرق، والأنانية وحب الذات، وجلب المنفعة الشخصية حتى صدق على المسلمين في هذا العصر قول الرسول صلى الله عليه وسلم:«يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها» . قالوا: أمن قلّة نحن يومئذ يا رسول الله؟ قال: «بل أنتم كثيرون ولكنكم كغثاء السّيل ولينزعنّ الله من صدور أعدائكم المهابة منكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن» . قالوا: وما الوهن؟ قال: «حبّ الدنيا وكراهية الموت» . أخرجه أبو داود وأحمد وغيرهما من حديث ثوبان رضي الله عنه، {وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ}: كان هذا في الزمن الماضي قوة تخوف أعداء الله، وكان مفخرة يفخر بها المسلم، قال الشاعر:[الكامل]

أمر الإله بربطها لعدوّه

في الحرب إنّ الله خير موفّق

وقال مكحول بن عبد الله رضي الله عنه: [الطويل]

نلوم على ربط الجياد وحبسها

وأوصى بها الله النّبيّ محمّدا

فعن عروة بن الجعد البارقي-رضي الله عنه-أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة الأجر والغنيمة» . متفق عليه، وعن أبي هريرة رضي الله عنه-أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«من احتبس فرسا في سبيل الله إيمانا بالله وتصديقا بوعده، فإنّ شبعه، وريّه، وروثه، وبوله في ميزانه يوم القيامة» . يعني حسنات، رواه البخاري، وقال عليه الصلاة والسلام:

«كلّ شيء يلهو به الرّجل باطل، إلا رميه بقوسه، وتأديبه فرسه، وملاعبته أهله، فإنّه من الحقّ» .

ص: 77

هذا؛ و {رِباطِ الْخَيْلِ} اقتناؤها، وربطها للغزو، وفي سبيل الله، هذا؛ ويقرأ:«(ربط)» بضم الراء والباء، وسكون الباء، أيضا على أنه جمع رباط، ورباط الخيل هو من جملة القوة، وإنما خصها الله بالذكر تنويها بفضلها وشرفها، كما خص جبريل وميكائيل بالذكر بعد ذكر الملائكة في الآية رقم [98](البقرة). هذا؛ والخيل اسم جمع لا واحد له من لفظه، فمفرده فرس وحصان، وانظر الآية رقم [144] الأنعام. {تُرْهِبُونَ بِهِ}: تخوفون، والضمير عائد على {مَا اسْتَطَعْتُمْ} أو ل {رِباطِ الْخَيْلِ}. {عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ}: اليهود وقريش وكفار العرب، وانظر الآية رقم [22] من سورة (الأعراف) لشرح عدو. {وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ}: يعني الفرس والروم، وقيل: المراد كل من لا تعرف عداوته، ولا بأس به، ويؤيده قوله تعالى:{لا تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ} أي: لا تعرفونهم بأعيانهم، والله يعرفهم. هذا؛ والفرق بين العلم والمعرفة: أن المعرفة تستدعي سبق جهل، وأن متعلقها الذوات دون النّسب، بخلاف العلم فإن متعلقه المعاني والنسب. {وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ} أي: تتصدقوا به، وقيل: تنفقوه على أنفسكم، أو خيلكم في أوقات الحرب، ولا بأس به، انظر (نفق) في الآية رقم [3] و {شَيْءٍ} في الآية رقم [85] (الأعراف) و (دون) في الآية رقم [3] (الأعراف). {فِي سَبِيلِ اللهِ} أي: في طريق كل خير أمر الله به من جهاد وغيره، وانظر شرح {سَبِيلِ} في الآية رقم [141] الأعراف. {يُوَفَّ إِلَيْكُمْ} أي: تقبضون أجره في الآخرة الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة إلى أضعاف كثيرة، وكذلك الخلف في الدنيا والبركة في ما يبقى بأيديكم من هذا المال تحقيقا لوعد الله {وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ}. {وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ} أي: بنقص ثوابكم وأجركم، وانظر الظلم، والبغي في الآية رقم [146] من سورة (الأنعام).

الإعراب: {وَأَعِدُّوا} : الواو: حرف عطف، أو استئناف. (أعدوا): أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق، وانظر إعراب:{اُسْجُدُوا} في الآية رقم [11] الأعراف.

{لَهُمْ} : متعلقان بما قبلهما. {مَا} : اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل نصب مفعول به، والجملة الفعلية بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد أو الرابط محذوف، إذ التقدير: الذي أو شيئا استطعتموه. {مِنْ شَيْءٍ} : جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال من الضمير المحذوف، و {مِنْ} بيان لما أبهم في {مَا} وقيل: متعلقان بمحذوف حال من {مَا} نفسها.

{وَمِنْ رِباطِ} : معطوفان على: {مِنْ قُوَّةٍ} و {رِباطِ} : مضاف، و {الْخَيْلِ}: مضاف إليه.

{تُرْهِبُونَ} : فعل وفاعل. {بِهِ} : متعلقان بما قبلهما. {عَدُوَّ} : مفعول به، وهو مضاف، و {اللهِ}: مضاف إليه. {وَعَدُوَّكُمْ} : معطوف على ما قبله، والكاف في محل جر بالإضافة، وجملة:{تُرْهِبُونَ..} . إلخ في محل نصب حال من واو الجماعة، أو من {مَا} لأن في الجملة ضميرين يعود أحدهما إلى الواو، والثاني إلى:{مَا} . {وَآخَرِينَ} : معطوف على {عَدُوَّ اللهِ} منصوب مثله، وعلامة نصبه الياء نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد. {مِنْ دُونِهِمْ}: متعلقان بمحذوف صفة (آخرين)، والهاء في محل جر

ص: 78

بالإضافة، وجملة:{لا تَعْلَمُونَهُمُ} في محل نصب صفة ثانية ل (آخرين)، أو في محل نصب حال منه؛ بعد وصفه بما تقدم، واكتفى الفعل بمفعول واحد؛ لأنه من المعرفة، لا من العلم اليقيني، وقيل: المفعول الثاني محذوف، التقدير: لا تعلمونهم فازعين أو محاربين، وهو تكلف لا داعي له. {اللهِ}: مبتدأ. {يَعْلَمُهُمْ} : فعل ومفعوله، وفاعله يعود إلى {اللهِ،} والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة لا محل لها. {وَما}: الواو: حرف استئناف.

{مَا} : اسم شرط جازم مبني على السكون في محل نصب مفعول به مقدم لفعل شرطه، أو هو مبتدأ، فيكون المفعول محذوفا. {تُنْفِقُوا}: مضارع فعل الشرط مجزوم، وعلامة جزمه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية ابتدائية على اعتبار (ما) مفعولا مقدما. {مِنْ شَيْءٍ}: متعلقان بمحذوف حال من {مَا،} أو {مِنْ} المفعول المحذوف، ومن بيان لما أبهم في (ما). {فِي سَبِيلِ}: متعلقان بالفعل {تُنْفِقُوا،} و {سَبِيلِ} :

مضاف، و {اللهِ}: مضاف إليه. {يُوَفَّ} : مضارع مبني للمجهول جواب الشرط مجزوم، وعلامة جزمه حذف حرف العلة من آخره، وهو الألف المقصورة، والفتحة قبلها دليل عليها، ونائب الفاعل يعود إلى شيء، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها جملة جواب الشرط، ولم تقترن بالفاء، ولا بإذا الفجائية. {إِلَيْكُمْ}: متعلقان بالفعل قبلهما، هذا؛ وخبر (ما)، على اعتبارها مبتدأ مختلف فيه، كما رأيت في الآية رقم [13] والجملة الاسمية، أو الفعلية الشرطية على اعتبار (ما) مفعولا مقدما مستأنفة لا محل لها. {وَأَنْتُمْ}: الواو: واو الحال. (أنتم): ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {لا} : نافية. {تُظْلَمُونَ} : مضارع مبني للمجهول مرفوع

إلخ، والواو نائب فاعله، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية:{وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ} في محل نصب حال من واو الجماعة، والرابط: الواو، والضمير.

{وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (61)}

الشرح: {وَإِنْ جَنَحُوا} : مالوا، أي: المشركون، وغيرهم من يهود ونصارى، أو: الذين نبذ إليهم عهدهم. فهو من باب دخل، وفتح. {لِلسَّلْمِ} أي: المسالمة والمهادنة، قرئ بفتح السين وكسرها، كما في الآية رقم [207] البقرة. وإن كان هناك بمعنى الإسلام. {فَاجْنَحْ لَها}:

يقرأ بفتح النون وضمها تبعا لمضارعه، هذا؛ وأنث الضمير العائد إلى السلم لحملها على نقيضها، وهو الحرب والعداوة، قال العباس بن مرداس السلمي الصحابي من أبيات يخاطب بها أبا خراشة خفاف بن ندبة-رضي الله عنهما:[البسيط]

السّلم تأخذ منها ما رضيت به

والحرب يكفيك من أنفاسها جرع

{وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ} : فوض أمورك إليه، واعتمد عليه في كل شئونك، واستسلم لحكمه وقضائه وقدره. {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}: انظر الآية رقم [54] و [17] من هذه السورة.

