الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سورة الرّعد
وهي مكية في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر، ومدنية في قول الكلبي ومقاتل، وقال ابن عباس وقتادة: مدنية إلا آيتين منها نزلتا بمكة، وهما قوله عز وجل:{وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ..} . إلخ. انتهى. قرطبي. أي: رقم [33] و [34] وهي خمس وأربعون آية، وثمانمائة وخمس وخمسون كلمة، وثلاثة آلاف وخمسمائة وستة أحرف. انتهى. خازن. ومن فضائل هذه السورة: أن قراءتها عند المحتضر، تسهل خروج روحه.
تنبيه: انظر شرح الاستعاذة والبسملة وإعرابهما في أول سورة (يوسف) عليه السلام، وانظر شرح {المر} وإعرابها في أول سورة (يونس) عليه السلام، وأضيف هنا أن ابن عباس، قال:
معناه: أنا الله أعلم وأرى، وقال عطاء: معناه: أنا الله الملك الرحمن.
بسم الله الرحمن الرحيم
بسم الله الرحمن الرحيم
الشرح: {تِلْكَ} : الإشارة إلى آيات السورة الكريمة، وما فيها من المواعظ والنصائح، وما تضمنته من إرشادات كثيرة من التحلي بمكارم الأخلاق، والخصال الحميدة، والشيم الكريمة، كما ستقف عليه إن شاء الله تعالى، وانظر ما ذكرته في الآية رقم [1] من سورة (يوسف) عليه السلام. {آياتُ الْكِتابِ}: انظر شرحهما في الآية رقم [1] من سورة (هود) عليه السلام. {وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ} : المراد به القرآن الكريم الذي أنزل على قلب سيد المرسلين. أي:
وهذا القرآن الذي أنزل إليك من ربك هو الحق، الذي لا شك فيه، ولا تناقض. {وَلكِنَّ أَكْثَرَ النّاسِ لا يُؤْمِنُونَ}: المراد بهم أهل مكة، وقد نزلت الآية الكريمة في الرد عليهم حين قالوا: إن محمدا يقول القرآن من تلقاء نفسه.
الإعراب: {تِلْكَ} : اسم إشارة مبني على الكسر في محل رفع مبتدأ، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب لا محل له. {آياتُ}: خبر المبتدأ، وهو مضاف، و {الْكِتابِ}: مضاف إليه.
(الذي): أجيز عطفه على {آياتُ،} فهو في محل رفع، وأجيز اعتباره مبتدأ خبره {الْحَقُّ،} فهو
في محل رفع أيضا، وأجيز عطفه على {الْكِتابِ،} فهو في محل جر، وأجاز الفراء اعتباره صفة {الْكِتابِ،} وتكون الواو صلة. {أُنْزِلَ} : ماض مبني للمجهول، ونائب الفاعل يعود إلى (الذي) وهو العائد، والجملة صلته. {إِلَيْكَ}: متعلقان بالفعل قبلهما. {مِنْ رَبِّكَ} : متعلقان بمحذوف حال من نائب الفاعل المستتر، والكاف في محل جر بالإضافة. {الْحَقُّ}: خبر (الذي) على اعتباره مبتدأ، وخبر مبتدأ محذوف على الأوجه الأخرى في الموصول، والجملة الاسمية على هذا الاعتبار في محل نصب حال من (الذي)، أو من نائب الفاعل الراجع إليه، بعد هذا فالجملة الاسمية:{تِلْكَ..} . إلخ في محل رفع خبر المبتدأ {المر} على اعتباره فيه، ومستأنفة لا محل لها على اعتبار آخر، كما أجيز اعتبار {تِلْكَ} خبره، واعتبار {آياتُ} بدلا من تلك. {وَلكِنَّ}:
الواو: حرف عطف. (لكن): حرف مشبه بالفعل. {أَكْثَرَ} : اسمها، وهو مضاف، و {النّاسِ}:
مضاف إليه. {لا} : نافية. {يُؤْمِنُونَ} : مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون، والواو فاعله، ومتعلقه محذوف، التقدير: لا يؤمنون بالله، والجملة الفعلية في محل رفع خبر لكن، والجملة الاسمية:{وَلكِنَّ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، أو هي مستأنفة لا محل لها على الاعتبارين، وقيل: في محل نصب حال ولا وجه له.
الشرح: {اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها} : في هذه الرؤية قولان: أحدهما: أن الرؤية ترجع إلى السماء، والمعنى: وأنتم ترون السماء مرفوعة بغير عمد من تحتها، يعني ليس تحتها دعامة تدعمها، ولا من فوقها علاّقة تمسكها. قال إياس بن معاوية: السماء مقبية على الأرض مثل القبة، وهذا قول الحسن، وقتادة، وجمهور المفسرين، وإحدى الروايتين عن ابن عباس رضي الله عنهما، والقول الثاني: أن الرؤية ترجع إلى العمد، والمعنى: أن لها عمدا، ولكن لا ترونها أنتم، والأول أصح، وهذا على أن السموات مكونة من أجرام، وأما ما يقوله العلم من أن السموات السبع طبقات هوائية، تختلف كل طبقة عما فوقها، وعما تحتها؛ فنكل علمه إلى الله تعالى.
{اِسْتَوى} : استولى، ولا يجوز تفسيره باستقر وثبت، فيكون الله من صفات الحوادث، وهذا التأويل ينبغي أن يقال في كل ما يوهم وصفا، لا يليق به تعالى، والقول الفصل قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه، (الاستواء غير مجهول، والتكييف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة؛ لأنه تعالى كان، فهو على ما كان قبل خلق المكان لم يتغير عما كان) هذا؛ وهناك من يقول: استوى استواء يليق به وهو قول السلف.
{الْعَرْشِ،} قال الراغب في كتابه (مفردات القرآن) وعرش الله عز وجل مما لا يعلمه البشر إلا بالاسم، لا بالحقيقة، وليس هو كما تذهب إليه أوهام العامة، فإنه لو كان كذلك لكان حاملا له، تعالى الله عن ذلك! هذا؛ وقد قال سليمان الجمل: وأما المراد به هنا فهو الجسم النوراني المرتفع على كل الأجسام المحيط بكلها. وانظر ما ذكرته في آية الكرسي رقم [254] من سورة (البقرة)، والمنقول عن جعفر الصادق، والحسن، وأبي حنيفة، ومالك-رضي الله عنهم أجمعين-: أن الاستواء معلوم، والتكييف فيه مجهول، والإيمان به واجب، والجحود له كفر، والسؤال عنه بدعة. انتهى. نسفي.
{وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} : ذللهما لمنافع خلقه، ومصالح عباده، وكل مخلوق مذلل للخالق، وذللهما أيضا لما أراد منهما كالحركة المستمرة على حد من السرعة، ينفع في حدوث الكائنات وبقائها. {كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى} أي: إلى وقت معلوم، وهو وقت فناء الدنيا وزوالها، وقال ابن عباس-رضي الله عنهما: أراد بالأجل المسمى درجاتهما، ومنازلهما، يعني: أنهما يجريان في منازلهما، ودرجاتهما إلى غاية ينتهيان إليها، ولا يجاوزانها، وتحقيقه أن الله تعالى جعل لكل واحد من الشمس والقمر سيرا خاصا إلى جهة خاصة، بمقدار خاص من السرعة والبطء في الحركة.
{يُدَبِّرُ الْأَمْرَ} : يقضيه ويقدره وحده، لا يشركه في تدبير خلقه أحد، وقيل: معناه: أنه سبحانه وتعالى يدبر أحوال الخلق، وأحوال ملكوت السموات والأرض، فلا يحدث حدث في العالم العلوي، ولا في العالم السفلي إلا بإرادته وتدبيره وقضائه وحكمته.
{يُفَصِّلُ الْآياتِ} أي: يبين الآيات الدالة على وحدانيته، وكمال قدرته. {لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ} أي: لكي توقنوا وتصدقوا بلقاء الله يوم القيامة، وتتحققوا كمال قدرته تعالى، فإنه من قدر على خلق هذه الأشياء، وتدبيرها قادر على الإعادة بعد الموت، والحساب والجزاء.
هذا؛ والترجي في هذه الآية وأمثالها، إنما هو بحسب عقول البشر؛ لأن الله تعالى لا يحصل منه ترجّ ورجاء لعباده، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. {عَمَدٍ}: جمع عمود، أو عماد، وهي الدعائم التي تكون تحت سقف البيت. وجمعه في القلة: أعمدة، وفي الكثرة عمد بفتحتين وعمد بضمتين، وبهما قرئ قوله تعالى:{فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ} . وفي القاموس: العمود ما يقوم عليه البيت، وغيره، وجمعه أعمدة وعمد وعمد، وعمود القوم: سيدهم، والعماد الأبنية الرفيعة، ومنه قوله تعالى:{إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ} . هذا؛ وإعلال (مسمّى) مثل إعلال (هدى) في الآية رقم [111] من سورة (يوسف) عليه السلام، و (لقاء): أصله لقاي، قلبت الياء ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها، ولم يعتد بالألف الزائدة لأنها حاجز غير حصين، فالتقى ساكنان: الألف الزائدة، والألف المنقلبة، فأبدلت الثانية همزة.
هذا؛ وأصل يوقنون (يؤيقنون) لأنه من (أيقن) الرباعي، فحذفت الهمزة للتخفيف حملا على المبدوء بهمزة المضارعة، مثل (أأيقنون) الذي حذفت همزته للتخلص من ثقل الهمزتين، فصار (ييقنون) ثم قلبت الياء الثانية واوا لسكونها، وانضمام ما قبلها، وهذا الإعلال يجري في كل فعل ثلاثي، مزيدة الهمزة في أوله، مثل: أجاب يجيب، وأكرم بكرم
…
إلخ، وقد يجيء على القياس، وهو الأصل المهجور كما في قول أبي حيان الفقعسي:[الرجز]
فإنّه أهل لأن يؤكرما
ولا تنس: أن هذه الهمزة المزيدة تحذف من اسمي الفاعل والمفعول المأخوذين من الفعل الثلاثي المزيدة فيه الهمزة، وذلك مثل: مكرم ومكرم، والقياس: مؤكرم ومؤكرم، وقس على ذلك. هذا؛ وغير اسم شديد الإبهام، لا يتعرف بالإضافة لمعرفة وغيرها، وهو ملازم للإضافة، ويجوز أن يقطع عنها، إن فهم المعنى، أو تقدمت عليها كلمة (ليس)، يقال: قبضت عشرة ليس غير، وهو مبني على الضم أو على الفتح خلاف.
الإعراب: {اللهُ} : مبتدأ. {الَّذِي} : اسم موصول مبني على السكون في محل رفع خبر المبتدأ. {رَفَعَ} : ماض، وفاعله يعود إلى {الَّذِي} وهو العائد، والجملة صلة الموصول لا محل لها. {السَّماواتِ}: مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة؛ لأنه ملحق بجمع المؤنث السالم. {بِغَيْرِ}: متعلقان بمحذوف حال من {السَّماواتِ} أي: رفع السموات خالية من عمد. {تَرَوْنَها} : مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون، والواو فاعله، و (ها) مفعوله، والجملة الفعلية في محل نصب حال من {السَّماواتِ} أو هي مستأنفة، وهذا على اعتبار الضمير عائدا على (السموات)، وهي في محل جر صفة {عَمَدٍ} على اعتبار الضمير عائدا عليه، ويؤيده أنه قرئ «(ترونه)» {ثُمَّ}: حرف عطف. {اِسْتَوى} : ماض مبني على فتح مقدر على الألف، والفاعل يعود إلى {اللهُ،} والجملة الفعلية معطوفة على جملة الصلة لا محل لها. {عَلَى الْعَرْشِ} :
متعلقان بما قبلهما. (سخر): ماض، وفاعله يعود إلى {اللهُ،} والجملة الفعلية معطوفة على جملة الصلة لا محل لها. {الشَّمْسَ} : مفعول به. (القمر): معطوف على ما قبله. {كُلٌّ} : مبتدأ وله متعلق بمحذوف، التقدير: كل منهما، وهذا المحذوف هو الذي جوز الابتداء بالنكرة.
{يَجْرِي..} .: مضارع مرفوع
…
إلخ، وفاعله مستتر يعود إلى {كُلٌّ،} والجملة الفعلية في محل رفع خبره، والجملة الاسمية:{كُلٌّ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها. {لِأَجَلٍ} : متعلقان بما قبلهما. {مُسَمًّى} : صفة (أجل) مجرور، وعلامة جره كسرة مقدرة على الألف المحذوفة لالتقاء الساكنين، والثابتة دليل عليها، وليست عينها، وجملة:{يُدَبِّرُ الْأَمْرَ} في محل نصب حال من فاعل {اِسْتَوى} أو من فاعل (سخر)، والرابط: الضمير فقط، وجوز أبو البقاء فيها الاستئناف، وجملة:{يُفَصِّلُ الْآياتِ} يجوز فيها ما جاز بسابقتها، ويجوز فيها وجه آخر، وهو اعتبارها حالا
من فاعل {يُدَبِّرُ} المستتر، فتكون حالا متداخلة، وأجيز اعتبار الجملتين أخبارا متعددة للمبتدإ، ويبعده الاستئناف في الجملة الاسمية قبلهما، هذا؛ ويقرأ الفعلان:{يُدَبِّرُ} و {يُفَصِّلُ} بالنون، فحينئذ لا يجوز، إلا الاستئناف ويكون في الكلام التفات. {لَعَلَّكُمْ}: حرف مشبه بالفعل، والكاف اسمها {بِلِقاءِ}: متعلقان بالفعل بعدهما، و (لقاء) مضاف، و {رَبِّكُمْ}: مضاف إليه من إضافة المصدر لمفعوله، وفاعله محذوف، والكاف في محل جر بالإضافة من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {تُوقِنُونَ}: مضارع وفاعله، والجملة الفعلية في محل رفع خبر (لعل)، والجملة الاسمية:{لَعَلَّكُمْ..} . إلخ تعليل للتسخير والتدبير والتفصيل.
الشرح: {وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ} : بعد أن بين سبحانه دلائل قدرته في السموات، وما فيها، أردف ذلك ببيان دلائل قدرته في الأرض، وما فيها، ومعنى {مَدَّ الْأَرْضَ} بسطها على وجه الماء، وعند أصحاب الهيئة الأرض كروية الشكل، ويمكن أن يقال: إن الكرة إذا كانت كبيرة عظيمة، فكل قطعة منها تشاهد ممدودة كالسطح الكبير العظيم، فحصل الجمع بين: القول بكرويتها، والقول ببسطها، ومع ذلك فالله تعالى أخبر أنه مد الأرض، وأنه دحاها وبسطها، وكل ذلك يدل على التسطيح، والله تعالى أصدق قيلا، وأبين دليلا من أصحاب الهيئة. انتهى. خازن.
{وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ} أي: جبالا ثوابت، واحدها راسية؛ لأن الأرض ترسو بها؛ أي: تثبت وتستقر، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لمّا خلق الله الأرض جعلت تميد، وتكفّأ؛ فأرساها بالجبال، فاستقرّت، فعجبت الملائكة من شدّة الجبال، فقالت:
يا ربّنا هل خلقت خلقا أشدّ من الجبال؟ قال: نعم الحديد، قالوا: فهل خلقت خلقا أشدّ من الحديد؟ قال: النار، قالوا: فهل خلقت خلقا أشدّ من النّار؟ قال الماء، قالوا: فهل خلقت خلقا أشدّ من الماء؟ قال: الرّيح، قالوا: فهل خلقت خلقا أشدّ من الرّيح، قال: ابن آدم إذا تصدّق بصدقة بيمينه، فأخفاها من شماله». رواه الترمذي، وقال: حديث غريب.
قال ابن عباس-رضي الله عنهما: هي الجبال الشامخات من أوتاد الأرض، وهي سبعة عشر جبلا منها: قاف، وأبو قبيس، والجودي، ولبنان، وطور سينين، وطور سيناء. أخرجه ابن جرير. في المبهمات للسيوطي.
{وَأَنْهاراً} أي: جارية لمنافع العباد، كما هو مشاهد في هذه الدنيا، وأنهار جمع: نهر، ويجمع أيضا على أنهر ونهر ونهور، وهاء النهر تفتح وتسكن. {وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ}
{اِثْنَيْنِ} أي: صنفين، قال أبو عبيدة: الزوج واحد، ويكون اثنين، وقال الفراء: يعني بالزوجين هاهنا: الذكر والأنثى، وقيل: معنى زوجين نوعان، كالحلو والحامض، والرطب واليابس، والأبيض والأسود، والصغير والكبير. هذا؛ والزوج ما معه آخر من جنسه يزاوجه، ويحصل منهما النسل، فيطلق لفظ الزوج على المفرد إذا كان معه آخر من جنسه لا ينفك عنه، ويحصل منهما النسل، كما في إطلاقه على الرجل المتزوج والمرأة المتزوجة، وكذا يطلق على الاثنين، فهو مشترك بين المعنيين، والمراد هنا الإطلاق الأول، كما في الآية رقم [143] من سورة (الأنعام).
والزوج يطلق على الرجل والمرأة، والقرينة تبين الذكر من الأنثى، ويقال لها أيضا: زوجة، وحذف التاء منها أفصح إلا في علم المواريث، فإنها بالتاء أفصح لتوضيح الوارث، هذا؛ والزوج القرين قال تعالى في الآية رقم [22] من سورة (الصافات):{اُحْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللهِ} والزوج ضد الفرد، وكل واحد منهما يسمى زوجا أيضا، يقال للاثنين: هما زوجان، كما يقال: هما سيّان، وهما سواء، وقال تعالى في الآية رقم [40] من سورة (هود) -على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام-:{قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ} أي: من كل نوع من أنواع المخلوقات ذكرا وأنثى، وقال تعالى في آية الأنعام:{ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ..} . إلخ والمعنى ثمانية أفراد.
{يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ} أي: يغطي الليل النهار ويستره بظلمته، فيصير الجو مظلما بعد أن كان مضيئا، وهذا مشاهد كل يوم ولم يذكر عكسه للعلم به، أو لأن اللفظ يحتملهما، أي: الظلمة والإضاءة، ولذلك قرئ بنصب الليل، ورفع النهار، وقال النسفي: يلحق الليل بالنهار، والنهار بالليل، وقرئ بتشديد الشين، وزيد بعد ذلك في الآية رقم [53] من سورة (الأعراف) هذه الجملة:
{يَطْلُبُهُ حَثِيثاً} أي: يعقب كل منهما الآخر كالطالب له، لا يفصل بينهما شيء، وانظر شرح الليل والنهار في الآية رقم [67] من سورة (يونس) عليه السلام، {إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ..}. إلخ: أي:
لدلالات واضحة على قدرة الله تعالى، وذلك {لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} فيها، فإن تكونها وتخصصها بوجه دون وجه دليل قاطع، وبرهان ساطع على وجود صانع حكيم دبّر أمرها، وهيّأ أسبابها.
هذا؛ والفكر: تصرف القلب في طلب الأشياء، وقال صاحب المفردات: الفكر: قوة مطرقة للعلم إلى المعلوم، والتفكر جريان تلك القوة بحسب نظر العقل، وذلك للإنسان دون الحيوان، ولا يقال إلا فيما يمكن أن يكون له صورة في القلب، ولهذا روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«تفكّروا في آلاء الله، ولا تفكّروا في الله، فإنّه لا تحيط به الفكرة» . إذ الله منزه أن يوصف بصورة. انتهى. خازن بتصرف كبير.
الإعراب: {وَهُوَ الَّذِي} : مبتدأ وخبر، وجملة:{مَدَّ الْأَرْضَ} صلة الموصول لا محل لها، وجملة:{وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ} معطوفة عليها لا محل لها مثلها. (أنهارا): معطوف على ما قبله،
{وَمِنْ كُلِّ} : متعلقان بما بعدهما، و (كل): مضاف، و {الثَّمَراتِ}: مضاف إليه. {جَعَلَ} : ماض، وفاعله يعود إلى {الَّذِي}. {فِيها}: متعلقان بالفعل قبلهما. {زَوْجَيْنِ} : مفعول به. {اِثْنَيْنِ} : صفة له، وكلاهما منصوب، وعلامة نصبه الياء نيابة عن الفتحة؛ لأنه مثنى، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، وجملة: (جعل
…
) إلخ معطوفة على جملة الصلة لا محل لها مثلها، هذا؛ وأجيز تعليق {وَمِنْ كُلِّ} بمحذوف حال من {اِثْنَيْنِ،} كان صفة له، فلما قدم عليه صار حالا، كما أجيز تعليقهما ب {جَعَلَ} الأولى بسبب عطفهما على ما قبلهما، فيكون التقدير، وجعل فيها من كل {الثَّمَراتِ} وعليه فالوقف على {الثَّمَراتِ}. وتكون جملة:{جَعَلَ فِيها..} . إلخ مستأنفة لا محل لها.
{يُغْشِي} : مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل، والفاعل يعود إلى الله.
{اللَّيْلَ} : مفعول به أول. {النَّهارَ} : مفعول به ثان، والأول فاعل على المعنى، والثاني مفعول، والعكس صحيح، كما في قولك:(أعطيت زيدا عمرا) وجملة: {يُغْشِي..} . إلخ في محل نصب حال من فاعل {جَعَلَ} المستتر، والرابط الضمير فقط.
{إِنَّ} : حرف مشبه بالفعل. {فِي} : حرف جر. {ذلِكَ} : اسم إشارة مبني على السكون في محل جر ب {فِي،} واللام للبعد، والكاف حرف خطاب لا محل له، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف في محل رفع خبر {إِنَّ} تقدم على اسمها. {لَآياتٍ}: اسم {إِنَّ} مؤخر منصوب، وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مؤنث سالم، واللام لام الابتداء.
{لِقَوْمٍ} : متعلقان بمحذوف صفة (آيات) وجملة: {يَتَفَكَّرُونَ} في محل جر صفة (قوم)، والجملة الاسمية:{إِنَّ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها.
الشرح: {وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ} أي: متقاربات بعضها من بعض، وهي مختلفة في الطبائع، فهذه طيبة تنبت، وهذه سبخة لا تنبت، وهذه رخوة، وهذه صلبة، وهذه حمراء، وهذه بيضاء، وهذه صفراء، وهذه سوداء
…
إلخ. {وَجَنّاتٌ} أي: وبينهما جنات، أي: بساتين، والجنة: كل بستان ذي شجر من نخيل وأعناب، وغير ذلك، سمي جنة؛ لأنه يستر بأشجاره الأرض. {وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ}: جمع صنو، وهي النخلات يجتمعن من أصل واحد، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم في عمه العباس:«عمّ الرّجل صنو أبيه» . يعني أنهما من أصل واحد. {وَغَيْرُ صِنْوانٍ} :
هي النخلة المنفردة بأصلها، فالصنوان: المجتمع، وغير الصنوان: المتفرق، ومفرده: صنو،
وتثنيته: صنوان، فلا فرق بين لفظ التثنية والجمع إلا بالإعراب، فتضم النون في الجمع، وتكسر بالتثنية، قال الشاعر:[المنسرح]
العلم والحلم خلّتا كرم
…
للمرء زين إذا هما اجتمعا
صنوان لا يستتمّ حسنهما
…
إلاّ بجمع هذا، وذاك معا
وقال آخر: [الوافر]
أتتركني وأنت أخي وصنوي؟
…
فيا للنّاس للأمر العجيب
هذا؛ و {صِنْوانٌ} بضم الصاد وكسرها، ومثله {قِنْوانٌ} المذكورة في الآية رقم [99] من سورة (الأنعام) وهما اسما جمع لا جمعا تكسير. {يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ} يقرأ الفعل بالتاء وبالياء، والمعنى: جميع الأشجار والزروع، والنباتات تشرب من ماء واحد. {وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ} أي: في الطعم ما بين الحلو والحامض، وكذلك في الشكل، والحجم، والرائحة، وما أجدرك أن تلاحظ هذا المعنى في بني آدم، أصلهم واحد، وهو آدم، وهم مختلفون في الخير، والشر، والإيمان، والكفر، والنفع، والضر، كاختلاف الثمار التي تسقى بماء واحد، ومنه قول الشاعر:[الرجز]
النّاس كالنّبت، وهم ألوان
…
منها شجر الصّندل والبان
وشجر طول الدّهر قطران
{إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} أي: يفهمون ويستعملون عقولهم، ويتدبرون، ويتفكرون في الآيات الدالة على وحدانية الله وعظيم قدرته، وانظر الآية السابقة، هذا؛ و (نخيل) اسم جمع لا واحد له من لفظه، كقوم ورهط، وأما نخل فهو اسم جنس جمعي، يفرق بينه وبين واحده بالتاء، وهو نخلة، كتمر وتمرة، وفي مختار الصحاح: النخل والنخيل بمعنى واحد، والواحدة نخلة، وما ألطف قول الشاعر في التورية:[الوافر]
رأيت بها قضيبا فوق دعص
…
عليه النّخل أينع والكروم
فقد ورّى عن المرأة بالقضيب، وعن الحلي بالنخل، وعن قلائدها بالكروم، والدعص (بكسر الدال) قطعة من الرمل مستديرة.
الإعراب: {وَفِي الْأَرْضِ} : الواو: حرف استئناف. {وَفِي الْأَرْضِ} : متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {قِطَعٌ} : مبتدأ مؤخر. {مُتَجاوِراتٌ} : صفة قطع، والجملة الاسمية مستأنفة لا محل لها.
{وَجَنّاتٌ} : معطوف على قطع، أو على تقدير وبينهما جنات، فيكون مبتدأ خبره محذوف، وهو
متعلق الظرف، هذا؛ ويقرأ {(وَجَنّاتٌ)} بكسر التاء، على تقدير: وجعل فيها جنات، فيكون مفعولا به لهذا المقدر، كما قرئ:«(وفي الأرض قطعا متجاورات)» على تقدير نفس الفعل، وجوز اعتباره مجرورا بالحمل على (كلّ)؛ التقدير: ومن كل الثمرات، ومن جنات، وهو ضعيف والمعنى لا يؤيده، {مِنْ أَعْنابٍ}: متعلقان بمحذوف صفة جنات. {وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ} معطوفان بالرفع على جنات على تقدير: وفي الأرض زرع ونخيل، وقرئا بالجر عطفا على الأعناب، وأجيز عطفهما على كل، وهو ضعيف كما رأيت، ولم يقرأ بالنصب. {صِنْوانٌ}: صفة نخيل. {وَغَيْرُ} : معطوف عليه، و (غير): مضاف، و {صِنْوانٌ}: مضاف إليه. {يُسْقى} : مضارع مبني للمجهول مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف، ونائب الفاعل مستتر تقديره:«هو» يعود إلى ما ذكر، أو (هو) يعود إلى جنات، وما عطف عليها. {بِماءٍ}: متعلقان بما قبلهما. {واحِدٍ} : صفة ماء، والجملة الفعلية صفة (زرع) و (نخيل). أو صفة جنات وما عطف عليها، والرابط على الاعتبارين: الضمير فقط.
{وَنُفَضِّلُ} : مضارع، وفاعله مستتر تقديره:«نحن» ، وهو يعود إلى الله، {بَعْضَها}: مفعول به، و (ها): في محل جر بالإضافة، {عَلى بَعْضٍ}: متعلقان بالفعل قبلهما، {فِي الْأُكُلِ}: متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من بعضها، وجملة:{وَنُفَضِّلُ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، فهي صفة مثلها، والرابط: الضمير المجرور محلاّ بالإضافة. {إِنَّ فِي ذلِكَ..} . إلخ إعراب هذه الجملة مثل إعراب ما قبلها في الآية السابقة، ومحلها مثلها أيضا.
{وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذا كُنّا تُراباً أَإِنّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ..} .
الشرح: {وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ} أي: إن تعجب يا محمد من تكذيبهم لك بعد ما كنت عندهم الصادق الأمين، فأعجب منه تكذيبهم بالبعث، والحشر، والنشر، والحساب بعد الموت، والله تعالى لا يتعجب، ولا يجوز عليه التعجب؛ لأنه يغير النفس بما تخفى أسبابه كما رأيت في الآية رقم [73] من سورة (هود) عليه السلام، وإنما ذكر ذلك ليتعجب منه نبيّه والمؤمنون. {أَإِذا كُنّا تُراباً}: أي: أنبعث إذا كنا ترابا بعد الموت {أَإِنّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} : أي:
أنعاد بعد الموت خلقا جديدا، كما كنا قبله؟ وهذا جهل منهم كبير؛ لأنهم يعترفون بأن الخالق لهم هو الله، وينكرون البعث بعد الموت، وليست الإعادة بأصعب من الإيجاد بعد العدم، هذا؛ ويقرأ الكلام بقراءات كثيرة، فجملتها تسع، وكلها سبعية.
الإعراب: {وَإِنْ} : الواو: حرف استئناف. (إن): حرف شرط جازم. {تَعْجَبْ} : مضارع فعل الشرط، والفاعل مستتر فيه تقديره:«أنت» ، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال:
لأنها جملة شرط غير ظرفي. {فَعَجَبٌ} : الفاء: واقعة في جواب الشرط. (عجب): مبتدأ.
