الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سورة يوسف
[على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام]
وهي مكية بالإجماع، وقال ابن عباس وقتادة: إلا أربع منها، وهي مائة وإحدى عشرة آية، وألف وستمائة كلمة، وسبعة آلاف ومائة وستة وستون حرفا. انتهى. قال ابن الجوزي-رحمه الله تعالى-: وفي سبب نزولها قولان:
-أحدهما: روي عن سعد بن أبي وقاص-رضي الله عنه-قال: (لما أنزل القرآن على رسوله صلى الله عليه وسلم تلاه عليهم زمانا، فقالوا: يا رسول الله لو حدثتنا، فنزل قوله تعالى: {اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ..}. إلخ فقالوا: يا رسول الله لو قصصت علينا، فأنزل الله تعالى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ}).
-القول الثاني: رواه الضحاك عن ابن عباس-رضي الله عنهما-قال: سألت اليهود النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: حدثنا عن أمر يعقوب وولده، وشأن يوسف، ولم انتقل آل يعقوب من الشام إلى مصر؟ فأنزل الله سورة (يوسف) عليه السلام، وينبغي أن تعلم: أن سؤال اليهود هذا لم يكن مباشرة؛ إذ روي أن علماءهم قالوا لكبراء المشركين: سلوا محمدا عن أمر يعقوب
…
إلخ.
قال العلماء: وذكر الله أقاصيص الأنبياء، وكررها بمعنى واحد في وجوه مختلفة، بألفاظ متباينة على درجات البلاغة، وقد ذكر قصة يوسف، ولم يكررها، فلم يقدر مخالف على معارضة ما تكرر، ولا على معارضة غير المتكرر، وهذا هو الإعجاز لمن تأمل.
(أعوذ بالله من الشيطان الرجيم) الشرح: (أعوذ): أتحصن، وأعتصم، وأستجير، وألتجئ، وأصله: أعوذ على وزن أنصر، فقل في إعلاله: اجتمع معنا حرف صحيح ساكن، وحرف علة متحرك، والحرف الصحيح أولى بالحركة من حرف العلة، فنقلت حركة الواو إلى العين بعد سلب سكونها، فصار: أعوذ، ومثل ذلك قل في إعلال كل مضارع أجوف، واويّا كان أو يائيّا، مثل: يقولون، ويصون، ويبيع، ويكيل، ونحو ذلك.
(الله): علم على الذات الواجب الوجود، المستحق لجميع المحامد، وهو اسم الله الأعظم، الذي إذا دعي به أجاب، وإذا سئل به أعطى، وإنما تخلفت الإجابة في بعض الأحيان عند الدعاء به لتخلف شروط الإجابة، التي أعظمها أكل الحلال.
(الشيطان): اسم يطلق على عدو الله إبليس، وقد يطلق على كل نفس عاتية خبيثة، خارجة عن الصراط المستقيم من الإنس والجن والحيوان، وما أكثر الشياطين بهذا المعنى من بني آدم، قال تعالى:{شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً} الآية رقم [112] من سورة (الأنعام)، وما أجدرك أن تنظر شرحها هناك، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأبي ذر الغفاري-رضي الله عنه:«يا أبا ذرّ تعوّذ بالله من شياطين الإنس والجنّ» . قال: أو للإنس شياطين؟! قال: «نعم» .
ولا تنس أن لكل واحد من الإنس شيطانا، بدليل قوله صلى الله عليه وسلم لعائشة-رضي الله عنها:«أجاءك شيطانك؟» . قالت: أولي شيطان؟ قال: «ما من أحد، إلاّ وله شيطان» . قالت: وأنت يا رسول الله؟ قال: «وأنا إلاّ أنّني أعانني الله عليه فأسلم، فلا يأمر إلاّ بخير» . فاعل أسلم يحتمل عوده إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فيكون من السلامة، أي: أسلم من شره ويكون مضارعا مرفوعا، ويحتمل عوده إلى الشيطان نفسه، فيكون من الإسلام، ويكون ماضيا، هذا؛ والشيطان مأخوذ: من شطن؛ إذ بعد، وقيل: مأخوذ من شاط: إذا احترق، فعلى الأول هو مصروف؛ لأن النون أصلية، وعلى الثاني هو غير مصروف، لزيادة الألف والنون، وشطن من باب قعد، وشاط من باب ضرب.
(الرجيم): فعيل بمعنى مفعول، فإنه مرجوم باللعن، والطرد عن الخير، وعن رحمة الله تعالى، وقيل: هو فعيل بمعنى فاعل، أي: يرجم غيره بالوسوسة والإغواء، بعد هذا لا يخفى عليك المعنى لهذه الجملة، وقد يعبر عن الجملة بكاملها بكلمة الاستعاذة على طريقة النحت، والنحت في الكلام تركيب كلمة من كلمتين، أو أكثر، نحو البسملة، والحوقلة من:(لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم)، والاسترجاع من:{إِنّا لِلّهِ وَإِنّا إِلَيْهِ راجِعُونَ} والفذلكة من:
(فذلك كذا وكذا) وهلمّ جرّا.
قال الخازن-رحمه الله تعالى-: ومن لطائف الاستعاذة أن قوله: (أعوذ بالله
…
) إلخ إقرار من العبد بالعجز والضعف، واعتراف من العبد بقدرة الباري عز وجل، وأنه الغني القادر على دفع جميع المضرات والآفات، واعتراف من العبد أيضا بأن الشيطان عدو مبين، ففي الاستعاذة لجوء إلى الله تعالى القادر على دفع وسوسة الشيطان الغوي الفاجر، وأنه لا يقدر على دفعه عن العبد إلا الله تعالى، والله أعلم.
الإعراب: (أعوذ): مضارع مرفوع، والفاعل مستتر تقديره «أنا». (بالله): متعلقان بالفعل قبلهما، وإن علقتهما بمحذوف حال من الفاعل المستتر؛ فلست مفندا، ويكون التقدير: أعوذ مستجيرا بالله. (من الشيطان): متعلقان بالفعل: (أعوذ). (الرجيم): صفة (الشيطان) مجرور مثله، هذا؛ ويجوز رفعه على أنه خبر لمبتدإ محذوف، ونصبه على أنه مفعول به لفعل محذوف، تقديره: أذم: وهذان الوجهان على القطع عن الإتباع، وجملة: (أعوذ
…
) إلخ ابتدائية لا محل لها.
{بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ} الشرح: (اسم): اختلفوا في اشتقاقه، فقال البصريون: أصله سمو من السّمو، وهو العلو، والارتفاع، فاسم الشيء ما علاه حتى ظهر به، وعلا عليه، فكأنه علا على معناه، وصار علما له، فحذفت لامه، وعوض عنها همزة الوصل في أوله، وقال الكوفيون: أصله وسم من السمة، وهي العلامة فكأنه علامة لمسماه، حذفت فاؤه، وعوض عنها همزة الوصل، وحجة البصريين:
أنه لو كان اشتقاقه من السمة، لكان تصغيره وسيم، وجمعه أوسام؛ لأن التصغير والتكسير، يردان الأشياء إلى أصولها، وقد أجمعوا على أن تصغيره: سميّ، وجمعه: أسماء وأسام، وقد حذفت الألف من {بِسْمِ اللهِ..} . إلخ للخفة، ولكثرة الاستعمال، وأثبتت في قوله تعالى:
{فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} لقلة الاستعمال. هذا؛ و (اسم) أحد الأسماء العشرة التي بنوا أوائلها على السكون، فإذا نطقوا مبتدءين، زادوا همزة الوصل في أولها تفاديا للابتداء بالساكن، علما بأن هذه الهمزة تسقط في وصل الكلام، وإن كتبت، انظر مبحثها في كتاب قواعد اللغة العربية بشرحنا. {اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ}: اسمان، وقيل: صفتان مأخوذتان من الرحمة، وهما في حقه سبحانه وتعالى بمعنى: المحسن، أو مريد الإحسان، لكن الأول بمعنى المحسن بجلائل النعم، والثاني بمعنى المحسن بدقائق النعيم، وإنما جمع بينهما في البسملة، إشارة إلى أنه ينبغي أن يطلب منه تعالى النعم الحقيرة، كما ينبغي أن يطلب منه النعم العظيمة، وقد يوصف بالرحيم المخلوقون، وأما الرحمن فلا يوصف به إلا الله تعالى، ومن وصف به مسيلمة الكذاب، فقد تعنت حيث قال فيه:[البسيط]
وأنت غيث الورى لا زلت رحمانا
بعد هذا ينبغي أن تعلم: أن البسملة آية من سورة (الفاتحة)، وآية من كل سورة ما عدا براءة عند الشافعي، ولا تعد آية في كل ذلك عند أبي حنيفة ومالك، وإنما هي للفصل بين كل سورتين، وأحمد بن حنبل يعدها آية من أول الفاتحة، وليست آية في غيرها-رضي الله عنهم أجمعين-، ومبحث ذلك مبسوط في كتب الفقه، وأخيرا ينبغي أن تعلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم ندبنا إلى افتتاح كل أمورنا بالبسملة تيمنا وتبركا، فقد روى الخطيب في كتاب الجامع عنه صلى الله عليه وسلم قال:«كلّ أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله فهو أبتر» . وفي رواية «فهو أقطع» . والمعنى قليل البركة، أو معدومها.
الإعراب: {بِسْمِ} : جار ومجرور متعلقان بمحذوف، تقديره: أقرأ، أو أتلو، إذا أراد الشخص القراءة، وقس على ذلك جميع الأعمال التي يقوم بها المسلم، ويسمى الله عليها، فمثلا الآكل، والشارب، والقائم، والقاعد، تقدير المحذوف عنده: آكل، أو أشرب
…
إلخ، وتقدير المحذوف فعلا هو مذهب الكوفيين، وهم يقدرونه مؤخرا ليفيد معنى الاختصاص، وأما
البصريون؛ فيقدرون المحذوف اسما، والتقدير عندهم: ابتدائي {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ،} وعليه فالجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر لمبتدإ محذوف، التقدير: ابتدائي كائن {بِسْمِ اللهِ،} وقال المرحوم سليمان الجمل: والأحسن أن يقدر متعلق الجار والمجرور هنا: قولوا؛ لأن المقام مقام تعليم، وهذا الكلام صادر عن حضرة الرب تعالى. انتهى. و (اسم) مضاف، و {اللهِ}: مضاف إليه. {الرَّحْمنِ} بدل من لفظ الجلالة. {الرَّحِيمِ} : بدل ثان من لفظ الجلالة، وهذا على اعتبارهما اسمين من أسماء الله تعالى الحسنى، وهو المعتمد، وقيل:
هما صفتان للفظ الجلالة، هذا؛ ويجوز في العربية رفعهما على أنهما خبران لمبتدإ محذوف، التقدير: هو الرحمن الرحيم، كما يجوز نصبهما على أنهما مفعول لفعل محذوف، التقدير:
أمدح، ونحوه. وهذان الوجهان على القطع، أعني به: قطع النعت عن المنعوت، وجملة البسملة على الوجهين ابتدائية لا محل لها.
بسم الله الرحمن الرحيم
{الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (1)}
الشرح: {الر} : انظر شرح هذا اللفظ في أول سورة (يونس) عليه السلام. {تِلْكَ} :
الإشارة إلى ما تضمنته السورة الكريمة من قصة يوسف، وإخوته، وما فيها من عبر، ومواعظ، وإنما أدخل اللام على اسم الإشارة، وهي للبعد، والسورة الكريمة، والقرآن الكريم كله في متناول اليد، وذلك للإيذان بعلو شأنه، وكونه في الغاية القصوى من الفضل، والشرف، وعلو المكانة، فكأنه بسبب ذلك بعيد كل البعد. {آياتُ الْكِتابِ}: انظر شرحهما في الآية رقم [1] من سورة (هود). {الْمُبِينِ} أي: البين حلاله، وحرامه، وحدوده، وأحكامه، وقال الزجاج: مبين الحق من الباطل، والحلال من الحرام، هذا؛ وقال سبحانه في أول سورة (يونس){الْكِتابِ الْحَكِيمِ} انظر شرحه هناك، وانظر إعلال (مبين) في الآية رقم [6] من سورة (هود) عليه السلام.
الإعراب: {الر} : انظر إعرابه في الآية [1] من سورة (يونس). {تِلْكَ} : اسم إشارة مبني على الكسر في محل رفع مبتدأ، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب لا محل له. {آياتُ}:
خبر المبتدأ، وهو مضاف، و {الْكِتابِ}: مضاف إليه. {الْمُبِينِ} : صفة الكتاب، وفاعله مستتر فيه، والجملة الاسمية ابتدائية لا محل لها، أو هي في محل نصب مفعول به لفعل محذوف، التقدير: اقرأ، أو اتل
…
إلخ.
{إِنّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2)}
الشرح: {إِنّا أَنْزَلْناهُ} أي: هذا الكتاب. {قُرْآناً عَرَبِيًّا} أي: بلغتكم لكي تعلموا معانيه، وتفهموا فيه، ويؤخذ منه أنه يجوز إطلاق اسم القرآن على بعضه؛ لأن سورة (يوسف) بعض
القرآن؛ ولأنه اسم جنس يقع على الكل والبعض، واختلف: هل يمكن أن يقال: في القرآن شيء بغير العربية، فأنكر أبو عبيدة على من يقول ذلك أشد النكير، وروي عن ابن عباس، ومجاهد، وعكرمة أن فيه من غير العربي، مثل (سجّيل، والمشكاة، واليمّ، وإستبرق) ونحو ذلك، وهذا هو الصحيح المختار؛ لأن هؤلاء أعلم من أبي عبيدة بلسان العرب، وكلا القولين صواب، إن شاء الله تعالى، وجه الجمع بينهما: أن هذه الألفاظ لما تكلمت بها العرب، ودارت على ألسنتهم بسهولة صارت عربية فصيحة، وإن كانت غير عربية في الأصل. انتهى. خازن بتصرف. وانظر ما ذكرته في الآية رقم [23] وانظر ما ذكرته في الآية رقم [82] من سورة (هود) على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام. {لَعَلَّكُمْ}: يا أهل مكة. {تَعْقِلُونَ} : تفهمون معانيه لأنه نزل بلغتكم.
هذا؛ والعقل نور روحاني به تدرك النفس ما لا تدركه بالحواس، وسمي العقل عقلا؛ لأنه يعقل صاحبه، أي: يمنعه من فعل الرذائل، لذا فإن كل شخص لا يسير على الجادة المستقيمة، لا يكون عاقلا بالمعنى الصحيح، فقد ورد أن رجلا معتوها مر على مجلس النبي صلى الله عليه وسلم، فقال الصحابة-رضوان الله عليهم-:(هذا رجل مجنون) فقال: «هذا مصاب، إنّما المجنون من أصرّ على معصية الله» . هذا؛ والعقل: الدية، سميت بذلك؛ لأن الإبل المؤداة دية تعقل بباب ولي المقتول، والعقال بكسر العين: الحبل الذي تشد به ركبة الجمل عند بروكه ليمنعه من القيام والمشي، والعقال أيضا: صدقة عام، قال شاعر يهجو عاملا على الصدقات:[البسيط]
سعى عقالا، فلم يترك لنا سبدا
…
فكيف لو قد سعى عمرو عقالين؟
لأصبح النّاس أوبادا، ولم يجدوا
…
عند التّفرّق في الهيجا جمالين
هذا؛ و (القرآن) مشتق من قريت الماء في الحوض إذا جمعته، فكأنه قد جمع فيه الحكم والمواعظ، والآداب، والقصص، والفروض، وجميع الأحكام، وكملت فيه جميع الفوائد الهادية إلى طرق الرشاد، هذا؛ وهو في اللغة مصدر بمعنى الجمع، يقال: قرأت الشيء قرآنا، أي: جمعته، وبمعنى القراءة، يقال: قرأت الكتاب قراءة وقرآنا، ثم نقل إلى هذا المجموع المقروء المنزل على الرسول صلى الله عليه وسلم، المنقول عنه بالتواتر فيما بين الدفتين، وهو المراد هنا، هذا والترجي في هذه الآية وأمثالها، إنما هو بحسب عقول البشر؛ لأن الله لا يحصل منه ترجّ ورجاء لعباده، تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا.
الإعراب: {إِنّا} : حرف مشبه بالفعل، و (نا): اسمها، وحذفت نونها، وبقيت الألف دليلا عليها. {أَنْزَلْناهُ}: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة الفعلية في محل رفع خبر (إن) والجملة الاسمية:{إِنّا..} . إلخ ابتدائية لا محل لها من الإعراب. {قُرْآناً} : حال من الضمير المنصوب، وهو حال موطئة لما بعده، وجوز اعتباره بدلا من الضمير، كما جوز اعتباره مفعولا
به، واعتبار الضمير المنصوب ضمير المصدر، والمعتمد الأول. {عَرَبِيًّا}: صفة: {قُرْآناً،} وجوز أبو البقاء اعتباره حالا من الضمير المستتر في {قُرْآناً،} على اعتباره مؤولا بمشتق، والمعتمد الأول. {لَعَلَّكُمْ}: حرف مشبه بالفعل، والكاف اسمها، {تَعْقِلُونَ}: مضارع وفاعله، والجملة الفعلية في محل رفع خبر (لعل) والجملة الاسمية:{لَعَلَّكُمْ..} . إلخ تعليل للإنزال لا محل لها.
الشرح: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ} : انظر: {نَقُصُّهُ} في الآية رقم [100] من سورة (هود). {أَحْسَنَ الْقَصَصِ} : وإنما كانت سورة (يوسف) أحسن القصص؛ لما فيها من الحكم والنكت، وسير الملوك والمماليك، والعظماء والعلماء، ومكر النساء، والصبر على الأذى، والتجاوز عنه أحسن التجاوز، وغير ذلك من الفوائد الشريفة، قال خالد بن معدان: سورة (يوسف) وسورة (مريم) يتفكه بهما أهل الجنة في الجنة، وقال عطاء: لا يسمع سورة (يوسف) محزون إلا استراح إليها. انتهى. خازن.
{بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ} أي: بسبب إيحائنا إليك هذا القرآن، وتنزيله عليك، هذا؛ والوحي الإشارة، والكتابة والرسالة، والإلهام، والكلام الخفي، وكل ما ألقيته إلى غيرك، والوحي:
الكتاب المنزل على الرسول المرسل لقومه، مثل موسى، وعيسى، ومحمد صلّى الله عليهم أجمعين، وسلم تسليما كثيرا. {وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ} أي: عن هذه القصة، لم تخطر ببالك، ولم يكن لك علم بها، وبما فيها من عجائب، وغرائب.
الإعراب: {نَحْنُ} : ضمير منفصل مبني على الضم في محل رفع مبتدأ. {نَقُصُّ} : مضارع، والفاعل مستتر تقديره:«نحن» . {عَلَيْكَ} : متعلقان بالفعل قبلهما. {أَحْسَنَ} : مفعول مطلق، أو نائب عنه، و {أَحْسَنَ}: مضاف، و {الْقَصَصِ}: مضاف إليه. {بِما} : الباء: حرف جر. (ما):
مصدرية. {أَوْحَيْنا} : فعل وفاعل. {إِلَيْكَ} : متعلقان بالفعل قبلهما، و (ما) المصدرية والفعل:
{أَوْحَيْنا} في تأويل مصدر في محل جر بالباء، والجار والمجرور متعلقان بالفعل:{نَقُصُّ،} أو هما متعلقان بمحذوف حال من: {أَحْسَنَ الْقَصَصِ} .. {هذَا} : اسم إشارة مبني على السكون في محل نصب مفعول به تنازعه: {نَقُصُّ} و {أَوْحَيْنا،} فأعمل فيه الثاني على مذهب البصريين، وأضمر في الأول، ثم حذف لكونه فضلة. {الْقُرْآنَ}: بدل من اسم الإشارة، أو عطف بيان عليه، هذا؛ وأجيز اعتبار:{أَحْسَنَ الْقَصَصِ} مفعولا به ل {نَقُصُّ} . وذلك على اعتبار: {الْقَصَصِ} مصدرا بمعنى المفعول، كالخلق بمعنى المخلوق، فلا تكون المسألة من باب التنازع، هذا؛ وقال أبو البقاء:
ويجوز في العربية جر {الْقُرْآنَ} على البدل من (ما)، ورفعه على إضمار:(هو). انتهى. ولكني لم
أجد من قرأ بجره أو رفعه، وجملة:{نَقُصُّ..} . إلخ في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية:
{نَحْنُ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها. {وَإِنْ} : الواو: واو الحال. (إن): حرف مشبه بالفعل، مخفف من الثقيلة، مهمل لا عمل له. {كُنْتَ}: ماض ناقص مبني على السكون، والتاء اسمه. {مِنْ قَبْلِهِ}: متعلقان بما بعدهما، والهاء في محل جر بالإضافة. {لَمِنَ}: اللام: هي الفارقة بين (إن) العاملة والمهملة. {لَمِنَ الْغافِلِينَ} : متعلقان بمحذوف خبر (كان)، وجملة:{وَإِنْ كُنْتَ..} . إلخ في محل نصب حال من كاف الخطاب، والرابط: الواو، والضمير.
الشرح: {إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ} : يعقوب بن إسحاق، بن إبراهيم، فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ الكريم ابن الكريم، ابن الكريم، ابن الكريم، يوسف بن يعقوب، بن إسحاق، بن إبراهيم» . رواه البخاري، هذا؛ و {يُوسُفُ} يقرأ بتثليث سينه، مثل تثليث نون:(يونس) كما قرئ: «(يؤسف)» بهمزة وتثليث سينه، ففيه ست لغات، ومثله (يونس) أفاده أبو البقاء.
{يا أَبَتِ} : من المعروف أن في الاسم المضاف لياء المتكلم، إذا كان صحيح الآخر، ومنادى ستّ لغات: أحدها: حذف الياء، والاستغناء عنها بالكسرة، مثل: يا عبد، وهذا هو الأكثر، الثاني إثبات الياء ساكنة، نحو: يا عبدي، وهو دون الأول في الكثرة، الثالث: قلب الياء ألفا، وحذفها، والاستغناء عنها بالفتحة، نحو: يا عبد، الرابع: قلبها ألفا، وبقاؤها، وقلب الكسرة فتحة، نحو: يا عبدا، الخامس: إثبات الياء محركة بالفتحة، نحو: يا عبدي، السادس: ضم الاسم بعد حذفها كالمفرد، اكتفاء بنية الإضافة، وإنما يكون ذلك فيما يكثر نداؤه مضافا للياء كالرب، والأبوين، والقوم، قرئ قوله تعالى:{قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ..} . إلخ بضم الباء، وحكي: يا ربّ اغفر لي، وانظر إعراب:{يا قَوْمِ} في الآية رقم [28] من سورة (هود)، هذا؛ ويضاف إلى ذلك إذا كان المنادى المضاف إلى ياء المتكلم أبا، أو أما أربع لغات: إحداها: إبدال الياء تاء مكسورة، وبها قرأ السبعة ما عدا ابن عامر في قوله تعالى: {(يا أَبَتِ
…
)} إلخ من سورة (يوسف) ومريم، الثانية: إبدالها تاء مفتوحة، وبها قرأ ابن عامر ما تقدم، الثالثة:«يا أبتا» بالتاء والألف، وبها قرئ ما تقدم شاذا وعليه قول رؤبة بن العجاج:[الرجز]
تقول بنتي: قد أنى أناكا
…
يا أبتا علّك أو عساكا
الرابعة: يا أبتي، وعليه قول الشاعر:[الطويل]
أيا أبتي لا زلت فينا، فإنّما
…
لنا أمل في العيش ما دمت عائشا
قال ابن هشام في قطر الندى: وهاتان اللغتان قبيحتان، والأخيرة أقبح من التي قبلها، وينبغي أن لا تجوز إلا في ضرورة الشعر، وقال الخضري في حاشيته على ابن عقيل: ضرورة، لكن الأولى أهون لذهاب صورة الياء المعوض عنها، بل قيل: لا ضرورة فيه؛ لأن هذه الألف لم تنقلب عن الياء، بل هي التي تلحق المنادى البعيد والمندوب، والمستغاث، فتكون لغة عاشرة. والله أعلم.
-أقول: وإنما كانت هاتان اللغتان قبيحتين؛ لأنه جمع بين العوض، وهو التاء، والمعوض عنه، وهو الياء المنقلبة ألفا، أو غير المنقلبة، وقد أجاز بعضهم ضم التاء لشبهها بتاء التأنيث، فأما الوقف على هذا الاسم فبالتاء عند قوم لأنها ليست للتأنيث، فيبقى لفظها دليلا على المحذوف، وبالهاء عند آخرين شبهوها بهاء التأنيث.
{إِنِّي رَأَيْتُ} : من الرؤيا المنامية، لا من الرؤية البصرية، بدليل الآية التالية. {أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ}: فالمراد بالكواكب: إخوته، وبالشمس: أمه، أو خالته، وبالقمر: أبوه، وكانت هذه الرؤيا ليلة الجمعة، وكانت ليلة القدر، وكانت سن يوسف عليه السلام اثنتي عشرة سنة، وهو الأصح، والمراد بالسجود: تواضعهم له، ودخولهم تحت أمره، وقيل: أراد به حقيقة السجود؛ لأن التحية كانت في ذلك الزمن بالسجود.
فعن جابر بن عبد الله-رضي الله عنهما-أن يهوديا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أخبرني يا محمد عن النجوم التي رآهن يوسف، فسكت، فنزل جبريل عليه السلام، فأخبره بذلك، فقال:
«إذا أخبرتك فهل تسلم؟» . قال: نعم، قال:«جريان، والطارق، والذيال، وقابس، وعمودان والفيلق، والمصبح، والضروح، والفرع، ووثاب، وذو الكتفين، نزلن من السماء وسجدن له» .
فقال اليهودي: إي والله إنها لأسماؤها!. {رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ} : فهذا الكلام يحتمل وجهين:
أحدهما: أنها جملة كررت للتوكيد لما طال الفصل بالمفاعيل، والثاني: أن الكلام مستأنف، فهو بمنزلة جواب لسؤال مقدر، وإنما جمع الضمير جمع المذكر السالم مع أن المذكورات جمادات، فالجواب عند الخليل وسيبويه: أنه لما أخبر عن هذه الأشياء بالطاعة، والسجود، وهما من أفعال من يعقل عاملها معاملة من يعقل، والعرب تجمع ما لا يعقل جمع من يعقل إذا أنزلوه منزلته، وإن كان خارجا عن الأصل، وانظر ما ذكرته في الآية رقم [193] وما بعدها من سورة (الأعراف).
الإعراب: {إِذْ} : بدل من: {أَحْسَنَ الْقَصَصِ،} إن جعل مفعولا به بدل الاشتمال، أو هو منصوب بفعل محذوف، تقديره: اذكر، وعلقه الجمل بقوله:{قالَ يا بُنَيَّ..} . إلخ، ورجحه على غيره، وجوز تعليقه بالغافلين، وبالفعل {نَقُصُّ،} وأرجح اعتباره معمولا لفعل محذوف كما رأيت؛ لأن له نظائر كثيرة في كتاب الله تعالى، وهل هو ظرف، أو مفعول به للفعل المحذوف؟ قولان. وجملة:{قالَ يُوسُفُ} في محل جر بإضافة {إِذْ} إليها. {لِأَبِيهِ} : متعلقان بالفعل
قبلهما، وعلامة الجر الياء نيابة عن الكسرة؛ لأنه من الأسماء الخمسة، والهاء في محل جر بالإضافة. (يا): حرف نداء ينوب مناب أدعو. (أبت): منادى منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم المحذوفة، والمعوض عنها التاء كما رأيت في الشرح. {إِنِّي}:
حرف مشبه بالفعل، وياء المتكلم اسمها. {رَأَيْتُ}: فعل وفاعل. {أَحَدَ عَشَرَ} : جزءان عدديان مبنيان على الفتح في محل نصب مفعول به. {كَوْكَباً} : تمييز. {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} :
معطوفان على {أَحَدَ عَشَرَ} . {رَأَيْتُهُمْ} : فعل وفاعل ومفعول به، والجملة الفعلية مؤكدة لما قبلها، فيكون:{ساجِدِينَ} مفعولا به ثانيا للفعل الأول، أو هي مستأنفة لا محل لها، فيكون:
{ساجِدِينَ} مفعولا به ثانيا لهذا الفعل، ويكون مفعول الأول محذوفا. {لِي}: متعلقان ب {ساجِدِينَ} بعدهما، والكلام {يا أَبَتِ..}. إلخ في محل نصب مقول القول. وجملة:
{رَأَيْتُ..} . إلخ في محل رفع خبر (إن).
الشرح: {قالَ} أي: يعقوب أبو يوسف. {يا بُنَيَّ} : تصغير (ابن) صغره للشفقة، أو لصغر سنه كما رأيت فيما سبق، وانظر إعلاله في الآية رقم [42] من سورة (هود) عليه السلام. {لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ} أي: لا تخبرهم برؤياك، فإنهم يعرفون تأويلها، وانظر شرح {نَقُصُّهُ} في الآية رقم [100] من سورة (هود). {فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً} أي: فيحتالوا لإهلاكك حيلة، فهم يعقوب عليه السلام من رؤيا يوسف أن الله يصطفيه برسالته، ويفوقه على إخوته، فخاف على حسدهم، وبغيهم، لذا فقد أمره بكتمان رؤياه عنهم؛ لأن رؤيا الأنبياء حق. {إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ}: بين العداوة، كما فعل بآدم، وحواء عليهما السلام، فلذا لا يألو جهدا في إثارة الحقد، والحسد، والبغضاء في قلوبهم؛ حتى يحملهم على الكيد.
قال ابن عباس-رضي الله عنهما-بين رؤيا يوسف هذه، وبين تحققها بمصر، واجتماعه بأبويه، وإخوته أربعون سنة، وقال النووي: قال المازني: مذهب أهل السنّة في حقيقة الرؤيا: أن الله يخلق في قلب النائم اعتقادات كما يخلقها في قلب اليقظان، فإذا كانت تلك الاعتقادات تسر خلقها الله بغير حضرة الشيطان، وإذا كانت تغم خلقها بحضرته، فهذا معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم:«الرّؤيا من الله والحلم من الشّيطان» وليس معناه أن الشيطان يفعل شيئا.
وروى البخاري عن أبي سلمة قال: لقد كنت أرى الرؤيا فتمرضني حتى سمعت أبا قتادة يقول: وأنا كنت أرى الرؤيا فتمرضني حتى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «الرّؤيا الصّالحة
من الله». وفي رواية: «الرؤيا الحسنة فإذا رأى أحدكم ما يحبّ، فلا يحدّث بها إلاّ من يحبّ، وإذا رأى ما يكره، فليتعوّذ بالله من شرّها، وليتفل ثلاث مرات عن يساره، ولا يحدّث بها أحدا، فإنها لا تضرّه» . وفي بعض الروايات: «وليتحول عن جنبه للآخر» . وفي بعضها: «وليتعوذ بالله من الشيطان الرجيم من شرها» . وانظر ما ذكرته في الآية رقم [64] من سورة (يونس) عليه السلام، وما أذكره في الآية رقم [43] الآتية وما بعدها.
بعد هذا انظر {كادَ} في الآية رقم [117] من سورة (التوبة)، والفرق بينها وبين الفعل هنا، وإعلال {مُبِينٌ} في الآية رقم [6] من سورة (هود)، وانظر شرح الإنسان في الآية رقم [12] من سورة (يونس). {عَدُوٌّ}: هو ضد الصديق، وهو على وزن فعول بمعنى فاعل، مثل صبور وشكور، وما كان على هذا الوزن يستوي فيه المفرد والمثنى، والجمع، والمذكر، والمؤنث، إلا لفظا واحدا جاء نادرا، قالوا: هذه عدوّة الله، قال تعالى:{إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا،} وقال تعالى حكاية عن قول إبراهيم عليه السلام: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلاّ رَبَّ الْعالَمِينَ} والجمع أعداء وأعاد، وعدات، وعدى، وقيل: أعاد جمع: أعداء، فيكون جمع الجمع، وفي القاموس المحيط: والعدا بالضم والكسر: اسم الجمع.
الإعراب: {قالَ} : ماض، والفاعل مستتر تقديره:«هو» . (يا): أداة نداء تنوب مناب:
«أدعو» . (بني): منادى منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم، منع من ظهورها اشتغال المحل بالحركة المناسبة، والياء في محل جر بالإضافة. {لا}: ناهية جازمة.
{تَقْصُصْ} : مضارع مجزوم ب {لا} الناهية، والفاعل مستتر تقديره:«أنت» . {رُؤْياكَ} : مفعول به منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على الألف للتعذر، والكاف في محل جر بالإضافة.
{عَلى إِخْوَتِكَ} : متعلقان بالفعل قبلهما، والكاف في محل جر بالإضافة. {فَيَكِيدُوا}: مضارع منصوب ب «أن» مضمرة بعد الفاء السببية وعلامة نصبه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والألف للتفريق. {لَكَ}: جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، واللام هي لام التقوية، أي: أنها زائدة، والكاف مفعول به، وانظر ما ذكرته في {فَعّالٌ لِما يُرِيدُ} في الآية رقم [107] من سورة (هود). {كَيْداً}: مفعول مطلق. ولأبي البقاء اعتبارات أخرى، فهي غير معتمدة. {إِنَّ}: حرف مشبه بالفعل. {الشَّيْطانَ} : اسم {إِنَّ} . {لِلْإِنْسانِ} : متعلقان ب {عَدُوٌّ} بعدهما. {عَدُوٌّ} : خبر: {إِنَّ} . {مُبِينٌ} : صفة ثانية ل {عَدُوٌّ،} والجملة الاسمية:
{إِنَّ..} . إلخ تعليل للنهي لا محل لها، و «أن» المضمرة والمضارع في تأويل مصدر معطوف بالفاء على مصدر متصيد من الفعل السابق، التقدير: لا يكن منك قص لرؤياك على إخوتك، فكيد لك منهم، والكلام كله في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالَ يا بُنَيَّ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها.
الشرح: {وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ} : يختارك ويصطفيك، والاجتباء: اختيار معالي الأمور للمجتبى، وأصله من: جبيت الشيء، أي: حصلته، ومنه: جبيت الماء في الحوض، قاله النحاس، هذا؛ وأقول: يطلق الناس في هذه الأيام على الموظف الذي يحصل الضرائب من المكلفين اسم الجابي، أي: للمال، وفي الخازن: واجتباء الله للعبد تخصيصه إياه بفيض إلهي، تحصل منه أنواع المكرمات بلا سعي من العبد، وذلك مختص بالأنبياء، وببعض من يقاربهم من الصديقين، والشهداء والصالحين. انتهى.
{وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ} أي: من تعبير الرؤيا في المنام، فالمراد بالأحاديث: ما يراه الناس في النوم، وهي معجزة له، فإنه لم يلحقه فيها خطأ، وكان أعلم الناس بتأويلها، وكان نبينا صلى الله عليه وسلم نحو ذلك، وكان الصديق رضي الله عنه من أعبر الناس لها بعده صلى الله عليه وسلم، وحصل لابن سيرين فيها التقدم العظيم، ونحوه، أو قريب منه كان سعيد بن المسيب فيما ذكروا، وقيل:
المعنى: يعلمك أحاديث الأمم ودلائل التوحيد وتأويل غوامض كتب الله، وسنن الأنبياء وكلمات التوحيد، والمعتمد الأول. هذا؛ و (أحاديث) جمع تكسير، فيقال لواحد ملفوظ به:
وهو حديث، وقد شذ جمعه على:(أحاديث) كما شذ أباطيل، وأفاظيع، وأعاريض، في جمع باطل، وفظيع، وعريض.
{وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ} أي: بالنبوة بأن يصل نعمة الدنيا بنعمة الآخرة، وإن منصب النبوة أعلى من جميع المناصب. {وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ} أي: بنيه، وذلك بالنبوة أيضا، فإنهم منحوا النبوة كما ستعرفه فيما يأتي. {كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ} أي: أتم النعمة عليهما بالرسالة والنبوة، وأتمها على إبراهيم بالخلة، والإنجاء من النار، قيل: أتمها على إسحاق بإنقاذه من الذبح، وفدائه بذبح عظيم، والمعتمد: أن الذبيح إسماعيل عليه السلام، كما ستعرفه في سورة (الصافات) إن شاء الله تعالى. {عَلِيمٌ} أي: بمن يستحق الاجتباء. {حَكِيمٌ} : يفعل الأمور على ما ينبغي. هذا؛ وانظر أعمار الأسرة الكريمة في الآية [71] من سورة (هود) على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام.
بعد هذا انظر شرح {رَبُّكَ} في الآية رقم [3] من سورة (هود)، و {آلِ} أصله أهل، فأبدلت الهاء همزة ساكنة، فصار أأل، ثم أبدلت الهمزة الثانية الساكنة مدّا مجانسا لحركة الهمزة الأولى على القاعدة، مثل آمن أومن إيمانا، أصله أأمن، أؤمن، أئمن، إئمانا، وقلب الهاء همزة سائغ مستعمل لغة، كما في:(أراق)، فإن أصله:(هراق)، وهذا مذهب سيبويه، وقال الكسائي: أصل آل (أول) ك
«حمل» من آل، يؤول، تحركت الواو، وانفتح ما قبلها، فقلبت ألفا، وقد صغروه على: أهيل، وهو يشهد للأول، وعلى أويل، وهو يشهد للثاني، ولا يستعمل (آل) إلا فيمن له خطر، وشأن، بخلاف أهل، يقال: آل النبي، وآل الملك، ولا يقال: آل الحجام، ولكن أهله، ولا ينتقض ب «آل فرعون» فإن له شرفا باعتبار الدنيا، واختلف في جواز إضافته إلى المضمر، فمنعه الكسائي والنحاس، وزعم أبو بكر الزبيدي: أنه من لحن العوام، والصحيح جوازه، كما في الحديث الشريف:«اللهمّ صلّ على محمد وآله» . وقال عبد المطلب بن هاشم جد النبي صلى الله عليه وسلم: [مجزوء الكامل]
لا همّ إنّ المرء يم
…
نع رحله، فامنع رحالك
وانصر على آل الصّلي
…
ب، وعابديه اليوم آلك
الإعراب: {وَكَذلِكَ} : الواو: حرف عطف (كذلك) الكاف: حرف تشبيه وجر. ذا: اسم إشارة مبني على السكون في محل جر بالكاف، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب لا محل له، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف صفة لمصدر محذوف واقع مفعولا مطلقا، عامله ما بعده، التقدير: يجتبيك ربك اجتباء كائنا مثل اجتبائه لك الرؤيا الدالة على شرف، وعز، وكمال نفس. {يَجْتَبِيكَ}: مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل، والكاف مفعول به. {رَبُّكَ}: فاعله، والكاف في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه، والجملة الفعلية مستأنفة لا محل لها. (يعلمك): مضارع ومفعوله، والفاعل يعود إلى {رَبُّكَ،} والجملة الفعلية هذه معطوفة على ما قبلها. {مِنْ تَأْوِيلِ} : متعلقان بالفعل قبلهما، و {تَأْوِيلِ}: مضاف، و {الْأَحادِيثِ}: مضاف إليه. (يتم): مضارع، والفاعل مستتر تقديره:
«هو» . {نِعْمَتَهُ} : مفعول به، والهاء في محل جر بالإضافة. {عَلَيْكَ}: متعلقان بالفعل قبلهما، {وَعَلى آلِ}: معطوفان على {عَلَيْكَ،} و {آلِ} : مضاف، و {يَعْقُوبَ}: مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الفتحة نيابة عن الكسرة؛ لأنه ممنوع من الصرف للعلمية والعجمة، وجملة: (يتم
…
) إلخ معطوفة على ما قبلها. الكاف: حرف تشبيه وجر. (ما): مصدرية.
{أَتَمَّها} : ماض ومفعوله، والفاعل يعود إلى:{رَبُّكَ} . {عَلى أَبَوَيْكَ} : متعلقان بالفعل قبلهما، وعلامة الجر الياء نيابة عن الكسرة؛ لأنه مثنى، وحذفت النون للإضافة، والكاف في محل جر بالإضافة. {مِنْ قَبْلُ}: متعلقان بمحذوف حال من: {أَبَوَيْكَ،} التقدير: كائنين، وبني {قَبْلُ} على الضم لقطعه عن الإضافة لفظا لا معنى، {إِبْراهِيمَ}: بدل من {أَبَوَيْكَ،} أو عطف بيان، فهو مجرور، وعلامة جره الفتحة نيابة عن الكسرة؛ لأنه ممنوع من الصرف للعلمية والعجمة، هذا؛ ويجوز اعتباره منصوبا بفعل محذوف، تقديره: أعني ونحوه. (إسحاق): معطوف على {إِبْراهِيمَ} على جميع الوجوه المعتبرة فيه من إعراب وغيره، و (ما) المصدرية والفعل بعدها في تأويل مصدر في محل جر بالكاف، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف صفة لمصدر محذوف،
التقدير: ويتم نعمته إتماما كائنا مثل إتمامها على أبويك
…
إلخ، وهذا ليس مذهب سيبويه، وإنما مذهبه في مثل هذا التركيب أن يكون منصوبا على الحال من المصدر المضمر المفهوم من الفعل المتقدم، وإنما أحوج سيبويه إلى هذا؛ لأن حذف الموصوف، وإقامة الصفة مقامه، لا يجوز إلا في مواضع محصورة، وليس هذا منها. {إِنَّ}: حرف مشبه بالفعل. {رَبُّكَ} :
اسمها، والكاف في محل جر بالإضافة. {عَلِيمٌ حَكِيمٌ}: خبران ل {إِنَّ،} والجملة الاسمية مستأنفة لا محل لها، ولعلك تدرك معي: أن الآية الكريمة بكاملها إنما هي من مقول يعقوب على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام.
{لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسّائِلِينَ (7)}
الشرح: {لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ} أي: في خبره، وخبر إخوته. {آياتٌ لِلسّائِلِينَ} أي:
عبرة للمعتبرين، وانظر السائلين في مقدمة هذه السورة، وإنما كانت السورة بكاملها عبرة، وعظة لما فيها من الحكم، ومنها رؤيا يوسف، وما حقق الله فيها، ومنها حسد إخوته له، وما آل إليه أمرهم من الحسد، ومنها صبر يوسف على بلواه مثل إلقائه في الجب، وبيعه عبدا، وسجنه بعد ذلك، وما آل إليه أمره من الملك، ومنها ما تشتمل عليه من حزن يعقوب، وصبره على فقد ولده، وما آل إليه أمره من بلوغ المراد، وغير ذلك من الآيات التي إذا فكر فيها الإنسان؛ اعتبر، واتعظ، هذا؛ ويقرأ:«(آية)» بالإفراد أيضا.
تنبيه: كان أولاد يعقوب اثني عشر رجلا: روبيل، وهو أكبرهم، وشمعون، ولاوي، ويهوذا، وزبالون ويشجر، وأمهم ليا بنت ليّان، وهي ابنة خال يعقوب، وولد له من جاريتين، اسم إحداهما زلفة، والأخرى بلهة أربعة أولاد: وأسماؤهم: دان، ونفتالي، وجاد، وآشر، ثم توفيت ليا، فتزوج يعقوب أختها راحيل، فولدت له يوسف، وبنيامين، فهؤلاء بنو يعقوب، وهم الأسباط، وعنهم تفرعت قبائل بني إسرائيل، وقد بينت لك في آيات كثيرة: أن إسرائيل هو يعقوب نفسه.
الإعراب: {لَقَدْ} : اللام: هي لام الابتداء، أو واقعة في جواب قسم محذوف، التقدير:
والله لقد إلخ. (قد): حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال. {كانَ} : ماض ناقص. {فِي يُوسُفَ} : جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر: {كانَ} تقدم على اسمها، وعلامة الجر الفتحة نيابة عن الكسرة؛ لأنه ممنوع من الصرف للعلمية والعجمة. (إخوته): معطوف على: {يُوسُفَ،} والهاء في محل جر بالإضافة. {آياتٌ} : اسم {كانَ} مؤخر. {لِلسّائِلِينَ} : متعلقان بمحذوف صفة: {آياتٌ،} وعلامة الجر الياء نيابة عن الكسرة؛ لأنه جمع مذكر سالم، والنون عوض
…
إلخ، وفاعله مستتر فيه، ومفعوله محذوف، وجملة:{لَقَدْ كانَ..} . إلخ لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، أو هي جواب قسم محذوف، كما رأيت، والقسم وجوابه كلام مستأنف لا محل له.
الشرح: {إِذْ قالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنّا} أي: قال أولاد يعقوب: إن أبانا يحب يوسف وأخاه بنيامين شقيقه أكثر منا، وقد قالوا هذه المقالة حسدا منهم ليوسف، وأخيه حينما رأوا ميلا من أبيهم إليهما وكثرة شفقته عليهما وكان قد بلغهم خبر الرؤيا التي رآها يوسف في منامه {وَنَحْنُ عُصْبَةٌ} أي: جماعة، وكانوا عشرة كما رأيت، والعصبة ما بين العشرة إلى الأربعين، ومثلها العصابة، ولا واحد لها من لفظها كالنفر، والرهط، والمعشر
…
إلخ. {إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} أي: لفي خطأ بين بإيثاره يوسف وأخاه؛ لأنهما صغيران لا ينفعانه بشيء، وإنما نحن نقوم بالعمل له، ونقدم له كل ما يحتاجه من معاشه وخدمته، وتقديم جميع مطالبه.
تنبيه: لم يريدوا ضلال الدين؛ إذ لو أرادوه؛ لكانوا كفارا، بل أرادوا الخطأ في تدبير أمورهم حيث آثر حب صغيرين على عشرة أقوياء أشداء ومثله قولهم في الآية [95]، هذا؛ وأخبر ب {أَحَبُّ} عن المثنى؛ لأنه أفعل تفضيل، فلم يثنه؛ لأنه يجب إفراده، وتذكيره، وتنكيره عند مقارنته بالمفضل عليه مجرورا ب «من» ، وهو هنا كذلك، وهو مصوغ هنا من (حبّ) المبني للمفعول وهو شاذ قياسا، فصيح استعمالا لوروده في أفصح الفصيح، وإذا بنيت أفعل التفضيل من مادة الحب، والبغض، تعدى إلى الفاعل المعنوي ب «إلى» ، وإلى المفعول المعنوي باللام، أو ب «في» ، فإذا قلت: زيد أحب إلي من بكر، كان معناه: أنك تحب زيدا أكثر من بكر، فالمتكلم هو الفاعل، وكذلك إذا قلت: هو أبغض إلي منه؛ كان معناه أنت المبغض، وإذا قلت:
زيد أحب لي من عمرو، أو أحب فيّ منه، كان معناه أن زيدا يحبني أكثر من عمرو، وعلى هذا جاءت الآية الكريمة، فإن الأب هو فاعل المحبة، ولا تنس أن أصله:(أحبب) فنقلت فتحة الباء الأولى إلى الحاء، فسكنت، ثم أدغمت الباء في الباء.
الإعراب: {إِذْ} : ظرف لما مضى من الزمان مبني على السكون في محل نصب متعلق بفعل محذوف، تقديره: اذكر، أو هو مفعول به لهذا المقدر. {قالُوا}: فعل وفاعل، والألف للتفريق.
{لَيُوسُفُ} : اللام: هي لام الابتداء، وقيل: واقعة في جواب قسم محذوف، التقدير: والله.
(يوسف): مبتدأ. (أخوه): معطوف عليه مرفوع مثله، وعلامة رفعه الواو نيابة عن الضمة؛ لأنه من الأسماء الخمسة، والهاء في محل جر بالإضافة. {أَحَبُّ}: خبر المبتدأ، وفاعله مستتر فيه وجوبا تقديره:«هو» . {إِلى أَبِينا} : متعلقان ب {أَحَبُّ،} وعلامة الجر الياء نيابة عن الكسرة؛ لأنه من الأسماء الخمسة، و (نا): في محل جر بالإضافة. {مِنّا} : متعلقان ب {أَحَبُّ..} . أيضا، والجملة الاسمية جواب القسم المقدر، والقسم وجوابه في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالُوا..} .
إلخ في محل جر بإضافة {إِذْ} إليها، والجملة الاسمية:{وَنَحْنُ عُصْبَةٌ} في محل نصب حال من (نا)، والرابط: الواو، والضمير. {إِنَّ}: حرف مشبه بالفعل. {أَبانا} : اسم {إِنَّ} منصوب، وعلامة نصبه الألف نيابة عن الفتحة؛ لأنه من الأسماء الخمسة، و (نا): في محل جر بالإضافة.
{لَفِي ضَلالٍ} : اللام: هي المزحلقة. {لَفِي ضَلالٍ} : متعلقان بمحذوف خبر: {إِنَّ} . {مُبِينٍ} :
صفة: {ضَلالٍ،} والجملة الاسمية: {إِنَّ..} . إلخ في محل نصب مقول القول.
الشرح: {اُقْتُلُوا يُوسُفَ} أي: قال أحدهم: اقتلوا يوسف ليكون أحسم لمادة الأمر. {أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً} أي: ألقوه في أرض بعيدة عن أبيه، فتفترسه السباع، أو يموت في تلك الأرض البعيدة، وكان هذا منهم لما قوي الحسد في قلوبهم، وبلغ نهايته، والذي اقترح هذا هو شمعون، وقيل: روبيل. {يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ} : وهذه هي الغاية التي ينشدونها من قتله، أو من إبعاده، والمعنى أنه قد شغله حب يوسف عنكم، فإذا فعلتم به أحد الأمرين؛ أقبل أبوكم بوجهه عليكم. {وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ}: من بعد قتل يوسف أو إبعاده عن أبيه. {قَوْماً صالِحِينَ} : تائبين إلى الله تعالى عما جنيتم، وقال مقاتل: معناه: يصلح لكم أمركم فيما بينكم، وبين أبيكم أيضا.
بعذر تعتذرون به إليه.
الإعراب: {اُقْتُلُوا} : أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق.
{يُوسُفَ} : مفعول به، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول لقول محذوف، أي: قال قائل منهم: {اُقْتُلُوا يُوسُفَ} . {أَوِ} : حرف عطف. {اِطْرَحُوهُ} : فعل وفاعل ومفعول به، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، فهي في محل نصب مثلها. {أَرْضاً}: في نصبه ثلاثة أوجه: أحدها أن يكون منصوبا بنزع الخافض، أي: في أرض. الثاني: النصب على الظرفية.
الثالث: هو مفعول ثان، وذلك على أن يضمن الفعل معنى: أنزلوه. {يَخْلُ} : مضارع مجزوم لوقوعه جوابا للطلب، وهو عند الجمهور مجزوم بشرط محذوف، وعلامة جزمه حذف حرف العلة من آخره، وهو الواو، والضمة قبلها دليل عليها. {لَكُمْ}: متعلقان بالفعل قبلهما.
{وَجْهُ} : فاعل، وهو مضاف، و {أَبِيكُمْ}: مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الياء إلخ، والكاف في محل جر بالإضافة، وجملة:{يَخْلُ..} . إلخ لا محل لها؛ لأنها لم تقترن بالفاء ولا ب «إذا» الفجائية. (تكونوا): مضارع ناقص معطوف على {يَخْلُ} مجزوم مثله، وعلامة جزمه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو اسمه، والألف للتفريق. وجوز الزمخشري فيه أيضا اعتباره منصوبا ب «أن» مضمرة بعد واو المعية، ولا أراه قويا {مِنْ بَعْدِهِ}: متعلقان ب {صالِحِينَ}
بعدهما، والهاء في محل جر بالإضافة. {قَوْماً}: خبر (تكونوا). {صالِحِينَ} : صفته منصوب، وعلامة نصبه الياء؛ لأنه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد.