ص: 79

تنبيه: اختلف في حكم هذه الآية، هل هو منسوخ أم لا؟ فقال قتادة وعكرمة والحسن: حكمها منسوخ بآية السيف، وقالوا: نسخت سورة براءة كل موادعة حتى يقولوا: لا إله إلا الله، وقيل: إن حكمها غير منسوخ لكن الآية تتضمن الأمر بالصلح، إذا كان فيه مصلحة ظاهرة للمسلمين، فإن رأى الإمام أن يصالح أعداءه من الكفار، وفيه قوة، فلا يجوز أن يهادنهم أكثر من سنة، وإن كانت القوة للمشركين جاز أن يهادنهم عشر سنين، ولا تجوز الزيادة عليها اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم.

والمعتمد: أنه يجوز المهادنة مع قوة المسلمين، وشدة شكيمتهم، فقد هادن الرسول صلى الله عليه وسلم أهل خيبر، وهادن الضمري في غزوة الأبواء، وهادن أكيدر سيد بني كندة، وما زالت الخلفاء والصحابة على هذه السبيل التي شرحناها سالكة، وبالوجوه التي شرحناها عاملة، فقد صالح أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ومن بعده من الأئمة كثيرا من بلاد العجم، على ما أخذوه منهم وتركوهم على ما هم فيه، وهم قادرون على استئصالهم. انتهى. قرطبي بتصرف كبير.

الإعراب: {وَإِنْ} : الواو: حرف استئناف. (إن): حرف شرط جازم. {جَنَحُوا} : ماض مبني على الضم في محل جزم فعل الشرط، الواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي. {لِلسَّلْمِ،} متعلقان بما قبلهما. {فَاجْنَحْ} : الفاء: واقعة في جواب الشرط. (اجنح): أمر، وفاعله مستتر فيه تقديره:

«أنت» . {لَها} : جار ومجرور متعلقان بما قبلهما، وجملة:{فَاجْنَحْ لَها} في محل جزم جواب الشرط عند الجمهور، والدسوقي يقول: لا محل لها؛ لأنها لم تحل محل المفرد، وجملة:

{وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ} معطوفة على جملة جواب الشرط، وإن ومدخولها كلام مستأنف لا محل له.

{إِنَّهُ} : حرف مشبه بالفعل، والهاء اسمها. {هُوَ}: فيه ثلاثة أوجه: الأول اعتباره توكيدا لاسم (إنّ) على المحل. والثاني: اعتباره ضمير فصل لا محل له من الإعراب. وعلى هذين الوجهين فالسميع خبر إن. الثالث: اعتباره مبتدأ، و {السَّمِيعُ} خبره، و {الْعَلِيمُ} خبر ثان، والجملة الاسمية في محل رفع خبر (إنّ)، والجملة الاسمية:{إِنَّهُ..} . إلخ تعليل للأمر، لا محل لها من الإعراب. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم.

{وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (63)}

الشرح: {وَإِنْ يُرِيدُوا} أي: الكفار. {أَنْ يَخْدَعُوكَ} : بأن يظهروا لك السلم والمهادنة، ويبطنوا الغدر والخيانة، فاجنح لما طلبوا ظاهرا، وما عليك من نياتهم الفاسدة، وما أحراك أن تنظر الخداع

ص: 80

والمخادعة في الآية رقم [9] البقرة والآية رقم [142] النساء، {فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ} أي: كافيك بنصره ومعونته. وانظر الآية رقم [60] من سورة (التوبة)، وخذ قول جرير في هجاء:[الكامل]

إنّي وجدت من المكارم حسبكم

أن تلبسوا خزّ الثّياب وتشبعوا

{هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ} : شد أزرك، وقواك بنصره يوم بدر وفي سائر أيامك بالمؤمنين من الأنصار، قال النعمان بن بشير رضي الله عنه: نزلت في مدح الأنصار. {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ} أي: جمع بين قلوب الأوس والخزرج بعد أن كانوا أعداء، وحرب بعاث دامت بينهم أربعين سنة، وكان تآلف القلوب مع العصبية الشديدة في العرب من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن أحدهم، كان يلطم اللطمة، فيقاتل عنها حتى يستقيدها، وأكبر دليل على ذلك حرب بعاث بين الأوس والخزرج، وحرب داحس والغبراء بين عبس وذبيان، وحرب البسوس بين بني بكر وبني تغلب، وكانوا أشد خلق الله حمية، فألف الله بينهم بالإيمان، حتى قاتل الرجل أباه وأخاه بسبب الدين، وآية المجادلة الأخيرة أكبر دليل على ذلك.

{لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ..} . إلخ: هذا بيان من الله عز وجل: أنه هو الذي ألف بين قلوب العرب، وأن القلوب بيده يصرفها كيف يشاء ويريد، ولو أن منفقا أنفق جميع الأموال الموجودة في الأرض بسبيل تأليف قلوب العرب؛ لما أمكنه ذلك، إلا أن يشاء الله ويريد ذلك بقدرته وحكمته البالغة. إنه عزيز حكيم، انظر الآية رقم [10] و [50]. هذا؛ وبين ظرف مكان بمعنى وسط بسكون السين، تقول: جلس بين القوم، كما تقول: جلس وسط القوم، هذا؛ والبين: الفراق والبعاد، وهو أيضا الوصل، فهو من الأضداد، كالجون يطلق على الأسود والأبيض، ومن استعماله بمعنى الفراق والبعاد، قول كعب بن زهير رضي الله عنه في قصيدة البردة:[البسيط]

وما سعاد غداة البين إذ رحلوا

إلاّ أغنّ غضيض الطّرف مكحول

الإعراب: {وَإِنْ يُرِيدُوا} : هو مثل: {وَإِنْ جَنَحُوا} في الآية السابقة، و {أَنْ يَخْدَعُوكَ} في تأويل مصدر في محل نصب مفعول به لفعل الإرادة، وقد صرح به لأنه شيء مستغرب، انظر الآية رقم [89] (الأعراف). {فَإِنَّ}: الفاء: واقعة في جواب الشرط. (إن): حرف مشبه بالفعل.

{حَسْبَكَ} : اسم إن، والكاف ضمير متصل في محل جر بالإضافة من إضافة المصدر لمفعوله.

{اللهَ} : خبر (إن)، وهو في المعنى فاعل بالمصدر، والجملة الاسمية:{فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ} في محل جزم جواب الشرط في الظاهر، وعند التأمل يتبين لك: أن جواب الشرط محذوف، تقديره: فصالحهم، ولا تخف من كيدهم؛ وعليه فجملة:{فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ} تعليل لهذا المحذوف، وانظر الشرح. {هُوَ الَّذِي}: مبتدأ وخبر. {أَيَّدَكَ} : ماض والفاعل يعود إلى الذي تقديره: «هو» ، وهو العائد، والكاف مفعول به، والجملة الفعلية صلة الموصول لا محل لها.

{بِنَصْرِهِ} : متعلقان بالفعل قبلهما، والهاء في محل جر بالإضافة، من إضافة المصدر لفاعله،

ص: 81

ومفعوله محذوف، التقدير: بنصره إياك. {وَبِالْمُؤْمِنِينَ} : معطوفان على ما قبلهما، والجملة الاسمية:{هُوَ الَّذِي..} . إلخ مستأنفة لا محل لها. {وَأَلَّفَ} : ماض، وفاعله يعود إلى {الَّذِي} أيضا. {بَيْنَ}: ظرف مكان متعلق بالفعل قبله، و {بَيْنَ}: مضاف، و {قُلُوبِهِمْ}: مضاف إليه، والهاء في محل جر بالإضافة، وجملة:{وَأَلَّفَ..} . إلخ معطوفة على جملة الصلة لا محل لها مثلها. {لَوْ} : حرف لما كان سيقع لوقوع غيره. {أَنْفَقْتَ} : فعل وفاعل، وانظر إعراب:

{وَجَعَلْنا} في الآية رقم [10] من سورة (الأعراف). {ما} : اسم موصول مبني على السكون في محل نصب مفعول به، وإن اعتبرتها موصوفة أيضا؛ فلست مفندا. {فِي الْأَرْضِ}: متعلقان بمحذوف صلة (ما)، أو بمحذوف صفتها. {جَمِيعاً}: حال من {ما} مؤكدة. {ما} : نافية.