{قَوْلُهُمْ} : خبره، ويجوز العكس، والهاء في محل جر بالإضافة، من إضافة المصدر لفاعله، {أَإِذا}
: الهمزة: حرف استفهام. (إذا): ظرف لما يستقبل من الزمان، خافض لشرطه، منصوب بجوابه، صالح لغير ذلك، مبني على السكون في محل نصب. {كُنّا}: ماض ناقص، مبني على السكون، و (نا): اسمها. {تُراباً} : خبرها، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة (إذا) إليها على القول المرجوح المشهور، وجواب (إذا) محذوف دل عليه الجملة الآتية، التقدير: أإذا كنا ترابا نبعث، ولا يجوز أن يعمل فيها {خَلْقٍ جَدِيدٍ؛} لأن ما بعد (إن) لا يعمل فيما قبلها، وينبغي أن تعلم أن (إذا) هنا ظرف مجرد عن الشرطية؛ إذ التقدير: أنبعث إذا كنا
…
إلخ، وهذا قول غير سيبويه، أما هو فيعتبرها شرطية، وهو الوجه الأول من الإعراب. و (إذا) ومدخولها بدل من {قَوْلُهُمْ} أو هو تفسير له، أو هو في محل نصب مقول القول. {أَإِنّا}: حرف مشبه بالفعل، و (نا): اسمها. {لَفِي خَلْقٍ} : اللام هي المزحلقة. (فى خلق): متعلقان بمحذوف خبر (إن). {جَدِيدٍ} : صفة خلق، والجملة الاسمية:{أَإِنّا..} . إلخ مؤكدة لما قبلها، والاستفهام فيها مبالغة في الإنكار، وبدون الاستفهام حصل الإنكار بالأولى، وهذه مرتبطة فيها، فالإنكار بالأولى إنكار فيها أيضا، والجملة الاسمية:{فَعَجَبٌ..} . إلخ في محل جزم جواب الشرط عند الجمهور، والدسوقي يقول لا محل لها؛ لأنها لم تحل محل المفرد، وإن ومدخولها كلام مستأنف لا محل له.
{
…
أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ} الشرح: {أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ} : لأنهم كفروا بقدرته على البعث بعد الموت، وذلك في قولهم السابق، ومن أنكر اليوم الآخر، وما فيه من الحساب والجزاء، فهو كافر بالله تعالى. {وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ} أي: يوم القيامة يطوقون بالأغلال، وقيل: معناه مقيدون بالضلالة لا يجرى خلاصهم منها، وقيل: المراد بالأغلال: ذلهم وانقيادهم يوم القيامة، والأغلال جمع غل، وهو طوق من حديد تشدّ به اليد إلى العنق. {وَأُولئِكَ أَصْحابُ النّارِ}: انظر شرح (صاحب) في الآية رقم [39] من سورة (يوسف) عليه السلام، هذا؛ وقد جعل الكفار أصحاب النار بمعنى مالكيها، لملازمتهم لها وعدم انفكاكهم عنها، وقل مثله في أصحاب الجنة. {خالِدُونَ}: مقيمون لا يخرجون، ماكثون أبدا لا يموتون، ولا يفنون.
الإعراب: {أُولئِكَ} : اسم إشارة مبني على الكسر في محل رفع مبتدأ، والكاف حرف خطاب لا محل له. {الَّذِينَ}: اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع خبر المبتدأ، وجملة:{كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ} صلة الموصول لا محل لها، والجملة الاسمية:{أُولئِكَ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها، (أولئك): مبتدأ أول. {الْأَغْلالُ} : مبتدأ ثان. {فِي أَعْناقِهِمْ} : جار
ومجرور متعلقان بمحذوف خبر {الْأَغْلالُ} والهاء ضمير متصل في محل جر بالإضافة، والجملة الاسمية:{الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ} في محل رفع خبر المبتدأ الأول، والجملة الاسمية:
(أولئك
…
) إلخ معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها.
والجملة الاسمية: {وَأُولئِكَ أَصْحابُ النّارِ} معطوفة على ما قبلها لا محل لها أيضا. {قَوْلُهُمْ} :
ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {فِيها} : متعلقان بما بعدهما. {خالِدُونَ} :
خبر المبتدأ مرفوع
…
إلخ، والجملة الاسمية في محل نصب حال من {أَصْحابُ النّارِ} أو من النار نفسها، والعامل في الحال اسم الإشارة، والرابط الضمير على الاعتبارين، وفيها معنى التأكيد للكلام السابق، وجوز اعتبارها خبرا ثانيا ل (أولئك)، والأول أقوى.
الشرح: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ} أي: يطلب منك يا محمد كفار قريش والمكذبون لك إنزال الهلاك بهم، وذلك حين هددهم الرسول صلى الله عليه وسلم بنزول العذاب بهم، وطلبوا ذلك استهزاء منهم، خذ قوله تعالى:{وَإِذْ قالُوا اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ،} هذه الآية رقم [32] من سورة (الأنفال). {قَبْلَ الْحَسَنَةِ} : المراد بها هنا:
الإيمان. وقيل: المراد بها العافية من البلاء، وقد قضى سبحانه وحكم بتأخير العذاب عن هذه الأمة إلى يوم القيامة، وانظر الآية رقم [11] من سورة (يونس) عليه السلام وشرحها. {وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ} أي: وقد مضت العقوبات والهلاك بالمكذبين قبلهم، فما لهم لم يعتبروا بها، ولم يجوزوا نزول مثلها بهم؟! هذا؛ والمثلات جمع: مثلة، وهي نقمة تنزل بالإنسان، فيكون مثالا وعبرة لمن يعتبر، وقال ابن الأنباري: المثلة كسحرة: العقوبة، التي تبقي في المعاقب شيئا بتغيير بعض خلقه من قولهم: مثّل فلان بفلان، إذا شان خلقه، بقطع أنفه، أو سحل عينه، أو جدع أذنه، أو بقر بطنه، هذا؛ ويقرأ بفتح الميم وضمها، وسكون الثاء وفتحها وضمها.
{وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ} أي: صاحب عفو، وتجاوز عن المشركين؛ إذا آمنوا وعن المذنبين؛ إذا تابوا، وأنابوا. {وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ}: لمن أصر على الكفر، أو أصر على اجتراح السيئات، وفعل المنكرات من المسلمين.
هذا؛ وروى حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن سعيد بن المسيب قال: لما نزلت: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ..} . إلخ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لولا عفو الله ورحمته وتجاوزه؛ لما هنأ أحدا عيش، ولولا عقابه، ووعيده، وعذابه، لاتّكل كلّ أحد» . وانظر الآية رقم [61] من سورة (النحل).
الإعراب: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ} : الواو: حرف استئناف. (يستعجلونك): مضارع مرفوع
…
إلخ، والواو فاعله، والكاف مفعول به، والجملة الفعلية مستأنفة لا محل لها. {بِالسَّيِّئَةِ}: متعلقان بالفعل قبلهما. {قَبْلَ} : ظرف زمان متعلق بالفعل قبله، أو هو متعلق بمحذوف حال من السيئة، و (قبل) مضاف، و {الْحَسَنَةِ}: مضاف إليه. {وَقَدْ} : الواو: واو الحال. (قد): حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال. {خَلَتْ} : ماض مبني على فتح مقدر على الألف المحذوفة لالتقائها ساكنة مع تاء التأنيث الساكنة. {مِنْ قَبْلِهِمُ} : متعلقان بالفعل قبلهما، والهاء في محل جر بالإضافة. {الْمَثُلاتُ}: فاعل خلت، والجملة الفعلية في محل نصب حال من واو الجماعة، والرابط: الواو، والضمير، وأجيز اعتبارها مستأنفة لا محل لها. {وَإِنَّ}: الواو: واو الحال.
(إن): حرف مشبه بالفعل. {رَبَّكَ} : اسم (إنّ)، والكاف في محل جر بالإضافة من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {لَذُو}: خبر (إن) مرفوع، وعلامة رفعه الواو نيابة عن الضمة؛ لأنه من الأسماء الخمسة، واللام هي المزحلقة، و (ذو) مضاف، و {مَغْفِرَةٍ}: مضاف إليه. {لِلنّاسِ} : متعلقان بمغفرة، أو بمحذوف صفة له. {عَلى ظُلْمِهِمْ}: متعلقان بمحذوف حال من الناس، والعامل فيها {مَغْفِرَةٍ} لأنه مصدر، والهاء في محل جر بالإضافة من إضافة المصدر لفاعله، والجملة الاسمية:{وَإِنَّ رَبَّكَ..} . إلخ في محل نصب حال من كاف الخطاب، والرابط:
الواو، والضمير، ويجوز اعتبارها مستأنفة لا محل لها، والجملة الاسمية:{وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ} معطوفة على ما قبلها على الوجهين المعتبرين فيها، و (شديد) مضاف، و {الْعِقابِ}:
مضاف إليه، من إضافة الصفة المشبهة لفاعلها؛ إذ الأصل: شديد عقابه.
الشرح: {وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا} أي: كفار قريش. {لَوْلا} : هلا. {لا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ} أي: مثل عصا موسى، وناقة صالح، ونحو ذلك، وذلك لعدم اعتدادهم بما رأوا من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم. {إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ} أي: مرسل للإنذار كغيرك من الرسل، وليس لك من إنزال الآيات شيء. {وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ} أي: نبي مخصوص بمعجزات من جنس ما هو الغالب عليهم، كعصا موسى بالنسبة للسحر الذي برع به قومه، وإبراء الأكمه والأبرص بالنسبة للطب الذي برع به قوم عيسى، وقيل: المراد بالهادي الله تعالى، فهو يهدي من يشاء هدايته بما ينزل من آيات.
الإعراب: {وَيَقُولُ} : الواو: حرف استئناف. (يقول): مضارع. {الَّذِينَ} : فاعله مبني على الفتح في محل رفع. وجملة: {كَفَرُوا} مع المتعلق المحذوف صلة الموصول، وجملة: (يقول
…
) إلخ مستأنفة لا محل لها. {لَوْلا} : حرف تحضيض. {أُنْزِلَ} : ماض مبني للمجهول. {عَلَيْهِ} :
متعلقان بما قبلهما. {آيَةٌ} : نائب فاعل. {مِنْ رَبِّهِ} : متعلقان بمحذوف صفة {آيَةٌ} والهاء في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه، وجملة:{أُنْزِلَ..} . إلخ في محل نصب مقول القول. {إِنَّما} : كافة ومكفوفة. {أَنْتَ مُنْذِرٌ} : مبتدأ وخبر، والجملة الاسمية مستأنفة لا محل لها. (لكل): متعلقان بمحذوف خبر مقدم، و (كل): مضاف، و {قَوْمٍ}: مضاف إليه. {هادٍ} : مبتدأ مؤخر مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء المحذوفة لالتقاء الساكنين، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها لا محل لها مثلها، وأجيز اعتبارها مستأنفة، كما قيل (لكل) متعلقان ب {هادٍ،} وهو خبر لمبتدإ محذوف، التقدير: وهو هاد لكل قوم.
الشرح: {اللهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى} قال الخازن: لما سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم الآيات؛ أخبرهم الله عن عظيم قدرته، وكمال علمه، وأنه عالم بما تحمل كل أنثى، يعني: من ذكر أو أنثى، سويّ الخلق، أو ناقص الخلق، واحدا، أو اثنين أو أكثر. انتهى. وأضيف: ما تحمل كل أنثى من صبيح وقبيح، من أبيض وأسود
…
إلخ. {وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ} أي: وما تنقصه وما تزداد في الجثة والمدة والعدد، هذا؛ وقد قالوا: غيض الأرحام: الحيض على الحمل، فإذا حاضت الحامل كان نقصانا في الولد؛ لأن دم الحيض هو غذاء الولد في الرحم، فإذا خرج الدم نقص الغذاء فينقص الولد، وإذا لم تحض يزداد الولد ويتم خلقه، هذا؛ والأرحام جمع: رحم، وهو مستودع الجنين في بطن الأنثى الحبلى من الإنسان والحيوان، والرحم أيضا:
القرابة، وجمعهما الأرحام، وانظر {وَغِيضَ الْماءُ} في الآية رقم [44] من سورة (هود) عليه السلام. {وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ} أي: بقدر لا يجاوزه ولا ينقص عنه، قال تعالى:{إِنّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ} فإن الله تعالى قد خص كل حادث بحال ووقت معينين بمشيئته الأزلية، وإرادته السرمدية، وهيأ له أسبابا مسوقة إليه تقتضي ذلك، وما أحوجك أن تنظر الآية رقم [59] من سورة (الأنعام)، وما ذكرته فيها، وخذ ما يلي: فعن عبد الله بن عمرو-رضي الله عنهما، قال:
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «كتب الله مقادير الخلق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء» . أخرجه مسلم، هذا؛ ولا تنس ما في الآية الكريمة من الطباق والمقابلة بين {تَغِيضُ} و {تَزْدادُ} وهو من المحسنات البديعية.
الإعراب: {اللهُ} : مبتدأ. {يَعْلَمُ} : مضارع، والفاعل يعود إلى {اللهُ}. {ما}: تحتمل الموصولة، والموصوفة، والمصدرية، فعلى الأولين مبنية على السكون في محل نصب مفعول
به، والجملة الفعلية بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد أو الرابط محذوف، التقدير: الله يعلم الذي، أو شيئا تحمله. {كُلُّ}: فاعله، و {كُلُّ}: مضاف، و {أُنْثى}: مضاف إليه مجرور، وعلامة جره كسرة مقدرة على الألف، هذا؛ وعلى اعتبار {ما} مصدرية تؤول مع الفعل بعدها بمصدر في محل نصب مفعول به، التقدير: الله يعلم حمل كل أنثى، وأضيف أنه أجيز اعتبار {ما} استفهامية مبنية السكون في محل نصب مفعول به مقدم ل {تَحْمِلُ} وهي معلقة للفعل {يَعْلَمُ} عن العمل، فتكون الجملة الفعلية في محل نصب مفعول به، وأراه ضعيفا، وأعتمد الاعتبارات الأولى في {ما}. وجملة:{يَعْلَمُ..} . إلخ في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية:{اللهُ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها. هذا؛ وقل في الجملتين: {وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ} كل ما قلته في الجملة السابقة من الاعتبارات، ولعلك تدرك معي أن الأفعال تكون لازمة على اعتبار (ما) مصدرية، ومتعدية على الاعتبارات الأخرى. {وَكُلُّ}: الواو:
واو الحال. (كل): مبتدأ، وهو مضاف {شَيْءٍ}: مضاف إليه. {عِنْدَهُ} : ظرف مكان متعلق بمحذوف صفة شيء، أو صفة كل، أو هو متعلق بمحذوف خبر أول للمبتدإ وأجيز تعليقه ب (مقدار) بعده. بمقدار: متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ، أو بمحذوف خبر ثان له. تأمل.
والجملة الاسمية (كل
…
) إلخ في محل نصب حال من فاعل {يَعْلَمُ} المستتر، والرابط:
الواو، والضمير المجرور محلاّ بالإضافة، وإن اعتبرتها مستأنفة فلا محل لها. تأمل.
{عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ (9)}
الشرح: {عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ} أي: يعلم سبحانه ما غاب عن أبصار عباده، وما يشاهدونه بحواسهم، فلا يغيب عن علمه شيء في الأرض، ولا في السماء، وهو السميع العليم، فنبه سبحانه على انفراده بعلم الغيب، والإحاطة بالباطن الذي يخفى على الخلق، فلا يجوز أن يشاركه فيه أحد من خلقه. {الْكَبِيرُ}: العظيم الذي يصغر كل كبير بالإضافة إلى عظمته وكبريائه، فيمتنع أن يكون كبيرا بحسب الجثة والمقدار.
{الْمُتَعالِ} : المستعلي على عباده بالقهر والقدرة، وأيضا المنزه عما يصفه الكافرون من صفات النقصان كنسبة الولد إليه وغير ذلك.
الإعراب: {عالِمُ} : خبر لمبتدإ محذوف، التقدير: هو عالم، و {عالِمُ}: مضاف، و {الْغَيْبِ}: مضاف إليه، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {وَالشَّهادَةِ}:
معطوف على ما قبله. {الْكَبِيرُ} : خبر ثان للمبتدإ المحذوف. {الْمُتَعالِ} : خبر ثالث مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء المحذوفة، وبعضهم يثبتها، والجملة الاسمية:
{عالِمُ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها.
الشرح: {سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ} أي: مستو منكم من أخفى القول وكتمه، ومن أظهره، وأعلنه. {وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ} أي: مستتر بظلمته، {وَسارِبٌ بِالنَّهارِ} أي: ذاهب في النهار في سربه، أي: طريقه، ومعنى الآية: سواء ما أضمرت القلوب، أو نطقت به الألسن، وسواء من أقدم على القبائح مستترا في ظلمات الليل، أو أتى بها ظاهرا في النهار، فإن علمه تعالى محيط بالجميع، هذا؛ و {وَسارِبٌ} اسم فاعل من سرب في الأرض سروبا من بابي: قعد، وذهب، والسرب بكسر السين: الطريق، والنفس أيضا، قال الرسول صلى الله عليه وسلم:«من أصبح معافى في بدنه، آمنا في سربه، عنده قوت يومه فقد ملك الدّنيا بحذافيرها» . والسرب بكسر السين أيضا: القطيع من القطا، والظباء، والوحش، والنخل، والخيل، والحمر، والنساء. هذا؛ ولا تنس ما في الآية من الطباق والمقابلة بين أسرّ وجهر، وبين مستخف وسارب، وهذا من المحسنات البديعية.
هذا؛ و {سَواءٌ} : مصدر بمعنى الاستواء، فلذا صح الإخبار به عن متعدد في كثير من الآيات، وقيل: هو بمعنى مستو، وهو لا يثنى، ولا يجمع، قالوا: هما وهم سواء، فإذا أرادوا لفظ المثنى، قالوا: سيان، وإن شئت قلت: سواءان، وفي الجمع: هم أسواء، وهذا كله ضعيف ونادر، وأيضا على غير القياس: هم سواس، وسواسية، أي: متساويان ومتساوون، هذا؛ والسواء أيضا: العدل والوسط، كما في قوله تعالى:{وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ} .
الإعراب: {سَواءٌ} : خبر مقدم. {مِنْكُمْ} : متعلقان بمحذوف حال من الضمير المستتر في {سَواءٌ} . {مَنْ} : اسم موصول مبني على السكون في محل رفع مبتدأ مؤخر، هذا؛ ويجوز اعتبار {سَواءٌ} مبتدأ سوغ الابتداء به تعليق {مِنْكُمْ} بمحذوف صفة له، ويكون {مَنْ} خبره، وجملة:{أَسَرَّ الْقَوْلَ} صلة من، والعائد رجوع الفاعل عليه، و (من) الثانية معطوفة على ما قبلها على الاعتبارين فيها، وجملة:{جَهَرَ بِهِ} صلته أيضا، والعائد رجوع الفاعل أيضا. (من):
اسم موصول معطوف على ما قبله، {هُوَ}: ضمير منفصل مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ.
{مُسْتَخْفٍ} : خبر مرفوع وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء المحذوفة لالتقاء الساكنين، والجملة الاسمية صلة الموصول، هذا؛ ويجوز اعتبار {مَنْ} في المواضع الثلاثة نكرة موصوفة، فتكون الجملة صفتها، والرابط: رجوع الفاعل إليها. {بِاللَّيْلِ} : متعلقان بمستخف: {وَسارِبٌ} :
معطوف على {مُسْتَخْفٍ،} فهو على تقدير: ومن هو سارب. {بِالنَّهارِ} : متعلقان بسارب، وفيه وفي {مُسْتَخْفٍ} ضمير مستتر هو فاعلهما.
الشرح: {لَهُ} : الضمير يعود إلى {مِنْ} في الآية السابقة بمعانيه الأربعة. {مُعَقِّباتٌ} أي: ملائكة يتعاقبون بالليل والنهار، فإذا صعدت ملائكة الليل أعقبتها ملائكة النهار، وقال:
معقبات والملائكة ذكران؛ لأنه جمع: معقبة، يقال: ملك معقب، وملائكة معقبة، ثم {مُعَقِّباتٌ} جمع الجمع، هذا؛ ويقرأ:«(له معاقيب)» وهو جمع: معقب، والمراد بالمعقبات:
الملائكة الحفظة الموكلون بحفظ ابن آدم ذكر، أو أنثى، وقيل: بل المراد: الملكان الموكلان بكتابة الأعمال، صالحها وسيئها، حسنها وقبيحها، فكاتب الحسنات على اليمين، وهو أمين على كاتب السيئات الذي على الشمال. فإذا عمل العبد حسنة؛ كتبها له بعشر أمثالها، وإذا عمل سيئة، قال صاحب الشمال لصاحب اليمين: أكتبها عليه فيقول: أنظره، لعله يتوب، لعله يستغفر. فيستأذنه ثلاث مرات، فإن هو تاب منها، وإلا؛ قال: اكتبها عليه سيئة واحدة.
فعن أبي هريرة-رضي الله عنه-أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يتعاقبون فيكم ملائكة باللّيل، وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر، ثمّ يعرج الذين باتوا فيكم، فيسألهم، وهو أعلم بكم كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: تركناهم، وهم يصلّون، وأتيناهم وهم يصلّون» . وهذا يشمل جميع الملائكة الذين يكتبون، أو يحفظون.
هذا، وقيل: إن الضمير في {لَهُ} يعود إلى الله، وقال الخازن: الضمائر تعود إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وأورد قصة عامر بن الطفيل، وأربد بن ربيعة. {مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ}: من أمامه. {وَمِنْ خَلْفِهِ} : من وراء ظهره. {يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ} أي: بأمر الله وإذنه ما لم يجئ القدر، فإذا جاء تخلّوا عنه لينفذ أمر الله وقضاؤه، وهذا يؤيد: أن المراد بالمعقبات الحفظة، لا الكتبة، قال كعب بن الأحبار: لولا أن الله وكل بكم ملائكة يذبون عنكم في مطعمكم ومشربكم، وعوراتكم؛ لتخطفتكم الجن، وقيل: معنى يحفظونه: يحفظون عليه الحسنات والسيئات، ولا أعتمده.
{إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ} أي: ما هم فيه من النعمة والعافية التي أنعم بها عليهم.
{حَتّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ} أي: من الأحوال الجميلة بالأحوال القبيحة، فيعصون ربهم، ويجحدون نعمه، فعند ذلك تحل بهم نقمته. وكل المفسرين قالوا هذا، وأرى أن العكس صحيح، أي: إذا نزل بقوم شر وبلاء، وسلبهم النعمة والرخاء، وذلك بسبب المعاصي والمنكرات، فلا يرفع الله عنهم ذلك، ويعيد إليهم نعمتهم المسلوبة، ورخاءهم الضائع حتى
يتركوا ما هم فيه من الشر والفساد، وما حاضر المسلمين اليوم منك ببعيد، فإذا أرادوا أن يعود إليهم مجدهم الضائع، وكرامتهم المهدورة، فعليهم أن يرجعوا إلى ربهم، وسنة نبيهم، وهدي كتابهم، وخذ هذا الحديث الشريف، فإنه أكبر دليل على ما أقول: عن عبد الله بن عمر-رضي الله عنهما-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزّرع، وتركتم الجهاد في سبيل الله، سلّط الله عليكم ذلاّ، لا ينزعه عنكم حتّى ترجعوا إلى دينكم» .
رواه أبو داود وغيره.
{وَإِذا أَرادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً} : هلاكا، أو عذابا، أو ذلة، أو بلاء من أمراض، وأسقام. {فَلا مَرَدَّ لَهُ} أي: فلا مرد ولا دافع لما أراد الله عز وجل. {وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ} أي: يلي أمرهم، فيدفع عنهم السوء، وفيه دليل قاطع على أن خلاف مراد الله تعالى محال.
الإعراب: {لَهُ} : متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {مُعَقِّباتٌ} : مبتدأ مؤخر. {مِنْ بَيْنِ} :
متعلقان بمحذوف صفة {مُعَقِّباتٌ} أو هما متعلقان به، ويجوز أن يكونا متعلقين بمحذوف حال من الضمير المستتر في الخبر المحذوف، وهو متعلق {لَهُ} والكلام على هذه الأوجه يتم عند قوله:{خَلْفِهِ} ويجوز أن يتعلقا بالفعل بعدهما، و {بَيْنِ}: مضاف، و {يَدَيْهِ}: مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الياء نيابة عن الكسرة؛ لأنه مثنى لفظا، والهاء في محل جر بالإضافة.
{وَمِنْ خَلْفِهِ} : معطوفان على ما قبلهما. {يَحْفَظُونَهُ} : مضارع مرفوع
…
إلخ، والواو فاعله، والهاء مفعوله، والجملة الفعلية مستأنفة على الأوجه الأولى في متعلق الجار والمجرور {مِنْ بَيْنِ} وهي في محل رفع صفة {مُعَقِّباتٌ} على اعتبارهما متعلقين بالفعل بعدهما. {مِنْ أَمْرِ}:
متعلقان بالفعل قبلهما، و (أمر) مضاف، و {اللهِ}: مضاف إليه من إضافة المصدر لفاعله.
{إِنَّ} : حرف مشبه بالفعل. {اللهِ} : اسمها. {لا} : نافية. {يُغَيِّرُ} : مضارع، والفاعل يعود إلى {اللهِ،} {ما} : اسم موصول أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل نصب مفعول به. {بِقَوْمٍ} : متعلقان بمحذوف صلة {ما،} أو بمحذوف صفتها، وجملة:{لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ} في محل رفع خبر {إِنَّ،} والجملة الاسمية: {إِنَّ اللهَ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها.
{حَتّى} : حرف غاية وجر. {يُغَيِّرُوا} : مضارع منصوب ب «أن» مضمرة بعد {حَتّى} وعلامة نصبه حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق {ما بِأَنْفُسِهِمْ} مثل {ما بِقَوْمٍ} و «أن» المضمرة بعد {حَتّى} والمضارع في تأويل مصدر في محل جر ب {حَتّى،} والجار والمجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {وَإِذا} : الواو: حرف استئناف. (إذا): انظر الآية رقم [5]، والجملة الفعلية:{وَإِذا أَرادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً} في محل جر بإضافة إذا إليها
…
إلخ. {فَلا} : الفاء: واقعة في جواب إذا. (لا): نافية للجنس تعمل عمل إن. {مَرَدَّ} : اسم (لا) مبني على الفتح في محل نصب.
{لَهُ} : متعلقان بمحذوف خبر (لا)، والجملة الاسمية:{فَلا مَرَدَّ لَهُ} . جواب (إذا) لا محل لها، و (إذا) ومدخولها كلام مستأنف لا محل له. {وَما}: الواو: واو الحال. (ما): نافية.
{لَهُمْ} : متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {مِنْ دُونِهِ} : متعلقان بالخبر المحذوف هما متعلقان بمحذوف خبر ثان، فيكون الخبر قد تعدد، وهو شبه جملة، أو هما متعلقان بمحذوف حال من الضمير المستتر في الخبر المحذوف. {مِنْ}: حرف جر صلة. {والٍ} : مبتدأ مؤخر مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على آخره منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد، وهذا الاسم دخله الإعلال كما في {ناجٍ} في الآية رقم [42] من سورة (يوسف) عليه السلام، والجملة الاسمية:{وَما لَهُمْ..} . إلخ في محل نصب حال من قوم، والرابط: الواو، والضمير هذا؛ ومجيء الحال من النكرة على حد قوله تعالى في سورة (البقرة) رقم [258]:{أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها} . هذا؛ ويجوز اعتبارها معطوفة على جواب (إذا)، واعتبارها مستأنفة، ولا محل لها على الاعتبارين، والاستئناف أقوى من كل الوجوه.
{هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ (12)}
الشرح: {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ} : البرق: مصدر برق يبرق: إذا لمع، والرعد:
مصدر رعد يرعد، وهما معروفان ومشاهدان للناس جميعا، وتفسيرهما في الشرع غير تفسيرهما وشرحهما في العلم الحديث. {خَوْفاً وَطَمَعاً}: هذا الخوف والطمع من رؤية البرق يكون من وجوه؛ الأول: عند لمعان البرق يخاف من الصواعق، ويطمع في نزول المطر.
الثاني: أنه يخاف من البرق من يتضرر بالمطر كالمسافر ومن على بيدره التمر والزبيب والقمح ونحو ذلك، ويطمع فيه من له في نزول المطر نفع كالزراع ونحوهم. الثالث: أن المطر يخاف منه إذا كان في غير مكانه وزمانه، ويطمع فيه إذا كان في مكانه وزمانه المناسبين لسقوطه، وخذ قول أبي الطيب في ممدوحه:[الطويل]
فتى كالسّحاب الجون يخشى ويرتجى
…
يرجّى الحيا منه، وتخشى الصّواعق
هذا؛ وقيل: خوفا أن يكون البرق برقا خلبا لا يمطر، وطمعا أن يكون ممطرا، قاله ابن بحر، وأنشد قول الشاعر:[الرمل]
لا يكن برقك برقا خلّبا
…
إنّ خير البرق ما الغيث معه
والبرق الخلّب: الذي لا غيث فيه كأنه خادع. ومنه قيل لمن يعد ولا ينجز: إنما أنت كبرق خلّب، والخلّب أيضا: السحاب الذي لا مطر فيه.