الشرح: {قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ} : هو يهوذا، وكان أحسنهم رأيا فيه، وقيل: هو روبيل. {لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ} : لأن القتل كبيرة من الكبائر. {وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ} أي: في أسفل الجب، وظلمته، والغيابة: كل موضع ستر شيئا، وغيّبه عن النظر. ويقال: غاب يغيب غيبا وغيابة وغيابا، وقيل للقبر: غيابة؛ لأنه يستر الميت عن أعين الناس، قال الشاعر المنخل اليشكري:[الطويل]
فإن أنا يوما غيّبتني غيابتي
…
فسيروا بسيري في العشيرة والأهل
هذا؛ ويقرأ: «(غيابات)» بالجمع بتخفيف الياء وتشديدها، كما قرئ:«(غيبة)» هذا؛ والجب:
الركية التي لم تطو، أي: لم تعمر جدرانها، فإذا طويت فهي بئر كما في الآية رقم [45] من سورة (الحج)، قال الأعشى:[الطويل]
لئن كنت في جبّ ثمانين قامة
…
ورقّيت أسباب السماء بسلّم
ليستدرجنك القول حتّى تهرّه
…
وتعلم أني لست عنك بمفحم
واختلفوا في مكان ذلك الجب، فقال قتادة: هو بئر بيت المقدس، وقال وهب: هو في أرض الأردن، وقال مقاتل: هو على ثلاثة فراسخ من منزل يعقوب. {يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيّارَةِ} :
يأخذه بعض الذين يسيرون في الأرض قريبا من هذا الجب، وذلك لأن هذا الجب كان معروفا يرد عليه كثير من المسافرين. هذا؛ ويقرأ الفعل فوق السبعة بالتاء:«(تلتقطه)» وتأويله عند النحاة:
أن المضاف اكتسب التأنيث من المضاف إليه، وله شواهد كثيرة في كتب النحو، خذ بيت الأعشى، وهو بعد البيتين السابقين:[الطويل]
وتشرق بالقول الّذي قد أذعته
…
كما شرقت صدر القناة من الدّم
وهو الشاهد رقم [904] من كتابنا: «فتح القريب المجيب» . {إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ} أي: ما تريدون من التفريق بينه وبين والده، أو المعنى: إن كنتم عاملين بمشورتي.
الإعراب: {قالَ قائِلٌ} : ماض وفاعله. {مِنْهُمْ} : متعلقان ب {قائِلٌ،} أو بمحذوف صفة له.
{لا تَقْتُلُوا} : مضارع مجزوم ب {لا} الناهية، وعلامة جزمه حذف النون إلخ، والواو فاعله، والألف للتفريق. {يُوسُفَ}: مفعول به، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول. (ألقوه):
أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والهاء مفعول به، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، فهي في محل نصب مقول القول. {فِي غَيابَتِ}: متعلقان بالفعل قبلهما، و {غَيابَتِ}:
مضاف، و {الْجُبِّ}: مضاف إليه. {يَلْتَقِطْهُ} : مضارع مجزوم لوقوعه جوابا للطلب، والهاء مفعول به. {بَعْضُ}: فاعله، وهو مضاف، و {السَّيّارَةِ}: مضاف إليه، وجملة:{يَلْتَقِطْهُ..} . إلخ لا محل لها مثل جملة: {يَخْلُ..} . إلخ في الآية السابقة، ثم هي في محل نصب مقول القول.
{إِنْ} : حرف شرط جازم. {كُنْتُمْ} : ماض ناقص مبني على السكون في محل جزم فعل الشرط، والتاء اسمه، والميم علامة جمع الذكور. {فاعِلِينَ}: خبر كان منصوب
…
إلخ، وجملة:{كُنْتُمْ..} . إلخ لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي، وجواب الشرط محذوف لدلالة ما قبله عليه، و {إِنْ} ومدخولها في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالَ قائِلٌ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها من الإعراب.
{قالُوا يا أَبانا ما لَكَ لا تَأْمَنّا عَلى يُوسُفَ وَإِنّا لَهُ لَناصِحُونَ (11)}
الشرح: {قالُوا يا أَبانا} : قال الجمل: هذا مبني على مقدمات محذوفة، وذلك: أنهم قالوا أولا ليوسف: اخرج معنا إلى الصحراء إلى مواشينا، فنستبق، ونصيد، وقالوا له: سل أباك أن يرسلك معنا، فسأله: فتوقف يعقوب، فقالوا له:{ما لَكَ لا تَأْمَنّا} انتهى. أي: لم تخافنا عليه؟ {وَإِنّا لَهُ لَناصِحُونَ} أي: ونحن نريد له الخير، ونشفق عليه! أرادوا به استنزاله عن رأيه في حفظه منهم لما تنسم من حسدهم له، وذلك حين بلغهم خبر رؤياه المنامية. {تَأْمَنّا}: أصله: (تأمننا) أدغمت النون الأولى في الثانية، والجمهور على الإشارة إلى ضمة النون الأولى، وهو ما يسمى بالإشمام، فمنهم من يختلس الضمة بحيث يدركها السمع، ومنهم من يدل عليها بضم الشفة فلا يدركها السمع، ومنهم من يدغمها من غير إشمام، وفي الشاذ من يظهر النون الأولى، وهو القياس، هذا؛ وقرئ:«(لا تامِنا)» بكسر التاء، وهي لغة تميم، يقولون: أنت تضرب، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.
الإعراب: {قالُوا} : ماض مبني على الضم، والواو فاعله، والألف للتفريق. (يا): أداة نداء تنوب مناب: (أدعو). (أبانا): منادى منصوب، وعلامة نصبه الألف نيابة عن الفتحة؛ لأنه من الأسماء الخمسة، و (نا): ضمير متصل في محل جر بالإضافة، والجملة الندائية في محل نصب مقول القول.
{ما لَكَ} : {ما} اسم استفهام مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {لَكَ} : متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول. {لا}: نافية.
{تَأْمَنّا} : مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على آخره، منع من ظهورها اشتغال المحل بالسكون العارض الذي جيء به من أجل الإدغام، والفاعل مستتر تقديره:«أنت» ،
و (نا): مفعول به. {عَلى يُوسُفَ} : متعلقان بالفعل قبلهما، والجملة الفعلية في محل نصب حال من كاف الخطاب، والرابط الضمير فقط، والعامل في الحال الاستفهام. {وَإِنّا}: الواو: واو الحال. (إنا): حرف مشبه بالفعل. و (نا): اسمها. {لَهُ} : متعلقان بما بعدهما. {لَناصِحُونَ} اللام: هي المزحلقة. (ناصحون): خبر (إن
…
) إلخ، والجملة الاسمية: (إنا
…
) إلخ في محل نصب حال من (نا)، والرابط: الواو، والضمير، وهذه الحال متداخلة في الأولى، وجملة:{قالُوا..} . إلخ مستأنفة لا محل لها.
{أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنّا لَهُ لَحافِظُونَ (12)}
الشرح: {أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً} أي: إلى الصحراء، هذا؛ و {غَداً} أصله: غدوا عند سيبويه، فحذفت منه الواو لغير علة تصريفية، وهو ما يسمى بالحذف اعتباطا، وقد نطق به على الأصل قال لبيد بن ربيعة الصحابي-رضي الله عنه:[الطويل]
وما النّاس إلاّ كالدّيار، وأهلها
…
بها يوم حلّوها، وغدوا بلاقع
والغدو، والغدوة: البكرة، وهو ما بين صلاة الفجر، وطلوع الشمس. والغد أيضا: اليوم الذي بعد يومك الذي أنت فيه. {يَرْتَعْ} : من الرتع، وهو الرعي، والأكل. يقال: رتع الإنسان والبعير: إذا أكلا كيف شاءا، وقرئ:«(يرتعي)» بإثبات الياء. {وَيَلْعَبْ} أي: ينشط بالركض والمسابقة، ورمي السهام، هذا؛ ويقرأ الفعلان بالنون أيضا قراءتان سبعيتان، هذا؛ والرتع في الأصل: أكل البهائم في الخصب زمن الربيع، ويستعار للإنسان، إذا أريد به الأكل الكثير.
{وَإِنّا لَهُ لَحافِظُونَ} من أن يناله مكروه؛ حتى نرده إليك.
الإعراب: {أَرْسِلْهُ} : أمر، وفاعله تقديره:«أنت» ، والهاء مفعول به. {مَعَنا}: ظرف مكان متعلق بالفعل قبله، و (نا): في محل جر بالإضافة. {غَداً} : ظرف زمان متعلق بالفعل قبله، وجملة:{أَرْسِلْهُ..} . إلخ ابتدائية لا محل لها. {يَرْتَعْ} : مضارع مجزوم لوقوعه جوابا للطلب، والفاعل مستتر تقديره:«هو» يعود إلى {يُوسُفَ} على قراءته بالياء، وتقديره:«نحن» على قراءته بالنون، وعلى قراءته بالياء، أي:(يرتعي) فهو مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء، وعليه فالجملة الفعلية في محل نصب حال من الهاء، أو من (نا) على حسب القراءة، والرابط الضمير فقط على الاعتبارين، وعلى قراءة الجزم فالجملة لا محل لها {وَإِنّا لَهُ لَحافِظُونَ} إعراب هذه الجملة مثل إعراب:{وَإِنّا لَهُ لَناصِحُونَ} وهي في محل نصب حال أيضا، وعلامة الرفع في الاسمين الواو نيابة عن الضمة؛ لأنهما جمعا مذكر سالمان، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، هذا؛ والآية كلها في محل نصب مقول القول. تأمل.
الشرح: {قالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ} : لشدة مفارقته عليّ، وقلة صبري عنه. {وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ}: قال ذلك؛ لأن الذئاب كانت كثيرة في أرضهم، وقيل: رأى في منامه أن ذئبا قد شد على يوسف، فكان يحذره. {وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ} أي: لاشتغالكم بالرتع، واللعب، أو لقلة اهتمامكم بحفظه، هذا؛ ويقرأ:{الذِّئْبُ} بهمز وبدونه وهو يقع على الذكر، والأنثى، وربما دخلت الهاء في الأنثى، فقيل: ذئبة، وجمعه على القراءتين: ذئاب، وذياب، وهو حيوان يفترس الغنم.
الإعراب: {قالَ} : ماض، والفاعل تقديره:«هو» يعود إلى يعقوب. {إِنِّي} : حرف مشبه بالفعل، والياء اسمها. {لَيَحْزُنُنِي}: مضارع مرفوع، واللام هي المزحلقة، والنون للوقاية، وياء المتكلم مفعول به، والمصدر المؤول من:{أَنْ تَذْهَبُوا} في محل رفع فاعل، التقدير: ليحزنني ذهابكم، وهذه الجملة في محل رفع خبر (إن)، والجملة الاسمية:{إِنِّي..} . إلخ في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالَ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها. {بِهِ} : متعلقان بالفعل قبلهما.
(أخاف): مضارع، وفاعله مستتر تقديره:«أنا» {أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ} مضارع منصوب ب {أَنْ} ومفعوله وفاعله، والمصدر المؤول من {أَنْ} والفعل المضارع في محل نصب مفعول به، وجملة: (أخاف
…
) إلخ معطوفة على جملة: {لَيَحْزُنُنِي..} . إلخ فهي في محل رفع مثلها.
{وَأَنْتُمْ} : الواو: واو الحال. (أنتم): ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ.
{عَنْهُ} : متعلقان بما بعدهما. {غافِلُونَ} : خبر مرفوع إلخ، والجملة الاسمية في محل نصب حال من واو الجماعة، والرابط: الواو، والضمير.
{قالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنّا إِذاً لَخاسِرُونَ (14)}
الشرح: {قالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ} أي: قالوا: والله إن اعتدى عليه الذئب وأكله، ونحن إخوته عشرة أشداء أقوياء؛ {إِنّا إِذاً لَخاسِرُونَ} أي: لعجزة ضعفاء، فكيف نقدر على دفع الذئب عن أغنامنا ومواشينا، إذا لم نقدر على حفظ أخينا! وقيل: إنهم خافوا أن يدعو عليهم يعقوب بالخسار والهلاك، وانظر شرح {عُصْبَةٌ} في الآية رقم [8].
الإعراب: {قالُوا} : ماض وفاعله، والألف للتفريق. {لَئِنْ}: اللام: موطئة لقسم محذوف.
(إن): حرف شرط جازم. {أَكَلَهُ} : ماض مبني على الفتح في محل جزم فعل الشرط، والهاء مفعول به. {الذِّئْبُ}: فاعله، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة
شرط غير ظرفي، والجملة الاسمية:{وَنَحْنُ عُصْبَةٌ} في محل نصب حال من الفاعل أو من المفعول به، والرابط: الواو فقط، وهي خالية من الضمير الذي يربطها بصاحبها، وهي لا تنحل إلى مفرد، ولا تبين هيئة فاعل، ولا مفعول، ولا هي حال مؤكدة، وأوّل الزمخشري مثلها في سورة (لقمان) بظرف، التقدير: قالوا: لئن أكله الذئب في الوقت الذي نحن فيه عصبة، وقال صدر الأفاضل تلميذ الزمخشري: إنما الجملة مفعول معه، وأثبت مجيء المفعول معه جملة، وانظر الشاهد رقم (845) من كتابنا:«فتح القريب المجيب» . {إِنّا} : حرف مشبه بالفعل، و (نا): اسمها، وحذفت نونها، للتخفيف، وبقيت الألف دليلا عليها. {إِذاً}: حرف جواب وجزاء مهمل لا عمل له. {لَخاسِرُونَ} : خبر (إن)، واللام هي المزحلقة، والجملة الاسمية:
{إِنّا..} . إلخ جواب القسم المقدر لا محل لها، وجواب الشرط محذوف على القاعدة: «إذا اجتمع شرط وقسم فالجواب للسابق منهما) قال ابن مالك رحمه الله في ألفيته: [الرجز]
واحذف لدى اجتماع شرط وقسم
…
جواب ما أخّرت فهو ملتزم
بعد هذا فالكلام كله في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالُوا..} . إلخ مستأنفة لا محل لها.
الشرح: {فَلَمّا ذَهَبُوا بِهِ} أي: أخذوا يوسف معهم إلى البرية بعد أن سمح لهم أبوه بأخذه. {وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ} أي: عزموا على إلقائه في قعر الجب، وأسفله.
{وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ} أي: نزل جبريل الأمين بأمرنا إليه، فطمأنه، وسكن روعه، وكان مراهقا، فأوحي إليه في صغره، كما أوحي إلى يحيى، وعيسى، عليهما السلام. يروى أنهم جردوه من ثيابه، فأتاه جبريل وأخرج القميص الذي كان قد أتى به إلى إبراهيم حين ألقي في النار، وجرد من ثيابه فألبسه إياه، فدفعه إبراهيم إلى إسحاق، وإسحاق دفعه إلى يعقوب، فجعله في تميمة، وعلقها بيوسف، فأخرجه جبريل عليه السلام، وألبسه إياه، وهذا القميص كان من نسج الجنة، فلا يقع على مبتلى، ولا سقيم إلا عوفي في الوقت حالا، وهذا القميص هو الذي أرسله إلى أبيه، كما ستقف عليه إن شاء الله تعالى في الآية رقم [93] الآتية. هذا؛ وقيل: إن الوحي كان وحي إلهام، كقوله تعالى:{وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ} والأول أظهر. {لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا} :
لتخبرنهم بفعلهم هذا. {وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} : أنك يوسف، لعلو شأنك، وبعده عن أوهامهم، وطول العهد المغير للحلى، والهيئات، وذلك إشارة إلى ما قاله لهم بمصر حين دخلوا عليه ممتارين، بشره جبريل بما يؤول إليه أمره، إيناسا له، وتطييبا لقلبه، وقيل:{وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} متصل ب {وَأَوْحَيْنا،} أي: آنسناه بالوحي، وهم لا يعلمون ذلك.
بعد هذا، يقال: جمع الأمر: إذا عزم عليه، والأمر مجمع، ويقال أيضا: اجمع أمرك، ولا تدعه منتشرا، هذا؛ وقد قال تعالى حكاية عن قول فرعون وأشياعه:{فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا،} ولا يقال: أجمع أعوانه وشركاءه، وإنما يقال: جمع أعوانه وشركاءه، وهذا مبني على قاعدة، يقال:(أجمع في المعاني، وجمع في الأعيان) هذا هو الأكثر والمستعمل، وقد يستعمل كل واحد مكان الآخر على التعارض، قال تعالى:{فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتى} . {غَيابَتِ الْجُبِّ} :
انظر الآية رقم [10]. {لَتُنَبِّئَنَّهُمْ} : انظر النبأ في الآية رقم [120] من سورة (هود)، وانظر (الوحي) في الآية رقم [36] من سورة (هود) أيضا.
تنبيه: روي أن إخوة يوسف قالوا له: أما تشتاق أن تخرج معنا إلى مواشينا، فنصيد، ونستبق؟! قال: بلى، قالوا له: نسأل أباك أن يرسلك معنا. قال: افعلوا، فدخلوا عليه بجماعتهم، فقالوا: يا أبانا إن يوسف قد أحب أن يخرج معنا إلى مواشينا، فقال يعقوب: ما تقول يا بني؟! قال: نعم يا أبت إني أرى من إخوتي اللين، واللطف، فأحب أن تأذن لي، وكان يعقوب يكره مفارقته، ويحب مرضاته، فأذن له، وأرسله معهم، فلما خرجوا به من عند يعقوب؛ جعلوا يحملونه على رقابهم، ويعقوب ينظر إليهم، فلما بعدوا عنه، وصاروا إلى الصحراء ألقوه على الأرض، وأظهروا له ما في أنفسهم من العداوة، وأغلظوا له القول، وجعلوا يضربونه، فجعل كلما جاء إلى واحد منهم، واستغاث به ضربه، فلما فطن لما عزموا عليه؛ جعل ينادي:
يا أبتاه! لو رأيت يوسف، وما نزل به من إخوته لأحزنك ذلك، وأبكاك! يا أبتاه ما أسرع ما نسوا عهدك، وضيعوا وصيتك! وجعل يبكي بكاء شديدا، فأخذه روبيل، وجلد به الأرض، ثم جثم على صدره، وأراد قتله، فقال له: يا أخي مهلا لا تقتلني، فقال: يا ابن راحيل أنت صاحب الأحلام، قل لرؤياك تخلصك من أيدينا، ولوى عنقه، فاستغاث بيهوذا، وقال له:
اتق الله فيّ، وحل بيني وبين من يريد قتلي، فأدركته رحمة الأخوة، ورق له، وقال: يا إخوتي! ما على هذا عاهدتموني، فلما أرادوا إلقاءه في الجب، تعلق بثيابهم، فنزعوها من يديه، فتعلق بحائط الجب، فربطوا يديه، ونزعوا قميصه، فقال يا إخوتاه! ردوا علي قميصي أتوارى به، وإنما نزعوه ليلطخوه بالدم، ويحتالوا به على أبيهم، فقالوا له: ادع الشمس والقمر، والأحد عشر كوكبا تؤنسك، ودلوه في البئر، فلما بلغ نصفها ألقوه ليموت، وكان في الجب ماء فسقط فيه، ثم آوى إلى صخرة، فقام عليها، وهو يبكي، فنادوه، فظن أنها رحمة أدركتهم، فأجابهم، فأرادوا أن يرضخوه بصخرة فمنعهم يهوذا، وكان يأتيه بالطعام كل يوم، وقال الحسن: لما ألقي يوسف في الجب عذب ماؤه فكان يكفيه الطعام والشراب، ودخل عليه جبريل عليه السلام، وألبسه القميص كما رأيت سابقا، فأنس به، فلما أمسى نهض جبريل ليذهب، فقال له: إنك إذا تركتني؛ استوحشت، فقال له: إذا رهبت شيئا فقل:
يا صريخ المستصرخين! ويا غوث المستغيثين! ويا مفرّج كرب المكروبين قد ترى مكاني، وتعلم حالي، ولا يخفى عليك شيء من أمري! فلما قالها؛ حفّته الملائكة، واستأنس في الجبّ. وقال محمد بن مسلم الطائفي: لما ألقي يوسف في الجبّ؛ قال: يا شاهدا غير غائب! ويا قريبا غير بعيد! ويا غالبا غير مغلوب اجعل لي فرجا ممّا أنا فيه، وكان عمره اثنتي عشرة سنة على أصح الأقوال، ومكث في الجب ثلاثة أيام. انتهى. كشاف وخازن بتصرف.
وفي القرطبي: فلما قام على الصخرة، قال: يا إخوتاه! إن لكل ميت وصية، فاسمعوا وصيتي، قالوا: وما هي؟ قال: إذا اجتمعتم كلكم، فآنس بعضكم بعضا؛ فاذكروا وحشتي، وإذا أكلتم فاذكروا جوعي، وإذا شربتم؛ فاذكروا عطشي، وإذا رأيتم غريبا فاذكروا غربتي، وإذا رأيتم شابّا؛ فاذكروا شبابي، فقال له جبريل عليه السلام: يا يوسف كفّ عن هذا، واشتغل بالدعاء، فإن الدعاء عند الله بمكان، ثم علمه فقال:
قل: اللهمّ يا مؤنس كلّ غريب، ويا صاحب كلّ وحيد، ويا ملجأ كلّ خائف، ويا كاشف كلّ كربة، ويا عالم كلّ نجوى، ويا منتهى كلّ شكوى، ويا حاضر كلّ ملإ، يا حيّ يا قيّوم أسألك أن تقذف رجاءك في قلبي حتّى لا يكون لي همّ وشغل غيرك، وأن تجعل لي من أمري فرجا ومخرجا، إنّك على كلّ شيء قدير، فقالت الملائكة: إلهنا نسمع صوتا ودعاء؛ الصوت صوت صبي، والدعاء دعاء نبي. انتهى.
الإعراب: {فَلَمّا} : الفاء: حرف استئناف. (لما): حرف وجود لوجود عند سيبويه، وبعضهم يقول: حرف وجوب لوجوب، وهي ظرف بمعنى:(حين) عند ابن السراج، والفارسي، وابن جني، وجماعة، تتطلب جملتين مرتبطتين ببعضهما ارتباط فعل الشرط بجوابه، وصوب ابن هشام الأول، والمشهور الثاني. {ذَهَبُوا}: ماض مبني على الضم، والواو فاعله، والألف للتفريق، وانظر إعراب:{صَبَرُوا} في الآية رقم [11] من سورة (هود). {بِهِ} : متعلقان بالفعل قبلهما، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية على القول بحرفية (لما) وهي في محل جر بإضافة (لمّا) إليها على اعتبارها ظرفا. {أَنْ يَجْعَلُوهُ}: مضارع منصوب ب «أن» ، وعلامة نصبه حذف النون، والواو فاعله، والهاء مفعوله، و (أن) والمضارع في تأويل مصدر في محل جر بحرف جر محذوف، والجار والمجرور متعلقان بالفعل قبلهما، والتقدير: أجمعوا على جعله، وهذه الجملة معطوفة على ما قبلها على الوجهين المعتبرين فيها. وجوز فيها الحالية، وتكون:(قد) مقدرة قبلها. {فِي غَيابَتِ} : متعلقان بالفعل قبلهما، وهما في محل نصب مفعوله الثاني، و {غَيابَتِ}:
مضاف، و {الْجُبِّ}: مضاف إليه، وجواب (لمّا) محذوف. تقديره: فعلوا به ما فعلوا، وقال الكوفيون: الجواب جملة (أوحينا
…
) إلخ والواو زائدة، كما قيل به في الآية رقم [40] من سورة (هود)، وهو هنا أرجح من هناك. تأمل. (أوحينا): فعل وفاعل. {إِلَيْهِ} : متعلقان
بالفعل قبلهما، والجملة الفعلية جواب (لمّا) على القول بزيادة الواو، وهي مستأنفة على قول البصريين، أو هي معطوفة على جواب لما المحذوف. {لَتُنَبِّئَنَّهُمْ}: اللام: واقعة في جواب قسم محذوف، التقدير: والله. (تنبئنهم): مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة والفاعل مستتر تقديره: «أنت» ، والهاء مفعول به أول. {بِأَمْرِهِمْ}: متعلقان بالفعل قبلهما، وهما في محل نصب مفعوله الثاني، والهاء في محل جر بالإضافة. {هذا}: اسم إشارة مبني على السكون في محل جر صفة أمرهم، والهاء حرف تنبيه لا محل له، والجملة الفعلية:
{لَتُنَبِّئَنَّهُمْ..} . إلخ جواب القسم المقدر، لا محل لها، والقسم وجوابه كلام مفسر ل (أوحينا)؛ لأنه بالمعنى هو الموحى ليوسف. {وَهُمْ}: الواو: واو الحال. (هم): ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {لا} : نافية. {يَشْعُرُونَ} : مضارع مرفوع إلخ، والواو فاعله، والمتعلق محذوف، تقديره: بذلك وقت الإنباء، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل نصب حال من ضمير الغائب، والرابط: الواو، والضمير.
{وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ (16)}
الشرح: {وَجاؤُ..} . إلخ: وإنما رجعوا وقت العشاء ليكونوا في الظلمة أجرأ على الاعتذار بالكذب، فلما بلغوا منزل يعقوب؛ جعلوا يبكون ويصرخون، فسمع أصواتهم، ففزع من ذلك، وقال: ما لكم يا بني؟! وأين يوسف؟! هذا؛ ويقرأ: «(عشيّا)» وهو تصغير عشيّ، وعشى بالضم والقصر جمع: أعشى. (جاءوا): هذا الفعل يكون متعديا إن كان بمعنى: وصل وبلغ، كما في هذه الآية، ويستعمل لازما، إن كان بمعنى: حضر وأقبل، كما في قوله تعالى:{إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ} هذا؛ والبكا بالقصر: إسالة الدمع من غير رفع صوت، وبالمد إسالة الدمع مع رفعه، قال الخليل رحمه الله تعالى: من قصر البكاء ذهب به إلى معنى الحزن، ومن مده ذهب به إلى معنى الصوت. قال كعب بن مالك الأنصاري رضي الله عنه:[الوافر]
بكت عيني وحقّ لها بكاها
…
وما يغني البكاء ولا العويل
تنبيه: قال العلماء: هذه الآية دليل على أن بكاء المرء على صدق مقاله، لاحتمال أن يكون تصنعا، فمن الخلق من يقدر على ذلك، ومنهم من لا يقدر، وقد قيل: إن الدمع المصنوع لا يخفى، كما قال حكيم:[الوافر]
إذا اشتبكت دموع في خدود
…
تبيّن من بكى ممّن تباكى
وروي أن امرأة حاكمت زوجها إلى شريح القاضي، وبكت، فقال له الشعبي: يا أبا أمية! أما تراها تبكي؟! فقال: قد جاء إخوة يوسف يبكون، وهم ظلمة، ولا ينبغي لأحد أن يقضي إلا بما أمر أن يقضي به من السنة المرضية.
الإعراب: {وَجاؤُ} : الواو: حرف استئناف. (جاءوا): فعل ماض وفاعله، والألف للتفريق. {أَباهُمْ}: مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الألف إلخ، والهاء مفعول به. {عِشاءً}:
ظرف زمان متعلق بالفعل قبله. {يَبْكُونَ} : مضارع مرفوع
…
إلخ والواو فاعله، والجملة الفعلية في محل نصب حال من واو الجماعة، والرابط الضمير فقط، وجملة: (جاءوا
…
) إلخ مستأنفة لا محل لها من الإعراب.
الشرح: {قالُوا يا أَبانا إِنّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ} أي: نشتد، ونعدو، والمعنى: نستبق على الأقدام ليتبين أينا أسرع ركضا، وأخف حركة. {وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا}: عند ثيابنا. {فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ} أي: في حال استباقنا، وغفلتنا عنه. {وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا}: بمصدق لقولنا. {وَلَوْ كُنّا صادِقِينَ} أي: في قولنا، وذلك لسوء ظنك بنا، وشدة محبتك ليوسف.
قال السدي، وابن حبان: لما قالوا: أكله الذئب، خر يعقوب مغشيا عليه، فأفاضوا عليه الماء فلم يتحرك، ونادوه فلم يجب، ووضع يهوذا يده على مخارج نفسه، فلم يحس بنفس، ولم يتحرك له عرق، فقال لهم يهوذا: ويل لنا من ديان يوم الدين، ضيعنا أخانا، وقتلنا أبانا، فلم يفق يعقوب إلا ببرد السحر، فأفاق ورأسه في حجر روبيل، فقال: يا روبيل! ألم آتمنك على ولدي؟ فقال: يا أبت كف عني بكاءك أخبرك، فكف بكاءه، فقال:{يا أَبانا إِنّا ذَهَبْنا..} . إلخ.
الإعراب: {قالُوا يا أَبانا} : انظر الإعراب في الآية رقم [11]. {أَبانا} : حرف مشبه بالفعل، و (نا): اسمها. {ذَهَبْنا} : فعل وفاعل، والجملة الفعلية في محل رفع خبر (إنّ). {نَسْتَبِقُ}:
مضارع، والفاعل مستتر تقديره:«نحن» ، والجملة الفعلية في محل نصب حال من (نا) والرابط الضمير فقط. (تركنا): فعل وفاعل، وانظر إعراب:{أَرْسَلْنا} في الآية رقم [25] من سورة (هود) عليه السلام. {يُوسُفَ} : مفعول به. {عِنْدَ} : ظرف مكان متعلق بالفعل قبله، و {عِنْدَ}:
مضاف، و {مَتاعِنا}: مضاف إليه، و (نا) في محل جر بالإضافة، وجملة: (تركنا
…
) إلخ معطوفة على ما قبلها، فهي في محل رفع مثلها. {فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ}: ماض، ومفعوله وفاعله، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها أيضا، والجملة الاسمية:{إِنّا ذَهَبْنا..} . إلخ في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالُوا..} . إلخ مستأنفة لا محل لها. {وَما} : الواو: واو الحال.
(ما): نافية حجازية تعمل عمل «ليس» . {أَنْتَ} : ضمير منفصل مبني على الفتح في محل رفع اسم (ما). {بِمُؤْمِنٍ} : الباء: حرف جر صلة. (مؤمن): خبر (ما) منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على آخره، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد، هذا؛ وإن اعتبرت
(ما) مهملة فالضمير مبتدأ، وتكون الباء زائدة في خبره. {لَنا}: متعلقان ب (مؤمن)، والجملة الاسمية:{وَما أَنْتَ..} . إلخ في محل نصب حال من {الذِّئْبُ،} والرابط: الواو فقط على حد الآية رقم [14]. {وَلَوْ} : الواو: واو الحال. (لو): وصلية. {تَرَكْنا} : ماض ناقص مبني على السكون، و (نا) اسمها. {صادِقِينَ}: خبر كان منصوب، وعلامة نصبه الياء؛ لأنه جمع مذكر سالم، وجملة:{وَلَوْ كُنّا..} . إلخ في محل نصب حال من: (نا)، والرابط: الواو، والضمير، فهي حال متداخلة، هذا؛ واعتبر الجلال (لو) امتناعية شرطية، وقدر لها جوابا بقوله:«ولو كنا صادقين عندك لاتهمتنا في هذه القصة» ، وردّ ذلك الجمل وفنده، فيكون المعتمد الأول.
الشرح: {وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ} أي: بدم مكذوب فيه، كان دم سخلة، أو جدي، أو دم ظبية لطخوا القميص فيه، ولم يشقوه، فقال يعقوب عليه السلام حين رأى القميص هكذا:
كيف أكله الذئب، ولم يشق قميصه؟! فاتهمهم بذلك، وقيل: إنهم أتوه بذئب، وقالوا: هذا أكله، فقال: أيها الذئب أنت أكلت ولدي، وثمرة فؤادي؟ فأنطقه الله، وقال: والله ما أكلت ولدك، ولا رأيته قط، ولا يحل لنا أن نأكل لحوم الأنبياء، فأطلقه يعقوب، هذا؛ وقرئ:«(كذبا)» بالنصب على الحال من الواو، أي: جاءوا كاذبين، وقرئ:«(كدب)» بالدال، أي: بدم كدر، أو طري؛ إذ يقال للدم الطري: الكدب.
هذا؛ وأصل دم دمي، وقيل: دمو، حذفت لامه للتخفيف، فيثنى على لفظه: دمان بدون رد لامه، ويثنى: دميان أو دموان برد لامه، أما في الجمع فلا بد من ردّ لامه، فيقال: دماي، أو دماو، فيقال في إعلاله: تحركت الياء، أو الواو وانفتح ما قبلها فقلبت ألفا، ولم يعتد بالألف الزائدة؛ لأنها حاجز غير حصين، فالتقى ساكنان: الألف الزائدة والألف المنقلبة فأبدلت الثانية همزة، فصار دماء، وانظر إعلال (أخ) في الآية رقم [59].
روي: أنه لما سمع بخبر يوسف؛ صاح، وسأل عن قميصه، فأخذه وألقاه على وجهه، وبكى حتى خضب وجهه بدم القميص، وقال: ما رأيت كاليوم ذئبا أحلم من هذا، أكل ابني، ولم يمزق عليه قميصه، ولذلك قال:{بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً} أي: سهلت لكم أنفسكم، وزينت، أو هونت في أعينكم أمرا عظيما، وأيقن: أن الذئب لم يأكله، فأعرض عنهم كالمغضب باكيا حزينا، وقال: يا معشر ولدي دلوني على ابني، فإن كان حيا رددته إلي، وإن كان ميتا كفنته ودفنته. {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} أي: فحالي، وشأني، أو: أمري صبر جميل، أو فصبر جميل أجمل، وفي الحديث:«الصبر الجميل الذي لا شكوى فيه إلى الخلق» . وانظر ما ذكرته في الآية
رقم [115] من سورة (هود)، هذا؛ وقرئ:«(صبرا جميلا)» على تقدير: فلأصبرنّ صبرا جميلا.
{وَاللهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ} أي: أفوض أمري إلى الله، وأستعين به على احتمال ما تدّعونه من هلاك يوسف، وانظر ما ذكرته في الآية [84] الآتية، ففيها كبير فائدة.
تنبيه: حكى الماوردي أن في القميص ثلاث آيات: حين جاءوا عليه بدم كذب، وحين قدّ قميصه من دبر، وحين ألقي على وجه يعقوب، فارتد بصيرا، أقول: وهذا لا يعني: أنه قميص واحد، وإنما هو مختلف في الحالات الثلاث.
الإعراب: {وَجاؤُ} : الواو: حرف استئناف. (جاءوا): فعل ماض وفاعله، والألف للتفريق. {عَلى قَمِيصِهِ}: متعلقان بالفعل قبلهما، ولا تنس أن {عَلى} بمعنى فوق، وجوز تعليقهما بمحذوف حال من دم، كان صفة له، فلما قدم عليه صار حالا، وهذا إن جوز تقديم الحال على صاحبها المجرور، والهاء في محل جر بالإضافة. {بِدَمٍ}: متعلقان بالفعل: (جاءوا).
{كَذِبٍ} : صفة (دم)، وانظر الشرح، وجملة: (جاءوا
…
) إلخ مستأنفة لا محل لها. {قالَ} :
ماض، وفاعله مستتر يعود إلى يعقوب. {بَلْ}: حرف إضراب. {سَوَّلَتْ} : ماض، والتاء للتأنيث. {لَكُمْ}: متعلقان بما قبلهما. {أَنْفُسُكُمْ} : فاعل، والكاف في محل جر بالإضافة.
{أَمْراً} : مفعول به، وجملة:{بَلْ سَوَّلَتْ..} . إلخ معطوفة على كلام مقدر، أي: ليس الأمر كما تدعون، {بَلْ سَوَّلَتْ..} . إلخ، والكلام كله في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالَ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها. {فَصَبْرٌ} : الفاء: حرف استئناف. (صبر): خبر لمبتدإ محذوف، أو هو مبتدأ خبره محذوف انظر الشرح، وقراءة النصب فيه أيضا، والكلام مستأنف على القراءتين لا محل له. (الله): مبتدأ. {الْمُسْتَعانُ} : خبره. {عَلى} : حرف جر. {ما} : تحتمل الموصولة، والموصوفة، والمصدرية، فعلى الأولين مبنية على السكون في محل جر ب {عَلى،} والجملة الفعلية صلة: {ما،} أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف، والجار والمجرور متعلقان ب {الْمُسْتَعانُ،} وتقدير الكلام: المستعان على الذي، أو شيء تصفونه، وعلى اعتبار {ما} مصدرية تؤول مع الفعل بعدها بمصدر في محل جر ب {عَلى،} التقدير: المستعان على وصفكم، أي: على ادعائكم، والجملة الاسمية (الله
…
) إلخ مستأنفة لا محل لها.
الشرح: {وَجاءَتْ سَيّارَةٌ} : رفقة يسيرون من مدين إلى مصر، فنزلوا قريبا من الجب، وكان ذلك بعد ثلاثة أيام من إلقاء يوسف فيه، وكان ماؤه ملحا، فعذب حين ألقي فيه يوسف. {فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ} أي: الذي يستقي لهم الماء، واسمه مالك بن ذعر الخزاعي وهو من العرب، وعبر
بجمع المذكر على المعنى، ولو عبر على اللفظ لقال: فأرسلت واردها، مثل وجاءت، وجمع وارد: وراد جمع تكسير، وواردون جمع تصحيح، وانظر الآية رقم [98] من سورة (هود) تجد ما يسرك.
{فَأَدْلى دَلْوَهُ} : فأنزل دلوه في الجب ليملأه ماء، فتعلق به يوسف عليه السلام، هذا؛ وجمع دلو في القلة أدل، فإذا كثرت؛ قلت: دليّ، ودليّ، فقلبت الواو ياء؛ لأن الجمع بابه التغيير، وجمعه المشهور: دلاء، هذا؛ والدلو ما يدلى لإخراج الماء، فإذا امتلأ ماء، قيل: ذنوب وسجل، وهذا له نظائر في اللغة، فالخوان ما يوضع عليه الطعام، فإذا وضع عليه، قيل: مائدة، ولا يقال: كأس إلا وفيها شراب، وإلا فهي قدح، ولا يقال: جراب إلا وهو مدبوغ، وإلا فهو إهاب، ولا يقال: قلم إلا وهو مبرى، وإلا فهو أنبوب.
{يا بُشْرى هذا غُلامٌ} : نادى البشرى بشارة لنفسه، أو لقومه، كأنه قال: تعالي، فهذا أوانك فاحضري، وقيل: هو اسم لصاحب له، ناداه ليعينه على إخراجه، وضعفه النحاس؛ لأنه لم يأت في القرآن تسمية أحد إلا يسيرا، وإنما يأتي بالكناية، وهو كثير، مثل قوله تعالى:{وَيَوْمَ يَعَضُّ الظّالِمُ عَلى يَدَيْهِ} وهو عقبة بن أبي معيط، وبعده:{لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً،} هذا؛ وقرئ:
«(يا بشراي)» و «(يا بشراي)» ، «(يا بشريّ)». {وَأَسَرُّوهُ بِضاعَةً} أي: أخفاه الوارد، وأصحابه عن سائر الرفقة، وقيل: أخفوا أمره، وقالوا لهم: دفعه لنا أهل الماء لنبيعه لهم بمصر، وقيل: الضمير يعود لإخوة يوسف، وذلك لأن يهوذا كان يأتيه بالطعام كل يوم، فأتاه يومئذ، فلم يجده في الجب، فأخبر إخوته، فأتوا الرفقة، وقالوا: هذا غلام لنا أبق منا، فاشتروه، فسكت يوسف عليه السلام مخافة أن يقتلوه. {وَاللهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ}: عليم بما يعمل مالك؛ الذي وجده، وأصحابه الذين أخفوا أمره، أو عليم بصنيع إخوة يوسف بأبيهم، وأخيهم، وما أرادوا من إهلاكه، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.
تنبيه: لما أخرجوا يوسف من الجب؛ دهشوا لجماله، وكان أحسن ما يكون من الغلمان، وذكر البغوي بسند متصل: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أعطي يوسف شطر الحسن» . ويقال: إنه ورث ذلك الجمال من جدته سارة، وكانت قد أعطيت سدس الحسن، وحكى الثعلبي عن كعب الأحبار قال:
كان يوسف حسن الوجه، جعد الشعر، ضخم العينين، مستوي الخلق، أبيض اللون، غليظ الساعدين، والعضدين، والساقين، خميص البطن، صغير السرة، وكان إذا تبسم رأيت النور من ضواحكه، وإذا تكلم رأيت شعاع النور من ثناياه، لا يستطيع أحد وصفه، وكان حسنه كضوء النهار عند الليل، وكان شبه آدم عليه السلام يوم خلقه الله، ونفخ فيه من روحه قبل أن يصيب المعصية.
الإعراب: {وَجاءَتْ} : الواو: حرف استئناف. (جاءت): ماض، والتاء للتأنيث. {سَيّارَةٌ}:
فاعله، والجملة الفعلية مستأنفة لا محل لها. (أرسلوا): ماض والواو فاعله، والألف للتفريق.
{وارِدَهُمْ} : مفعول به، والهاء في محل جر بالإضافة، وجملة: (أرسلوا
…
) إلخ معطوفة على ما قبلها لا محل لها مثلها، وأيضا جملة:{فَأَدْلى دَلْوَهُ} معطوفة عليها لا محل لها أيضا.
{قالَ} : ماض، والفاعل يعود إلى {وارِدَهُمْ}. (يا): حرف نداء ينوب مناب: (أدعو).
(بشرى): منادى نكرة مقصودة مبنية على الضم المقدر على الألف في محل نصب، وعلى القراءات الأخرى، فهو منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على الألف، وياء المتكلم ضمير متصل في محل جر بالإضافة، هذا؛ وأصل النداء أن يكون لمن يعقل، وقد ينادى ما لا يعقل مجازا، والمعنى: أيها البشرى احضري، فهذا أوانك، وله نظائر كثيرة في كتاب الله، مثل:
يا حسرتى، يا ويلتى، ونحوهما، والجملة الندائية في محل نصب مقول القول، ومثلها الجملة الاسمية:{هذا غُلامٌ} وجملة: {قالَ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها. (أسروه): ماض وفاعله ومفعوله، والجملة الفعلية معطوفة على جملة:{قالَ..} . إلخ لا محل لها مثلها. {بِضاعَةً} :
حال، وهو في الحقيقة معمول لحال محذوفة؛ إذ التقدير: جاعليه بضاعة. {وَاللهُ عَلِيمٌ} : مبتدأ وخبر. {بِما} : متعلقان ب {عَلِيمٌ،} و (ما) تحتمل الموصولة، والموصوفة، والمصدرية، فعلى الأولين مبنية على السكون في محل جر بالباء، والجملة الفعلية بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد أو الرابط محذوف؛ إذ التقدير: عليم بالذي، أو بشيء يعملونه، وعلى اعتبار (ما) مصدرية تؤول مع الفعل بعدها بمصدر في محل جر بالباء، والجار والمجرور متعلقان ب {عَلِيمٌ،} التقدير: عليم بعملهم، والجملة الاسمية:{وَاللهُ عَلِيمٌ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها.
{وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزّاهِدِينَ (20)}
الشرح: {وَشَرَوْهُ} أي: باعوه، فقد يطلق لفظ الشراء على البيع، يقال: شريت الشيء، بمعنى بعته، وإنما وجب حمل هذا الشراء على البيع؛ لأن واو الجماعة تعود إلى شيء واحد، وذلك أن إخوته زهدوا فيه، فباعوه، وقيل: إن الضمير يعود على مالك بن ذعر وأصحابه، وعليه يكون لفظ الشراء على بابه. {بِثَمَنٍ بَخْسٍ} أي: نقص بمعنى منقوص؛ لأن غرض إخوته لم يكن في ثمنه، وإنما كان قصدهم إبعاده عن وجه أبيه؛ ليخلو لهم، كما رأيت فيما تقدم، وقيل:
معنى: بخس حرام، أو ظلم؛ لأن ثمن الحر حرام. {دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ}: قليلة، فعن ابن عباس وابن مسعود-رضي الله عنهم: باعوه بعشرين درهما، أخذ كل واحد من إخوته درهمين.
{وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزّاهِدِينَ} أي: من الراغبين عن يوسف، فإن كانت واو الجماعة عائدة على الإخوة فالأمر ظاهر، وإن كان للرفقة، وكانوا بائعين له، فزهدهم فيه؛ لأنهم التقطوه، والملتقط للشيء، متهاون به، خائف من انتزاعه منه، مستعجل في بيعه، وإن كانوا مبتاعين؛ فلأنهم اعتقدوا: أنه عبد آبق.
قال محمد بن إسحاق: اشتمل فعل أولاد يعقوب على جرائم كثيرة، من قطيعة الرحم، وعقوق الوالدين، وقلة الرأفة بالصغير الذي لا ذنب له، والغدر بالأمانة، وترك العهد، والكذب مع أبيهم، ونسبته إلى الضلال، ومحض الحسد، هو من أمهات الكبائر، وقد عفا الله عن ذلك حتى لا ييئس أحد من رحمة الله تعالى، وقال بعض أهل العلم: عزموا على قتله، وعصمهم الله رحمة بهم، ولو فعلوا ذلك؛ لهلكوا جميعا، وكل ذلك قبل أن نبأهم الله. انتهى. خازن وغيره بتصرف.
أقول: لم تثبت نبوتهم بحديث صحيح، وإن كانوا أنبياء؛ فليسوا رسلا قطعا.
الإعراب: {وَشَرَوْهُ} : الواو: حرف عطف، أو استئناف. (شروه): ماض مبني على فتح مقدر على الألف المحذوفة لالتقائها ساكنة، مع واو الجماعة، التي هي فاعله، والهاء مفعول به، والجمل الفعلية معطوفة، أو مستأنفة لا محل لها على الاعتبارين. {بِثَمَنٍ}: متعلقان بالفعل قبلهما. {بَخْسٍ} : صفة: ثمن. {دَراهِمَ} : بدل من (ثمن) مجرور مثله، وعلامة جره الفتحة نيابة عن الكسرة؛ لأنه ممنوع من الصرف لصيغة منتهى الجموع. {مَعْدُودَةٍ}: صفة:
{دَراهِمَ} . (كانوا): ماض ناقص، والواو اسمه، والألف للتفريق. {فِيهِ}: متعلقان ب {الزّاهِدِينَ،} إن كانت (ال) للتعريف، ومتعلقان بمحذوف يبينه:{الزّاهِدِينَ،} إن كانت موصولة بمعنى (الذي) لأن متعلق الصلة لا يتقدم عليها. {مِنَ الزّاهِدِينَ} : متعلقان بمحذوف خبر (كان)، وجملة: (كانوا
…
) إلخ معطوفة على ما قبلها لا محل لها، ومثل هذه الجملة في إعرابها قوله تعالى:{وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصّالِحِينَ} الآية رقم [130] من سورة (البقرة)، وقوله تعالى:{وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشّاهِدِينَ} الآية رقم [116] من سورة (المائدة)، وذلك على اعتبار (ال) للتعريف، أو موصولة. تأمل، وتدبر، وربك أعلم.
الشرح: {وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ} : وهو العزيز الذي كان على خزائن مصر، واسمه قطفير، أو إطفير، وكان الملك يومئذ الريان بن الوليد العمليقي، وقد آمن بيوسف، ومات في حياته، وقيل: كان فرعون موسى، عاش أربعمائة سنة بدليل قوله تعالى في سورة (غافر):{وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ} والمشهور: أنه من أولاد فرعون يوسف، والآية من قبيل خطاب الأولاد بأحوال الآباء، روي: أن العزيز اشتراه، وهو ابن سبع عشرة سنة، ولبث في منزله ثلاث عشرة سنة، واستوزره الريان؛ وكان ابن ثلاثين سنة، وآتاه الله الحكمة، والعلم، وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة، وتوفي، وهو ابن مائة وعشرين سنة، واختلف في الثمن الذي اشتراه
به من مالك بن ذعر، فقيل: بعشرين دينارا، وزاده حلة، ونعلين، وقيل: تزايدوا في ثمنه، فبلغ أضعاف وزنه مسكا، وعنبرا، وحريرا، وورقا وذهبا، ولآلئ، وجواهر لا يعلم قيمتها إلا الله، فابتاعه قطفير من مالك بهذا الثمن. {لاِمْرَأَتِهِ}: اسمها راعيل، أو زليخا، وهو المشهور.
{أَكْرِمِي مَثْواهُ} : اجعلي مقامه عندنا كريما حسنا، فأكرميه في المطعم، والمشرب والملبس، والمثوى في الأصل: المنزل الذي يكون فيه الإقامة، والفرق بينه وبين المأوى، فهو مكان الإقامة المنبئة عن المكث، وأما المأوى، فهو المكان الذي يأوي إليه الإنسان ولو مؤقتا.
{عَسى أَنْ يَنْفَعَنا} أي: إن أردنا بيعه بعناه بربح، أو يكفينا بعض أمورنا، ويقضي حوائجنا؛ إذا قوي وبلغ. {أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً} أي: نتبناه، وكان عقيما لا ولد له.
{وَكَذلِكَ مَكَّنّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ} أي: كما مننا على يوسف بإنقاذه من القتل، وإخراجه من الجب مكناه في أرض مصر فجعلناه على خزائنها، وصاحب الأمر والنهي فيها. وانظر الآية رقم [56] الآتية. {وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ} أي: تعبير الرؤيا وتفسيرها المنبهة على أمور تقع في المستقبل ليستعد لها، ويشتغل بتدبيرها قبل أن تحل كما فعل برؤيا الملك الآتية، وقيل: المراد إقامة العدل إذا حكم، وتدبير أمور الناس، وفهم معاني كتاب الله وأحكامه، وانظر ما ذكرته في الأحاديث في الآية رقم [6]. {وَاللهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ} قيل: الضمير يرجع إليه تعالى، ويكون المعنى: الله غالب على أمره يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد لا راد لقضائه، ولا يغلبه شيء، وقيل:
الضمير راجع إلى يوسف، ومعناه أنه تعالى مستول على أمر يوسف بالتدبير والإحاطة، لا يكله إلى أحد سواه، حتى يبلغ منتهى ما قدره له، من علو الشأن، ورفيع المنزلة {وَلكِنَّ أَكْثَرَ النّاسِ لا يَعْلَمُونَ} أي: لا يطلعون على الغيب. أو المراد: لا يعلمون حكمة الله في أحكامه، وتصريفه الأمور على حسب مشيئته وتقديره، وذكر الأكثر؛ لأن البعض لا يعرف الحق لنقصان عقله، أو التقصير في النظر، وقيل: المراد بالأكثر: الجميع؛ لأن أحدا لا يعلم الغيب.
هذا؛ وانظر (نا) في الآية رقم [8] من سورة (هود)، وانظر القول في الآية رقم [18] من سورة (هود)، وفي الآية الكريمة التفات من التكلم إلى الغيبة، انظر الالتفات في الآية رقم [50] من سورة (يونس).
فائدة: قال عبد الله بن مسعود-رضي الله عنه-أحسن الناس فراسة ثلاثة: العزيز حين تفرس في يوسف، فقال:{عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً} وبنت شعيب حين قالت لأبيها في موسى: {اِسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} وأبو بكر حين استخلف عمر-رضي الله عنهما-هذا؛ وأقول: إن فراسة خديجة رضي الله عنها بالنبي صلى الله عليه وسلم أعظم فراسة.
الإعراب: {وَقالَ الَّذِي} ماض وفاعله. {اِشْتَراهُ} : ماض مبني على فتح مقدر على الألف للتعذر، والهاء مفعول به، والفاعل يعود إلى {الَّذِي،} وهو العائد والجملة الفعلية صلة الموصول
لا محل لها. {مِنْ مِصْرَ} : متعلقان بمحذوف حال من الفاعل المستتر، وعلامة الجر الفتحة نيابة عن الكسرة؛ لأنه ممنوع ممكن الصرف للعلمية والعجمة، {لاِمْرَأَتِهِ}: متعلقان بالفعل: (قال)، والهاء في محل جر بالإضافة. {أَكْرِمِي}: أمر مبني على حذف النون، وياء المؤنثة المخاطبة فاعله. {مَثْواهُ..}.: مفعول به منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على الألف للتعذر، والهاء في محل جر بالإضافة، وجملة:{أَكْرِمِي..} . إلخ في محل نصب مقول القول، وجملة: (قال
…
) إلخ مستأنفة لا محل لها. {عَسى} : ماض دال على الترجي، وهو تام هنا. {أَنْ}: حرف ناصب. {يَنْفَعَنا} : مضارع منصوب ب {أَنْ،} والفاعل يعود إلى يوسف، و (نا): مفعول به، و {أَنْ} المصدرية والمضارع في تأويل مصدر في محل رفع فاعل:{عَسى،} والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها مفيدة للترجي. {أَوْ} : حرف عطف. {نَتَّخِذَهُ} : معطوف على ما قبله منصوب مثله، والفاعل مستتر تقديره:«نحن» ، والهاء مفعول به أول. {وَلَداً}: مفعول به ثان. (كذلك): جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لمفعول مطلق محذوف عامله بعده، التقدير: مكنا ليوسف تمكينا كائنا مثل إنقاذنا له من القتل، وإخراجنا له من الجب. {مَكَّنّا}: فعل وفاعل. {لِيُوسُفَ} :
متعلقان بالفعل قبلهما والمفعول به محذوف، التقدير: الأمور، هذا؛ وأجيز اعتبار اللام زائدة، فيكون يوسف مفعولا به مجرورا لفظا، منصوبا محلاّ. {فِي الْأَرْضِ}: متعلقان به أيضا، والجملة الفعلية: (كذلك
…
) إلخ مستأنفة لا محل لها. (لنعلمه): مضارع منصوب ب «أن» مضمرة بعد لام التعليل، والفاعل مستتر تقديره:«نحن» والهاء مفعول به. {مِنْ تَأْوِيلِ} : متعلقان بما قبلهما، و {تَأْوِيلِ}: مضاف، و {الْأَحادِيثِ}: مضاف إليه، و «أن» المضمرة والمضارع في تأويل مصدر في محل جر باللام، والجار والمجرور معطوفان على مقدر محذوف، التقدير: ليتصرف فيها بالعدل، {وَلِنُعَلِّمَهُ..}. إلخ: وقيل: الواو زائدة، وعليه يتعلق الجار والمجرور بالفعل {مَكَّنّا} مباشرة.