{أَلَّفْتَ} : فعل وفاعل. {بَيْنَ} : ظرف مكان متعلق بما قبله، و {بَيْنَ}: مضاف، و {قُلُوبِهِمْ}: مضاف إليه، والهاء في محل جر بالإضافة، وجملة:{ما أَلَّفْتَ..} . إلخ جواب لولا محل لها، ولو ومدخولها كلام مستأنف لا محل له. {وَلكِنَّ}: حرف مشبه بالفعل.

{اللهَ} : اسمها. وجملة: {أَلَّفَ بَيْنَهُمْ} في محل رفع خبر {لكِنَّ} والجملة الاسمية: {وَلكِنَّ اللهَ..} . إلخ معطوفة على جواب لو، لا محل لها مثله، والجملة الاسمية:{إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} تعليل لما قبلها، أو هي مستأنفة لا محل لها على الوجهين.

{يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اِتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (64)}

الشرح: {النَّبِيُّ} : انظر الآية رقم [1]{حَسْبُكَ} : كافيك، وانظر الآية السابقة. {اللهُ}:

انظر الآية رقم [1]{وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} : قيل: المعنى: حسبك الله، وحسبك المهاجرون والأنصار، وقيل: المعنى كافيك الله، وكافي من تبعك.

تنبيه: قال الخازن: روى سعيد بن جبير عن ابن عباس-رضي الله عنهما: أن هذه الآية نزلت في إسلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال سعيد بن جبير: أسلم مع النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة وثلاثون رجلا، وست نسوة، ثم أسلم عمر، فنزلت هذه الآية، فعلى هذا القول تكون الآية مكية، كتبت في سورة مدنية بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقيل: إنها نزلت بالبيداء في غزوة بدر قبل القتال؛ فعلى هذا القول أراد بقوله تعالى: {وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} يعني: إلى غزوة بدر، وقيل: أراد به الأنصار، وتكون الآية نزلت بالمدينة، وقيل: أراد جميع المهاجرين والأنصار. انتهى، هذا؛ وانظر الإيمان في الآية رقم [2] الأعراف وزيادته في الآية [2].

الإعراب: {يا أَيُّهَا} : (يا): حرف نداء ينوب مناب أدعو. (أيها): نكرة مقصودة مبنية على الضم في محل نصب بأداة النداء، و (ها): حرف تنبيه لا محل له من الإعراب، وأقحم للتوكيد، وهو عوض عن المضاف إليه. {النَّبِيُّ}: بدل من أي، وانظر الآية رقم [157] من سورة

ص: 82

(الأعراف) ففيها بحث جيد. {حَسْبُكَ اللهُ} : مبتدأ وخبر، وانظر الآية السابقة، والجملة الاسمية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية كالجملة الندائية قبلها. {وَمَنِ}: الواو: حرف عطف. (من): اسم موصول مبني على السكون فيه ثلاثة أوجه:

الأول: النصب فمن وجهين، إما أن يكون مفعولا معه، أو مفعولا به على تقدير فعل:

(يحسب)، وهو الصحيح لأنه لا يعمل في المفعول معه، إلا ما كان من جنس ما يعمل في المفعول به، ويكون العطف من قبيل الجملة الفعلية على الاسمية.

الثاني: الجر إما بالعطف على الضمير المجرور محلاّ بالإضافة، من غير إعادة الجار، وهو جائز عند يونس، والأخفش، والكوفيين، وهو اختيار ابن مالك، أو على إضمار حسب أخرى، وهو الصواب عند ابن هشام، وأيضا هو مذهب أكثر البصريين القائلين بمنع العطف في الصورة المذكورة، وأجاز السيوطي أن تكون الواو واو القسم.

الثالث: الرفع بالعطف على الاسم المرفوع بتقدير المضاف، أي: وحسب من اتبعك، ثم حذفت حسب، وخلفها المضاف إليه. وقيل:{وَمَنِ} : معطوف على {اللهُ،} وهو لا يحسن معنى، كما لا يحسن قولهم: ما شاء الله وشئنا، وقيل: هو خبر مبتدأ محذوف، التقدير:

وحسبك من اتبعك، وقيل: هو مبتدأ، والخبر محذوف، التقدير: ومن اتبعك من المؤمنين كذلك. هذا؛ ومثل الآية الكريمة قول الشاعر: [الطويل]

إذا كانت الهيجاء وانشقّت العصا

فحسبك والضّحّاك سيف مهنّد

فإن قوله: (والضحاك) يروى بنصب الكاف وجرها ورفعها، وهذا هو الشاهد رقم [967] من كتابنا فتح القريب المجيب. {اِتَّبَعَكَ}: ماض، والفاعل يعود إلى من، والكاف مفعول به، والجملة الفعلية صلة الموصول لا محل لها. {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}: متعلقان بالفعل قبلهما. أو هما متعلقان بمحذوف حال من الفاعل المستتر، و {مَنِ} بيان لما أبهم في (من).

{يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (65)}

الشرح: {النَّبِيُّ} : انظر الآية رقم [1]{حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ} : حثهم وحضهم عليه، هذا؛ والحرض الهلاك والضعف والهزال بسبب هم وغم، قال تعالى حكاية عن قول أولاد يعقوب لأبيهم {قالُوا تَاللهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ} .

والحض، والتحريض: الحث على الشيء بكثرة تزيينه وتسهيله للإنسان، {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ}

ص: 83

صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ: قال القرطبي: لفظه خبر ضمنه وعد بشرط. انتهى؛ لأن معناه: إن يصبر منكم عشرون في القتال ويثبتوا في الميدان يغلبوا مائتين من أعدائهم بعون الله وتأييده، وإنما حسن هذا التكليف؛ لأن الله وعدهم بالنصر، ومن تكفل الله له بالنصر سهل عليه الثبات مع الأعداء، هذا؛ وقرئ «(حرص)» بالصاد من الحرص

{لا يَفْقَهُونَ} : لا يفهمون، فهم جهلة بالله واليوم الآخر، لا يثبتون في المعارك ثبات المؤمنين، رجاء الثواب، ورفيع الدرجات قتلوا أو قتلوا، لا يستحقون من الله إلا الخزي والخذلان والهوان، هذا؛ وانظر {لا يَفْقَهُونَ} في الآية رقم [179] من سورة (الأعراف)، فإنه جيد.

فائدة: قال سليمان الجمل: وقعت مادة الكون هنا خمس مرات، آخرها قوله:{ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى} وحاصل ما يتعلق بها من القراءات: أن الأول، والرابع بالياء التحتية لا غير، وأن الثاني، والثالث، والخامس بالياء والتاء.

فائدة: قال القرطبي-رحمه الله تعالى-: عشرون، وثلاثون، وأربعون، كل واحد منها موضوع على صورة الجمع لهذا العدد، فإن قال قائل: لم كسر أول عشرين، وفتح أول ثلاثين، وما بعده، إلى ثمانين إلا ستين؟ فالجواب عند سيبويه: أن عشرين من عشرة بمنزلة اثنين من واحد، فكسر أول عشرين كما كسر أول اثنان، والدليل على هذا قولهم: ستون وتسعون، كما قيل: ستة وتسعة. انتهى. احفظه فإنه جيد.

الإعراب: {يا أَيُّهَا النَّبِيُّ} : انظر الآية السابقة. {حَرِّضِ} : أمر، وفاعله أنت مستتر فيه.