هذا؛ وأصل الخوف انزعاج في الباطن، يحصل من توقع أمر مكروه يقع في المستقبل، وأما التّخوّف فإنه يأتي بمعنى التنقص، كما في قوله تعالى:{أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ} يروى: أن الفاروق رضي الله عنه، قال على المنبر: ما تقولون في قوله تعالى: {أَوْ}
يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ فسكتوا، فقام شيخ من هذيل، وقال: هذه لغتنا، التخوّف التنقّص، قال: فهل تعرف العرب هذا في أشعارهم؟ قال: نعم، قال شاعرنا أبو كبير الهذلي:[البسيط]
تخوّف الرحل منها تامكا قردا
…
كما تخوّف عود النّبعة السّفن
فقال عمر-رضي الله عنه: أيها الناس عليكم بديوانكم لا تضلوا، قالوا: وما ديواننا؟ قال:
شعر الجاهلية فإن فيه تفسير كتابكم، ومعاني كلامكم. هذا؛ ويأتي الخوف بمعنى العلم، وبه قيل في قوله تعالى:{فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً..} . إلخ الآية رقم [181] من سورة (البقرة)، وفي قوله تعالى:{إِلاّ أَنْ يَخافا أَلاّ يُقِيما حُدُودَ اللهِ..} . إلخ الآية رقم [228] من سورة (البقرة).
هذا؛ والطمع: نزوع النفس إلى الشيء المحبوب والحرص على حصوله في المستقبل.
{وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ} أي: ويخلق الله الغيوم ويظهرها، والسحاب غربال الماء، قاله علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، هذا؛ وقيل: السحاب الغيم فيه ماء، أو لم يكن فيه ماء، ولهذا قيل:
سحاب جهام، وهو الخالي من الماء، وأصل السحب: الجر، وسمي السحاب سحابا، إما لجر الريح له، أو لجره الماء، أو لانجراره في سيره، هذا؛ ووصفه الله بالثقال لثقله بالماء الذي يحمله إلى حيث شاء الله الخلاق العظيم، وما أحراك أن تنظر الحديث الذي ذكرته في الآية رقم [3]. هذا؛ والسحاب اسم جنس، واحده سحابة، فذلك وصف بالجمع، وهو الثقال جمع ثقيلة، وتجمع السحابة على سحاب وسحائب وسحب.
الإعراب: {هُوَ الَّذِي} : مبتدأ وخبر. {يُرِيكُمُ} مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل والفاعل مستتر يعود إلى {الَّذِي} وهو بصري تعدى إلى الثاني بهمزة التعدية، وانظر إعلال {تُوقِنُونَ} في الآية رقم [2] فهو مثله إذ أصله:«يؤريكم» والكاف مفعوله الأول، والبرق: مفعوله الثاني، والجملة الفعلية صلة الموصول لا محل لها، والعائد: رجوع الفاعل إليه، {خَوْفاً}: مفعول لأجله، وقيل: حال من كاف المخاطبين بمعنى: ذوي خوف، وذوي طمع. {وَيُنْشِئُ}: مضارع والفاعل يعود إلى {الَّذِي} . {السَّحابَ} : مفعول به. {الثِّقالَ} :
صفة له، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها، والجملة الاسمية:{هُوَ الَّذِي..} . إلخ مستأنفة لا محل لها، هذا؛ وأجيز اعتبار خوفا مفعولا مطلقا، وهو ضعيف.
الشرح: {وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ} أي: بحمد الله تعالى، ويسبح كذلك سامعوه من بني آدم المؤمنين، وهل الرعد اسم ملك أو صوت ملك؟ خلاف، وهو خلاف ما يقوله العلم الحديث،
هذا؛ والتسبيح والتقديس عبارة عن تنزيه الله عز وجل عن جميع النقائض. {وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ} أي: تسبح الملائكة بحمد الله تعالى من خوفه، أو من خوف الرعد هذا؛ و (خيفة) أصلها (خوفة) وقعت الواو ساكنة إثر كسرة، فقلبت ياء، فهو واوي من الخوف. {وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ}: جمع صاعقة، وهي العذاب النازل من البرق، فيحترق من تصيبه، وقيل: هي الصوت الشديد النازل من الجو، ثم يكون فيه نار، أو عذاب، أو موت، وهي في ذاتها شيء واحد. {فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ} أي: فيصيب الله بالصواعق من يشاء إصابته، أو هلاكه. {وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللهِ}: حيث يكذبون رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يصف ربه تعالى به من كمال العلم والقدرة، والتفرد بالألوهية، وإعادة الناس يوم القيامة للحساب والجزاء، هذا؛ والجدال: التشدد في الخصومة، من الجدل وهو الفتل. {وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ}: شديد الأخذ، أو شديد القوة، أو شديد الانتقام إلى غير ذلك، وهو بكسر الميم، ويقرأ بفتحها على أنه بمعنى الحول، والمحاولة بمعنى المغالبة، والمكايدة، وفي القاموس المحيط: والمحال ككتاب: الكيد، وروم الأمر بالحيل، والتدبير، والقدرة، والجدال، والعذاب، والعقاب، والعداوة، والمعاداة كالمماحلة، والقوة، والشدة، والهلاك، والإهلاك.
تنبيه: قال ابن عباس-رضي الله عنهما: من سمع صوت الرعد، فقال: سبحان من يسبح الرعد بحمده، والملائكة من خيفته، وهو على كل شيء قدير، فإن أصابته صاعقة: فعليّ ديته.
وكان عبد الله بن الزبير-رضي الله عنهما-إذا سمع الرعد ترك الحديث، وقال: سبحان من يسبح الرعد بحمده، والملائكة من خيفته، وكان يقول: إن الوعيد لأهل الأرض شديد.
تنبيه: روي: أن عامر بن الطفيل، وأربد بن ربيعة أخا لبيد بن ربيعة العامري الصحابي، وفدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم قاصدين لقتله، وكان عامر قد تواطأ مع أربد، وقال له: إذا رأيتني أكلمه فدر من خلفه، واضربه بالسيف، فجعل يخاصم النبي صلى الله عليه وسلم، ويجادله بعد أن ذهب به بعيدا عن أصحابه، فاخترط أربد من سيفه شبرا، ثم حبسه الله، فلم يقدر على سله، ويبست يده على سيفه، فتنبه له الرسول صلى الله عليه وسلم، وقال:«اللهم اكفنيهما بما شئت» . فأرسل الله على أربد صاعقة في يوم صائف صاح فأحرقته، وولى عامر هاربا، وقال: يا محمد! دعوت ربك على أربد حتى قتله، والله لأملأنها عليك خيلا جردا، وفتيانا مردا، فقال عليه الصلاة والسلام:«يمنعك الله من ذلك، وأبناء قيلة» . يعني الأوس والخزرج، فنزل عامر بيت امرأة من بني سلول، وخرجت على ركبته غدة عظيمة فجأة، فقال: غدة كغدة البعير، وموت في بيت سلولية! فركب فرسه، وجعل يجول ويصول، ويقول: يا ملك الموت ادن! حتى سقط على الأرض ميتا. فذهب إلى جهنم، وبئس القرار، وقد نزلت الآية الكريمة فيهما.
الإعراب: {وَيُسَبِّحُ} : (يسبح): مضارع. {الرَّعْدُ} : فاعله. {بِحَمْدِهِ} : متعلقان بمحذوف حال من الرعد، التقدير: ملتبسا بحمده، والهاء في محل جر بالإضافة. {وَالْمَلائِكَةُ}: معطوف
على الرعد. {مِنْ خِيفَتِهِ} : متعلقان بمحذوف حال من (الملائكة) أيضا، أو بمحذوف مفعول لأجله، أي: هائبين من خيفته، وجملة:{وَيُسَبِّحُ..} . إلخ معطوفة على جملة: {يُرِيكُمُ..} .
إلخ فهي في محل رفع مثلها، والاستئناف ممكن بلا ضعف، وجملة:{وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ} معطوفة عليها. (يصيب): مضارع، والفاعل يعود إلى الله. {بِها}: متعلقان به. {مِنْ} : اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل نصب مفعول به، والجملة بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد أو الرابط محذوف، التقدير: فيصيب الذي، أو شخصا يشاء إصابته، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها. {وَهُمْ}: الواو: واو الحال. (هم): ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ، وجملة:{يُجادِلُونَ فِي اللهِ} في محل رفع خبره، والجملة الاسمية: (هم
…
) إلخ في محل نصب حال من {مِنْ} والرابط: الواو، والضمير، وعليه فيجب اعتبارها بمعنى الجمع ليتوافق صاحب الحال والرابط، واعتبارها مستأنفة لا بأس به، بل هو قوي، والجملة الاسمية:{وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ} في محل نصب حال من لفظ الجلالة، والرابط: الواو، والضمير فهي حال متداخلة من وجه، و {شَدِيدُ}: مضاف، و {الْمِحالِ}: مضاف إليه، من إضافة الصفة المشبهة لفاعلها؛ إذ التقدير: شديد محاله.
الشرح: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ} أي: لله دعوة الصدق، قال علي-كرم الله وجهه-دعوة الحق:
التوحيد، وقال ابن عباس-رضي الله عنهما: هي شهادة أن لا إله إلا الله، وقال البيضاوي:
الدعاء الحق، فإنه الذي يحق أن يعبد، أو يدعى إلى عبادته دون غيره، أو له الدعوة المجابة، فإن من دعاه أجابه، ويؤيده ما بعده. انتهى. وهو جيد. {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ} أي: والأصنام التي يدعونها آلهة من دون الله ويعبدونها. {لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ} أي: لا يجيبونهم بشيء يريدونه من نفع أو دفع ضرر إن دعوهم.
{إِلاّ كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ وَما هُوَ بِبالِغِهِ} أي: إلا استجابة كائنة كاستجابة الماء لمن بسط كفيه يطلب إليه أن يبلغ فاه ويصل إليه ليشرب منه، والماء جماد لا يشعر ببسط كفيه، ولا بعطشه، فضلا عن إجابته، وكذلك الأصنام التي يعبدونها جمادات لا تحس بدعائهم، ولا تقدر على إجابتهم.
قال القرطبي: ضرب الله عز وجل الماء مثلا ليأسهم من الإجابة لدعائهم؛ لأن العرب تضرب لمن سعى فيما لا يدركه مثلا بالقابض الماء باليد، قال:[الطويل]
فأصبحت فيما كان بيني وبينها
…
من الودّ مثل القابض الماء باليد
وقال آخر: [الطويل]
وإنّي وإيّاكم وشوقا إليكم
…
كقابض ماء لم تطعه أنامله
وقال آخر: [الطويل]
ومن يأمن الدنيا يكن مثل قابض
…
على الماء خانته فروج الأصابع
قال علي رضي الله عنه: هو (أي: عابد الصنم، أو الطالب منه حوائجه) كالعطشان على شفة البئر، فلا يبلغ قعر الماء ولا الماء يرتفع إليه، هذا؛ وقرئ في الشواذ «(تدعون)» بالتاء، وبتنوين (باسط). {وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلاّ فِي ضَلالٍ} أي: ليست عبادة الكافرين الأصنام، أو طلبهم منها حوائجهم إلا في ضياع وباطل.
تنبيه: في الآية الكريمة تشبيه تمثيلي حيث شبه الله تعالى دعوة الكفار آلهتهم ليستجيبوا لهم، وعدم استجابتها؛ بمن يبسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه، وهو بعيد عنه مع رجائه أن يستجيب الماء له، وهو جماد لا يشعر ولا يحس، وقيل: شبهوا في قلة نفع دعائهم لآلهتهم بمن أراد أن يغرف الماء بيديه ليشربه، فبسطهما ناشرا أصابعه فلم تلق كفاه منه شيئا، ولم يبلغ طلبته.
الإعراب: {لَهُ} : متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {دَعْوَةُ} : مبتدأ مؤخر، و {دَعْوَةُ}: مضاف، و {الْحَقِّ}: مضاف إليه، والجملة الاسمية مستأنفة لا محل لها. {وَالَّذِينَ}:(الذين): اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ. {يَدْعُونَ} : فعل وفاعل. {مِنْ دُونِهِ} : متعلقان بالفعل قبلهما. وقيل: متعلقان بمحذوف حال، والهاء في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية صلة الموصول لا محل لها، والعائد محذوف؛ إذ التقدير: والمشركون الذين يدعون الأصنام، فحذف المفعول لدلالة {مِنْ دُونِهِ} عليه، أو التقدير: والأصنام الذين يدعوهم المشركون، ويكون جمعها مثل جمع {أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ} في الآية رقم [39] من سورة (يوسف) عليه السلام.
{لا} : نافية. {يَسْتَجِيبُونَ} : مضارع مرفوع
…
إلخ، والواو فاعله. {لَهُمْ بِشَيْءٍ}: كلاهما متعلقان بالفعل قبلهما، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية:
{وَالَّذِينَ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها لا محل لها مثلها. {إِلاّ} : حرف حصر. {كَباسِطِ} :
متعلقان بمحذوف صفة لمفعول مطلق محذوف، التقدير: إلا استجابة كائنة كاستجابة باسط، و (باسط): مضاف، و {كَفَّيْهِ}: مضاف إليه، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه، هذا؛ وعلى قراءة تنوين باسط فيكون {كَفَّيْهِ} مفعولا صريحا منصوبا، وعلامة نصبه الياء نيابة عن الفتحة؛ لأنه مثنى، وحذفت النون للإضافة، والهاء في محل جر بالإضافة
…
{إِلَى الْماءِ} :
متعلقان ب (باسط). {لِيَبْلُغَ} : مضارع منصوب ب «أن» مضمرة بعد لام التعليل، والفاعل يعود إلى الماء. {فاهُ}: مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الألف نيابة عن الفتحة؛ لأنه من الأسماء
الخمسة، والهاء في محل جر بالإضافة، و «أن» المضمرة والمضارع في تأويل مصدر في محل جر بلام التعليل، والجار والمجرور متعلقان ب (باسط). {وَما}: الواو: واو الحال، (ما): نافية حجازية تعمل عمل ليس. {هُوَ} : ضمير منفصل مبني على الفتح في محل رفع اسم (ما).
{بِبالِغِهِ} : الباء: حرف جر صلة. بالغه: خبر (ما) منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على آخره منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد، وإن اعتبرت (ما) مهملة، فتكون الباء زائدة في خبر المبتدأ، والهاء في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه، والجملة الاسمية:{وَما هُوَ بِبالِغِهِ} في محل نصب حال من فاعل (يبلغ) المستتر، أو من مفعوله، والرابط على الاعتبارين: الواو، والضمير. {وَما}: الواو: حرف استئناف. (ما): نافية مهملة. {دَعاهُ} : مبتدأ، وهو مضاف، و {الْكافِرِينَ}: مضاف إليه من إضافة المصدر لفاعله، والمفعول محذوف، انظر الشرح لتقديره. {إِلاّ}: حرف حصر، {فِي ضَلالٍ}:
متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة لا محل لها.
الشرح: {وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ..} . إلخ: قال الخازن: في معنى السجود قولان:
أحدهما: أن المراد منه السجود على الحقيقة، وهو وضع الجبهة على الأرض، ثم على هذا القول ففي معنى الآية وجهان:
أحدهما: أن اللفظ، وإن كان عاما، إلا أن المراد منه الخصوص، فقوله {وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ} يعني الملائكة، ومن في الأرض يعني المؤمنين، {طَوْعاً وَكَرْهاً} يعني من المؤمنين من يسجد لله طوعا، وهم المؤمنون المخلصون لله العبادة، و (كرها): يعني: المنافقين الداخلين في المؤمنين، وليسوا منهم، فإن سجودهم لله على كره منهم؛ لأنهم لا يرجون على سجودهم ثوابا، ولا يخافون عقابا، بل سجودهم وعبادتهم خوف من المؤمنين.
الوجه الثاني: هو حمل اللفظ على العموم، وعلى هذا ففي اللفظ إشكال وهو أن جميع الملائكة والمؤمنين من الإنس والجن يسجدون لله طوعا، ومنهم من يسجد له كرها كما تقدم، وأما الكفار من الإنس والجن فلا يسجدون لله البتة، فهذا؛ وجه الإشكال، والجواب عنه: أن المعنى أنه يجب على كل من في السموات ومن في الأرض أن يسجد لله، فعبر بالوجوب عن الوقوع والحصول، وجواب آخر: وهو أن يكون المراد من هذا السجود هو الاعتراف بالعظمة والعبودية، وكل من في السموات، ومن في الأرض من إنس وجن، فإنهم يقرون لله بالعبودية، والتعظيم، ويدل عليه قوله تعالى:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ} .
والقول الثاني في معنى هذا السجود: هو الانقياد والخضوع، وترك الامتناع، فكل من في السموات، ومن في الأرض ساجد لله بهذا المعنى، وهذا الاعتبار؛ لأن قدرته ومشيئته نافذة في الكل، فهم خاضعون له، ومنقادون لأوامره، انتهى. بحروفه.
أقول: وهذا الوجه هو المرضي عندي، ولعله المرضي عند الكثير، ويؤيده قوله عز وجل في سورة (الإسراء):{وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} وهو باتفاق تسبيح دلالة، لا تسبيح عبادة.
{وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ} : قال المفسرون: إن ظل كل شيء يسجد لله، سواء ظل المؤمن وظل الكافر، وقال الزجاج: جاء في التفسير أن الكافر يسجد لغير الله، وظله يسجد لله. قال ابن الأنباري: ولا يبعد أن يخلق الله للظلال عقولا وأفهاما، تسجد بها وتخشع، كما جعل للجبال أفهاما حتى سبحت لله مع داود، قال القشيري: في هذا نظر؛ لأن الجبل عين، فيمكن أن يكون له عقل بشرط تقدير الحياة، وأما الظلال فآثار وأعراض، ولا يتصور تقدير الحياة لها، وقيل:
المراد بسجود الظلال: ميلانها من جانب إلى جانب آخر، وطولها وقصرها بسبب ارتفاع الشمس ونزولها، وذلك تصريف الله إياها على ما يشاء، وهو كقوله تعالى:{أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلّهِ وَهُمْ داخِرُونَ} الآية رقم [48] من سورة (النحل)، قاله ابن عباس وغيره، وإنما خص الغدو والآصال بالذكر؛ لأن الظلال تعظم وتكثر في هذين الوقتين، وقيل: لأنهما طرفان فيدخل وسطه فيما بينهما.
بعد هذا (الغدو): جمع غدوة بضم الغين فيهما، وهي ما بين طلوع الفجر وطلوع الشمس، وقيل: إلى الضحوة الكبرى، وتجمع أيضا على غدى، والغداة في الأصل الضحوة، ولو حملها حامل على أول النهار لجاز له التذكير، والجمع غدوات، والآصال: جمع أصيل، وهو الوقت بين العصر والمغرب، ويجمع أيضا على أصائل، وأصل، وأصلان، هذا؛ وقيل: الآصال جمع أصل، والأصل جمع أصيل، ثم أصائل جمع الجمع، قال أبو ذؤيب الهذلي:[الطويل]
لعمري لأنت البيت أكرم أهله
…
وأقعد في أفيائه بالأصائل
هذا؛ ويطلق الأصيل على الشعاع الممتد من الشمس إلى الماء، مثل الحبال، ويشبه لون أشعته في الماء لون الذهب، وانظر الآية رقم [41] من سورة (آل عمران)، والآية رقم [52] من سورة (الأنعام)، ففيهما كبير فائدة.
هذا؛ والآية التي الكلام فيها يسن للقارئ والمستمع أن يسجد عند قراءته، واستماعه لها، فهي من الآيات الأربع عشرة التي يسن السجود لتلاوتها واستماعها، وانظر ما ذكرته في الآية رقم [205] من سورة (الأعراف) تجد ما يسرك، وانظر الكلام على (من) في الآية [48] من سورة (النحل)، وانظر الكلام على السجود في الآية رقم [50] منها أيضا.
الإعراب: {وَلِلّهِ} : الواو: حرف استئناف. (لله): متعلقان بما بعدهما، وتقديمهما أفاد الاختصاص. {يَسْجُدُ}: مضارع، {مَنْ}: اسم موصول مبني على السكون في محل رفع فاعل.
{فِي السَّماواتِ} : متعلقان بمحذوف صلة الموصول، التقدير: الذي يوجد في السموات.
{وَالْأَرْضِ} : معطوف على ما قبله. {طَوْعاً} : حال بمعنى طائعا، وقيل: مفعول لأجله. وقيل:
مفعول مطلق، ولا وجه له. {وَكَرْهاً}: معطوف على ما قبله. {وَظِلالُهُمْ} : معطوف على {مَنْ،} والهاء في محل جر بالإضافة، وقد راعى معنى {مَنْ} وهو الجمع، وفي تأويل طوعا ب (طائعا) يكون راعى لفظها. تأمل. {بِالْغُدُوِّ}: متعلقان بالفعل قبلهما. {وَالْآصالِ} معطوف على ما قبله، والجملة الفعلية:{وَلِلّهِ يَسْجُدُ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها.
الشرح: {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ} : هذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، كلاحقه، والمعنى: قل يا محمد لهؤلاء المشركين الذين يعبدون غير الله: من مالك السموات والأرض؟ ومن مدبرهما وخالقهما؟ قل: الله: أي: أجب عنهم بذلك؛ إذ لا جواب لهم سواه، ولأنه البين الذي لا يمكن الجدال فيه، وإنما جاء السؤال والجواب من جهة واحدة لأن المشركين لا ينكرون أن الله خالق السموات والأرض، وخالق كل شيء، كما ذكر عنهم ذلك في آيات كثيرة. {قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ..}. إلخ؟: هذا توبيخ وتقريع للمشركين الذين يعبدون الحجارة والأوثان، التي لا تستطيع أن تنفع نفسها بشيء، وإذا أرادها إنسان بضر لا تستطيع دفعه، وهذا مع اعترافهم بأن الله هو الخالق والمدبر لما في السموات والأرض، وإذا كانت تلك الأصنام لا تملك ذلك لنفسها، فكيف تملكه لمن يعبدها؟!.
{قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ} : هذا مثل ضربه الله للكافر الذي لا يبصر الحق، والمؤمن الذي يعرف الحق ويتبعه، والآية رقم [21] الآتية توضح هذا؛ وتبينه، وقيل: الأعمى مثل لما عبدوه من دون الله، والبصير مثل الله تعالى، والأولى أولى، وعلى الاعتبارين في الكلام استعارة، {أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ} أي: الشر والإيمان، والمعنى: كما أن الأعمى والبصير لا يكونان سواء، كذلك الكافر والمؤمن لا يستويان، وكما أن الظلمات والنور لا يكونان سواء كذلك الكفر والإيمان لا يستويان.
هذا؛ والظلمات جمع ظلمة، وقد جمعت في القرآن الكريم في آيات كثيرة باعتبار تعدد معانيها؛ إذ المراد ظلمة الكفر، وظلمة النفاق، وظلمة الجهل، وظلمة يوم القيامة، أو المراد ظلمة شديدة كأنها ظلمات متراكمة، ووحد النور؛ لأنه نوع واحد لا يختلف، وقدم الظلمات؛ لأنها مخلوقة قبل النور، فعن عبد الله بن عمرو بن العاص-رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
«إنّ الله خلق الخلق في ظلمة، ثمّ ألقى عليهم من نوره، فمن أصابه ذلك النّور اهتدى، ومن أخطأه
ضلّ». ذكره البغوي، هذا؛ والظلمات بمعانيها المتقدمة مستعارة من ظلمة الليل الحقيقية، والجامع بينهما عدم الاهتداء في كل منهما، كما أن النور بمعناه المتقدم مستعار من نور النهار، أو من نور المصباح المضيء، والجامع بينهما الاهتداء في كل منهما، ولا تنس الطباق في الآية الكريمة بين الأعمى والبصير، وبين الظلمات والنور، وهذا من المحسنات البديعية.
الإعراب: {قُلْ} : أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» . {مَنْ} : اسم استفهام مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {رَبُّ} : خبره، وهو مضاف، و {السَّماواتِ}: مضاف إليه، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {وَالْأَرْضِ}: معطوف على ما قبله، والجملة الاسمية:
{رَبُّ..} . إلخ في محل نصب مقول القول، والجملة الفعلية:{قُلْ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها.
{اللهُ..} .: مبتدأ، خبره محذوف، التقدير: الله رب
…
إلخ، والجملة الاسمية هذه في محل نصب مقول القول، وجملة:{قُلِ اللهُ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها. {أَفَاتَّخَذْتُمْ} : الهمزة: حرف استفهام وتوبيخ وتقريع. الفاء: حرف عطف، أو هي صلة. {أَفَاتَّخَذْتُمْ}:(اتخذتم): فعل ماض، والتاء فاعله. {مِنْ دُونِهِ}: متعلقان بالفعل قبلهما، وهما في محل نصب مفعوله الثاني تقدم على الأول، وهو أولياء، والهاء في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية معطوفة على مقدر بعد الهمزة، أي: أعلمتم أن ربهما هو الله الذي ينقاد لأوامره من فيهما كافة فاتخذتم
…
إلخ، والكلام كله في محل نصب مقول القول، وعلى اعتبار الفاء صلة، فيكون الكلام جملة واحدة، وهي في محل نصب مقول القول، وجملة:{قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها. {لا} : نافية. {يَمْلِكُونَ} :
مضارع مرفوع
…
إلخ، والواو فاعله. {لِأَنْفُسِهِمْ}: متعلقان بالفعل قبلهما أو هما متعلقان بما بعدهما على اعتبارهما مصدرين، والهاء في محل جر بالإضافة. {نَفْعاً}: مفعول به. {وَلا} :
الواو: حرف عطف. (لا): زائدة لتأكيد النفي. {ضَرًّا} : معطوف على ما قبله، وجملة:{لا يَمْلِكُونَ..} . إلخ في محل نصب صفة {أَوْلِياءَ} . {هَلْ} : حرف استفهام ونفي. {يَسْتَوِي} : مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل. {الْأَعْمى}: فاعل مرفوع
…
إلخ، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول. (البصير): معطوف على ما قبله، والجملة الفعلية:{قُلْ هَلْ يَسْتَوِي..} . إلخ مستأنفة لا محل لها، والجملة الفعلية:{هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ} معطوفة على ما قبلها فهي في محل نصب مقول القول مثلها.
{
…
أَمْ جَعَلُوا لِلّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهّارُ} الشرح: {أَمْ جَعَلُوا لِلّهِ شُرَكاءَ} : هذه الجملة معطوفة على ما قبلها في الآية السابقة، فهي داخلة تحت حكم الاستفهام الإنكاري و {شُرَكاءَ} أي: في العبادة. {خَلَقُوا كَخَلْقِهِ} أي: أخلقوا
سماوات، وأرضين، وشمسا، وقمرا، وجبالا، وبحارا، وإنسا، وجنّا؟. {فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ} أي:
لم يميزوا بين خلق الله، وبين ما خلقت آلهتهم وأصنامهم التي يعبدونها. {قُلِ اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ}: المعنى إذا تفكر هؤلاء المشركون بعقولهم وجدوا الله تعالى هو المنفرد بخلق سائر الأشياء، وما يعبده هؤلاء جمادات مخلوقة، بل هي من جملة ما خلق الله تعالى. {وَهُوَ الْواحِدُ} أي: المنفرد بخلق الأشياء كلها. {الْقَهّارُ} : لعباده، حتى يدخلهم تحت قضائه، وقدره، وإرادته، وانظر الآية رقم [39] من سورة (يوسف) عليه السلام، هذا؛ وفي الآية الكريمة رد على القدرية والمعتزلة الذين يقولون: إن العبد يخلق أفعاله، كما أنها ترد على من لا يعترف بالصانع الحكيم أيضا.
الإعراب: {أَمْ} : حرف عطف. {جَعَلُوا} : ماض مبني على الضم، والواو فاعله، والألف للتفريق. {اللهُ}: متعلقان بالفعل قبلهما، هذا؛ ويجوز اعتبارهما متعلقين بمحذوف حال من {شُرَكاءَ} كان صفة له، فلما قدم عليه صار حالا، على القاعدة:«نعت النكرة إذا تقدم عليها صار حالا» . {خَلَقُوا} : فعل وفاعل. {كَخَلْقِهِ} متعلقان بما قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف صفة لمفعول مطلق محذوف، التقدير: خلقوا خلقا مشبها خلقه، والجملة الفعلية:{خَلَقُوا..} . إلخ في محل نصب صفة {شُرَكاءَ،} وجملة: {جَعَلُوا..} . إلخ معطوفة على ما قبلها فهي في محل نصب مقول القول مثلها. {فَتَشابَهَ} : الفاء: حرف عطف. (تشابه): ماض. {الْخَلْقُ} : فاعله. {عَلَيْهِمْ} :
متعلقان بالفعل قبلهما، والجملة: (تشابه
…
) إلخ معطوفة على ما قبلها، فهي في محل نصب مثلها؛ لأنها مفرعة عنها. {اللهُ خالِقُ}: مبتدأ وخبر، و {خالِقُ}: مضاف، و {كُلِّ}: مضاف إليه، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه، و (كلّ): مضاف، و {شَيْءٍ}: مضاف إليه، والجملة الاسمية:{اللهُ..} . إلخ في محل نصب مقول القول، وجملة:{قُلْ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها، والجملة الاسمية:{وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهّارُ} معطوفة على ما قبلها، فهي في محل نصب مقول القول مثلها، وإن اعتبرتها مستأنفة؛ فلست مفندا. والحالية ضعيفة.