{وَاللهُ غالِبٌ} : مبتدأ وخبر. {عَلى أَمْرِهِ} : متعلقان ب {غالِبٌ،} والهاء في محل جر بالإضافة، من إضافة المصدر لفاعله، وفي {غالِبٌ} ضمير مستتر فيه هو فاعله. والجملة الاسمية مستأنفة لا محل لها. {وَلكِنَّ}: الواو: حرف عطف. (لكن): حرف مشبه بالفعل. {أَكْثَرَ} : اسمها، وهو مضاف، و {النّاسِ}: مضاف إليه. {لا} : نافية. {يَعْلَمُونَ} : مضارع وفاعله، ومفعوله محذوف للتعميم، والجملة الفعلية في محل رفع خبر (لكن)، والجملة الاسمية:{وَلكِنَّ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها لا محل لها مثلها.
{وَلَمّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (22)}
الشرح: {وَلَمّا بَلَغَ} أي: يوسف عليه السلام. {أَشُدَّهُ} : منتهى شبابه، وشدته، وقوته، وهو ثلاث وثلاثون سنة على المعتمد، هذا؛ وأشده عند سيبويه جمع، واحده شدّة، وقال الكسائي: واحده: شدّ، وزعم أبو عبيد: أنه لا واحد له من لفظه عند العرب. {آتَيْناهُ حُكْماً}
وَعِلْماً أي: نبوة وفقها في الدين، وقيل: إصابة في القول، وعلما بتأويل الرؤيا، وقيل: الفرق بين الحكيم، والعالم: أن العالم هو الذي يعلم الأشياء بحقائقها، والحكيم هو الذي يعمل بما يوجبه العلم. {وَكَذلِكَ} أي: وكما أنعمنا على يوسف بهذه النعم كلها. {نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} : فيه إشارة إلى أن الله تعالى إنما منحه ما منحه من النعم جزاء إحسانه، هذا؛ والمحسن: هو الذي يحسن معاملته مع الله تعالى بأداء ما أمر، والابتعاد عن ما نهى عنه، ويحسن إلى عباده، فيعطف على ضعيفهم، ويواسي فقيرهم، ويرشد جاهلهم إلخ.
تنبيه: قال الطبري: هذا؛ وإن كان مخرجه ظاهرا على كل محسن، فالمراد به محمد صلى الله عليه وسلم، يقول الله تعالى: كما فعلت بيوسف بعد أن قاسى ما قاسى، ثم أعطيته ما أعطيته، كذلك أنجيك من شركي قومك، الذين يقصدونك بالعداوة، وأمكن لك في الأرض. انتهى. قرطبي.
تنبيه: لعلك تدرك معي: أن الله تعالى قال في حق موسى عليه السلام في سورة (القصص): {وَلَمّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى} ولم يقل هنا {وَاسْتَوى} والسبب في ذلك: أن الله أرسل موسى على رأس الأربعين، وهو سن الاستواء، والنضج عقلا، وجسما، وتفكيرا
…
إلخ، أما الأشد وهو سن الثلاث والثلاثين، فإنه لا يزال في ازدياد إلى سن الأربعين، وليس بعده نضج ولا كمال ولا تمام، وقد يثبت عليه إلى سن الخمسين، ثم يأخذ بالنقصان في كل شيء، عقلا، وجسما، وتفكيرا، وحواسه تأخذ بالضعف، وكل ذلك مشاهد، وجلي.
الإعراب: {وَلَمّا} : الواو: حرف استئناف. (لما): انظر الآية رقم [15]. {بَلَغَ} : ماض، وفاعله يعود إلى (يوسف). {أَشُدَّهُ}: مفعول به، والهاء في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة (لمّا) إليها على اعتبارها ظرفا، ولا محل لها على اعتبار (لمّا) حرفا. {آتَيْناهُ}: ماض وفاعله ومفعوله الأول. {حُكْماً} : مفعول به ثان، والجملة الفعلية جواب (لمّا) لا محل لها، و (لمّا) ومدخولها كلام مستأنف لا محل له. (علما): معطوف على ما قبله. (كذلك): جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لمفعول مطلق محذوف، عامله ما بعده، التقدير: نجزي المحسنين جزاء كائنا مثل الجزاء الذي جزيناه يوسف. {نَجْزِي} : مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل، والفاعل مستتر تقديره:«نحن» . {الْمُحْسِنِينَ} : مفعول به أول منصوب
…
إلخ، والمفعول الثاني محذوف، تقديره: خيرا ونحوه؛ لأن الفعل ينصب مفعولين، وجملة: (كذلك
…
) إلخ مستأنفة لا محل لها.
الشرح: {وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ} أي: إن امرأة العزيز طلبت من يوسف الذي هو خادمها وفي بيتها الفعل القبيح، ودعته إلى نفسها؛ ليواقعها.
{وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ} : قيل: كانت سبعة، وتشديد اللام للتكثير، أو للمبالغة، وفعلت ذلك لشدة خوفها، ولأن مثل هذا لا يكون إلا في ستر، وخفية. {وَقالَتْ} أي: زليخا. {هَيْتَ لَكَ} : هلم، وأقبل، وتعال، وهو اسم فعل جامد لا يتصرف، قال النحاس: فيها سبع قراءات، فمن أجلّ ما فيها، وأصحّه إسنادا ما رواه الأعمش عن أبي وائل، قال: سمعت عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يقرأ: {(هَيْتَ لَكَ)} أي: بفتح التاء، قال: فقلت: إن قوما يقرءونها «(هيتِ لك)» فقال: إنما أقرأ كما علمت، وقرئ «(هَيْتُ)» قال طرفة بن العبد:[الخفيف]
ليس قومي بالأبعدين إذا ما
…
قال داع من العشيرة هيت
فهذه ثلاث قراءات الهاء فيهن مفتوحة، وقرئ:«(هِيتُ لك)» و «(هِيتَ لك)» بكسر الهاء فيهما، وضم التاء أو فتحها، وقرئ:«(هِيتُ لك)» و «(هئت لك)» بكسر الهاء فيهما وسكون الهمزة. وضم التاء وفتحها، وقرئ أيضا:«(هَيْتِ لك)» كجير و «(هيّأت)» وأجودها أولها كما رأيت، قال شاعر يدعو علي بن أبي طالب رضي الله عنه إلى العراق:[مجزوء الكامل]
أبلغ أمير المؤمني
…
ن أخا العراق إذا أتيت
إنّ العراق وأهله
…
سلم إليك فهيت هيت
بعد هذا قال مجاهد وغيره: هي لغة عربية، وقال غيره: هي لغة عبرانية، أو قبطية، فمن قال: إنها بغير لغة العرب، يقول: إن العرب وافقت أصحاب هذه اللغة، فتكلمت بها على وفق لغات غيرهم، كما وافقت لغة العرب الروم في القسطاس ولغة العرب الفرس في التنور، ولغة العرب الترك في الغساق، ولغة العرب الحبشة في ناشئة الليل، وبالجملة فإن العرب إذا تكلمت بكلمة صارت لغة لها، وانظر ما ذكرته في الآية [2].
{قالَ مَعاذَ اللهِ} : أعوذ بالله، وأعتصم به، وألجأ إليه فيما دعوتني إليه، {إِنَّهُ رَبِّي} أي:
سيدي ومولاي العزيز قطفير. {أَحْسَنَ مَثْوايَ} : أكرمني، فلا أخونه بأهله، وقيل: إن الضمير في {إِنَّهُ رَبِّي} يعود إلى الله، والمعنى: إن الله تولاني بلطفه، حيث آواني إليكم، ومن بلاء الجب نجاني. {إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظّالِمُونَ}: يعني إن فعلت هذا الفعل؛ فأنا ظالم، ولا يسعد الظالمون.
تنبيه: في الآية الكريمة معنى بلاغي عظيم، فإنّ استعمال الموصول في قوله:{الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها} يعطي معنى أرفع من التصريح باسمها زليخا؛ لأن وجوده في بيتها، وتحت إمرتها، وإغلاق الأبواب بإحكام يجعله في أمان تام، واطمئنان كامل من أن يطلع عليه أحد لو فعل معها الفاحشة، واستجاب لرغبتها، ومع ذلك فقد أعرض عنها، والله هو الذي تولاه بلطفه، وحماه من مواقعة الفاحشة.
الإعراب: {وَراوَدَتْهُ} : الواو: حرف استئناف. (راودته): ماض، والتاء للتأنيث، والهاء مفعول به. {الَّتِي}: اسم موصول مبني على السكون في محل رفع فاعل. {هُوَ} : ضمير منفصل مبني على
الفتح في محل رفع مبتدأ. {فِي بَيْتِها} : متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ، والجملة الاسمية صلة الموصول لا محل لها، والعائد الضمير المجرور محلاّ بالإضافة، والجملة الفعلية (راودته
…
) إلخ مستأنفة لا محل لها، وقال الجمل: الجملة الفعلية معطوفة على جملة: {وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ} .
وقوله تعالى: {وَكَذلِكَ مَكَّنّا لِيُوسُفَ..} . إلخ إلى هنا اعتراض. {عَنْ نَفْسِهِ} : متعلقان بالفعل قبلهما، والهاء في محل جر بالإضافة، وجملة:{وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ} معطوفة على ما قبلها، ولعلك تدرك معي: أن تغليق الأبواب كان قبل المراودة. (قالت): ماض، والتاء للتأنيث، والفاعل يعود إلى {الَّتِي هُوَ..}. إلخ. {هَيْتَ}: اسم فعل أمر، مبني على الفتح، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» ، وقيل: هو اسم فعل ماض، والمعتمد الأول. {لَكَ}: متعلقان ب {هَيْتَ،} واللام للتبيين كالتي في (سقيا لك) أي: تبيين المفعول المخاطب، فكأنها قالت: الكلام معك، والخطاب لك، هذا؛ وعلى قراءة «(هئت)» فهو فعل وفاعل، و {لَكَ} متعلقان به، والكلام على الاعتبارين في محل نصب مقول القول، وجملة: (قالت
…
) إلخ معطوفة على ما قبلها، لا محل لها أيضا. {قالَ}:
ماض، والفاعل يعود إلى (يوسف). {مَعاذَ}: مفعول مطلق لفعل محذوف، و {مَعاذَ}: مضاف، و {اللهِ}: مضاف إليه، والجملة الناتجة من المصدر الميمي وفعله المحذوف في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالَ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها. {إِنَّهُ} : حرف مشبه بالفعل، والهاء اسمها.
{رَبِّي} : خبر إن مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم، منع من ظهورها اشتغال المحل بالحركة المناسبة لياء المتكلم، والياء في محل جر بالإضافة. {أَحْسَنَ}: ماض، وفاعله يعود إلى {رَبِّي}. {مَثْوايَ}: مفعول به منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على الألف للتعذر، والجملة الفعلية في محل رفع خبر ثان ل (إنّ) أو في محل نصب حال من {رَبِّي} فتكون «قد» قبلها مقدرة، والرابط الضمير فقط. هذا؛ ويجوز اعتبار {رَبِّي} مبتدأ، والجملة الفعلية خبره، فتكون الجملة الاسمية:{رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ} في محل رفع خبر (إنّ)، وجوز اعتبار {رَبِّي} بدلا من الهاء، فتكون الجملة الفعلية خبر (إنّ)، والجملة الاسمية:{إِنَّهُ..} . إلخ مفيدة للتعليل لا محل لها.
{لا} : نافية. {يُفْلِحُ} : مضارع. {الظّالِمُونَ} : فاعله مرفوع
…
إلخ، والجملة الفعلية في محل رفع خبر (إنّ)، والجملة الاسمية:{إِنَّهُ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها.
الشرح: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ} : الهم: هو المقاربة من الفعل من غير دخول فيه، فمعنى:
{وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ} أرادته وقصدته، فكان همها به عزمها على المعصية والزنى، وهمّ يوسف، ولم يواقع ما هم به، فبين الهمتين فرق، ومن الثاني قول عمرو بن ضابئ البرجمي:[الطويل]
هممت، ولم أفعل وكدت وليتني
…
تركت على عثمان تبكي حلائله
هذا؛ ولقد كثرت أقوال المفسرين في هذه القصة، وها أنا ذا ألخصها لك، وأطلب من الله التوفيق إلى الصواب، وسلوك طريق النجاح والسداد، فأقول: همت به همّ عزم وقصد لما تبغي من الفاحشة، وهم بها همّ الطباع مع الامتناع، قاله الحسن، ولا صنع للعبد فيما يخطر في القلب من ذلك، ولا مؤاخذة عليه، ولو كان همه كهمها لما مدحه الله تعالى بأنه من عباده المخلصين، وقيل: هم بها: شارف أن يهم بها، وقل: هم بها: هم بزجرها، ووعظها، وقيل:
هم بضربها، ودفعها عن نفسه، وقيل: هم بها همها: امتناعه، وجواب {لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ} محذوف، تقديره: لخالطها، أو لكان ما كان، والبرهان الحجة.
هذا؛ وما روي عن ابن عباس-رضي الله عنهما-من أنه قال: حل يوسف الهميان، وجلس منها مجلس الخائن، فهو مكذوب عليه، وحاشاه أن يقول ذلك، وما قاله مجاهد وغيره: حل سراويله، وجعل يعالج ثيابه، وقعد منها مقعد الرجل من زوجته، فهو باطل، ويدل على بطلانه قوله تعالى:{هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي} ولو كان ذلك منه أيضا لما برأ نفسه من ذلك، وقوله تعالى:
{كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ} ولو كان كذلك لم يكن السوء مصروفا عنه، وقوله:
{ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ} ولو كان كذلك لخانه بالغيب، وقول النسوة:{ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ} بل وتصريح زليخا ببراءته في قولها: {قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصّادِقِينَ} وشهادة زوجها بقوله: {إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (28) يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ} وشهادة المولود ببراءته، قال تعالى:
{وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها..} . إلخ، ولأنه لو وجد منه شيء من ذلك، لذكرت توبته واستغفاره، كما كان لآدم ونوح، وذي النون، وداود على نبينا، وعليهم ألف صلاة، وأزكى سلام، وقد سماه الله مخلصا، فعلم بالقطع: أنه ثبت في ذلك المقام، وجاهد نفسه مجاهدة أهل العزم، ناظرا في دلائل التحريم، حتى استحق من الله الثناء الجميل.
وأما قوله: {وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمّارَةٌ بِالسُّوءِ..} . إلخ فهذا منه على سبيل التواضع والاعتراف لمخالف النفس لما زكي به، قبل وبرئ، وما روي: أن جبريل عليه السلام، وقيل:
مثل له يعقوب، فضرب على صدره، فخرجت شهوته من أنامله لا أصل له.
وأما البرهان الذي رآه يوسف، فقد فسره المحققون بوجوه: الأول: قال جعفر الصادق:
البرهان هو النبوة التي جعلها الله في قلبه، فحالت بينه وبين ما يسخط الله تعالى. الثاني:
البرهان حجة الله عز وجل على العبد في تحريم الزنى، والعلم بما على الزاني من العقاب.
الثالث: أن الله طهر نفوس الأنبياء-عليهم الصلاة والسّلام-من الأخلاق الذميمة، والأفعال الرذيلة، وجبلهم على الأخلاق الشريفة الطاهرة المقدسة، فتلك الأخلاق الطاهرة الشريفة،
تحجزهم عن فعل ما لا يليق فعله، وبالجملة: فالبرهان آية من آيات الله، أراها يوسف عليه السلام؛ حتى قوي إيمانه، واشتد يقينه، فامتنع عن المعصية، ولا يلتفت لما يقال من أقوال.
الإعراب: {وَلَقَدْ} : الواو: حرف قسم وجر، والمقسم به محذوف، تقديره: والله، والجار والمجرور متعلقان بفعل محذوف، تقديره: أقسم. اللام: واقعة في جواب القسم. (قد): حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال. {هَمَّتْ} : ماض، والتاء للتأنيث، والفاعل يعود إلى زليخا.
{بِهِ} : متعلقان بالفعل قبلهما، والجملة الفعلية جواب القسم لا محل لها، والقسم وجوابه كلام مستأنف لا محل له. و {وَهَمَّ بِها} هذه الجملة معطوفة على ما قبلها لا محل لها مثلها.
{لَوْلا} : حرف امتناع لوجود. {أَنْ} : حرف مصدري ونصب. {رَأى} : ماض مبني على فتح مقدر على الألف، والفاعل يعود إلى (يوسف). {بُرْهانَ}: مفعول به، وهو مضاف، و {رَبِّهِ}:
مضاف إليه، و {أَنْ} والفعل {رَأى} في تأويل مصدر في محل رفع مبتدأ، خبره محذوف، وجواب {لَوْلا} محذوف، وتقدير الكلام: لولا رؤيته برهان ربه موجودة في ذلك الوقت لواقع المعصية، وهذا الكلام مستأنف لا محل له. {كَذلِكَ}: جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر لمبتدإ محذوف، التقدير: الأمر، أو الحال كذلك، أو هما متعلقان بمحذوف صفة لمصدر محذوف واقع مفعولا مطلقا، عامله ما بعده، التقدير: لنصرف عنه السوء والفحشاء صرفا كائنا مثل رؤيته برهان ربه. {لِنَصْرِفَ} : مضارع منصوب ب «أن» مضمرة بعد لام التعليل، والفاعل مستتر تقديره:«نحن» . {عَنْهُ} : متعلقان به. {السُّوءَ} : مفعول به. (الفحشاء): معطوف عليه، و «أن» المضمرة والمضارع في تأويل مصدر في محل جر باللام، والجار والمجرور متعلقان بفعل محذوف، يدل عليه الكلام، التقدير: أريناه البرهان لصرف السوء والفحشاء عنه. {إِنَّهُ} :
حرف مشبه بالفعل، والهاء اسمها. {مِنْ عِبادِنَا}: متعلقان بمحذوف خبر (إنّ)، و (نا): في محل جر بالإضافة. {الْمُخْلَصِينَ} : صفة: {عِبادِنَا} مجرور مثله، وعلامة جره الياء
…
إلخ، وهو يقرأ بفتح اللام وكسرها، والأول بمعنى المختارين المصطفين، والثاني من إخلاص العبادة لله تعالى، والجملة الاسمية:{إِنَّهُ..} . إلخ تعليل لصرف السوء عنه.
الشرح: {وَاسْتَبَقَا الْبابَ} أي: تسابق يوسف، وزليخا إلى الباب الخارجي، ففي الكلام حذف واختصار؛ إذ التقدير: ولما رأى برهان ربه هرب منها، فتبعته؛ لترده، فأدركته قبل أن يخرج من الباب، فتعلقت بقميصه من خلفه، وجذبته إليها؛ حتى لا يخرج، فذلك قوله عز وجل:{وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ} أي: فشقته من خلف، فغلبها يوسف، فخرج، وخرجت خلفه،
هذا؛ والقدّ: الشق طولا، والقطّ: الشق عرضا.. {وَأَلْفَيا سَيِّدَها لَدَى الْبابِ} : وجد يوسف وزليخا قطفير العزيز زوجها واقفا، وقيل: جالسا عند الباب، هذا؛ والقبط يسمون الزوج سيدا.
{قالَتْ ما جَزاءُ..} . إلخ: بادرت في الكلام إيهاما بأنها فرت من يوسف تبرئة لساحتها عند زوجها، ولتغير قلبه على يوسف، ولتغريه به انتقاما منه حيث لم يستجب لرغبتها فيما طلبت منه، ولكنها لا تزال تكنّ له الحب الشديد؛ ولذا لم تطلب له عقوبة القتل، وإنما عينت عقوبته بنفسها، السجن، أو التعذيب بضرب السياط، وإنما بدأت بذكر السجن دون التعذيب؛ لأن المحب لا يشتهي إيلام المحبوب، وهي كذلك، وقد أرادت أن يسجن يوما أو يومين تريد بذلك إخضاعه لإرادتها، وهيمنتها عليه، خذ هذا؛ وافهمه، فإنه جيد إن شاء الله تعالى.
بعد هذا انظر شرح (أهلك) في الآية رقم [81] من سورة (هود)، وشرح (القول) في الآية [18] منها أيضا، و (سيد) أصله: سيود من ساد، يسود، فقل في إعلاله: اجتمعت الواو والياء، وسبقت إحداهما بالسكون، فقلبت الواو ياء، وأدغمت الياء في الياء، وقل مثله في إعلال ميت وهين ونحوهما. {عَذابٌ}: اسم مصدر؛ لا مصدر؛ لأن المصدر: تعذيب، فهو من عذّب يعذّب بتشديد الذال فيهما، وقيل: هو مصدر على حذف الزوائد، مثل: عطاء، ونبات لأعطى، وأنبت. {أَلِيمٌ}: مؤلم، أي: موجع بكسر اللام، فهو اسم فاعل، وقال الجمل: بفتح اللام على طريق الإسناد المجازي، حيث أسند الألم للعذاب، وهو في الحقيقة، إنما يسند إلى الشخص المعذب، فهو على حد (جدّ جدّه) انتهى. بتصرف، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.
الإعراب: {وَاسْتَبَقَا} : الواو: حرف عطف. (استبقا): ماض، وألف الاثنين فاعله.
{الْبابَ} : منصوب بنزع الخافض، وقيل: يضمن الفعل معنى: ابتدر الباب فهو مفعول به، والجملة الفعلية معطوفة على جملة:{وَلَقَدْ هَمَّتْ..} . إلخ فيكون: {كَذلِكَ..} . إلخ معترضا بين المتعاطفين، جيء به تقريرا لنزاهة يوسف عليه السلام. (قدت): ماض، والتاء للتأنيث، والفاعل يعود إلى زليخا. {قَمِيصَهُ}: مفعول به، والهاء في محل جر بالإضافة. {مِنْ دُبُرٍ}:
متعلقان بالفعل قبلهما، وجملة: (قدت
…
) إلخ معطوفة على ما قبلها. (ألفيا): ماض، والألف فاعله. {سَيِّدَها}: مفعول به أول، و (ها): في محل جر بالإضافة. {لَدَى} : ظرف مكان بمعنى:
(عند) منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على الألف، وهو متعلق بالفعل قبله، و {لَدَى}:
مضاف، و {الْبابَ}: مضاف إليه، والمفعول الثاني محذوف، تقديره: واقفا، أو جالسا، وجملة: (ألفيا
…
) إلخ معطوفة على ما قبلها، لا محل لها أيضا. {قالَتْ}: ماض، والتاء للتأنيث، والفاعل يعود إلى زليخا. {ما}: نافية. {جَزاءُ} : مبتدأ، وهو مضاف، و {مِنْ}: اسم موصول، أو نكرة موصوفة، مبني على السكون في محل جر بالإضافة. {أَرادَ}: ماض، وفاعله يعود إلى {مِنْ}. {بِأَهْلِكَ}: متعلقان ب {أَرادَ،} أو هما متعلقان بمحذوف حال من: {سُوءاً،}
كان صفة له، فلما قدم عليه صار حالا
…
إلخ. {سُوءاً} : مفعول به، وجملة:{أَرادَ..} . إلخ صلة {مِنْ} أو صفتها، والعائد أو الرابط رجوع الفاعل إليها. {إِلاّ}: حرف حصر. {أَنْ} :
حرف مصدري ونصب. {يُسْجَنَ} : مضارع مبني للمجهول منصوب ب {أَنْ،} ونائب فاعله يعود إلى {مِنْ،} وأن والمضارع في تأويل مصدر في محل رفع خبر المبتدأ. {أَوْ} : حرف عطف.
{عَذابٌ} : معطوف على المصدر المؤول. {أَلِيمٌ} : صفته، هذا؛ ويجوز اعتبار {ما} اسم استفهام مبتدأ، و {جَزاءُ} خبره، ويكون المصدر المؤول من:{أَنْ يُسْجَنَ} . في محل رفع بدلا من {جَزاءُ،} ولا يجوز اعتباره استثناء منصوبا لعطف عذاب عليه. تأمل، والجملة الاسمية على الاعتبارين في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالَتْ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم.
الشرح: {قالَ هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي} : قال يوسف: هي طالبتني بفعل الفحشاء. فأبيت، وفررت منها، وإنما قال ذلك حين لطخت عرضه، ودفعا لما عرضته له من السجن، أو العذاب، ولو لم تكذب عليه؛ لما قاله. {وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها}: اختلفوا في ذلك الشاهد، فقال سعيد بن جبير والضحاك: كان صبيا، فأنطقه الله عز وجل، وهو رواية عن ابن عباس-رضي الله عنهما-عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«تكلّم أربعة، وهم صغار: ابن ماشطة ابنة فرعون، وشاهد يوسف، وصاحب جريج، وعيسى بن مريم» . ذكره البغوي بغير سند، قيل: كان الصبي ابن عم المرأة، أو ابن خالها، وقال الحسن وعكرمة وقتادة ومجاهد: لم يكن صبيا، ولكنه كان رجلا حكيما ذا رأي: وعقل، وكان الوزير يستشيره في أموره، وهو من أقرباء المرأة، وكان مع زوجها حينما خرجا يتراكضان خلف بعضهما، وإنما ألقى الله الشهادة على لسان أهلها، ليكون ألزم عليها.
{إِنْ كانَ قَمِيصُهُ..} . إلخ: لأنه يدل على أنها قدت قميصه من قدامه بالدفع عن نفسها، أو أنه أسرع خلفها، فتعثر بذيله، فانقد جيب قميصه.
الإعراب: {قالَ} : ماض، والفاعل يعود إلى يوسف. {هِيَ}: مبتدأ. {راوَدَتْنِي} : ماض، والتاء للتأنيث، والنون للوقاية، وياء المتكلم مفعول به، والفاعل مستتر يعود إلى زليخا، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية:{هِيَ..} . إلخ في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالَ هِيَ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها. {عَنْ نَفْسِي} : جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، وعلامة الجر كسرة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم
…
إلخ، والياء في محل جر بالإضافة.
{وَشَهِدَ شاهِدٌ} : ماض وفاعله. {مِنْ أَهْلِها} : متعلقان بالفعل قبلهما، والأولى تعليقهما ب
{شاهِدٌ} أو بمحذوف صفة له، و (ها): في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية معطوفة على جملة:{قالَ..} . إلخ لا محل لها مثلها. {إِنْ} : حرف شرط جازم. {كانَ} : ماض ناقص مبني على الفتح في محل جزم فعل الشرط. {قَمِيصُهُ} : اسم {كانَ،} والهاء في محل جر بالإضافة. {قُدَّ} : ماض مبني للمجهول، ونائب فاعله يعود إلى قميصه. {مِنْ قُبُلٍ}: متعلقان بالفعل قبلهما، وجملة:{قُدَّ مِنْ قُبُلٍ} في محل نصب خبر {كانَ،} وجملة: {كانَ..} . إلخ لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي. {فَصَدَقَتْ} : الفاء: واقعة في جواب الشرط. (صدقت): ماض، والتاء للتأنيث، والفاعل مستتر تقديره هي، والجملة الفعلية في محل جزم جواب الشرط، وهي على تقدير «قد» قبلها؛ إذ التقدير: فقد صدقت. {وَهُوَ} : الواو:
واو الحال. (هو): مبتدأ. {مِنَ الْكاذِبِينَ} : متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل نصب حال من فاعل (صدقت) المستتر، والرابط: الواو فقط على حد قوله تعالى: {قالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ} والجملة الشرطية: {إِنْ كانَ..} . إلخ في محل نصب مفعول به؛ لأن (شهد) بمعنى قال، أو هي في محل نصب مقول القول لقول محذوف، التقدير: وقال: {إِنْ كانَ..} . إلخ وقد صرح الجلال بتقدير هذا القول. تأمل.
{وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصّادِقِينَ (27)}
الشرح: أقول: بالإضافة لما أدلى به الشاهد من شهادة معتمدا في شهادته على القياس والاعتبار، والعمل بالعرف والعادة من قدّ القميص مقبلا في حال الإرادة، والإغارة، ومن قدّه مدبرا في حال الإكراه، والملاحقة، والمطاردة، فهناك علامات كثيرة تدل على صدق يوسف عليه السلام، وتنفي عنه الريبة، والتهمة: منها أن يوسف عليه السلام كان في الظاهر مملوك هذه المرأة، والمملوك لا يجرؤ على مراودة سيدته، وطلب الفاحشة منها. ومنها: أن زوجها ومن كان معه قد شاهدوا يوسف يعدو هاربا منها، والطالب لا يهرب، ومنها: أنهم رأوا المرأة قد تزينت بأكمل الزينة، فكان إلحاق التهمة بها أولى، ومنها: أنهم عرفوا يوسف عليه السلام في المدة الطويلة بينهم، فلم يروا عليه حالة تناسب إقدامه على مثل هذه الحالة، فمجموع هذه العلامات دلالة على صدقه مع قرينة الحال التي استدل به الشاهد على نزاهته وبراءته مما قذفته به، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.
هذا؛ وقد قرئ «(قبل ودبر)» بضم كل حروفهما، قال الزجاج: بجعلهما غايتين كقبل وبعد، كأنه قال: من قبله ومن دبره، فلما حذف المضاف إليه، وهو مراد صار المضاف غاية نفسه، بعد أن كان المضاف إليه غاية له، وقرئ:«(من قبْل ومن دبْر)» بسكون عينهما وجر لامهما، وعن ابن أبي إسحاق أنه قرأ:«(من قبلَ، ومن دبرَ)» بفتح لامهما وضم عينهما، كأنه جعلهما علمين
للجهتين، فمنعهما الصرف للعلمية والتأنيث؛ لأن كلاهما معرفة ومزال عن بابه، وينبغي أن تعلم أن القراءة الأولى سبعية، وهي قراءة الجمهور، وأما القراءات الثلاث الأخيرة فمن الشواذ.
الإعراب: بعد هذا فإعراب هذه الآية ظاهر إن شاء الله تعالى؛ لأنه مثل إعراب الآية السابقة بلا فارق، هذا؛ وقد قال الزمخشري في كشافه: فإن قلت: كيف جاز الجمع بين (إن) التي هي للاستقبال، وبين (كان) التي هي للماضي، قلت: لأن المعنى: أنه يعلم إن كان قميصه قدّ، ونحوه قولك: إن أحسنت إلي فقد أحسنت إليك من قبل لمن يمتنّ عليك بإحسانه، تريد: إن تمتنّ علي أمتنّ عليك. انتهى. وإن ومدخولها كلام معطوف على ما قبله، فهو في محل نصب مقول القول أيضا.
الشرح: {فَلَمّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ} أي: لما رأى قطفير القميص مشقوقا من خلفه، وعلم كذب زوجته، وصدق يوسف وبراءته، مما قذفته به؛ {قالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ} أي: إن قولك: {ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ،} أو إن هذا الأمر، وهو طمعها في يوسف. {إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ}: الخطاب لها ولأمثالها، أو لسائر النساء، وإنما كان كيدهن عظيما؛ لأنه ألصق، وأعلق بالقلب، وأشد تأثيرا في النفس، ولأنهن يواجهن الرجال به، والشيطان يوسوس مسارقة.
وقال بعض العلماء: أنا أخاف من النساء أكثر مما أخاف من الشيطان؛ لأن الله تعالى يقول: {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً،} وقال للنساء: {إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} وقال مقاتل: عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن كيد النساء أعظم من كيد الشيطان؛ لأن الله تعالى يقول: {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً،} وقال: {إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} ولا تنس قوله تعالى في سورة التحريم: {وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ» }.
الإعراب: {فَلَمّا} : الفاء: حرف استئناف. (لما): انظر الآية رقم [15]{رَأى} : ماض، وفاعله يعود إلى قطفير العزيز. {قَمِيصَهُ}: مفعول به، والهاء في محل جر بالإضافة، وجملة:
{رَأى قَمِيصَهُ} لا محل لها على اعتبار (لمّا) حرفا، وفي محل جر بإضافة (لمّا) إليها على اعتبارها ظرفا. {قُدَّ}: ماض مبني للمجهول، ونائب فاعله يعود إلى:{قَمِيصَهُ} . {مِنْ دُبُرٍ} :
متعلقان بما قبلهما، وجملة:{قُدَّ مِنْ دُبُرٍ} في محل نصب مفعول به ثان، إن كان (رأى) علميا، وفي محل نصب حال، إن كان بصريا، وتكون:«قد» قبلها مقدرة. {قالَ} : ماض، وفاعله يعود إلى قطفير أيضا. {إِنَّهُ}: حرف مشبه بالفعل، والهاء اسمها. {مِنْ كَيْدِكُنَّ}:
متعلقان بمحذوف خبر (إن)، والكاف في محل جر بالإضافة، من إضافة المصدر لفاعله، والنون حرف دال على جماعة الإناث، والجملة الاسمية:{إِنَّهُ..} . إلخ في محل نصب مقول القول،
وجملة: {قالَ..} . إلخ جواب (لما) لا محل لها، و (لما) ومدخولها كلام مستأنف لا محل له، وجملة:{إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} مؤكدة لسابقتها، وهي من مقول قطفير أيضا.
{يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا وَاِسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ (29)}
الشرح: {يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا} أي: يا يوسف أعرض عن هذا الأمر، فلا تذكره لأحد؛ حتى لا يشيع، وينتشر بين الناس، أو المعنى: لا تكترث به، فقد بان عذرك، وبراءتك. {وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ} أي: توبي واعتذري إلى إلهك ممّا رميت به يوسف، وهو بريء، وقيل: إن هذا من قول الشاهد، يقول للمرأة: اعتذري لزوجك ليصفح عنك. {إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ} أي: من المذنبين حيث خنت زوجك، ورميت يوسف بالتهمة، وهو بريء، وفي قوله {الْخاطِئِينَ} تغليب للذكور على النساء، وهو كثير ومستعمل في القرآن الكريم، مثل:
{وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ} هذا؛ وقد قال الجمل نقلا عن كرخي: كان العزيز قليل الغيرة، بل قال في البحر إن تربة مصر تقتضي هذا، ولهذا لا ينشأ فيها الأسد، ولو دخل فيها لا يبقى. انتهى.
وقال القرطبي: إن الله سلبه الغيرة، وكان فيه لطف بيوسف، حتى كفي بادرته، وعفا عنها. انتهى. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.
الإعراب: {يُوسُفُ} : منادى مفرد علم مبني على الضم في محل نصب بأداة النداء المحذوفة. {أَعْرِضْ} : فعل أمر وفاعله مستتر فيه، تقديره:«أنت» ، والجملة الفعلية مع الجملة الندائية في محل نصب مقول القول. تأمل. (استغفري): أمر مبني على حذف النون، وياء المؤنثة المخاطبة فاعله، ومفعوله محذوف؛ إذ التقدير: استغفري إلهك؛ لأن هذا الفعل قد ينصب مفعولين صريحين، وقد يتعدى للثاني بحرف الجر، كما هنا، وانظر الآية رقم [104] من سورة (يونس). {لِذَنْبِكِ}: متعلقان بالفعل قبلهما، وهما في محل نصب مفعوله الثاني، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، فهي في محل نصب مقول القول. {إِنَّكِ}: حرف مشبه بالفعل، والكاف اسمها. {كُنْتِ}: ماض ناقص مبني على السكون، والتاء اسمه. {مِنَ الْخاطِئِينَ}:
متعلقان بمحذوف خبر (كان)، وجملة:{كُنْتِ..} . إلخ في محل رفع خبر (إن) والجملة الاسمية: {إِنَّكِ..} . إلخ تعليل للأمر وهي بدورها من مقول قطفير العزيز.
الشرح: {وَقالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ} : ما حدث ليوسف عليه السلام مع زليخا لم يبق سرّا بل تحدثت به النساء بينهن، وكن خمسا: امرأة حاجب العزيز،
وامرأة صاحب دوابّه، وامرأة خبّازة، وامرأة ساقيه، وامرأة صاحب سجنه، وقلن: امرأة العزيز زليخا تطلب مواقعة عبدها الكنعاني، وهو يمتنع عنها. {قَدْ شَغَفَها حُبًّا} أي: إن حبه قد شق شغاف قلبها-وهو حجابه-حتى وصل إلى فؤادها، وقيل: إن حبه قد أحاط بقلبها كإحاطة الشغاف بالقلب، حتى أصبحت لا تعرف شيئا سواه. {إِنّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} أي: في خطأ بين ظاهر حيث تركت ما يجب على أمثالها من العفاف، والستر، والمحافظة على الشرف، وانظر إعلال (نرى) في الآية رقم [27] من سورة (هود).
-بعد هذا فالمرأة مأخوذة من المرء، وهو الرجل، فلذا سميت بذلك، والأم الأولى حواء سميت بذلك؛ لأنها مأخوذة من حي وهو آدم عليهما السلام، وتجمع المرأة من غير لفظها، ففي القلة جمعها نسوة، بكسر النون وضمها، وفي الكثرة جمعها: نساء، وتجمع أيضا على: نسوان، ونسون، ونسنين، وهذه الجموع كلها مأخوذة من النسيان، فهي مطبوعة عليه، إما كذبا، وإما إهمالا، ويقال لكل واحد من هذه الجموع: اسم جمع لا واحد له من لفظه. {فَتاها} : انظر شرحه في الآية رقم [62] الآتية، وانظر شرح (النفس) في الآية رقم [53] الآتية، هذا؛ والشغف مصدر: شغفه الحب إذا خرق شغاف قلبه؛ حتى وصل للفؤاد، والشغاف: حجاب القلب المحيط به، وقيل: بل هو جلدة رقيقة، يقال لها: لسان القلب إذا دخله الحب لم يخرج منه، قال النابغة الذبياني:[الطويل]
وقد حال همّ دون ذلك داخل
…
دخول الشّغاف تبتغيه الأصابع
هذا ويقرأ: «(شعفها)» بالعين من: شعف البعير: إذا هنأه، فأحرقه بالقطران، قال امرؤ القيس:[الطويل]
أتقتلني، وقد شعفت فؤادها
…
كما شعف المهنوءة الرجل الطّالي؟
المعنى: أتقتلني المحبوبة، والحال أني قد شعفت فؤادها، أي: علوته كما يعلو الرجل الطالي الإبل المهنوءة؛ إذا هنأها بالقطران.
الإعراب: {وَقالَ} : ماض. {نِسْوَةٌ} : فاعله، ولم يؤنث الفعل؛ لأن الفاعل اسم جمع كما رأيت، وما كان من هذا القبيل يجوز تأنيث فاعله، وتذكيره. {فِي الْمَدِينَةِ}: متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف صفة:{نِسْوَةٌ} . {اِمْرَأَتُ} : مبتدأ، وهو مضاف، و {الْعَزِيزِ}: مضاف إليه. {تُراوِدُ} : مضارع، والفاعل يعود إليها. {فَتاها}: مفعول به منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على الألف للتعذر، و (ها): في محل جر بالإضافة. {عَنْ نَفْسِهِ} :
متعلقان بالفعل {تُراوِدُ،} والهاء في محل جر بالإضافة، وجملة:{تُراوِدُ..} . إلخ في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية:{اِمْرَأَتُ..} . إلخ في محل نصب مقول القول، وجملة:
(قال
…
) إلخ مستأنفة لا محل لها. {قَدْ} : حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال.
{شَغَفَها} : ماض، والفاعل يعود إلى {فَتاها،} و (ها): مفعول به. {حُبًّا} : تمييز محول عن الفاعل، فإن الأصل: قد شغفها حبه، وجملة:{قَدْ شَغَفَها حُبًّا} يجوز أن تكون في محل رفع خبر ثان للمبتدإ، وأن تكون في محل نصب حال من الفاعل، أو من المفعول، وأن تكون مستأنفة لا محل لها. {إِنّا}: حرف مشبه بالفعل، و (نا): اسمها، وحذفت النون، وبقيت الألف دليلا عليها. {لَنَراها}: اللام: هي المزحلقة. (نراها): مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف، والهاء: مفعول به، والفاعل مستتر تقديره:«نحن» ، والجملة الفعلية في محل رفع خبر (إنّ). {فِي ضَلالٍ}: متعلقان بالفعل قبلهما. {مُبِينٍ} : صفة: {ضَلالٍ
…
،} والجملة الاسمية:{إِنّا..} . إلخ في محل نصب مقول القول.
الشرح: {فَلَمّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ} : فلما سمعت زليخا بغيبة النسوة إياها، وذمها، وقيل: إنها أطلعتهن على سرها فأفشينه، فسمى الله ذلك مكرا. {أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ}: قيل: صنعت وليمة عظيمة، ودعت إليها أربعين امرأة من أشراف مدينتها فيهن الخمس اللاتي تكلمن فيها، وقد أرادت أن تقيم عذرها عندهن في محبة يوسف عليه السلام. {وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً} أي: ووضعت لهن نمارق ووسائد يتكئن عليها، وقال ابن عباس-رضي الله عنهما-وغيره: يعني طعاما، وإنما سمي الطعام متكأ؛ لأن كل من دعوته ليطعم عندك، فقد أعددت له وسائد يجلس، ويتكئ عليها، فسمى الطعام متكأ على الاستعارة؛ ولذلك جاء النهي عنه في قول النبي صلى الله عليه وسلم:«لا آكل متكئا» .
وقال بعضهم: إنه الأترجّ وعسل يؤكل به، قال جميل بن معمر العذري:[الخفيف]
فظللنا بنعمة واتّكأنا
…
وشربنا الحلال من قلله
قيل: إنها طلبت النسوة، فأتين على كره منهن، وقد قال فيهن أمية بن أبي الصلت:[مخلع البسيط]
حتى إذا جئنها قسرا م
…
هّدت لهنّ أنضادا وكبابا
هذا؛ وقد قرئ: {مُتَّكَأً} بقراءات مختلفة. {وَآتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً} : أعطت كل واحدة من النسوة سكينا؛ لتقطع بها الطعام، كما هو عادة المترفين، والسكين تؤنث، وتذكر، والثاني رجحه الأصمعي. {وَقالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ}: وكان يخاف من مخالفتها، فخرج عليهن فجأة، وهن يحاولن قطع الطعام، وكانت قد زينته بأكمل زينة، وعطرته. {فَلَمّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ}: لما رأى
النسوة يوسف عظمنه، وهبنه لحسنه الفائق، فعن أبي سعيد الخدري قال: قال الرسول صلى الله عليه وسلم:
«رأيت يوسف ليلة المعراج كالقمر ليلة البدر» . قيل: كان يرى تلألؤ وجهه على الجدران، وانظر وصفه في الآية رقم [19]. وعن ابن عباس: أكبرنه: أمنين، وأمذين من الدهش، قال الشاعر:[الطويل]
إذا ما رأين الفحل من فوق قارة
…
صهلن، وأكبرن المنيّ المدفّقا
القارة: الجبل الصغير المنقطع عن الجبال، وقيل: معناه: حضن، قال الشاعر:[البسيط]
تأتي النساء على أطهارهنّ، ولا
…
تأتي النساء إذا أكبرن إكبارا
وكأن أبا الطيب المتنبي أخذ من هذا التفسير قوله: [الطويل]
خف الله واستر ذا الجمال ببرقع
…
فإن لحت حاضت في الخدور العواتق
هذا؛ وقد تفزع المرأة، أو تدهش، فتسقط ولدها أو تحيض، وانظر تفسير:(ضحكت) بحاضت في الآية رقم [71] من سورة (هود) على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام.
{وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ} : جرحنها بالسكاكين من فرط الدهشة، ولم يجدن ألما لذلك، وقال وهب:
مات منهن جماعة. {وَقُلْنَ حاشَ لِلّهِ} : بإثبات ألف بعد الشين وحذفها، وهما قراءتان سبعيتان، ويقرأ «(حاشا الله)» بغير لام بمعنى: براءة الله، و «(حاشا لله)» بالتنوين على تنزيله منزلة المصدر، وقال مكي: معنى (حاشا لله) بعد يوسف عن الذي رمي به لله، أي: لخوفه لله، ومراقبته له، ولم أجد هذا لغيره.
تنبيه: في {حاشَ} ثلاثة أوجه: أحدها أن تكون فعلا متعديا متصرفا، تقول: حاشيته، بمعنى: استثنيته، قال النابغة الذبياني:[البسيط]
ولا أرى فاعلا في النّاس يشبهه
…
ولا أحاشي من الأقوام من أحد
الثاني أن تكون تنزيهية، ومنه الآية الكريمة على التفسير الثاني، والصحيح: أنها اسم مرادف للبراءة من كذا. الثالث أن تكون للاستثناء، فذهب سيبويه، وأكثر البصريين إلى أنها حرف دائما بمنزلة إلا، لكنها تجر المستثنى، وذهب الجرمي، والمازني، والمبرد، والزجاج، والأخفش، وأبو زيد، والفراء، وأبو عمرو الشيباني إلى أنها تستعمل كثيرا حرفا جارّا، وقليلا فعلا متعديا جامدا لتضمنه معنى (إلا)، والكوفيون يعتبرونها فعلا دائما. انتهى. من مغني اللبيب باختصار، ولذلك شواهد انظر شرحها وإعرابها في كتابنا:«فتح القريب المجيب» .
{ما هذا بَشَراً} : نفين عنه البشرية لفرط حسنه وجماله، والمقصود من هذا إثبات الحسن المفرط ليوسف؛ لأنه تقرر في النفوس: أنه لا شيء أحسن من الملك، فلذلك وصفنه بكونه ملكا، فقلن:{إِنْ هذا إِلاّ مَلَكٌ كَرِيمٌ} هذا؛ ويقرأ: «(ما هذا بشر)» بالرفع، وهي لغة بني تميم، وقراءة
النصب لغة أهل الحجاز، وهو أقوى، كما قرئ:«(ما هذا بشرى)» بكسر الباء والشين، أي: ما هو بعبد مشترى لئيم، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه، وانظر شرح:{بَشَراً} في الآية [27] من سورة (هود).
الإعراب: {فَلَمّا} : الفاء: حرف استئناف. (لما): انظر الآية رقم [15]. {سَمِعَتْ} : ماض، والتاء للتأنيث، والفاعل يعود إلى زليخا. والجملة الفعلية لا محل لها على اعتبار (لما) حرفا، وفي محل جر بإضافة (لما) إليها على اعتبارها ظرفا. {بِمَكْرِهِنَّ}: متعلقان بالفعل قبلهما، والكاف في محل جر بالإضافة، والنون في كل الآية حرف دال على جماعة الإناث، وجملة:
{أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ} جواب: (لما) لا محل لها، و (لما) ومدخولها كلام مستأنف لا محل له، وجملة:{وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً} معطوفة على ما قبلها لا محل لها مثلها. (آتت): ماض مبني على فتح مقدر على الألف المحذوفة لالتقائها ساكنة مع تاء التأنيث التي هي حرف لا محل له، والفاعل يعود إلى زليخا. {كُلَّ}: مفعول به أول، و {كُلَّ}: مضاف، و {واحِدَةٍ}: مضاف إليه.
{مِنْهُنَّ} : متعلقان ب {واحِدَةٍ،} أو بمحذوف صفة لها. {سِكِّيناً} : مفعول به ثان، وجملة:
(آتت
…
) إلخ معطوفة على ما قبلها لا محل لها أيضا. {اُخْرُجْ} : أمر، وفاعله مستتر تقديره:
«أنت» . {عَلَيْهِنَّ} : متعلقان بما قبلهما، وجملة:{اُخْرُجْ عَلَيْهِنَّ} في محل نصب مقول القول، وجملة: (قالت
…
) إلخ معطوفة على ما قبلها لا محل لها أيضا. {فَلَمّا} : الفاء: حرف استئناف. (لما): انظر الآية [15]. {رَأَيْنَهُ} : ماض مبني على السكون، والنون فاعله، والهاء مفعول به، والجملة الفعلية يقال فيها مثل جملة:{سَمِعَتْ..} . إلخ. {أَكْبَرْنَهُ} : فعل وفاعل ومفعول به، وهذا على التفسير ب (عظمنه) واعتبار الضمير عائدا على يوسف، وأما على التفسيرين الأخيرين فالهاء للسكت، وهي حرف لا محل له، وعلى الوجهين فالجملة جواب:
(لما) لا محل لها، وجملة:{وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ} معطوفة عليها لا محل لها مثلها. (قلن): فعل وفاعل. {حاشَ} : ماض، وفاعله يعود إلى يوسف، أو هو مبتدأ مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف المحذوفة أو هو مفعول مطلق، لفعل محذوف، وذلك على تفسيره ب «تنزيه» أو ب «تنزيها» ، انظر الشرح. {لِلّهِ}: متعلقان ب {حاشَ} على الاعتبارين فيه، أعني الفعلية والمصدرية، وأما على اعتباره مبتدأ، فالجار والمجرور متعلقان بخبره، أو هما متعلقان به فيكون الخبر محذوفا، تقديره موجود، وجملة:{حاشَ لِلّهِ} سواء أكانت فعلية، أم اسمية، فهي في محل نصب مقول القول، وجملة: (قلن
…
) إلخ معطوفة على ما قبلها لا محل لها أيضا.
{فَلَمّا} : نافية حجازية تعمل عمل ليس. {هذا} : اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع اسم {فَلَمّا،} والهاء حرف تنبيه لا محل له. {بَشَراً} : خبر: {فَلَمّا،} والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول. {إِنْ} : حرف نفي بمعنى: {فَلَمّا} . {هذا} : مبتدأ. {إِلاّ} : حرف حصر.
{مَلَكٌ} : خبر المبتدأ. {كَرِيمٌ} : صفته، والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول أيضا.
الشرح: {قالَتْ فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ} أي: قالت زليخا للنسوة اللاتي دهشن بيوسف عند رؤيتهن له: {فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ،} وإنما قالت ذلك إقامة لعذرها فيما حصل منها، وتكلمن فيها، وإنما قالت:{فَذلِكُنَّ..} . إلخ بعد ما قام من المجلس، وذهب، أو قالت ذلك بحضرته، وأدخلت على اسم الإشارة لام البعد، وكاف الخطاب، رفعا لمكانته، ومنزلته، لا لبعده عن المجلس، فكأنه لعلو شأنه بعيد عنها؛ حتى صار يشار إليه بذلك.
{وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ} : فامتنع عن إجابتي لما طلبت منه من الوقاع، وإنما صرحت بذلك؛ لأنها أيقنت أن لا ملامة عليها منهن، وأنهن قد أصابهن ما أصابها عند رؤيته.
{وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ} : فهذا تصريح منها بأنها لا تزال ترغب في مواقعته، وإن لم يطاوعها فيما تريد لتعاقبنه بالسجن، ولتجعلنه من الأذلاء المهانين، فكان منهن أن قلن له جميعا:
يا يوسف أطع سيدتك فيما تدعوك إليه، فاختار يوسف السجن على المعصية حين توعدته المرأة بذلك، قال الزمخشري: وهذا بيان لما كان من يوسف-عليه السلام-لا مزيد عليه، وبرهان لا شيء أنور منه على أنه بريء مما أضاف إليه أهل الحشو مما فسروا به الهمّ والبرهان. رحم الله الزمخشري.