{الْمُؤْمِنِينَ} : مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الياء نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد. {عَلَى الْقِتالِ}: متعلقان بالفعل قبلهما، وجملة:

{حَرِّضِ..} . إلخ لا محل لها؛ لأنها ابتدائية كالجملة الندائية قبلها. {إِنْ} : حرف شرط جازم. {يَكُنْ} : مضارع ناقص فعل الشرط. {مِنْكُمْ} : متعلقان بمحذوف خبر {يَكُنْ} تقدم على اسمه. {عِشْرُونَ} : اسم {يَكُنْ} مؤخر مرفوع، وعلامة رفعه الواو نيابة عن الضمة؛ لأنه ملحق بجمع المذكر السالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد. {تَصْبِرُونَ}: صفة {عِشْرُونَ} مرفوع مثله، هذا؛ وإن اعتبرت {يَكُنْ} تامّا، فالجار والمجرور {مِنْكُمْ} متعلقان به، أو هما متعلقان بمحذوف حال من {عِشْرُونَ} كان صفة، فلما قدم عليه صار حالا على القاعدة:«نعت النكرة إذا تقدم عليها صار حالا» ، وعلى الوجهين فالجملة فعلية، وهي لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي. {يَغْلِبُوا} : مضارع جواب الشرط مجزوم، وعلامة جزمه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها جملة جواب الشرط، ولم تقترن بالفاء، ولا بإذا الفجائية. {مِائَتَيْنِ}: مفعول به منصوب

إلخ، هذا؛ وأرى: أن الجملة الشرطية {إِنْ}

ص: 84

يَكُنْ

إلخ في محل نصب مقولة لقول محذوف، التقدير: وقل لهم: إن يكن

إلخ، وهذه الجملة معطوفة على جملة:{حَرِّضِ..} . إلخ لا محل لها مثلها {وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً} إعراب هذا الكلام مثل سابقه، وهو معطوف عليه. {مِنَ الَّذِينَ}: متعلقان بمحذوف صفة: {أَلْفاً،} وجملة: {كَفَرُوا} مع المتعلق المحذوف صلة الموصول، لا محل لها، هذا؛ ولا تنس أنه قد وصف عشرون في الجملة الأولى ب {تَصْبِرُونَ،} ولم يصف {مِائَةٌ} في الجملة الثانية، وأثبت سبحانه في الثانية قيدا، وهو قوله {مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} وحذفه من الأولى، فحذف من كل منهما ما أثبته في الآخر، ويسمى مثل هذا في فن البلاغة احتباكا. {بِأَنَّهُمْ} الباء: حرف جر. (أنهم): حرف مشبه بالفعل، والهاء اسمها. {قَوْمٌ}:

خبرها، وجملة:{لا يَفْقَهُونَ} في محل رفع صفة {قَوْمٌ،} وأن واسمها وخبرها في تأويل مصدر في محل جر بالباء، والجار والمجرور متعلقان ب {يَغْلِبُوا} في الموضعين، أفاده الجمل، وهذا يعني أنه على التنازع، وأرى أن الجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر لمبتدإ محذوف، التقدير: ذلك بأنهم

إلخ، وله مثل كثيرة في كتاب الله تعالى، انظر الآية رقم [61] المائدة و [85] منها وغيرهما كثير؛ وعليه فالجملة الاسمية:{بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ} مستأنفة لا محل لها. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم.

{الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصّابِرِينَ (66)}

الشرح: عن ابن عباس-رضي الله عنهما-قال: لما نزلت {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} كتب على المؤمنين ألا يفر واحد من عشرة، ولا عشرون من مائتين، أي: من مقابلتهم في ساحة الحرب، ثم نزلت {الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ} فكتب أن لا يفر مائة من مائتين، وفي رواية أخرى عنه، قال: لما نزلت {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ..} . إلخ شق ذلك على المسلمين، فنزلت:{الْآنَ خَفَّفَ} فظاهر هذا أن الآية الثانية ناسخة لما تقدم، ولما خفف الله عنهم من العدة نقص عنهم من الصبر بقدر ما خفف عنهم. انتهى. خازن بتصرف كبير، هذا؛ وعلم ليس على ظاهره، فعلم الله بضعفهم قديم أزلي.

أقول: الآيتان يطلق عليهما آيات المصابرة، وأن الثانية ناسخة للأولى، وهذا النسخ من الأشد إلى الأخف، ويفهم من لفظ:(شق ذلك على المسلمين): أن الثانية متأخرة عن الأولى في النزول.

{الْآنَ} : هذه الكلمة ملازمة للظرفية غالبا، مبنية على الفتح دائما لتضمنها معنى الإشارة، وألفها منقلبة عن واو لقولهم في معناها: الأوان، وقيل: عن ياء لأنه من آن يئين: إذا قرب،

ص: 85

وقيل: أصله: (أوان) قلبت الواو ألفا، ثم حذفت لالتقاء الساكنين، ورد بأن الواو قبل الألف لا تقلب كالجواد، والسواد، وقيل: حذفت الألف، وغيرت الواو إلى الألف، كما قالوا: راح ورواح، استعملوه مرة على فعل، ومرة على فعال كزمن وزمان. {ضَعْفاً} أي: في البدن، لا في الدين، ويقرأ بفتح الضاد، وضمها. {وَاللهُ مَعَ الصّابِرِينَ}: انظر الآية رقم [47].

الإعراب: {الْآنَ} : ظرف زمان متعلق بالفعل بعده مبني على الفتح في محل نصب، وجملة:

{خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ} مستأنفة لا محل لها من الإعراب، و {أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً} في تأويل مصدر في محل نصب سد مسد مفعولي (علم)، والجملة الفعلية {وَعَلِمَ أَنَّ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها لا محل لها مثلها {فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ..} . إلخ انظر إعراب مثل هذا الكلام في الآية السابقة، مع ما فيها من الاحتباك الذي ذكرته فيها، والكلام كله مفرع عما قبله ومستأنف لا محل له من الإعراب. {بِإِذْنِ}: متعلقان بأحد الفعلين {يَغْلِبُوا} على التنازع، ولا يتأتى هنا ما ذكرته بقوله {بِأَنَّهُمْ..} . إلخ إلا على ضعف، و (إذن) مضاف، و {اللهُ}: مضاف إليه. {وَاللهُ مَعَ الصّابِرِينَ} :

انظر إعراب ما يشبهها في الآية رقم [47] وهي مستأنفة لا محل لها، وإن اعتبرتها في محل نصب حال من لفظ الجلالة، فالمعنى لا يأباه، والرابط: الواو وإعادة الاسم الكريم بلفظه.

{ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67)}

الشرح: {ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ..} . إلخ: لا ينبغي ولا يحق لنبي أو ما صح، ولا استقام له، وقرئ:«(ما كان للنبي)» أن يأخذ الفداء من أسرى يقعون في يده حتى يكثر القتل في المشركين، وبذلك يذل الكفر ويقهر، ويعز الإسلام، وينتصر، وانظر الآية رقم [114] سورة (التوبة)، هذا؛ وانظر شرح {لِنَبِيٍّ} في الآية رقم [1]. و {أَسْرى} جمع أسير، ويجمع على أسارى بضم الهمزة وفتحها، والأول أقوى وقد قرئ بذلك، وانظر الآية رقم [85] من سورة (البقرة)، والإثخان كثرة القتل، والمبالغة فيه من الثخانة، وهي: الغلظ والكثافة، وقيل: الإثخان: القوة، والشدة.

{تُرِيدُونَ} : خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم. {عَرَضَ الدُّنْيا} : حطامها الفاني، وإنما سمى سبحانه منافع الدنيا عرضا؛ لأنه لا ثبات لها ولا دوام، فكأنها تعرض، ثم تزول بخلاف منافع الآخرة، فإنها دائمة لا انقطاع لها، و {عَرَضَ} بفتح العين والراء هنا، وهو بضم العين وسكون الراء ناحية الشيء من أي وجه جئته، وهو بفتح العين وسكون الراء: ضد الطول، وهو بكسر العين وسكون الراء:

النفس، يقال: أكرمت عنه عرضي، أي: صنت عنه نفسي، وهو أيضا: رائحة الجسد وغيره طيبة كانت أو خبيثة، يقال: فلان طيب العرض، أو منتن العرض، وانظر شرح:{الدُّنْيا} في الآية رقم [29] من سورة (الأنعام). {يُرِيدُ الْآخِرَةَ} أي: ما هو سبب الجنة من إعزاز الإسلام ورفعه

ص: 86

شأن أهله. {وَاللهُ عَزِيزٌ} : قوي لا يقهر، يغلب أولياءه على أعدائه. {حَكِيمٌ}: يصنع ما فيه حكمة، ويعلم ما يليق بكل حال، ويخصه بها، كما أمر بالإثخان، ومنع الافتداء حين كانت الشوكة للمشركين، وخير بينه وبين المن أو أخذ الفداء حين صارت الغلبة والشوكة للمؤمنين.

روي أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي يوم بدر بسبعين أسيرا، فيهم العباس عمه، وعقيل ابن عمه، فاستشار فيهم أصحابه، فكان رأيهم مختلفا، فقال أبو بكر رضي الله عنه: يا رسول الله! قومك، وأهلك فاستبقهم، لعل الله يتوب عليهم، وخذ منهم فدية تقوي بها أصحابك، وقال عمر رضي الله عنه:

يا رسول الله اضرب أعناقهم؛ فإنهم أئمة الكفر، وإن الله أغناك عن الفداء، مكني من فلان نسيب له، ومكن حمزة، وعليا من أخويهما، فلنضرب أعناقهم.