الشرح: {أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً} أي: من السحاب، أو من السماء نفسها، فإن المبادئ منها، قال الخازن: لما شبه الله الكافر بالأعمى، والمؤمن بالبصير، وشبه الكفر بالظلمات، والإيمان بالنور ضرب لذلك مثلا، قال تعالى:{أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً} يعني: المطر. {فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها} أي: فجرت أودية، والأودية لا تجري؛ فهو مثل: جرى النهر والمراد جرى الماء في النهر،
فحذف لدلالة الكلام عليه، ومعنى بقدرها: بملئها، الكبير بقدره، والصغير بقدره، وفيه احتراس من أن السيل غير ضار للممطور، بل هو نافع له.
وقال ابن عباس-رضي الله عنهما-أنزل من السماء ماء، يعني: قرآنا، وهذا مثل ضربه الله تعالى، ويريد بالأودية القلوب، شبه نزول القرآن الجامع للهدى والنور والبيان بنزول المطر؛ لأن المطر إذا نزل عم نفعه، وكذلك نزول القرآن، وشبه القلوب بالأودية؛ لأن الأودية يستقر فيها الماء، وكذلك القلوب يستقر فيها القرآن، والعرفان ببركة نزول القرآن فيها، وهذا خاص للمؤمنين؛ لأنهم الذين انتفعوا بالقرآن وخذ ما يلي:
عن أبي موسى الأشعري-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم، كمثل غيث أصاب أرضا، فكانت منها طائفة طيّبة، قبلت الماء، فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكان منها أجادب، أمسكت الماء، فنفع الله بها الناس، فشربوا منها، وسقوا وزرعوا، وأصاب طائفة منها أخرى، إنّما هي قيعان، لا تمسك ماء، ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فقه في دين الله، ونفعه ما بعثني الله به، فتعلّم وعلّم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا، ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به» . متفق عليه.
قال العلماء: الأرض ثلاثة أنواع، وكذلك الناس؛ لأنهم منها خلقوا، فالنوع الأول من أنواع الأرض: الطيبة التي تنتفع بالمطر، فتنبت به العشب، فينتفع الناس به والدواب بالشرب والرعي وغير ذلك، وكذلك النوع الأول من الناس من يبلغه الهدى وغير ذلك من العلم، فيحيا به قلبه، ويحفظه، ويعمل به، ويعلمه غيره، فينتفع به وينفع غيره. النوع الثاني من الأرض: أرض لا تقبل الانتفاع في نفسها، لكن فيها فائدة لغيرها، وهي إمساك الماء لغيرها؛ لينتفع به الناس والدواب، وكذلك النوع الثاني من الناس، لهم قلوب حافظة، لكن ليس لهم أفهام ثاقبة، فيبقى ما عندهم من العلم حتى يجيء المحتاج إليه المتعطش لما عندهم من العلم، فيأخذه منهم، فينتفع به هو وغيره. النوع الثالث من الأرض: أرض سبخة، لا تنبت مرعى، ولا تمسك ماء، كذلك النوع الثالث من الناس، ليس لهم قلوب حافظة ولا أفهام ثاقبة، فإذا بلغهم شيء من العلم، لا ينتفعون به في أنفسهم، ولا ينفعون غيرهم، والله أعلم. {فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً} أي: حمل السيل المذكور الحاصل من سيلان الأودية فوق سطحه زبدا، وهو ما يعلو الماء من الرغوة. {رابِياً}: منتفخا مرتفعا، قال الخازن: وهنا تم المثل.
{وَمِمّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النّارِ} : هذا مثل آخر، والمعنى ينشأ زبد آخر مثل زبد الماء فوق ما يغلى في النار. {اِبْتِغاءَ حِلْيَةٍ}: والمراد بذلك ما يغلى في النار من الأتربة المخلوطة ببعض المعادن كالذهب والفضة ونحوهما، لاستخراجه من التراب بواسطة النار، والضمير في {عَلَيْهِ} يعود إلى ما يطلب للزينة والحلية من المعادن الثمينة، وإن لم يكن مذكورا؛ لأن الحلية لا تطلبه
إلا منها. {أَوْ مَتاعٍ} أي: طلب متاع آخر غير المعادن الثمينة مما ينتفع به الناس كالحديد والنحاس والرصاص ونحوه مما يذاب، وتتخذ منه الأواني وغيرها كآلات الحرب، هذا؛ ويقرأ الفعل بالياء على الغيبة، وبالتاء على الخطاب، والمتاع: كل ما يتمتع به، ويقال لكل ما ينتفع به في البيت كالطبق والقدر ونحو ذلك من الأواني: متاع.
{زَبَدٌ مِثْلُهُ} أي: هذا الزبد مثل الزبد الذي يعلو فوق سطح السيل. {كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ} أي: يمثل الله الحق والباطل بما ذكر، فالحق هو الجوهر الصافي الثابت، والباطل هو الزبد الطافي فوقه الذي لا ينتفع به. {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً} أي: ضائعا باطلا، حيث يتفرق ويضيع على حافتي الوادي المفعم بالسيل. ولا تنس: أن الزبد هذا يراد به زبد السيل وزبد الماء المغلى. {وَأَمّا ما يَنْفَعُ النّاسَ} : يعني الماء الصافي.
والجوهر الجيد من هذه الأجسام التي تذاب. {فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ} أي: يثبت، ويبقى، ولا يذهب، هذا؛ ومكث يمكث بمعنى: أقام يقيم. قال الكميت يذم ولاة السوء: [الطويل]
فتلك ولاة السّوء قد طال مكثهم
…
فحتّام حتّام العناء المطوّل؟
والمكث بضم الميم وتكسر، وهذا على أنه اسم، وأما المصدر، فإن كان فعله من باب نصر، فهو بضم الميم أيضا، وإن كان من باب كرم، فهو بفتح الميم.
{كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ} : قال أهل التفسير والمعاني: هذا مثل ضربه الله للحق والباطل، فالباطل وإن علا على الحق في بعض الأوقات والحالات، فإن الله يمحقه ويبطله، ويجعل العاقبة الحسنة للحق وأهله، كالزبد الذي يعلو على الماء، فيذهب الزبد، ويبقى الماء الصافي الذي ينتفع به، وكذلك الصافي من الجواهر والمعادن يبقى، ويذهب ما يعلو فوقه من الكدر، وانظر ما ذكرته من تفسير وتمثيل آنفا، واقرأ الحديث جيدا وتفهمه وتدبره، والله يتولاني ويتولاك بعنايته ورعايته.
الإعراب: {أَنْزَلَ} : ماض، وفاعله يعود إلى الله. {مِنَ السَّماءِ}: متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من الماء، كان صفة له، فلما قدم عليه صار حالا. {السَّماءِ}: مفعول به، وجملة:{أَنْزَلَ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها. (سالت): ماض، والتاء للتأنيث. {أَوْدِيَةٌ}:
فاعل. {بِقَدَرِها} : متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف صفة أودية، و (ها): في محل جر بالإضافة، وجملة: (سالت
…
) إلخ معطوفة على ما قبلها لا محل لها. {فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً} :
ماض وفاعله ومفعوله، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها لا محل لها أيضا. {رابِياً}: صفة زبدا. (مما): متعلقان بمحذوف خبر مقدم، وجملة:{يُوقِدُونَ عَلَيْهِ} صلة (ما) الموصولة، والعائد الضمير المجرور محلا ب {عَلَيْهِ}. {فِي النّارِ}: متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من الضمير المجرور محلاّ ب (على) ومنع القرطبي الاعتبار الأول. {اِبْتِغاءَ}: مفعول لأجله،
وجوز اعتباره حالا، بمعنى مبتغين، و {اِبْتِغاءَ}: مضاف، و {حِلْيَةٍ}: مضاف إليه، من إضافة المصدر لمفعوله، وفاعله محذوف، {مَتاعٍ}: معطوف على ما قبله. {زَبَدٌ} : مبتدأ مؤخر.
{مِثْلُهُ} : صفة {زَبَدٌ،} والهاء في محل جر بالإضافة، والجملة الاسمية هذه معطوفة على الجملة الفعلية السابقة؛ لأنها قسيمة؛ لأنها تضمنت مثلا آخر مثلها. تأمل. {كَذلِكَ}: جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لمفعول مطلق محذوف عامله ما بعده، التقدير: يضرب الله الحق والباطل ضربا، أي: مثلا مماثلا لما ذكر، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب، والجملة الفعلية مستأنفة لا محل لها، وهي فعل مضارع وفاعله ومفعوله كما ترى. {فَأَمَّا}: الفاء: حرف استئناف. (أما):
أداة شرط وتوكيد وتفصيل، وانظر الآية رقم [41] من سورة (يوسف) عليه السلام. {الزَّبَدُ}:
مبتدأ. {فَيَذْهَبُ} : الفاء: واقعة في جواب (أما). (يذهب): مضارع، والفاعل يعود إلى {الزَّبَدُ} .
{جُفاءً} : حال من الفاعل المستتر، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة لا محل لها. {وَأَمّا}: الواو: حرف عطف. (أما): مثل سابقتها. {مِمّا} : اسم موصول أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل رفع مبتدأ، وجملة:{يَنْفَعُ النّاسَ} صلة (ما)، أو صفتها، والعائد، أو الرابط رجوع الفاعل إليها، وجملة:{فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ} في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية:{ما يَنْفَعُ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها لا محل لها مثلها. {كَذلِكَ} : متعلقان بمحذوف صفة لمفعول مطلق محذوف عامله ما بعده، التقدير: يضرب الله الأمثال ضربا كائنا كما ذكر، والجملة الفعلية هذه مستأنفة لا محل لها، وهي مضارع وفاعله ومفعوله كما هو ظاهر.
الشرح: {لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ} أي: أجابوا، فالسين والتاء زائدتان، قال كعب بن سعد الغنوي يرثي أخاه أبا المغوار:[الطويل]
وداع دعا يا من يجيب إلى النّدى
…
فلم يستجبه عند ذاك مجيب
والمعنى: أجابوا ربهم لما دعاهم إليه من التوحيد، والإيمان به وبرسوله. {الْحُسْنى}: يعني الجنة، وقيل: الحسنى هي المنفعة العظمى في الحسن، وهي المنفعة الخالصة الخالية عن شوائب المضرة والانقطاع، والأول أولى، وانظر الآية رقم [26] من سورة (يونس) عليه السلام.
{وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ} أي: لم يستجيبوا لربهم بما استجاب له المؤمنون من التوحيد والإيمان، وهم الكفار الذين استمروا على كفرهم.
{لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ..} . إلخ: أي: لو ملكوا كل ذلك؛ لقدموه فداء لأنفسهم من عذاب يوم القيامة، ولكن لا يقبل منهم كما أفادته آية المائدة رقم [39] وآية آل عمران رقم [91] مع كونهم لا يملكون فتيلا يوم القيامة، ولكن كل ذلك على سبيل الفرض والتقدير. {أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ} أي: للكافرين سوء الحساب، وهو أن يحاسب أحدهم على الفتيل، والنقير، والقطمير، كما أفاده قول الرسول صلى الله عليه وسلم:«من نوقش الحساب عذّب» . رواه الشيخان وغيرهما عن عائشة رضي الله عنها. وهو بتمامه كما يلي: عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من نوقش الحساب عذّب» . فقلت: يا رسول الله أليس يقول الله: {فَأَمّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً (8) وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً} فقال: «إنّما ذلك العرض، وليس أحد يحاسب يوم القيامة إلاّ هلك» . رواه البخاري ومسلم وأبو داود الطيالسي والترمذي. {وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ} أي: مقرهم، ومآلهم إلى جهنم، وانظر الآية رقم [21] من سورة (يوسف) عليه السلام، {وَبِئْسَ الْمِهادُ} أي: المستقر، أو الفراش الذي مهدوه لأنفسهم.
الإعراب: {لِلَّذِينَ} : متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {اِسْتَجابُوا} : ماض، والواو فاعله، والألف للتفريق. {لِرَبِّهِمُ}: متعلقان بما قبلهما، والهاء في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله وفاعله مستتر فيه، والجملة الفعلية صلة الموصول لا محل لها. {الْحُسْنى}:
مبتدأ مؤخر مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر، والجملة الاسمية مستأنفة لا محل لها، هذا؛ وقال الزمخشري:{لِلَّذِينَ} متعلقان بالفعل {يَضْرِبُ} السابق، و {الْحُسْنى} صفة مفعول مطلق محذوف، التقدير: استجابوا لربهم الاستجابة الحسنى، والأول أقوى. تأمل.
{وَالَّذِينَ} : الواو: حرف عطف، أو استئناف. (الذين): اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ. {لَمْ} : حرف نفي وقلب وجزم. {يَسْتَجِيبُوا} : فعل مضارع مجزوم ب {لَمْ،} وعلامة جزمه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والألف للتفريق. {لَهُ}:
جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل لها. {لَوْ}:
حرف لما كان سيقع لوقوع غيره. {لَهُمْ} : متعلقان بمحذوف خبر {أَنَّ} تقدم على اسمها.
{ما} : اسم موصول مبني على السكون في محل نصب اسم {أَنَّ} مؤخر. {فِي الْأَرْضِ} :
متعلقان بمحذوف صلة الموصول، التقدير: الذي يوجد في الأرض. {جَمِيعاً} : حال من {ما} ومؤكدة لها؛ لأنها بمعنى الجمع. {وَمِثْلَهُ} : معطوف على {ما} منصوب مثلها، وقيل:
منصوب. على المعية، ولا وجه له. {مَعَهُ}: ظرف مكان متعلق بمحذوف حال من (مثله)، والهاء في محل جر بالإضافة، و {أَنَّ} واسمها وخبرها في تأويل مصدر، وفيه قولان:
أحدهما، وهو قول سيبويه: أنه في محل رفع بالابتداء، وخبره محذوف، التقدير: لو كان ما في الأرض جميعا ثابت لهم، والثاني قول المبرد: أنه في محل رفع على الفاعلية، رافعه محذوف،
التقدير: لو ثبت كون ما في الأرض جميعا لهم، وقول المبرد هو المرجح في مثل هذا؛ لأن «لو» لا يليها إلا فعل ظاهر، أو مقدر، والفعل المقدر وفاعله جملة فعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي. {لافْتَدَوْا} : ماض مبني على فتح مقدر على الألف المحذوفة لالتقائها ساكنة مع واو الجماعة التي هي فاعله، والألف للتفريق. {بِهِ}:
متعلقان بالفعل قبلهما، والجملة الفعلية جواب {لَوْ،} لا محل لها، واللام واقعة في جواب {لَوْ،} و {لَوْ} ومدخولها في رفع خبر أول للمبتدإ الذي هو الذين، وهو خلاف كلام الزمخشري الذي يعتبر الموصول معطوفا على سابقه، ويعتبر لو ومدخولها كلاما مستأنفا لا محل له وهو ضعيف جدا. {أُولئِكَ}: اسم إشارة مبني على الكسر في محل رفع مبتدأ، والكاف حرف خطاب لا محل لها. {لَهُمْ}: متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {سُوءُ} : مبتدأ مؤخر، وهو مضاف، و {الْحِسابِ}: مضاف إليه، من إضافة الصفة للموصوف، والجملة الاسمية:{لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ} في محل رفع خبر المبتدأ، هذا؛ وإن اعتبرت {لَهُمْ} متعلقين بمحذوف خبر المبتدأ {أُولئِكَ} فيكون {سُوءُ} فاعلا بذلك المتعلق، وهو وجه صحيح لا غبار عليه، والجملة الاسمية:{أُولئِكَ..} . إلخ في محل رفع خبر ثان للمبتدإ، والجملة الاسمية:{وَالَّذِينَ لَمْ..} .
إلخ معطوفة على ما قبلها، وهي مستأنفة لا محل لها على الاعتبارين. {وَمَأْواهُمْ}: الواو:
حرف عطف. (مأواهم): مبتدأ مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر، والهاء في محل جر بالإضافة، {جَهَنَّمُ}: خبره، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها، فهي في محل رفع مثلها. {وَبِئْسَ}: الواو: حرف استئناف. (بئس): ماض جامد لإنشاء الذم. {الْمِهادُ} : فاعله، والمخصوص بالذم محذوف، التقدير: المذمومة هي، والجملة: (بئس
…
) إلخ مستأنفة لا محل لها.
الشرح: {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ} أي: فيؤمن به، ويعمل بما فيه. {كَمَنْ هُوَ أَعْمى} أي: أعمى البصيرة لا أعمى البصر، وهو الكافر، فلا يؤمن بالقرآن، ولا يعمل بما فيه، قال ابن عباس-رضي الله عنهما: نزلت الآية في حمزة بن عبد المطلب عم النبي صلى الله عليه وسلم، وأبي جهل بن هشام، هذا؛ وخصوص السبب لا يمنع التعميم، أي: إن الآية تعم المهتدي وغير المهتدي، إلى يوم القيامة، والمعنى لا يستوي من يبصر الحق ويتبعه، ومن لا يبصر الحق ولا يتبعه، وإنما شبه الله تعالى الكافر والجاهل بالأعمى؛ لأن الأعمى لا يهتدي لرشد، وربما وقع في مهلكة، وكذلك الكافر والجاهل لا يهتديان للرشد، وهما واقعان في المهالك. {إِنَّما يَتَذَكَّرُ}: يتعظ. {أُولُوا الْأَلْبابِ} أي: أصحاب العقول السليمة، وما آية (الأعراف) رقم [178] منك ببعيد.
هذا؛ وفي {أَفَمَنْ} المذهبان اللذان رأيتهما في {أَفَلا} في الآية رقم [24] من سورة (هود) عليه السلام من أن الفاء مؤخرة من تقديم، أو هي عاطفة على محذوف، وهو مدخول الهمزة، والمراد بالذي {أُنْزِلَ} القرآن الكريم، والمخاطب بذلك النبي صلى الله عليه وسلم، وقوله {أَعْمى} استعارة، انظر الآية رقم [17]. {الْأَلْبابِ}: جمع لب: وهو العقل الخالي من الهوى، سمي بذلك لأحد وجهين، إما لبنائه من لب بالمكان: أقام به، وإما من اللباب، وهو الخالص من كل شيء، هذا؛ واللبيب العاقل الفاهم، والجمع: الباء، والأنثى لبيبة، وجمعها لبيبات، ولبائب، واللب: خالص كل شيء، وأما {أُولُوا} فهو جمع لا واحد له من لفظه، وإنما واحده:(ذو) المضاف إن كان مرفوعا، و (ذا) مضاف إن كان منصوبا، و (ذي) المضاف إن كان مجرورا، بعد هذا ينبغي أن تعلم أن الله عز وجل قد وصف أولي الألباب بثماني صفات في الآيات الثلاث التالية وهو ما تجده مفصلا فيما يلي، وأبواب الجنة ثمانية، فمن اتصف بالصفات كلها دخل من أي: أبواب الجنة شاء.
الإعراب: {أَفَمَنْ} : الهمزة: حرف استفهام إنكار واستبعاد. الفاء: حرف استئناف، أو هي حرف عطف. (من): اسم موصول مبني على السكون في محل رفع مبتدأ، أو هي نكرة موصوفة وهي للعاقل. {يَعْلَمُ}: مضارع، والفاعل يعود إلى من. {أَنَّما}:(أن): حرف مشبه بالفعل.
(ما): اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل نصب اسم (أن)، وهي لغير العاقل. {أُنْزِلَ}: ماض مبني للمجهول، ونائب الفاعل يعود إلى (ما). {إِلَيْكَ}: متعلقان به. {مِنْ رَبِّكَ} : متعلقان بمحذوف حال من نائب الفاعل، والكاف في محل جر بالإضافة من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. وجملة:{أُنْزِلَ..} . إلخ: صلة (ما) أو صفتها، والعائد أو الرابط: رجوع نائب الفاعل إليها. {الْحَقُّ} : خبر (أنّ)، و (أنّ) واسمها وخبرها في تأويل مصدر في محل نصب سد مسد مفعولي يعلم، وجملة:{يَعْلَمُ..} . إلخ صلة (من) أو صفتها، والعائد أو الرابط رجوع الفاعل إليها. {كَمَنْ}: جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ، وإن اعتبرت الكاف اسما فهي الخبر، وتكون مضافة، و (من) مضاف إليه. و (من) تحتمل الموصولة، والموصوفة.
{هُوَ} : ضمير منفصل مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ. {أَعْمى} : خبره مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر، والجملة الاسمية:{هُوَ أَعْمى} : صلة (من) أو صفتها. والعائد أو الرابط: الضمير المنفصل، والجملة الاسمية:{أَفَمَنْ يَعْلَمُ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها، أو هي معطوفة على جملة محذوفة، التقدير: أيستوي المؤمن والكافر، أفمن يعلم
…
إلخ، وهذا الكلام كله مستأنف أيضا. {أَنَّما}: كافة ومكفوفة. {يَتَذَكَّرُ} : مضارع. {أُولُوا} : فاعل مرفوع، وعلامة رفعه الواو نيابة عن الضمة؛ لأنه ملحق بجمع المذكر السالم، و {أُولُوا}: مضاف، و {الْأَلْبابِ}:
مضاف إليه، والجملة الفعلية:{إِنَّما يَتَذَكَّرُ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها.
{الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ (20)}
الشرح: {الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللهِ} : العهد: اسم للجنس، أي: بجميع عهود الله، وهي أوامره، ونواهيه؛ التي وصى بها عباده، ويدخل في هذه الألفاظ جميع الفروض، وتجنب جميع المعاصي، هذا؛ وقيل: عهد الله إلى خلقه ثلاثة عهود؛ الأول: العهد الذي أخذه على جميع ذرية آدم عليه السلام في قديم الأزل بأن يقروا بربوبيته، وهو قوله تعالى:{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ..} . إلخ الآية رقم [171] من سورة (الأعراف)، والعهد الثاني خص به النبيين المرسلين بأن يبلغوا الرسالة، ويقيموا الدين، وهو قوله تعالى:{وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ..} . إلخ الآية رقم [7] من سورة (الأحزاب)، والعهد الثالث خص به العلماء من كل أمة، وهو قوله تعالى:{وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ} الآية رقم [187] من سورة آل عمران. {وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ} : النقض: فك التركيب، وأصله فك طاقات الحبل، واستعماله في إبطال العهد استعارة تصريحية مطلقة، وهي التي يذكر فيها ملائم المشبه. قال قتادة: تقدم الله إلى عباده في نقض الميثاق، ونهى عنه في بضع وعشرين آية. انتهى. قرطبي. {الْمِيثاقَ}: أصله الموثاق، قلبت الواو ياء لسكونها، وانكسار ما قبلها، وترد الواو لأصلها في الجمع؛ لأن جمع التكسير يرد الأشياء إلى أصولها، فجمعه: مواثيق، وقل مثل ذلك في ميعاد، وميقات، وميزان، وميراث، ونحو ذلك.
الإعراب: {الَّذِينَ} : فيه وجوه: الأول: إتباعه لأولي الألباب على البدلية، أو على النعت، الثاني: هو منصوب على المدح بفعل محذوف. الثالث: هو مرفوع على اعتباره مبتدأ خبره الجملة الاسمية الآتية {أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدّارِ} أو هو خبر لمبتدإ محذوف، التقدير: هم الذين
…
إلخ، وهو مبني على الفتح في محل جر على الأول، أو في محل نصب على الثاني، أو في محل رفع على الثالث. {يُوفُونَ}: مضارع مرفوع
…
إلخ، والواو فاعله. {بِعَهْدِ}:
متعلقان به، و (عهد) مضاف، و {اللهِ}: مضاف إليه، والجملة الفعلية صلة الموصول لا محل لها، والعائد: واو الجماعة، وجملة:{وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ} معطوفة عليها لا محل لها مثلها.
الشرح: {وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ} : قال ابن عباس-رضي الله عنهما: يريد الإيمان بجميع الكتب والرسل، يعني: يصل بينهم بالإيمان، ولا يفرق بين أحد منهم. انتهى.
أقول: ويندرج فيه موالاة المؤمنين، ومراعاة جميع حقوق العباد، والأكثرون على أن المراد به صلة الرحم، عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
«قال الله عز وجل: أنا الله، وأنا الرحمن خلقت الرّحم، وشققت لها اسما من اسمي، فمن
وصلها وصلته، ومن قطعها قطعته، أو قال: بتتّه». رواه أبو داود والترمذي. وعن عائشة رضي الله عنها-قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الرحم معلقة بالعرش، تقول: من وصلني وصله الله، ومن قطعني قطعه الله» . متفق عليه.
هذا؛ والأحاديث النبوية في ذلك كثيرة، والرحم: كل ذكر أو أنثى يمت إليك بالقرابة من جهة الأم أو الأب، وأولى بل وأحق بالبر والصلة الأبوان. {وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} أي: مع وفائهم بعهد الله وميثاقه، والقيام بحقوق الرحم يخافون ربهم، والخشية: خوف يشوبه تعظيم، وأكثر ما يكون ذلك عن علم بما يخشى منه، هذا؛ والماضي خشي، والمصدر خشية، والرجل خشيان، والمرأة خشيا، وهذا المكان أخشى من ذلك، أي: أشد خوفا منه، هذا؛ وقد يأتي الفعل (خشي) بمعنى علم القلبية؛ قال الشاعر:[الكامل]
ولقد خشيت بأنّ من تبع الهدى
…
سكن الجنان مع النّبيّ محمّد
قالوا: معناه علمت، وقوله تعالى:{فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً} قال الأخفش: معناه كرهنا، وانظر رقم [81] من سورة (الكهف).
الإعراب: {وَالَّذِينَ} : معطوف على ما قبله على جميع وجوهه. {يَصِلُونَ} : مضارع مرفوع
إلخ، والواو فاعله. {ما}: اسم موصول أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل نصب مفعول به. {أَمَرَ اللهُ} : ماض وفاعله. {بِهِ} : متعلقان بالفعل {أَمَرَ،} وهما في محل نصب مفعول به؛ إذ الأصل: ما أمرهم الله به، فحذف المفعول به، وقام الجار والمجرور مقامه.
وجملة: {أَمَرَ اللهُ بِهِ} صلة {ما،} أو صفتها، والعائد أو الرابط: الضمير المجرور محلاّ بالباء، {أَنْ يُوصَلَ}: مضارع مبني للمجهول منصوب ب {أَنْ،} ونائب الفاعل يعود إلى ما، وأن ويوصل في تأويل مصدر، في محل جر بدل من الضمير، بدل ظاهر من مضمر، وقيل: في محل نصب بدلا من {ما} والأول أولى لقربه، وجوز أن يكون في محل رفع خبر لمبتدإ محذوف، التقدير: هو الوصل، وقيل: مفعول لأجله على حذف المضاف، التقدير: كراهية وصله، أو التقدير:
لئلا يوصل، ولا وجه لهما البتة، وجملة:{وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} معطوفة على جملة الصلة لا محل لها مثلها، وأيضا جملة:{وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ} معطوفة عليها، لا محل لها مثلها.
الشرح: {وَالَّذِينَ صَبَرُوا} : هذه الصفة الخامسة من صفات أولي الألباب، وانظر الصبر في الآية رقم [115] من سورة (هود) عليه السلام، وقوله {اِبْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ} أي: طلبا لمرضاته
تعالى، وهذا هو الصبر المحمود، وهو أن يكون الإنسان صابرا لله تعالى، راضيا بما نزل به من الله، طالبا في ذلك الصبر ثواب الله تعالى، محتسبا أجره على الله، فهذا هو الصبر الذي يدخل صاحبه رضوان الله، وأما إذا صبر الإنسان؛ ليقال: ما أكمل صبره، وأشد قوته على تحمل النوازل! أو يصبر لئلا يعاب على الجزع، أو يصبر؛ لئلا تشمت به الأعداء، فهذا كله مذموم لا ينيل صاحبه ما يذكر فيما يأتي، وقد يعرضه لشديد غضب الله ونقمته، لذا فإن قوله {اِبْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ} احتراس من أن يفهم منه أن كل صبر محمود.
{وَأَقامُوا الصَّلاةَ} : هذه هي الصفة السادسة من صفات أولي الألباب، انظر شرحها في الآية رقم [114] من سورة (هود) عليه السلام؛ تجد ما يسرك. {وَأَنْفَقُوا مِمّا رَزَقْناهُمْ} أي: بعض الذي رزقناهم إياه، ف (من) الجارة معناها التبعيض وهو أولى ليدخل فيه إخراج المال في جميع وجوه البر والخير. {سِرًّا}: خفية. {وَعَلانِيَةً} : جهرا، ومثله: العلن والإعلان، وما أكثر ما يتردد هذان اللفظان في القرآن الكريم انظر الآية رقم [31] من سورة (إبراهيم)، والمعنى: ينفقون المال في جميع الحالات من سر، وإعلان، ومما ينبغي التنبه له: أن الإسرار في صدقة التطوع أفضل من الجهر بها، والأحاديث المرغبة في ذلك كثيرة مشهورة، وأما الزكاة الواجبة فالجهر بها أفضل لأمرين؛ أولهما: ليقتدي الناس بفاعلها، وثانيهما: لئلا يتهم بمنعها، ولا سيما إذا كان ظاهر الغنى، وما في الآية الكريمة يحتمل أن يكون المراد به الزكاة المفروضة، وأن يكون صدقة التطوع، وأن يكون المراد كليهما وهو أولى ليدخل فيه إخراج المال في جميع وجوه البر، والخير.
{وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ} : قال ابن عباس-رضي الله عنهما: يدفعون بالعمل الصالح العمل السيئ، فيكون المراد كما في الآية رقم [114] من سورة (هود) عليه السلام انظر شرحها هناك؛ تجد ما يسرك، وقال الحسن رحمه الله تعالى:«إذا حرموا أعطوا، وإذا ظلموا عفوا، وإذا قطعوا وصلوا» فيكون المراد كما في الآية رقم [198] من سورة (الأعراف)، انظر شرحها هناك تجد ما يسرك ويثلج صدرك، ومن هذا القبيل، ومن هذه المشكاة قوله تعالى:{وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ..} . إلخ الآية رقم [32] من سورة (فصلت).
{أُولئِكَ} : الإشارة لأولي الألباب الموصوفين بالصفات المذكورة. {لَهُمْ عُقْبَى الدّارِ} أي:
العقبى المحمودة، والدار الآخرة أعم منها؛ لأنها تشمل الجنة والنار، والدليل على هذا النعت المحذوف قوله في المقابل:{وَلَهُمْ سُوءُ الدّارِ} والعقبى: الانتهاء الذي يؤدي إليه الابتداء من خير أو شر، هذا؛ ولا ريب أنه يوجد بعد الموت داران، هما: الجنة والنار، خذ قول القائل:[البسيط]
الموت باب، وكلّ الناس داخله
…
فليت شعري بعد الباب ما الدّار؟
أجيب من طرف الغيب: [البسيط]
الدّار جنة عدن، إن عملت بما
…
يرضي الإله، وإن خالفت فالنّار
هما محلاّن ما للنّاس غيرهما
…
فانظر لنفسك ماذا أنت مختار؟
الإعراب: {وَالَّذِينَ} : معطوف على سابقيه. {صَبَرُوا} : ماض، والواو فاعله، والألف للتفريق. {اِبْتِغاءَ}: مفعول لأجله، وقيل: هو حال بمعنى مبتغين، والأول أقوى، {اِبْتِغاءَ}:
مضاف، و {وَجْهِ}: مضاف إليه، من إضافة المصدر لمفعوله، وفاعله محذوف، و {وَجْهِ}:
مضاف، و {رَبِّهِمْ}: مضاف إليه، والهاء في محل جر بالإضافة من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه، وجملة:{صَبَرُوا..} . إلخ صلة الموصول لا محل لها، وجملة:{وَأَقامُوا الصَّلاةَ} معطوفة عليها، لا محل لها مثلها. {مِمّا}: جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. و (ما):
تحتمل الموصولة، والموصوفة، فهي مبنية على السكون في محل جر ب «من» ، والجملة الفعلية بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد أو الرابط محذوف؛ إذ التقدير: من الذين، أو من شيء رزقناهم إياه، واعتبار (ما) مصدرية ضعيف هنا. {سِرًّا وَعَلانِيَةً} حالان بمعنى: مسرين ومعلنين، قال أبو البقاء: هما مصدران في موضع الحال أي: ذوي سر وعلانية، أو هما مفعولا مطلق، أي: إنفاق سر وعلانية، أو على الظرفية؛ أي: وقتي سر وعلانية، وجملة:{وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ} معطوفة على جملة الصلة لا محل لها مثلها، هذا؛ وإعراب:{أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدّارِ} مثل إعراب: {أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ} في الآية رقم [20] بلا فارق، والجملة الاسمية في محل رفع خبر (الذين) الأول على اعتباره مبتدأ، ومستأنفة على الاعتبارات الأخرى فيه، وعلى الاعتبار الأول فالجملة الاسمية:{الَّذِينَ يُوفُونَ} .. {أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدّارِ} مستأنفة لا محل لها.
الشرح: {جَنّاتُ} : جمع جنة، وهي في الأصل: البستان الكثير الأشجار، وسميت الجنة بذلك؛ لأنها تجن، أي: تستر من يدخل فيها لكثرة أشجارها وكثافتها، وانظر أسماء الجنات في الآية رقم [25] من سورة (يونس) عليه السلام، و {عَدْنٍ}: إقامة وخلود، يقال: عدن بالمكان: إذا أقام به، ومنه المعدن، أي: الموجود في باطن الأرض، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:«عدن دار الله، الّتي لم ترها عين قطّ، ولم تخطر على قلب بشر، لا يسكنها إلاّ ثلاثة: النّبيّون والصّدّيقون، والشهداء، يقول الله: طوبى لمن دخلك» . رواه الطبراني عن أبي الدرداء رضي الله عنه، وانظر الآية رقم [73] من سورة (التوبة) إن أردت أن تعرف المزيد من رضوان الله على المطيعين من أولي الألباب.
{وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيّاتِهِمْ} : قيل: المعنى يدخل جنات عدن من اتصف بالصفات المذكورة، ويدخلها معهم من كان صالحا من هؤلاء، أي: لا يدخلونها بالأنساب والقرابات، وقيل: المعنى؛ يدخلها أولو الألباب مع من صلح من آبائهم
…
إلخ، وإن لم يعمل مثل أعمالهم يلحقه الله بهم كرامة لهم، وأرى هذا ضعيفا جدّا؛ لأن أولي الألباب هم الجديرون بالكرامة الإلهية، وقال الزجاج: إن الإنسان لا ينتفع بغير أعماله الصالحة، وقال ابن عباس-رضي الله عنهما: يعني ومن صدق من آبائهم بما صدقوا به، فهو يعني بهذا الصلاح الإيمان بالله ورسوله.
قال الواحدي: والصحيح ما قاله ابن عباس: لأن الله تعالى جعل ثواب المطيع سروره بما يراه في أهله، حيث بشره بدخول الجنة مع هؤلاء، فدل على أنهم يدخلونها كرامة للمطيع العامل الآتي بالأعمال الصالحة، ولو كان دخولهم الجنة بأعمالهم الصالحة، لم يكن ذلك كرامة للمطيع، ولا فائدة في الوعد به؛ إذ كل من كان صالحا يدخل الجنة في عمله. انتهى. خازن بتصرف.
أقول: ينبغي أن لا يعزب عن بال كل عاقل أن الله شرط الصلاح لدخول الآباء والأزواج والذرية مع أولي الألباب المتصفين بالصفات التي رأيتها، كيف لا؟ وإبراهيم عليه الصلاة والسلام لم ينفع أباه مع عدم صلاحه، ونوح عليه السلام لم ينفع امرأته ولا ابنه مع عدم صلاحهما، وكذاك لوط عليهم جميعا ألف صلاة، وألف سلام.
والمعنى العام: أن النعمة تتم على المطيعين في الجنة بأن جعلهم الله مجتمعين مع قراباتهم فيها، وإن دخلها كل إنسان بعمل نفسه، بل برحمة الله تعالى، هذا؛ و (آباء) يدخل تحته الأمهات بدون ريب، فهو من باب التغليب، أو بإلحاقهن بالآباء إلحاقا، ولعلهن لا يرضين بالإلحاق، بل يرضين بالتغليب. {وَأَزْواجِهِمْ}: جمع زوج، وهو يطلق على الرجل والمرأة على الانفراد، وانظر شرح {زَوْجَيْنِ} في الآية رقم [3] {وَذُرِّيّاتِهِمْ}: جمع ذرية، وهي النسل من بني آدم، وهي تقع على الجمع وعلى الواحد أيضا كما في قوله تعالى:{كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ} قيل: هي مشتقة من الذّرا، بفتح الذال، وهو كل ما استذريت به، يقال: أنا في ظل فلان، وفي ذراه، أي: في كنفه، وستره، وتحت حمايته، وهو بضم الذال: أعلى الشيء، وقيل: هي مشتقة من الذّرء، وهو الخلق، قال تعالى:{قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} وقال تعالى:
{يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ} أبدلت همزة الذرء ياء، ثم شددت الياء وتبعتها الراء في التشديد.
{وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ} أي: من أبواب الجنة الثمانية، أو من أبواب المنازل التي يسكنونها في الجنة، يدخلون عليهم بالتحف والهدايا تكرمة لهم، هذا؛ والملائكة أجسام نورانية لطيفة قادرة على التشكل بأشكال مختلفة، لا يأكلون ولا يشربون، ولا يبولون، ولا يتغوطون، لا ينامون، ولا يموتون، لا يعصون الله ما أمرهم، ويفعلون ما يؤمرون، يلهمون التسبيح كما يلهمون النفس، لا يوصفون بذكورة، ولا بأنوثة، فمن وصفهم بذكورة فسق، ومن وصفهم بأنوثة
كفر، وهم كثيرون لا يعلم عددهم إلا الله تعالى، قال تعالى:{وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاّ هُوَ} يقومون بأعمال مختلفة، كل فيما وكل إليه من أعمال، ورؤساؤهم عشرة: جبريل، وميكائيل، وإسرافيل، وعزرائيل، ورقيب وعتيد، ومنكر ونكير، ورضوان خازن الجنة، ومالك خازن النار.
الإعراب: {جَنّاتُ} : بدل من {عُقْبَى الدّارِ،} أو تفسير لها، أو هو خبر لمبتدإ محذوف، التقدير: هي جنات، أو هو مبتدأ، و {جَنّاتُ}: مضاف، و {عَدْنٍ}: مضاف إليه. {يَدْخُلُونَها} :
مضارع مرفوع، والواو فاعله، و (ها): مفعوله على التوسع بإجراء اللازم مجرى المتعدي، والجملة الفعلية في محل نصب حال من {جَنّاتُ عَدْنٍ} على الوجوه الثلاثة الأولى فيها، وهي في محل رفع خبره على الوجه الأخير، والرابط على جميع الاعتبارات الضمير المنصوب. هذا؛ وقرئ في سورة (فاطر) رقم [33] بنصب {جَنّاتُ} على الاشتغال على إضمار فعل يفسره المذكور. (من): اسم موصول أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل رفع، معطوفة على أولئك، أو على واو الجماعة، وساغ ذلك لوجود الفاصل بالضمير المنصوب، ويجوز أن تكون في محل نصب مفعول معه، وجوز اعتبارها فاعلا لفعل محذوف، التقدير: ويدخلها من
إلخ. {صَلَحَ} : ماض، وفاعله يعود إلى من، وهو العائد أو الرابط، والجملة الفعلية صلة (من)، أو صفتها، وينبغي أن تعلم أنه راعى لفظ (من) في رجوع الفاعل إليها، وراعى معناها في الضمائر الآتية المجرورة بالإضافة. {مِنْ آبائِهِمْ}: متعلقان بمحذوف حال من فاعل {صَلَحَ} المستتر، و (من) بيان لما أبهم في (من). {وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيّاتِهِمْ}: معطوفان على ما قبلهما، والهاء في الجميع في محل جر بالإضافة والميم حرف دال على جماعة الذكور. (الملائكة): مبتدأ، وجملة:{يَدْخُلُونَ..} . إلخ في محل رفع خبر المبتدأ {عَلَيْهِمْ} . {مِنْ كُلِّ} : متعلقان بالفعل قبلهما، و {كُلِّ}: مضاف، و {بابٍ}: مضاف إليه، والجملة الاسمية (الملائكة
…
) إلخ معطوفة على جملة: {أُولئِكَ..} . إلخ أو هي في محل نصب حال من واو الجماعة، والرابط: الواو، والضمير، أو هي مستأنفة لا محل لها، اعتبارات كلها جائزة فيما أرى.
{سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدّارِ (24)}
الشرح: {سَلامٌ عَلَيْكُمْ} : هذا من قول الملائكة كما ستعرفه، ومعناه الدعاء لهم بالسلامة من الآفات والمحن، وقيل: هو دعاء لهم بدوام السلامة، و {سَلامٌ} اسم مصدر لا مصدر؛ لأن المصدر تسليم؛ لأن الفعل سلّم يسلّم بتشديد اللام فيهما، وقيل: هو مصدر على حذف الزوائد، مثل: عذاب، وعطاء، ونبات، لعذب، وأعطى، وأنبت.
{بِما صَبَرْتُمْ} أي: هذا الثواب، وهذا النعيم حاصل بصبركم، وفي القرطبي: عن عبد الله بن سلام، وعلي بن الحسين-رضي الله عنهم-أنهما قالا: إذا كان يوم القيامة ينادي مناد: ليقم
أهل الصبر، فيقوم ناس من الناس، فيقال لهم: انطلقوا إلى الجنة، فتتلقاهم الملائكة، فيقولون:
إلى أين؟ فيقولون: إلى الجنة، قالوا: قبل الحساب، قالوا: نعم، فيقولون: من أنتم؟ فيقولون:
نحن أهل الصبر، قالوا: ما كان صبركم، قالوا: صبرنا أنفسنا على طاعة الله، وصبرناها عن معاصي الله، وصبرناها على البلاء والمحن في الدنيا، قال علي بن الحسين، فتقول لهم الملائكة: ادخلوا الجنة فنعم أجر العاملين، وقال ابن سلام: فتقول لهم الملائكة: {سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ} . هذا؛ وقيل: {بِما صَبَرْتُمْ} أي: على الجهاد في سبيل الله.
فعن عبد الله بن عمرو-رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هل تدرون من يدخل الجنة من خلق الله؟» . قالوا: الله ورسوله أعلم، قال:«المجاهدون، الذين تسدّ بهم الثّغور، وتتّقى بهم المكاره، فيموت أحدهم، وحاجته في نفسه لا يستطيع لها قضاء، فتأتيهم الملائكة، فيدخلون عليهم من كلّ باب، فيقولون: سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار» . وينبغي أن تؤول قوله عليه الصلاة والسلام: «هل تدرون من يدخل الجنة» . أي: في الأول، وبدون حساب، وإلا فجميع المؤمنين يدخلون الجنة بعد الحساب، وانظر قوله تعالى:{تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ} في الآية رقم [10] من سورة (يونس) عليه السلام، وانظر الآية رقم [61] من سورة (مريم) عليها السلام، هذا؛ والحديث المذكور في الترغيب والترهيب للحافظ المنذري، بأوسع من هذا؛ وبإبدال (المجاهدون) ب (الفقراء المهاجرون). تأمل.
{فَنِعْمَ عُقْبَى الدّارِ} : انظر الآية رقم [24] لشرح عقبى الدار، وأما نعم فهي فعل ماض لإنشاء المدح، وضدها (بئس) ماض لإنشاء الذم: فنعم منقول من نعم فلان بفتح النون وكسر العين، إذا أصاب النعمة، و (بئس) منقول من: بئس فلان بفتح الباء وكسر الهمزة، إذا أصاب بؤسا، فنقلا إلى المدح والذم، فشابها الحروف، فلم يتصرفا، وفيهما أربع لغات: نعم وبئس بكسر وسكون وهي أفصحهن، وهي لغة القرآن، ثم نعم وبئس، بكسر أولهما وثانيهما، غير أن الغالب في نعم أنه يجيء بعدها (ما) كقوله تعالى:{نِعِمّا يَعِظُكُمْ بِهِ} وبئس جاءت بعدها (ما) على اللغة الأولى الفصحى، كقوله تعالى:{بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ} واللغة الثالثة: نعم وبئس بفتح فسكون، والرابعة نعم وبئس بفتح فكسر، وهي الأصل فيهما.
ولا بد لهما من شيئين: فاعل، ومخصوص بالمدح أو الذم، والقول بفعليتهما إنما هو قول البصريين، والكسائي، بدليل دخول تاء التأنيث عليهما في قول الرسول صلى الله عليه وسلم:«من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت، ومن اغتسل فالغسل أفضل» . وقال الكوفيون إلا الكسائي: هما اسمان بدليل دخول حرف الجر عليهما في قول أعرابي، وقد أخبر بأن امرأته ولدت بنتا له:(والله ما هي بنعم الولد، نصرها بكاء، وبرّها سرقة)، وقول غيره:(نعم السّير على بئس العير).
وأوله البصريون على حذف كلام مقدر؛ إذ التقدير: والله ما هي بولد مقول فيه: نعم الولد، ونعم السير على عير مقول فيه: بئس العير. والمعتمد في ذلك قول البصريين، هذا؛ ويجب في فاعلهما أن يكون مقترنا بال، كما في قوله تعالى:{نِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} أو مضافا لمقترن بها، كما في الآية الكريمة، أو ضميرا مميزا بنكرة، كقوله تعالى:{بِئْسَ لِلظّالِمِينَ بَدَلاً} أو كلمة (ما) نحو قوله تعالى: {بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ} .
هذا بالإضافة إلى تفسير الدار بما رأيت، أقول: الدار هي منزل الإنسان ومسكنه في الدنيا، وهي مؤنثة، وقد تذكر، أصلها دور بفتحتين، قلبت الواو ألفا لتحركها، وانفتاح ما قبلها، وجمعها ديار ودور، وأدؤر وأدور، وأدورة، وأدوار، ودورات، وديارات، ودوران، وديران، وأصل ديار دوار، قلبت الواو ياء لأنها وقعت عينا في جمع على وزن فعال، لمفرد اعتلت عينه بالقلب، هذا؛ والدار أيضا البلد، والقبيلة، ودار القرار في الآخرة، والداران: الدنيا والآخرة، ودار الحرب بلاد العدو.
هذا؛ وقد قال أبو حاتم: إن الديار العساكر والخيام، لا البنيان والعمران، وإن الدار البنيان والعمران، وعليه قوله تعالى:{فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ} أي: في عساكرهم وخيامهم ميتين، وقال جل شأنه:{فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ} أي: في مدينتهم المعمورة، ولو أراد غير ذلك لجمع الدار، فعلم من كلامه، أن الديار مخصوصة بالخيام. انتهى. قال صاحب الخزانة: وهذه غفلة عن قول الشاعر، وهو مجنون ليلى:(أقبّل ذا الجدار) وهو حائط البيت، وذلك في قوله:[الوافر]
أمرّ على الدّيار، ديار ليلى
…
أقبّل ذا الجدار وذا الجدارا
وما حبّ الدّيار شغفن قلبي
…
ولكن حبّ من سكن الدّيارا
الإعراب: {سَلامٌ} : مبتدأ، سوغ الابتداء به وهو نكرة الدعاء، {عَلَيْكُمْ}: متعلقان بمحذوف خبره، والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول لقول محذوف، واقع حالا من الملائكة، أي: قائلين: سلام عليكم. {بِما} : الباء: حرف جر. (ما): مصدرية. {صَبَرْتُمْ} : فعل وفاعل، وما والفعل بعدها في تأويل مصدر في محل جر بالباء، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر لمبتدإ محذوف، التقدير: هذه الكرامة بسبب صبركم، ولا يجوز تعليقهما ب {سَلامٌ} للفصل بالخبر، وهو أجنبي، والجملة هذه من جملة مقول الملائكة. {فَنِعْمَ}: الفاء: حرف عطف.
(نعم): ماض جامد لإنشاء المدح. {عُقْبَى} : فاعل مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر، و {عُقْبَى}: مضاف، و {الدّارِ}: مضاف إليه، والمخصوص بالمدح محذوف، التقدير: الممدوحة هي، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، فتكون من مقول الملائكة أيضا، هذا؛ وقيل: الفاء الفصيحة، ولا وجه له كما ترى.
الشرح: {وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ} : لما ذكر الله أحوال السعداء، وما أعد لهم من الكرامات والخيرات، ذكر بعده أحوال الأشقياء، وما أعد لهم من العقوبات، ومعنى {مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ} من بعد ما أوثقوه على أنفسهم بالاعتراف بربوبيته، والقبول لعهده الذي أخذه عليهم في عالم الذر، أو بالذي أودعه فيهم من العقول، وغيرها مما ميزوا به عن عالم الحيوانات والجمادات، {وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ} أي: من الإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم، وصلة الأرحام، وموالاة المؤمنين، وعدم التفرقة بين الرسل والكتب في التصديق. {وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ}: بالكفر والمعاصي والظلم وإثارة الفتن. {أُولئِكَ} أي: الموصوفون بما ذكر. {لَهُمُ اللَّعْنَةُ} أي: الطرد من رحمة الله. {وَلَهُمْ سُوءُ الدّارِ} أي: سوء المنقلب والمرجع والمآب، وهو جهنم وبئس القرار.
تنبيه: لقد كرر الله لعن الكفار في الآية رقم [161] من سورة (البقرة)، كما لعن الظالمين والكاذبين، والناقضين للعهد والميثاق في آيات متفرقة، وهو دليل قاطع على أن من مات على كفره فقد استحق اللعن من الله والناس أجمعين، وأما الأحياء من الكفار فقد قال العلماء:
لا يجوز لعن كافر معين؛ لأن حاله عند الوفاة لا يعلم، فلعله يموت على الإسلام، وقد شرط الله في آية البقرة إطلاق اللعنة على من مات على الكفر، ويجوز لعن الكفار، أي: جملة بدون تعيين، كما في قولك: لعن الله الكافرين، يدل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم:«لعن الله اليهود حرّمت عليهم الشّحوم، فجمّلوها وباعوها» . وذهب بعضهم إلى جواز لعن إنسان معين من الكفار، بدليل جواز قتاله. وهو الصحيح، كيف لا؟ وقد لعن حسان بن ثابت رضي الله عنه أبا سفيان، وزوجه هندا في شعره ولم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، خذ قوله:[الكامل]
لعن الإله وزوجها معها
…
هند الهنود طويلة البظر
وقد لعن الفاروق-رضي الله عنه-أبا سفيان وعكرمة وأبا الأعور السلمي وغيرهم الذين قدموا المدينة، بعد موقعة أحد، وقد أعطاهم النبي صلى الله عليه وسلم الأمان على أن يكلموه، فقام معهم جماعة من المنافقين، وقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: ارفض ذكر آلهتنا، وقل: إن لها شفاعة لمن عبدها، وندعك وربك، فشق ذلك على سيد الخلق وحبيب الحق، فقال الفاروق: يا رسول الله ائذن لي في قتلهم، فقال:«إني أعطيتهم الأمان» . فقال الفاروق: اخرجوا في لعنة الله وغضبه، ولم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، كيف لا؟ وآية اللعان في سورة (النور) تأمر المسلم أن يلعن نفسه إن كان من الكاذبين.
وأما العصاة من المسلمين، فلا يجوز لعن أحد منهم على التعيين قطعا، وأما على الإطلاق، فيجوز، كما في قولك: لعن الله الفاسقين والفاسقات، والفاسدين والفاسدات
…
إلخ لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لعن الله السارق يسرق البيضة والحبل، فتقطع يده» . ولعن رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«الواشمة والمستوشمة، وآكل الرّبا، ولعن من غيّر منار الأرض، ومن انتسب إلى غير أبيه، ومن عمل عمل قوم لوط، ومن أتى امرأة في دبرها، وغير ذلك» . وكل هذا في الصحيح.
الإعراب: {وَالَّذِينَ} : (الذين): اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ. {يَنْقُضُونَ} :
مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله. {عَهْدَ}:
مفعول به، وهو مضاف، و {اللهِ} مضاف إليه، من إضافة المصدر لمفعوله، وفاعله محذوف، التقدير: عهدهم الله، أي: معاهدتهم الله، {مِنْ بَعْدِ}: متعلقان بالفعل قبلهما، وقيل:{مِنْ} زائدة، وليس بشيء، وقيل: متعلقان بمحذوف حال ولا وجه له، و {بَعْدِ}: مضاف، و {مِيثاقِهِ}:
مضاف إليه، والهاء في محل جر بالإضافة، من إضافة المصدر لمفعوله على اعتباره عائدا على العهد، وفاعله مستتر فيه، أو من إضافة المصدر لفاعله على اعتباره عائدا إلى اسم الله تعالى، وجملة:{يَنْقُضُونَ} صلة الموصول لا محل لها، وجملة:{وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ} معطوفة عليها لا محل لها مثلها، وانظر إعراب مثلها في الآية رقم [23]، وجملة:{وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ} معطوفة عليها أيضا لا محل لها {أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ} إعراب هذه الجملة مثل إعراب: {أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ} في الآية رقم [20] بلا فارق بينهما، والجملة الاسمية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية:{وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ..} . إلخ معطوفة على الجملة الاسمية: {الَّذِينَ يُوفُونَ} .. {أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدّارِ} لا محل لها، وهذا على اعتبار (الذين) الأول مبتدأ كما رأيت هناك، ومستأنفة على اعتباره تابعا لأولي الألباب. {وَلَهُمْ}: الواو: حرف عطف. {لَهُمُ} : متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {سُوءُ} : مبتدأ مؤخر، وهو مضاف، و {الدّارِ}: مضاف إليه من إضافة الصفة للموصوف، والجملة الاسمية هذه معطوفة على الجملة الاسمية:{لَهُمُ اللَّعْنَةُ} فهي في محل رفع مثلها.
الشرح: {اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ} : لما بيّن الله عاقبة المؤمنين المتصفين بالصفات النبيلة الثمانية، وعاقبة المشركين، الناقضين للعهد والميثاق، القاطعين ما أمر الله به أن يوصل، المفسدين في الأرض؛ بيّن في هذه الآية أنه تعالى يوسع في الرزق على من يشاء، ويضيق على من يشاء في هذه الدنيا؛ لأنها دار امتحان واختبار، فبسط الرزق على الكافر لا يدل على كرامته، بل قد يكون استدراجا له، والتقتير على بعض المؤمنين لا يدل على إهانتهم، بل ربما
يكون امتحانا لصبرهم وتكفيرا لذنوبهم، أو رفع درجاتهم، ومعنى (يقدر) يضيق، ومنه قوله تعالى:{وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ} أي: ضيق.
{وَفَرِحُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا} أي: فرح أهل مكة لما وسع الله عليهم في الرزق، فبطروا، وأشروا، وانظر الفرح في الآية رقم [58] من سورة (يونس) عليه السلام، وانظر شرح الحياة الدنيا في الآية رقم [23] منها أيضا، {وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ} أي: في جنبها، وبالنسبة إليها. {إِلاّ مَتاعٌ} أي:
من الأمتعة التي يتمتع فيها، مثل القصعة، والقدر، ونحوهما، وقال البيضاوي: إلا متعة لا تدوم كعجالة الراكب، وزاد الراعي. انتهى. أي: ثم تذهب وتفنى، كذلك الحياة الدنيا ذاهبة لا بقاء لها.
هذا؛ ويقرأ الفعل {يَبْسُطُ} في الآية رقم [244] من سورة (البقرة) بالسين والصاد.
الإعراب: {اللهُ} : مبتدأ. {يَبْسُطُ} : مضارع، والفاعل يعود إلى {اللهُ}. {الرِّزْقَ}: مفعول به. {لِمَنْ} : متعلقان بالفعل قبلهما، و (من) موصولة، أو موصوفة، فهي مبنية على السكون في محل جر باللام، والجملة الفعلية بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد أو الرابط محذوف؛ إذ التقدير:
للذي، أو لشخص يشاؤه، وجملة:(يقدر) مع المتعلق المحذوف معطوفة عليها، والجملة الفعلية:
{يَبْسُطُ..} . إلخ في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية:{اللهُ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها.
{وَفَرِحُوا} : الواو: حرف استئناف. (فرحوا): ماض مبني على الضم، والواو فاعله، والألف للتفريق، وانظر إعراب:{فَتَحُوا} في الآية رقم [65] من سورة (يوسف). {بِالْحَياةِ} : متعلقان بما قبلهما. {الدُّنْيا} : صفة (الحياة) مجرورة
…
إلخ، وجملة: (فرحوا
…
) إلخ مستأنفة لا محل لها، وقول القرطبي: معطوفة على {وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ،} وفي الآية تقديم وتأخير، لا وجه له البتة.
{وَمَا} : الواو: واو الحال. (ما): نافية مهملة. {بِالْحَياةِ} : مبتدأ. {الدُّنْيا} : صفة الحياة مرفوع
…
إلخ. {فِي الْآخِرَةِ} : متعلقان بمحذوف حال من {بِالْحَياةِ الدُّنْيا،} وهو على رأي من يجيز مجيء الحال من المبتدأ، والذي دعا إلى ذلك عدم صحة تعليقهما في الحياة، ولا في الدنيا؛ لأنهما لا يكونان في الآخرة. {إِلاّ}: حرف حصر. {مَتاعٌ} : خبر المبتدأ، والجملة الاسمية:
{وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا..} . إلخ في محل نصب حال من الحياة الدنيا، والرابط: الواو وإعادة صاحب الحال بلفظه، وكان حقه الإضمار، وإنما أعيد بلفظه زيادة في تحقير الحياة الدنيا، وصرفا للأنظار عنها.