فائدة: قال مكي في مثل: {وَلَئِنْ لَمْ} دخلت (إن) على (لم) ليرتد الفعل إلى أصله في لفظه، وهو الاستقبال؛ لأن (لم) ترد لفظ المستقبل إلى معنى المضي، و (إن) ترد الماضي إلى معنى الاستقبال، فلما صارت (لم) ولفظ المستقبل بعدها بمعنى الماضي، ردتها (إن) إلى الاستقبال؛ لأن (إن) ترد الماضي إلى معنى الاستقبال. انتهى.
الإعراب: {قالَتْ} : ماض، والتاء للتأنيث، والفاعل يعود إلى زليخا. {فَذلِكُنَّ}: الفاء:
زائدة لتحسين اللفظ. (ذلكن): اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع مبتدأ، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب لا محل له، والنون حرف دال على جماعة الإناث. {الَّذِي}: اسم موصول مبني على السكون في محل رفع خبر المبتدأ، هذا؛ واعتبره الجلال، ووافقه الجمل على أنه خبر لمبتدإ محذوف، أي: هو الذي، وعليه فالجملة الاسمية هذه في محل رفع خبر المبتدأ، والأول أولى بالاعتبار؛ لخلوه من التقدير، والتكلف. {لُمْتُنَّنِي}: ماض مبني على السكون، والتاء فاعله، والنون المشددة علامة جمع الإناث، والنون المخففة للوقاية، وياء المتكلم مفعول به. {فِيهِ}: متعلقان بالفعل قبلهما، وجملة:{لُمْتُنَّنِي فِيهِ} صلة الموصول لا محل لها، والجملة الاسمية:{فَذلِكُنَّ..} . إلخ في محل نصب مقول القول، وجملة:
{قالَتْ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها {وَلَقَدْ} انظر الآية رقم [24] لإعرابه. {راوَدْتُهُ} : فعل وفاعل، ومفعول به، والجملة الفعلية جواب القسم لا محل لها. {عَنْ نَفْسِهِ}: متعلقان بالفعل قبلهما، والهاء في محل جر بالإضافة، والقسم وجوابه في محل نصب مقول القول. (استعصم):
ماض، والفاعل يعود إلى يوسف، ومتعلقه محذوف، انظر الشرح، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها لا محل لها مثلها. {وَلَئِنْ}: الواو: حرف استئناف. اللام: موطئة لقسم محذوف.
(إن): حرف شرط جازم. {لَمْ} : حرف نفي وقلب وجزم. {يَفْعَلْ} : مضارع مجزوم ب {لَمْ،} وهو في محل جزم فعل الشرط، والفاعل يعود إلى (يوسف). {ما}: تحتمل الموصولة، والموصوفة، فهي مبنية على السكون في محل نصب مفعول به. {آمُرُهُ}: مضارع، والفاعل مستتر تقديره:«أنا» ، والهاء مفعول به، وهو في الأصل مجرور بحرف جر، فحذف الجار، واتصل الضمير بالفعل، فانتصب به، والجملة الفعلية صلة {ما،} أو صفتها، هذا؛ وجوز اعتبار:{ما} مصدرية تؤول مع الفعل بعدها بمصدر في محل نصب مفعول به، التقدير: وإن لم يفعل أمري، وهو ضعيف معنى كما ترى، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال:
لأنها جملة شرط غير ظرفي. {لَيُسْجَنَنَّ} : اللام: واقعة في جواب القسم. (يسجنن): مضارع مبني للمجهول، مبني على الفتح؛ لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، التي هي حرف لا محل له، ونائب الفاعل مستتر يعود إلى يوسف، والجملة الفعلية جواب القسم، وحذف جواب الشرط على القاعدة المذكورة في الآية رقم [14]، والكلام كله في محل نصب مقول القول.
{وَلَيَكُوناً} : الواو: حرف عطف. اللام: واقعة في جواب القسم بسبب العطف. (يكونا):
مضارع ناقص مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الخفيفة التي هي حرف لا محل له، واسمه مستتر تقديره:«هو» يعود إلى يوسف أيضا. {مِنَ الصّاغِرِينَ} : متعلقان بمحذوف خبر (يكونا)، وعلامة الجر الياء نيابة عن الكسرة؛ لأنه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، وجملة: (ليكونا
…
) إلخ معطوفة على جواب القسم.
الشرح: {قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ} : توجه بهذا الدعاء إلى الله بعد أن هددته زليخا بالسجن، وكل النسوة قلن له: أطع سيدتك فيما تريده منك، والمعنى: يا رب دخول السجن آثر عندي من موافقتها، وتلبية رغبتها، نظرا إلى العاقبة الحميدة عندك، وإسناد الدعوة إلى جميع النسوة؛ لأنهن حذرنه من مخالفتها، وزيّن له مطاوعتها، وقيل: دعونه إلى أنفسهن، كل واحدة خلت به على انفراد لتنصحه في مطاوعة زليخا، وهي تريد أن يقضي
وطرها، وقيل: إنما ابتلي بالسجن لقوله هذا، وكان الأولى به أن يسأل الله العاقبة، ولذا رد رسول الله صلى الله عليه وسلم على من كان يسأل البلاء والصبر، فعن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«سلوا الله العفو والعافية، فإنّ أحدا لم يعط بعد اليقين خيرا من العافية» . وانظر شرح {رَبِّ} في الآية رقم [3] من سورة (هود)، وانظر شرح (أحب) في الآية [18]. هذا؛ وقرئ «(رُب)» بضم الباء على النداء، كما قرئ بالضم وجر السجن على الإضافة، وهذا في الشواذ، والمعنى: صاحب السجن أي: لقاؤه أحبّ إليّ. {وَإِلاّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ} : إن لم تصرف عني ما يردن مني من تحبيب ذلك إليّ، وتحسينه عندي، وذلك بالتثبيت على العصمة والحفظ من كيدهن. {أَصْبُ إِلَيْهِنَّ}: أمل إليهن، وما يبغين مني، وذلك بطبعي، ومقتضى شهوتي، والصبوة: الميل إلى الهوى، ومنه:(الصبا) بكسر الصاد؛ لأن النفوس البشرية تستطيبها، وتميل إليها. {وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ} أي: من السفهاء بارتكاب ما يدعونني إليه، فإن العاقل لا يفعل القبائح، أو أكن من الذين لا يعملون بما يعلمون، فإنهم والجهال سواء، وانظر شرح {تَجْهَلُونَ} في الآية رقم [29] من سورة (هود) تجد ما يسرك.
الإعراب: {قالَ} : ماض، وفاعله يعود إلى يوسف عليه السلام. {رَبِّ}: منادى حذفت منه أداة النداء، وانظر ما يجوز فيه من أوجه الإعراب في الآية رقم [4]. {السِّجْنُ}: مبتدأ. {أَحَبُّ} :
خبره. {إِلَيَّ} : متعلقان ب {أَحَبُّ} . {مِمّا} : جار ومجرور متعلقان ب {أَحَبُّ} أيضا، و (ما) تحتمل الموصولة، والموصوفة، فهي مبنية على السكون في محل جر ب (من). {يَدْعُونَنِي}: مضارع مبني على السكون لاتصاله بنون النسوة التي هي فاعله، والنون للوقاية، وياء المتكلم مفعول به.
{إِلَيْهِ} : متعلقان بالفعل {يَدْعُونَنِي،} والجملة الفعلية هذه صلة (ما)، أو صفتها، والعائد أو الرابط الضمير المجرور محلاّ ب {إِلَيْهِ،} والجملة الاسمية: {السِّجْنُ..} . إلخ مع الجملة الندائية قبلها في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالَ رَبِّ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها. {وَإِلاّ} :
الواو: حرف عطف أو هي زائدة لتحسين اللفظ. (إن لا) إن: حرف شرط جازم. (لا): نافية.
{تَصْرِفْ} : مضارع فعل الشرط، والفاعل مستتر تقديره:«أنت» . {عَنِّي} : متعلقان بما قبلهما.
{كَيْدَهُنَّ} : مفعول به، والهاء في محل جر بالإضافة، والنون علامة جمع الإناث، وجملة:
{تَصْرِفْ..} . إلخ لا محل لها؛ لأنها ابتدائية ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي. {أَصْبُ} :
مضارع جواب الشرط مجزوم، وعلامة جزمه حذف حرف العلة من آخره، وهو الواو، والضمة قبلها دليل عليها، والفاعل مستتر تقديره:«أنا» ، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها جملة جواب الشرط، ولم تقترن بالفاء، ولا ب «إذا» الفجائية. {إِلَيْهِنَّ}: متعلقان بالفعل قبلهما، و (إن) ومدخولها في محل نصب مقول القول. {وَأَكُنْ}: الواو: حرف عطف. (أكن): مضارع ناقص معطوف على جواب الشرط مجزوم مثله، واسمه مستتر تقديره:«أنا» . {مِنَ الْجاهِلِينَ} : متعلقان بمحذوف خبر (أكن)، وجملة:{وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ} معطوفة على ما قبلها لا محل لها مثلها.
{فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (34)}
الشرح: {فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ} : فأجاب الله دعاءه الذي تضمنه قوله: {وَإِلاّ تَصْرِفْ..} . إلخ ولطف به، وعصمه من الوقوع في الزنى، {فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ}: حيث ثبته ربه بالعصمة؛ حتى وطن نفسه على مشقة السجن، وأثرها على اللذة المتضمنة للعصيان، وانظر المراد من:
{كَيْدَهُنَّ} في الآية السابقة، ولماذا جمع الضمير. {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ}: لدعاء الملتجئين إليه.
{الْعَلِيمُ} : بأحوالهم وما يصلحهم.
في الآية الكريمة دليل على أنه لا يقدر أحد عن الانصراف عن المعصية إلا بعصمة الله ولطفه به، اللهم تولّني بعنايتك ورعايتك، واحفظني، وعقبي، وجميع المؤمنين، والمؤمنات من الوقوع في الفواحش، والمنكرات، فإنك خير مسئول يا أرحم الراحمين، هذا؛ والسين والتاء زائدتان بالفعل استجاب؛ لأنه بمعنى أجاب، قال كعب بن سعد الغنوي في رثاء أخيه:[الطويل]
وداع دعا يا من يجيب إلى النّدى
…
فلم يستجبه عند ذاك مجيب
الإعراب: {فَاسْتَجابَ} : الفاء: حرف استئناف. (استجاب): ماض. {لَهُ} : متعلقان به.
{رَبُّهُ} : فاعله، والهاء في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه والجملة الفعلية مستأنفة لا محل لها. (صرف): ماض، وفاعله يعود إلى {رَبُّهُ،} {عَنْهُ} :
متعلقان بالفعل قبلهما. {كَيْدَهُنَّ} : مفعول به، والهاء في محل جر بالإضافة، والنون علامة جمع الإناث، وجملة: (صرف
…
) إلخ معطوفة على ما قبلها لا محل لها مثلها. {إِنَّهُ} :
حرف مشبه بالفعل، والهاء اسمها. {هُوَ}: ضمير فصل لا محل له، أو هو توكيد لاسم (إن) على المحل، وعلى هذين الوجهين ف {السَّمِيعُ} خبر أول ل (إنّ)، والعليم خبر ثان، هذا؛ وإن اعتبرت {هُوَ} مبتدأ، فيكون {السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} خبرين له، وعليه فالجملة الاسمية:{هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} في محل رفع خبر إن، والجملة الاسمية:{إِنَّهُ هُوَ..} . إلخ تعليلية لا محل لها.
{ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتّى حِينٍ (35)}
الشرح: {ثُمَّ بَدا لَهُمْ} أي: للعزيز، وقطفير، وأصحابه في الرأي، وذلك أنهم أرادوا أن يقتصروا من أمر يوسف على الإعراض، وكتم الحال، وقد ألحت زليخا على زوجها، وقالت له:
إن العبد العبراني قد فضحني؛ يقول للناس: إني قد راودته عن نفسه، فإما أن تأذن لي، فأخرج، فأعتذر إلى الناس، وإما أن تحبسه، فرأى حبسه:{مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ} أي: الدالة على صدق يوسف عليه السلام وبراءته، من قد القميص من دبر، وكلام الطفل، وقطع النساء أيديهن، وذهاب
عقولهن عند رؤيته. {لَيَسْجُنُنَّهُ حَتّى حِينٍ} أي: إلى مدة يرون رأيهم فيها، وقال عطاء: إلى أن تنقطع مقالة الناس. انتهى. وهذا هو المعتمد. هذا؛ وقرئ: «(عتى حين)» بقلب الحاء عينا، وهي لغة هذيل، وثقيف في {حَتّى،} والحين: الوقت قليلا، كان، أو كثيرا، والمدة من الزمن قصيرة كانت أو طويلة، وجمعه: أحيان. وجمع الجمع: أحايين، وانظر ما ذكرته في الآية رقم [25] من سورة (إبراهيم) عليه السلام، وهو بكسر الحاء، وأما بفتحها؛ فهو الهلاك والموت.
هذا؛ وأصل رأوا: (رأى) فلما اتصل به واو الجماعة صار (رءاوا) فالتقى ساكنان:
الألف والواو، فحذفت الألف لالتقاء الساكنين، ثم حركت الواو بالضمة لالتقائها ساكنة مع ما بعدها، ولم تحرك بالكسرة؛ لأن الكسرة لا تناسبها، وقيل: حركت بالضم دون غيره، ليفرق بين الواو الأصلية، وبين واو الجماعة في نحو قولك:(لو اجتهدت؛ لنجحت) وقيل:
ضمت لأن الضمة هنا أخف من الكسرة؛ لأنها من جنس الواو، وقيل: حركت بحركة الياء المحذوفة، وقيل: غير ذلك، وأصل {لَيَسْجُنُنَّهُ}:(بسجن)، فاتصل به واو الجماعة فصار (يسجنون)، فاتصل به نون التوكيد الثقيلة، فصار (ليسجنوننّه) فحذفت النون التي هي علامة الرفع لتوالي النونات، فصار (ليسجنونّه) فحذفت الواو لالتقاء الساكنين، وبقيت الضمة على النون قبلها دليلا عليها، فصار {لَيَسْجُنُنَّهُ،} هذا؛ وقرئ «(لتسجننه)» بالتاء، ولا يتغير الإعلال والإعراب، وقرئ:«(عتى)» بلغة هذيل.
الإعراب: {ثُمَّ} : حرف عطف. {بَدا} : ماض مبني على فتح مقدر على الألف. {لَهُمْ} :
متعلقان به. {مِنْ بَعْدِ} : متعلقان بالفعل قبلهما. {ما} : مصدرية. {رَأَوُا} : ماض مبني على فتح مقدر على الألف المحذوفة لالتقاء الساكنين، والواو فاعله، والألف للتفريق، {الْآياتِ}:
مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الكسرة
…
إلخ، و (ما) والفعل بعدها في تأويل مصدر في محل جر بالإضافة، التقدير: من بعد رؤيتهم الآيات. {لَيَسْجُنُنَّهُ} : اللام: واقعة في جواب قسم محذوف (يسجننه): مضارع مرفوع، وعلامة رفعه النون المحذوفة لتوالي الأمثال، وواو الجماعة المحذوفة المدلول عليها بالضمة فاعله، والنون للتوكيد حرف لا محل له، والهاء مفعول به. {حَتّى حِينٍ}: متعلقان بالفعل قبلهما، وحتى بمعنى إلى، وجملة:{لَيَسْجُنُنَّهُ..} . إلخ جواب قسم محذوف لا محل لها. بعد هذا في فاعل {بَدا} ثلاثة أوجه، أحدها: هو محذوف دل عليه الكلام بعده، التقدير: ثم بدا لهم سجنه، وعليه فالقسم وجوابه معمول لقول مضمر، وذلك القول المضمر في محل نصب على الحال، أي: قائلين: والله ليسجننه، والثاني: أن الفاعل مضمر، وهو مصدر {بَدا،} أي: بدا لهم بداء، فأضمر، وقيل: المعنى: ثم بدا لهم رأي: لم يكونوا يعرفونه، وحذف هذا لأن في الكلام دليلا عليه، هذا؛ وأجاز هشام وثعلب -وهما كوفيان-اعتبار الجملة القسمية فاعلا للفعل:{بَدا،} انظر الشاهد رقم [793] من كتابنا:
«فتح القريب المجيب» والكلام عليه.
وقال ابن هشام في المغني: ويجوز أن يكون {لَيَسْجُنُنَّهُ} جوابا ل {بَدا؛} لأن أفعال القلوب، لإفادتها التحقيق تجاب بما يجاب به القسم، قال:[الكامل]
ولقد علمت لتأتينّ منيّتي
…
إنّ المنايا لا تطيش سهامها
وهذا هو الشاهد رقم [750] من كتابنا: «فتح القريب المجيب» .
الشرح: {وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ} أي: غلامان كانا للوليد ملك مصر، أحدهما: خبازه، والآخر: صاحب شرابه، وكان قد غضب عليهما الملك فحبسهما، والسبب في ذلك: أن جماعة من أشراف مصر أرادوا قتله، فضمنوا لهذين الغلامين مالا على أن يسمّا الملك في طعامه وشرابه، فأجابا إلى ذلك، ثم إن الساقي ندم، فرجع عن ذلك، وقبل الخباز الرشوة، وسم الطعام، فلما حضر الطعام والشراب بين يدي الملك، قال الساقي: لا تأكل أيها الملك؛ فإن الطعام مسموم، وقال الخباز: لا تشرب؛ فإن الشراب مسموم، فقال للساقي: اشرب فشربه، فلم يضره، وقال للخباز: كل من طعامك، فأبى، فأطعم منه دابة فهلكت، فأمر الملك بحبسهما، فحبسا مع يوسف، وكان يوسف عليه السلام لما دخل السجن جعل ينشر علمه، ويقول: إني أعبر الأحلام، فقال أحد الغلامين لصاحبه: هلم فلنجرب هذا الغلام العبراني، فتراءيا له رؤيا، فسألاه من غير أن يكونا قد رأيا شيئا، وقيل: بل كانا قد رأيا رؤيا حقيقية، فرآهما يوسف مهمومين، فسألهما عن شأنهما، فذكرا أنهما غلامان للملك، وقد حبسهما، وقد رأيا رؤيا قد غمتهما، فقال: قصا علي ما رأيتما، فقصّا عليه ما رأياه. قال أحدهما-وهو صاحب شراب الملك- {إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً}: إني رأيت في المنام أعصر عنبا، وهو حكاية حال ماضية، وسمي العنب خمرا باسم ما يؤول إليه.
وقال الآخر: أي: الخباز. {إِنِّي أَرانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ} أي: رأيت في المنام أني حامل فوق رأسي خبزا، والطير تنهش منه. {نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ}: خبرنا بتفسير ما رأينا، وما يؤول إليه أمر هذه الرؤيا، {إِنّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} أي: من العالمين بتعبير الرؤيا. ويكون الإحسان بمعنى العلم، وقال الضحاك: إحسانه كان إذا مرض إنسان في السجن؛ عاده، وقام عليه، وإذا ضاق على أحد؛ وسع عليه، وإذا احتاج أحد جمع له شيئا، وكان مع هذا يجتهد في العبادة؛ يصوم النهار، ويقوم الليل كله للصلاة، فأحبه أهل السجن لذلك.
بعد هذا انظر شرح (أحد) في الآية رقم [18] من سورة (هود)، وشرح القول في الآية [18] منها، وشرح {أَنْباءِ} في الآية [120] منها أيضا، وانظر الفتى في الآية رقم [62] الآتية، هذا؛ و {الطَّيْرُ} اسم جمع مثل: خيل، وغنم، وقيل: بل هو جمع: طائر، مثل صحب وصاحب، ويصح إطلاقه على المفرد، والمثنى، والجمع، والمذكر، والمؤنث، وجمع الطير: طيور، وأطيار، مثل: فرخ، وفروخ، وأفراخ، وقال قطرب، وأبو عبيدة: الطير قد يقع أيضا على الواحد، كما في قوله تعالى:{فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللهِ} وطائر الإنسان عمله الذي قلده، قال تعالى:{وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ} والطير أيضا: الاسم من التطير، ومنه قولهم: لا طير إلاّ طير الله، كما يقال: لا أمر إلا أمر الله. انتهى. مختار.
الإعراب: {وَدَخَلَ} : الواو: حرف عطف. (دخل): ماض. {مَعَهُ} : ظرف مكان متعلق بالفعل قبله، والهاء في محل جر بالإضافة. {السِّجْنَ}: مفعول به. {فَتَيانِ} : فاعل (دخل) مرفوع، وعلامة رفعه الألف نيابة عن الضمة؛ لأنه مثنى، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، وجملة: (دخل
…
) إلخ معطوفة على ما قبلها لا محل لها أيضا. {قالَ} : ماض.
{أَحَدُهُما} : فاعله، والهاء في محل جر بالإضافة، والميم والألف حرفان دالان على التثنية.
{إِنِّي} : حرف مشبه بالفعل، والياء اسمها. {أَرانِي}: مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر، والفاعل مستتر تقديره:«أنا» ، والنون للوقاية، وياء المتكلم مفعول به أول.
{أَعْصِرُ} : مضارع، والفاعل مستتر تقديره:«أنا» . {خَمْراً} : مفعول به، وجملة:{أَعْصِرُ خَمْراً} في محل نصب مفعول به ثان، والجملة الفعلية:{أَرانِي..} . إلخ في محل رفع خبر (إن) والجملة الاسمية: {إِنِّي..} . إلخ في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالَ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها.
{وَقالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرانِي أَحْمِلُ} إعراب هذه الكلمات مثل إعراب ما قبلها. {فَوْقَ} : ظرف مكان متعلق بالفعل قبله، وأجيز تعليقه بمحذوف حال من:{خُبْزاً،} كان صفة له، فلما قدم عليه صار حالا على القاعدة:«نعت النكرة إذا تقدم عليها صار حالا» و {فَوْقَ} : مضاف، و {رَأْسِي}:
مضاف إليه مجرور، وعلامة جره كسرة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة المناسبة، والياء في محل جر بالإضافة. {خُبْزاً}: مفعول به. {تَأْكُلُ} : مضارع.
{الطَّيْرُ} : فاعله. {مِنْهُ} : متعلقان بالفعل قبلهما، وجملة:{تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ} في محل نصب صفة: {خُبْزاً،} وجملة: {وَقالَ الْآخَرُ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها لا محل لها مثلها. {نَبِّئْنا} :
أمر، وفاعله (أنت)، و (نا): مفعوله الأول. {بِتَأْوِيلِهِ} : متعلقان بالفعل قبلهما، وهما في محل نصب مفعوله الثاني، والهاء في محل جر بالإضافة، وجملة:{نَبِّئْنا..} . إلخ في محل نصب مقول القول. {إِنّا} : حرف مشبه بالفعل، و (نا): اسمها. {نَراكَ} : مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر، والفاعل مستتر تقديره «نحن» والكاف مفعول به. {مِنَ الْمُحْسِنِينَ}: متعلقان بالفعل قبلهما، وجملة:{نَراكَ..} . إلخ في محل رفع خبر (إن) والجملة الاسمية: {إِنّا..} . إلخ تعليل للأمر لا محل لها، وهي بدورها في محل نصب مقول القول.
تنبيه: لقد عوملت (رأى) الحلمية هنا معاملة «رأى» العلمية في التعدي إلى مفعولين، كما تعدت بهمزة التعدية إلى الثالث، كما تعدى إلى الثالث، وذلك في قوله تعالى:{إِذْ يُرِيكَهُمُ اللهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ} الآية رقم [44] من سورة (الأنفال)، كما عوملت الحلمية معاملة العلمية في اتحاد فاعلها ومفعولها، وهما ضميران متصلان وللمتكلم، وهذا لا يجوز في غير باب علم، وحسب وفقد، تنبه لذلك واحفظه؛ فإنه جيد.
الشرح: {قالَ لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ} أي: لا يأتيكما طعام من منازلكما تأكلانه في ليل أو في نهار إلا أخبرتكما بقدره، ولونه، والوقت الذي يصل إليكما فيه، وهذا مثل معجزة عيسى عليه السلام حيث قال:{وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ} الآية رقم [49] من سورة (آل عمران). {قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما} : قبل أن يصل إليكما ذلك الطعام. {ذلِكُما مِمّا عَلَّمَنِي رَبِّي} أي:
إن ما أخبركما به إنما هو من تعليم الله إلي، وفضله عليّ بالإلهام والوحي، وليس من قبيل السحر، والكهانة، والتنجيم. {إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ}: المراد ب {قَوْمٍ} العزيز وأهل بيته الذين عاشرهم وعاش معهم هذه المدة الطويلة، وقد كانوا على الكفر، وكان يوسف بينهم مقيما على التوحيد، والإيمان الصحيح. {وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ} أي: وهم لا يعتقدون بالآخرة، وما فيها من الحساب، والجزاء، والجنة، والنار.
(أتى): وهو يستعمل لازما، إن كان بمعنى: حضر، وأقبل، ومتعديا إن كان بمعنى: وصل، وبلغ، فمن الأول قوله تعالى:{أَتى أَمْرُ اللهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ} ومن الثاني الآية الكريمة، ومثلها كثير، والمراد بالآخرة: الحياة الثانية التي تكون بعد الموت، ثم بعد البعث، والحساب، ودخول الجنة، والخلود فيها، ودخول النار، والخلود فيها، انظر {كَفُورٌ} في الآية [9] من سورة (هود)، هذا؛ والكفر: ستر الحق بالجحود والإنكار، وكفر فلان النعمة، يكفرها كفرا وكفورا، وكفرانا، إذا جحدها وسترها وأخفاها، وكفر الشيء: غطاه وستره، وسمي الكافر كافرا؛ لأنه يغطي نعم الله بجحدها، وعبادته غيره، وسمي الزارع كافرا؛ لأنه يلقي البذر في الأرض، ويغطيه ويستره بالتراب، قال تعالى في تشبيه حال الدنيا:{كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفّارَ نَباتُهُ} وسمي الليل كافرا؛ لأنه يستر كل شيء بظلمته، قال لبيد بن ربيعة الصحابي-رضي الله عنه-في معلقته:[الكامل]
حتّى إذا ألقت يدا في كافر
…
وأجنّ عورات الثّغور ظلامها
{مِلَّةَ قَوْمٍ} : طريقتهم، وديانتهم، وهي بكسر الميم، وهي بفتح الميم: الرماد الحار.
الإعراب: {قالَ} : ماض، والفاعل يعود إلى يوسف تقديره:«هو» . {لا} : نافية.
{يَأْتِيكُما} : مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل، والكاف مفعول به،
والميم والألف حرفان دالان على التثنية. {طَعامٌ} : فاعل. {تُرْزَقانِهِ} : مضارع مبني للمجهول مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون، وألف الاثنين نائب فاعله، وهو المفعول الأول، والهاء مفعوله الثاني، والجملة الفعلية في محل رفع صفة:{طَعامٌ،} وجملة: {لا يَأْتِيكُما..} . إلخ في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالَ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها. {إِلاّ} : حرف حصر.
{نَبَّأْتُكُما} : فعل وفاعل ومفعوله الأول، والميم والألف حرفان دالان على التثنية. {بِتَأْوِيلِهِ}:
متعلقان بالفعل قبلهما، وهما في محل نصب مفعوله الثاني، والهاء في محل جر بالإضافة.
{قَبْلَ} : ظرف زمان متعلق بالفعل (نبأ)، و {قَبْلَ}: مضاف، والمصدر المؤول من {أَنْ يَأْتِيَكُما} في محل جر بالإضافة، وجملة:{نَبَّأْتُكُما..} . إلخ في محل نصب حال مستثنى من عموم الأحوال، وهي على تقدير (قد) قبلها. {ذلِكُما}: اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع مبتدأ، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب لا محل له، والميم والألف
…
إلخ. {مِمّا} :
متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ، و (ما) تحتمل الموصولة، والموصوفة، والمصدرية. {عَلَّمَنِي}:
ماض، والنون للوقاية، وياء المتكلم مفعول به. {رَبِّي}: فاعل مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم.. إلخ، والياء في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه، والجملة الفعلية صلة (ما)، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف، وتقدير الكلام: من الذي، أو من شيء علمني إياه ربي، وعلى اعتبار (ما) مصدرية تؤول مع الفعل بعدها بمصدر في محل جر ب (من)، التقدير: ذلكما من تعليم ربي إياي، والجملة الاسمية مستأنفة، وهي في محل نصب مقول القول. {إِنِّي}: حرف مشبه بالفعل، وياء المتكلم اسمها. {تَرَكْتُ}:
فعل وفاعل. {مِلَّةَ} : مفعول به، وهو مضاف، و {قَوْمٍ}: مضاف إليه، وجملة:{لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ} في محل جر صفة: {قَوْمٍ،} وجملة: {تَرَكْتُ..} . إلخ في محل رفع خبر (إنّ)، والجملة الاسمية:{إِنِّي..} . إلخ مستأنفة، وهي في محل نصب مقول القول. {وَهُمْ}: الواو: حرف عطف. (هم): ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {بِالْآخِرَةِ} : متعلقان ب {كافِرُونَ} بعدهما. {هُمْ} : ضمير فصل مؤكد لسابقه. {كافِرُونَ} : خبر المبتدأ مرفوع، وعلامة رفعه الواو نيابة عن الضمة؛ لأنه جمع مذكر سالم.. إلخ، والجملة الاسمية:{هُمْ..} .
إلخ معطوفة على الجملة الفعلية قبلها، ومؤكدة لها، فهي في محل جر مثلها.
الشرح: {وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي..} . إلخ: واتبعت طريقة آبائي الأنبياء الأصفياء، وانظر أعمارهم في الآية رقم [71] من سورة (هود). وانظر الحديث الشريف في الآية رقم [4]. {ما}
{كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللهِ مِنْ شَيْءٍ} : ما صح وما جاز لنا معاشر الأنبياء أن نتخذ مع الله إلها، أو نجعل له ندّا في العبادة، بعد أن اختارنا لنبوته، واصطفانا لرسالته، وإنما ذكر ذلك لتقوى رغبتهما في الاستماع إليه، والوثوق به، فأظهر أنه من أهل بيت النبوة، وأن آباءه كلهم أنبياء، لهم الدرجة العليا في الدنيا عند الخلق، والمنزلة الرفيعة في السماء في الآخرة، ولذلك جوز للخامل المغمور أن يصف نفسه حتى يعرف، فيقتبس منه، وينتفع الناس به.
{ذلِكَ مِنْ فَضْلِ اللهِ عَلَيْنا وَعَلَى النّاسِ} أي: ذلك التوحيد وعدم الإشراك، والنبوة، والعلم الذي رزقنا من فضل الله، وكرمه علينا، وعلى الناس؛ حيث اختارنا لإرشادهم، وتبيين طرق الخير والهداية لهم. {وَلكِنَّ أَكْثَرَ النّاسِ}: المبعوث إليهم الرسل. {لا يَشْكُرُونَ} : هذا الفضل، فيعرضون عنه، ولا ينتبهون له، هذا؛ وانظر شرح {شَيْءٍ} في الآية رقم [4] من سورة (هود). هذا؛ والفعل:(شكر) يتعدى بنفسه، وبحرف الجر، تقول: شكرته وشكرت له، كما تقول: نصحته ونصحت له، والشكر: صرف العبد جميع ما أنعم الله فيما خلق لأجله، هذا؛ ومن أسماء الله «الشكور» ، ومعناه هو الذي يجازي على يسير الطاعات كثير الدرجات ويعطي بالعمل في أيام معدودة نعما في الآخرة غير محدودة.
{النّاسِ} : اسم جمع لا واحد له من لفظه كالقوم والرهط إلخ، واحده: إنسان من غير لفظه، انظر الآية [12] من سورة (يونس) عليه السلام، وهو يطلق على الإنس والجن، ولكن غلب استعماله في الإنس، قال تعالى:{مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الْخَنّاسِ (4) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النّاسِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنّاسِ} وأصله: الأناس، حذفت منه الهمزة تخفيفا على غير قياس، وحذفها مع لام التعريف كاللازم، لا يكاد يقال: الأناس، وقد نطق القرآن الكريم بهذا الأصل، ولكن بدون لام التعريف، قال تعالى:{يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ} وقيل: إن أصله: النّوس، ولم يحذف منه شيء، وإنما قلبت الواو ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها.
الإعراب: {وَاتَّبَعْتُ} : الواو: حرف عطف. (اتبعت): فعل وفاعل. {مِلَّةَ} : مفعول به، وهو مضاف، و {آبائِي}: مضاف إليه مجرور، وعلامة جره كسرة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم إلخ، والياء في محل جر بالإضافة. {إِبْراهِيمَ}: بدل مما قبله، بدل بعض من كل مجرور مثله، وعلامة جره الفتحة نيابة عن الكسرة؛ لأنه ممنوع من الصرف للعلمية والعجمة.
{وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ} : معطوفان على {إِبْراهِيمَ،} وعلامة الجر فيهما مثله، وجملة: (اتبعت
…
) إلخ معطوفة على جملة: {تَرَكْتُ..} . إلخ فهي في محل رفع مثلها. {ما} : نافية. {كانَ} :
ماض ناقص. {لَنا} : متعلقان بمحذوف خبر {كانَ} تقدم على اسمها، والمصدر المؤول من {أَنْ نُشْرِكَ بِاللهِ} في محل رفع خبر {كانَ} مؤخر. {مِنْ}: حرف جر صلة. {شَيْءٍ} : مفعول به منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على آخره، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف
الجر الزائد، وجملة:{ما كانَ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها. {ذلِكَ} : اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع مبتدأ، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب. {مِنْ فَضْلِ}: متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ، و {فَضْلِ}: مضاف، و {بِاللهِ}: مضاف إليه، من إضافة المصدر لفاعله.
{عَلَيْنا} : متعلقان ب {فَضْلِ،} وهما مفعوله في المعنى. {وَعَلَى النّاسِ} : معطوفان على ما قبلهما، والجملة الاسمية مستأنفة لا محل لها، وهي مع ما قبلها من مقول يوسف عليه السلام {وَلكِنَّ أَكْثَرَ النّاسِ لا يَشْكُرُونَ} انظر إعراب مثل هذه الجملة في الآية رقم [21] وهي معطوفة على ما قبلها.
{يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْواحِدُ الْقَهّارُ (39)}
الشرح: {يا صاحِبَيِ السِّجْنِ} أي: يا ساكني السجن، وذكر الصحبة لطول مقامهما فيه، كقوله تعالى:{أَصْحابُ الْجَنَّةِ،} {أَصْحابُ النّارِ} . أو أضافهما إلى السجن على الاتساع في الظرف، كقوله:(يا سارق الليلة أهل الدار). {أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ} أي: آلهة شتى من ذهب، وفضة، وخشب، وحديد إلخ، وصغير، وكبير، ومتوسط، وهي مع ذلك لا تضر، ولا تنفع، وإنما جمعت الأرباب جمع مذكر سالما مع أنها من الجمادات؛ لأنهم يعاملونها معاملة من يعقل من سؤالهم لها حوائجهم، وتذللهم لها، والعرب تجمع ما لا يعقل جمع من يعقل إذا أنزلوه منزلته، وإن كان خارجا عن الأصل، وهو كثير في القرآن الكريم، وانظر الآية رقم [4]. {خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْواحِدُ الْقَهّارُ} أي: أهذه الأصنام التي تعبدونها أحق في العبادة، والتقديس والتعظيم، أم الله المتصف بصفات الكمال والقهر والغلبة لكل موجود في الدنيا، هذا؛ والأصنام المعبودة في الباطل لا خيرية فيها، وإنما خاطبهم بذلك مجاراة لهم على زعمهم: أن فيها خيرا، وأن عبادتها تنفعهم، وتدفع السوء عنهم، وإن كانت في الحقيقة لا خير فيها قطعا.
بعد هذا (صاحبي): تثنية صاحب، وهو هنا بمعنى: الساكن كما رأيت، ويكون بمعنى المالك، كقولك: صاحب الدار، أي: مالكها، ويكون بمعنى الصديق، ويجمع على: أصحاب وصحب وصحابة، وصحاب وصحبة وصحبان، ثم يجمع أصحاب على أصاحيب أيضا، ثم يخفف، فيقال: أصاحب. {خَيْرٌ} : أفعل تفضيل، أصله أخير، نقلت حركة الياء إلى الخاء؛ لأن الحرف الصحيح أولى بالحركة من حرف العلة، ثم حذفت الهمزة استغناء عنها بحركة الخاء، ومثله قل في: حبّ، وشرّ، اسمي تفضيل؛ إذ أصلهما أحبب وأشرر، فنقلت حركة الباء الأولى، والراء الأولى إلى ما قبلهما، ثم أدغم الحرفان المتماثلان في بعضهما، ثم حذفت الهمزة من أولهما، استغناء عنها بحركة الخاء والشين، وقد يستعمل خير، وشر على الأصل، كقراءة بعضهم قوله تعالى:{سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذّابُ الْأَشِرُ} بفتح الشين، ونحو قول رؤبة بن العجاج:[الرجز]
يا قاسم الخيرات، وابن الأخير
…
ما ساسنا مثلك من مؤمّر
{الْواحِدُ} : قال الخطابي: هو الفرد الذي لم يزل وحده، وقيل: هو المنقطع عن القرين والشريك، والنظير، وليس هو كسائر الآحاد من الأجسام المؤلفة؛ لأن ذلك يكثر بانضمام بعضها إلى بعض، والواحد ليس كذلك، فهو الله الواحد الذي لا مثل له، ولا يشبهه شيء من خلقه. {الْقَهّارُ}: قال الخطابي: هو الذي قهر الجبابرة من خلقه بالعقوبة، وقهر العباد كلهم بالموت، وقال غيره: هو الذي قهر كل شيء، وذلله، فاستسلم، وانقاد له، ولا تنس: أن القهار صيغة مبالغة، وانظر شرح:{الْقاهِرُ} في الآية رقم [18] من سورة (الأنعام) تجد ما يسرك.
الإعراب: {يا صاحِبَيِ} : (يا): أداة نداء تنوب مناب أدعو. (صاحبي): منادى منصوب، وعلامة نصبه الياء نيابة عن الفتحة؛ لأنه مثنى، وحذفت النون للإضافة، و (صاحبي): مضاف، و {السِّجْنِ}: مضاف إليه، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {أَأَرْبابٌ}:
الهمزة: حرف استفهام إنكاري. (أرباب): مبتدأ. {مُتَفَرِّقُونَ} : صفته مرفوع
…
إلخ.
{خَيْرٌ} : خبر المبتدأ. {أَمِ} : حرف عطف، وهي معادلة هنا لهمزة الاستفهام. {اللهُ}: مبتدأ، وخبره محذوف لدلالة ما قبله عليه. {الْواحِدُ الْقَهّارُ}: صفتان للفظ الجلالة، أو هما بدلان منه، والآية الكريمة بكاملها من مقول يوسف على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام.
الشرح: {ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ} : من دون الله، وقد خاطبهم بلفظ الجمع، وابتدأ الخطاب بالتثنية؛ لأنه أراد جميع من في السجن، من المشركين، أو أراد أهل مصر كلهم، وانظر العبادة في الآية رقم [62] من سورة (هود). {أَسْماءً}: جمع اسم، انظر إعلاله في بسملة هذه السورة.
{سَمَّيْتُمُوها} أي: آلهة وأربابا، وهي لا تستحق أن تسمى بذلك؛ لأنها جمادات لا تضر، ولا تنفع، وانظر الآية السابقة. {أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ} أي: إن آباءكم سبقوكم إلى تسميتها آلهة فتبعتموهم في ذلك. {ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ} أي: ما أنزل الله بهذه التسمية حجة، ولا برهانا، وانظر الآية رقم [96] من سورة (هود) لشرح {سُلْطانٍ}. {إِنِ الْحُكْمُ إِلاّ لِلّهِ} أي:
الحكم، والقضاء، والأمر، والنهي، كل ذلك لله تعالى، لا يشركه فيه أحد وانظر الآية رقم [67] الآتية. {أَمَرَ أَلاّ تَعْبُدُوا إِلاّ إِيّاهُ}: لأنه هو المستحق للعبادة، لا هذه الأصنام التي سميتموها آلهة. {ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} أي: الحق، وأنتم لا تميزون المعوج من القويم.
قال البيضاوي: وهذا من التدرج في الدعوة وإلزام الحجة، بين لهم أولا رجحان التوحيد على اتخاذ الآلهة على طريق الخطابة، ثم برهن على أن ما يسمّونها آلهة ويعبدونها، لا تستحق الإلهية، فإن استحقاق العبادة، إما بالذات، وإما بالغير، وكلا القسمين منتف عنها، ثم نص على ما هو الحق القويم، والدين المستقيم، الذي لا يقتضي العقل غيره، ولا يرتضي العلم دونه. انتهى. {وَلكِنَّ أَكْثَرَ النّاسِ لا يَعْلَمُونَ}: ذلك فيخبطون في جهالتهم. هذا؛ و {الْقَيِّمُ} أصل (القيوم) فقل في إعلاله: اجتمعت الواو والياء، وسبقت إحداهما بالسكون، فقلبت الواو ياء، وأدغمت الياء في الياء. و {الدِّينُ} اسم لجميع ما يعبد به الله تعالى، و {الدِّينُ} أيضا الملة والشريعة، ومنه قوله تعالى:{ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ} . و {الدِّينُ} الحساب والجزاء ومنه يوم الدين، أي: يوم الحساب والجزاء، ومنه: كما تدين تدان، أي: كما تفعل تجازى، وعن ابن عباس-رضي الله عنهما-قال: يوم الدّين يوم حساب الخلائق، يدينهم بأعمالهم، إن خيرا فخير، وإن شرّا فشر إلا من عفا الله عنه، والأمر أمره، ثم قال:{أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ،} هذا؛ والدّين بفتح الدال: القرض المؤجل، وجمع الأول: أديان، وجمع الثاني: ديون، وأدين، هذا؛ والدينونة: القضاء والحساب، والديانة: اسم لجميع ما يتعبد به الله تعالى.
{دُونِهِ} : من الدنو، وهو القرب، ومنه تدوين الكتب؛ لأنه إدناء، أي: تقريب البعض من البعض، ثم استعير للرتب، فيقال: زيد دون عمرو، أي: في الشرف والسيادة، ثم اتسع فيه، فاستعمل في كل تجاوز حد إلى حد، هذا؛ ويأتي (دون) بمعنى قدام، قال الشاعر:[الطويل]
تريك القذى من دونها، وهي دونه
…
إذا ذاقها من ذاقها يتمطّق
هذا؛ ومثله: (أدنى) وألفه منقلبة عن واو؛ لأنه من دنا، يدنو، إذا قرب، وله معنيان:
أحدهما أن يكون المعنى: ما تقرب قيمته بخساسته، ويسهل تحصيله، والثاني أن يكون بمعنى القريب منكم، لكونه في الدنيا، والذي هو خير ما كان من امتثال أمر الله؛ لأن نفعه متأخر إلى الآخرة، خذ قوله تعالى لليهود اللؤماء:{أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ،} وقيل:
الألف مبدلة من همزة؛ لأنه مأخوذ من دنؤ، يدنؤ، فهو دنيء، والمصدر: الدناءة، وهو من الشيء الخسيس، فأبدلت الهمزة ألفا، وقيل: أصله: أدون، من الشيء الدون، فأخرت الواو، فانقلبت ألفا، فوزنه الآن: أفلع. انتهى. عكبري.
الإعراب: {ما} : نافية. {تَعْبُدُونَ} : مضارع مرفوع
…
إلخ، والواو فاعله. {مِنْ دُونِهِ}:
متعلقان بما قبلهما، والهاء في محل جر بالإضافة. {إِلاّ}: حرف حصر. {أَسْماءً} : مفعول به. {سَمَّيْتُمُوها} : ماض مبني على السكون، والتاء فاعله، والميم علامة جمع الذكور، فتحركت بالضم لتحسين اللفظ، فتولدت واو الإشباع، و (ها): مفعول به أول، والمفعول الثاني محذوف، التقدير: آلهة، والجملة الفعلية في محل نصب صفة:{أَسْماءً} . {أَنْتُمْ} : ضمير منفصل مؤكد
لتاء الفاعل. (آباؤكم): معطوف على تاء الفاعل، والكاف في محل جر بالإضافة. {ما}:
نافية. {أَنْزَلَ اللهُ} : ماض وفاعله. {بِها} : متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من:{سُلْطانٍ} كان صفة له
…
إلخ. {مِنْ} : حرف جر صلة. {سُلْطانٍ} : مفعول به منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على آخره، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد، والجملة الفعلية:{ما أَنْزَلَ..} . إلخ في محل نصب صفة ثانية ل {أَسْماءً،} أو في محل نصب حال منه بعد وصفه بما تقدم. {سُلْطانٍ} : حرف نفي. {الْحُكْمُ} : مبتدأ. {إِلاّ} :
حرف حصر. {اللهُ} : متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ. {أَمَرَ} : ماض، والفاعل يعود إلى الله.
{إِلاّ} : (أن): حرف مصدري ونصب. (لا): نافية. {تَعْبُدُوا} : مضارع منصوب ب (أن)، وعلامة نصبه حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق. {إِلاّ}: حرف حصر. {إِيّاهُ} :
ضمير منفصل مبني على الضم في محل نصب مفعول به، و (أن) والمضارع في تأويل مصدر في محل جر بحرف جر محذوف، والجار والمجرور متعلقان بالفعل {أَمَرَ
…
،} وتقدير الكلام: أمر بعدم عبادة معبود غير الله، والجملة الفعلية:{أَمَرَ..} . إلخ مستأنفة، أو هي في محل نصب حال من لفظ الجلالة، والرابط الضمير فقط، وهي على تقدير (قد) قبلها. {ذلِكَ الدِّينُ}: مبتدأ وخبر.
{الْقَيِّمُ} : صفة: {الدِّينُ،} والجملة الاسمية مستأنفة لا محل لها. {وَلكِنَّ أَكْثَرَ النّاسِ لا يَعْلَمُونَ} انظر إعراب هذه الجملة في الآية رقم [21] ولعلك تدرك معي: أن الآية بكاملها من مقول يوسف عليه السلام. تأمل، وتدبر، وربك أعلم.
الشرح: {يا صاحِبَيِ السِّجْنِ} : لما فرغ يوسف عليه الصلاة والسلام من الدعاء إلى الله وعبادته رجع إلى تعبير رؤيا الغلامين، فناداهما هذا النداء؛ لينتبها لما يقول. {أَمّا أَحَدُكُما}:
وهو الساقي؛ {فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً} أي: فإنه يرجع إلى عمله عند الملك، وهو القيام بصنع شرابه، وتقديمه له. {وَأَمَّا الْآخَرُ}: وهو الخباز، وصاحب طعام الملك؛ {فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ}: قال ابن مسعود رضي الله عنه: فلما سمعا قول يوسف عليه السلام، قالا: ما رأينا شيئا، إنما كنا نلعب، فقال يوسف:{قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ} أي: وجب حكم الله عليكما بالذي سألتما عنه؛ رأيتما شيئا، أم لم تريا.
تنبيه: قال القرطبي-رحمه الله تعالى-: قال علماؤنا: إن قيل من كذب في رؤياه، ففسرها العابر له، أيلزمه حكمها؟ قلنا: لا يلزمه، وإنما كان ذلك في يوسف؛ لأنه نبي، وتعبير النبي حكم، وقد قال: إنه يكون كذا وكذا، فأوجد الله تعالى ما أخبر كما قال تحقيقا لنبوته، فإن
قيل: فقد روى عبد الرزاق عن معمر عن قتادة، قال: جاء رجل إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال: إني رأيت كأني أعشبت، ثم أجدبت، ثم أعشبت، ثم أجدبت، فقال له عمر رضي الله عنه: أنت رجل تؤمن، ثم تكفر، ثم تؤمن، ثم تكفر، ثم تموت كافرا، فقال الرجل:
ما رأيت شيئا، فقال له: قد قضي لك ما قضي لصاحب يوسف؛ قلنا: ليست لأحد بعد عمر؛ لأن عمر كان محدّثا، وإذا تكلم به؛ وقع على ما ورد في أخباره، وهي كثيرة. انتهى.
هذا؛ والتحلم حرام قطعا، وهو يستوجب غضب الله تعالى؛ لأنه كذب على الله، فقد روى الترمذي عن ابن عباس-رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«من تحلّم كاذبا كلّف يوم القيامة أن يعقد بين شعيرتين، ولن يعقد بينهما» . ورواه البخاري كما يلي: «من تحلّم بحلم لم يره كلّف أن يعقد بين شعيرتين، ولن يفعل» . هذا؛ وانظر شرح {قُضِيَ} في الآية رقم [45] من سورة (الأنفال) تجد ما يسرك. هذا؛ و (يسقي) ماضيه: سقى، تقول: سقى الله هذه البلاد الغيث، وأسقاها الغيث، فيكون بالهمز تارة، وبدونها أخرى، وشاهد المهموز: قوله تعالى:
{وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً} وشاهد غير المهموز قوله تعالى: {وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً،} يحتملهما قوله تعالى: {وَسُقُوا ماءً حَمِيماً،} وقوله: {يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25) خِتامُهُ مِسْكٌ} وقد ورد في قول لبيد رضي الله عنه اللغتان جميعا: [الوافر]
سقى قومي بني مجد وأسقى
…
نميرا والقبائل من هلال
ولكنه حذف المفعول الثاني من كليهما، وفرق الأعلم بينهما، فقال: تقول: سقيته ماء إذا ناولته إياه يشربه، وتقول: أسقيته إذا حصلت له سقيا.
الإعراب: {يا صاحِبَيِ السِّجْنِ} : انظر الآية رقم [39]. {أَمّا} : أداة شرط، وتوكيد، وتفصيل، أما كونها أداة شرط؛ لأنها قائمة مقام أداة الشرط وفعله، بدليل لزوم الفاء بعدها؛ إذ الأصل مهما يكن من شيء فإن أحدكما فيسقي
…
إلخ، فأنيبت {أَمّا} مناب (مهما) و (يكن من شيء)، فصار:{أَمّا أَحَدُكُما،} وأما كونها أداة توكيد؛ لأنها تحقق الجواب، وتفيد أنه واقع لا محالة، لكونها علقته على أمر متيقن، وأما كونها أداة تفصيل؛ لأنها في الغالب تكون مسبوقة بكلام مجمل، وهي تفصله، ويعلم ذلك من تتبع مواقعها. {أَحَدُكُما}: مبتدأ، والكاف في محل جر بالإضافة، والميم والألف حرفان دالان على التثنية. {فَيَسْقِي}: الفاء: واقعة في جواب {أَمّا} . (يسقي): مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل، والفاعل مستتر يعود إلى {أَحَدُكُما}. {رَبَّهُ}: مفعول به أول، والهاء في محل جر بالإضافة. من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {خَمْراً}: مفعول به ثان، والجملة الفعلية (يسقي
…
) إلخ في محل رفع خبر المبتدأ. {وَأَمَّا الْآخَرُ} : مبتدأ. {فَيُصْلَبُ} : الفاء: واقعة في جواب (أما).
(يصلب): مضارع مبني للمجهول، ونائب الفاعل يعود إلى {الْآخَرُ،} والجملة الفعلية في محل
رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها، وجملة:{فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ} معطوفة على ما قبلها، فهي في محل رفع مثلها. {قُضِيَ}: ماض مبني للمجهول. {الْأَمْرُ} :
نائب فاعل. {الَّذِي} : اسم موصول مبني على السكون في محل رفع صفة: {الْأَمْرُ} . {فِيهِ} :
متعلقان بما بعدهما. {تَسْتَفْتِيانِ} : مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون والألف فاعله، ومفعوله محذوف، التقدير: تستفتيانني فيه، والجملة الفعلية صلة الموصول لا محل لها، وجملة:{قُضِيَ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها، والآية بكاملها من مقول يوسف على نبينا، وعليه، وعلى جميع الأنبياء والمرسلين ألف صلاة، وألف تسليم.