وقال عبد الله بن رواحة رضي الله عنه: يا رسول الله! انظر واديا كثير الحطب، فأضرمه عليهم، فمال الرسول صلى الله عليه وسلم إلى رأي: أبي بكر رضي الله عنه، وقال:«إن الله تعالى ليلين قلوب رجال حتى تكون ألين من اللبن، وإن الله ليشدد قلوب رجال حتى تكون أشد من الحجارة، وإن مثلك يا أبا بكر مثل إبراهيم حيث قال: {فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} ومثل عيسى، حيث قال: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} ومثلك يا عمر مثل نوح قال: {رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيّاراً} ومثل موسى حيث قال {رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ» }. ثم قال: «أنتم عالة، فلا ينفلتنّ أحد إلا بفداء أو ضربة عنق» . فأخذ الفداء، ولم يقتل سوى النضر بن الحارث الذي حدثتك عنه في الآية رقم [31] فنزلت الآية الكريمة والتي بعدها، فدخل عمر رضي الله عنه المسجد فوجد الرسول صلى الله عليه وسلم وأبا بكر يبكيان، فقال: يا رسول الله! أخبرني، فإن أجد بكاء بكيت، وإلا تباكيت، فقال:«ابك على أصحابك في أخذهم الفداء، ولقد عرض علي عذابهم أدنى من هذه الشجرة» .

لشجرة قريبة منه، وكانت قد نزلت الآية الكريمة والتي بعدها. وينبغي أن تعلم أن هذه الآية وافقت رأي: عمر رضي الله عنه، وانظر ما ذكرته في الآية رقم [94] من سورة (المائدة).

تنبيه: في الآية الكريمة التفات من الغيبة في قوله تعالى: {ما كانَ لِنَبِيٍّ..} . إلخ إلى الخطاب في قوله تعالى: {تُرِيدُونَ} انظر الآية رقم [6] من سورة (الأنعام). هذا؛ وقد قرئ شاذا بجر {الْآخِرَةَ} وذلك على تقدير مضاف، إذ التقدير (والله يريد عرض الآخرة) فلما حذف المضاف بقي المضاف إليه على جره، ومثل الآية الكريمة قول عدي بن زيد العبادي:[المتقارب]

أكلّ امرئ تحسبين امرأ

ونار توقّد باللّيل نارا؟

الإعراب: {ما} : نافية. {كانَ} : ماض ناقص. {لِنَبِيٍّ} : جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر {كانَ،} واسمه محذوف يفهم من المقام، التقدير: ما كان لنبي أخذ الفداء، انظر الشرح يظهر لك ذلك جليا. {كانَ}: حرف مصدري ونصب. {يَكُونَ} : مضارع ناقص منصوب

ص: 87

ب {كانَ} . {لَهُ} : متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {أَسْرى} : اسم {يَكُونَ} مؤخر مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر، و {كانَ} والمضارع الناقص في تأويل مصدر في محل جر بحرف جر محذوف، التقدير: من كون أسرى له والجار والمجرور متعلقان باسم {كانَ} الذي رأيت تقديره، وجملة:{ما كانَ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها، هذا؛ وانظر إعراب الآية رقم [161] من آل عمران. {حَتّى}: حرف غاية وجر. {يُثْخِنَ} : مضارع منصوب ب «أن» مضمرة بعد {حَتّى،} والفاعل يعود إلى: (نبي). {فِي الْأَرْضِ} : متعلقان بالفعل قبلهما، و «أن» المضمرة ويثخن في تأويل مصدر في محل جر ب {حَتّى،} والجار والمجرور متعلقان ب {كانَ،} أو باسمها الذي رأيت تقديره، وجملة:{تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا} مستأنفة لا محل لها، والجملة الاسمية:{وَاللهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ} معطوفة عليها لا محل لها مثلها، والجملة الاسمية:{وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} معطوفة على ما قبلها، أو مستأنفة لا محل لها على الوجهين.

{لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (68)}

الشرح: {لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ} : لقد اختلف المفسرون في تأويل هذه الجملة على أقوال كثيرة: الأول: لولا حكم من الله سبق إثباته في اللوح المحفوظ، وهو أنه لا يعاقب المخطئ في اجتهاده، الثاني: لولا حكم من الله

في أنه لا يعذب قوما حتى يبين لهم ما يتقون. الثالث:

لولا حكم من الله

في أنه لا يعذب أهل بدر. الرابع: لولا حكم من الله

في أن الفدية ستحل لهم. الخامس: لولا حكم من الله

في أن الله لا يعذب المسلمين ومحمد صلى الله عليه وسلم فيهم.

السادس: لولا حكم من الله

في أنه سبحانه قضى محو الصغائر باجتناب الكبائر. هذا؛ وانظر شرح: {كِتابٌ} في الآية رقم [2] الأعراف. {اللهِ} : انظر الآية رقم [1]. {لَمَسَّكُمْ} : لأصابكم، ونزل بكم. {فِيما أَخَذْتُمْ} أي: من الفداء. {عَذابٌ} : انظر الآية رقم [38] من سورة (الأعراف).

تنبيه: روي: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لو نزل العذاب لما نجا منه غير عمر وسعد بن معاذ» .

وذلك لأنه أيضا أشار بالإثخان، وانظر ما ذكرته عن عبد الله بن رواحة في الآية السابقة رضي الله عنهم أجمعين.

تنبيه: ما في الآيتين الكريمتين عتاب له صلى الله عليه وسلم على ترك الأولى، إذ كان الأولى له تدارك كثرة القتل فيهم لا الفداء، وليس عتابا على ترك محرم تنزيها لمنصب النبوة عن ذلك. انتهى. جمل نقلا عن كرخي، وانظر ما ذكرته في الآية رقم [106] النساء فإنه جيد جدا، وأيضا الآية رقم [44] من سورة (التوبة).

الإعراب: {لَوْلا} : حرف امتناع لوجود. {كِتابٌ} : مبتدأ. {مِنَ اللهِ} : متعلقان بمحذوف صفة {كِتابٌ،} أو هما متعلقان بالفعل بعدهما. {سَبَقَ} : ماض، وفاعله يعود إلى:{كِتابٌ،}

ص: 88

والجملة الفعلية صفة: {كِتابٌ،} وخبر المبتدأ محذوف، تقديره: موجود، وقيل: تقديره تدارككم. اللام: واقعة في جواب {لَوْلا} . مسكم: ماض، والكاف مفعوله. {فِيما}: جار ومجرور متعلقان بما قبلهما، و (ما) تحتمل الموصولة، والموصوفة، فهي مبنية على السكون في محل جر ب (في)، والجملة الفعلية بعدها صلتها أو صفتها، والعائد أو الرابط: محذوف، إذ التقدير: في الذي، أو في شيء أخذتموه. {عَذابٌ}: فاعل (مسّكم). {عَظِيمٌ..} .: صفته، والجملة الاسمية:{كِتابٌ..} . إلخ لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، وجملة:{لَمَسَّكُمْ..} . إلخ جواب {لَوْلا} لا محل لها، و {لَوْلا} ومدخولها كلام مستأنف لا محل له.

{فَكُلُوا مِمّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً وَاِتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (69)}

الشرح: {فَكُلُوا..} . إلخ، المعنى: فقد أحلت لكم الغنائم، وأخذ الفداء فكلوا

روي:

أنه لما نزلت الآية السابقة كف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أيديهم عما أخذوا من الفداء، فنزلت هذه الآية التي تحل الغنائم لهذه الأمة، وكانت قبل ذلك حراما على جميع الأمم الماضية، فعن جابر بن عبد الله-رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أعطيت خمسا لم يعطهنّ أحد قبلي:

نصرت بالرّعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدا، وطهورا، فأيّما رجل من أمّتي أدركته الصلاة فليتيمّم وليصلّ، وأحلّت لي الغنائم، ولم تحلّ لأحد قبلي، وأعطيت الشّفاعة، وكان النبيّ يبعث إلى قومه خاصّة، وبعثت إلى النّاس عامّة». رواه البخاري وغيره.

هذا؛ ومن معناها التبعيض، أي: كلوا بعض ما غنمتم؛ فإن الغنيمة ليست كلها للغانمين، انظر الآية التي قسمت الغنائم برقم [42] تجد ما يسرك. {وَاتَّقُوا اللهَ} أي: خافوا الله أن تعودوا، وأن تفعلوا شيئا من قبل أنفسكم قبل أن تؤمروا به. {إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} أي: قد غفر لكم ما أقدمتم عليه من الذنب، ورحمكم، ومعنى {حَلالاً طَيِّباً} أي: خاليا من العتاب والعقاب، هذا؛ وانظر:{وَاتَّقُوا} في الآية رقم [1].