الشرح: {وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا} أي: من أهل مكة، والقائل هو عبد الله بن أبي أمية المخزومي وأصحابه. {لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ}: هلا أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم آية ومعجزة كالعصا، واليد، والناقة، ونحو ذلك. {قُلْ إِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ} أي: إضلاله، فلا ينفعه نزول الآيات، وكثرة
المعجزات، إن لم يهده الله عز وجل، وذلك لأن الآيات الباهرة التي ظهرت على يد الرسول صلى الله عليه وسلم بلغت في الكثرة، وقوة الدلالة إلى حالة يستحيل فيها أن تصير مشتبهة على العاقل، فطلب آيات أخرى بعد ذلك لا يفيد شيئا.
{وَيَهْدِي إِلَيْهِ} أي: إلى الحق، أو إلى الإسلام، أو إلى الله. {مَنْ أَنابَ}: رجع إليه، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.
هذا؛ ومصدر الفعل {يُضِلُّ} الإضلال، وهو: خلق فعل الضلال في العبد، والهداية: خلق فعل الاهتداء في العبد، هذا هو الحقيقة عند أهل السنّة، وقد يعترض بعض الناس على خلق فعل الضلال في العبد، فيقول: إذا لا مؤاخذة على العبد، فكيف يعذبه الله؟ والجواب: أن معنى خلق الضلال
…
إلخ: تقدير ضلاله، وهذا التقدير مبني على علم الله الأزلي بأن هذا العبد لو ترك وشأنه، لم يختر سوى الكفر والضلال، ولذا قدره الله عليه، هذا بالإضافة إلى اختياره الضلال، بعد أن بين الله لكل واحد الخير والشر، والحسن والقبيح، كما قال الله عز وجل:
{وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ} أي: بينا له طريق الخير وطريق الشر.
الإعراب: {وَيَقُولُ} : الواو: حرف استئناف. (يقول): مضارع. {الَّذِينَ} : اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع فاعل، وجملة:{كَفَرُوا} مع المتعلق المحذوف صلة الموصول لا محل لها. {لَوْلا} : حرف تحضيض. {أُنْزِلَ} : ماض مبني للمجهول. {عَلَيْهِ} : متعلقان به.
{آيَةٌ} : نائب فاعل. {مِنْ رَبِّهِ..} .: متعلقان بمحذوف صفة: {آيَةٌ،} والهاء في محل جر بالإضافة، وجملة:{لَوْلا أُنْزِلَ..} . إلخ في محل نصب مقول القول، وجملة: (يقول
…
) إلخ مستأنفة لا محل لها. {قُلْ} : أمر، وفاعله مستتر، تقديره:«أنت» . {إِنَّ} : حرف مشبه بالفعل. {اللهَ} : اسمها. {يُضِلُّ} : فعل مضارع، والفاعل يعود إلى {اللهَ}. {مِنْ}: اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل نصب مفعول به، والجملة الفعلية بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد أو الرابط محذوف، التقدير: يضل الذي، أو شخصا يشاء الله إضلاله، وجملة:{يُضِلُّ..} . إلخ في محل رفع خبر (إن)، والجملة الاسمية:{إِنَّ اللهَ..} . إلخ في محل نصب مقول القول، وجملة:{قُلْ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها، وجملة:{وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ} معطوفة على ما قبلها، فهي في محل رفع مثلها، وإعرابها ظاهر إن شاء الله تعالى.
الشرح: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ} : أنسا به، واعتمادا عليه، ورجاء منه تعالى، أو بذكر رحمته، بعد القلق من خشيته، أو بذكر دلائله، الدالة على وجوده ووحدانيته، أو بكلامه، يعني: القرآن الذي هو أقوى المعجزات. انتهى. بيضاوي. وقيل: تطمئن بوعده، أو تطمئن بذكر
فضله، وإنعامه، كما توجل بذكر عدله وانتقامه وقضائه، وقال ابن عباس-رضي الله عنهما-هذا في الحلف، وذلك أن المسلم إذا حلف بالله على شيء؛ سكنت قلوب المؤمنين إليه. {أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}: تسكن قلوب المؤمنين، ويستقر اليقين فيها، بسبب ذكر الله تعالى.
هذا؛ وقد ذكر الله في سورة (الأنفال) في الآية رقم [2] أن قلوب المؤمنين توجل من ذكر الله تعالى، وذكر هنا أن قلوبهم تطمئن وتسكن لذكره تعالى!؟ والجواب: أن الوجل إنما يكون عند ذكر الوعيد والعقاب، والطمأنينة، إنما تكون عند الوعد والثواب، وهذا مقام الخوف والرجاء، وقد جمعا في آية الزمر:{اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللهِ} والمعنى: تقشعر جلودهم من ذكر عقاب الله ووعيده، ثم تلين وتطمئن جلودهم وقلوبهم عند ذكر الله ورجاء ثوابه، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.
الإعراب: {الَّذِينَ} : بدل من {مَنْ أَنابَ} أو عطف بيان عليه، أو هو منصوب بفعل محذوف، التقدير: أمدح ونحوه، وأجيز اعتباره مبتدأ خبره الموصول في الآية التالية، كما أجيز اعتباره خبر مبتدأ محذوف، وهذان الوجهان ضعيفان جدا، وجملة:{آمَنُوا} مع المتعلق المحذوف صلة الموصول لا محل لها، وجملة:{وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ} معطوفة عليها، لا محل لها، واعتبارها حالا لا يجوز إلا على تقدير مبتدأ قبلها، أي: وهم تطمئن قلوبهم، والضعف يظهر على الاعتبارين، وأرى، بل وأعتمد وأرجح أن الواو صلة، وعليه فالجملة تحتمل وجهين في محل رفع خبر الذين على اعتباره مبتدأ، وفي محل نصب حال على اعتباره بدلا مما قبله، أو على اعتباره مفعولا به لفعل محذوف، وزيادة الواو قيل بها في قوله تعالى:{فَلَمّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا} وخذ قول ابن الذئبة ربيعة بن عبد ياليل: [الطويل]
فما بال من أسعى لأجبر عظمه
…
حفاظا، وينوي من سفاهته كسري؟
إذا الأصل (ينوي) وفي الآيات الكريمة جملة: (ناديناه) جواب لما كما هو ظاهر. هذا؛ ومثلها الآية رقم [25] من سورة (الحج)، والجملة:{الَّذِينَ..} . إلخ مستأنفة على اعتبار الموصول مبتدأ، {أَلا}: حرف تنبيه واستفتاح يسترعي انتباه المخاطب لما يأتي بعده من كلام.
{بِذِكْرِ} : متعلقان بالفعل بعدهما، وجوز أبو البقاء اعتبارهما مفعولا به للفعل بعدهما، كما جوز تعليقهما بمحذوف حال من القلوب، وكلاهما ضعيفان. {تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}: مضارع وفاعله، والجملة الفعلية مستأنفة لا محل لها.
{الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ طُوبى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (29)}
الشرح: {الَّذِينَ آمَنُوا} أي: بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقضاء والقدر خيره وشره من الله تعالى، والإيمان الصحيح هو الإقرار باللسان، والتصديق بالجنان،
والعمل بالأركان، أي: الجوارح، وانظر زيادته ونقصه في الآية رقم [2] من سورة (الأنفال).
{وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ} أي: الأعمال الصالحات على اختلافها وتفاوت درجاتها ومراتبها. {طُوبى} :
اختلف العلماء في تفسير هذه الكلمة، فقال ابن عباس-رضي الله عنهما-فرح لهم وقرة عين، وقال عكرمة: نعمى لهم، وقال الزجاج: طوبى من الطيب، وقيل: تأويلها الحال المستطابة لهم، وهو كل ما استطابه هؤلاء في الجنة، من بقاء بلا فناء، وعز بلا ذل، وغنى بلا فقر، وصحة بلا سقم، وقيل: غير ذلك، وقيل: هي شجرة في الجنة، ويؤيده ما رواه سهل بن سعد-رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ في الجنّة شجرة يسير الراكب في ظلّها مائة عام لا يقطعها» .
متفق عليه، وفي رواية عن أبي سعيد الخدري تشبه رواية سهل، وزاد البخاري في رواية عن أبي هريرة:«واقرءوا إن شئتم: {وَظِلٍّ مَمْدُودٍ» }. و {طُوبى} مصدر كبشرى ورجعى وزلفى، والأصل «طيبى» فقلبت الياء واوا لسكونها وضم ما قبلها، كما قالوا: موسر وموقن، والأصل ميسر وميقن.
قال الأزهري: طوبى لك، وطوباك لحن، لا تقوله العرب، وهو قول أكثر النحويين، وقال الأخفش: من العرب من يضيفها، فيقول: طوباك، وقال الشهاب الخفاجي ما حاصله:
إن اللام مقدرة في طوباك، والمقدر في حكم الملفوظ، فلا يعد خطأ، وفي مغني اللبيب لابن المعتز قوله:[البسيط]
يا نفس صبرا، لعلّ الخير عقباك
…
خانتك بعد لذيذ العيش عيناك
مرّت بنا سحرا طير، فقلت لها
…
طوباك يا ليتني إيّاك طوباك
{وَحُسْنُ مَآبٍ} : مرجع، يقرأ بضم النون وفتحها بسبب عطفه على ما قبله، والإضافة ل:{مَآبٍ} قراءتان سبعيتان، ويقرأ شاذا بفتح النون، ورفع (مآب) و (حسن) على هذا فعل ماض، نقلت ضمة سينه إلى الحاء، وهذا جائز في فعل إذا كان للمدح أو الذم. انتهى. عكبري.
تنبيه: عطف العمل الصالح على الإيمان يسمى في فن البديع احتراسا، وهو يفيد: أن الإيمان وحدة قد لا يكفي بدون عمل صالح، ومن قرأ القرآن بتدبر وتفهم يجد العمل الصالح معطوفا على الإيمان في كثير من الآيات، وانظر ما ذكرته في الآية رقم [92] من سورة (الحجر) باختصار، وما ذكرته في رسالة الحج والحجاج بإسهاب وإطناب، وإلى الله المرجع والمآب.
الإعراب: {الَّذِينَ} : اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ، وجملة:{آمَنُوا} مع المتعلق المحذوف صلته، وجملة:{وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ} معطوفة على ما قبلها لا محل لها مثلها. {طُوبى} : مبتدأ مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف. {لَهُمْ}: متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ وساغ الابتداء بها لما فيها من معنى الدعاء، والجملة الاسمية في محل رفع خبر المبتدأ الأول، والجملة الاسمية:{الَّذِينَ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها، هذا؛ وأجيز
اعتبار {الَّذِينَ} بدلا من قوله: {مَنْ أَنابَ} وعليه يكون {طُوبى} منصوبا بفعل محذوف، تقديره: جعل طوبى لهم، كما قيل:{طُوبى} خبر لمبتدإ محذوف، وعليهما فاللام في {لَهُمْ} للبيان مثل سقيا لك، ورعيا لك، أو هو منصوب على الحال، وعليه يكون {لَهُمْ} متعلقين ب:
{طُوبى} و {حُسْنُ مَآبٍ} انظر أوجه القراءات في الشرح، والإعراب يتغير تبعا لها.
الشرح: {كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ} أي: إرسالك يا محمد إلى قومك كائن مثل إرسال الرسل السابقين إلى أممهم. {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ} أي: مضت أمم كثيرة قبل الأمة التي أرسلت إليها. {لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ} أي: لتقرأ على أهل مكة القرآن الذي أنزل إليك بواسطة جبريل. {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ} أي: لا يؤمنون بالبليغ الرحمة، الذي وسعت رحمته كل شيء.
{قُلْ هُوَ رَبِّي} أي: متولي أموري، وخالقي، ورازقي. {لا إِلهَ إِلاّ هُوَ}: لا إله موجود في هذا الكون إلا الله. {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} : اعتمدت ووثقت به. {وَإِلَيْهِ مَتابِ} أي: مرجعي ومصيري إلى الله تعالى.
قال مقاتل وابن جريج: نزلت الآية الكريمة في صلح الحديبية حين أرادوا أن يكتبوا كتاب الصلح، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعلي-رضي الله عنه «اكتب بسم الله الرحمن الرحيم». فقال سهيل بن عمرو والمشركون: ما نعرف الرحمن إلا صاحب اليمامة-يعنون: مسيلمة الكذاب-اكتب باسمك اللهم، وهكذا كان الجاهليون يكتبون، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعلي-كرم الله وجهه-:«اكتب هذا ما صالح عليه محمد رسول الله» . فقال مشركو قريش: لئن كنت رسول الله، ثم قاتلناك، وصددناك لقد ظلمناك، ولكن اكتب: هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله، فقال أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم: دعنا نقاتلهم، فقال:«لا، ولكن اكتب ما يريدون» . فنزلت.
وقال ابن عباس-رضي الله عنهما: نزلت في كفار قريش حين قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم:
«اسجدوا للرحمن» . قالوا: وما الرحمن؟ وقيل: سمع أبو جهل رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو في الحجر، ويقول:«يا الله يا رحمان» . فقال: كان محمد ينهانا عن عبادة الآلهة، وهو يدعو إلهين، فنزلت هذه الآية، ونزل:{قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا..} .. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.
الإعراب: {كَذلِكَ} الكاف: حرف تشبيه وجر. (ذا): اسم إشارة مبني على السكون في محل جر بالكاف، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف صفة لمفعول مطلق محذوف، عامله ما بعده، التقدير: أرسلناك في أمة إرسالا كائنا مثل إرسال الرسل من قبلك لأممهم، أو الجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر لمبتدإ محذوف، التقدير: الحال والشأن كما أرسلناك
…
إلخ، واللام
للبعد، والكاف حرف خطاب لا محل له. {أَرْسَلْناكَ}: فعل وفاعل ومفعول به أول. {فِي أُمَّةٍ} :
متعلقان بالفعل قبلهما، وهما في محل نصب مفعوله الثاني. {قَدْ}: حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال. {خَلَتْ} : ماض مبني على فتح مقدر على الألف المحذوفة لالتقائها ساكنة مع تاء التأنيث الساكنة. {مِنْ قَبْلِها} : متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من {أُمَمٌ} كان صفة له، فلما قدم عليه صار حالا، و (ها): في محل جر بالإضافة، وهي عائدة على {أُمَّةٍ} باعتبار لفظها، وقد عادت عليها الضمائر فيما يأتي جمعا باعتبار معناها. {أُمَمٌ}: فاعل خلت، والجملة الفعلية في محل جر صفة {أُمَّةٍ}. {لِتَتْلُوَا}: مضارع منصوب ب «أن» مضمرة بعد لام التعليل، والفاعل مستتر تقديره:«أنت» ، و «أن» المضمرة والمضارع في تأويل مصدر في محل جر باللام، والجار والمجرور متعلقان بالفعل (أرسلنا). {عَلَيْهِمُ}: متعلقان بما قبلهما. {الَّذِي} :
اسم موصول مبني على السكون في محل نصب مفعول به. {أَوْحَيْنا} : فعل وفاعل، والجملة الفعلية صلة الموصول، والعائد محذوف؛ إذ التقدير: أوحيناه. {إِلَيْكَ} : متعلقان بما قبلهما.
{وَهُمْ} : الواو: واو الحال. (هم): ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ، وجملة:{يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ} في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية (هم
…
) إلخ في محل نصب حال من الضمير المجرور محلاّ ب {عَلَيْهِمُ} والرابط: الواو والضمير، وقيل: مستأنفة، وهو ضعيف، وجملة:{كَذلِكَ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها. {قُلْ} : أمر، وفاعله مستتر تقديره:
«أنت» . {هُوَ} : مبتدأ. {رَبِّي} : خبره مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم، منع من ظهورها اشتغال المحل بالحركة المناسبة، والياء في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه، والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول، والجملة الفعلية:{قُلْ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها. {لا} : نافية للجنس تعمل عمل (إن): {إِلهَ} : اسم {لا} مبني على الفتح في محل نصب، والخبر محذوف، تقديره: موجود. {إِلاّ} : حرف حصر لا محل له. {هُوَ} : ضمير منفصل مبني على الفتح في محل رفع، وفيه ثلاثة أوجه: أحدها كونه بدلا من اسم {لا} على المحل؛ إذ محله الرفع على الابتداء، وثانيها كونه بدلا من (لا) وما عملت فيه؛ لأنها وما بعدها في محل رفع بالابتداء وثالثها: كونه بدلا من الضمير المستكن في الخبر المحذوف، وهو الأقوى، والجملة الاسمية:{لا إِلهَ..} . إلخ في محل رفع خبر ثان للمبتدإ هو، أو هي في محل رفع خبر ربي على اعتباره مبتدأ ثانيا، وتكون الجملة الاسمية:{رَبِّي لا إِلهَ إِلاّ هُوَ} في محل رفع خبر المبتدأ {هُوَ} . {عَلَيْهِ} : متعلقان بالفعل بعدهما.
{تَوَكَّلْتُ} : فعل وفاعل، والجملة الفعلية مستأنفة لا محل لها. (إليه): متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {مَتابِ} : مبتدأ مؤخر مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم المحذوفة للتخفيف، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها لا محل لها مثلها.
الشرح: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ} أي: زعزعت الجبال عن مقارها لعظمة هذا القرآن وهيبته، كما قال تعالى:{لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ} {أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ} : تصدعت من خشية الله عند قراءته، أو شققت فجعلت عيونا أو أنهارا. {أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى} أي: فتقرأه، أو فتسمع وتجيب عند قراءته، وجواب (لو) محذوف، اختلف في تقديره، فقال قوم: التقدير: ولو أن قرآنا فعل به كذا وكذا، لكان هذا القرآن، وإنما حذف اكتفاء بمعرفة السامع مراده، فهو كقول الشاعر:[الطويل]
فأقسم لو شيء أتانا رسوله
…
سواك؛ ولكن لم نجد لك مدفعا
أراد: لو شيء أتانا رسوله سواك لرددناه، وقال آخرون: جواب (لو) دل عليه ما قبله؛ إذ التقدير: ولو أن قرآنا سيرت
…
لكفروا به ولم يؤمنوا لما سبق في علمنا فيهم، وقد أظهر ما أضمر هنا في الآية رقم [111] من سورة (الأنعام)، وهي:{وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ}
…
{ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلاّ أَنْ يَشاءَ اللهُ} . {بَلْ لِلّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً} أي: هو المالك لجميع الأمور، الفاعل لما يشاء منها، فليس ما تطلبونه مما يكون بالقرآن، إنما يكون بأمر الله.
{أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا} : قال الكلبي: هو بمعنى: أفلم يعلم، وهي لغة النخع، وقيل: هي لغة هوازن، ويؤيده ما روي أن عليا وابن عباس، وجماعة من الصحابة والتابعين-رضوان الله عليهم أجمعين-قرءوا «(أفلم يتبين)» وهو تفسيره وإنما استعمل اليأس بمعنى العلم؛ لأنه مسبب عن العلم بأن الميئوس منه لا يكون، وقال الليث وأبو عبيدة: هو بمعنى: ألم يعلم، واستدلوا لهذا اللغة بقول سحيم بن وثيل اليربوعي، وقال القرطبي: هو لمالك بن عوف النصري: [الطويل]
أقول لهم بالشّعب إذ ييسرونني:
…
ألم تيأسوا أنّي ابن فارس زهدم؟
زهدم اسم فرس سحيم، وقال رباح بن عدي:[الطويل]
ألم ييئس الأقوام أنّي أنا ابنه
…
وإن كنت عن أرض العشيرة نائيا؟
{أَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ لَهَدَى النّاسَ جَمِيعاً} أي: ولكنه لم يشأ لما سبق في علمه الأزلي، وانظر ما ذكرته في الآية رقم [29] وفي الآية رد على القدرية وغيرهم. {وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما}
{صَنَعُوا قارِعَةٌ} أي: داهية تفزعهم وتقلقهم بسبب كفرهم، مرة بالجدب، ومرة بالسلب، ومرة بالقتل والأسر، كما حصل في غزوة بدر. {أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ} أي: تنزل القارعة والبلية قريبا من مكة دار المشركين، والمراد بذلك السرايا والبعوث التي كان الرسول صلى الله عليه وسلم يبعثها إلى قبائل العرب حول مكة، فتقتل من المشركين، وتنهب من أموالهم ومواشيهم، وقيل: إن المراد أن النبي صلى الله عليه وسلم قد حل بجيشه قريبا من دارهم عام الحديبية. {حَتّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللهِ} أي: الموت، أو فتح مكة، أو يوم القيامة لأن الله يجمعهم فيه، فيجازيهم بأعمالهم. {إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ}:
فيه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم، وتشجيع قلبه، وإزالة الحزن عنه، وتثبيته في الملمات.
هذا؛ والوعد يستعمل في الخير وفي الشر، فإذا قلت: وعدت فلانا؛ من غير أن تتعرض لذكر الموعود به، كان ذلك خيرا، وإذا قلت: أوعدت فلانا من غير ذكر الموعود به، كان ذلك شرّا، وهو ما في بيت طرفة بن العبد من معلقته:[الطويل]
وإنّي، وإن أوعدته، أو وعدته
…
لمخلف إيعادي، ومنجز موعدي
وهذا هو قول الجوهري، وقول كثير من أئمة اللغة، وأما عند ذكر الموعد به، أو الموعد به، فيجوز أن يستعمل (وعد) في الخير وفي الشر، فمن الأول قوله تعالى:{وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً،} ومن الثاني قوله جل شأنه: {قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ النّارُ وَعَدَهَا اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} وأنشدوا: [الطويل]
إذا وعدت شرّا أتى قبل وقته
…
وإن وعدت خيرا أراث وعتّما
كما يستعمل (أوعد) فيهما أيضا، كقوله:(أوعدت الرجل خيرا، وأوعدته شرا)، هذا؛ والمركز في الطبائع: أن من مكارم الأخلاق، وجميل العادات أنك إذا وعدت غيرك أن تنزل به شرّا، كان الخلف محمدة، وإذا وعدته خيرا، كان الخلف منقصة، وهذا ما أراده طرفة في بيته المتقدم.
هذا؛ والثابت عند الأشاعرة أنه يجوز إخلاف الوعيد في حقه تعالى كرما، وعند الماتريدية:
لا يجوز، وأما الوعد فلا يجوز الخلف في حقه تعالى اتفاقا، دليل الأشاعرة قول النبي صلى الله عليه وسلم:
تنبيه: نزلت الآية الكريمة في نفر من قريش، منهم أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية كانوا خلف الكعبة، وأرسلوا خلف النبي صلى الله عليه وسلم فأتاهم، فقال له عبد الله بن أبي أمية: إن سرك أن نتبعك، فسيّر جبال مكة بالقرآن فادفعها عنا حتى تنفتح عنا، فإنها أرض ضيقة لمزارعنا، واجعل لنا فيها أنهارا وعيونا لنغرس الأشجار ونتخذ البساتين، فلست كما زعمت بأهون على ربك من داود حيث سخر له الجبال تسير معه، أو سخرها لنا لنركبها إلى الشام لميرتنا، وحوائجنا ونرجع
في يومنا، كما سخرت لسليمان، فلست كما زعمت بأهون على ربك من سليمان، أو أحي لنا جدك قصيا، أو من شئت من موتانا، لنسأله عن أمرك، أحق هو أو باطل؟ فإن عيسى كان يحيي الموتى، ولست كما زعمت بأهون على الله من عيسى، فأنزل الله الآية.
الإعراب: {وَلَوْ} : الواو: حرف استئناف. (لو): حرف لما كان سيقع لوقوع غيره. {أَنَّ} :
حرف مشبه بالفعل. {قُرْآناً} : اسمها. {سُيِّرَتْ} : ماض مبني للمجهول، والتاء للتأنيث.
{بِهِ} : متعلقان بالفعل قبلهما. {الْجِبالُ} : نائب فاعل، والجملة الفعلية في محل رفع خبر {أَنَّ،} وجملة: {قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ} معطوفة عليها فهي في محل رفع مثلها، وكذا جملة:{كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى} معطوفة أيضا، فهي في محل رفع مثلها، و {أَنَّ} واسمها وخبرها في تأويل مصدر في محل رفع فاعل لفعل محذوف هو شرط لو عند المبرد، التقدير: ولو ثبت تسيير الجبال، ونحوه، وقال سيبويه هو في محل رفع مبتدأ، والخبر محذوف، التقدير: ولو تسيير الجبال ثابت أو واقع، وقول المبرد هو المرجح هنا؛ لأن (لو) لا يليها إلا فعل ظاهر أو مقدر، والفعل المقدر على قول المبرد وفاعله المؤول جملة فعلية لا محل لها من الإعراب؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي، وجواب (لو) محذوف، انظر تقديره في الشرح، و (لو) ومدخولها كلام مستأنف لا محل له. {بَلْ}: حرف عطف وإضراب. {لِلّهِ} : متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {الْأَمْرُ} :
مبتدأ مؤخر. {جَمِيعاً} : حال من الأمر مؤكدة، والجملة الاسمية مستأنفة لا محل لها. {أَفَلَمْ}:
الهمزة: حرف استفهام وتقرير. (فلم): الفاء: حرف عطف، أو حرف استئناف. (لم): حرف نفي وقلب وجزم. {يَيْأَسِ} : مضارع مجزوم ب (لم). {الَّذِينَ} : اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع فاعل، وجملة:{آمَنُوا} مع المتعلق المحذوف صلة الموصول لا محل لها.
{أَنَّ} : حرف مشبه بالفعل مخفف من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن محذوف، التقدير: أنه، ولو ومدخولها في محل رفع خبر (أن) والإعراب واضح لا خفاء فيه، و (أن) واسمها المحذوف وخبرها في تأويل مصدر في محل نصب مفعول به للفعل {يَيْأَسِ،} والجملة الفعلية مستأنفة، أو معطوفة على جملة محذوفة حسب ما تراه في الكلام على {أَفَلَمْ،} وعلى الوجهين فالكلام مستأنف لا محل لها. {وَلا} : الواو: حرف استئناف. (لا): نافية. {يَزالُ} : مضارع ناقص.
{الَّذِينَ} : اسمها، وجملة:{كَفَرُوا} مع المتعلق المحذوف صلة الموصول لا محل لها.
{تُصِيبُهُمْ} : مضارع، والهاء مفعول به. {بِما}: متعلقان بالفعل قبلهما، و (ما): تحتمل الموصولة، والموصوفة، والمصدرية، فعلى الأولين مبنية على السكون في محل جر بالباء، والجملة بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد أو الرابط محذوف؛ إذ التقدير: بالذي، أو بشيء صنعوه، وعلى اعتبارها مصدرية تؤول مع الفعل بعدها بمصدر في محل جر بالباء، التقدير:
بصنعهم. {قارِعَةٌ} : فاعل تصيبهم، والجملة الفعلية في محل نصب خبر {(لا يَزالُ)} وهذه الجملة مستأنفة لا محل لها. {تَحُلُّ}: مضارع، والفاعل يعود إلى (قارعة) أو تقديره:«أنت» انظر
الشرح. {قَرِيباً} : صفة ظرف مكان محذوف، التقدير: مكانا قريبا متعلق بالفعل قبله. {مِنْ دارِهِمْ} : متعلقان ب {قَرِيباً،} والهاء في محل جر بالإضافة، وجملة:{تَحُلُّ..} . إلخ معطوفة أيضا على جملة: {تُصِيبُهُمْ..} . إلخ فهي في محل نصب مثلها. {حَتّى} : حرف غاية وجر بعدها «أن» مضمرة. {يَأْتِيَ} : مضارع منصوب ب «أن» المضمرة. {وَعْدُ} : فاعل، وهو مضاف، و {اللهُ}:
مضاف إليه، من إضافة المصدر لفاعله، و «أن» المضمرة والمضارع في تأويل مصدر في محل جر ب {حَتّى} والجار والمجرور متعلقان بالفعل {تَحُلُّ}. {أَنَّ}: حرف مشبه بالفعل. {اللهُ} :
اسمها. {لا} : نافية. {يُخْلِفُ} : مضارع والفاعل يعود إلى (الله). {الْمِيعادَ} : مفعول به، والجملة الفعلية في محل رفع خبر {أَنَّ،} والجملة الاسمية: {أَنَّ..} . إلخ تعليلية أو مستأنفة لا محل لها.
الشرح: {وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ} : فيه تعزية وتسلية لسيد الرسل صلى الله عليه وسلم عما كان من تكذيب المشركين له، واستهزائهم به، فقد جعل الله له أسوة في ذلك الأنبياء الذين كانوا قبله، وتلك سنة متبعة في الأولين والآخرين، حيث لم يقم داع يدعو إلى الله، وإلى الإصلاح والخير، إلا وقوبل بالاستهزاء والسخرية. {فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا}: الإملاء أن يترك مدة طويلة من الزمان في دعة وأمن، واطمئنان، وقد يكون على سبيل الاستدراج، كما قال تعالى:{سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ} {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} . {ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ} : يعني بالعذاب بعد الإمهال، فعذبتهم في الدنيا بالجدب والقتل والأسر، وفي الآخرة بالنار. {فَكَيْفَ كانَ عِقابِ} أي: فكيف رأيت ما صنعت بالأمم السابقة من الإهلاك بعد الإمهال، فكذلك أصنع بقومك يا محمد؛ ليكونوا عبرة لمن يعتبر.