الشرح: {وَقالَ} أي: يوسف. {لِلَّذِي ظَنَّ} أي: علم وتيقن، فالظن هنا بمعنى اليقين، {أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا} أي: ناج من القتل، وهو الساقي. {اُذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ}: عند سيدك، وهو الملك الأكبر، والرب بمعنى السيد معروف في اللغة، قال الأعشى:[الكامل]
ربّي كريم لا يكدّر نعمة
…
وإذا تنوشد في المهارق أنشدا
ومعنى {اُذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ} أي: قل له: إن في السجن غلاما محبوسا مظلوما طال حبسه. {فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ} : في الضمير قولان: أحدهما أن يعود إلى الساقي، والمعنى أنسى الشيطان الساقي أن يذكر يوسف عند الملك، والقول الثاني أن الضمير يعود إلى يوسف عليه السلام، والمعنى: إن الشيطان أنسى يوسف ذكر ربه حتى طلب الإعانة من مخلوق مثله على دفع الضرر، وتلك غفلة عرضت له، فإن الاستعانة بالمخلوق في دفع الضرر جائزة، لكن لما كان مقام يوسف أعلى المقامات، ورتبته أشرف المراتب، وهي منصب النبوة والرسالة، صار مؤاخذا بذلك؛ لأن حسنات الأبرار سيئات المقربين، وانظر شرح {رَبَّكُمْ} في الآية رقم [3] من سورة (هود)، وشرح {الشَّيْطانُ} في الاستعاذة أول هذه السورة.
{فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ} : لقد اختلفوا في البضع، والأصح أنه ما بين الثلاث إلى التسع، والمراد فيه في هذه الآية سبع سنين، وكان قد لبث قبلها في السجن خمس سنين، فجملة ذلك اثنتا عشرة سنة، قال مالك بن دينار رحمه الله تعالى: لما قال يوسف للساقي: {اُذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ،} قال الله له: يا يوسف اتخذت من دوني وكيلا، لأطيلن حبسك! فبكى، وقال:
يا رب أنسى قلبي ذكرك كثرة البلوى، فقلت: كلمة. وروى أبو سلمة عن أبي هريرة-رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رحم الله يوسف لولا الكلمة الّتي قالها ما لبث في السّجن ما لبث» .
وقيل: إن جبريل عليه السلام دخل السجن، فلما رآه يوسف عرفه، فقال له: يا أخا المنذرين، ما
لي أراك بين الخاطئين، فقال له جبريل: يا طاهر! يا بن الطاهرين، يقرأ عليك السّلام رب العالمين، ويقول لك: أما استحييت مني أن استغثت بالآدميين، فوعزتي وجلالي لألبثنك في السجن بضع سنين! قال يوسف: وهو في ذلك عني راض، قال: نعم، قال: إذن لا أبالي.
هذا؛ و (أنساه) من النسيان، وهو مصدر نسيت الشيء، أنساه، وهو مشترك بين معنيين:
أحدهما: ترك الشيء عن ذهول وغفلة، والثاني عن تعمد وقصد، وما هنا من الأول. وأصل {ناجٍ}: ناجي بكسرة على الياء علامة للجر، أو بضمة علامة للرفع، وبتنوين الصرف، لكن استثقلت الكسرة أو الضمة على الياء بعد كسرة، فسكنت الياء، فالتقى ساكنان: الياء، والتنوين، فحذفت الياء لعلة الالتقاء، وبقيت الجيم مكسورة على ما كانت عليه قبل الإعلال، فقيل: ناج بالكسر، وإنما لم يقل بالرفع؛ لأن الياء محذوفة لعلة الالتقاء، فهي كالثابتة، فتمنع الرفع للجيم، وهكذا قل في إعلال كل اسم منقوص مجرد من ال، والإضافة، سواء كان ثلاثيا أم رباعيا.
الإعراب: {وَقالَ} : الواو: حرف استئناف. (قال): ماض، والفاعل يعود إلى يوسف.
{لِلَّذِي} : متعلقان بما قبلهما. {ظَنَّ} : ماض، والفاعل يعود إلى يوسف أيضا. {أَنَّهُ}: حرف مشبه بالفعل، والهاء اسمه. {ناجٍ}: خبره مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء المحذوفة لالتقاء الساكنين، وفاعله مستتر فيه. {مِنْهُمَا}: متعلقان بمحذوف صفة: {ناجٍ،} أو هما متعلقان بمحذوف حال من: (الذي)، ولا يكونان متعلقين ب {ناجٍ؛} لأن المعنى ليس عليه، بل يختل المعنى، والميم والألف حرفان دالان على التثنية، و (أن) واسمها وخبرها في تأويل مصدر في محل نصب سد مسد مفعولي ظن، وجملة:{ظَنَّ..} . إلخ صلة الموصول لا محل لها.
{اُذْكُرْنِي} : أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» ، والنون للوقاية، وياء المتكلم مفعول به، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول. {عِنْدَ}: ظرف مكان متعلق بالفعل قبله، و {عِنْدَ}: مضاف، و {رَبِّكَ}: مضاف إليه، والكاف في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه، وجملة: (قال
…
) إلخ مستأنفة لا محل لها. {فَأَنْساهُ} :
الفاء: حرف عطف. (أنساه): ماض مبني على فتح مقدر على الألف للتعذر، والهاء مفعول به.
{الشَّيْطانُ} : فاعل. {ذِكْرَ} : مفعول به ثان، وهو مضاف، و {رَبِّهِ}: مضاف إليه، والهاء في محل جر بالإضافة من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه، وجملة: (أنساه
…
) إلخ معطوفة على جملة: (قال
…
) إلخ لا محل لها مثلها. (لبث): ماض، وفاعله يعود إلى يوسف. {فِي السِّجْنِ}: متعلقان بما قبلهما. {بِضْعَ} : ظرف زمان متعلق بما قبله، و {بِضْعَ}:
مضاف، و {سِنِينَ}: مضاف إليه مجرور، وعلامة الجر الياء نيابة عن الكسرة؛ لأنه ملحق بجمع المذكر السالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، وجملة: (لبث
…
) إلخ معطوفة على ما قبلها لا محل لها أيضا.
الشرح: قال الخازن-رحمه الله تعالى-قالوا: فلما انقضت سبع سنين، وهذه السبع سوى الخمس سنين التي كانت قبل ذلك، ودنا فرج يوسف عليه السلام، وأراد الله عز وجل إخراجه من السجن رأى ملك مصر الأكبر، رؤيا عجيبة هالته، وذلك أن رأى في منامه سبع بقرات سمان قد خرجن من البحر، ثم خرج عقيبهن سبع بقرات عجاف في غاية الهزال، فابتلع العجاف السمان، ودخلن في بطونهن، ولم ير منهن شيء، ولم يتبين على العجاف منها شيء، ورأى سبع سنبلات خضر قد انعقد حبها، وسبع سنبلات أخر يابسات قد استحصدت، فالتوت اليابسات على الخضر حتى علون عليهن، ولم يبق من خضرتها شيء، فجمع السحرة والكهنة والمعبرين، وقص عليهم رؤياه التي رآها، فذلك قوله تعالى:{وَقالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرى..} . إلخ. {يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ} أي: يا أيها الأشراف والكبراء والعظماء فسروا لي رؤياي واشرحوها لي. {إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ} أي: إن كنتم تحسنون علم تعبير الرؤيا وتأويلها.
هذا؛ وجمع (الرؤيا) رؤى، وسمي هذا العلم تعبيرا؛ لأن المفسر للرؤيا عابر من ظاهرها إلى باطنها ليستخرج معناها، وفي القرطبي: العبارة: مشتقة من عبور النهر، بمعنى عبرت النهر، وبلغت شاطئه، فعابر الرؤيا يعبر بما يؤول إليه أمرها، هذا؛ وانظر شرح {الْمَلَأُ} في الآية رقم [27] من سورة (هود)، وشرح {أَرى} في الآية نفسها، وإعلال (كنت) في الآية رقم [28] منها. {وَأُخَرَ}: جمع: أخرى التي هي تأنيث آخر. {بَقَراتٍ} : جمع بقرة، وهي تقع على الذكر والأنثى نحو حمامة، ولا صفة تميز الذكر من الأنثى، تقول: بقرة ذكر وبقرة أنثى، وقيل:
بقرة اسم للأنثى خاصة من هذا الجنس، والذكر الثور، نحو: ناقة وجمل، وأتان وحمار، وسمي هذا الجنس بذلك؛ لأنه يبقر الأرض، أي: يشقها بالحرث، ومنه بقر بطنه، هذا؛ وأهل اليمن يسمون البقرة: باقورة، وكتب النبي صلى الله عليه وسلم في كتاب الصدقة لأهل اليمن:«في ثلاثين باقورة بقرة» . انتهى. مختار الصحاح. والباقر: جماعة البقر مع رعاتها، والتبقر: التوسع في العلم، ومنه محمد الباقر لتبقره في العلم، أي: لتبحره وتعمقه فيه.
تنبيه: لقد ذكرت لك في الآية رقم [64] من سورة (يونس): أن البشرى في الحياة الدنيا فسرت بالرؤيا الصالحة يراها المؤمن، أو ترى له، وذكرت هناك حديثين عن النبي صلى الله عليه وسلم انظرهما، وأضيف هنا ما قاله القرطبي رحمه الله تعالى: إن قيل: إذا كانت الرؤيا الصادقة جزءا من النبوة؛ فكيف يكون الكافر والكاذب، والمخلط أهلا لها، وقد وقعت من بعض الكفار، وغيرهم ممن لا يرضى دينه منامات صحيحة صادقة، كمنام رؤيا الملك الذي رأى سبع بقرات، ومنام الفتيين في السجن،
ورؤيا بختنصر التي فسرها دانيال في ذهاب ملكه، ورؤيا كسرى في ظهور النبي صلى الله عليه وسلم ومنام عاتكة عمة النبي صلى الله عليه وسلم في أمره، وهي كافرة؟! والجواب: أن الكافر والفاجر والفاسق والكاذب، وإن صدقت رؤياهم في بعض الأحيان، لا تكون من الوحي، ولا من النبوة؛ إذ ليس كل من صدق في حديث عن غيب يكون خبره ذلك نبوة، ومن المعلوم: أن الكاهن وغيره قد يخبر بكلمة الحق، فيصدق، لكن ذلك على الندور، والقلة، فكذلك رؤيا هؤلاء، قال المهلب: وإنما ترجم البخاري:
(باب رؤيا أهل السجن) لجواز أن تكون رؤيا أهل الشرك رؤيا صادقة، كما كانت رؤيا الفتيين صادقة، إلا أنه لا يجوز أن تضاف إلى النبوة إضافة رؤيا المؤمن إليها؛ إذ ليس كل ما يصح له تأويل من الرؤيا حقيقة يكون جزءا من النبوة. انتهى.
الإعراب: {وَقالَ الْمَلِكُ} : ماض وفاعله. {إِنِّي} : حرف مشبه بالفعل، وياء المتكلم اسمها.
{أَرى} : مضارع مرفوع إلخ، والفاعل مستتر تقديره:«أنا» . {سَبْعَ} : مفعول به، وهو مضاف، و {بَقَراتٍ}: مضاف إليه، {سِمانٍ}: صفة: {بَقَراتٍ،} ويجوز في غير القرآن نصبه على اعتباره نعتا ل {سَبْعَ،} وكذا {خُضْرٍ،} على حد قوله تعالى: {خَلَقَ اللهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً} ولكنه لم يقرأ به. {يَأْكُلُهُنَّ} : مضارع، والهاء مفعول به، والنون حرف دال على جماعة الإناث. {سَبْعَ}:
فاعل. {عِجافٌ} : صفة: {سَبْعَ،} والجملة الفعلية في محل جر صفة ثانية ل {بَقَراتٍ،} أو في محل نصب حال منها بعد وصفها بما تقدم، وإن اعتبرت الجملة في محل نصب مفعول به ثان ل {أَرى،} فلست مفندا؛ لأنها حلمية، انظر ما ذكرته في الآية رقم [36]. وجملة:{أَرى..} . إلخ في محل رفع خبر (إن)، والجملة الاسمية:{إِنِّي..} . إلخ في محل نصب مقول القول، وجملة:
(قال
…
) إلخ معطوفة على ما قبلها أو هي مستأنفة لا محل لها على الاعتبارين. (سبع):
معطوف على مثله، وهو مضاف، و {سُنْبُلاتٍ}: مضاف إليه. {خُضْرٍ} : صفة: {سُنْبُلاتٍ} .
{وَأُخَرَ} : معطوف على (سبع). {يابِساتٍ} : صفة (أخر) منصوب مثله، وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مؤنث سالم. {يا أَيُّهَا}:(يا): حرف نداء ينوب مناب أدعو. (أيها):
(أي): نكرة مقصودة مبنية على الضم في محل نصب بأداة النداء، و (ها): حرف تنبيه لا محل له، وأقحم للتوكيد، وهو عوض عن المضاف إليه. {الْمَلَأُ}: بدل من (أي)، أو عطف بيان عليه، وانظر الآية رقم [88] الآتية. {أَفْتُونِي}: أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والنون للوقاية، وياء المتكلم مفعول به. {فِي رُءْيايَ}: متعلقان بالفعل قبلهما، وعلامة جره كسرة مقدرة على الألف للتعذر، وياء المتكلم في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية، والجملة الندائية كلتاهما في محل نصب مقول القول. {سِمانٍ}: حرف شرط جازم. {كُنْتُمْ} : ماض ناقص مبني على السكون في محل جزم فعل الشرط، والتاء اسمه. {لِلرُّءْيا}: متعلقان بالفعل بعدهما، واللام هي لام التقوية، أي: زائدة، وعليه ف (الرؤيا): مفعول به مقدم، فهو مجرور لفظا منصوب محلاّ،
انظر ما ذكرته في الآية رقم [107] من سورة (هود) عليه السلام. {تَعْبُرُونَ} : مضارع مرفوع
إلخ، والواو فاعله، والجملة الفعلية في محل نصب خبر كان، هذا؛ وجوز اعتبار {لِلرُّءْيا} متعلقين بمحذوف خبر (كان)، وعليه فجملة:{تَعْبُرُونَ} في محل نصب خبر ثان ل (كان) أو هي في محل نصب حال من الضمير المستتر في الجار والمجرور، وجملة:{كُنْتُمْ..} . إلخ لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي، وجواب الشرط محذوف؛ إذ التقدير:
«إن كنتم
…
فأفتوني» والشرط ومدخوله في محل نصب مقول القول.
{قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ (44)}
الشرح: {قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ} أي: تخاليط أحلام، جمع ضغث، وهو في الأصل ما جمع من أخلاط النبات، وحزم ثم استعير لما تجمعه القوة المتخيلة من أحاديث النفس، ووساوس الشيطان، وتراها في المنام، هذا؛ و (الضغث) يكون جنسا واحدا من النبات، أو أجناسا مختلطة، وهو أصغر من الحزمة، وأكبر من القبضة، فمن مجيئه من جنس واحد قوله تعالى:{وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً} . {وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ} : هذا اعتراف من السحرة والكهنة بعجزهم عن تعبير رؤيا الملك؛ التي رآها في منامه، وقد جعل الله تعبير هذه الرؤيا سببا لخلاص يوسف عليه السلام من السجن، وهو ما تراه فيما يأتي، هذا؛ و {الْأَحْلامِ} جمع حلم، بضم الحاء مع ضم اللام وسكونها: ما يراه النائم في منامه، وهو بكسر الحاء وسكون اللام: الأناة والروية في الأمور، والتؤدة، والعقل، ومقابله السفه، والطيش الذي حدثتك عنه كثيرا، و (الحليم) من أسماء الله الحسنى، ومعناه في حقه تعالى: الذي لا يستفزه عصيان العاصي، ولا يستثيره جحود الجاحدين.
الإعراب: {قالُوا} : ماض والواو فاعله، والألف للتفريق. {أَضْغاثُ}: خبر لمبتدإ محذوف، التقدير: هي أضغاث، وهو مضاف، و {أَحْلامٍ}: مضاف إليه، والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالُوا..} . إلخ مستأنفة لا محل لها. {وَما} : الواو: واو الحال. (ما): نافية حجازية تعمل عمل «ليس» . {نَحْنُ} : ضمير منفصل مبني على الضم في محل رفع اسمها. {بِتَأْوِيلِ} : متعلقان ب (عالمين) بعدهما، و (تأويل) مضاف، و {الْأَحْلامِ}:
مضاف إليه. {بِعالِمِينَ} : الباء: حرف جر زائد. (عالمين): خبر (ما) مجرور لفظا، منصوب محلاّ، وإن كانت (ما) تميمية، ف {نَحْنُ} مبتدأ والباء زائدة في الخبر، وعلى الوجهين فالجملة:
{وَما نَحْنُ..} . إلخ في محل نصب حال من واو الجماعة، والرابط: الواو، والضمير، أو هي معطوفة على ما قبلها، فهي في محل نصب مقول القول مثلها، وهو أقوى.
الشرح: {وَقالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما} أي: من القتل والسجن، وهو ساقي الملك. {وَادَّكَرَ} أي:
تذكر يوسف، وقوله:{اُذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ} وأصل الفعل: اذتكر، فوقعت تاء الافتعال بعد الذال، فأبدلت ذالا، فاجتمع متقاربان في المخرج، فأبدل الأول من جنس الثاني وأدغم، وقرأ الحسن «(واذكر)» بالذال، ووجودها بأنه إبدال للتاء من جنس الأولى وأدغم. {بَعْدَ أُمَّةٍ}: بعد مدة من الزمن، وهي سبع سنين كما رأيت، وانظر الآية رقم [8] من سورة (هود) عليه السلام.
{أَنَا أُنَبِّئُكُمْ} : أنا أخبركم. {بِتَأْوِيلِهِ} أي: بتعبير هذه الرؤيا. {فَأَرْسِلُونِ} أي: إلى من عنده علم بتأويله، أو إلى السجن، خاطب الملك بلفظ الجمع على سبيل التعظيم، أو خاطبه وأهل مجلسه من السحرة والكهان.. إلخ، هذا؛ وقرئ:«(بعد إمة)» بكسر الهمزة، أي: بعد نعمة، أي: بعد أن أنعم الله عليه بالنجاة، وقرئ «(بعد أمه)» بفتح الهمزة وتخفيف الميم، وكسر الهاء، أي: بعد نسيان، يقال: أمه، يأمه أمها: إذا نسي، قال الشاعر:[الوافر]
أمهت، وكنت لا أنسى حديثا
…
كذاك الدّهر يؤدي بالعقول
الإعراب: {وَقالَ} : الواو: حرف استئناف. (قال): ماض. {الَّذِي} : اسم موصول مبني على السكون في محل رفع فاعل، وجملة:{نَجا} صلة الموصول، والعائد رجوع الفاعل إليه.
{مِنْهُما} : متعلقان بمحذوف حال من فاعل: {نَجا} المستتر، ولا يصح تعليقهما بالفعل؛ لأن المعنى يختل بذلك. (ادكر): ماض، والفاعل يعود إلى {الَّذِي}. {بَعْدَ}: ظرف زمان متعلق بما قبله، و {بَعْدَ}: مضاف، و {أُمَّةٍ}: مضاف إليه، وجملة: (ادكر
…
) إلخ معطوفة على ما قبلها لا محل لها مثلها، أو هي في محل نصب حال من فاعل {نَجا} المستتر، والرابط: الواو، والضمير، وتكون (قد) قبلها مقدرة. {أَنَا}: ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {أُنَبِّئُكُمْ} : مضارع، والفاعل مستتر تقديره:«أنا» ، والكاف مفعول به، والميم علامة جمع الذكور. {بِتَأْوِيلِهِ}: متعلقان بالفعل قبلهما، وهما في محل نصب مفعوله الثاني، والهاء في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية:{أَنَا..} .
إلخ في محل نصب مقول القول. {فَأَرْسِلُونِ} : الفاء: حرف عطف على رأي: من يجيز عطف الإنشاء على الخبر، وابن هشام يعتبرها للسببية المحضة، وأرى جواز اعتبارها الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن شرط مقدر. (أرسلون): أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والنون للوقاية، وياء المتكلم المحذوفة مفعول به، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها جواب للشرط المقدر؛ إذ التقدير: وإذا كان الأمر كما أقول {فَأَرْسِلُونِ،} وهذا الكلام في محل نصب مقول القول، وجملة: (قال
…
) إلخ معطوفة على ما قبلها لا محل لها مثلها.
الشرح: {يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ} : فهنا كلام محذوف؛ إذ التقدير: فأرسلوه، فأتى يوسف في السجن، وقال: يا يوسف! وإنما وصفه بالصدق وبصيغة المبالغة؛ لأنه لم يجرب عليه كذبا قط، ولأنه صدق في تعبير رؤياه التي رآها في السجن. {أَفْتِنا فِي سَبْعِ..} . إلخ، وهي رؤيا رآها الملك. {لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النّاسِ} أي: أرجع بتأويل هذه الرؤيا إلى الملك، ومن معه، فهم ينتظرون الجواب مني. {لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ}: تأويل هذه الرؤيا منك، فترتفع منزلتك، ويعلو شأنك، وإنما لم يبث الكلام فيهما؛ لأنه لم يكن جازما بالرجوع فيما ذهب إليه.
الإعراب: {يُوسُفُ} : منادى مفرد علم مبني على الضم في محل نصب ب (يا) المحذوفة النائبة مناب أدعو. {أَيُّهَا الصِّدِّيقُ} : انظر إعراب: {يا أَيُّهَا الْمَلَأُ} في الآية [43]. {أَفْتِنا} : أمر مبني على حذف حرف العلة من آخره، وهو الياء، والكسرة قبلها دليل عليها، والفاعل مستتر تقديره:
«أنت» ، و (نا): مفعول به. {فِي سَبْعِ} : متعلقان بالفعل قبلهما، و {سَبْعِ}: مضاف، و {بَقَراتٍ}:
مضاف إليه. {سِمانٍ} : صفة: {بَقَراتٍ،} وجملة: {يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ} في محل جر صفة ثانية ل {بَقَراتٍ،} أو في محل نصب حال منها بعد وصفها بما تقدم، و {وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ}:
معطوف على ما قبله. (أخر): معطوف على (سبع) مجرور مثله، وعلامة جره الفتحة نيابة عن الكسرة؛ لأنه ممنوع من الصرف للصفة والعدل. {يابِساتٍ}: صفة: (أخر). {لَعَلِّي} : حرف مشبه بالفعل، وياء المتكلم اسمها. {أَرْجِعُ}: مضارع، والفاعل مستتر تقديره:«أنا» . {إِلَى النّاسِ} :
متعلقان بالفعل {أَرْجِعُ،} والجملة الفعلية في محل رفع خبر (لعل) والجملة الاسمية: {لَعَلِّي..} .
إلخ تعليل للأمر لا محل لها، وجملة:{لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ} تعليل آخر، وفيها معنى التأكيد لما قبلها، هذا؛ والآية بكاملها في محل نصب مقول القول للقول المقدر، انظر الشرح والتفسير.
الشرح: {قالَ تَزْرَعُونَ..} . إلخ: لما قصّ الساقي على يوسف عليه السلام رؤيا الملك المتقدم ذكرها، قال له: السبع من البقرات السمان والسنبلات الخضر، إنما هي سبع سنين مخصبات، وأما البقرات العجاف والسنبلات اليابسات فسبع سنين مجدبات، وكأن الساقي سأل يوسف عليه السلام عن كيفية تدبير الأمور حين تبدأ السنوات الخصبة، فقال:{تَزْرَعُونَ،} أي:
ازرعوا، فالمضارع خبر بمعنى الأمر، هذا إن لم نقل: إن الآيات الثلاث متضمنة لتعبير الرؤيا،
وبيان كيفية تدبير الأمور، فيكون الكلام خبرا على ظاهره. {دَأَباً}: يقرأ بفتح الهمزة وسكونها، وفسر بمتوالية متتابعة، وفسر بعادتكم في الزراعة، وفسر بازرعوا بجهد واجتهاد، هذا؛ والدأب:
العادة والشأن، والحال، وهو أيضا مصدر: دأب في العمل من باب قطع: إذا جد، واستمر فيه، قال تعالى:{وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ} أي: مستمرين في سيرهما. {فَما حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ} : إنما أمرهم بترك ما حصدوه من الحنطة في سنبله لئلا يفسد، ويقع فيه السوس، وذلك أبقى له على طول الزمان؛ وليكون القصب علفا للدواب. {إِلاّ قَلِيلاً مِمّا تَأْكُلُونَ} أي: ادرسوا قليلا من الحنطة للأكل بقدر الحاجة، واتركوا الأكثر في سنبله لوقت الحاجة أيضا، وهو وقت السنين المجدبة.
الإعراب: {قالَ} : ماض، وفاعله يعود إلى يوسف عليه السلام. {تَزْرَعُونَ}: مضارع مرفوع، والواو فاعله، ومفعوله محذوف يدل عليه المقام. {سَبْعَ}: ظرف زمان، متعلق بالفعل قبله، وهو مضاف، و {سِنِينَ}: مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الياء
…
إلخ. {دَأَباً} :
مفعول مطلق عامله محذوف، التقدير: تدأبون دأبا، وهذه الجملة في محل نصب حال، وقيل:
عامله دل عليه {تَزْرَعُونَ،} أي: فيكون عامله من غير لفظه، مثل (قعد القرفصاء) والأول أقوى، هذا؛ وجوز اعتبار {دَأَباً} حالا، أي: فهو مصدر في موضع الحال، وجملة:{تَزْرَعُونَ..} . إلخ في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالَ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها. {فَما} : الفاء: حرف استئناف. (ما): اسم شرط جازم مبني على السكون في محل نصب مفعول به مقدم.
{حَصَدْتُمْ} : ماض مبني على السكون في محل جزم فعل الشرط، والتاء فاعله، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية. {فَذَرُوهُ}: الفاء: واقعة في جواب الشرط. (ذروه): أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والهاء مفعوله. {فِي سُنْبُلِهِ}: متعلقان بالفعل قبلهما، والهاء في محل جر بالإضافة. {إِلاّ}: أداة استثناء. {قَلِيلاً} : مستثنى ب {إِلاّ} . {مِمّا} : متعلقان بمحذوف صفة: {قَلِيلاً،} و (ما) تحتمل الموصولة، والموصوفة، فهي مبنية على السكون في محل جر ب (من)، والجملة الفعلية بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد أو الرابط محذوف؛ إذ التقدير: من الذي، أو من شيء تأكلونه، وجملة:{فَذَرُوهُ..} . إلخ في محل جزم جواب الشرط، والدسوقي يقول لا محل لها؛ لأنها لم تحل محل المفرد، هذا؛ ويجوز اعتبار:(ما) الأولى موصولة وتكون الجملة بعدها صلتها، والعائد محذوف، التقدير: فالذي حصدتموه، وتكون جملة: (ذروه
…
إلخ) في محل رفع خبره؛ وزيدت الفاء في خبره؛ لأن الموصول يشبه الشرط في العموم، ويحصل إشكال بوقوع الجملة الطلبية خبرا، انظر الآية رقم [15] من سورة (النساء) ففيها بحث كاف شاف، والكلام مستأنف، وهو بدوره في محل نصب مقول القول.
الشرح: {ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ} أي: بعد السنين المخصبة. {سَبْعٌ شِدادٌ} : سبع سنوات مجدبة ممحلة شديدة على الناس. {يَأْكُلْنَ} : يأكل أهلهن. {ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ} أي: ما ادخرتم لأجلهن، فأسند الفعل للسنوات على سبيل المجاز تطبيقا بين المعبر والمعبر به، ونحوه قول القائل:[الطويل]
نهارك يا مغرور سهو وغفلة
…
وليلك نوم، والرّدى لك لازم
والنهار لا يسهو، والليل لا ينام، وإنما يسهى في النهار وينام في الليل. {إِلاّ قَلِيلاً مِمّا تُحْصِنُونَ}: تحرزون لبذور الزراعة، والإحصان: الإحراز، وهو إبقاء الشيء في الحصن بحيث يحفظ ولا يضيع، وانظر شرح (ثم) في الآية رقم [1] من سورة (هود) عليه السلام.
الإعراب: {ثُمَّ} : حرف عطف. {يَأْتِي} : مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل. {مِنْ بَعْدِ}: متعلقان بالفعل قبلهما، و {بَعْدِ}: مضاف، و {ذلِكَ} اسم إشارة مبني على السكون في محل جر بالإضافة، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب لا محل له. {سَبْعٌ}:
فاعل: {يَأْتِي} . {شِدادٌ} : صفة، وقد ذكّر لفظ:{سَبْعٌ؛} لأن المعدود مؤنث، والعدد المحصور بين ثلاثة وتسعة يكون بعكس معدودة في التذكير والتأنيث. {يَأْكُلْنَ}: مضارع مبني على السكون، ونون النسوة فاعله. {ما}: موصولة، أو موصوفة مبنية على السكون في محل نصب مفعول به، والجملة الفعلية بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد أو الرابط محذوف؛ إذ التقدير: يأكلن الذي، أو شيئا قدمتموه. {لَهُنَّ}: متعلقان بالفعل قبلهما، والنون حرف دال على جماعة الإناث، وجملة:
{يَأْكُلْنَ..} . إلخ صفة ثانية ل {سَبْعٌ،} أو في محل نصب حال منه بعد وصفه بما تقدم. {إِلاّ قَلِيلاً مِمّا تُحْصِنُونَ} : إعراب هذه الكلمات مثل إعراب: {إِلاّ قَلِيلاً مِمّا تَأْكُلُونَ} في الآية السابقة، والآية بكاملها معطوفة على ما قبلها، فهي من مقول يوسف عليه السلام.
{ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49)}
الشرح: {ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ} أي: من بعد السنوات المجدبة. {عامٌ فِيهِ يُغاثُ النّاسُ} أي:
يمطرون من (الغيث) الذي هو المطر، وقيل: هو من الغوث، من قولهم: استغثت بفلان، فأغاثني.
{وَفِيهِ يَعْصِرُونَ} أي: يعصرون العنب خمرا، والزيتون زيتا، والسمسم دهنا، المراد به كثرة الخير والنعم على الناس، وكثرة الخصب في الزروع والثمار، هذا؛ وما في هذه الآية خبر من يوسف-على نبينا، وعليه أزكى صلاة وأتم تسليم-عن شيء لم يكن في رؤيا الملك، ولكنه من علم الغيب الذي آتاه الله. قال قتادة: زاده الله علم سنة لم يسألوه عنها، إظهارا لفضله، وإعلاء لشأنه، ولعله اقتبسه من سنة الله في خلقه على أنه يوسع على عباده بعد ما ضيق عليهم. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.
الإعراب: {ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ} : هو مثل الآية السابقة في إعرابها. {فِيهِ} : متعلقان بما بعدهما. {يُغاثُ} : مضارع مبني للمجهول. {النّاسُ} : نائب فاعله، والجملة الفعلية في محل رفع صفة:{عامٌ} . (فيه): متعلقان بما بعدهما. {يَعْصِرُونَ} : مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون.. إلخ، والواو فاعله، والفعل يقرأ بتاء المضارعة أيضا، كما يقرأ بالبناء للمجهول، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، فهي في محل رفع مثلها، والآية الكريمة بكاملها معطوفة على ما قبلها، فهي من مقول يوسف عليه السلام.
الشرح: {وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ} : وذلك أن الساقي رجع إلى الملك، وأخبره بما عبر به يوسف رؤياه، فعرف: أن الذي قاله كائن لا محالة، فأراد أن يراه، فطلب حضوره إليه، فرجع الساقي إلى يوسف، وقال له: أجب الملك، فذلك قوله تعالى:{فَلَمّا جاءَهُ الرَّسُولُ} ولكنه أبى أن يخرج معه حتى تظهر براءته للملك ولأعوانه مما رمي به، ولا يراه بعين النقص، وليعلم الملك: أنه سجن ظلما. {قالَ} أي: يوسف. {اِرْجِعْ إِلى رَبِّكَ} أي: إلى سيدك، وهو الملك. {فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ اللاّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ} اذكر النساء جملة ليدخل امرأة العزيز فيهن مدخل العموم بالتلويح حتى لا يقع عليها تصريح، وذلك حسن عشرة وأدب، وفي الكلام محذوف، أي: فاسأله أن يتعرف حال النسوة، قال ابن عباس-رضي الله عنهما: فأرسل الملك إلى النسوة، وإلى امرأة العزيز، وكان العزيز قد مات. {إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ} أي:
إن الله تعالى عالم بصنيعهن، وما احتلن في هذه الواقعة من الحيل العظيمة حين قلن لي: أطع مولاتك، وفيه تعظيم كيدهن، والاستشهاد بعلم الله عليه، وعلى أنه بريء مما قذف به، والوعيد لهن على كيدهن.
وفي النسفي-: وقال نبينا صلى الله عليه وسلم: «لقد عجبت من يوسف، وكرمه، وصبره، والله يغفر له، حين سئل عن البقرات العجاف، والسمان، ولو كنت مكانه ما أخبرتهم حتى اشترط أن يخرجوني، ولقد عجبت منه حين أتاه الرسول، فقال: {اِرْجِعْ إِلى رَبِّكَ،} ولو كنت مكانه ولبثت في السجن ما لبثت لأسرعت الإجابة، وبادرت الباب، ولما ابتغيت العذر، إن كان لحليما ذا أناة، ومن كرمه وحسن أدبه أنه لم يذكر سيدته مع ما صنعت به، وتسببت فيه من السجن والعذاب، واقتصر على ذكر المقطعات أيديهن» . انتهى.
هذا؛ واليد تستعمل في الأصل لليد الجارحة، وتطلق ويراد بها: القوة، والقدرة، كما في قوله تعالى:{يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} كما تطلق على: النعمة، والمعروف، ويقال: لفلان يد عندي،
أي: نعمة، ومعروف، وإحسان، وتطلق على الحيلة والتدبير، فيقال: لا يد لي في هذا الأمر، أي: لا حيلة لي فيه ولا تدبير، وانظر شرح {اِئْتُونِي} في الآية رقم [54] الآتية.
الإعراب: {وَقالَ الْمَلِكُ} : ماض وفاعله. {اِئْتُونِي} : أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والنون للوقاية، وياء المتكلم مفعوله، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول.
{بِهِ} : متعلقان بالفعل قبلهما، وجملة: (قال
…
) إلخ مستأنفة لا محل لها. {فَلَمّا} : الفاء:
حرف استئناف. (لما): انظر الآية رقم [54] الآية. {جاءَهُ} : ماض ومفعوله. {الرَّسُولُ} :
فاعل، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة (لمّا) إليها على اعتبارها ظرفا، ولا محل لها على اعتبار (لمّا) حرفا. {قالَ}: ماض، وفاعله يعود إلى يوسف. {اِرْجِعْ}: أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» . {إِلى رَبِّكَ} : متعلقان بما قبلهما، والكاف في محل جر بالإضافة من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول، وجملة:
{قالَ..} . إلخ جواب (لمّا) لا محل لها، و (لمّا) ومدخولها كلام مستأنف لا محل له. {فَسْئَلْهُ}:
الفاء: حرف عطف. (اسأله): أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» ، والهاء مفعول به. {فَلَمّا}:
اسم استفهام مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {بالُ} : خبره، وهو مضاف، و {النِّسْوَةِ}:
مضاف إليه. {اللاّتِي} : اسم موصول مبني على السكون في محل رفع صفة: {النِّسْوَةِ} .
{قَطَّعْنَ} : ماض والنون فاعله. {أَيْدِيَهُنَّ} : مفعول به، والهاء في محل جر بالإضافة، والنون حرف دال على جماعة الإناث، وجملة:{قَطَّعْنَ..} . إلخ صلة الموصول، والجملة الاسمية:{ما بالُ..} . إلخ في محل نصب مفعول به ثان، واعتبرها القرطبي في محل نصب مفعول به لفعل محذوف، وقدر: فاسأله أن يتعرف ما بال النسوة، وهو تكلف لا داعي له، وجملة: (اسأله
…
) إلخ معطوفة على ما قبلها، فهي في محل نصب مقول القول مثلها. {إِنَّ}: حرف مشبه بالفعل.
{رَبِّي} : اسم {إِنَّ} منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم
…
إلخ والياء في محل جر بالإضافة من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {بِكَيْدِهِنَّ}: متعلقان ب {عَلِيمٌ} بعدهما، والهاء في محل جر بالإضافة. {عَلِيمٌ}: خبر إن، والجملة الاسمية:{إِنَّ رَبِّي..} . إلخ تعليلية، أو مستأنفة لا محل لها على الوجهين، وهي في محل نصب مقول القول.
الشرح: {قالَ ما خَطْبُكُنَّ..} . إلخ: هذا بعد أن عاد الرسول من عند يوسف بالكلام الذي بلغه إياه، فجمع الملك النسوة وامرأة العزيز معهن، وخاطبهن بهذا الكلام، هذا؛ والخطب:
الحال والشأن، وجمعه: خطوب، والمراودة: المحاولة وإرادة الشيء، والمراد بها ما عرفته في الآية رقم [23]. {قُلْنَ حاشَ لِلّهِ}: انظر الآية رقم [31] ففيها الكفاية. {ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ} :
من ذنب، أو من خيانة في شيء من الأشياء. {قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ}: انظر شرح ذلك في الآية رقم [31] أيضا. {آلْآنَ} : انظر الآية رقم [51] من سورة (يونس) عليه السلام. {حَصْحَصَ الْحَقُّ} :
تبين وظهر، أو ثبت واستقر، وانظر شرح:{الْحَقُّ} في الآية رقم [120] من سورة (هود). {أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ} : أنا طلبت منه ما طلبت من فعل السوء. {وَإِنَّهُ لَمِنَ الصّادِقِينَ} أي: في قوله:
{هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي} وهذا القول، وإن لم يكن سأل عنه؛ هو إظهار لتوبتها، وتحقيق لصدق يوسف ورفع مكانته؛ لأن إقرار المقر على نفسه أقوى من الشهادة عليه، فجمع الله ليوسف عليه السلام لإظهار صدقه الشهادة والإقرار، حتى لا يخامر نفسا ظن، ولا يخالطها شك.
هذا؛ وقد قيل: إن السبب في إقرارها أن النسوة أقبلهن عليها، فعزرنها، وقيل: خافت أن يشهدن عليها، فأقرت، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.
الإعراب: {قالَ} : ماض، وفاعله يعود إلى الملك. {ما}: اسم استفهام مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {خَطْبُكُنَّ} : خبر المبتدأ، والكاف في محل جر بالإضافة، والنون حرف دال على جماعة الإناث، والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالَ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها. {إِذْ} : ظرف لما مضى من الزمان مبني على السكون في محل نصب متعلق بالمصدر خطب؛ لأنه في معنى الفعل؛ إذ المعنى ما فعلتن وما أردتن به في ذلك الوقت؟. {راوَدْتُنَّ} : فعل ماض مبني على السكون والتاء فاعله، والنون علامة جمع الإناث، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة {إِذْ} إليها. {يُوسُفَ}: مفعول به. {عَنْ نَفْسِهِ} : متعلقان بالفعل قبلهما، والهاء في محل جر بالإضافة {قُلْنَ حاشَ لِلّهِ} انظر إعراب هذه الجملة في الآية رقم [31]. {ما}: نافية. {عَلِمْنا} : فعل وفاعل. {عَلَيْهِ} : متعلقان بما قبلهما. {مِنْ} : حرف جر صلة. {سُوءٍ} : مفعول به منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على آخره، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد، واكتفى (علم) بمفعول واحد؛ لأنه بمعنى: عرف، وجملة:{ما عَلِمْنا..} . إلخ في محل نصب مقول القول، وجملة:{قُلْنَ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها. {قالَتِ} : ماض والتاء للتأنيث. {اِمْرَأَةُ} : فاعله، وهو مضاف، و {الْعَزِيزِ}: مضاف إليه. {الْآنَ} : ظرف زمان مبني على الفتح في محل نصب متعلق بما بعده. {حَصْحَصَ الْحَقُّ} :
فعل وفاعل، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول. {أَنَا}: ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {راوَدْتُهُ} : فعل وفاعل ومفعول به، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ. {عَنْ نَفْسِهِ}: متعلقان بما قبلهما، والجملة الاسمية:{أَنَا..} . إلخ في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالَتِ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها. {وَإِنَّهُ} : الواو: واو الحال.
(إنه): حرف مشبه بالفعل، والهاء اسمها. {لَمِنَ الصّادِقِينَ}: اللام: هي المزحلقة. {لَمِنَ الصّادِقِينَ} : متعلقان بمحذوف خبر (إن)، والجملة الاسمية: (إنه
…
) إلخ في محل نصب حال من الضمير المنصوب، والرابط: الواو، والضمير. تأمل، وتدبر.
الشرح: {ذلِكَ لِيَعْلَمَ..} . إلخ: لقد اختلف في بيان قائل هذا الكلام وما بعده على قولين:
أحدهما: أنه من قول زليخا، ووجه هذا القول: أن هذا كلام متصل بما قبله، وهو إقرارها، واعترافها بما حصل منها، ويكون المعنى اعترافي بذلك ليعلم يوسف: أني لم أخنه في حال غيبته، وهو في السجن، وإن كنت قد قلت فيه ما قلت في حضرته، والقول الثاني: وعليه أكثر المفسرين: أنه من قول يوسف عليه السلام، ووجه هذا القول: أنه لا يبعد وصل كلام إنسان بكلام إنسان آخر وإذا دلت قرينة عليه.
فعلى هذا يكون معنى الآية: أنه لما بلغ يوسف اعتراف المرأة بمراودتها له، قال يوسف ذلك، أي: الذي فعلت من رد رسول الملك ليعلم العزيز أني لم أخنه في زوجته في حال غيبته، فيكون كلام يوسف قد اتصل بكلام المرأة السابق من غير تمييز بين الكلامين لمعرفة السامعين لذلك مع غموض فيه، ونظير هذا قوله تعالى حكاية عن قول فرعون لملئه:{يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ،} من قول الملأ: {فَماذا تَأْمُرُونَ} وقوله تعالى: {وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً} من قول بلقيس، {وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ} من قول الله عز وجل تصديقا لها.
وعلى هذا فقد اختلف المفسرون أيضا: هل كان يوسف عليه السلام في السجن، حين قال هذا الكلام، أو قاله حين حضر عند الملك؟ روايتان عن عبد الله بن عباس-رضي الله عنهما.
{وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ} : لا يوفق، ولا يسدد خطا الخائنين، فإن كان من كلامها، فهي تعني فضيحتها، وإن كان من كلام يوسف فهو يعرض بزليخا في خيانتها زوجها، ويؤكد أمانته وعفته عما دعته إليه، ولعله أراد: لو كنت خائنا لما خلصني من هذه الورطة، وحيث أنقذني منها، ظهر أني بريء مما نسبوني إليه.
الإعراب: {ذلِكَ} : اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع مبتدأ، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب لا محل له. {لِيَعْلَمَ}: مضارع منصوب ب «أن» مضمرة بعد لام التعليل، والفاعل يعود إلى العزيز، أو إلى يوسف حسب ما رأيت. {أَنِّي}: حرف مشبه بالفعل، وياء المتكلم اسمها. {لِيَعْلَمَ}: حرف نفي وقلب وجزم. {أَخُنْهُ} : مضارع مجزوم ب {لِيَعْلَمَ،} والفاعل مستتر تقديره: «أنا» ، والهاء مفعول به. {بِالْغَيْبِ}: متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من الفاعل المستتر، أو من المفعول، وجملة:{لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ} في محل رفع
خبر (أنّ)، و (أنّ) واسمها، وخبرها في تأويل مصدر في محل نصب سد مسد مفعولي يعلم، و «أن» المضمرة والمضارع في تأويل مصدر في محل جر بلام التعليل، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف في محل رفع خبر المبتدأ، والتقدير: طلبت إظهار براءتي ليعلم
…
إلخ.
والجملة الاسمية: {ذلِكَ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها. {وَأَنَّ اللهَ} : (أن) واسمها. {لا} :
نافية. {يَهْدِي} : مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل، والفاعل يعود إلى {اللهَ،} والجملة الفعلية في محل رفع خبر (أن). {كَيْدَ} : مفعول به، وهو مضاف، و {الْخائِنِينَ}: مضاف إليه مجرور، و (أن) واسمها وخبرها في تأويل مصدر في محل نصب معطوف على المصدر المؤول السابق. تأمل، وتدبر.
الشرح: {وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي..} . إلخ: إن كان هذا الكلام من قول المرأة، فيكون معناه: وما أبرئ نفسي من مراودتي يوسف وكذبي عليه، وإن كان من قول يوسف عليه السلام؛ فيكون هذا الكلام هضما لنفسه، وتواضعا لله عز وجل، فإن رؤية النفس في مقام العصمة والتزكية ذنب عظيم، فأراد إزالة العجب عن نفسه، وإبعاد التزكية عن ذاته، فإن حسنات الأبرار سيئات المقربين. {إِلاّ ما رَحِمَ رَبِّي}: إلا من عصم ربي وحفظه من فعل السوء والهم به، ف {ما} هنا بمعنى (من)، كما في قوله تعالى:{فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ} انظر شرحها في الآية رقم [3] من سورة (النساء)، {إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ}: يغفر ذنوب المذنبين إذا استغفروا وتابوا وأنابوا، فهو صيغة مبالغة. {رَحِيمٌ}: بعباده إذا استغفروا وانظر شرح البسملة، هذا؛ وتأكيد الجملة الاسمية ب {إِنَّ} لأن المقام يقتضي ذلك، فكأن سائلا سأل عن سبب النفي فجيء ب {إِنَّ} المؤكدة، وهذا من مباحث علم المعاني، كما لا يخفى.
بعد هذا؛ والسوء لفظ جامع لكل ما يهم به الإنسان من الأمور القبيحة، الدنيوية والأخروية، والسيئة: الفعلة القبيحة، وجمع السوء: أسواء، وهو بضم السين من: ساءه، وهو بفتحها المصدر، تقول: رجل سوء بالإضافة، ورجل السّوء، ولا تقول: الرجل السّوء، قال تعالى:{إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ} هذا؛ وأما {النَّفْسَ} فإنها تجمع في القلة أنفس، وفي الكثرة نفوس، و {النَّفْسَ} تؤنث باعتبار الروح، وتذكر باعتبار الشخص، أي: فإنها تطلق على الذات أيضا، سواء أكان ذكرا أم أنثى؟ فعلى الأول، قيل: إنها جسم لطيف مشتبك بالجسم اشتباك الماء بالعود الرطب، فتكون سارية في جميع البدن.
قال الجنيد-رحمه الله تعالى-: الروح شيء استأثر الله بعلمه، ولم يطلع عليه أحدا من خلقه، فلا يجوز البحث عنه بأكثر من أنه موجود، قال تعالى في سورة (الإسراء):{وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ}
{الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاّ قَلِيلاً،} وقال بعضهم: إن هناك لطيفة ربانية لا يعلمها إلا الله تعالى، فمن حيث تفكرها تسمى: عقلا، ومن حيث حياة الجسد بها تسمى:
روحا، ومن حيث شهوتها تسمى: نفسا، فالثلاثة متحدة بالذات، مختلفة بالاعتبار.
هذا؛ وقد ذكر القرآن الكريم أن النفس على خمس مراتب: الأمارة بالسوء، واللوامة والمطمئنة، والراضية، والمرضية، ويزاد الملهمة، والكاملة، فالأمارة بالسوء هي التي تأمر صاحبها بالسوء، ولا تأمر بالخير إلا نادرا، وهي مقهورة ومحكومة للشهوات، وإن سكنت لأداء الواجبات الإلهية، وأذعنت لاتباع الحق، لكن بقي فيها ميل للشهوات سميت: لوامة، وإن زال هذا الميل، وقويت على معارضة الشهوات، وزاد ميلها إلى عالم القدس، وتلقت الإلهامات سميت: ملهمة، فإن سكن اضطرابها، ولم يبق للنفس الشهوانية حكم أصلا؛ سميت: مطمئنة، فإن ترقت من هذا، وأسقطت المقامات من عينها، وفنيت عن جميع مراداتها؛ سميت: راضية، فإن زاد هذا الحال عليها؛ صارت مرضية عند الحق وعند الخلق، فإن أمرت بالرجوع إلى العباد لإرشادهم وتكميلهم؛ سميت: كاملة، فالنفس سبع طبقات، ولها سبع درجات كما ذكرت، وقدمت، وأخيرا خذ ما ذكره القرطبي رحمه الله تعالى: وفي الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما تقولون في صاحب لكم، إن أكرمتموه، وأطعمتموه، وكسوتموه، أفضى بكم إلى شرّ غاية؟ وإن أهنتموه وأعريتموه، وأجعتموه أفضى بكم إلى خير غاية؟! قالوا: يا رسول الله، هذا شرّ صاحب، قال: فو الّذي نفسي بيده، إنها لنفوسكم الّتي بين جنوبكم» .
الإعراب: {وَما} : الواو: واو الحال. (ما): نافية. {أُبَرِّئُ} : مضارع، والفاعل مستتر تقديره:«أنا» . {نَفْسِي} : مفعول به منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم، منع من ظهورها اشتغال المحل بالحركة المناسبة، والياء في محل جر بالإضافة، وجملة:{وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي} في محل نصب حال من فاعل {أَخُنْهُ} المستتر، والرابط: الواو، والضمير. {إِنَّ}:
حرف مشبه بالفعل. {النَّفْسَ} : اسمها. {لَأَمّارَةٌ} : خبرها، واللام هي المزحلقة. {بِالسُّوءِ} متعلقان ب (أمارة). {إِلاّ} أداة استثناء. {ما}: اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل نصب على الاستثناء المنقطع. {رَحِمَ رَبِّي}: ماض وفاعله، والجملة الفعلية صلة (ما) أو صفتها، والعائد أو الرابط محذوف؛ إذ التقدير: إلا الذي، أو شخصا رحمه ربي، هذا؛ وأجاز أبو البقاء اعتبار (ما) مصدرية، وقدر: إن النفس لأمارة بالسوء إلا وقت رحمة ربي، والأول أقوى، والجملة الاسمية:{نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ..} . إلخ تعليل للنفي لا محل لها، وهي تحتمل أن تكون جوابا لسؤال مقدر، كأن قائلا قال: لم لا تبرئ نفسك؟ قال: لأن النفس..
إلخ، والجملة الاسمية:{إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ} مستأنفة لا محل لها. تأمل، وتدبر.
الشرح: {وَقالَ الْمَلِكُ..} . إلخ: وذلك أنه لما تبين للملك عذر يوسف، وعرف أمانته وعلمه؛ طلب حضوره إليه، وأراد أن يكون من خاصته، والاستخلاص طلب خلوص الشيء من جميع شوائب الاشتراك، وإنما أراد ذلك وطلبه؛ لأن عادة الملوك أن ينفردوا بالأشياء النفيسة العزيزة، ولا يشاركهم فيها أحد من الناس، وإذا أراد الله أمرا؛ هيأ له أسبابه، فألهم الملك ذلك ليكون يوسف من خاصته، ومن المقربين عنده. {فَلَمّا كَلَّمَهُ} أي: فلما أتوا وكلمه وشاهد منه الرشد والذكاء. قال: {إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ} أي: ذو مكانة عالية، ومنزلة رفيعة مؤتمن على كل شيء، فهي كلمة جامعة لكل الفضائل والمناقب في أمر الدين والدنيا.
-روي أن يوسف عليه السلام لما قام ليخرج من السجن دعا لأهله، فقال: اللهم عطّف عليهم قلوب الأخيار، ولا تعمّ عليهم الأخبار، فلما خرج كتب على باب السجن: هذا بيت البلواء، وقبر الأحياء، وشماتة الأعداء، وتجربة الأصدقاء، ثم اغتسل، وتنظف، ولبس ثيابا جددا، فلما دخل على الملك، قال: اللهم إني أسألك بخيرك من خيره، وأعوذ بعزتك وقدرتك من شره، ثم سلم عليه بالعربية، فقال الملك: ما هذا اللسان؟ فقال: لسان عمي إسماعيل، ودعا له بالعبرانية، فقال: ما هذا اللسان؟ قال: لسان آبائي، وكان الملك يعرف سبعين لسانا، فكلمه بها، فأجابه بجميعها، فتعجب منه، فقال: أحب أن أسمع رؤياي منك، فحكاها له، ونعت له البقرات والسنابل، وأماكنها على ما رآها، فأجلسه على السرير، وفوض إليه أمره، وقيل: توفي قطفير العزيز في تلك الليالي فنصبه مكانه، وزوّجه زليخا، فوجدها عذراء، وولد له منها ولدان: إفرائيم، وميشا، وبنت واحدة هي: رحمة امرأة أيوب، وإفرائيم ولد له نون، وولد لنون يوشع فتى موسى على نبينا، وعليهم أفضل صلاة، وأزكى تسليم.