الإعراب: {فَكُلُوا} : الفاء: حرف استئناف، أو هي الفاء الفصيحة على ما رأيت في الشرح، إذ التقدير: وإذا كان ما ذكر حاصلا وواقعا؛ فكلوا. كلوا: فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله. والألف للتفريق. {مِمّا غَنِمْتُمْ}: إعراب هذا مثل إعراب: {فِيما أَخَذْتُمْ} في الآية السابقة بلا فارق. {حَلالاً} : حال من ما، أو من الضمير المحذوف العائد عليها، وقيل: هو صفة لمفعول مطلق محذوف، أي: أكلا حلالا. {طَيِّباً} : صفة {حَلالاً،} وانظر الآية رقم [168] من سورة (البقرة). {وَاتَّقُوا اللهَ} : هذه الجملة معطوفة على ما قبلها، وقيل: معترضة بين التعليل وهو قوله تعالى: {إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} والمعلل، وهو الأمر {فَكُلُوا..} . إلخ.

ص: 89

{يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى إِنْ يَعْلَمِ اللهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (70)}

الشرح: {النَّبِيُّ} : انظر الآية رقم [1]. {لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى} أي: من وقع أسيرا في قبضة أيديكم يوم بدر، هذا؛ وانظر شرح {يَدَهُ} في الآية رقم [108] الأعراف.

و {الْأَسْرى} في الآية رقم [67]. {إِنْ يَعْلَمِ اللهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً} : إيمانا وإخلاصا. {يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمّا أُخِذَ مِنْكُمْ} : يخلف عليكم أفضل وأعظم من الفداء الذي أخذه الرسول صلى الله عليه وسلم منكم.

{وَيَغْفِرْ لَكُمْ} أي: ما سلف منكم قبل الإيمان. {وَاللهُ غَفُورٌ} : لمن آمن وتاب من كفره، ومعاصيه. {رَحِيمٌ}: بأهل طاعته، وهما اسما مبالغة من غفر ورحم، هذا؛ وانظر {خَيْراً} في الآية رقم [12] الأعراف فإنه جيد.

تنبيه: نزلت الآية الكريمة في العباس عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أحد العشرة الذين ضمنوا أن يطعموا الناس الذين خرجوا من مكة إلى بدر، وكان قد خرج؛ ومعه عشرون أوقية من ذهب، ليطعم بها إذا جاءت نوبته، فكانت نوبته يوم الوقعة ببدر، فأراد أن يطعم ذلك اليوم، فاقتتلوا، لم يطعم شيئا، وبقيت العشرون أوقية معه، فلما أسر أخذت منه، فكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجعل العشرين أوقية من فدائه، فأبى، وقال:«أما شيء خرجت به لتستعين به على حربنا، فلا أتركه لك!» . وكلفه فداء ابني أخيه عقيل بن أبي طالب، ونوفل بن الحارث، فقال: يا محمد! تتركني أتكفف قريشا، ما بقيت، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم:«فأين الذهب الذي دفعته إلى أم الفضل وقت خروجك من مكة؟ وقلت لها: إني لا أدري ما يصيبني في وجهي هذا، فإن حدث بي حدث، فهذا لك، ولعبد الله، ولعبيد الله، وللفضل، وقثم-يعني بنيه-» . فقال العباس: وما يدريك يا ابن أخي؟ قال: «أخبرني به ربي» . قال العباس-رضي الله عنه-أشهد أنك لصادق، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأنك عبده ورسوله! لم يطلع عليه أحد إلا الله، وأمر ابني أخيه عقيلا ونوفلا فأسلما، ثم بعد ذلك قال العباس-رضي الله عنه: فأبدلني الله خيرا مما أخذ مني عشرين عبدا، كلهم تاجر يضرب بمال كثير، أدناهم يضرب بعشرين ألف درهم مكان العشرين أوقية، وأعطاني زمزم، وما أحب أن لي بها جميع أموال أهل مكة، وأنا أنتظر المغفرة من ربي عز وجل. انتهى. خازن.

هذا؛ والآية تشير إلى: أن العباس رضي الله عنه كان مسلما، وهو المعتمد، وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان قد أمره بالبقاء في مكة، عينا له، فكان يخبره بما يتآمر به أهل مكة ضد الإسلام والمسلمين، فبقي في مكة حتى قبيل فتحها.

الإعراب: {يا أَيُّهَا النَّبِيُّ} : انظر إعراب هذه الجملة في الآية رقم [64]. {قُلْ} : أمر، وفاعله ضمير مستتر تقديره:«أنت» . {لِمَنْ} : جار ومجرور متعلقان بما قبلها. {فِي أَيْدِيكُمْ} : جار

ص: 90

ومجرور متعلقان بمحذوف صلة الموصول، وعلامة الجر كسرة مقدرة على الياء للثقل، والكاف في محل جر بالإضافة. {مِنَ الْأَسْرى}: متعلقان بمحذوف حال من الضمير المستتر في متعلق {فِي أَيْدِيكُمْ} وعلامة الجر كسرة مقدرة على الألف للتعذر {إِنْ يَعْلَمِ اللهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً} إعرابه ظاهر إن شاء الله تعالى، وانظر الآية:{وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ} في الآية رقم [62]. {يُؤْتِكُمْ} :

مضارع جواب الشرط مجزوم، وعلامة جزمه حذف حرف العلة من آخره، وهو الياء، والكسرة قبلها دليل عليها، والفاعل يعود إلى {اللهُ،} والكاف مفعول به أول. {خَيْراً} : مفعول به ثان.

{مِمّا} : متعلقان ب {خَيْراً،} و (ما) تحتمل الموصولة، والموصوفة، فهي مبنية على السكون في محل جر بمن. {أُخِذَ}: ماض مبني للمجهول، ونائب الفاعل يعود إلى (ما)، والجملة الفعلية صلة (ما) أو صفتها، والعائد أو الرابط: رجوع نائب الفاعل إليها. {مِنْكُمْ} : متعلقان بما قبلهما، وجملة:{يُؤْتِكُمْ..} . إلخ لا محل لها؛ لأنها جملة جواب الشرط، ولم تقترن بالفاء، ولا بإذا الفجائية، و {إِنْ} ومدخولها في محل نصب مقول القول، وجملة:{قُلْ..} . إلخ لا محل لها؛ لأنها ابتدائية كالجملة الندائية قبلها. {وَيَغْفِرْ} : مضارع معطوف على جواب الشرط مجزوم مثله، ويجوز في مثله النصب على إضمار (أن)، والرفع على الاستئناف، وإضمار مبتدأ، انظر ما ذكرته في الآية رقم [115] النساء. {وَاللهُ}: مبتدأ. {غَفُورٌ} : خبر أول. {رَحِيمٌ} : خبر ثان، والجملة الاسمية مستأنفة لا محل لها.

{وَإِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ فَقَدْ خانُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (71)}

الشرح: {وَإِنْ يُرِيدُوا} : يعني الأسرى. {خِيانَتَكَ} : نقض ما عاهدوك عليه. {فَقَدْ خانُوا اللهَ} : بالكفر ونقض ميثاقه المأخوذ في الأزل. {مِنْ قَبْلُ} أي: قبل موقعة بدر. {فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ} : بالقتل والأسر، فإن أعادوا الخيانة؛ فسيمكنك منهم أيضا. {وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}:

لا يخفى عليه شيء من أفعال عباده، ويضع الأمور مواضعها على مقتضى ما تقتضيه الحكمة، هذا؛ وأصل خيانتك: خوانتك؛ لأنه من: خان يخون، وهو أجوف واوي، فقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها، ووقوع الألف بعدها.

الإعراب: {وَإِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ} انظر الآية رقم [62] وما بعدها. {فَقَدْ} : الفاء: واقعة في جواب الشرط. (قد): حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال. {خانُوا} : فعل وفاعل، والألف للتفريق، وانظر إعراب:{قالُوا} في الآية رقم [5] الأعراف. {اللهَ} : منصوب على التعظيم.

{مِنْ قَبْلُ} : متعلقان بالفعل قبلهما، وقيل: مبني على الضم في محل جر لقطعه عن الإضافة لفظا، لا معنى، وجملة:{فَقَدْ خانُوا..} . إلخ في محل جزم، هذا هو الظاهر، وعند التأمل يتبين لك: أن جواب الشرط محذوف، التقدير: وإن يريدوا خيانتك فلا يضرونك شيئا، وقدره الجلال

ص: 91

فليتوقعوا مثل ذلك؛ إن عادوا والأول أولى؛ وعليه، فالجملة الفعلية {فَقَدْ خانُوا..}. إلخ تعليل للجواب المحذوف. {فَأَمْكَنَ}: ماض، وفاعله يعود إلى {اللهَ}. {مِنْهُمْ}: متعلقان به، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها. {وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}: انظر مثلها في الآية السابقة إعرابا ومحلا. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم.