الإعراب: {وَلَقَدِ} : الواو: حرف قسم وجر، والمقسم به محذوف، التقدير: والله، والجار والمجرور متعلقان بفعل محذوف، تقديره: أقسم. اللام: واقعة في جواب القسم المقدر.
(قد): حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال. {اُسْتُهْزِئَ} : ماض مبني للمجهول. {بِرُسُلٍ} :
في محل رفع نائب فاعل، {مِنْ قَبْلِكَ}: متعلقان بمحذوف صفة رسل، والكاف في محل جر بالإضافة، وجملة: (لقد
…
) إلخ جواب القسم لا محل لها، والقسم وجوابه كلام مستأنف لا محل له من الإعراب. (أمليت): فعل وفاعل. {لِلَّذِينَ} : متعلقان بما قبلهما، وجملة:
{كَفَرُوا..} . إلخ مع المتعلق المحذوف صلة الموصول لا محل لها، وجملة: (أمليت
…
) إلخ معطوفة على ما قبلها لا محل لها مثلها. {ثُمَّ} : حرف عطف. {أَخَذْتُهُمْ} : فعل وفاعل ومفعول به، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها لا محل لها أيضا. {فَكَيْفَ}: الفاء: حرف استئناف.
(كيف): اسم استفهام وتعجب مبني على الفتح في محل نصب خبر {كانَ} تقدم عليها، وعلى اسمها. {كانَ}: ماض ناقص. {عِقابِ} : اسم {كانَ} مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم المحذوفة للتخفيف، وجملة: (كيف
…
) إلخ مستأنفة لا محل لها، وهي مفيدة للتعجب. هذا؛ وبعضهم يعتبر الواو عاطفة بقوله:{وَلَقَدِ} وبعضهم يعتبرها حرف استئناف، ويعتبر الجملة الآتية جوابا لقسم محذوف، ولا أسلمه أبدا؛ لأنه على هذا يكون قد حذف واو القسم، والمقسم به، ويصير التقدير: وو الله أقسم، أو وأقسم والله، وبعضهم يقول:
اللام موطئة للقسم، والموطئة معناها المؤذنة، وهذه اللام إنما تدخل على إن الشرطية لتدل على القسم المتقدم على الشرط، وتكون الجملة الآتية جوابا للقسم المدلول عليه باللام، والمتقدم على الشرط حكما، كما في قوله تعالى:{لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ..} . إلخ الآية رقم [12] من سورة (الحشر). افهم هذا؛ واحفظه فإنه جيد. فإن قيل: ما ذكرته من إعراب يؤدي إلى حذف المقسم به وبقاء حرف القسم، فالجواب: أن المقسم به قد حذف حذفا مطردا في أوائل السور مثل قوله تعالى: {وَالضُّحى،} {وَالسَّماءِ وَالطّارِقِ..} . إلخ فإن التقدير: وربّ الضّحى، وربّ السماء.
الشرح: {أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ} أي: حافظها، ورازقها، ورقيب عليها:{بِما كَسَبَتْ} أي: بما عملت من خير أو شر، فيثيبها إن أحسنت، ويعاقبها إن أساءت، والجواب محذوف؛ إذ التقدير: كمن ليس بقائم، بل هو عاجز عن أي شيء، والمراد بذلك الأصنام التي لا تنفع ولا تضر. {وَجَعَلُوا} أي: كفار قريش. {لِلّهِ شُرَكاءَ} أي: أصناما أشركوها مع الله في العبادة، والله سبحانه هو المستحق للعبادة وحده. {قُلْ سَمُّوهُمْ} أي: يا محمد قل لهؤلاء الجهلة الذين عبدوا الحجارة: صفوهم وتعرفوا حقيقتهم، ثم انظروا هل هذه الحجارة جديرة بالعبادة والتقديس والتعظيم، والمعنى على التهديد، فقد سموا بعض الأصنام اللاّت، والعزّى، ومناة وهبل
…
إلخ.
{أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِما لا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ} أي: أفتخبرون الله بشركاء يستحقون العبادة لا يعلمهم، أو بصفات لهم يستحقونها لا يعلمها، وهو العالم بكل شيء، ولو كان لعلمه. {أَمْ بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ} أي: أم تسمون الأصنام آلهة بظاهر من القول، من غير حقيقة، واعتبار معنى، كتسمية كل زنجي كافورا، وهذا احتجاج بليغ على أسلوب عجيب ينادي على نفسه بالإعجاز. انتهى.
بيضاوي، وقيل: معناه: بل بظن من القول لا يعلمون حقيقته، وقيل: معناه: بباطل من القول، ومنه قول الشاعر:[الطويل]
أعيّرتنا ألبانها ولحومها
…
وذلك عار، يا ابن ريطة ظاهر
أي: باطل، وقيل: كذب من القول. {بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ} : قال ابن عباس رضي الله عنهما-زين لهم الشيطان الكفر، وإنما فسر المكر بالكفر؛ لأن مكرهم برسول الله صلى الله عليه وسلم كفر منهم، والمزين في الحقيقة هو الله تعالى؛ لأنه هو الفاعل المختار على الإطلاق، لا يقدر أحد أن يتصرف في الوجود إلا بإذنه، فتزيين الشيطان إلقاء الوسوسة فقط، ولا يقدر على إضلال أحد، أو هدايته إلا الله تعالى، ويدل عليه آخر الآية. {وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ}: صرفوا عن سبيل الدين والرشد والهداية، ومنعوا من ذلك، والصاد المانع لهم هو الله تعالى، وقرئ «(صَدوا)» بالبناء للمعلوم، ويكون المعنى: صدوا غيرهم عن الإيمان بالله تعالى. {وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ} أي: من يضله الله ويبعده عن الإيمان فلن تجد له وليا مرشدا وهاديا إلى الله تعالى، وانظر ما ذكرته في الآية [29] بعد هذا انظر شرح النفس في الآية رقم [53] من سورة (يوسف) عليه السلام، وانظر إعلال {ناجٍ} في الآية رقم [42] منها، فإعلال هاد مثله.
الإعراب: {أَفَمَنْ} : الهمزة: حرف استفهام، الفاء: حرف عطف، أو هي حرف استئناف.
(من): اسم موصول مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {هُوَ قائِمٌ} : مبتدأ وخبر، والجملة الاسمية صلة الموصول لا محل لها. {عَلى كُلِّ}: متعلقان بقائم؛ لأنه اسم فاعل، لذا فيه ضمير مستتر هو فاعله، و {كُلِّ}: مضاف، و {نَفْسٍ}: مضاف إليه. {بِما} : متعلقان ب {قائِمٌ} أيضا وقيل: متعلقان بمحذوف حال ولا وجه له، و (ما) تحتمل الموصولة، والموصوفة، والمصدرية، فعلى الأولين مبنية على السكون في محل جر بالباء، والجملة الفعلية بعدها صلتها أو صفتها، والعائد أو الرابط محذوف؛ إذ التقدير: بالذي، أو بشيء كسبته، وعلى اعتبار (ما) مصدرية تؤول مع الفعل بعدها بمصدر في محل جر بالباء، التقدير: بكسبها، وخبر المبتدأ محذوف: التقدير:
كمن ليس بقائم، وقد صرح به في الآية رقم [21] والجملة الاسمية:{أَفَمَنْ هُوَ..} . إلخ مستأنفة، أو هي معطوفة على جملة محذوفة على مثال ما رأيت في الآية [21] والكلام كله مستأنف لا محل له. (جعلوا): ماض وفاعله، والألف للتفريق. {لِلّهِ}: متعلقان بالفعل قبلهما وهما في محل نصب مفعوله الثاني تقدم على الأول، أو هما متعلقان بشركاء بعدهما، أو بمحذوف حال منه، كان صفة له، فلما قدم عليه صار حالا، وجملة: (جعلوا
…
) إلخ فيها أوجه: عطفها على جملة:
{كَسَبَتْ} واعتبارها مستأنفة، واعتبارها حالا من المضمر المستتر بقائم، والرابط: الواو ولفظ الجلالة المصرح به، فأقيم الظاهر مقام المضمر تقريرا للإلهية، وتصريحا بها، وقيل: معطوفة على جملة: {اُسْتُهْزِئَ..} . إلخ فيكون ما بينهما اعتراضا، وهو أضعف الأوجه. {قُلْ}: أمر، وفاعله
مستتر تقديره: «أنت» . {سَمُّوهُمْ} : أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والهاء مفعول به، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول، وجملة:{قُلْ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها. {أَمْ} :
حرف عطف. {تُنَبِّئُونَهُ} : مضارع مرفوع
…
إلخ، والواو فاعله، والهاء مفعوله. {بِما}: متعلقان بما قبلهما، وهما في محل نصب مفعوله الثاني، و (ما) تحتمل مثل سابقتها، والجملة الفعلية بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد أو الرابط محذوف؛ إذ التقدير: بالذي، أو بشيء لا يعلمه، وعلى اعتبار المصدرية، التقدير: بعدم علمه. {فِي الْأَرْضِ} : متعلقان بما قبلهما، وقيل: متعلقان بمحذوف حال، وجملة:{تُنَبِّئُونَهُ..} . إلخ معطوفة على جملة: {سَمُّوهُمْ} وهو عند التحقيق عطف استفهام على متقدم في المعنى؛ لأن قوله {سَمُّوهُمْ} معناه ألهم أسماء الخالقين، أم تنبئونه
إلخ، وقيل: المعنى قل لهم: أتنبئون الله بباطن لا يعلمه
…
إلخ، وقيل: إن الجملة الفعلية معطوفة على {أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ} . انتهى. قرطبي بتصرف كبير. {بِظاهِرٍ} : معطوفان على {بِما لا..} . إلخ من القول: متعلقان بظاهر. {بَلْ} : حرف عطف وإضراب. {زُيِّنَ} : ماض مبني للمجهول. {لِلَّذِينَ} : متعلقان به، وجملة:{كَفَرُوا} : مع المتعلق المحذوف صلة الموصول.
{مَكْرُهُمْ} : نائب فاعل والهاء في محل جر بالإضافة من إضافة المصدر لفاعله، وقرأ ابن عباس ومجاهد {زُيِّنَ} بالبناء للفاعل، ونصب (مكرهم)، فيكون الفاعل عائدا إلى الله، وجملة:
{زُيِّنَ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها. (صدوا): مبني للمجهول، والواو نائب فاعله، وقرئ بالبناء للفاعل، فيكون فعلا وفاعلا، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها. {وَمَنْ}:
الواو: حرف استئناف. (من): اسم شرط جازم مبني على السكون في محل رفع مبتدأ، أو هو مفعول به مقدم، {يُضْلِلِ}: مضارع فعل الشرط مجزوم. {اللهُ} : فاعله، ومفعوله محذوف، التقدير: يضلله الله. {فَما} : الفاء: واقعة في جواب الشرط. (ما): نافية. {لِلّهِ} : متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {فَمَنْ} : حرف جر صلة. {هادٍ} : مبتدأ مؤخر، مجرور لفظا، مرفوع محلاّ، والجملة الاسمية في محل جزم جواب الشرط عند الجمهور، والدسوقي يقول: لا محل لها؛ لأنها لم تحل محل المفرد، وخبر المبتدأ الذي هو (من) مختلف فيه، فقيل: جملة الشرط، وقيل: جملة الجواب، وقيل: هو الجملتان، وهو المرجح لدى المعاصرين، وعلى اعتبارها مفعولا مقدما فتكون الجملة فعلية، وعلى الوجهين فالكلام مستأنف لا محل له.
الشرح: {لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا} : للمشركين الصادين عذاب في الحياة الدنيا بالقتل، والسبي، والأسر، وغير ذلك من الأسقام والمصائب. {وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ}: أشد وأصعب لدوامه
…
{وَما لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ واقٍ} : من حافظ ومانع يمنعهم من عذابه، وانظر شرح (عذاب
وسلام) في الآية رقم [26]، هذا؛ وإعلال {واقٍ} مثل إعلال {ناجٍ} في الآية رقم [42] من سورة (يوسف) عليه السلام.
الإعراب: {لَهُمْ} : متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {عَذابٌ} : مبتدأ مؤخر. {فِي الْحَياةِ} :
متعلقان ب {عَذابٌ} أو بمحذوف صفة له. {الدُّنْيا} : صفة الحياة مجرور، وعلامة جره كسرة مقدرة على الألف للتعذر، والجملة الاسمية:{لَهُمْ عَذابٌ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها.
{وَلَعَذابُ} : الواو: حرف عطف. اللام: لام الابتداء. (عذاب): مبتدأ، وهو مضاف، و {الْآخِرَةِ}: مضاف إليه. {أَشَقُّ} : خبر المبتدأ، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها لا محل لها مثلها. {وَما}: الواو: حرف عطف. (ما): نافية. {لَهُمْ} : متعلقان بمحذوف خبر مقدم.
{مِنَ اللهِ} : متعلقان بمحذوف خبر ثان، أو بالخبر المحذوف نفسه، أو هما متعلقان ب {واقٍ} لأنه اسم فاعل. {واقٍ}: مبتدأ مؤخر مجرور لفظا، مرفوع محلاّ، و {مِنَ} حرف جر صلة، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها لا محل لها أيضا.
الشرح: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ} أي: صفة الجنة التي هي مثل في الغرابة، ووقوع المثل بمعنى الصفة موجود في قوله تعالى:{ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ} وأنكر أبو علي الفارسي وقوع المثل بمعنى الصفة، وقال: إنما معناه الشبه، ألا تراه يجري مجراه في مواضعه ومتصرفاته، كقولك: مررت برجل مثلك، كما تقول: مررت برجل شبهك، وقال الفراء: المثل مقحم للتوكيد. {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ} أي: من تحت قصورها وأشجارها، وفي بعض الآيات {مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ} أي: بين أيديهم ينظرون إليها من أعالي أسرتهم وقصورهم، وهذا أحسن في السرور والنزهة والفرجة، وانظر:{جَنّاتُ عَدْنٍ} في الآية رقم [23] وانظر شرح الأنهار في الآية رقم [3].
{أُكُلُها دائِمٌ} : لا ينقطع ثمرها، كما جاء في أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، إذا أخذت ثمرة عادت مكانها أخرى. {وَظِلُّها} أي: دائم لا ينسخ كما ينسخ في الدنيا بالشمس؛ لأنه لا يوجد في الجنة شمس ولا قمر، ولا ظلمة. {تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا} أي: الجنة الموصوفة مآل المتقين، ومقرهم، ومصيرهم. {وَعُقْبَى الْكافِرِينَ النّارُ}: مآل الكافرين، والمجرمين النار وبئس القرار، وانظر شرح {عُقْبَى الدّارِ} في الآية رقم [24]. وفي ذكر (عقبى الفريقين): إطماع للمتقين.
وتيئيس للكافرين من رحمة الله تعالى، وقد ذكرت المقابلة بين الإيمان والكفر، وبين المؤمنين والكافرين، وبين الطاعة والمعصية في الآية رقم [23] من سورة (إبراهيم) على نبينا، وحبيبنا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام.
الإعراب: {مَثَلُ} : مبتدأ، اختلف في خبره، فقال سيبويه: محذوف، التقدير: فيما يتلى عليكم مثل الجنة. وقال الخليل: خبره جملة: {تَجْرِي..} . إلخ أي: صفة الجنة التي وعد المتقون تجري من تحتها الأنهار، كقولك: قولي يقوم زيد، وانظر الشرح، وقال الفراء: المثل مقحم للتأكيد، والمعنى: الجنة التي وعد
…
إلخ، والعرب تفعل ذلك كثيرا بالمثل، وانظر الآية رقم [18] من سورة (إبراهيم) على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام، و {مَثَلُ}: مضاف، و {الْجَنَّةِ}: مضاف إليه. {الَّتِي} : اسم موصول مبني على السكون في محل جر صفة الجنة.
{وُعِدَ} : ماض مبني للمجهول. {الْمُتَّقُونَ} : نائب فاعل مرفوع، وعلامة رفعه الواو؛ لأنه جمع مذكر سالم
…
إلخ، وهو المفعول الأول، والمفعول الثاني محذوف، وهو العائد، والجملة الفعلية صلة الموصول؛ إذ التقدير: التي وعدها المتقون. {تَجْرِي} : مضارع مرفوع
…
إلخ.
{مِنْ تَحْتِهَا} : متعلقان بالفعل قبلهما، و (ها): في محل جر بالإضافة. {الْأَنْهارُ} : فاعل، وجملة:
{تَجْرِي..} . إلخ مستأنفة لا محل لها، أو هي في محل نصب حال من الجنة، وهذان الاعتباران إنما هما على رأي: سيبويه، وهي في محل رفع خبر المبتدأ على رأي: الخليل والفراء مع اختلاف تقديرهما. تأمل. {أُكُلُها دائِمٌ} : مبتدأ وخبر، و (ها): في محل جر بالإضافة، ويجوز في الجملة الاسمية ما جاز في الجملة الفعلية قبلها من الاعتبارات. (ظلها): مبتدأ، وخبره محذوف لدلالة خبر الأول عليه، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها. {تِلْكَ}: اسم إشارة مبني على الكسر في محل رفع مبتدأ، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب لا محل له.
{عُقْبَى} : خبر مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر، و {عُقْبَى}: مضاف، و {الَّذِينَ}: اسم موصول مبني على الفتح في محل جر بالإضافة. {اِتَّقَوْا} : ماض مبني على فتح مقدر على الألف المحذوفة لالتقائها ساكنة مع واو الجماعة التي هي فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية صلة الموصول لا محل لها، والجملة الاسمية:{تِلْكَ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها. (عقبى): مبتدأ مرفوع
…
إلخ، وهو مضاف، و {الْكافِرِينَ}: مضاف إليه مجرور
…
إلخ. {النّارُ} : خبر المبتدأ، أو {النّارُ}: مبتدأ مؤخر، و (عقبى) خبر مقدم لمناسبة الأول، ولعله أقوى، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها لا محل لها.
الشرح: {وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ..} . إلخ: المراد بهم الذين أسلموا من اليهود، كعبد الله بن سلام، وأصحابه، ومن آمن من النصارى، وهم ثمانون رجلا: أربعون من نجران، وثمانية من اليمن، واثنان وثلاثون من الحبشة، أو عامتهم فإنهم يفرحون بما يوافق كتبهم،
والمعتمد الأول، وقيل: هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم يفرحون بنور القرآن، قاله قتادة، ومجاهد، وابن زيد، والمعتمد الأول، {وَمِنَ الْأَحْزابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ} أي: كفرة اليهود والنصارى الذين تحزبوا على عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم ككعب بن الأشرف وأصحابه، والسيد والعاقب وأشياعهما من نصارى نجران ومن لف لفهم من مشركي العرب، وهؤلاء كانوا ينكرون بعض ما في القرآن؛ أي: الذي لا يوافق هواهم، وقيل: إن كفار قريش كانوا ينكرون لفظ (الرحمن) من أسماء الله تعالى، ولا ينكرون لفظ الجلالة (الله) وانظر ما ذكرته لك في الآية رقم [32] هذا؛ والأحزاب جمع حزب، وهو في اللغة أصحاب الرجل الذين يكونون معه على رأيه وهم القوم الذين يجتمعون لأمر حزبه، أي: أهمه.
{قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ} : هذا جواب للمنكرين بعض القرآن، والمعنى:
قل: يا محمد لهؤلاء: إني أمرت فيما أنزل إلي بأن أعبد الله، وأوحده، وهو العمدة في الدين، ولا سبيل لكم إلى إنكاره، وأما ما تنكرونه من القرآن مما يخالف هواكم، ويخالف شريعتكم، فليس هذا ببدع ولا بغريب؛ لأنه لا بد أن تخالف بعض الشرائع بعضها حسب مقتضيات الأحوال، وتطور الأزمان. {إِلَيْهِ أَدْعُوا} أي: أدعو الناس إلى الإيمان بالله وتوحيده.
{وَإِلَيْهِ مَآبِ} أي: إلى الله مرجعي في أموري كلها، وأيضا إلى الله مرجعي يوم القيامة، فهو الذي يحكم بيني وبينكم بالحق، وهو خير الحاكمين.
الإعراب: {وَالَّذِينَ} : الواو: حرف استئناف، (الذين): اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ. {آتَيْناهُمُ} : فعل وفاعل ومفعوله الأول. {الْكِتابَ} : مفعوله الثاني، والجملة الفعلية صلة الموصول لا محل لها. {يَفْرَحُونَ}: مضارع مرفوع
…
إلخ، والواو فاعله. {بِما}:
متعلقان بما قبلهما، و (ما): تحتمل الموصولة، والموصوفة، فهي مبنية على السكون في محل جر بالباء، والجملة الفعلية بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد أو الرابط: رجوع نائب الفاعل إليها، التقدير: يفرحون بالذي، أو بشيء أنزل إليك، والجملة الفعلية هذه في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية: (الذين
…
) إلخ مستأنفة لا محل لها. {وَمِنَ الْأَحْزابِ} : متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {مِنَ} : اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل رفع مبتدأ مؤخر، وجملة:{يُنْكِرُ بَعْضَهُ} صلة {مِنَ،} أو صفتها، والعائد أو الرابط رجوع الفاعل إليها، هذا هو الإعراب الظاهر، ولا أعتمده وإنما أعتمد ما ذكرته في الآية رقم [49] من سورة (التوبة){وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ} والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها. {قُلْ}: أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» . {إِنَّما} : كافة ومكفوفة. {أُمِرْتُ} : ماض مبني للمجهول مبني على السكون، والتاء نائب فاعله، وهو المفعول الأول، والمصدر المؤول من:{أَنْ أَعْبُدَ اللهَ..} . في محل نصب مفعول به ثان لأمر؛ لأن هذا الفعل يتعدى إلى المفعول الثاني بنفسه وبحرف الجر، كما هو
معروف، فإن قدرت المصدر مجرورا بحرف جر محذوف، فيكون الجار والمجرور متعلقين بالفعل (أمرت) وهما في محل نصب مفعوله الثاني، والجملة الفعلية:{إِنَّما أُمِرْتُ..} . إلخ في محل نصب مقول القول، وجملة:{قُلْ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها. {وَلا} : الواو: حرف عطف. لا:
نافية. {أُشْرِكَ} : معطوف على ما قبله، منصوب مثله، والفاعل مستتر تقديره:«أنا» . {بِهِ} :
متعلقان بالفعل قبلهما. هذا؛ وقرئ الفعل {أُشْرِكَ} بالرفع، فتكون الجملة الفعلية مستأنفة، وهي في محل نصب مقول القول. {إِلَيْهِ}: متعلقان بما بعدهما. {أَدْعُوا} : مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الواو للثقل، والفاعل مستتر تقديره:«أنا» ، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول، أو هي في محل نصب حال من فاعل {أَدْعُوا} المستتر، والرابط الضمير فقط.
(إليه): متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {مَآبِ} : مبتدأ مؤخر مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم المحذوفة للتخفيف، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها، على الوجهين المعتبرين فيها، وهذه تقوي الحالية.
الشرح: {وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ} : الضمير للقرآن. {حُكْماً عَرَبِيًّا} : وتقدير الكلام: كما أنزلنا الكتب على الرسل السابقين بلغاتهم ولسانهم أنزلنا عليك يا محمد القرآن عربيا بلسانك ولسان قومك، وإنما سمي القرآن حكما لأن فيه جميع التكاليف والأحكام وتبيين الحلال والحرام، والنقض والإبرام، وتوضيح النافع من الضار، وتمييز الحسن من القبيح، فلما كان القرآن سببا للحكم جعل نفس الحكم على سبيل المبالغة، وانظر الآية رقم [2] من سورة (يوسف) عليه السلام تجد ما يسرك.
{وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما} أي: فيما يدعونك إليه من تقرير دينهم، والصلاة إلى قبلتهم بعد أن حولت عنها من بعد ما عرفت أنك على الحق وقبلتك الكعبة هي المفضلة على جميع الاتجاهات، وقيل: الداعي له هم المشركون، فقد دعوه إلى أشياء كثيرة فيها مجاملة، ومداهنة، وقد نهاه الله عن متابعة أهوائهم، وما في الآية إنما هو على سبيل الفرض والتقدير؛ لأن من المحال أن يتبع الرسول صلى الله عليه وسلم أهواء الزائغين من اليهود والنصارى والمشركين. {ما لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا واقٍ} أي: ليس لك نصير ولا حافظ يمنعك من عذاب الله وعقابه، إن اتبعت أهواء الضالين المضلين، ففيه قطع لأطماعهم، وتهييج للمؤمنين على الثبات في دينهم، وانظر شرح الهوى في الآية رقم [37] من سورة (إبراهيم) عليه السلام.
الإعراب: {وَكَذلِكَ} : (كذلك): جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لمفعول مطلق محذوف، عامله ما بعده، التقدير: أنزلناه حكما عربيا إنزالا كائنا مثل إنزال الكتب بلغة الرسل والأمم التي أنزلت عليهم قبلك يا محمد، وانظر إعراب (كذلك) مفصلا في الآية رقم [32] {أَنْزَلْناهُ}: فعل وفاعل ومفعول به. {حُكْماً} : حال من الضمير المنصوب. {عَرَبِيًّا} : صفة، والكلام كله مستأنف لا محل له. {وَلَئِنِ}: الواو: حرف استئناف. اللام: موطئة لقسم محذوف، أي: دالة عليه. (إن): حرف شرط جازم. {اِتَّبَعْتَ} : ماض مبني على السكون في محل جزم فعل الشرط، والتاء فاعله. {أَهْواءَهُمْ}: مفعول به، والهاء في محل جر بالإضافة.
{بَعْدَ ما} : ظرف زمان متعلق بالفعل قبله، و (بعد) مضاف، و (ما): اسم موصول مبني على السكون في محل جر بالإضافة. {جاءَكَ} : ماض، والفاعل يعود إلى ما، والكاف مفعول به.
{مِنَ الْعِلْمِ} : متعلقان بمحذوف حال من فاعل (جاء) المستتر العائد إلى (ما)، و {مِنَ} بيان لما أبهم في {حُكْماً} وجملة:{جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ} : صلة الموصول لا محل لها، وجملة:{اِتَّبَعْتَ..} . إلخ لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي. {حُكْماً} : نافية. {كَذلِكَ} : متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {مِنَ اللهِ} : متعلقان بمحذوف خبر ثان، أو هما متعلقان بالخبر المحذوف نفسه، أو هما متعلقان بمحذوف حال من الضمير المستتر في الخبر المحذوف. {مِنَ}: حرف جر صلة. {وَلِيٍّ} : مبتدأ مؤخر مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على آخره منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد، وأجيز اعتبار (ما) حجازية، وهو ضعيف هنا بسبب عطف ما بعده عليه، {وَلا}: الواو: حرف عطف. (لا): زائدة لتأكيد النفي. {واقٍ} : معطوف على ما قبله مجرور تبعا للفظه، وعلامة جره كسرة مقدرة على الياء المحذوفة لالتقاء الساكنين، والجملة الاسمية:{ما لَكَ..} . إلخ لا محل لها؛ لأنها جواب للقسم المدلول عليه باللام، وحذف جواب الشرط لدلالة جواب القسم عليه على القاعدة التي رأيت شرحها في الآية رقم [14] من سورة (يوسف) عليه السلام، والكلام {وَلَئِنِ..} . إلخ كله مستأنف لا محل له.
الشرح: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ} : روي: أن اليهود، وقيل: المشركين عابوا على النبي صلى الله عليه وسلم الزواج، وعيروه بذلك، وقالوا: ما نرى لهذا الرجل همة إلا النساء والنكاح، ولو كان نبيا؛ لكان مشتغلا بالنبوة، والزهد وترك الدنيا، فأنزل الله هذه الآية التي تبين: أن من سنّة المرسلين الزواج، وكان لهم ذرية، فقد كان لسليمان عليه السلام ثلاثمائة امرأة حرة، وسبعمائة سرية، وكان لأبيه داود عليه السلام مائة امرأة، فلم يقدح ذلك في نبوتهما. {وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً}
وَذُرِّيَّةً أي: جعلناهم بشرا يتمتعون بما أحل الله لهم من شهوات الدنيا، وإنما خصوا بنزول الوحي عليهم.
{وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاّ بِإِذْنِ اللهِ} : هذا جواب لعبد الله بن أبي أمية وغيره من المشركين الذين سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم الآيات، واقترحوا عليه أن يريهم المعجزات، كما رأيت في الآية رقم [31]. {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ} أي: لكل حدث يحدث وقت معين لا يتخطاه، وقيل:
في الكلام تقديم وتأخير، التقدير: لكل كتاب أجل، أي: لكل أمر كتبه الله تعالى أجل مؤجل، ووقت معلوم محتم، لا يتأخر عنه، ولا يتقدم.