-هذا؛ و {اِئْتُونِي} أمر من أتى يأتي، والأمر بهمزتين: همزة الوصل التي يتوصل بها إلى النطق بالساكن، والثانية هي فاء الفعل، ولا يجتمع همزتان في النطق، فإذا ابتدأت الكلام قلت:
ايتوني بإبدال الثانية ياء لكسر ما قبلها، فإذا وصلت الكلام زالت العلة في الجمع بين همزتين، فتحذف همزة الوصل، وتعود الهمزة الأصلية، فتقول: ائتوني.
{لَدَيْنا} : ظرف مكان بمعنى عند، وهي معربة مثلها، وقد تستعملان في الزمان، وإذا أضيف (لدى) إلى مضمر كما هنا، قلبت ألفه ياء عند جميع العرب، إلا بني الحارث بن كعب، وبني خناعة، فلا يقلبونها تسوية بين الظاهر والمضمر، ثم اعلم أن (عند) أمكن من «لدى» من وجهين: أحدهما: أنها تكون ظرفا للأعيان والمعاني، تقول: هذا القول عندي صواب. وعند
فلان علم به، ويمتنع ذلك في (لدي) ذكره ابن الشجري في أماليه، ومبرمان في حواشيه، والثاني أنك تقول: عندي مال، وإن كان غائبا، ولا تقول: لديّ مال إلا إذا كان حاضرا. قاله جماعة.
هذا؛ و «الكلام» بالنسبة إلى البشر يدل على أحد ثلاثة أمور:
أولها: الحدث الذي يدل عليه لفظ التكليم، تقول: أعجبني كلامك زيدا، تريد: تكليمك إياه.
وثانيها: ما يدور في النفس من هواجس وخواطر، وكل ما يعبر عنه باللفظ، لإفادة السامع ما قام بنفس المخاطب، فيسمى هذا الذي تخيلته في نفسك كلاما في اللغة العربية، تأمل في قول الأخطل التغلبي:[الكامل]
لا يعجبنّك من خطيب خطبة
…
حتّى يكون مع الكلام أصيلا
إنّ الكلام لفي الفؤاد وإنّما
…
جعل اللسان على الفؤاد دليلا
وثالثها: كل ما تحصل به الفائدة، سواء أكان ما حصلت به لفظا، أو خطا، أو إشارة، أو دلالة حال. انظر إلى قول العرب:(القلم أحد اللسانين) وانظر إلى تسمية المسلمين ما بين دفتي المصحف: (كلام الله) ثم انظر إلى قوله تعالى: {يَسْمَعُونَ كَلامَ اللهِ} وقال جل شأنه: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ} وإلى كلمته جلت حكمته: {قالَ آيَتُكَ أَلاّ تُكَلِّمَ النّاسَ ثَلاثَةَ أَيّامٍ إِلاّ رَمْزاً} ثم انظر إلى قول الشاعر وهو عمر بن أبي ربيعة الذي نفى الكلام اللفظي عن محبوبته، وأثبت لعينها القول، وذلك في قوله:[الطويل]
أشارت بطرف العين خيفة أهلها
…
إشارة محزون، ولم تتكلّم
فأيقنت أنّ الطرف قد قال: مرحبا
…
وأهلا وسهلا بالحبيب المتيّم
ثم انظر إلى قول نصيب بن رباح: [الطويل]
فعاجوا فأثنوا بالذي أنت أهله
…
ولو سكتوا أثنت عليك الحقائب
بعد هذا انظر القول في الآية رقم [18] من سورة (هود) عليه السلام، وانظر شرح {كَلَّمَهُ} في الآية رقم [24] من سورة (إبراهيم) عليه السلام.
الإعراب: {وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ} : انظر الآية رقم [50]{أَسْتَخْلِصْهُ} : مضارع مجزوم لوقوعه جوابا للطلب، وهو مجزوم عند الجمهور بشرط محذوف، التقدير: إن تأتوني
…
إلخ، والفاعل مستتر تقديره:«أنا» ، والهاء مفعول به، والجملة مع ما قبلها في محل نصب مقول القول.
{لِنَفْسِي} : متعلقان بالفعل قبلهما، وعلامة الجر كسرة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم منع من ظهورها
…
إلخ، والياء في محل جر بالإضافة، وجملة: (قال
…
) إلخ مستأنفة لا محل لها.
{فَلَمّا} : الفاء: حرف استئناف. (لمّا): انظر الآية رقم [59] الآتية. {كَلَّمَهُ} : ماض، والهاء
مفعوله، والفاعل يعود إلى يوسف أو إلى الملك والجملة الفعلية لا محل لها على اعتبار (لمّا) حرفا، وهي في محل جر بإضافة (لمّا) إليها على اعتبارها ظرفا. {قالَ}: ماض، والفاعل يعود إلى {الْمَلِكُ}. {إِنَّكَ}: حرف مشبه بالفعل، والكاف اسمها. {الْيَوْمَ}: ظرف زمان متعلق بما بعده. {لَدَيْنا} : ظرف مكان منصوب وعلامة نصبه فتحة مقدرة على الألف المنقلبة ياء؛ لاتصاله ب (نا) التي هي ضمير متصل في محل جر بالإضافة، وهو متعلق بما بعده أيضا، {مَكِينٌ}: خبر إن. {أَمِينٌ} : خبر ثان، والجملة الاسمية:{إِنَّكَ..} . إلخ في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالَ..} . إلخ جواب لما، لا محل لها، و (لمّا) ومدخولها كلام مستأنف لا محل له.
{قالَ اِجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55)}
الشرح: فلما جاء يوسف عند الملك، وقال له:{إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا..} . إلخ بعد أن شرح له يوسف رؤياه، قال له الملك: فماذا ترى أن نفعل؟ قال: اجمع الطعام، وازرع زرعا كثيرا في هذه السنين المخصبة، وادخر الطعام في سنبله وقصبه؛ فإنه أبقى له، فيكون ذلك القصب والسنبل علفا للدواب، وتأمر الناس أن يرفعوا الخمس من زرعهم أيضا، فيكفيك الطعام الذي جمعته لأهل مصر ومن حولها، وتأتيك سائر الخلق للميرة من سائر النواحي، ويجتمع عندك من الكنوز والأموال ما لم يجتمع لأحد من قبلك، فقال الملك: ومن لي بهذا، ومن يجمعه، ويبيعه لي ويكفيني العمل فيه؟ فعند ذلك قال يوسف عليه السلام:{اِجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ} أي:
ولني أمرها، وحفظها، و {الْأَرْضِ} أرض مصر، قال سعيد بن منصور: سمعت مالك بن أنس يقول: مصر خزانة الأرض، أما سمعت إلى قوله:{اِجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ} . {إِنِّي حَفِيظٌ} أي: للخزائن ممن لا يستحقها. {عَلِيمٌ} : بوجوه التصرف فيها، فقال له الملك: ومن أحق بذلك منك؟! وولاه ذلك، وعن مجاهد: أن الملك أسلم على يده.
فعن ابن عباس-رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يرحم الله أخي يوسف، لو لم يقل: اجعلني على خزائن الأرض لاستعمله من ساعته، ولكنه أخّر ذلك سنة» . بقي أن تعرف كيف طلب يوسف عليه السلام الإمارة، مع النهي عنها؟! والجواب: إنما يكره طلبها إذا لم يتعين على الإنسان ذلك، فإذا تعين طلبها وجب ذلك عليه، ولا كراهية فيه، فأما يوسف عليه الصلاة والسلام فكان عليه طلب الإمارة؛ لأنه مرسل من الله تعالى، والرسول أعلم بمصالح الخلق من غيره، وإذا كان مكلفا برعاية المصالح، ولا يمكنه ذلك إلا بطلب الإمارة؛ وجب عليه طلبها، وفيه دليل على جواز طلب التولية لكل إنسان إذا عرف من نفسه القدرة على إقامة الحق، وعدم المداهنة للكافر، والفاجر، بل يؤجر على هذه التولية ما دامت نيته حسنة مع الإخلاص في العمل لله رب العالمين.
الإعراب: {قالَ} : ماض، وفاعله يعود إلى يوسف عليه السلام. {اِجْعَلْنِي}: أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» ، والنون للوقاية، وياء المتكلم مفعول به، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول. {عَلى خَزائِنِ}: متعلقان بالفعل قبلهما، و {خَزائِنِ}: مضاف، و {الْأَرْضِ}: مضاف إليه. {إِنِّي} : حرف مشبه بالفعل، وياء المتكلم اسمها. {حَفِيظٌ}: خبر أول. {عَلِيمٌ} : خبر ثان، والجملة الاسمية:{إِنِّي..} . إلخ تعليل للأمر، وهي في محل نصب مقول القول، وجملة:
{قالَ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها.
الشرح: {وَكَذلِكَ مَكَّنّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ} أي: كما أنعمنا على يوسف في تقريبه إلى قلب الملك، وتحبيبه إليه، وإنجائه من السجن؛ مكناه في أرض مصر، فجعلناه على خزائنها، وصاحب الأمر والنهي فيها، ومعنى التمكين: التمليك، وهو أن لا ينازعه منازع فيما يراه ويختاره. {يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ}: ينزل من بلادها وقصورها حيث يهوى ويريد، وهو تفسير للتمكين المتقدم، قال تعالى:{وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ} الآية رقم [93] من سورة (يونس). {نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ} أي: نختص بنعمتنا من نبوة وغيرها من نعم الدنيا من نشاء اختصاصه بها من عبادنا. {وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} : قال ابن عباس ووهب: يعني:
الصابرين، لصبر يوسف في الجب، وفي الرق، وفي السجن، وفي صبره عن محارم الله تعالى عما دعته المرأة إليه. انتهى. قرطبي. وأضيف أن الإحسان يشمل كل عمل خيري، دنيوي وأخروي، من امتثال أوامر الله، واجتناب نواهيه، والإحسان إلى كل مخلوق.
وانظر شرح (رحمتي) في الآية رقم [156] من سورة (الأعراف) تجد ما يسرك، {حَيْثُ}:
مبنية، وإنما بنيت؛ لأنها لا تدل على موضع بعينه، ولأن ما بعدها من تمامها، كالصلة من الموصول، وبنيت على حركة؛ لأن ما قبل آخرها ساكن، وكان الضم أولى بها بحركتها؛ لأنها غاية، فأعطيت غاية الحركات، وهي الضمة؛ لأن الضمة أقوى الحركات، وقيل: بنيت على الضم؛ لأن أصلها (حوث) فدلت الضمة على الواو، ويجوز فتحها، وفي (حيث) ست لغات، بالياء مع الضم والفتح والكسر، وبالواو مع الضم والفتح والكسر، وهي حيث، وحيث، وحيث وحوث، وحوث، وحوث، وانظر شرح وإعلال:(يصيب) في الآية رقم [51] من سورة (التوبة).
الإعراب: {وَكَذلِكَ} : الواو: حرف استئناف. (كذلك): جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لمفعول مطلق محذوف، عامله ما بعده. التقدير: مكنا ليوسف تمكينا كائنا مثل إنقاذنا له من السجن وتقريبه إلى قلب الملك. {مَكَّنّا} : فعل وفاعل. {لِيُوسُفَ} : متعلقان بالفعل قبلهما
والمفعول به محذوف، التقدير: الأمور، هذا؛ وأجيز اعتبار اللام زائدة، فيكون يوسف مفعولا به مجرورا لفظا منصوبا محلاّ. {فِي الْأَرْضِ}: متعلقان به أيضا، والجملة الفعلية: (كذلك
…
) إلخ مستأنفة لا محل لها، {يَتَبَوَّأُ}: مضارع، والفاعل يعود إلى يوسف. {مِنْها}: متعلقان بالفعل قبلهما. {حَيْثُ} : ظرف مكان متعلق بالفعل قبله، وأجيز اعتباره مفعولا به، فهو مبني على الضم في محل نصب، {يَشاءُ}: مضارع مرفوع، وفاعله مستتر تقديره:«هو» يعود إلى يوسف، وعلى قراءته بالنون ففاعله مستتر تقديره:«نحن» ، ومفعوله محذوف، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة (حيث) إليها، وجملة:{يَتَبَوَّأُ..} . إلخ في محل نصب حال من يوسف، والرابط الضمير فقط. {نُصِيبُ}: مضارع، والفاعل مستتر تقديره:«نحن» . {بِرَحْمَتِنا} : متعلقان بالفعل قبلهما، و (نا): في محل جر بالإضافة. {مَنْ} : اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل نصب مفعول به، والجملة الفعلية بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد أو الرابط محذوف؛ إذ التقدير: نصيب برحمتنا الذي، أو شخصا نشاؤه، وجملة:{نُصِيبُ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها. {وَلا} : الواو: حرف عطف. (لا): نافية. {نُضِيعُ} : مضارع، وفاعله مستتر تقديره:«نحن» . {أَجْرَ} : مفعول به، وهو مضاف، و {الْمُحْسِنِينَ} مضاف إليه مجرور..
إلخ، وجملة:{وَلا نُضِيعُ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها لا محل لها مثلها.
{وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (57)}
الشرح: {وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ..} . إلخ: أي: ما يعطيه الله ليوسف في الآخرة خير وأكثر مما أعطاه في الدنيا؛ لأن أجر الآخرة دائم وأجر الدنيا ينقطع، وظاهر الآية العموم في كل متق ومؤمن، وهو أولى، قال سفيان بن عيينة: المؤمن يثاب على حسناته في الدنيا والآخرة، والفاجر يعجل له الخير في الدنيا، وما له في الآخرة من خلاق، وتلا الآية، وانظر ما ذكرته في الآية رقم [55] من سورة (هود) على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام.
-روي: أن الملك توج يوسف، وختمه بخاتمه، ورداه بسيفه، ووضع له سريرا من ذهب، مكللا بالدر واليواقيت، فقال: أما السرير، فأشد به ملكك، وأما الخاتم فأدبر به أمرك، وأما التاج فليس من لباسي، ولا لباس آبائي، فجلس على السرير، ودانت له الأمور، وفوض الملك إليه أمره، وأقام العدل بمصر، وأحبه الصغير والكبير، فلما اطمأن يوسف في ملكه؛ دبر في جمع الطعام أحسن التدبير، فبنى الحصون، والبيوت الكثيرة.
فلما دخلت السنون الخصبة أمر بزراعة جميع الأراضي، وصار يدخر الأقوات، كما بين للملك فيما سبق، وذلك إعداد للسنوات المجدبة حتى خلت المخصبة، ودخلت السنون المجدبة بهول وشدة لم ير الناس مثلهما، ونهى عن زراعة الأراضي في تلك السنوات، وأسلم على يديه
الملك وكثير من الناس، وباع أهل مصر في سني القحط الطعام في السنة الأولى بالدراهم والدنانير حتى لم يبق معهم شيء منها، وفي الثانية بالحلي والجواهر، وفي الثالثة بالدواب والمواشي كلها، وفي الرابعة بالعبيد والإماء حتى استولى عليها كلها، وفي الخامسة بالدور والعقارات، وفي السادسة بأولادهم وذراريهم، وفي السابعة برقابهم حتى استرقهم جميعا، وهذا هو معنى التمكين الذي ذكره الله في الآية السابقة، ثم أعتق أهل مصر، ورد عليهم أموالهم، وأملاكهم، وكان لا يبيع لأحد من الممتارين أكثر من حمل بعير، وأصاب أرض كنعان ما أصاب مصر من القحط والجدب. وذاع أمر يوسف عليه السلام في الآفاق للينه، وعطفه، ورحمته، ورأفته، وعدله، وسيرته.
-فقال يعقوب عليه السلام لبنيه: بلغني: أن بمصر ملكا صالحا يبيع الطعام، فتجهزوا له واقصدوه لتشتروا منه ما تحتاجون إليه من الطعام، وأمسك عنده بنيامين أخا يوسف لأمه وأبيه، وأرسل عشرة مع كل واحد منهم بعير، فذلك قوله تعالى:{وَجاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ..} . إلخ.
الإعراب: {وَلَأَجْرُ} : الواو: واو الحال. اللام: لام الابتداء. (أجر): مبتدأ، وهو مضاف، والآخرة مضاف إليه، {خَيْرٌ}: خبر المبتدأ. {لِلَّذِينَ} : متعلقان بخير. {آمَنُوا} : فعل وفاعل، والألف للتفريق، والمتعلق محذوف، تقديره:(بالله) والجملة الفعلية صلة الموصول. (كانوا):
ماض ناقص مبني على الضم، والواو اسمه، وجملة:{يَتَّقُونَ} مع المفعول المحذوف في محل نصب خبر (كان) وجملة: (كانوا
…
) إلخ معطوفة على ما قبلها لا محل لها، والجملة الاسمية: (لأجر
…
) إلخ في محل نصب حال من أجر المحسنين، والرابط: الواو فقط، هذا؛ وقد قال الجمل: اللام واقعة في جواب قسم، وهو يعني أن الواو حرف قسم وجر، والمقسم به محذوف، التقدير: والله، والجار والمجرور متعلقان بفعل محذوف، تقديره: أقسم، والجملة الاسمية: (لأجر
…
) إلخ جواب هذا القسم، والقسم وجوابه كلام مستأنف لا محل له، والاعتبار الأول أولى. تأمل، وتدبر، وربك أعلم.
{وَجاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (58)}
الشرح: {وَجاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ} : فيه حذف كلام كثير، انظر ما ذكرته في الآية السابقة، وهذا من اختصار القرآن المعجز. {فَدَخَلُوا عَلَيْهِ}: وهو على سرير الملك، وفي هيبته وجلاله، وحوله الخدم، والحشم. {فَعَرَفَهُمْ}: أنهم إخوته واحدا واحدا، ولم ير بينهم أخاه بنيامين.
{وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ} أي: لم يعرفوه؛ لأنهم باعوه صبيّا، ولم يقع في خلدهم أنه بعد العبودية يبلغ إلى تلك الحال من العزة والمكانة ورفعة الشأن مع طول المدة، وهم أربعون سنة، بل واعتقدوا هلاكه وموته؛ ولذا لم يخطر على بالهم في وقت من الأوقات: أنه حي على وجه الأرض، أما
هم فلا يزالون على ما كانوا عليه في الملبس والهيئة والزي مع تكلمهم باللغة العبرانية التي هي لغتهم الأصلية، فلما كلموه بها قال: لعلكم عيون جئتم تنظرون عورة بلادي، قالوا: معاذ الله! قال: فمن أين أنتم؟ قالوا: من بلاد كنعان، وأبونا يعقوب نبي الله، قال: وله أولاد غيركم؟ قالوا: نعم، كنا اثني عشر، فذهب أصغرنا، فهلك في البرية، وكان أحبنا إليه، وبقي شقيقه، فاحتبسه ليتسلى به عنه، فأمر بإنزالهم وإكرامهم، ثم قال لهم: فمن يعلم أن الذي تقولون حق؟ قالوا: أيها الملك إننا ببلاد غربة، لا يعرفنا أحد، قال: فأتوني بأخيكم الذي من أبيكم إن كنتم صادقين، فأنا راض بذلك منكم، وإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي، ولا تقربوا بلادي! وانظر أسماءهم في الآية رقم [7].
الإعراب: {وَجاءَ} : الواو: حرف استئناف. جاء: ماض. {إِخْوَةُ} : فاعله، وهو مضاف، و {يُوسُفَ}: مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الفتحة نيابة عن الكسرة؛ لأنه ممنوع من الصرف للعلمية والعجمة، وجملة: (جاء
…
) إلخ مستأنفة لا محل لها. (دخلوا): ماض وفاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها لا محل لها مثلها. عليه: متعلقان بما قبلهما.
عرفهم: ماض، ومفعوله، والفاعل يعود إلى {يُوسُفَ،} والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها لا محل لها أيضا. {وَهُمْ} : الواو: واو الحال. (هم): ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {لَهُ} : متعلقان بما بعدهما. {مُنْكِرُونَ} : خبر المبتدأ مرفوع، وعلامة رفعه الواو
إلخ، والجملة الاسمية في محل نصب حال من الضمير المنصوب، والرابط: الواو، والضمير.
الشرح: {وَلَمّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ} : يقال: جهزت القوم تجهيزا، إذا تكلفت لهم جهاز سفرهم، وهو ما يحتاجون إليه في سفرهم، و (الجهاز) بفتح الجيم، وقرئ بكسرها، والأولى أفصح. قال ابن عباس-رضي الله عنهما: حمل لكل واحد منهم بعيرا من الطعام، وأكرمهم في النزول، وأعطاهم ما يحتاجون إليه في سفرهم، هذا؛ وجهاز العروس ما يحتاج إليه عند الإهداء للزوج. قال:{اِئْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ} أي: لأعلم صدقكم فيما تدعون من كونكم أولاد نبي، وأن أخا لكم آخر قد احتبسه أبوكم عنده ليتسلى به عن الفقيد، وقيل: طلب منهم رهينة عنده حتى يأتوه بأخيه، فاقترعوا فيما بينهم، فأصابت القرعة (شمعون) فبقي عنده. أقول:
ولا داعي لذلك ما دام منعهم الميرة من عنده، ولما ذهبوا إلى أبيهم ذكروا له منع الميرة، ولم يذكروا رهينة عند يوسف، ومنع الميرة في تلك الآونة الراهنة أشق شيء عليهم من غيره
{أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ} : أتمه. {وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ} : المضيفين. وكان قد أحسن ضيافتهم
ووفادتهم عليه، كما رأيت فيما سبق، وقول الإمام فخر الدين الرازي: هذا الكلام يضعف قول من يقول: إنه اتهمهم، ونسبهم إلى أنهم جواسيس.. إلخ. أقول: لعله قال ذلك ليدفع عن نفسه الشبهة، وليهيمن عليهم، ويجعلهم حذرين منه، مع شدة إكرامه لهم، هذا؛ و (أخ) أصله:
أخو، فحذفت الواو بعد نقل حركتها إلى الخاء للتخفيف بدليل رجوعها في التثنية حيث تقول:
أخوان، أخوين، وانظر: إعلال (دم) في الآية رقم [18].
الإعراب: {وَلَمّا} : الواو: حرف عطف. (لما): حرف وجود لوجود عند سيبويه، وبعضهم يقول: حرف وجوب لوجوب، وهي ظرف بمعنى:(حين) عند ابن السراج، والفارسي، وابن جني، وجماعة، تتطلب جملتين مرتبطتين ببعضهما ارتباط فعل الشرط بجوابه، وصوب ابن هشام الأول، والمشهور الثاني. {جَهَّزَهُمْ}: ماض، والهاء مفعوله، والفاعل يعود إلى يوسف، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة (لمّا) إليها على اعتبارها ظرفا، ولا محل لها على اعتبار (لمّا) حرفا. {بِجَهازِهِمْ}: متعلقان بما قبلهما والهاء في محل جر بالإضافة. {قالَ} : ماض، والفاعل يعود إلى يوسف أيضا. {اِئْتُونِي}: أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والنون للوقاية، وياء المتكلم مفعول به، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول. {بِأَخٍ}: متعلقان بالفعل قبلهما. {لَكُمْ} : متعلقان بمحذوف صفة: (أخ). {مِنْ أَبِيكُمْ} : متعلقان بمحذوف صفة ثانية ل: (أخ)، أو هما متعلقان بمحذوف حال من (أخ) بعد وصفه بما تقدم، وعلامة الجر الياء نيابة عن الكسرة؛ لأنه من الأسماء الخمسة، والكاف في محل جر بالإضافة، وجملة:{قالَ..} .
إلخ جواب (لمّا) لا محل لها، و (لمّا) ومدخولها كلام معطوف على جملة:{وَجاءَ إِخْوَةُ..} .
إلخ لا محل له مثلها. {أَلا} : حرف تنبيه واستفتاح يسترعي انتباه المخاطب لما يأتي بعده من كلام. {تَرَوْنَ} : مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون، والواو فاعله. {أَنِّي}: حرف مشبه بالفعل، وياء المتكلم اسمها. {أُوفِي}: مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل، والفاعل مستتر تقديره:«أنا» . {الْكَيْلَ} : مفعول به، وجملة:{أُوفِي..} . إلخ في محل رفع خبر {أَنِّي،} وأن واسمها وخبرها في تأويل مصدر في محل نصب سد مسد مفعولي:
{تَرَوْنَ} والجملة الفعلية هذه في محل نصب مقول القول أيضا. {وَأَنَا} : الواو: واو الحال.
(أنا): ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {خَيْرُ} : خبره: وهو مضاف، والمنزلين مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الياء.. إلخ، والجملة الاسمية:{وَأَنَا خَيْرُ..} . إلخ في محل نصب حال من فاعل {أُوفِي} المستتر، والرابط: الواو، والضمير.
{فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ (60)}
الشرح: معنى الآية الكريمة، فإن لم تحضروا أخاكم من أبيكم؛ لأتحقق من صحة قولكم، فلست أعطيكم طعاما مرة ثانية، ولا تدخلوا بلادي، بل ولا ترجعوا إليها ثانية، وهذا هو نهاية
التخويف لأنهم كانوا محتاجين للطعام، وانظر شرح الآيتين السابقتين، وانظر شرح {فَإِنْ لَمْ} في الآية رقم [32].
الإعراب: {فَإِنْ} : الفاء: حرف استئناف. (إن): حرف شرط جازم. {لَمْ} : حرف نفي وقلب وجزم. {تَأْتُونِي} : مضارع مجزوم ب {لَمْ،} وعلامة جزمه حذف النون، وهو في محل جزم فعل الشرط، والواو فاعله، والنون للوقاية، وياء المتكلم مفعول به، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي. {بِهِ} : متعلقان بما قبلهما.
{فَلا} : الفاء: واقعة في جواب الشرط. (لا): نافية للجنس تعمل عمل إن. {كَيْلَ} : اسم (لا) مبني على الفتح في محل نصب. {لَكُمْ} : متعلقان بمحذوف خبر (لا)، {عِنْدِي}: ظرف مكان متعلق بما تعلق به. {لَكُمْ} منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم
…
إلخ، والياء في محل جر بالإضافة، وجملة:{فَلا كَيْلَ..} . إلخ في محل جزم جواب الشرط عند الجمهور، والدسوقي يقول: لا محل لها؛ لأنها لم تحل محل المفرد.
{وَلا} : الواو: حرف عطف. (لا): ناهية. {تَقْرَبُونِ} : مضارع مجزوم ب (لا)، وعلامة جزمه حذف النون، والواو فاعله، والنون للوقاية، وهي مكسورة، وياء المتكلم المحذوفة مفعول به، هذا؛ وأجيز اعتبار (لا) نافية، فيكون الفعل مرفوعا، وقد حذفت نون الوقاية، وياء المتكلم أيضا، وعلى الوجهين فالجملة الفعلية معطوفة على الجملة الاسمية قبلها، فهي في محل جزم مثلها، وإن ومدخولها كلام مستأنف، وهو في محل نصب مقول القول؛ لأنه من كلام يوسف على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام.
{قالُوا سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ وَإِنّا لَفاعِلُونَ (61)}
الشرح: {قالُوا سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ} : سنطلبه منه، ونجتهد، ونحتال في ذلك؛ حتى نأتي به إليك. {وَإِنّا لَفاعِلُونَ}: ما أمرتنا به لا نتوانى في ذلك، فإن قيل: كيف استجاز يوسف عليه السلام أن يفعل ذلك، وهو مما يزيد حزن أبيه بطلب أخيه؟! فأجيب بأجوبة كثيرة، أظهرها: أن يكون الله عز وجل أمره بذلك ابتلاء ليعقوب؛ ليعظم أجره، وثوابه، ويلحقه بدرجة أبيه، وجده.
الإعراب: {قالُوا} : فعل وفاعل، والألف للتفريق. السين: حرف استقبال. (نراود): مضارع، والفاعل مستتر تقديره:«نحن» . {عَنْهُ} : متعلقان بالفعل قبلهما. {أَباهُ} : مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الألف نيابة عن الفتحة؛ لأنه من الأسماء الخمسة، والهاء في محل جر بالإضافة.
{وَإِنّا} : الواو: واو الحال. (إنا): حرف مشبه بالفعل، و (نا): اسمها، وقد حذفت ألفها، وبقيت نونها، وذلك للتخفيف. {لَفاعِلُونَ}: اللام: هي المزحلقة، (فاعلون): خبر (إن) مرفوع، وعلامة رفعه الواو نيابة عن الضمة؛ لأنه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد،
والجملة الاسمية: (إنا
…
) إلخ في محل نصب حال من فاعل (نراود)، والرابط: الواو، والضمير، وجملة:{سَنُراوِدُ..} . إلخ في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالُوا..} . إلخ مستأنفة لا محل لها.
الشرح: {وَقالَ لِفِتْيانِهِ} أي: قال يوسف عليه السلام لغلمانه، ورجاله الكيالين. {اِجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ فِي رِحالِهِمْ}: أراد بالبضاعة ثمن الطعام الذي دفعوه، وكانت دارهم ودنانير، وحكى الضحاك عن ابن عباس-رضي الله عنهما: أنها كانت النعال والجلود. {لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها} :
يعرفون بالبضاعة التي دفعوها ثمنا للطعام. {إِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمْ} : إذا رجعوا إلى أهلهم.
{لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} أي: إلينا، أو إلى بلادنا.
واختلف في السبب الذي دعا يوسف عليه السلام لأن يرد على إخوته ثمن الطعام على أقوال كثيرة؛ أرجحها: أنه خاف أن لا يكون عند أبيه شيء آخر من المال؛ لأن الزمان كان زمان قحط وشدة، وقيل: إنه رأى أن أخذ ثمن الطعام من أبيه وإخوته لؤم لشدة حاجتهم، وقيل: أراد أن يريهم بره، وكرمه، وإحسانه إليهم؛ ليكون ذلك أدعى إلى الرجوع إليه.
هذا؛ و {رِحالِهِمْ} جمع: رحل، وهو يطلق على منزل الرجل، وعلى محلة القوم التي يقطنونها، والرحل للناقة؛ كالسرج للفرس، والبردعة للحمار، وهو يطلق على أثاث الرجل وأمتعته، والمراد به في الآية الكريمة: الوعاء الذي يوضع فيه الطعام ويحمل على ظهر الجمل بدليل ما يأتي في الآية رقم [75] وما بعدها، هذا؛ وقرئ:{لِفِتْيانِهِ} و «(لفتيته)» وكلاهما جمع:
فتى، لكن الأول جمع كثرة، والثاني جمع قلة، وهو أشبه من الأول هنا؛ لأن الذين تولوا هذا العمل قليلون، هذا؛ والفتى: الشاب، ويطلق على السيد، والشريف، والكريم؛ كما يطلق على المستخدم من عبد وغيره، كما في الآية الكريمة، وكما في فتى موسى عليه السلام، و (الفتاء) بالمد: الشباب، والفتوة، الشجاعة، والسيادة، والشرف هذا؛ وقيل: الفتوة: بذل الندى، وكف الأذى، وترك الشكوى، واجتناب المحارم، واستعمال المكارم، ويجمع الفتى أيضا على: فتوّ، كما في قول جذيمة الأبرش:[الخفيف]
في فتوّ أنا رابئهم
…
من كلال غزوة ماتوا
وهو شاذ؛ لأن أصل (فتى) فتيّ، فهو يائي، وليس واويا. تأمل.
الإعراب: {وَقالَ} : الواو: حرف عطف. (قال): ماض، وفاعله يعود إلى يوسف على نبينا، وعليه أفضل صلاة وأزكى تحية وتسليم. {لِفِتْيانِهِ}: متعلقان بالفعل قبلهما، والهاء في محل جر
بالإضافة، {اِجْعَلُوا}: أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول. {بِضاعَتَهُمْ}: مفعول به أول. {فِي رِحالِهِمْ} : متعلقان بالفعل قبلهما، وهما في محل نصب مفعوله الثاني، والهاء في محل جر بالإضافة، والميم في الجميع حرف دال على جماعة الذكور، وجملة: (قال
…
) إلخ معطوفة على ما قبلها لا محل لها مثلها.
{لَعَلَّهُمْ} : حرف مشبه بالفعل، والهاء اسمها. {يَعْرِفُونَها}: مضارع وفاعله ومفعوله، والجملة الفعلية في محل رفع خبر لعل، والجملة الاسمية:{لَعَلَّهُمْ..} . إلخ مفيدة للتعليل لا محل لها.
{إِذَا} : ظرف زمان مبني على السكون في محل نصب متعلق بالفعل قبله. {اِنْقَلَبُوا} : فعل ماض وفاعله، والألف للتفريق. {إِلى أَهْلِهِمْ}: متعلقان بمحذوف حال من واو الجماعة، التقدير:
راجعين إلى أهلهم، وجملة:{اِنْقَلَبُوا..} . إلخ في محل جر بإضافة {إِذَا} إليها، واعتبارها شرطية ضعيف، والجملة الاسمية:{لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} تعليل آخر لجعل البضاعة في رحالهم.
الشرح: {فَلَمّا رَجَعُوا إِلى أَبِيهِمْ قالُوا يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ} : منعنا ملك مصر الميرة من عنده إن لم نأخذ له «بنيامين»
…
وأخبروه بما كان من أمرهم، وإكرامه لهم، وما دار بينهم من أحاديث حتى طلب بنيامين ليتأكد من صحة أحاديثهم. {فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا}: بنيامين. {نَكْتَلْ} : نرفع المانع من الميرة، هذا؛ ويقرأ:«(يكتل)» بالياء، أي: يكتل (بنيامين) حمل بعير آخر يضاف لأحمالنا. {وَإِنّا لَهُ لَحافِظُونَ} أي: من أن يناله مكروه وحتى نرده إليك سالما غانما.
الإعراب: {فَلَمّا} : الفاء: حرف استئناف، (لما): انظر الآية رقم [59]{رَجَعُوا} : ماض والواو فاعله، والألف للتفريق. {إِلى أَبِيهِمْ}: متعلقان بما قبلهما، وعلامة الجر الياء نيابة عن الكسرة؛ لأنه من الأسماء الخمسة، والهاء في محل جر بالإضافة، وجملة:{رَجَعُوا إِلى أَبِيهِمْ} مثل جملة: {جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ} قالوا: ماض وفاعله. يا: أداة نداء تنوب مناب أدعو. (أبانا):
منادى منصوب، وعلامة نصبه الألف؛ لأنه من الأسماء الخمسة، و (نا): في محل جر بالإضافة. {مُنِعَ} : ماض مبني للمجهول. {مِنَّا} : متعلقان ب {مُنِعَ} . {الْكَيْلُ} : نائب فاعل، والجملة الفعلية والجملة الندائية في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالُوا..} . إلخ جواب (لما) لا محل لها، و (لما) ومدخولها كلام مستأنف لا محل له. {فَأَرْسِلْ}: الفاء:
حرف عطف على رأي: من يرى جواز عطف الإنشاء على الخبر، وابن هشام يعتبرها للسببية المحضة، وأراها الفصيحة؛ لأنها تفصح عن شرط مقدر. (أرسل): أمر والتماس، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» . {مَعَنا} : ظرف مكان متعلق بما قبله، و (نا): في محل جر بالإضافة.
{أَخانا} : مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الألف نيابة عن الفتحة؛ لأنه من الأسماء الخمسة، و (نا): في محل جر بالإضافة. {نَكْتَلْ} : مضارع مجزوم لوقوعه جوابا للطلب، وهو عند الجمهور مجزوم بشرط محذوف، والفاعل مستتر تقديره:«نحن» ، أو هو حسب ما رأيت، والجملة الفعلية لا محل لها، وجملة: (أرسل
…
) إلخ لا محل لها؛ لأنها جواب شرط غير جازم، التقدير: (وإذا كان ما ذكر حاصلا فأرسل
…
) إلخ، والكلام كله في محل نصب مقول القول {وَإِنّا لَهُ لَحافِظُونَ} إعرابها مثل إعراب:{وَإِنّا لَفاعِلُونَ} بلا فارق.
الشرح: {قالَ} أي: يعقوب عليه السلام. {هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ..} . إلخ: أي: كيف آمنكم على بنيامين، وقد فعلتم بأخيه يوسف ما فعلتم، وقد تعهدتم بحفظه ورعايته، أي: فلم يطمئن لحفظهم، ورعايتهم ل (بنيامين). {فَاللهُ خَيْرٌ حافِظاً} أي: فإذا كان لا بد من إرساله معكم، فإني أكل حفظه إلى الله تعالى، ففيه التفويض إلى الله تعالى، والاعتماد عليه في جميع الأمور. {وَهُوَ أَرْحَمُ الرّاحِمِينَ}: وهذا يدل على أنه وافق على إرساله معهم، وإنما أرسله معهم؛ لأنه لم ير بينهم وبين بنيامين من الحقد والحسد ما كان بينهم وبين «يوسف» ، أو أنه شاهد منهم الخير والصلاح لما كبروا، أو أن شدة القحط وضيق الحال أحوجه إلى ذلك.
قال كعب الأحبار: لما قال يعقوب {فَاللهُ خَيْرٌ حافِظاً} قال الله تعالى: وعزتي وجلالي لأردن عليك ابنيك كليهما بعد ما توكلت علي! هذا؛ وقرئ: «فالله خير حفظا» ، وقرئ:«خير حافظ» ، وقرئ:«(خير الحافظين)» .
الإعراب: {قالَ} : ماض، وفاعله مستتر تقديره:«هو» ؛ يعود إلى أبيهم يعقوب. {هَلْ} :
حرف استفهام معناه النفي. {آمَنُكُمْ} : مضارع، والفاعل مستتر تقديره:«أنا» ، والكاف مفعوله. {عَلَيْهِ}: متعلقان بما قبلهما. {إِلاّ} : حرف حصر {كَما} الكاف: حرف تشبيه وجر. (ما): مصدرية. {أَمِنْتُكُمْ} : فعل وفاعل ومفعول به، {عَلى أَخِيهِ}: متعلقان بما قبلهما، وعلامة الجر الياء نيابة عن الكسرة؛ لأنه من الأسماء الخمسة، والهاء في محل جر بالإضافة. {مِنْ قَبْلُ}: متعلقان بما قبلهما أيضا، أو هما متعلقان بمحذوف حال من {أَخِيهِ،} وبني {قَبْلُ} على الضم لقطعه عن الإضافة لفظا، لا معنى، و (ما) المصدرية والفعل بعدها في تأويل مصدر في محل جر بالكاف، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف صفة لمصدر محذوف، واقع مفعولا مطلقا، التقدير: لا آمنكم عليه إلا ائتمانا كائنا مثل ائتماني لكم على أخيه، وهذا ليس مذهب سيبويه، وإنما مذهبه في مثل هذا التركيب أن يكون منصوبا على الحال من المصدر
المضمر المفهوم من الفعل المتقدم، وإنما أحوج سيبويه إلى هذا؛ لأن حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه، لا يجوز إلا في مواضع محصورة، وليس هذا منها. {فَاللهُ}: الفاء: هي الفصيحة، انظر الشرح. (الله): مبتدأ. {خَيْرٌ} : خبره، {حافِظاً}: تمييز، وقيل: حال من لفظ الجلالة، ولا تجوز الحالية على قراءة «(حفظا)» ، وعلى قراءة الجر ف {خَيْرٌ}: مضاف، و {حافِظاً}: مضاف إليه، والجملة الاسمية لا محل لها؛ لأنها جواب لشرط غير جازم، انظر تقديره في الشرح، والجملة الاسمية:{وَهُوَ أَرْحَمُ الرّاحِمِينَ} معطوفة على ما قبلها لا محل لها، وإن اعتبرتها في محل نصب حال من الضمير المستتر ب {حافِظاً} فلست مفندا.
الشرح: {وَلَمّا فَتَحُوا مَتاعَهُمْ} أي: أوعيتهم ورحالهم. {وَجَدُوا بِضاعَتَهُمْ} : وجدوا ثمن الطعام الذي دفعوه ليوسف عليه السلام قد دس في رحالهم. {رُدَّتْ إِلَيْهِمْ} : قرئ بكسر الراء وضمها. {قالُوا يا أَبانا ما نَبْغِي} : ماذا نطلب وماذا نريد؟! أي: أي شيء نريد من ملك مصر فوق هذا الإحسان وهذا الإكرام، فقد أحسن مثوانا، وباعنا، ورد علينا ثمن الطعام الذي أعطيناه له؟! أو المعنى:{ما نَبْغِي} من البغي وتجاوز الحد، أي: لا نكذب ولا نتجاوز الحد في وصف الملك. {هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا} : هذه أثمان الطعام الذي أتينا به من ملك مصر قد رد إلينا بكامله، فهل بعد هذا الإحسان إحسان؟! {وَنَمِيرُ أَهْلَنا} أي: نجلب الطعام لأهلنا، إن أرسلت معنا بنيامين إلى الملك ليتحقق من صحة قولنا، وقرئ بضم النون، بمعنى: نعين أهلنا على الميرة. {وَنَحْفَظُ أَخانا} أي: من المكاره والمخاوف في ذهابنا، وإيابنا حتى نرده إليك سالما غانما. {وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ} أي: حمل جمل لأخينا إن ذهب معنا؛ لأن الملك لا يعطي الرجل أكثر من حمل جمل واحد. {ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ} أي: إن ما أتينا به من الطعام لا يكفينا لأنه قليل، أو المعنى إن حمل جمل ل «بنيامين» شيء قليل، وهين على الملك لا يضايقه، فهو يعطينا إياه بسهولة ويسر، هذا؛ والبعير يشمل الجمل والناقة كالإنسان للرجل والمرأة، وإنما يسمى بعيرا إذا بزل نابه، أي: ظهر، ويجمع على أبعرة، وبعران، وجمع الجمع: أباعر وأباعير.
الإعراب: {وَلَمّا} : الواو: حرف استئناف. (لما): انظر الآية رقم [59]{فَتَحُوا} : ماض مبني على الضم؛ لاتصاله بواو الجماعة؛ التي هي فاعله، والألف للتفريق، هذا هو الإعراب المتعارف عليه في مثل هذه الكلمة، والإعراب الحقيقي أن تقول: فعل ماض مبني على فتح مقدر على آخره، منع من ظهوره اشتغال المحل بالضم الذي جيء به لمناسبة الواو، ويقال اختصارا:
فعل وفاعل، والجملة الفعلية لا محل لها على اعتبار (لمّا) حرفا، وفي محل جر بإضافة (لمّا) إليها على اعتبارها ظرفا، {مَتاعَهُمْ}: مفعول به، والهاء في محل جر بالإضافة، وجملة:
{وَجَدُوا..} . إلخ جواب (لمّا) لا محل لها. {رُدَّتْ} : ماض مبني للمجهول، والتاء للتأنيث، ونائب الفاعل مستتر تقديره هي. {إِلَيْهِمْ}: متعلقان بما قبلهما، وجملة:{رُدَّتْ إِلَيْهِمْ} في محل نصب مفعول به ثان. {قالُوا} : فعل وفاعل، والألف للتفريق، {يا أَبانا}:(يا): أداة نداء تنوب مناب أدعو: (أبانا): منادى منصوب، وعلامة نصبه الألف نيابة عن الفتحة؛ لأنه من الأسماء الخمسة، و (نا): في محل جر بالإضافة، {لَمّا}: اسم استفهام مبني على السكون في محل نصب مفعول به مقدم، إن كان الفعل متعديا، وفي محل رفع مبتدأ، إن كان لازما، هذا؛ وأجيز اعتبارها نافية. {نَبْغِي}: مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل، والفاعل مستتر تقديره:«نحن» وقرئ بتاء المضارعة خطابا ليعقوب عليه السلام، فيكون الفاعل مستترا تقديره:«أنت» ، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ على اعتبار {لَمّا} مبتدأ، والفعل لازما، وعلى جميع الاعتبارات فالجملة مع الجملة الندائية في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالُوا..} . إلخ مستأنفة لا محل لها. {هذِهِ} : اسم إشارة مبني على الكسر في محل رفع مبتدأ، والهاء حرف تنبيه لا محل له. {بِضاعَتُنا}: خبر المبتدأ، و (نا): في محل جر بالإضافة، وجملة:{رُدَّتْ إِلَيْنا} في محل نصب حال من {بِضاعَتُنا} والرابط عود نائب الفاعل إليه، وهي على تقدير (قد) قبلها، والعامل في الحال اسم الإشارة، وهي على نحو:{وَهذا بَعْلِي شَيْخاً..} . والجملة الاسمية: {هذِهِ بِضاعَتُنا..} . إلخ في محل نصب مقول القول، وإن قيل: هي مستأنفة موضحة لقوله: {ما نَبْغِي} فلا بأس به. {وَنَمِيرُ} : مضارع، والفاعل مستتر تقديره:
«نحن» . {أَهْلَنا} : مفعول به، و (نا): في محل جر بالإضافة، وجملة: (نمير
…
) إلخ معطوفة على جملة محذوفة، وتقدير الكلام: إن بضاعتنا ردت إلينا، فنستعين بها ونمير أهلنا، والجملتان {وَنَحْفَظُ أَخانا وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ} معطوفتان عليها. {ذلِكَ}: اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع مبتدأ، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب لا محل له. {كَيْلَ}: خبره. {يَسِيرٌ} :
صفة كيل، والجملة الاسمية:{ذلِكَ..} . إلخ مستأنفة، وهي في محل نصب مقول القول.
الشرح: {قالَ} أي: يعقوب. {لَنْ أُرْسِلَهُ} أي: «بنيامين» . {حَتّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللهِ} أي: حتى تؤتون عهدا مؤكدا بذكر الله، أو بإشهاد الله. {لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلاّ أَنْ يُحاطَ بِكُمْ}: لترجعن ببنيامين من مصر؛ إلا أن تغلبوا فلا تطيقوا ذلك، أو إلا أن تهلكوا جميعا. {فَلَمّا آتَوْهُ}
{مَوْثِقَهُمْ} : فلما أعطوه عهدهم المؤكد بإشهاد الله. {قالَ} أي: يعقوب: {اللهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ} أي: على ما طلبت من العهد، وعلى ما أعطيتموه الله رقيب وشاهد، وقيل: حافظ، هذا؛ ولا تنس: أن إعلال: {لَتَأْتُنَّنِي} مثل إعلال {لَيَسْجُنُنَّهُ} في الآية رقم [35].
الإعراب: {قالَ} : ماض، وفاعله يعود إلى يعقوب. {لَنْ}: حرف نفي ونصب واستقبال.
{أُرْسِلَهُ} : مضارع منصوب ب {لَنْ،} والفاعل مستتر تقديره: «أنا» ، والهاء مفعول به.
{مَعَكُمْ} : ظرف مكان متعلق بما قبله، والكاف في محل جر بالإضافة. {حَتّى}: حرف غاية وجر. {تُؤْتُونِ} : مضارع منصوب ب «أن» مضمرة بعد حتى، وعلامة نصبه حذف النون، والواو فاعله، والنون للوقاية، وياء المتكلم المحذوفة المدلول عليها بكسرة النون مفعول به أول، و «أن» المضمرة والمضارع في تأويل مصدر في محل جر ب {حَتّى،} والجار والمجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {مَوْثِقاً} : مفعول به ثان. {مِنَ اللهِ} : متعلقان بموثقا، أو بمحذوف صفة له.
{لَتَأْتُنَّنِي} : اللام: واقعة في جواب القسم المفهوم مما قبلها. (تأتنني): مضارع مرفوع، وعلامة رفعه النون المحذوفة لتوالي الأمثال، وواو الجماعة المحذوفة المدلول عليها بالضمة فاعله، والنون المشددة للتوكيد، والمخففة للوقاية، وياء المتكلم مفعول به، والجملة الفعلية جواب القسم؛ إذ التقدير والمعنى: حتى تحلفوا بالله لتأتنني. {بِهِ} : متعلقان بما قبلهما، والكلام في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالَ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها. {إِلاّ} : حرف حصر.
{أَنْ يُحاطَ} : مضارع مبني للمجهول منصوب ب {أَنْ} . {بِكُمْ} : متعلقان بما قبلهما نائب فاعل، و {أَنْ} المصدرية والمضارع في تأويل مصدر في محل نصب على الاستثناء المفرغ من عموم الأحوال، التقدير: لتأتنّني به على كل حال من الأحوال إلا حال الإحاطة بكم، أو من أعم العلل على تضمين الكلام معنى النفي، أي: لا تمتنعون من الإتيان به إلا للإحاطة بكم.
{فَلَمّا} : الفاء: حرف استئناف. (لما): انظر الآية رقم [59]{آتَوْهُ} : ماض وفاعله ومفعوله الأول. {مَوْثِقَهُمْ} : مفعول به ثان، والهاء في محل جر بالإضافة من إضافة المصدر الميمي لفاعله، والجملة الفعلية:{آتَوْهُ..} . إلخ لها محل، أو لا محل لها انظر الآية السابقة. {قالَ}:
ماض وفاعله مستتر يعود إلى يعقوب. {اللهِ} : مبتدأ. {عَلى} : حرف جر. {فَلَمّا} تحتمل الموصولة، والموصوفة، والمصدرية، فعلى الأولين مبنية على السكون في محل جر ب {عَلى،} والجملة الفعلية بعدها صلتها أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف، والجار والمجرور متعلقان بوكيل بعدهما، الذي هو خبر المبتدأ، وتقدير الكلام: الله وكيل على الذي، أو على شيء نقوله، وعلى اعتبار {فَلَمّا} مصدرية تؤول مع الفعل بعدها بمصدر في محل جر ب {عَلى،} والجار والمجرور متعلقان ب {وَكِيلٌ،} وتقدير الكلام الله وكيل على قولنا، والجملة الاسمية على الاعتبارين في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالَ..} . إلخ جواب (لمّا) لا محل لها، و (لمّا) ومدخولها كلام مستأنف لا محل له.
الشرح: {وَقالَ يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ} : يوصي يعقوب عليه السلام بنيه أن يدخلوا مدينة يوسف، أي: عاصمته من أبواب متفرقة، وكان للمدينة أربعة أبواب، وإنما أوصاهم بذلك؛ لأنهم كانوا ذوي جمال وأبهة، مشتهرين بالقربة والكرامة عند الملك مع كونهم أبناء رجل واحد، فخاف عليهم، إذا دخلوا في كوكبة واحدة أن يصابوا بالعين، ولعله لم يوصهم بذلك في المرة الأولى؛ لأنهم كانوا مجهولين حينئذ، أو كان الداعي لذلك خوفه على بنيامين.
{وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ} أي: مما قضى عليكم، بما أشرت به إليكم، فإن الحذر لا يمنع القدر مجتمعين كنتم أو متفرقين. {إِنِ الْحُكْمُ إِلاّ لِلّهِ}: يصيبكم بما أراد لا محالة إن قضى عليكم بشيء وقدره، ولا ينفعكم ما أوصيتكم به. وانظر الآية رقم [40]. {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} أي: اعتمدت في أموري كلها على الله لا على غيره. {وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ} أي: عليه فليعتمد المعتمدون، وليفوضوا أمورهم وشئونهم إليه.
هذا؛ والتوكل: تفويض الرجل الأمر إلى من يملك أمره، ويقدر على نفعه وضره، وقالوا:
المتوكل من إن دهمه أمر، لم يحاول دفعه عن نفسه بما هو معصية لله، فعلى هذا إذا وقع الإنسان في محنة، ثم سأل غيره خلاصه منها، لم يخرج عن حد التوكل؛ لأنه لم يحاول دفع ما نزل به عن نفسه بمعصية الله، وإنما هو من تعاطي الأسباب في دفع المحنة.
بعد هذا انظر شرح {واحِدٍ} في الآية رقم [39]، وأصل {يا بَنِيَّ} يا بنين لي، فحذف حرف الجر، واتصلت ياء المتكلم بالاسم، فحذفت النون للإضافة، ثم أدغمت ياء المتكلم بالياء التي هي لجمع المذكر السالم، وانظر الإعراب.
تنبيه: ذكرت لك أن يعقوب عليه السلام خاف على أولاده من العين، وقد ثبت أن للعين تأثيرا، وقد أقر نبينا وحبيبنا صلى الله عليه وسلم ذلك في أحاديثه الشريفة، فمن ذلك قوله:«إن العين لتدخل الرجل القبر، والجمل القدر» ومنه تعوذه صلى الله عليه وسلم «أعوذ بكلمات الله التّامّة، من كلّ شيطان وهامّة، ومن كلّ عين لامّة» . وهذا الحديث رواه البخاري وأصحاب السنن. انتهى. جمل. عن ابن عباس-رضي الله عنهما، وعنه أيضا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«العين حقّ، ولو كان شيء سابق القدر لسبقته العين» . رواه مسلم، لكن ذلك بمشيئة الله تعالى، كما قال جل شأنه:{وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاّ بِإِذْنِ اللهِ} .