{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتّى يُهاجِرُوا وَإِنِ اِسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاّ عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (72)}

الشرح: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا..} . إلخ: المراد بهم المؤمنون السابقون من أهل مكة الذين آمنوا بالله ورسوله، ثم تركوا أوطانهم وأموالهم، وهاجروا إلى المدينة المنورة، ثم بذلوا أموالهم وأرواحهم في سبيل إعلاء كلمة الله، ونصرة نبيه صلى الله عليه وسلم، ولا أتكلم عن الهجرة والجهاد في سبيل الله بأكثر مما ذكرته في الآية رقم [89] النساء و [96] منها، ففيهما الكفاية. {آمَنُوا}: انظر الآية رقم [2] الأعراف ورقم [3]. {بِأَمْوالِهِمْ} : انظر الآية رقم [28]. {وَأَنْفُسِهِمْ} : انظر الآية رقم [9] الأعراف. {سَبِيلِ اللهِ} : دين الله الذي ارتضاه لنفسه ولأمة محمد صلى الله عليه وسلم وانظر الآية رقم [45] الأعراف، {وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا}: المراد بهم الأنصار أهل المدينة الذين آووا النبي صلى الله عليه وسلم والمهاجرين الذين أتوهم من أهل مكة، فأسكنوهم منازلهم، وبذلوا لهم أموالهم وآثروهم على أنفسهم، ولو كان بهم خصاصة، هذا؛ وإعلال:{آوَوْا} مثل إعلال (أتوا) في الآية رقم [138](الأعراف). {أُولئِكَ} : إشارة إلى المهاجرين والأنصار معا. {بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ} أي: في العون والنصرة دون أقربائهم من الكفار.

وقال ابن عباس-رضي الله عنهما: في الميراث. انتهى. وتأويله: أن المهاجرين والأنصار كانوا يتوارثون بالإسلام والهجرة، دون أقربائهم وذوي أرحامهم، وكان من آمن ولم يهاجر لا يرث من قريبه المهاجر حتى كان فتح مكة، وانقطعت الهجرة، فتوارثوا بالأرحام حيثما كانوا، فصار ذلك منسوخا بالآية الأخيرة، وهي رقم [75] وهذا التوارث حصل بعد أن آخى الرسول صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار، حيث جعل مع كل أنصاري مهاجرا، فكان الأنصاري يعطف على المهاجري عطف الأب على ابنه والأخ على أخيه. {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا..}. إلخ:

فقد قطع الله الميراث والتوارث بين المهاجرين، {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا،} انظر الآية رقم [97](النساء) وما بعدها تجد ما يسرك، هذا؛ والولاية هنا بمعنى: الميراث، ويجيء بمعنى النصرة

ص: 92

والمعاونة، وهو بفتح الواو، وقرئ بكسرها، والفتح أحسن وأبين، وقد تطلق الولاية بفتح الواو وكسرها أيضا على الإمارة والرئاسة، هذا؛ وانظر شرح {شَيْءٍ} في الآية رقم [85](الأعراف).

{وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ} أي: إن طلب منكم أيها المهاجرون الذين لم يهاجروا معاونتهم بنفس أو بمال فأعينوهم على المشركين، ولا سيما إن كانوا مستضعفين لا يقدرون على الهجرة، كما رأيت في الآية رقم [97] من سورة (النساء) وما بعدها. {فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاّ عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ} أي: فيجب عليكم نصرهم إلا إذا استنصروكم على قوم كفار بينكم وبينهم عهود ومهادنة عدم اعتداء، فلا تنصروهم عليهم، ولا تنقضوا العهد حتى تنتهي مدته. {الدِّينِ}:

انظر الآية رقم [162] الأنعام. {مِيثاقٌ} : انظر إعلال {الْمِيعادِ} في الآية رقم [42] فهو مثله.

{وَاللهُ} : انظر الآية رقم [1].

الإعراب: {إِنَّ} : حرف مشبه بالفعل. {الَّذِينَ} : اسم موصول مبني على الفتح في محل نصب اسمها. {آمَنُوا} : ماض مبني على الضم، والواو فاعله، والألف للتفريق، والمتعلق محذوف، والجملة الفعلية صلة الموصول لا محل لها، وما بعدها معطوف عليها، {بِأَمْوالِهِمْ}:

متعلقان بالفعل قبلهما. {وَأَنْفُسِهِمْ} : معطوف على ما قبله، والهاء في محل جر بالإضافة. {فِي سَبِيلِ}: متعلقان بالفعل {وَجاهَدُوا،} و {سَبِيلِ} : مضاف، و {اللهِ}: مضاف إليه. و {الَّذِينَ} :

معطوف على ما قبله. {آوَوْا} : ماض مبني على فتح مقدر على الألف المحذوفة لالتقاء الساكنين، الواو فاعله، والألف للتفريق، والمفعول محذوف، انظر الشرح، والجملة الفعلية صلة الموصول، وجملة:{وَنَصَرُوا} مع المفعول المحذوف معطوفة على ما قبلها لا محل لها مثلها.

{أُولئِكَ} : اسم إشارة مبني على الكسر في محل رفع مبتدأ، والكاف: حرف خطاب لا محل له.

{بَعْضُهُمْ} : مبتدأ ثان، والهاء: في محل جر بالإضافة. {أَوْلِياءُ} : خبره، وهو مضاف، و {بَعْضٍ}:

مضاف إليه، والجملة الاسمية:{بَعْضُهُمْ..} . إلخ في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية:

{أُولئِكَ..} . إلخ في محل رفع خبر {إِنَّ،} والجملة الاسمية: {إِنَّ الَّذِينَ..} . إلخ ابتدائية، أو استئنافية لا محل لها. {الَّذِينَ}: مبتدأ، والجملة بعده صلته. {وَلَمْ}: حرف نفي وقلب وجزم.

{يُهاجِرُوا} : مضارع مجزوم ب (لم)، وعلامة جزمه حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها لا محل لها مثلها. {ما}: نافية. {لَكُمْ} : جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {مِنْ وَلايَتِهِمْ} : متعلقان بالخبر المحذوف، أو بمحذوف خبر ثان، أو بمحذوف حال من الضمير المستتر في الخبر المحذوف، وتعليقهما بمحذوف حال من المبتدأ المؤخر لا يجيزه كثير من النحاة. {مِنْ}: حرف جر صلة. {شَيْءٍ} : مبتدأ مؤخر مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على آخره منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد، والجملة الاسمية:{ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ..} . إلخ في محل رفع خبر المبتدأ والجملة الاسمية: {الَّذِينَ..} . إلخ

ص: 93

معطوفة على الجملة الاسمية السابقة لا محل لها مثلها. {حَتّى يُهاجِرُوا} : مضارع منصوب ب «أن» مضمرة بعد {حَتّى،} وعلامة نصبه حذف النون

إلخ، والواو فاعله، والألف للتفريق، و «أن» المضمرة والمضارع في تأويل مصدر في محل جر ب {حَتّى،} والجار والمجرور متعلقان ب {ما} النافية لأن فيها رائحة الفعل (انتفى). {وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ} انظر إعراب: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ} في الآية رقم [62] فهو مثله إفرادا، وجملا. {فَعَلَيْكُمُ}: الفاء: واقعة في جواب الشرط.

(عليكم): متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {النَّصْرُ} : مبتدأ مؤخر، ولو قيل: عليكم: اسم فعل أمر، و (النصر) بالنصب مفعول به، فهو مقبول معنى وإعرابا، ولكن لم أطلع على قراءة بنصبه، والجملة الاسمية في محل جزم جواب الشرط عند الجمهور، والدسوقي يقول: لا محل لها؛ لأنها لم تحل محل المفرد، و (إن) ومدخولها كلام مستأنف لا محل له. {إِلاّ}: حرف حصر. {عَلى قَوْمٍ} : متعلقان بمحذوف حال مستثنى من عموم الأحوال. {بَيْنَكُمْ} : ظرف مكان متعلق بمحذوف خبر مقدم. {وَبَيْنَهُمْ} : معطوف على ما قبله، والكاف والهاء في محل جر بالإضافة. {مِيثاقٌ}:

مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية في محل جر صفة {قَوْمٍ}. {وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}: انظر إعراب مثل هذا الكلام في الآية رقم [40].

{وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ إِلاّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ (73)}

الشرح: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ} أي: في الميراث والمؤازرة والمعاونة، وهو بمفهومه يدل على منع التوارث والتآزر بينهم وبين المسلمين، والآية الكريمة نصت بأن الكفر ملة واحدة مهما اختلفت أنواعه وألوانه، وهو بجميع أصنافه حرب على المسلمين في كل عصر وزمان، والتاريخ شاهد صدق على ما أقول، وانظر {كَفَرُوا} في الآية رقم [66](الأعراف).