هذا؛ والرسول ذكر حر من بني آدم، سليم عن منفر طبعا، أوحي إليه بشرع يعمل به، ويؤمر بتبليغه، وإن لم يؤمر به فهو نبي، هذا؛ والنبي مأخوذ من النبأ، وهو الخبر؛ لأنه يخبر عن ربه فيما أوحي إليه، وقيل: بل هو مأخوذ من النّبوة، وهو الارتفاع؛ لأن رتبة النبي ارتفعت عن رتب سائر الخلق، وانظر عدد الأنبياء والمرسلين، وما ذكرته بشأنهم في الآية رقم [163] من سورة (النساء)، والآية رقم [86] من سورة (الأنعام)، هذا؛ والنبي يجمع جمع مذكر سالما، وجمع تكسير، وأما الرسول فلا يجمع إلا جمع تكسير:(رسل) بضم الراء والسين، ويجوز تسكينها، قال عيسى بن عمر: كل اسم على ثلاثة أحرف، أوله مضموم، وأوسطه ساكن، فمن العرب من يخففه، ومنهم من يثقله، وذلك مثل عسر، ويسر، ورحم، وحلم، وأسد.
{اللهِ} : علم على الذات الواجب الوجود، المستحق لجميع المحامد، وهو اسم الله الأعظم، الذي إذا دعي به أجاب، وإذا سئل به أعطى، وإنما تخلفت الإجابة في بعض الأوقات عند الدعاء به؛ لتخلف شروط الإجابة التي أعظمها أكل الحلال.
تنبيه: هذه الآية تدل على الترغيب في النكاح والحض عليه، وتنهى عن التبتل، وهو ترك الزواج، وهذه سنة المرسلين، كما نصت عليه هذه الآية، والأحاديث الشريفة واردة بمعناها، قال الرسول صلى الله عليه وسلم:«تزوّجوا فإني مكاثر بكم الأمم» . وعن معقل بن يسار-رضي الله عنه-قال:
جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله: إني أصبت امرأة ذات حسب ومنصب ومال، إلا أنها لا تلد، أفأتزوجها؟ فنهاه، ثمّ أتاه الثانية، فقال له مثل ذلك، ثمّ أتاه الثالثة فقال له:
«تزوّجوا الودود الولود، فإني مكاثر بكم الأمم» . رواه أبو داود، وانظر ما ذكرته في الآية رقم [90] من سورة (المائدة) بشأن الذين أرادوا التبتل، والانقطاع للآخرة.
وقد روي عن عمر بن الخطاب-رضي الله عنه: أنه كان يقول: إني لأتزوج المرأة، وما لي فيها من حاجة، وأطؤها وما أشتهيها، قيل له: وما يحملك على ذلك يا أمير المؤمنين؟! قال: حبي أن يخرج الله مني من يكاثر به النبي صلى الله عليه وسلم النبيين يوم القيامة، وإني سمعته يقول:
«عليكم بالأبكار، فإنّهنّ أعذب أفواها، وأحسن أخلاقا، وأنتق أرحاما، وأرضى باليسير، وإنّي
مكاثر بكم الأمم يوم القيامة». انتهى. قرطبي. وفسر (أرضى باليسير) بأحد شيئين: الجماع، أو النفقة، أو بهما معا.
الإعراب: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنا} انظر إعراب: {وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ} في الآية رقم [32] ففيه الكفاية.
{رُسُلاً} : مفعول به. {مِنْ قَبْلِكَ} : متعلقان بمحذوف صفة {رُسُلاً} أو هما متعلقان بالفعل قبلهما، والأول أقوى، والكاف في محل جر بالإضافة. (جعلنا): ماض مبني على السكون، و (نا): فاعله. {لَهُمْ} : متعلقان بما قبلهما وهما في محل نصب مفعوله الثاني. {أَزْواجاً} : مفعول به. {وَذُرِّيَّةً} : معطوف على ما قبله، وجملة: (جعلنا
…
) إلخ معطوفة على ما قبلها لا محل لها مثلها. {وَما} : الواو: حرف استئناف، (ما): نافية. {كانَ} : ماض ناقص. {لِرَسُولٍ} : متعلقان بمحذوف خبر {كانَ} تقدم على اسمها، والمصدر المؤول من {أَنْ يَأْتِيَ} في محل رفع اسم {كانَ} مؤخر. {بِآيَةٍ}: متعلقان بما قبلهما. {إِلاّ} : حرف حصر. {بِإِذْنِ} : متعلقان بالفعل {يَأْتِيَ} أيضا، أو هما متعلقان بمحذوف حال مستثنى من عموم الأحوال، والأول أقوى؛ لأنه يفيد الحصر، و (إذن): مضاف، و {اللهِ}: مضاف إليه، وجملة: {(ما كانَ
…
)} إلخ مستأنفة لا محل لها. {لِكُلِّ} : متعلقان بمحذوف خبر مقدم، و (كل): مضاف، و {أَجَلٍ}: مضاف إليه، {كِتابٌ}: مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية تعليل للنفي لا محل لها من الإعراب.
{يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ (39)}
الشرح: {يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ} : قال النحاس: وحدثنا بكر بن سهل، قال: حدثنا أبو صالح، عن معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس-رضي الله عنهما يقول: يبدل الله من القرآن ما يشاء فينسخه، ويثبت ما يشاء فلا يبدله. {وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ} يقول: جملة ذلك عنده في أم الكتاب الناسخ والمنسوخ، وقيل: المعنى يمحو سيئات التائب، ويثبت الحسنات مكانها، وقيل: يمحو من كتاب الحفظة ما لا يتعلق به جزاء، ويترك غيره مثبتا، أو يثبت ما رآه وحده في صميم قلبه، وقيل: يمحو قرنا، ويثبت آخر، وقيل: يمحو الفاسدات، ويثبت الكائنات، وقال ابن عباس: يمحو الله ما يشاء ويثبت إلا أشياء: الخلق، والخلق، والأجل، والرزق، والسعادة والشقاوة، وقال ابن عمر-رضي الله عنهما: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يمحو الله ما يشاء ويثبت إلاّ السعادة والشقاوة والموت» .
بعد هذا أذكر: أنه يوجد قضاء معلق، وقضاء مبرم، فالمحو يكون في القضاء المعلق، والمبرم لا يكون فيه محو، والقضاء المعلق هو الذي يطلع الله عليه الملائكة، ويقول لهم: إن فعل فلان كذا، أو كذا من أعمال البر، والخير، فرزقه كذا، وإذا لم يفعل؛ فرزقه كذا، وفلان عمره أربعون سنة مثلا، فإن وصل رحمه وعمل كذا وكذا من أعمال البر والخير؛ فزيدوه إلى
خمسين، أو إلى ستين مثلا، وإن لم يصل رحمه؛ فعمره أربعون فقط، ثم إن سبق في علم الله الأزلي بأن رزقه كذا يوفقه لعمل الخير لينال الزيادة في الرزق والعمر، وإن لم يسبق في علم الله الأزلي بأن له كذا فلا يوفقه لعمل الخير، وهذا أحد تفسيرين لقول الرسول صلى الله عليه وسلم:«من سرّه أن يبسط له في رزقه، وينسأ له في أثره، فليصل رحمه» . رواه البخاري، ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه.
وفي القرطبي: وقيل لابن عباس-رضي الله عنهما-لما روى الحديث الصحيح عن رسول الله أنه قال: «من أحبّ أن يمدّ الله في عمره وأجله، ويبسط له في رزقه فليتّق الله؛ وليصل رحمه» . كيف يزاد في العمر والأجل؟ فقال: قال الله عز وجل: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ} فالأجل الأول أجل العبد من حين ولادته إلى حين موته، والأجل الثاني، من حين وفاته إلى يوم يلقاه في البرزخ لا يعلمه إلا الله، فإذا اتقى العبد، ووصل رحمه؛ زاده الله في أجل عمره الأول من أجل البرزخ ما شاء، وإذا عصى وقطع رحمه؛ نقصه الله من أجل عمره في الدنيا ما شاء، فيزيده في أجل البرزخ، فإذا تحتم الأجل في علمه السابق، امتنع الزيادة والنقصان، لقوله تعالى:{فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} فتوافق الخبر والآية، وهذه زيادة في نفس العمر، وذات الأجل على ظاهر اللفظ في اختيار حبر الأمة، والله أعلم انتهى بحروفه. هذا؛ ولا يفوتني أن أقول: إن الزيادة في الرزق والعمر، إنما تكون بالبركة، وهذا ملموس في واقعنا، وتفسيره بأن الله يوفق واصل رحمه للعمل الصالح، وطاعة الله وامتثال أوامره، فيسجل في صحيفته حسنات في ثلاثين سنة أكثر مما يسجله غيره في ثمانين سنة أو أكثر. هذا؛ والأم: أصل الشيء، والعرب تسمي كل ما يجري مجرى الأصل للشيء أمّا، ومنه أم الرأس للدماغ، وأم القرى لمكة المكرمة، ومنه:{فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ} أي: إنه ساقط على أم رأسه في الهاوية، أي: إنهم يهوون في النار على رءوسهم.
الإعراب: {يَمْحُوا} : مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الواو للثقل. {اللهُ}:
فاعله. {ما} : اسم موصول أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل نصب مفعول به، والجملة الفعلية بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد أو الرابط محذوف؛ إذ التقدير: يمحو الله الذي، أو شيئا يشاء محوه، (يثبت): مضارع معطوف على ما قبله، والفاعل يعود إلى {اللهُ،} والمفعول محذوف، التقدير: يثبته، وقرئ بتشديد الباء، والجملة الفعلية:{يَمْحُوا..} . إلخ مستأنفة لا محل لها، والتي بعدها معطوفة عليها. (عنده): ظرف مكان متعلق بمحذوف خبر مقدم، والهاء في محل جر بالإضافة. {أُمُّ}: مبتدأ مؤخر، و {أُمُّ}: مضاف، و {الْكِتابِ}:
مضاف إليه، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها، أو مستأنفة، لا محل لها على الاعتبارين، وإن اعتبرتها في محل نصب حال من فاعل (يثبت) فلست مفندا، ويكون الرابط: الواو، والضمير.
الشرح: {وَإِنْ ما نُرِيَنَّكَ} : الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم. {بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ} أي: من العذاب في الدنيا، وقد مر كثير من التهديد والوعيد للكفار. {أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ} أي: نميتك قبل أن نريك ما نعدهم به من العذاب. {فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ} أي: ليس عليك إلا تبليغ الرسالة، وليس عليك شيء من حسابهم، و {الْبَلاغُ} اسم أقيم مقام التبليغ مثل {سَلامٌ} في الآية رقم [24] {وَعَلَيْنَا الْحِسابُ} أي: حسابهم علينا، فنحن نجازيهم بأعمالهم، إن خيرا فخير وإن شرّا فشر، وانظر (نا) في الآية رقم [8] من سورة (هود) عليه السلام.
الإعراب: {وَإِنْ} : الواو: حرف استئناف. (إما): هي إن الشرطية مدغمة في (ما) الزائدة.
{نُرِيَنَّكَ} : مضارع فعل الشرط مبني على الفتح في محل جزم، والفاعل مستتر تقديره:«نحن» ، والكاف مفعول به أول. {بَعْضَ}: مفعول به ثان، والفاعل بصري وقد تعدى إلى المفعول الثاني بهمزة التعدية؛ لأنه من الرباعي، و {بَعْضَ}: مضاف، و {الَّذِي}: اسم موصول مبني على السكون في محل جر بالإضافة. {نَعِدُهُمْ} : مضارع، والفاعل مستتر تقديره:«نحن» ، والهاء مفعول به أول، والجملة الفعلية صلة الموصول، والعائد محذوف، وهو المفعول الثاني؛ إذ التقدير: نعدهم إياه، والجملة الفعلية:{نُرِيَنَّكَ..} . إلخ لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال:
لأنها جملة شرط غير ظرفي، وجواب الشرط محذوف، التقدير: فذاك شافيك من أعدائك.
{أَوْ} : حرف عطف. {نَتَوَفَّيَنَّكَ} : معطوف على ما قبله، وهو مثله في إعرابه وفي محل جملته، ويقدر له جواب ب: فلا تقصير منك، ولا لوم عليك. وانظر الآية رقم [46] من سورة (يونس) عليه السلام، {فَإِنَّما}: الفاء: حرف تعليل. (إنما): كافة ومكفوفة. {عَلَيْكَ} : متعلقان بمحذوف خبر مقدم، وتقديمهما أفاد القصر والحصر. {الْبَلاغُ}: مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية تعليل لجواب الشرط الثاني المحذوف. (علينا): متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {الْحِسابُ} :
مؤخر مبتدأ، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها لا محل لها مثلها.
الشرح: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها} : المعنى: أولم ير كفار مكة أنا نأتي الأرض، فنفتحها لمحمد صلى الله عليه وسلم أرضا بعد أرض حوالي أراضيهم، أفلا يعتبرون فيتعظون، ومعنى نقصان الأرض: فتح بلاد الشرك، فإن ما زاد في دار الإسلام فقد نقص في دار الشرك، وهذا قول ابن عباس وقتادة وجماعة من المفسرين، وقيل: نقصان الأرض: موت علمائها،
وصلحائها، وقيل: موت الأشراف من أحبار اليهود والنصارى، وقيل: هو خراب الأرض حتى يكون العمران في ناحية منها، وعن عطاء: هو ذهاب فقهائها، وخيار أهلها، وقيل: المراد بالنقصان: نقصان بركاتها وثمارها. 744
وأعتمد الأول من هذه الأقوال؛ لأن الكلام مع كفار قريش، وهم المقصودون بهذا الكلام، ففيه تهديد ووعيد لهم، لعلهم يعتبرون، فيتعظون بما يرون من استيلاء المسلمين على أرض الشرك، من خيبر، وفدك، ومساكن بني قينقاع، وبني النضير، وبني قريظة، وهذا على أن الآية مدنية، وأطراف: جمع طرف بفتح الطاء والراء، وانظر الآية رقم [43] من سورة (إبراهيم) عليه السلام تجد ما يسرك.
{وَاللهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ} أي: لا راد لحكمه، ولا ناقض لقضائه، والمعقب: هو الذي يعقب غيره بالرد والإبطال، ومنه قيل لصاحب الحق: معقب؛ لأنه يعقب غريمه بالاقتضاء والطلب، ومحصله: أنه سبحانه حكم للإسلام بالإقبال، وحكم على الكفر بالإدبار، وهو سريع الحساب، فيحاسبهم بعد زمن قليل في الآخرة، بعد ما عذبهم بالقتل، وأخرجهم من ديارهم في الدنيا، فلا تستبطئ عقابهم، فإنه آت لا محالة، وكل آت قريب، انتهى جمل. وفي القرطبي:
سريع الانتقام من الكافرين، سريع الثواب للمؤمنين، وقيل: لا يحتاج في حسابه إلى روية قلب، ولا عقد بنان. انتهى. و {سَرِيعُ الْحِسابِ} يحاسب العباد على كثرتهم وكثرة أعمالهم في مقدار لمحة، وصف سبحانه نفسه بسرعة الحساب مع ما ذكر ليدل بذلك على كمال قدرته؛ لأنه تعالى لا يشغله شأن عن شأن، ولا يحتاج إلى آلة، ولا أمارة، ولا مساعد، فلا جرم كان قادرا أن يحاسب جميع الخلائق في أقل من لمحة.
تنبيه: في الآية الكريمة التفات من التكلم إلى الغيبة، كما يكون من الغيبة إلى التكلم، وإلى الخطاب، ومن المفرد إلى الجمع، وبالعكس، وقد نبهت على ذلك فيما مضى، كما أنبه عليه في محاله الآتية، إن شاء الله تعالى، وله فوائد كثيرة: منها تطرية الكلام، وصيانة السمع عن الضجر والملال، لما جبلت عليه النفوس من حب التنقلات، والسآمة من الاستمرار على منوال واحد، هذه فوائده العامة، ويختص كل موضع بنكت، ولطائف باختلاف محله، كما هو مقرر في علم البديع، ووجهه حثّ السامع، وبعثه على الاستماع حيث أقبل المتكلم عليه، وأعطاه فضل عنايته، وخصصه بالمواجهة. انتهى.
الإعراب: {أَوَلَمْ} : الهمزة: حرف استفهام إنكاري. الواو: حرف عطف على محذوف مقدر، أو هي حرف استئناف. (لم): حرف نفي وقلب وجزم. {يَرَوْا} : مضارع مجزوم ب (لم)، وعلامة جزمه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والألف للتفريق. {أَنّا}: حرف مشبه بالفعل، و (نا): اسمها، حذفت نونها للتخفيف، وبقيت الألف دليلا عليها. {نَأْتِي}: مضارع
مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل، والفاعل مستتر تقديره:«نحن» . {الْأَرْضَ} :
مفعول به. {نَنْقُصُها} : مضارع، والفاعل مستتر تقديره:«نحن» ، و (ها): مفعول به. {مِنْ أَطْرافِها} : متعلقان بالفعل قبلهما، و (ها): في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية:{نَنْقُصُها..} .
إلخ في محل نصب حال من فاعل {نَأْتِي،} أو من الأرض، والرابط على الاعتبارين الضمير، وجملة:{نَأْتِي..} . إلخ في محل رفع خبر (أنّ)، و (أنّ) واسمها وخبرها في تأويل مصدر في محل نصب سد مسد مفعول {يَرَوْا،} والجملة الفعلية هذه معطوفة على جملة محذوفة، التقدير: ألم ينظروا في ذلك، ولم يروا
…
إلخ، أو هي مستأنفة لا محل لها. {وَاللهُ}: الواو: حرف استئناف. (الله): مبتدأ. {يَحْكُمُ} : مضارع، والفاعل يعود إلى الله، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية: (الله
…
) إلخ مستأنفة لا محل لها. {لا} : نافية للجنس تعمل عمل (إن). {مُعَقِّبَ} : اسم {لا} مبني على الفتح في محل نصب. {لِحُكْمِهِ} : متعلقان بمحذوف خبر {لا،} والهاء في محل جر بالإضافة من إضافة المصدر لفاعله، والجملة الاسمية:
{لا مُعَقِّبَ..} . إلخ في محل نصب حال من فاعل يحكم المستتر، والرابط: الضمير فقط.
{وَهُوَ} : الواو: واو الحال. (هو): مبتدأ. {سَرِيعُ} : خبره، وهو مضاف، و {الْحِسابِ}:
مضاف إليه، من إضافة الصفة المشبهة لفاعلها؛ إذ الأصل: سريع حسابه، والجملة الاسمية:
(هو
…
) إلخ في محل نصب حال من فاعل {يَحْكُمُ} المستتر، والرابط: الواو، والضمير، أو هي مستأنفة لا محل لها، وعلى الأول فهو من تعدد الحال، وهو جملة.
الشرح: {وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} أي: من قبل مشركي قريش من الأمم الماضية الذين مكروا بأنبيائهم، والمكر: الاحتيال والتدبير في إيصال المكروه والضر للإنسان من حيث لا يشعر، كما مكر نمرود بإبراهيم، وفرعون بموسى، واليهود بعيسى، ومكر كفار قريش هو ما بيتوه في ليلة الهجرة، من قتل النبي صلى الله عليه وسلم، أو حبسه، أو نفيه من مكة. {فَلِلّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً} أي:
عنده تعالى جزاء مكرهم، فهو يعاقبهم عليه.
وقال الواحدي: يعني جميع مكر الماكرين له، ومنه، أي: هو من خلقه وإرادته، فالخير والشر بيده، وإليه النفع والضر، هذا؛ والله منزه عن المكر بالمعنى الأول، واستعمال العقاب والجزاء بلفظ المكر، إنما هو من باب المشاكلة، وقد مر معنا كثير من هذا، انظر الآية رقم [30] من سورة (الأنفال).
{يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ} أي: جميع أعمال العباد وتأثيراتها معلومة لله تعالى، وهو خالقها.
فيجازي عليها. {وَسَيَعْلَمُ الْكُفّارُ} : يقرأ بالجمع على أن المراد بهم جماعة المستهزءين بالنبي صلى الله عليه وسلم، وهم خمسة نفر من كفار مكة، ويقرأ بالإفراد على أن المراد به أبو جهل الخبيث. {لِمَنْ عُقْبَى الدّارِ} أي: العاقبة المحمودة، فلا ريب أن المحمودة للمؤمنين، والمذمومة في الدنيا والآخرة للمشركين حين يدخلون جهنم، وبئس المصير.
هذا؛ والفعل {يَعْلَمُ} من المعرفة، لا من العلم اليقيني، والفرق بينهما: أن المعرفة تكتفي بمفعول واحد، قال ابن مالك-رحمه الله تعالى-في ألفيته:[الرجز]
لعلم عرفان، وظنّ تهمه
…
تعدية لواحد ملتزمه
بخلافه من العلم اليقيني، فإنه ينصب مفعولين، أصلهما مبتدأ وخبر، وأيضا فالمعرفة تستدعي سبق جهل، وأن متعلقها الذوات، دون النسب، بخلاف العلم، فإن متعلقه المعاني والنسب، وتفصيل ذلك: أنك إذا قلت: عرفت زيدا، فالمعنى أنك عرفت ذاته، ولم ترد أنك عرفت وصفا من أوصافه، فإذا أردت هذا المعنى لم يتجاوز مفعولا؛ لأن العلم والمعرفة تناول الشيء نفسه، ولم يقصد إلى غير ذلك، وإذا قلت: علمت زيدا قائما، لم يكن المقصود: أن العلم تناول نفس زيد فحسب، وإنما المعنى أن العلم تناول كون زيد موصوفا بهذه الصفة.
الإعراب: {وَقَدْ} : الواو: حرف استئناف. (قد): حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال.
{مَكَرَ} : ماض. {الَّذِينَ} : اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع فاعل. {مِنْ قَبْلِهِمْ} :
متعلقان بمحذوف صلة الموصول، والهاء في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية مستأنفة لا محل لها، واعتبارها حالا من واو الجماعة فيه بعد. {فَلِلّهِ}: الفاء: هي الفصيحة لأنها أفصحت عن شرط مقدر. (لله): متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {الْمَكْرُ} : مبتدأ مؤخر.
{جَمِيعاً} : حال من {الْمَكْرُ} إذ المراد أنواع المكر، وفي مجيء الحال من المبتدأ خلاف، والجملة الاسمية (لله
…
) إلخ لا محل لها؛ لأنها جواب شرط مقدر ب «إذا» التقدير: وإذا كان قد حصل ذلك منهم فلله
…
إلخ، والكلام مستأنف لا محل له. {يَعْلَمُ}: مضارع، والفاعل يعود إلى الله. {ما}: تحتمل الموصولة، والموصوفة، والمصدرية، فعلى الأولين مبنية على السكون في محل نصب مفعول به، والجملة الفعلية بعدها صلتها أو صفتها، والعائد أو الرابط محذوف، التقدير: يعلم الذي، أو شيئا تكسبه كل نفس، وعلى الثالث تؤول {ما} مع الفعل بعدها بمصدر في محل نصب مفعول به، التقدير: يعلم كسب كل نفس، وجملة:{يَعْلَمُ..} . إلخ في محل نصب حال من لفظ الجلالة، والرابط: رجوع الفاعل إليها، والاستئناف ممكن، وفيها معنى التفسير لمكر الله تعالى. {وَسَيَعْلَمُ الْكُفّارُ}: الواو: حرف استئناف. السين: حرف استقبال. {وَسَيَعْلَمُ الْكُفّارُ} : مضارع وفاعله. {لِمَنْ} : جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم، و (من) اسم استفهام مبني على السكون في محل جر باللام وهو معلق للفعل قبله عن العمل لفظا. {عُقْبَى}: مبتدأ مؤخر مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر،
و {عُقْبَى} : مضاف، و {الدّارِ} مضاف إليه، والجملة الاسمية:{لِمَنْ..} . إلخ في محل نصب مفعول به للفعل (يعلم) والجملة الفعلية مستأنفة لا محل لها، أو هي معطوفة على ما قبلها على اعتبارها مستأنفة.
الشرح: {وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا} : المراد بهم مشركو العرب، وقيل: المراد بهم رؤساء اليهود. {لَسْتَ مُرْسَلاً} أي: من عند الله، بل أنت متقول، وإنما قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم ذلك حين لم يأتهم بما اقترحوا عليه من المعجزات والآيات. {قُلْ}: أي: قل لهم يا محمد. {كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} : المراد بشهادة الله على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ما أظهر على يديه من المعجزات الباهرات، والآيات القاهرة الدالة على صدقه، وأعظمها القرآن الكريم؛ الذي أسكت فصحاءهم، وأخرس بلغاءهم، وتحداهم بأن يأتوا بمثله، ولكنهم عجزوا عن ذلك، بل هم أعجز وأعجز.
{وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ} أي: ومن عنده علم الكتاب يشهد على نبوتك وصدقها، وهذا احتجاج على مشركي العرب؛ لأنهم كانوا يرجعون إلى أهل الكتاب أي: من آمن منهم، وهم مؤمنو أهل الكتاب، كعبد الله بن سلام، وسلمان الفارسي، وتميم الداري، والنجاشي وأصحابه، قاله قتادة وسعيد بن جبير، ورد هذا بأن السورة مكية، وهؤلاء إنما أسلموا بالمدينة. أقول: وهذا يصح على القول إن السورة مدنية، وهو لا غبار عليه، وانظر ما ذكرته في أول السورة.
وقيل: المراد به جبريل عليه السلام، وهو ضعيف؛ لأن جبريل لا تمكن شهادته ورؤيته، وقيل: المراد به المؤمنون من هذه الأمة، وهو ضعيف؛ لأن الكفار لا يقبلون شهادة المؤمنين، هذا؛ وقرئ:{(وَمَنْ عِنْدَهُ)} بكسر الميم والدال فيكون المعنى: ومن عند الله علم الكتاب، أي:
القرآن، كما قرئ:{(وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ)} بكسر الميم، وضم العين في (علم) على أنه ماض بالبناء للمجهول، وهو بمعنى سابقه.
{لَسْتَ} : حذفت عينه لالتقاء الساكنين: الياء والسين؛ إذ أصله ليس بكسر الياء، ثم سكنت الياء للتخفيف، ولم تقلب ألفا على القياس؛ لأن التخفيف بالتسكين في الجامد أسهل من القلب، فلما اتصل بضمير رفع متحرك، سكنت العين، فالتقى ساكنان: الياء والسين، فحذفت الياء لالتقاء الساكنين، فصار لست.
{كَفى} : هذا الفعل بمعنى: اكتف، فالباء زائدة في الفاعل عند الجمهور، وهو لازم لا ينصب المفعول به، ومثله مضارعه، كما في قوله تعالى:{أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ} وأما إذا كان بمعنى: جزى وأغنى، فيكون متعديا لمفعول واحد، وإذا كان بمعنى: وقى؛ فإنه يكون متعديا
لمفعولين كما في قوله تعالى: {وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ} .
(بين): ظرف مكان بمعنى وسط بسكون السين، تقول: جلس بين القوم، كما تقول:
جلس وسط القوم، هذا؛ والبين: الفراق والبعاد، وهو أيضا الوصل، فهو من الأضداد، كالجون يطلق على الأسود والأبيض، ومن استعماله بمعنى الفراق، والبعاد قول كعب بن زهير رضي الله عنه:[البسيط]
وما سعاد غداة البين إذ رحلوا
…
إلاّ أغنّ غضيض الطّرف مكحول
الإعراب: {وَيَقُولُ} : يقول: مضارع. {الَّذِينَ} : فاعله، وجملة:{كَفَرُوا} : مع المتعلق المحذوف صلة الموصول. {لَسْتَ} : ماض ناقص مبني على السكون، والتاء، اسمه.
{مُرْسَلاً} : خبر ليس، والجملة:{لَسْتَ مُرْسَلاً} في محل نصب مقول القول، والجملة الفعلية (يقول
…
) إلخ مستأنفة لا محل لها. {قُلْ} : أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» . {كَفى} :
ماض مبني على فتح مقدر على الألف. {بِاللهِ} : الباء: حرف جر صلة. (الله): فاعل مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على آخره، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد.
{شَهِيداً} : تمييز، ويقال: حال. {بَيْنِي} : ظرف مكان متعلق بشهيد منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم
…
إلخ، والياء في محل جر بالإضافة. {وَبَيْنَكُمْ}:
معطوف على ما قبله، والكاف في محل جر بالإضافة. {وَمَنْ}: اسم موصول مبني على السكون في محل رفع معطوف على لفظ الجلالة، {عِنْدَهُ}: ظرف مكان متعلق بمحذوف خبر مقدم، والهاء في محل جر بالإضافة. {عِلْمُ}: مبتدأ مؤخر، وهو مضاف، و {الْكِتابِ}: مضاف إليه، والجملة الاسمية:{عِنْدَهُ..} . إلخ صلة الموصول لا محل لها، هذا؛ وعلى القراءة بكسر الميم والعين فيكون جارا ومجرورا متعلقين بمحذوف خبر مقدم، و (علم) مبتدأ مؤخر، وعلى القراءة الثالثة فعلم مبني للمجهول، والكتاب نائب فاعله، ويكون من عنده متعلقين بالفعل بعدهما، وعليه فالجملة فعلية، وهي صلة الموصول، وجملة:{كَفى..} . إلخ في محل نصب مقول القول، وجملة:{قُلْ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم، وصلّى الله على الهادي محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
انتهت سورة (الرعد) بحمد الله وتوفيقه، والحمد لله رب العالمين.