هذا؛ ويروى أن عامر بن ربيعة أصاب أبا سهل بن حنيف بالعين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«علام يقتل أحدكم أخاه؟ ألا برّكت، إنّ العين حقّ. توضّأ له» . ومعنى بركت: هلا قلت:
تبارك الله أحسن الخالقين، اللهم بارك فيه، ومفهومه: أن التبريك يدفع أذى العين، ومن ذلك
قولك: ما شاء الله كان، والصلاة والسّلام على الرسول يمنع ذلك أيضا، وفي قول الرسول صلى الله عليه وسلم للعاين:(توضأ) أمر له بالوضوء الكامل للصلاة في إناء، ثم يغتسل المصاب بماء الوضوء، فإنه شفاء له بإذن الله، وهذا إذا عرف العائن، وإذا لم يعرف؛ فالقرآن شفاؤه، أي: للمصاب، فتلاوة الفاتحة والمعوذتين عليه شفاء له بإذن الله تعالى، هذا؛ ولا يفوتني أن أذكر أنه لا يشترط أن يكون العائن فقيرا، أو فاسقا، أو كافرا، فقد يكون من أغنى الأغنياء، وقد يكون من أتقى الأتقياء، {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} .
الإعراب: {وَقالَ} : الواو: حرف عطف، (قال): ماض، وفاعله يعود إلى يعقوب أبيهم.
(يا): حرف نداء ينوب مناب أدعو. (بني): منادى منصوب، وعلامة نصبه الياء نيابة عن الفتحة؛ لأنه ملحق بجمع المذكر السالم، وحذفت النون للإضافة، وياء المتكلم في محل جر بالإضافة.
{لا تَدْخُلُوا} : مضارع مجزوم ب {لا} الناهية، وعلامة جزمه حذف النون
…
إلخ، والواو فاعله، والألف للتفريق. {مِنْ بابٍ}: متعلقان بما قبلهما. {واحِدٍ} : صفة باب. {وَادْخُلُوا} :
الواو: حرف عطف. (ادخلوا): أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، هذا هو الإعراب المتعارف عليه في مثل هذه الكلمة، والإعراب الحقيقي أن تقول: مبني على السكون المقدر على آخره، منع من ظهوره اشتغال المحل بالضم الذي جيء به لمناسبة الواو، ويقال: منع من ظهوره إرادة التخلص من التقاء الساكنين، وحرك بالضم لمناسبة واو الجماعة، وقل مثله في قولك (ادخلا) والمانع من ظهور السكون الفتح الذي جيء به لمناسبة ألف الاثنين، وأيضا قولك:(ادخلي): والمانع من ظهور السكون الكسر الذي جيء به لمناسبة ياء المؤنثة المخاطبة.
{مِنْ أَبْوابٍ} : متعلقان بالفعل قبلهما. {مُتَفَرِّقَةٍ} : صفة أبواب. {وَما} : الواو: واو الحال.
(ما): نافية: {أُغْنِي} : مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء، والفاعل مستتر تقديره:«أنا» . {عَنْكُمْ مِنَ اللهِ} : كلاهما متعلقان بالفعل قبلهما وأجيز تعليق {مِنَ اللهِ} بمحذوف حال من {شَيْءٍ،} كان صفة له، فلما قدم عليه صار حالا على القاعدة. {مِنْ}:
حرف جر صلة، {شَيْءٍ}: مفعول به منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على آخره منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد، والجملة الفعلية:{وَما أُغْنِي..} . إلخ في محل نصب حال من واو الجماعة، أو من ياء المتكلم، والرابط على الاعتبارين الواو، والضمير.
{إِنِ} : حرف نفي. {الْحُكْمُ} : مبتدأ. {إِلاّ} : حرف حصر. {اللهِ} : متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ. {عَلَيْهِ} : متعلقان بالفعل بعدهما. {تَوَكَّلْتُ} : فعل وفاعل. {وَعَلَيْهِ} : الواو: حرف عطف. (عليه): متعلقان بما بعدهما. الفاء: زائدة، (ليتوكل): مضارع مجزوم بلام الأمر، وحرك بالكسرة لالتقاء الساكنين، {الْمُتَوَكِّلُونَ}: فاعل مرفوع، وعلامة رفعه الواو
…
إلخ، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، بعد هذا ينبغي أن تعلم: أن الآية بكاملها في محل نصب مقول القول، وجملة: (قال
…
) إلخ مستأنفة لا محل لها.
الشرح: {وَلَمّا دَخَلُوا} أي: المدينة. {مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ} أي: من أبواب متفرقة. {ما كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللهِ..} . إلخ: أي: لم ينفعهم رأي يعقوب بالدخول من أبواب متفرقة، أو لم ينفعهم الدخول نفسه. {إِلاّ حاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها}: وهي شفقته عليهم، وتحرزه من أن ينالهم سوء، أو يعانوا بلاء وشدة. {قَضاها}: أظهرها، ووصى بها أولاده، قيل: هي خوفه عليهم من العين، وقيل: خوفه من حسد أهل مصر. {وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ} أي: صاحب علم وعمل بما يعلم. {لِما عَلَّمْناهُ} أي: لتعليمنا إياه ذلك العلم، وذلك بالوحي ونصب الحجج والبراهين، ولذا لم يغتر بتدبيره وإرشاده، فقال:{وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ} {وَلكِنَّ أَكْثَرَ النّاسِ لا يَعْلَمُونَ} أي: لا يعلمون ما يعلم يعقوب من أمر دينه، وقال البيضاوي: لا يعلمون سر القدر، وأنه لا يغني عنه الحذر.
الإعراب: {وَلَمّا} : الواو: حرف استئناف. (لما): انظر الآية رقم [59]{دَخَلُوا} : ماض وفاعله، والألف للتفريق. {مِنْ حَيْثُ}: متعلقان بالفعل قبلهما، وحيث مبني على الضم في محل جر. {أَمَرَهُمْ}: ماض، والهاء مفعول به. {أَبُوهُمْ}: فاعل مرفوع، وعلامة رفعه الواو نيابة عن الضمة؛ لأنه من الأسماء الخمسة، والهاء في محل جر بالإضافة، وجملة:{أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ} في محل جر بإضافة {حَيْثُ} إليها، وجملة:{دَخَلُوا..} . إلخ ابتدائية لا محل لها على اعتبار (لما) حرفا، وفي محل جر بإضافة (لمّا) إليها على اعتبارها ظرفا. {لَمّا}: نافية. {كانَ} : ماض ناقص، واسمه مستتر تقديره:«هو» يعود إلى رأي يعقوب المفهوم من المقام. أو إلى الدخول نفسه المفهوم من (دخلوا). {يُغْنِي} : مضارع مرفوع
…
إلخ، وفاعله، يعود إلى ما عاد إليه اسم كان.
{عَنْهُمْ} : متعلقان بالفعل قبلهما. {مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ} : انظر إعرابهما في الآية السابقة، ويزاد جواز اعتبار:{شَيْءٍ} فاعلا ل {يُغْنِي} وهو ضعيف، وجملة:{يُغْنِي..} . إلخ في محل نصب خبر كان، وجملة:{ما كانَ..} . إلخ جواب (لمّا) لا محل لها قال سليمان الجمل: وفيه حجة لمن يدعي كون (لمّا) حرفا، لا ظرفا؛ إذ لو كانت ظرفا لعمل فيها جوابها؛ إذ لا يصلح للعمل سواه، لكن ما بعد ما النافية لا يعمل فيها قبلها، وأجاز أبو البقاء اعتبار جملة:{آوى..} . إلخ في الآية التالية جوابا ل (لمّا) هذه، وللثانية الآتية، كقولك: لمّا جئتك، ولمّا كلمتك؛ أجبتني، ثم قال:
وحسن ذلك: أن دخولهم على يوسف يعقب دخولهم من الأبواب، كما أجاز اعتبار الجواب محذوفا، تقديره: امتثلوا، أو قضوا حاجة أبيهم ونحوه، وعلى الاعتبارين فجملة:{ما}
كانَ
…
إلخ في محل نصب حال من الضمائر العائدة على أولاد يعقوب، والرابط: الواو، والضمير، والتقدير: حالة كونه غير مغن عنهم، دخولهم متفرقين، ولا يخفى: أن الإعراب الأول أولى بالاعتبار. {إِلاّ} : أداة استثناء منقطع، بمعنى لكن. {حاجَةً}: منصوب. على الاستثناء، وقال أبو البقاء: مفعول لأجله. {فِي نَفْسِ} : متعلقان بمحذوف صفة حاجة، و {نَفْسِ} مضاف، ويعقوب مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الفتحة نيابة عن الكسرة؛ لأنه ممنوع من الصرف للعلمية والعجمة. {قَضاها}: ماض مبني على فتح مقدر على الألف، و (ها): مفعول به، والفاعل يعود إلى {يَعْقُوبَ} والجملة الفعلية في محل نصب حال منه، والرابط: رجوع الفاعل إليه، وهي على تقدير (قد) قبلها. {وَإِنَّهُ}: الواو: واو الحال. (إنه): حرف مشبه بالفعل، والهاء اسمها.
{لَذُو} : اللام: هي المزحلقة. (ذو): خبر (إن) مرفوع، وعلامة رفعه الواو نيابة عن الضمة؛ لأنه من الأسماء الخمسة، و (ذو): مضاف، و {عِلْمٍ}: مضاف إليه، والجملة الاسمية (إنه
…
) إلخ في محل نصب حال من {يَعْقُوبَ،} فهي حال متعددة، أو من فاعل {قَضاها،} فتكون حالا متداخلة، وعلى الاعتبارين فالرابط: الواو، والضمير. {لَمّا}: اللام: حرف جر. (ما):
مصدرية. {عَلَّمْناهُ} : فعل وفاعل ومفعوله الأول، والثاني محذوف، التقدير: علمناه إياه، و (ما) المصدرية والفعل بعدها في تأويل مصدر في محل جر باللام، والجار والمجرور متعلقان ب {عِلْمٍ} أو بمحذوف صفة له، التقدير: لتعليمنا إياه، هذا؛ وإن اعتبرت (ما) موصولة، فيكون التقدير: وإنه لذو علم للشيء الذي علمناه إياه، وهو معنى صحيح. {وَلكِنَّ أَكْثَرَ النّاسِ لا يَعْلَمُونَ} انظر إعراب هذه الجملة في الآية رقم [21] وهي معطوفة على ما قبلها، فهي في محل نصب حال مثلها، والرابط محذوف، وهو مفعول الفعل؛ إذ التقدير: لا يعلمون ذلك العلم.
الشرح: {وَلَمّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ} أي: في محل حكمه، {آوى إِلَيْهِ أَخاهُ}: ضم إليه أخاه (بنيامين)، تقول: أوى إليه: إذا التجأ، واطمأن إليه، وأصل {آوى}:(أأوى) بهمزتين، قلبت الثانية مدّا مجانسا لحركة الأولى، مثل: آمن وآدم ونحوهما، فلا تبتئس: فلا تغتم بسوء عملهم، والبؤس: الضيق والشدة والفقر
…
إلخ، والبؤس الحزن الشديد، قال الشاعر:[الطويل]
وكم من خليل، أو حميم رزئته
…
فلم أبتئس والرّزء فيه جليل
يقال: ابتأس الرجل: إذا بلغه شيء يكرهه، والابتئاس حزن في استكانة.
تنبيه: قال المفسرون: لما دخل إخوة يوسف عليه، قالوا: أيها الملك هذا أخونا الذي طلبت منا إحضاره! فقال لهم: أحسنتم ثم أنزلهم عنده، وصنع لهم طعاما، وأجلس كل اثنين
على مائدة، فبقي بنيامين وحيدا، فبكى، وقال: لو كان أخي يوسف حيّا لأجلسني معه، فقال لهم يوسف: أنا أجلسه معي، فأجلسه معه على مائدته، فلما أتى الليل؛ أمر لهم بمثل ذلك من الفراش، وقال: كل اثنين ينامان في بيت واحد، وقال: هذا ينام عندي، فلما خلا به، قال له:
إني أنا أخوك يوسف، وقام إليه وعانقه، وقال له: لا تبتئس
…
إلخ، قال بنيامين: أنا لا أفارقك، فقال يوسف: قد علمت اغتمام والدي بي، فإذا حبستك ازداد غمه وحزنه، ولا يمكنني هذا إلا بعد أن أشهرك بأمر فظيع، وأنسبك إلى ما لا يحمد، قال: لا أبالي افعل ما بدا لك، فإني لا أفارقك، قال يوسف: فإني أدس صاعي في رحلك، ثم أنادي عليك بالسرقة لأحتال في ردك بعد إطلاقك، قال: افعل ما شئت! والآيات التالية توضح ذلك، وتشرحه.
الإعراب: {وَلَمّا} : الواو: حرف عطف. لما: انظر الآية رقم [59]، وقل في جملة:
{دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ} ما رأيته في الآية السابقة. {آوى} : ماض مبني على فتح مقدر على الألف للتعذر، والفاعل يعود إلى {يُوسُفَ}. {إِلَيْهِ}: متعلقان بالفعل قبلهما. {أَخاهُ} :
مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الألف نيابة عن الفتحة؛ لأنه من الأسماء الخمسة، والهاء في محل جر بالإضافة، وجملة:{آوى..} . إلخ جواب (لمّا) لا محل لها، و (لمّا) ومدخولها كلام معطوف على ما قبله لا محل له مثله. {قالَ}: ماض، وفاعله يعود إلى {يُوسُفَ} أيضا.
{إِنِّي} : حرف مشبه بالفعل، وياء المتكلم اسمها، والجملة الاسمية:{أَنَا أَخُوكَ} في محل رفع خبر (إنّ)، والجملة الاسمية:{إِنِّي أَنَا أَخُوكَ} : في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالَ..} .
إلخ مستأنفة لا محل لها، قال أبو البقاء: وهكذا كل ما اقتضى جوابا، وذكر جوابه، ثم جاءت بعده (قال) فهي مستأنفة. ومثل هذه الآية قوله تعالى في الآية رقم [37] من سورة (آل عمران):
{فَلا} : الفاء: هي الفصيحة؛ لأنها تفصح عن شرط مقدر، وانظر الآية رقم [63]، {تَبْتَئِسْ}: مضارع مجزوم ب (لا) الناهية، والفاعل مستتر تقديره:«أنت» . {بِما} : متعلقان بما قبلهما، و (ما) تحتمل الموصولة، والموصوفة، والمصدرية، فعلى الأولين مبنية على السكون في محل جر بالباء، والجملة الفعلية بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد أو الرابط محذوف؛ إذ التقدير: فلا تبتئس بسبب الذي، أو شيء كانوا يعملونه، وعلى اعتبار (ما) مصدرية، تؤول مع ما بعدها بمصدر في محل جر بالباء، التقدير: فلا تبتئس بسبب عملهم الذي عملوه معنا.
{كانُوا} : ماض ناقص، والواو اسمه، والألف للتفريق، وجملة:{يَعْمَلُونَ} مع المفعول المحذوف في محل نصب خبرها. وجملة: {فَلا تَبْتَئِسْ..} . إلخ لا محل لها على جميع الوجوه المعتبرة في الفاء، والتقدير على اعتبار الفاء فصيحة: وإذا عرفت أني أخوك؛ فلا تبتئس
إلخ.
الشرح: {فَلَمّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ} : انظر الشرح في الآية رقم [59] مع ملاحظة اقتران الكلام هنا بالفاء، واقترانه هناك بالواو، والسبب في ذلك أن الواو لمطلق الجمع، والتجهيز هناك كان متصلا بمجيئهم ومعرفتهم وإكرامهم، والفاء للتعقيب، والتجهيز هنا قد تمادى عن دخولهم على يوسف بسبب إكرامهم وضيافتهم مدة طويلة، خذ هذا، وافهمه فإنه جيد لم يذكره أحد من المفسرين.
هذا؛ وقال الجمل: عبر هنا بالفاء إشارة إلى طلب سرعة سيرهم، وذهابهم لبلادهم؛ لأن الغرض منه قد حصل، وقد عرفت حالهم، بخلاف المرة الأولى كان المطلوب طول مدة إقامتهم ليتعرف الملك حالهم. انتهى. قارن بين قولي، وقوله، وانظر أي: القولين أصح.
{جَعَلَ السِّقايَةَ} هذا السقاية والصواع الآتي شيء واحد: إناء له رأسان في وسطه مقبض، كان الملك يشرب منه من الرأس الواحد، ويكال الطعام بالرأس الآخر، قاله النقاش عن ابن عباس-رضي الله عنهما-وكل شيء يشرب به فهو صواع، واختلف في جنسه، فقيل: هو من ذهب، وقيل: هو من فضة، وقيل: هو من زبرجد. انتهى. قرطبي بتصرف. {فِي رَحْلِ أَخِيهِ} :
انظر شرح الرحل في الآية رقم [62]{أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ} : نادى مناد بصوت رفيع، بعد انفصالهم عن مجلس يوسف. فأمهلهم يوسف حتى انطلقوا، وخرجوا من العمارة، ثم أرسل خلفهم من استوقفهم وحبسهم، بل قيل: إنهم وصلوا إلى بلبيس، وردّوا من عندها. والأذان في اللغة:
الإعلام.
{أَيَّتُهَا الْعِيرُ} أيتها القافلة، هذا؛ والعير كل ما امتير عليه من الإبل، والبغال، والحمير، والأول أشهر، والمراد أصحاب العير، فهو على حد قول الرسول صلى الله عليه وسلم:«يا خيل الله اركبي» .
{إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ} أي: فقفوا، والسرقة أخذ مال الغير في خفاء.
تنبيه: إن قيل: كيف رضي بنيامين بالقعود طوعا، وفيه عقوق الأب بزيادة الحزن، ووافقه على ذلك يوسف؟ والجواب: أن الحزن كان قد غلب على قلب يعقوب، بحيث لا يؤثر عليه فقد بنيامين كل التأثير، أولا تراه لما فقده؛ قال:{يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ} ولم يعرج على ذكر بنيامين، ولعل يوسف إنما وافقه على القعود بوحي.
وإن قيل: كيف نسب يوسف السرقة إلى إخوته، وهم براء، والجواب: أن القوم كانوا قد سرقوه من أبيه فألقوه في الجب، ثم باعوه، فاستحقوا هذا الاسم بذلك الفعل، فصدق إطلاق ذلك عليهم، فهو من المعاريض، وفي المعاريض مندوحة عن الكذب. وقيل: المراد: أيتها
العير حالكم حال السراق، وقيل: إن معنى الكلام الاستفهام، المعنى: أيتها العير أإنكم لسارقون؟ والغرض ألا يعزى الكذب إلى يوسف عليه السلام، وقيل: غير ذلك.
الإعراب: {فَلَمّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ} : انظر الآية رقم [59]. {جَعَلَ} : ماض، والفاعل يعود إلى يوسف، والمراد جنوده. {السِّقايَةَ}: مفعول به. {فِي رَحْلِ} : متعلقان بالفعل {جَعَلَ} وهما في محل نصب مفعول به ثان، و {رَحْلِ}: مضاف، و {أَخِيهِ}: مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الياء نيابة عن الكسرة؛ لأنه من الأسماء الخمسة، والهاء في محل جر بالإضافة، وجملة:
{جَعَلَ..} . إلخ جواب (لمّا) لا محل لها، هذا؛ وقال البيضاوي: وقرئ: «(وجعل)» على حذف جواب (لمّا)، التقدير: أمهلهم حتى انطلقوا، ولم أره لغيره، و (لمّا) ومدخولها كلام مستأنف لا محل له. {ثُمَّ}: حرف عطف. {أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ} : فعل وفاعل. أيتها: منادى نكرة مقصودة مبنية على الضم في محل نصب بأداة نداء محذوفة، و (ها): حرف تنبيه لا محل لها، أقحم للتوكيد، وهو عوض عن المضاف إليه. {الْعِيرُ}: بدل من أية، أو عطف بيان عليه، وانظر الآية رقم [88] الآتية {إِنَّكُمْ}: حرف مشبه بالفعل، والكاف اسمها. {لَسارِقُونَ}: اللام: هي المزحلقة.
(سارقون) خبر (إن) مرفوع وعلامة رفعه الواو
…
إلخ هذا؛ والجملتان: الندائية والاسمية في محل نصب مفعول به للفعل {أَذَّنَ} لأنه بمعنى نادى؛ وهو أولى من تقدير فعل محذوف، وجملة:{أَذَّنَ..} . إلخ معطوفة على جواب (لمّا) لا محل لها على الاعتبارين فيه.
{قالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ ماذا تَفْقِدُونَ (71)}
الشرح: {قالُوا} أي: إخوة يوسف. {وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ} : قال أصحاب الأخبار: لما وصل رسل الملك إليهم قالوا لهم موبخين: ألم نكرمكم، ونوف إليكم الكيل، ونفعل بكم ما لم نفعل بغيركم؟ قالوا بلى! وما ذاك، قالوا: فقدنا سقاية الملك. هذا؛ والفقد: غيبة الشيء عن الحس، بحيث لا يعرف مكانه.
الإعراب: {قالُوا} : ماض وفاعله، والألف للتفريق. {وَأَقْبَلُوا}: الواو: واو الحال. (أقبلوا) فعل وفاعل، والجملة الفعلية في محل نصب حال من واو الجماعة، والرابط: الواو، والضمير، وهي على تقدير (قد) قبلها. {عَلَيْهِمْ}: متعلقان بما قبلهما. {ماذا} اسم استفهام مبني على السكون في محل رفع مبتدأ، و (ذا): اسم موصول مبني على السكون في محل رفع خبره.
{تَفْقِدُونَ} : مضارع وفاعله، وهو يقرأ بفتح التاء، وضمها أيضا من: أفقدته: إذا وجدته فقيدا، والجملة الفعلية صلة الموصول لا محل لها، والعائد محذوف؛ إذ التقدير: ما الذي تفقدونه، هذا؛ ويجوز اعتبار {ماذا} اسم استفهام مركبا مبنيا على السكون في محل نصب مفعول به تقدم على عامله، والجملة سواء أكانت اسمية، أم فعلية في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالُوا..} . إلخ مستأنفة لا محل لها.
{قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (72)}
الشرح: {قالُوا} أي: المؤذن، ومن معه. {نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ}: الصواع: هو السقاية المذكورة في الآية رقم [70]، وهو يقرأ:«(صياع)» و (صواع)، و «(صَوَع)» و «(صُوَع)» ، و «(صُوَغ)» بالغين و «(صواغ)» أيضا من الصياغة، والصاع والصواع لغتان معناهما واحد وكلها شاذة ما عدا الأولى، وهو آلة الكيل، وتقدم أنه هو السقاية. {وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ} أي: من الطعام جعلا له، وانظر شرح:{بَعِيرٍ} في الآية رقم [65]، {وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} أي: كفيل، وهذا قول المؤذن وحده، فهو الذي كفل وضمن، هذا؛ والزعيم، والكفيل، والحميل، والضمين، والقبيل بمعنى واحد، والزعيم: الرئيس، وزعيم القوم من يدير شئونهم.
الإعراب: {قالُوا} : ماض وفاعله، والألف للتفريق. {نَفْقِدُ}: مضارع، وفاعله مستتر تقديره:«نحن» . {صُواعَ} : مفعول به، وهو مضاف، و {الْمَلِكِ}: مضاف إليه، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول. {وَلِمَنْ}: الواو: حرف عطف. (لمن): جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم، ومن تحتمل الموصولة، والموصوفة. {جاءَ}: ماض، وفاعله يعود إلى من، وهو العائد، أو الرابط. {بِهِ}: متعلقان بما قبلهما، وجملة:{جاءَ بِهِ} صلة (من)؛ أو صفتها. {حِمْلُ} : مبتدأ مؤخر، و {حِمْلُ}: مضاف، و {بَعِيرٍ}: مضاف إليه من إضافة المصدر لفاعله، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها، فهي في محل نصب مقول القول مثلها.
{وَأَنَا} : الواو: حرف استئناف. (أنا): مبتدأ. {بِهِ} : متعلقان بما بعدهما. {زَعِيمٌ} : خبر المبتدأ والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول؛ لأن قائل الجملة أحد القائلين بقوله تعالى: {قالُوا..} . إلخ ومع اعتبارها مستأنفة، فلا محل لها، فتكون لها محل باعتبار، ولا محل لها باعتبار آخر.
{قالُوا تَاللهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَما كُنّا سارِقِينَ (73)}
الشرح: {قالُوا} أي: إخوة يوسف، وانظر القول في الآية رقم [18] من سورة (هود) عليه السلام. {تَاللهِ}: قسم فيه معنى التعجب، والتاء بدل من الباء، وهي مختصة باسم الله تعالى، وربما قالوا: تربي، وترب الكعبة وتا الرحمن. والواو تختص بكل مظهر، والباء بكل مضمر ومظهر. {لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا..}. إلخ. قال المفسرون: قد حلفوا على أمرين: أحدهما: أنهم ما جاءوا لأمر الفساد في الأرض، والثاني: أنهم ما جاءوا سارقين، وإنما قالوا: هذه المقالة؛ لأنه كان ظهر من أحوالهم ما يدل على صدقهم، وهو أنهم كانوا مواظبين على أنواع الخير، والطاعة؛ حتى بلغ من أمرهم أنهم سدوا أفواه دوابهم؛ لئلا تؤذي زرع الناس، ومن كانت هذه
صفته فالفساد في حقه ممتنع، وكونهم غير سارقين لأنهم قد كانوا ردوا البضاعة التي وجدوها في رحالهم، ولم يستحلوا أخذها، ومن كانت هذه صفته فليس بسارق. انتهى. خازن.
الإعراب: {قالُوا} : فعل ماض وفاعله، والألف للتفريق. {تَاللهِ}: متعلقان بفعل محذوف، تقديره: نقسم. {لَقَدْ} : اللام: واقعة في جواب القسم. (قد): حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال. {عَلِمْتُمْ} : فعل وفاعل. {ما} : نافية معلقة للفعل قبلها عن العمل. {جِئْنا} : فعل وفاعل. {لِنُفْسِدَ} : مضارع منصوب ب «أن» مضمرة بعد لام التعليل، والفاعل مستتر تقديره:
«نحن» . {فِي الْأَرْضِ} : متعلقان بالفعل قبلهما، و «أن» المضمرة والمضارع في تأويل مصدر في محل جر باللام، والجار والمجرور متعلقان بالفعل قبلهما، وجملة:{ما جِئْنا..} . إلخ في محل نصب سدت مسد مفعولي علمتم المعلق عن العمل لفظا بسبب (ما) النافية، وجملة:{لَقَدْ عَلِمْتُمْ..} . إلخ جواب القسم لا محل لها، والقسم وجوابه في محل نصب مقول القول، وجملة:
{قالُوا..} . إلخ مستأنفة لا محل لها. {وَما} : الواو: حرف عطف. {ما} : نافية. {كُنّا} :
ماض ناقص مبني على السكون، و (نا): اسمها. {سارِقِينَ} : خبر كان منصوب، وعلامة نصبه الياء
…
إلخ، وجملة:{وَما كُنّا..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، فهي في محل نصب مثلها.
{قالُوا فَما جَزاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ (74)}
الشرح: {قالُوا} أي: المنادي ومن معه. {فَما جَزاؤُهُ..} . إلخ: أي: فما جزاء السارق في شريعتكم، وإنما سألوا هذا السؤال ليأخذ يوسف أخاه بشريعة آبائه وأجداده، كما ستعرفه، {إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ} في قولكم: ما جئنا لنفسد
…
إلخ، هذا؛ والجزاء والمجازاة: المكافأة على عمل ما، تكون في الخير، وتكون في الشر، فمن الأول قوله تعالى:{هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلاَّ الْإِحْسانُ} ومن الثاني ما في الآية الكريمة، وكقوله تعالى، وهو كثير:{وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ} فقد أراد جزاء الشر، والجزاء من جنس العمل:(إن خيرا فخير، وإن شرّا فشر) هذا؛ والفعل (جزى يجزي) ينصب مفعولين.
الإعراب: {قالُوا} : فعل وفاعل، والألف للتفريق. {فَما}: الفاء: زائدة، أو هي الفصيحة أفصحت عن شرط مقدر، دل عليه ما بعدها. (ما): اسم استفهام مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {جَزاؤُهُ} : خبر المبتدأ ويجوز اعتباره مبتدأ مؤخرا، و (ما) خبرا مقدما، والهاء في محل جر بالإضافة، من إضافة المصدر لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {إِنْ}: حرف شرط جازم.
{كُنْتُمْ} : ماض ناقص مبني على السكون في محل جزم فعل الشرط، والتاء اسمه.
{كاذِبِينَ..} .: خبر كان منصوب، وعلامة نصبه الياء نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، وجملة:{كُنْتُمْ..} . إلخ لا محل لها؛ لأنها
ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي، وجواب الشرط محذوف دل عليه ما قبله؛ أي:
إن كنتم كاذبين؛ فما جزاء السارق؟ والكلام كله في محل نصب مقول القول، وجملة:
{قالُوا..} . إلخ مستأنفة لا محل لها.
{قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ كَذلِكَ نَجْزِي الظّالِمِينَ (75)}
الشرح: {قالُوا} أي: قال إخوة يوسف: {جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ} أي: جزاء السارق في شريعتنا أن يستعبد، ويسترق سنة عقوبة له على جرمه وسرقته، وكان في حكم ملك مصر، وقانونه أن يعزر السارق بالضرب، ويغرم ضعفي قيمة المسروق. {فَهُوَ جَزاؤُهُ} أي: ما ذكر جزاؤه، وفي هذه الجملة معنى التوكيد. {كَذلِكَ نَجْزِي الظّالِمِينَ} أي: كذلك نفعل في السارقين إذا سرقوا، هذا؛ وقيل: هذه الجملة من بقية كلام إخوة يوسف، وقيل: هي من كلام أصحابه، ويكون المعنى: نفعل به ما قلتم وحكمتم على أنفسكم؛ إن وجد في رحل أحدكم.
الإعراب: {قالُوا} : ماض وفاعله، والألف للتفريق. {جَزاؤُهُ}: مبتدأ، والهاء في محل جر بالإضافة، من إضافة المصدر لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {مَنْ}: اسم موصول مبني على السكون في محل رفع خبر المبتدأ. {وُجِدَ} : ماض مبني للمجهول، ونائب فاعله يعود إلى الصاع. {فِي رَحْلِهِ}: متعلقان بالفعل قبلهما، والهاء في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية صلة الموصول لا محل لها، هذا وجه للإعراب، والوجه الثاني اعتبار {مَنْ} اسم شرط جازما مبتدأ، والفعل {وُجِدَ} شرطه، والجملة الاسمية:{فَهُوَ جَزاؤُهُ} في محل جزم جواب الشرط، وفعل الشرط والجواب في محل رفع خبر {مَنْ،} والجملة الاسمية: {مَنْ وُجِدَ..} . إلخ في محل رفع خبر المبتدأ {جَزاؤُهُ،} الوجه الثالث: اعتبار {مَنْ} اسم موصول مبتدأ، والجملة الفعلية:
{وُجِدَ فِي رَحْلِهِ} صلته، والجملة الاسمية:{فَهُوَ جَزاؤُهُ} في محل رفع خبره، وزيدت الفاء في الخبر لتحسين اللفظ، ولأن الموصول يشبه الشرط في العموم، والجملة الاسمية:{مَنْ وُجِدَ..} .
إلخ في محل رفع خبر المبتدأ {جَزاؤُهُ} هذا؛ وأجيز اعتبار {جَزاؤُهُ} مبتدأ خبره محذوف، التقدير: جزاء السارق عندنا كجزائه عندكم، كما أجيز اعتباره خبرا لمبتدإ محذوف، التقدير:
المسئول عنه جزاؤه، وهذان وجهان ضعيفان لا يعتد فيهما. (هو): ضمير منفصل مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ. {جَزاؤُهُ} : خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل رفع خبر المبتدأ أو في محل جزم جواب الشرط، أو هي مؤكدة لمعنى ما قبلها، وذلك على حسب أوجه الإعراب المتقدمة. {كَذلِكَ} الكاف: حرف تشبيه وجر، و (ذا): اسم إشارة مبني على السكون في محل جر بالكاف، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف صفة لمفعول مطلق محذوف عامله ما بعده، التقدير: نجزي الظالمين جزاء كائنا مثل جزاء سارق الصاع، واللام للبعد، والكاف حرف
خطاب لا محل له. {نَجْزِي} : مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل، والفاعل، مستتر تقديره:«نحن» . {الظّالِمِينَ} : مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الياء نيابة عن الفتحة
…
إلخ، والآية بكاملها في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالُوا..} . إلخ مستأنفة لا محل لها.
الشرح: {فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ} أي: بدأ المؤذن يفتش رحالهم، وأمتعتهم، وقيل: بدأ يوسف؛ لأنهم ردوا إلى المدينة، وإنما بدأ برحالهم لنفي التهمة، ودفع الشبهة من قلوبهم إن بدأ بوعاء أخيه. ثم استخرجها من وعاء أخيه: أي: أخرج السقاية، أو الصواع عند من يؤنثه، قال قتادة -رحمه الله تعالى-: ذكر لنا أنه كان لا يفتح متاعا، ولا ينظر وعاء إلا استغفر تأثما مما قذفهم به، حتى لم يبق إلا رحل بنيامين. قال: ما أظن أن هذا أخذ شيئا، قال إخوته: والله لا نتركك حتى تنظر في رحله، فإنه أطيب لنفسك وأنفسنا، فلما فتحوا متاعه وجدوا الصواع فيه، هذا؛ ويقرأ {وِعاءِ} بكسر الواو وضمها، وقلب الواو همزة، ومثله: وشاح ووسادة، فلما رأى إخوة (بنيامين) الصواع يخرج من رحله نكسوا رءوسهم، وظنوا الظنون كلها، وأقبلوا عليه، وقالوا: ويلك يا بنيامين، ما رأينا كاليوم قط، ولدت أمك راحيل أخوين لصين، فقال لهم: والله ما سرقته، ولا علم لي بمن وضعه في متاعي.
{كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ} أي: ومثل ذلك الحكم الذي ذكره إخوة يوسف حكمنا به ليوسف، ولفظ الكيد مستعار للحيلة والخديعة، وهذا في حق الله عز وجل محال، فيجب تأويل هذه اللفظة بما يليق بجلال الله سبحانه وتعالى، فنقول: الكيد هنا جزاء الكيد، يعني: كما فعلوا بيوسف في الابتداء فعلنا بهم، فالكيد من الخلق: الحيلة، ومن الله: التدبير بالحق، والمعنى كما ألهمنا إخوة يوسف بأن حكموا أن جزاء السارق أن يسترق؛ كذلك ألهمنا يوسف حتى دس الصواع في رحل أخيه ليضمه إليه على ما حكم به إخوته. انتهى. خازن. وإن اعتبرته من باب المشاكلة؛ فقد اتضح الأمر وزال الخفاء.
وقال القرطبي: معناه: صنعنا، وهو منقول عن ابن عباس-رضي الله عنهما، وعن القتبي:
معناه دبرنا، وقال ابن الأنباري: معناه أردنا، قال الشاعر:[الكامل]
كادت، وكدت، وتلك خير إرادة
…
لو عاد من عهد الصّبابة ما مضى
وإن أردت الزيادة فانظر الآية رقم [118] من سورة (التوبة). {ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ} أي: في حكم الملك وقانونه؛ لأن حكمه أن يضرب السارق، ويغرم ضعفي قيمة المسروق، كما رأيت في الآية السابقة، وانظر شرح الدين في الآية رقم [40]. {إِلاّ أَنْ يَشاءَ اللهُ} أي: ما حصل ما ذكر إلا كائنا بمشيئة الله ووحيه وإذنه وإلهامه ليوسف عليه السلام.
{نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ} أي: بالعلم، والإيمان، والحكمة، والتقوى، والصلاح. {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ}: قال ابن عباس-رضي الله عنهما-فوق كل عالم عالم إلى أن ينتهي العلم إلى الله تعالى، فالله فوق كل عالم؛ لأنه هو الغني بعلمه عن التعليم، قال ابن الأنباري: يجب أن يتهم العالم نفسه، ويستشعر التواضع لمواهب الله تعالى، ولا يطمع نفسه في الغلبة؛ لأنه لا يخلو عالم من عالم فوقه.
الإعراب: {فَبَدَأَ} : الفاء: حرف استئناف. (بدأ): ماض، وفاعله يعود إلى يوسف، أو إلى المؤذن. {بِأَوْعِيَتِهِمْ}: متعلقان بالفعل قبلهما، والهاء في محل جر بالإضافة. {قَبْلَ}: ظرف زمان متعلق بالفعل قبله وأجيز تعليقه بمحذوف حال، و {قَبْلَ}: مضاف، و {وِعاءِ}: مضاف إليه، و {وِعاءِ}: مضاف، و {أَخِيهِ}: مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الياء نيابة عن الكسرة؛ لأنه من الأسماء الخمسة، والهاء في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية (بدأ
…
) إلخ مستأنفة لا محل لها، {ثُمَّ}: حرف عطف. {اِسْتَخْرَجَها} : ماض، والفاعل يعود إلى يوسف، أو إلى المؤذن، و (ها): مفعول به، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها لا محل لها مثلها.
{مِنْ وِعاءِ} : متعلقان بالفعل قبلهما، و {وِعاءِ}: مضاف، و {أَخِيهِ}: مضاف إليه
…
إلخ.
{كَذلِكَ} : متعلقان بمحذوف صفة لموصوف محذوف واقع مفعولا مطلقا، التقدير: كدنا ليوسف كيدا مماثلا لما قاله إخوته من أخذ السارق واسترقاقه عاما؛ ليتحقق له ما أراد من ضم أخيه إليه، وهذه الجملة مستأنفة لا محل لها. {كِدْنا}: فعل وفاعل. {لِيُوسُفَ} : متعلقان بالفعل قبلهما. {ما} : نافية. {كانَ} : ماض ناقص، واسمه يعود إلى (يوسف) عليه السلام.
{لِيَأْخُذَ} : مضارع منصوب ب «أن» مضمرة وجوبا بعد لام الجحود، والفاعل يعود إلى (يوسف). {أَخاهُ}: مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الألف نيابة عن الفتحة؛ لأنه من الأسماء الخمسة، والهاء في محل جر بالإضافة. {فِي دِينِ}: متعلقان بالفعل قبلهما، وقيل: متعلقان بمحذوف حال، و {دِينِ}: مضاف، و {الْمَلِكِ}: مضاف إليه، و «أن» المضمرة والمضارع في تأويل مصدر في محل جر باللام، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر كان، التقدير: ما كان مريدا لأخذ أخيه، والجملة الفعلية:{ما كانَ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها. {إِلاّ} : حرف حصر، والمصدر المؤول من {أَنْ يَشاءَ اللهُ} في محل جر بحرف جر محذوف، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف حال مستثنى من عموم الأحوال. {نَرْفَعُ}: مضارع، وفاعله مستتر تقديره:«نحن» . {دَرَجاتٍ} : مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة؛ لأنه
جمع مؤنث سالم، ودرجات مضاف. و {مِنْ}: اسم موصول، أو نكرة موصوفة، مبنية على السكون في محل جر بالإضافة، والجملة بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد أو الرابط محذوف؛ إذ التقدير: نرفع درجات الذي أو شخص نشاؤه، هذا؛ وعلى قراءة التنوين. ف {مِنْ} هو المفعول به، ويكون {دَرَجاتٍ} منصوبا بنزع الخافض، التقدير: نرفع في درجات من نشاء رفعه، وجملة:{نَرْفَعُ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها، والجملة مذكورة بحروفها في الآية رقم [83] من سورة (الأنعام). {وَفَوْقَ}: الواو: حرف استئناف. (فوق): ظرف مكان متعلق بمحذوف خبر مقدم، و (فوق): مضاف، و {كُلِّ}: مضاف إليه، و {كُلِّ}: مضاف، و {ذِي}: مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الياء نيابة عن الكسرة؛ لأنه من الأسماء الخمسة، و {ذِي}: مضاف، و {عِلْمٍ}: مضاف إليه. {عَلِيمٌ} : مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية مستأنفة لا لها.
الشرح: {قالُوا} أي: إخوة يوسف. {إِنْ يَسْرِقْ} أي: (بنيامين). فقد سرق أخ له من قبل:
يعنون يوسف عليه السلام، واختلف في السرقة التي نسبت إليه على أقوال كثيرة: قال سعيد بن جبير رحمه الله تعالى: كان لأبي أمه صنم، فسرقه يوسف، وألقاه في الجيف، وقيل: سرق عناقا، أو دجاجة، وأعطاها لسائل، وقيل: أخذ من كنيسة تمثالا من ذهب، وقيل غير ذلك، والصحيح ما ذكره محمد بن إسحاق: أنه كان عند عمته بعد موت أمه راحيل، فحضنته وأحبته حبّا شديدا، فلما كبر أحبه أبوه، وطلبه من عمته، فقالت: لا أعطيكه، فألح عليها، فقالت: دعه عندي أياما أنظر إليه، لعل ذلك يسليني عنه، ففعل ذلك، فعمدت إلى منطقة كانت لأبيها إسحاق، وكانوا يتوارثونها بالكبر وكانت أكبر أولاد إسحاق، فكانت عندها؛ فشدت المنطقة على وسط يوسف تحت ثيابه، وهو صغير لا يشعر، ثم قالت: لقد فقدت منطقة إسحاق، ففتشوا أهل البيت، فوجدوها مع يوسف، فقالت: إنه ليسلم لي عاما، وذلك على الشريعة التي ذكرتها لك من أن السارق يسترق ويحبس عاما، فوافق يعقوب على إبقائه عندها حتى ماتت، فلذا عيره إخوته بالسرقة، قال ابن الأنباري: وليس في هذه الأفعال كلها ما يوجب السرقة، ولكنها تشبه السرقة، فعيروه بها عند الغضب. {فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِها لَهُمْ}. في مرجع الضمير ثلاثة أقوال: أحدها: أنه يعود للكلمة التي بعده، وهي {أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً} والثاني: أنه يعود للكلمة التي قالوها في حقه، وعليه يكون المعنى: أسر يوسف جواب الكلمة التي قالوها في حقه، والثالث: أن الضمير يعود إلى الحجة، فيكون المعنى: فأسر يوسف عليه السلام الاحتجاج عليهم في ادعائهم عليه السرقة، ولم يظهرها لهم. {قالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً} أي: أنتم شر منزلة عند الله ممن رميتموه بالسرقة في
صنيعكم ب (يوسف)؛ لأنه لم يكن من يوسف سرقة حقيقة. {وَاللهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ} أي: بحقيقة ما تقولون وتدعون. وقد قيل: إن إخوة يوسف لم يكونوا في ذلك الوقت أنبياء.
الإعراب: {قالُوا} : فعل وفاعل، والألف للتفريق. {إِنْ}: حرف شرط جازم. {يَسْرِقْ} :
فعل الشرط، والفاعل يعود إلى بنيامين، والمفعول محذوف للعلم به، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي. {فَقَدْ} : الفاء: واقعة في جواب الشرط. (قد): حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال. {سَرَقَ أَخٌ} : ماض وفاعله، والمفعول محذوف للعلم به عندهم. {لَهُ}: متعلقان بمحذوف صفة أخ. {مِنْ قَبْلُ} : متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من {أَخٌ}: بعد وصفه بما تقدم و {قَبْلُ} مبني على الضم لقطعه عن الإضافة لفظا لا معنى، وجملة:{فَقَدْ..} . إلخ في محل جزم عند الجمهور، والدسوقي يقول: لا محل لها؛ لأنها لم تحل محل المفرد، و {إِنْ} ومدخولها في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالُوا إِنْ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها. {فَأَسَرَّها} : الفاء: حرف استئناف. (أسرها):
ماض ومفعوله. {يُوسُفُ} : فاعله. {فِي نَفْسِهِ} : متعلقان بالفعل قبلهما، والهاء في محل جر بالإضافة، وجملة: (أسرها
…
) إلخ مستأنفة لا محل لها. {وَلَمْ} : حرف نفي وقلب وجزم.
{يُبْدِها} : مضارع مجزوم ب (لم)، وعلامة جزمه حذف حرف العلة من آخره، وهو الياء، والفاعل يعود إلى يوسف، و (ها): مفعول به، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها لا محل لها مثلها.
{لَهُمْ} : متعلقان بما قبلهما. {قالَ} : ماض، وفاعله يعود إلى يوسف، والجملة الاسمية:
{أَنْتُمْ شَرٌّ} في محل نصب مقول القول. {مَكاناً} : تمييز، وجملة:{قالَ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها. {وَاللهُ أَعْلَمُ} : مبتدأ وخبر بخلاف {أَعْلَمُ} في الآية رقم [86] فإنه مضارع. {بِما} :
متعلقان ب {أَعْلَمُ،} على تأويله ب «علم» ، و (ما) تحتمل الموصولة، والموصوفة، والمصدرية، فعلى الأولين مبنية على السكون في محل جر بالباء، والجملة بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد أو الرابط محذوف؛ إذ التقدير: الله عالم بالذي، أو بشيء تصفونه، وعلى اعتبار (ما) مصدرية تؤول مع الفعل بعدها بمصدر في محل جر بالباء، التقدير: بوصفكم ما تقولون، والجملة الاسمية:
(الله
…
) إلخ في محل نصب حال من الضمير المستتر بشر، والرابط: الواو، والضمير. أو هي معطوفة على ما قبلها، فهي في محل نصب مقول القول مثلها.
الشرح: {قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ} : يخاطبون يوسف عليه السلام. وكان قد أسند إليه وزارة قطفير بعد موته، وكانوا يخاطبون الوزير بالعزيز كما قد رأيت. {إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً} أي: في
السن أو الجاه أو القدر؛ لأنه نبي من الأنبياء، ذكروا له حاله استعطافا عليه. {فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ}: استعبد بدله بمقتضى قانون السرقة في شريعة يعقوب كما تقدم. {إِنّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} أي: إلينا فأتمم إحسانك ومعروفك، فهم يريدون أن يصل (بنيامين) إلى أبيه ليعرف حقيقة الأمر.
بعد هذا انظر القول في الآية رقم [18] من سورة (هود)، وانظر شرح {شَيْخاً} في الآية رقم [72] منها، وشرح (أحد) في الآية رقم [81] منها أيضا، هذا؛ وأب أصله أبو، فحذفت الواو بعد نقل حركتها إلى الباء قبلها للتخفيف بدليل رجوعها في التثنية، تقول: أبوان، أبوين، ومثله قل في إعلال {أَخٌ} المذكور في الآية السابقة.
الإعراب: {قالُوا} : ماض وفاعله، والألف للتفريق. {يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ}: انظر الإعراب في الآية رقم [88] الآتية. {إِنَّ} : حرف مشبه بالفعل. {لَهُ} : متعلقان بمحذوف خبر إن مقدم. {أَباً} :
اسم {إِنَّ} مؤخر منصوب، وعلامة نصبه الفتحة الظاهرة. {شَيْخاً}: صفة أولى. {كَبِيراً} : صفة ثانية. {فَخُذْ} : الفاء: هي الفصيحة، وانظر الآية رقم [63] (خذ): أمر والتماس، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» . {أَحَدَنا} : مفعول به، و (نا): في محل جر بالإضافة. {مَكانَهُ} : ظرف مكان متعلق بالفعل قبله، والهاء في محل جر بالإضافة، وجملة:{فَخُذْ أَحَدَنا..} . إلخ لا محل لها؛ لأنها جواب شرط غير جازم؛ إذ التقدير: وإذا كان ما ذكر واقعا وصحيحا فخذ
…
إلخ. {إِنّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} انظر إعراب هذه الجملة في الآية رقم [36]، هذا؛ والآية بكاملها في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالُوا..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.
{قالَ مَعاذَ اللهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلاّ مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ إِنّا إِذاً لَظالِمُونَ (79)}
الشرح: {قالَ مَعاذَ اللهِ} : أعوذ بالله، وأعتصم به، وألجأ إليه في أن نأخذ إلا
…
إلخ.
فإن أخذ غيره ظلم على فتواكم وشريعتكم، لم يقل: من سرق؛ تحرزا عن الكذب؛ لأنه يعلم أن أخاه لم يسرق. {إِنّا إِذاً لَظالِمُونَ} أي: إن أخذنا بريئا بذنب غيره.
تنبيه: قال الخازن: فإن قلت: كيف استجاز يوسف عليه السلام أن يعمل مثل هذه الأعمال بأبيه، ولم يخبره بمكانه، وحبس أخاه أيضا عنده مع علمه بشدة وجد أبيه عليه، ففيه من العقوق، وقطيعة الرحم، وقلة الشفقة؟! وكيف يجوز ليوسف على نبينا، وعليه أفضل صلاة وأزكى سلام مع علو منصبه من النبوة والرسالة أن يزور على إخوته، ويروج عليهم مثل هذا مع ما فيه من الإيذاء لهم؛ فكيف يليق به هذا كله؟!.
قلت: قد ذكر العلماء عن هذا السؤال أجوبة كثيرة أحسنها، وأصحها: أنه إنما فعل ذلك بأمر الله تعالى له، لا عن أمره، وإنما أمره الله بذلك بلاء ليعقوب عليه السلام، فيضاعف له
الأجر على البلاء، ويلحقه بدرجة آبائه الماضين، ولله تعالى في صنعه أسرار لا يعلمها أحد من خلقه، فهو المتصرف بخلقه بما يشاء، وهو الذي أخفى خبر يوسف عن يعقوب طول هذه المدة مع قرب المسافة، لما يريد أن يدبره فيهم، والله أعلم بأحوال عباده. انتهى. بحروفه.
الإعراب: {قالَ} : ماض، وفاعله يعود إلى يوسف. {مَعاذَ}: مفعول مطلق لفعل محذوف، و {مَعاذَ}: مضاف، و {اللهِ}: مضاف إليه، والجملة الناتجة من المصدر الميمي وفعله المحذوف في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالَ..} . إلخ لا محل لها؛ لأنها مستأنفة، والمصدر المؤول من {أَنْ نَأْخُذَ} في محل جر بحرف جر محذوف، والجار والمجرور متعلقان بالمصدر الميمي. {إِلاّ}: حرف حصر. {مَنْ} : اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل نصب مفعول به. {وَجَدْنا}: فعل ماض مبني على السكون لاتصاله ب (نا)، و (نا): ضمير متصل في محل رفع فاعل، وهذا الإعراب هو المتعارف عليه في مثل هذه الكلمة، والإعراب الحقيقي أن تقول: فعل ماض مبني على فتح مقدر على آخره، منع من ظهوره اشتغال المحل بالسكون العارض، كراهة توالي أربع متحركات، فيما هو كالكلمة الواحدة، وهكذا قل في إعراب كل فعل ماض، اتصل به ضمير رفع متحرك. مثل وجدت وجدن، ويقال اختصارا:
فعل وفاعل. {مَتاعَنا} : مفعول به، و (نا): في محل جر بالإضافة. {عِنْدَهُ} : ظرف مكان متعلق بالفعل {وَجَدْنا} أو هو متعلق بمحذوف مفعول ثان، والهاء في محل جر بالإضافة، وجملة:{وَجَدْنا..} . إلخ صلة من، أو صفتها. {إِنّا}: حرف مشبه بالفعل، و (نا): اسمها.
{إِذاً} : حرف جواب وجزاء مهمل لا عمل له، وهو بمعنى حينئذ، وعلى هذا فهو ظرف زمان متعلق بما بعده، والتنوين نائب عن الجملة التي تضاف (إذ) إليها، وعليه فتقدير الكلام كما يلي:
إنا لظالمون حين نأخذ غيره به؛ وهو جيد معنى، افهم هذا؛ واحفظه فإنه جيد، والله ولي التوفيق. {لَظالِمُونَ}: خبر (إنّ) مرفوع
…
إلخ، واللام هي المزحلقة، والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول.