{إِلاّ تَفْعَلُوهُ} أي: إن لم تفعلوا ما أمرتم به من التواصل بينكم وتولي بعضكم بعضا حتى في التوارث، وقطع الصلة والمودة بينكم وبين الكفار. {تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ}: تقع في الأرض فتنة عظيمة، وهي ظهور الكفر وتقويته، وضعف شوكة المسلمين، وذلك فساد للدين، وقرئ:«(كثير)» بالثاء. هذا؛ والضمير في {تَفْعَلُوهُ} عاد على معنى الكلام السابق دون لفظه. تأمل، وتدبر، وربك أعلم.

الإعراب: {وَالَّذِينَ} : (الذين): اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ، وجملة:

{كَفَرُوا} مع المتعلق المحذوف صلة الموصول لا محل لها. {بَعْضُهُمْ} : مبتدأ، والهاء في محل جر بالإضافة. {أَوْلِياءُ}: خبر المبتدأ، وهو مضاف، و {بَعْضٍ}: مضاف إليه، والجملة الاسمية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية:{وَالَّذِينَ..} . إلخ معطوفة على مثلها في الآية السابقة لا محل

ص: 94

لها مثلها. {إِلاّ} : (إن): حرف شرط جازم. (لا): نافية. {تَفْعَلُوهُ} : مضارع فعل الشرط مجزوم، وعلامة جزمه حذف النون لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والهاء مفعوله، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي. {تَكُنْ} : مضارع تام جواب الشرط. {فِتْنَةٌ} : فاعله. {فِي الْأَرْضِ} : متعلقان بالفعل: {تَكُنْ} . {وَفَسادٌ} : معطوف على {فِتْنَةٌ} . {كَبِيرٌ} : صفته، وجملة:{تَكُنْ..} . إلخ لا محل لها؛ لأنها جملة جواب الشرط، ولم تقترن بالفاء، ولا بإذا الفجائية، و (إن) ومدخولها كلام مستأنف لا محل له.

{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (74)}

الشرح: {وَالَّذِينَ آمَنُوا} .. {وَنَصَرُوا} : انظر شرحه مفصلا في الآية رقم [72]. {أُولئِكَ هُمُ..} . إلخ: انظر الآية رقم [4] لشرح هذا الكلام.

وأنقل لك ما ذكره البيضاوي بحروفه، قال رحمه الله تعالى: لما قسم الله المؤمنين ثلاثة أقسام؛ بين أن الكاملين في الإيمان، منهم الذين حققوا إيمانهم بتحصيل مقتضاه من الهجرة والجهاد، وبذل المال، ونصرة الحق، ووعد لهم الموعد الكريم، فقال {لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} لا تبعة له، ولا منة فيه.

تنبيه: لا تكرار في الكلام؛ لأن الله ذكر في الآية الأولى حكم ولاية المهاجرين والأنصار بعضهم بعضا، ثم ذكر في هذه الآية ما منّ به عليهم من المغفرة والرزق الكريم، وقيل: إعادة الشيء مرة بعد مرة أخرى تدل على مزيد الاهتمام به، فلما ذكرهم أولا، ثم أعاد ذكرهم دل ذلك على تعظيم شأنهم، وعلو درجاتهم، وهذا هو الشرف العظيم. انتهى. خازن.

الإعراب: {وَالَّذِينَ آمَنُوا} إلى {وَنَصَرُوا} : انظر إعراب هذا الكلام في الآية رقم [72].

{أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} : انظر إعراب هذه الجملة في الآية رقم [4] وهي اسمية في محل رفع خبر المبتدأ والجملة الاسمية: {وَالَّذِينَ آمَنُوا..} . إلخ معطوفة على ما قبلها لا محل لها أيضا. {لَهُمْ} :

جار ومجرور متعلقان بمحذوف في محل رفع خبر مقدم. {مَغْفِرَةٌ} : مبتدأ مؤخر. {وَرِزْقٌ} :

معطوف على ما قبله. {كَرِيمٌ} : صفته، والجملة الاسمية:{لَهُمْ مَغْفِرَةٌ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها.

{وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (75)}

الشرح: {وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ} : لقد اختلف في قوله {مِنْ بَعْدُ} فقيل: من بعد صلح الحديبية وبيعة الرضوان، وهي الهجرة الثانية، وقيل: من بعد نزول هذه الآية، وقيل: من بعد

ص: 95

غزوة بدر، والأصح أن المراد به أهل الهجرة الثانية؛ لأنها بعد الهجرة الأولى؛ لأن الهجرة انقطعت بعد فتح مكة؛ لأنها صارت دار الإسلام بعد الفتح، ويدل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم «لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونيّة» وقال الحسن: الهجرة غير منقطعة، ويجاب عن هذا بأن المراد منه الهجرة المخصوصة من مكة إلى المدينة، فأما من كان من المؤمنين في بلد يخاف على إظهار دينه من كثرة الكفار وغلبتهم، وجب عليه أن يهاجر إلى بلد لا يخاف فيه على إظهار دينه.

انتهى. خازن.

{فَأُولئِكَ مِنْكُمْ} أي: صاروا من جملتكم أيها المهاجرون والأنصار، وإن تأخر إيمانهم وهجرتهم وجهادهم، ولكن لا يخفى أن مرتبة السابقين أعلى وأشرف من مرتبة المتأخرين.

{وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى..} . إلخ: ذكرت لك في الآية رقم [72] أن هذه الآية ناسخة للتوارث بالأخوة الإسلامية والهجرة، وقد استدل بها أيضا على توريث ذوي الأرحام، وهو مذهب أبي حنيفة، والمراد بكتاب الله: اللوح المحفوظ، وقيل: المراد: القرآن الكريم، وهو ما ذكر في سورة (النساء) من المواريث.

{إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} : حيث فصل وبين جلت قدرته ما فيه حكمة ومنفعة لعباده، وهو أعلم بمراده وأسرار كتابه. هذا؛ وانظر شرح {كِتابٌ} في الآية رقم [2] الأعراف. {شَيْءٍ}:

انظر الآية رقم [85] منها. {وَأُولُوا} : أصحاب، ولا واحد له من لفظه، وإنما واحده (ذي) المضاف إن كان مجرورا، و (ذا) المضاف إن كان منصوبا، و (ذو) المضاف إن كان مرفوعا.

{اللهِ} : انظر الآية رقم [1].

الإعراب: {وَالَّذِينَ} : (الذين): اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ، وجملة:{آمَنُوا} مع المتعلق المحذوف صلة الموصول لا محل لها. {مِنْ بَعْدُ} : متعلقان بالفعل قبلهما، وبني بعده على الضم لقطعه عن الإضافة لفظا لا معنى، وجملة:{وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا} معطوفتان على جملة الصلة لا محل لها. {مَعَكُمْ} : ظرف مكان متعلق بالفعل قبله، والكاف في محل جر بالإضافة. الفاء: زائدة في الخبر؛ لأن الموصول يشبه الشرط في العموم.

(أولئك): اسم إشارة مبني على الكسر في محل رفع مبتدأ، والكاف: حرف خطاب لا محل له.

{مِنْكُمْ} : متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية:{وَالَّذِينَ آمَنُوا..} . إلخ معطوفة على ما قبلها لا محل لها أيضا. {وَأُولُوا} : (أولو):

مبتدأ مرفوع، وعلامة رفعه الواو نيابة عن الضمة؛ لأنه ملحق بجمع المذكر السالم، و (أولو) مضاف، و {الْأَرْحامِ}: مضاف إليه. {بَعْضُهُمْ} : مبتدأ ثان، والهاء: في محل جر بالإضافة.

{أَوْلى} : خبر المبتدأ، مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر. {بِبَعْضٍ}: متعلقان ب {أَوْلى} . {فِي كِتابِ} : متعلقان بمحذوف حال من الضمير المستتر ب {أَوْلى،} و {كِتابِ} :

ص: 96

مضاف، و {اللهِ}: مضاف إليه، والجملة الاسمية:{بَعْضُهُمْ أَوْلى..} . إلخ في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية:{وَأُولُوا الْأَرْحامِ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها من جمل اسمية لا محل لها أيضا. {إِنَّ} : حرف مشبه بالفعل. {اللهِ} : اسمها. {بِكُلِّ} : متعلقان ب {عَلِيمٌ} بعدهما، و (كل) مضاف، و {شَيْءٍ}: مضاف إليه. {عَلِيمٌ} : خبر {إِنَّ،} والجملة الاسمية: {إِنَّ اللهَ..} .

إلخ مستأنفة لا محل لها. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم، وصلّى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

تمت سورة (الأنفال) بحمد الله وتوفيقه.

تفسيرا وإعرابا والحمد لله رب العالمين.

ص: 97