الشرح: {فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ} أي: يئسوا من أخيهم (بنيامين)، وقيل: أيسوا من يوسف أن يرده عليهم، وزيادة السين والتاء للمبالغة، مثل عجب، واستعجب، وسخر واستسخر، هذا؛ وقرئ:«(استايسوا)» بدون همز. {خَلَصُوا} : انفردوا، واعتزلوا وحدهم. {نَجِيًّا} أي:
خلا بعضهم إلى بعض يتناجون، وهو بمعنى: متناجين، وإنما وحده لأنه مصدر، أو بزنته، وجمعه أنجية، كما في قول سحيم بن وثيل اليربوعي:[الرجز]
إنّي إذا ما القوم كانوا أنجيه
…
واضطرب القوم اضطراب الأرشيه
هناك أوصيني، ولا توصي بيه
قال كبيرهم: أي: في السن، وهو:«روبيل» ، أو في الرأي، وهو «شمعون» ، وقال ابن عباس-رضي الله عنهما-هو:(يهوذا)، وكان أعقلهم. {أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللهِ}: عهدا وثيقا، وهو ما ذكر في الآية رقم [66] {وَمِنْ قَبْلُ ما فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ}:
والمعنى ألم تعلموا تفريطكم في يوسف من قبل ذلك حتى ضيعتموه. {فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ} :
يعني: الأرض التي أنا فيها، وهي أرض مصر. {حَتّى يَأْذَنَ لِي أَبِي} أي: في الخروج من أرض مصر، فيدعوني إليه. {أَوْ يَحْكُمَ اللهُ لِي}: أو يقضي الله بالرجوع منها، أو بخلاص أخي، أو بالمقاتلة معهم بالسيف لإنقاذه. {وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ} أي: لأنه لا يقضي إلا بالحق والعدل.
روي: أنهم كلموا يوسف في إطلاقه، فقال (روبيل): أيها العزيز! والله لتتركن أخي، أو لأصيحن صيحة تضع الحوامل منها حملها، ووقفت شعور جسده حتى خرجت من ثيابه. فقال يوسف عليه السلام لابن له: قم إلى جنبه فمسه، وكان بنو يعقوب على نبينا، وعليه أفضل الصلاة وأزكى التحية والسّلام، إذا غضب أحدهم فمسه واحد منهم سكن غضبه، فقال:
«روبيل» : من هذا؟ إن في هذا البلد لبذرا من بذر يعقوب. انتهى بيضاوي، هذا؛ ونسب القرطبي ما ذكر إلى يهوذا، مع التطويل الممل.
الإعراب: {فَلَمَّا} : الفاء: حرف استئناف. (لمّا): انظر الآية رقم [59]{اِسْتَيْأَسُوا} : ماض، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية لا محل لها على اعتبار (لمّا) حرفا، وفي محل جر بإضافة (لمّا) إليها على اعتبارها ظرفا. {مِنْهُ}: متعلقان بما قبلهما، وجملة:{خَلَصُوا} جواب (لمّا) لا محل لها، و (لمّا) ومدخولها كلام مستأنف لا محل له. {نَجِيًّا}: حال من واو الجماعة، وانظر ما ذكرته في الشرح. {قالَ}: ماض. {كَبِيرُهُمْ} : فاعل، والهاء في محل جر بالإضافة. {أَلَمْ}: الهمزة: حرف استفهام وتقرير. (لم): حرف نفي وقلب وجزم. {تَعْلَمُوا} :
مضارع مجزوم ب (لم) وعلامة جزمه حذف النون
…
إلخ، والواو فاعله، والألف للتفريق.
{أَنَّ} : حرف مشبه بالفعل. {أَباكُمْ} : اسم (أنّ) منصوب، وعلامة نصبه الألف؛ لأنه من الأسماء الخمسة، والكاف في محل جر بالإضافة، وجملة:{قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً} في محل رفع خبر (أنّ). {مِنَ اللهِ} : متعلقان ب {مَوْثِقاً،} أو بمحذوف صفة له، و (أن) واسمها وخبرها
في تأويل مصدر في محل نصب سد مسد مفعولي {تَعْلَمُوا} وجملة: {أَلَمْ تَعْلَمُوا..} . إلخ في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالَ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها، وانظر قول أبي البقاء في الآية رقم [69]. {وَمِنْ قَبْلُ} الواو: واو الحال. {(مِنْ قَبْلُ)} : متعلقان بالفعل بعدهما، وبني {قَبْلُ} على الضم لقطعه عن الإضافة لفظا لا معنى. {فَلَمَّا}: زائدة. {فَرَّطْتُمْ} : فعل وفاعل.
{فِي يُوسُفَ} : متعلقان بما قبلهما، والجملة الفعلية في محل نصب حال من كاف الخطاب، والرابط: الواو، والضمير، وهي على تقدير (قد) قبلها، هذا؛ وأجيز اعتبار {فَلَمَّا} مصدرية تؤول مع الفعل بعدها بمصدر، وفيه ثلاثة أوجه: أحدها: عطفه على المصدر المؤول من {أَنَّ} واسمها وخبرها، التقدير: ألم تعلموا أخذ أبيكم عليكم الميثاق، وتفريطكم في يوسف، والثاني:
عطفه على اسم {أَنَّ،} والثالث: هو في محل رفع مبتدأ مؤخر، و {(مِنْ قَبْلُ)} متعلقان بمحذوف خبر مقدم، وهذا فيه ضعف؛ لأن (قبل) إذا وقعت خبرا، أو صلة لا تقطع عن الإضافة، لئلا تبقى ناقصة. {فَلَنْ}: الفاء: حرف استئناف. وقيل: حرف عطف على محذوف، التقدير: سأبقى في مصر ولن أبرحها، وهو تكلف لا حاجة له. (لن): حرف نفي ونصب واستقبال. {أَبْرَحَ} :
مضارع منصوب ب (لن)، وفاعله مستتر تقديره:«أنا» . {الْأَرْضَ} : مفعول به. {حَتّى} : حرف غاية وجر. {يَأْذَنَ} : مضارع منصوب ب «أن» مضمرة بعد حتى. {لِي} : متعلقان بالفعل قبلهما.
{أَبِي} : فاعل مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم، منع من ظهورها اشتغال المحل بالحركة المناسبة، وياء المتكلم في محل جر بالإضافة، و «أن» المضمرة والفعل {يَأْذَنَ} في تأويل مصدر في محل جر ب {حَتّى،} والجار والمجرور متعلقان بالفعل قبلهما، وجملة:{فَلَنْ أَبْرَحَ..} . إلخ مستأنفة، وهي بدورها من مقول كبيرهم. {أَوْ}: حرف عطف. {يَحْكُمَ} : معطوف على {أَبْرَحَ} منصوب مثله، وأجيز اعتباره منصوبا ب «أن» مضمرة بعد {أَوْ}. {اللهِ}: فاعله.
{لِي} : متعلقان بالفعل قبلهما. {وَهُوَ} : الواو: واو الحال. (هو): ضمير منفصل مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ. {خَيْرُ} : خبره، وهو مضاف، و {الْحاكِمِينَ}: مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الياء؛ لأنه جمع مذكر سالم، والجملة الاسمية:{وَهُوَ خَيْرُ..} . إلخ في محل نصب حال من لفظ الجلالة، والرابط: الواو، والضمير.
الشرح: {اِرْجِعُوا إِلى أَبِيكُمْ} : يعقوب. {فَقُولُوا يا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ} : بنيامين. {سَرَقَ} :
إنما قالوا هذه المقالة؛ لأنهم شاهدوا الصواع قد أخرج من رحله، فغلب على ظنهم: أنه سرق، فلذلك نسبوه إلى السرقة. وقرئ «(سُرق)» بضم السين وتشديد الراء المكسورة، أي: نسب إلى
السرقة. {وَما شَهِدْنا إِلاّ بِما عَلِمْنا} أي: لم نقل ذلك إلا بعد أن رأينا إخراج الصواع من متاعه. {وَما كُنّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ} أي: ما كنا نعلم أن ابنك يسرق، ويصير أمرنا إلى هذا، ولو علمنا ذلك ما ذهبنا به إلى مصر، وقال ابن عباس-رضي الله عنهما: ما كنا لليله ونهاره ومجيئه وذهابه مراقبين، وحافظين.
الإعراب: {اِرْجِعُوا} : أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق. {إِلى أَبِيكُمْ}: متعلقان بالفعل قبلهما، وعلامة الجر الياء نيابة عن الكسرة؛ لأنه من الأسماء الخمسة، والكاف في محل جر بالإضافة. {فَقُولُوا}: الفاء: حرف عطف. (قولوا): أمر وفاعله. (يا):
حرف نداء
…
إلخ. (أبانا): منادى منصوب، وعلامة نصبه الألف
…
إلخ، و (نا): في محل جر بالإضافة. {إِنَّ} : حرف مشبه بالفعل. {اِبْنَكَ} : اسمها، والكاف في محل جر بالإضافة.
{سَرَقَ} : ماض، أو مبني للمجهول، وفاعله أو ونائب فاعله، ضمير يعود إلى {اِبْنَكَ،} والجملة الفعلية في محل رفع خبر {إِنَّ،} والجملة الاسمية مع الجملة الندائية قبلها في محل نصب مقول القول، وجملة: (قولوا
…
) إلخ معطوفة على ما قبلها، وكلتاهما من مقول كبيرهم.
{وَما} : الواو: حرف عطف. (ما): نافية. {شَهِدْنا} : فعل وفاعل. {إِلاّ} : حرف حصر.
{بِما} : متعلقان بالفعل {شَهِدْنا،} و (ما): تحتمل الموصولة، والموصوفة، والمصدرية، فعلى الأولين مبنية على السكون في محل جر بالباء، والجملة الفعلية بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد أو الرابط محذوف؛ إذ التقدير: إلا بالذي، أو بشيء علمناه، وعلى اعتبارها مصدرية تؤول مع ما بعدها بمصدر في محل جر بالباء، التقدير: إلا بعلمنا، والجملة الفعلية:{وَما شَهِدْنا..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، فهي في محل نصب مقول القول. {وَما}: الواو: حرف عطف. (ما):
نافية. {كُنّا} : ماض ناقص مبني على السكون، و (نا): اسمها. {لِلْغَيْبِ} : متعلقان بما بعدها. {حافِظِينَ} : خبر (كان) منصوب، وعلامة نصبه الياء
…
إلخ، وجملة:{وَما كُنّا..} .
إلخ معطوفة على ما قبلها، فهي في محل نصب مقول القول مثلها أيضا.
الشرح: {وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنّا فِيها} أي: واسأل أهل القرية، فقد حذف المضاف للإيجاز، وهذا النوع من المجاز مشهور في كلام العرب، والمراد بالقرية: المدينة التي يقطنها يوسف عليه السلام، وقال ابن عباس: هي قرية من قرى مصر جرى فيها حديث السرقة والتفتيش. {وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها} أي: واسأل القافلة التي كنا فيها، وكان قد صحبهم في ذهابهم وإيابهم قوم من كنعان من جيران يعقوب. {وَإِنّا لَصادِقُونَ} أي: فيما قلناه سواء أنسبتنا إلى التهمة أو لم تنسبنا؟ ففي هذه معنى التأكيد، وانظر شرح العير في الآية رقم [70]. هذا؛
والقرية في الأصل اسم للمكان الذي يجتمع فيه القوم، وهو يطلق على المدينة الكبيرة وغيرها، كيف لا؟ وقد جعل الله مكة المكرمة أم القرى، كما تطلق على الضيعة الصغيرة، وهي مأخوذة من قريت الماء في المكان جمعته، وفي القاموس المحيط: القرية بكسر القاف وفتحها، والنسبة إليها: قروي، وقريي.
الإعراب: {وَسْئَلِ} : الواو: حرف عطف. (اسأل): أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» .
{الْقَرْيَةَ} : مفعول به، وانظر الشرح لحذف المضاف. {الَّتِي}: اسم موصول مبني على السكون في محل نصب صفة {الْقَرْيَةَ} . {كُنّا} : ماض ناقص مبني على السكون، و (نا):
اسمها. {فِيها} : متعلقان بمحذوف خبر (كان)، وجملة:{كُنّا فِيها} صلة التي. (العير):
معطوف على القرية. {الَّتِي} : صفة العير، وجملة:{أَقْبَلْنا فِيها} صلة {الَّتِي} . {وَإِنّا} : الواو:
واو الحال. (إنا): حرف مشبه بالفعل، و (نا): اسمها. {لَصادِقُونَ} : اللام: هي المزحلقة.
(صادقون): خبر (إن) مرفوع، وعلامة رفعه الواو
…
إلخ ومتعلقه محذوف، والجملة الاسمية في محل نصب حال من (نا)، والرابط: الواو، والضمير، وفيها معنى التأكيد للكلام قبلها، والآية الكريمة بكاملها من قول كبيرهم. تأمل.
الشرح: {قالَ بَلْ سَوَّلَتْ..} . إلخ: أي: فرجعوا إلى أبيهم، وقصوا عليه قصة بنيامين، وما قاله كبيرهم أيضا، فأجابهم أبوهم بهذا الجواب، وهو نفس الجواب الذي أجابهم به حينما فعلوا بيوسف ما فعلوا، وجاءوا أباهم عشاء يبكون، انظر الآية رقم [18] ففيها الكفاية، والمعنى هنا: سهلت لكم أنفسكم أمرا أردتموه فقررتموه، وإلا فما أدرى الملك أن السارق يؤخذ بسرقته؟! مع فارق جدير بالذكر، وهو أن يعقوب على نبينا، وعليه أزكى صلاة وأتم تسليم هناك استعان بالله على ما قالوا وذكروا؛ لأنه استشف كذبهم كما رأيت، وهنا رجا الله من فضله أن يرد إليه يوسف وبنيامين، والثالث الذي بقي هناك، وإنما رجا الله ذلك؛ لأنه لما طال حزنه، واشتد بلاؤه، ومحنته علم أن الله سيجعل له فرجا عن قريب، أو أن يعقوب علم بما يجري عليه وعلى بنيه من رؤيا يوسف التي قصها عليه في أول السورة، فلما اشتد البلاء عليه رجا تحقيق تلك الرؤيا، فقال:{عَسَى اللهُ أَنْ..} . إلخ {إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ} : بحزني ووجدي عليهم.
{الْحَكِيمُ} : في تدبيره وتقديره.
الإعراب: {قالَ} : ماض، وفاعله يعود إلى يعقوب. {بَلْ}: حرف إضراب. {سَوَّلَتْ} :
ماض، والتاء للتأنيث. {لَكُمْ}: متعلقان بما قبلهما. {أَنْفُسُكُمْ} : فاعل، والكاف في محل جر
بالإضافة. {أَمْراً} : مفعول به، وجملة:{بَلْ سَوَّلَتْ..} . إلخ معطوفة على كلام مقدر، أي: ليس الأمر كما تدعون، بل سولت
…
إلخ والكلام كله في محل نصب مقول القول، وجملة:
{قالَ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها. {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} : خبر لمبتدإ محذوف وصفته، أي: فحالي وشأني، أو أمري صبر جميل، أو مبتدأ خبره محذوف، التقدير: فصبر جميل أجمل. هذا؛ ويقرأ: «(صبرا جميلا)» على أنه مفعول مطلق لفعل محذوف، التقدير: فلأصبرنّ صبرا جميلا، والكلام مستأنف على القراءتين. {عَسَى}: ماض جامد دال على الرجاء، مبني على فتح مقدر على الألف. {اللهُ}: اسم عسى، و {أَنْ يَأْتِيَنِي} في تأويل مصدر في محل نصب خبر عسى، ويجب تأويله باسم الفاعل، فيصير التقدير: عسى الله آتيا بهم؛ لأن المصدر لا يخبر به عن الجثة. {بِهِمْ} : متعلقان بالفعل قبلهما. {جَمِيعاً} : حال مؤكدة من الضمير المجرور محلاّ بالباء، وجملة:{عَسَى..} . إلخ مستأنفة لا محل لها. {إِنَّهُ} : حرف مشبه بالفعل، والهاء في محل نصب اسمها. {هُوَ}: فيه ثلاثة أوجه: أحدها {هُوَ} ضمير فصل لا محل له. الثاني:
{هُوَ} توكيد لاسم (إن) على المحل، وعليهما ف {الْعَلِيمُ} خبر أول والحكيم خبر ثان ل (إنّ) والثالث: اعتبار الضمير مبتدأ، و {الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} خبران له، والجملة الاسمية في محل رفع خبر (إن)، بعد هذا فالآية بكاملها في محل نصب مقول القول.
الشرح: {وَتَوَلّى عَنْهُمْ} : أعرض يعقوب عن أولاده التسعة كراهة لما سمعه منهم عن بنيامين، فحينئذ تناهى حزنه، واشتد بلاؤه، والإعراض والتولي والإدبار عن الشيء يكون بالجسم كما في هذه الآية، ويستعمل في الإعراض عن الأمور والاعتقادات اتساعا ومجازا، وهو كثير في القرآن الكريم. {وَقالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ}: الأسف شدة الحزن على ما فات، وإنما تأسف على يوسف دون أخويه، والحادث رزؤهما؛ لأن رزأه كان قاعدة المصيبات، وقال الخازن: وإنما جدد حزنه على يوسف عند وجود هذه الواقعة؛ لأن الحزن القديم إذا صادفه حزن آخر؛ كان ذلك أوجع للقلب، وأعظم لهيجان الحزن الأول، كما قال متمم بن نويرة لما رأى قبرا جديدا جدد حزنه على أخيه مالك:[الطويل]
يقول: أتبكي كلّ قبر رأيته
…
لقبر ثوى بين اللّوى والدّكادك؟
فقلت له: إنّ الأسى يبعث الأسى
…
فدعني، فهذا كلّه قبر مالك
ومعنى {يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ} : يا رب ارحم أسفي على يوسف، بدليل قوله الآتي:{إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ} هذا؛ وقد قال سعيد بن جبير رحمه الله تعالى: لم يكن عند يعقوب ما
في كتابنا من الاسترجاع، ولو كان عنده لما قال:{يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ} وقال البيضاوي: وفي الحديث: «لم تعط أمّة من الأمم {إِنّا لِلّهِ وَإِنّا إِلَيْهِ راجِعُونَ} عند المصيبة إلا أمة محمد صلى الله عليه وسلم» . ألا ترى إلى يعقوب عليه السلام حين أصابه ما أصابه، لم يسترجع، وقال:{يا أَسَفى.} . إلخ.
{وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ} : لم يبصر بهما ست سنين، وإنه عمي، قاله مقاتل، وقيل:
قد تبيض العين، ويبقى شيء من الرؤية، والله أعلم بحال يعقوب عليه السلام، وإنما ابيضت عيناه من البكاء، ولكن سبب البكاء الحزن؛ فلهذا قال تعالى:{مِنَ الْحُزْنِ} . انتهى. قرطبي.
وقال البيضاوي: وفيه دليل على جواز التأسف والبكاء عند التفجع، ولعل أمثال ذلك لا يدخل تحت التكليف، فإنه قل من يملك نفسه عند الشدائد، ولقد بكى رسول الله صلى الله عليه وسلم على ولده إبراهيم، وقال:«القلب يحزن، والعين تدمع، ولا نقول ما يسخط الرّبّ، وإنّا على فراقك يا إبراهيم لمحزونون» . انتهى. والمذموم إنما هو الصياح والنياحة، ولطم الخدود والصدور، وقص الشعور، وشق الثياب ونحو ذلك. {فَهُوَ كَظِيمٌ} أي: مكظوم مملوء من الحزن ممسك عليه لا يبثه، ومنه كظم الغيظ وهو إخفاؤه، فالمكظوم المسدود عليه طريق حزنه قال الله تعالى:
{إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ} أي: مملوء كربا أو هو فعيل بمعنى فاعل، قال تعالى:{وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النّاسِ} قال قتادة: الكظيم: هو الذي يردد حزنه في جوفه، ولم يقل إلا خيرا، وقال الحسن: كان بين خروج يوسف من حجر أبيه إلى يوم التقيا ثمانون سنة لم تجف عينا يعقوب، وما على وجه الأرض يومئذ أكرم على الله منه، وقيل: كانت مدة الفراق أربعين سنة.
الإعراب: {وَتَوَلّى} : الواو: حرف عطف. (تولى): ماض مبني على فتح مقدر على الألف للتعذر، والفاعل يعود إلى يعقوب. {عَنْهُمْ}: متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال مؤكدة من الفاعل المستتر، التقدير: وتولى معرضا عنهم، والجملة الفعلية معطوفة على جملة:
{قالَ بَلْ..} . إلخ لا محل لها مثلها. (قال): ماض، والفاعل يعود إلى يعقوب. {يا أَسَفى}:
منادى، التقدير: يا أسفا تعال فهذا أوانك، وانظر إعراب:{يا وَيْلَتى} في الآية رقم [72] من سورة (هود)، وانظر إعراب:{يا أَبَتِ} في الآية رقم [4] وانظر تقدير الكلام في الشرح فإنه يفيد أن أسفا مفعول به لفعل محذوف وأن المنادى محذوف والجملة: {يا أَسَفى} في محل نصب مقول القول.
{عَلى يُوسُفَ} : متعلقان بالأسف؛ لأنه مصدر، وجملة: (قال
…
) إلخ معطوفة على ما قبلها لا محل لها أيضا. {وَابْيَضَّتْ} : (ابيضت): ماض، والتاء للتأنيث. {عَيْناهُ}: فاعل مرفوع، وعلامة رفعه الألف نيابة عن الضمة؛ لأنه مثنى، وحذفت النون للإضافة، والهاء في محل جر بالإضافة. {مِنَ الْحُزْنِ}: متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف صفة لمفعول مطلق محذوف، التقدير: ابيضت ابيضاضا كائنا من الحزن، والجملة الفعلية هذه معطوفة على ما قبلها لا محل لها أيضا، والجملة الاسمية:{فَهُوَ كَظِيمٌ} معطوفة على ما قبلها لا محل لها أيضا.
الشرح: {قالُوا} أي: قال إخوة يوسف لأبيهم. {تَاللهِ} : انظر الآية رقم [73]{تَفْتَؤُا} أي: لا تفتأ، فهذا الفعل من أفعال الاستمرار، بمعنى لا تزال، وقد حذفت منه (لا) في جواب القسم؛ لأنه لا يلتبس بالإثبات؛ لأن القسم إذا لم يكن معه علامة الإثبات كان على النفي، ومثل الآية في الشعر العربي قول امرئ القيس:[الطويل]
فقلت: يمين الله أبرح قاعدا
…
ولو قطّعوا رأسي لديك وأوصالي
وحذف (لا) هذه يطرد مع الفعل المضارع، إذا كان جوابا للقسم، قال أحدهم:[الطويل]
ويحذف النّافي مع شروط ثلاثة
…
إذا كان (لا) مع المضارع في قسم
{حَتّى تَكُونَ حَرَضاً} أي: تالفا، وأصل الحرض: الفساد في الجسم أو العقل من حزن، أو عشق، أو هرم، قال العرجي:[البسيط]
إني امرؤ لجّ بي حبّ فأحرضني
…
حتّى بليت، وحتّى شفني السّقم
هذا؛ والحرض مصدر لا يجمع ولا يثنى، ولا يذكر ولا يؤنث، ويقرأ في الآية بفتح الحاء مع فتح الراء وكسرها وبضمتين مثل جنب. {أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ} أي: الميتين، وغرضهم منع أبيهم من البكاء والحزن شفقة عليه.
الإعراب: {قالُوا تَاللهِ} : انظر الآية رقم [73]. {تَفْتَؤُا} : مضارع ناقص، واسمه مستتر فيه وجوبا، تقديره:«أنت» ، وجملة:{تَذْكُرُ يُوسُفَ} في محل نصب خبره، وجملة:
{تَفْتَؤُا..} . إلخ جواب القسم لا محل لها، والقسم وجوابه في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالُوا..} . إلخ مستأنفة لا محل لها. {حَتّى} : حرف غاية وجر بمعنى إلى.
{تَكُونَ} : مضارع ناقص منصوب ب «أن» مضمرة بعد {حَتّى،} واسمه مستتر تقديره: «أنت» .
{حَرَضاً} : خبره، و «أن» المضمرة وتكون في تأويل مصدر في محل جر ب {حَتّى} والجار والمجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {أَوْ}: حرف عطف. {تَكُونَ} : معطوف على ما قبله، منصوب مثله، واسمه تقديره:«أنت» . {مِنَ الْهالِكِينَ} : متعلقان بمحذوف خبر تكون.
{قالَ إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (86)}
الشرح: {قالَ إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي} : أصل البث: إثارة الشيء وتفريقه، وبث النفس ما انطوت عليه من الغم والشر، قال ابن قتيبة: البث: أشد الحزن، وذلك لأن الإنسان إذا ستر الحزن وكتمه،
كان هما، فإذا ذكره لغيره، كان بثا، وعلى هذا يكون المعنى: إنما أشكو حزني العظيم وحزني القليل إلى الله لا إليكم، هذا؛ وقد قيل: سميت المصيبة بثّا مجازا، قال ذو الرمة:[الطويل]
وقفت على ربع لميّة ناقتي
…
فما زلت أبكي عنده وأخاطبه
وأسقيه حتى كاد ممّا أبثّه
…
تكلّمني أحجاره وملاعبه
{وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ} أي: من رحمته وإحسانه أنه يأتي بالفرج من حيث لا أحتسب، وفيه إشارة إلى أنه كان يعلم حياة يوسف، ويتوقع رجوعه، وقيل: المعنى: وأعلم أن رؤيا يوسف حق وصدق، وأنا سنجده جميعا، وقيل: قال يعقوب لملك الموت: هل قبضت روح يوسف؟ قال: لا، فأكد هذا رجاءه، وانظر ما ذكرته في الآية رقم [83].
روى الحاكم من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «كان ليعقوب أخ مؤاخ، فقال له ذات يوم: يا يعقوب ما الذي أذهب بصرك؟ وما الذي قوس ظهرك؟ قال: أما الذي أذهب بصري فالبكاء على يوسف، وأما الذي قوس ظهري فالحزن على بنيامين فأتاه جبريل عليه السلام، فقال: يا يعقوب إن الله يقرئك السّلام، ويقول لك: أما تستحيي أن تشكو إلى غيري
…
؟!، فقال: إنما أشكو بثي وحزني إلى الله، فقال جبريل: الله أعلم بما تشكو يا يعقوب». انتهى. خازن. وخذ قول القائل: [الكامل]
وإذا بليت بعسرة فاصبر لها
…
صبر الكرام فإنّ ذلك أحزم
لا تشكون إلى العباد فإنّما
…
تشكو الرّحيم إلى الذي لا يرحم
هذا؛ وفي الترغيب والترهيب للحافظ المنذري زيادة على ما تقدم في الحديث: (ثم قال يعقوب: أي: رب أما ترحم الشيخ الكبير؟ أذهبت بصري، وقوست ظهري، فاردد عليّ ريحانتيّ أشمهما شمة قبل الموت، ثم اصنع بي ما أردت، قال: فأتاه جبريل، فقال: إن الله يقرئك السّلام، ويقول لك: أبشر وليفرح قلبك، فوعزتي لو كانا ميتين لنشرتهما، فاصنع طعاما للمساكين، فإن أحب عبادي إلي الأنبياء والمساكين وتدري: لم أذهبت بصرك وقوست ظهرك، وصنع إخوة يوسف بيوسف ما صنعوا؟ إنكم ذبحتم شاة، فأتاكم مسكين يتيم، وهو صائم فلم تطعموه منها شيئا، قال: فكان يعقوب عليه السلام بعد ذلك إذا أراد الغداء أمر مناديا فنادى:
ألا من أراد الغداء من المساكين فليتغدّ مع يعقوب، وإن كان صائما أمر مناديا فنادى: ألا من كان صائما من المساكين فليفطر مع يعقوب عليه السلام.
الإعراب: {قالَ} : ماض، وفاعله يعود إلى يعقوب. {إِنَّما}: كافة ومكفوفة. {أَشْكُوا} :
مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الواو للثقل، والفاعل مستتر، تقديره:«أنا» .
{بَثِّي} : مفعول به منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم، منع من ظهورها
اشتغال المحل بالحركة المناسبة، وياء المتكلم في محل جر بالإضافة. {وَحُزْنِي}: الواو:
حرف عطف. (حزني): معطوف على ما قبله. {إِلَى اللهِ} : متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من فاعله المستتر، التقدير: ملتجئا إلى الله. (أعلم): مضارع بخلافه في الآية رقم [77] وفاعله مستتر تقديره: «أنا» . {مِنَ اللهِ} : متعلقان بالفعل قبلهما. {إِنَّما..} .:
موصولة، أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل نصب مفعول به، والجملة الفعلية بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف؛ إذ التقدير: وأعلم الذي، أو شيئا لا تعلمونه، وهذه الجملة معطوفة على ما قبلها، فهي في محل نصب مقول القول مثلها، وجملة:{قالَ..} .
إلخ مستأنفة لا محل لها.
الشرح: {يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ} : قال القرطبي: هذا يدل على أنه تيقن حياة يوسف، إما بالرؤيا، وإما بإنطاق الله تعالى الذئب كما في أول القصة، وإما بإخبار ملك الموت إياه بأنه لم يقبض روحه، وهو أظهر. انتهى. والتحسس: طلب الخبر بالحاسة، وهو قريب من التجسس بالجيم، وقيل: إن التحسس بالحاء يكون في الخير، والجيم يكون في الشر، ومنه الجاسوس، وهو الذي يطلب الكشف عن عورات الناس.
{وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ} : ولا تقنطوا من فرج الله وتنفيسه، وقرئ:«(رُوح)» أي: من رحمته التي يحيي بها العباد، وقيل القراءتان بمعنى واحد. {إِلاَّ الْقَوْمُ الْكافِرُونَ} أي: بالله وصفاته، فإن المؤمن العارف بالله لا يقنط من رحمته تعالى في حال من الأحوال، فيصبر عند البلاء، فينال به خيرا، ويحمد عند الرخاء، فينال به خيرا، والكافر بضد ذلك.
الإعراب: {يا بَنِيَّ} : انظر الآية رقم [67]{اِذْهَبُوا} : أمر مبني على حذف النون والواو فاعله، وانظر إعراب ادخلوا في الآية رقم [67]. {فَتَحَسَّسُوا}: الفاء: حرف عطف.
(تحسسوا): أمر وفاعله، والألف للتفريق. {مِنْ يُوسُفَ}: متعلقان بالفعل قبلهما. (أخيه).
معطوف على يوسف مجرور مثله، وعلامة جره الياء؛ لأنه من الأسماء الخمسة، والهاء في محل جر بالإضافة. {وَلا تَيْأَسُوا}: الواو: حرف عطف. {تَيْأَسُوا} : مضارع مجزوم ب (لا) الناهية، وعلامة جزمه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والألف للتفريق. {مِنْ رَوْحِ}: متعلقان بالفعل قبلهما، و {رَوْحِ}: مضاف، و {اللهِ}: مضاف إليه. {إِنَّهُ} : حرف مشبه بالفعل، والهاء اسمه؛ أي: إن الحال والشأن. {لا} : نافية. {يَيْأَسُ} : مضارع. {مِنْ رَوْحِ} :
متعلقان بالفعل قبلهما، و {رَوْحِ}: مضاف، و {اللهِ}: مضاف إليه. {إِلاَّ} : حرف حصر.
{الْقَوْمُ} : فاعل. {الْكافِرُونَ} : صفة القوم مرفوع، وعلامة رفعه الواو نيابة عن الضمة؛ لأنه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، وجملة:{لا يَيْأَسُ..} . إلخ في محل رفع خبر (إن) والجملة الاسمية: {إِنَّهُ..} . إلخ تعليل للأمر لا محل لها، والآية بكاملها من قول يعقوب على نبينا، وعليه أفضل صلاة، وأزكى سلام.
الشرح: {فَلَمّا دَخَلُوا عَلَيْهِ} : على يوسف، وفي الكلام اختصار وحذف؛ إذ أصل الكلام:
فخرجوا من عند أبيهم قاصدين مصر، فلما دخلوا عليه. {قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ} أي: القادر الممتنع، وهو لقب الوزير كما رأيت سابقا، وقيل: هو لقب ملك مصر، وليس بشيء، انظر الآية رقم [30] {مَسَّنا}: أصابنا. {وَأَهْلَنَا الضُّرُّ} أي: الجوع والحاجة، والشدة، وأرادوا بأهلهم من خلفهم ومن وراءهم من العيال، وفي هذا دليل على جواز الشكوى عند الضر، بل واجب على الإنسان أن يشكو ما به من الفقر وغيره إذا خاف على نفسه الضرر إلى من يرجو منه النفع، كما هو واجب عليه أن يشكو ما به من الألم إلى الطبيب ليعالجه، ولا يكون ذلك قدحا في التوكل، وهذا ما لم يكن التشكي على سبيل التسخط، والصبر والتجلد في النوائب أحسن، والتعفف عن المسألة أفضل، وأحسن الكلام في الشكوى سؤال المولى زوال البلوى، وهو ما قاله يعقوب في الآية [86]. هذا؛ وقيل: الضّر (بضم الضاد) خاص بما في النفس كمرض وهزال، والضّر (بفتح الضاد) شائع في كل ضرر ومصيبة، وفي القاموس المحيط: الضّرّ والضّرّ والضّرر: ضد النفع والشدة والضيق وسوء الحال، النقصان يدخل في الشيء، والجمع: أضرار.
{وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ} : رديئة، أو قليلة، ترد وتدفع رغبة عنها من أزجيته إذا دفعته، ومنه قوله تعالى:{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُزْجِي سَحاباً} قيل: كانت البضاعة دراهم زيوفا، وقيل: صوفا وسمنا، وقيل: الصنوبر والحبة الخضراء، وقيل: الأقط، وقيل: غير ذلك.
{فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ} أي: أعطنا ما كنت تعطينا من قبل بالثمن الجيد الوافي، وإن كانت بضاعتنا رديئة وغير حسنة. {وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا} أي: تكرم علينا برد أخينا إلى أبينا، والمسامحة وقبول بضاعتنا الرديئة. {إِنَّ اللهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ}: أحسن الجزاء في الآخرة، قال الضحاك:
لم يقولوا: إن الله يجزيك لأنهم لم يعلموا أنه مؤمن.
روي أن يعقوب عليه السلام كتب كتابا إلى يوسف عليه السلام حين حبس عنده بنيامين: من يعقوب إسرائيل الله، ابن إسحاق ذبيح الله!، ابن إبراهيم خليل الله إلى ملك مصر، أما بعد، فإنا أهل بيت وكّل بنا البلاء، أما جدي، فشدت يداه ورجلاه، وألقي في النار، فجعلها الله عليه بردا
وسلاما، وأما أبي فشدت يداه ورجلاه، ووضعت السكين على قفاه، ففداه الله، وأما أنا فكان لي ابن، وكان أحب أولادي إلي، فذهب به إخوته إلى البرية، ثم أتوني بقميصه ملطخا بالدم، وقالوا: قد أكله الذئب، فذهبت عيناي، ثم كان لي ابن آخر، وكان أخاه من أمه، وكنت أتسلى به، وإنك حبسته، وزعمت: أنه سرق، وإنا أهل بيت لا نسرق، ولا نلد سارقا، فإن رددته إلي، وإلا دعوت عليك دعوة تدرك السابع من ولدك، فلما قرأه يوسف عليه السلام؛ اشتد بكاؤه، وعيل صبره، وقال:{هَلْ عَلِمْتُمْ..} . إلخ الآية التالية.
الإعراب: {فَلَمّا} : الفاء: حرف استئناف. (لما): انظر الآية رقم [59] وجملة: {دَخَلُوا عَلَيْهِ} ابتدائية لا محل لها على اعتبار (لمّا) حرفا، وفي محل جر بإضافة (لمّا) إليها على اعتبارها ظرفا. {قالُوا}: فعل وفاعل، والألف للتفريق، والجملة الفعلية مع مقولها جواب (لمّا) لا محل لها، و (لمّا) ومدخولها كلام مستأنف لا محل له. {يا أَيُّهَا}:(يا): أداة نداء تنوب مناب أدعو، أو أنادي. (أيها): نكرة مقصودة مبنية على الضم في محل نصب ب (يا)، و (ها): حرف تنبيه لا محل له، وأقحم للتوكيد وهو عوض عن المضاف إليه. {الْعَزِيزُ}: بعضهم يعرب هذا؛ وأمثاله نعتا، وبعضهم يعربه بدلا، والقول الفصل أن الاسم الواقع بعد أي: واسم الإشارة، إن كان مشتقا فهو نعت، وإن كان جامدا كما هنا فهو بدل، أو عطف بيان، والمتبوع أعني:(أي) منصوب محلاّ، فكذا التابع، أعني {الْعَزِيزُ} فهو منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على آخره، منعا من ظهورها اشتغال المحل بحركة الإتباع اللفظية، وإنما أتبعت ضمة البناء مع أنها لا تتبع؛ لأنها وإن كانت ضمة بناء، لكنها عارضة، فأشبهت ضمة الإعراب، فلذا جاز إتباعها. أفاده العلامة الصبان؛ لأنه قال: والمتجه وفاقا لبعضهم: أن ضمة التابع إتباع لا إعراب ولا بناء، وقيل: إن رفع التابع المذكور إعراب، واستشكل بعدم المقتضي للرفع، وأجيب بأن العامل يقدر من لفظ عامل المتبوع مبنيا للمجهول، نحو يدعى، وهو مع ما فيه من التكليف يؤدي إلى قطع المتبوع، وقيل: إن رفع التابع المذكور بناء؛ لأن المنادى في الحقيقة هو المحلى بال، ولكن لما لم يمكن إدخال حرف النداء عليه توصلوا إلى ندائه بأي، أي: مع قرنها بحرف التنبيه، ورده بعضهم بأن المراعى في الإعراب اللفظ، وأن الأول منادى، والثاني تابع له، والإعراب السائد الآن أن تقول: مرفوع تبعا للفظ. {مَسَّنا} : ماض؛ و (نا): مفعول به. (أهلنا): معطوف على (نا)، و (نا): في محل جر بالإضافة. {الضُّرُّ} : فاعل مسنا. (جئنا): فعل وفاعل. {بِبِضاعَةٍ} :
متعلقان بالفعل قبلهما. {مُزْجاةٍ} : صفة بضاعة. {فَأَوْفِ} : الفاء: هي الفصيحة، وانظر الآية رقم [63] (أوف): أمر مبني على حذف حرف العلة، وهو الياء، وفاعله مستتر فيه تقديره:
«أنت» . {أَهْلَنَا} : متعلقان بما قبلهما. {الْكَيْلَ} : مفعول به، وجملة: (أوف
…
) إلخ لا محل لها؛ لأنها جواب شرط غير جازم، التقدير: وإذا كان ما ذكرنا واقعا؛ فأوف
…
إلخ، وجملة:
{وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا} معطوفة على ما قبلها. {إِنَّ} : حرف مشبه بالفعل. {اللهَ} : اسمها.
{يَجْزِي} : مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء
…
إلخ، والفاعل مستتر تقديره:
«هو» يعود إلى {اللهَ} . {الْمُتَصَدِّقِينَ} : مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الياء
…
إلخ، وجملة:{يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ} في محل رفع خبر {إِنَّ،} والجملة الاسمية: {إِنَّ اللهَ..} . إلخ تعليل للأمر، والكلام {يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ..} . إلخ كله في محل نصب مقول القول.
{قالَ هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ (89)}
الشرح: {قالَ هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ} أي: هل تذكرون ما فعلتم بيوسف من إرادة قتله، وإهانته ثم بيعه كما تباع العبيد، وما فعلتم من إهانة بنيامين وإذلاله، وتنغيص عيشه بعده؟ وهذا بعد أن قرأ كتاب أبيه الذي ذكرته لك في الآية السابقة، وكلامه هذا تصديق لوعد الله تعالى إليه {وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} الآية رقم [15] {إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ} أي:
قبح فعلكم، أو عاقبته، أو فعلتم ما فعلتم في وقت الصبا والطيش، فيكون هذا كالعذر لهم، وحثّا لهم على التوبة، وشفقة عليهم لما رأى من عجزهم وتذللهم، لا معاتبة وتوبيخا، والأول أولى، وانظر {تَجْهَلُونَ} في الآية رقم [29] من سورة (هود) عليه السلام.
الإعراب: {قالَ} : ماض، والفاعل يعود إلى يوسف. {هَلْ}: حرف استفهام وتذكير وتوبيخ. {عَلِمْتُمْ} : فعل وفاعل. {ما} : اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل نصب مفعول به، والجملة بعدها صلتها، أو صفتها والعائد أو الرابط محذوف؛ إذ التقدير:
هل علمتم الذي أو شيئا فعلتموه، واعتبارها مصدرية ضعيف. {بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ}: انظر إعرابهما في الآية رقم [87]. {إِذْ} : ظرف لما مضى من الزمان مبني على السكون في محل نصب متعلق بالفعل فعلتم، والجملة الاسمية:{أَنْتُمْ جاهِلُونَ} في محل جر بإضافة {إِذْ} إليها، والكلام {هَلْ عَلِمْتُمْ..} . إلخ في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالَ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها.
الشرح: {قالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ} : هذه القراءة على الاستفهام، قال ابن عباس رضي الله عنهما: لما قال لهم: هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه؛ تبسم، فرأوا ثناياه كاللؤلؤ تشبه ثنايا يوسف، فشبهوه بيوسف، فقالوا استفهاما:{أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ،} وقرئ:
«(إنك لأنت يوسف)» على الخبر، وقال فيه ابن عباس، أيضا في رواية عنه: إنهم لم يعرفوه حتى وضع التاج عن رأسه، وكان له في قرنه علامة تشبه الشامة، وكان ليعقوب، ولإسحاق، ولسارة مثلها فعرفوه بها، وقالوا: أنت يوسف؛ قال: أنا يوسف: أي: المظلوم، والمراد قتله، ولم
يقل: أنا هو تعظيما وتفخيما لما صنعوا به من القبائح والمساوئ. {قَدْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنا} أي:
بالسلامة وكل عز في الدنيا والآخرة. {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ} : الله، ويبتعد عن الفواحش. {وَيَصْبِرْ}:
على البلاء والطاعات، وعن المعاصي والسيئات، والهاء ضمير الشأن. {فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ}: وضع سبحانه المحسنين موضع الضمير لاشتماله على المتقين، والصابرين، وقيل: من يتق مولاه، ويصبر على بلواه فإن الله لا يضيع أجره في دنياه وأخراه.
تنبيه: قرأ ابن كثير «(يتقي)» بإثبات الياء، وفيها توجيهان: الأول اعتبار {مَنَّ} اسما موصولا، وحينئذ يرفع (يصبر) ومن قرأ بتسكينه مع إثبات الياء يكون قد سكن للتخفيف، والتوجيه الثاني اعتبار {مَنَّ} شرطية، وثبوت الياء لغة، فقيل: هذه الياء للإشباع، وياء العلة محذوفة، وقيل: هذه الياء أصلية، بناء على قول من يجزم المعتل بالحركة المقدرة، ويقر حرف العلة على حاله، ومثل الآية الكريمة قول قيس بن زهير العبسي:[الوافر]
ألم يأتيك، والأنباء تنمي
…
بما لاقت لبون بني زياد؟
الإعراب: {قالُوا} : فعل وفاعل، والألف للتفريق. {أَإِنَّكَ}: الهمزة: حرف استفهام.
(إنك): حرف مشبه بالفعل، والكاف اسمها. {لَأَنْتَ}: اللام: هي المزحلقة. (أنت): ضمير منفصل مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ. {يُوسُفُ} : خبره، والجملة الاسمية في محل رفع خبر (إنّ) وجوز اعتبار الضمير فصلا، ولا وجه له، والجملة الاسمية: (إنك
…
) إلخ في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالُوا..} . إلخ مستأنفة لا محل لها. {قالَ} : ماض، وفاعله يعود إلى {يُوسُفُ،} والجملة الاسمية: {أَنَا يُوسُفُ} في محل نصب مقول القول، وجملة:
{قالَ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها. (هذا): اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع مبتدأ، والهاء حرف تنبيه لا محل له. {أَخِي}: خبر المبتدأ مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم، منع
…
إلخ، والياء في محل جر بالإضافة، وجملة:{قَدْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنا} قال أبو البقاء: مستأنفة، وقيل: هي حال من {يُوسُفُ} و {أَخِي،} وفيه بعد لعدم العامل في الحال، و {أَنَا} لا يعمل في الحال، ولا يصح أن يعمل فيه (هذا)؛ لأنه إشارة لواحد، و {عَلَيْنا} راجع إليهما جميعا. انتهى، والجملة الاسمية:{وَهذا أَخِي} معطوفة على ما قبلها، فهي في محل نصب مقول القول مثلها.
{إِنَّهُ} : حرف مشبه بالفعل، والهاء اسمها، {مَنَّ}: اسم شرط جازم مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {يَتَّقِ} : مضارع فعل الشرط مجزوم، وعلامة جزمه حذف حرف العلة من آخره، وهو الياء، والفاعل يعود إلى {مَنَّ}. (يصبر): معطوف على ما قبله، والفاعل يعود إلى {مَنَّ} أيضا. {فَإِنَّ}: الفاء: واقعة في جواب الشرط. (إنّ) حرف مشبه بالفعل. {اللهُ} : اسم (إنّ) والجملة الفعلية: {لا يُضِيعُ..} . إلخ في محل رفع خبر (إن)، والجملة الاسمية:{فَإِنَّ اللهَ..} .
إلخ في محل جزم جواب الشرط عند الجمهور، والدسوقي يقول: لا محل لها، وخبر المبتدأ الذي هو {مَنَّ} مختلف فيه، فقيل: جملة الشرط، وقيل: جملة الجواب، وقيل: الجملتان، وهو المرجح لدى المعاصرين، هذا؛ وعلى اعتبار {مَنَّ} موصولة فهي مبتدأ؛ والجملة الفعلية بعدها صلتها، والجملة الاسمية:{فَإِنَّ اللهَ..} . إلخ في محل رفع خبر المبتدأ، وزيدت الفاء في خبر المبتدأ؛ لأن الموصول يشبه الشرط في العموم، وانظر ما ذكرته في الشرح، والجملة الاسمية على الاعتبارين في محل رفع خبر إن، والجملة الاسمية:{إِنَّهُ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها. هذا؛ وقال الفارسي: من موصولة، فلهذا أثبتت الياء في (يتقي) وإنها ضمنت معنى الشرط ولذلك دخلت الفاء في الخبر، وجزم يصبر على توهم معنى {مَنَّ} . انتهى.
{قالُوا تَاللهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللهُ عَلَيْنا وَإِنْ كُنّا لَخاطِئِينَ (91)}
الشرح: {قالُوا تَاللهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللهُ عَلَيْنا} أي: فضّلك الله علينا، واختارك بالعلم والحلم، والحكم والعقل والملك، وحسن الصورة، وكمال السيرة، والإيثار التفضيل {وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ} أي: يفضلون غيرهم على أنفسهم. {وَإِنْ كُنّا لَخاطِئِينَ} أي: والحال أننا كنا مذنبين بما فعلنا معك، ولذا أعزك الله بالملك، وأذلنا بالتمكن بين يديك، هذا؛ و (خاطئين) اسم فاعل من خطئ الثلاثي، ومخطئين من أخطأ الرباعي، والفرق بينهما أن يقال: خطئ خطأ إذا تعمد، وأخطأ إذا كان غير معتمد.
الإعراب: {قالُوا تَاللهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللهُ عَلَيْنا} : انظر إعراب مثل هذه الكلمات في الآية رقم [73]. {وَإِنْ} : الواو: واو الحال. (إن): حرف مشبه بالفعل، مخفف من الثقيلة مهمل لا عمل له. {كُنّا}: ماض ناقص مبني على السكون، و (نا): اسمه. {لَخاطِئِينَ} : اللام: هي الفارقة بين النفي والإثبات وهي لازمة. (خاطئين): خبر كان منصوب، وعلامة نصبه الياء نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، والجملة الفعلية:{وَإِنْ كُنّا..} .
إلخ في محل نصب حال من (نا) المجرورة محلاّ ب «على» ، والرابط: الواو، والضمير.
{قالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرّاحِمِينَ (92)}
الشرح: {قالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ} أي: لا تعيير ولا توبيخ، ولا لوم عليكم اليوم، وقال البيضاوي: لا تأنيب عليكم، تفعيل من الثرب، وهو الشحم الذي يغشى الكرش للإزالة كالتجليد، فاستعير للتقريع، الذي يمزق العرض، ويذهب ماء الوجه. {يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ..}. إلخ:
هذه جملة دعائية، بعد أن صفح عنهم دعا لهم بالمغفرة. {وَهُوَ أَرْحَمُ الرّاحِمِينَ}: فإنه يغفر الذنوب الصغائر والكبائر، ويتفضل على التائب بمنه وكرمه، هذا؛ ومن كرم يوسف على نبينا،
وعليه أفضل صلاة، وأزكى سلام: أنهم لما عرفوه أرسلوا إليه، وقالوا: إنك تدعونا بالبكرة والعشي إلى الطعام، ونحن نستحيي منك لما فرط منا فيك، فقال: إن أهل مصر كانوا ينظرون إلي بالعين الأولى، ويقولون: سبحان من بلغ عبدا بيع بعشرين درهما ما بلغ، ولقد شرفت بكم، وعظمت في عيونهم حيث علموا أنكم إخوتي، وأني من حفدة إبراهيم عليه السلام.
الإعراب: {قالَ} : ماض، وفاعله يعود إلى يوسف. {لا}: نافية للجنس تعمل عمل إن.
{تَثْرِيبَ} : اسم {لا} مبني على الفتح في محل نصب. {عَلَيْكُمُ} : متعلقان بمحذوف خبر {لا،} تقديره: موجود. {الْيَوْمَ} : ظرف زمان، وفي متعلقه قولان: أحدهما أنه يرجع إلى ما قبله، أي: إنه متعلق بما تعلق به {عَلَيْكُمُ،} وعليه فالوقف على آخره، والثاني أنه متعلق بما بعده، وعليه فالوقف {عَلَيْكُمُ} ورجح القرطبي الأول؛ لأن الابتداء ب {الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ} جزم بالمغفرة في اليوم، وذلك لا يكون إلا عن وحي، وهذا بين. انتهى. بتصرف. والجملة الفعلية:{يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ} مستأنفة على الاعتبارين، والجملة الاسمية:{وَهُوَ أَرْحَمُ الرّاحِمِينَ} في محل نصب حال من لفظ الجلالة، والرابط: الواو، والضمير، هذا؛ والكلام {لا تَثْرِيبَ..} .
إلخ كله في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالَ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها.
الشرح: {اِذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا..} . إلخ: هذا بعد أن عرفهم يوسف نفسه، وسألهم عن حال أبيه، فقالوا: ذهب بصره من كثرة بكائه عليك، فأعطاهم قميصه، وقال لهم:{اِذْهَبُوا..} .
إلخ، وانظر شأن القميص في الآية رقم [15] وإنما أرسل القميص إلى أبيه بأمر من جبريل عليه السلام.
قال الحسن: لولا أن الله تعالى أعلم يوسف بذلك لم يعلم أنه يرجع إليه بصره، وكان الذي حمل القميص يهوذا، قال ليوسف: أنا الذي حملت إليه قميصك بدم كذب، فأحزنته، وأنا أحمله الآن لأسره، وليعود إليه بصره فحمله، حكاه السدي. انتهى. قرطبي. حمله، وهو حاف حاسر من مصر إلى كنعان، وبينهما مسيرة ثمانين فرسخا. {وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ}: بنسائكم وذراريكم ومواليكم؛ لتتخذوا مصر دارا وقرارا، قال مسروق: فكانوا ثلاثة وتسعين ما بين رجل وامرأة.
الإعراب: {اِذْهَبُوا} : أمر، والواو فاعله، والألف للتفريق. {بِقَمِيصِي}: متعلقان بما قبلهما، وجوز تعليقهما بمحذوف حال من واو الجماعة. التقدير: اذهبوا ومعكم قميصي:
وعلامة الجر كسرة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم، منع
…
إلخ، والياء في محل جر
بالإضافة. {هذا} : اسم إشارة مبني على السكون في محل جر صفة (قميصي)، والهاء حرف تنبيه لا محل له. {فَأَلْقُوهُ}:(ألقوه): أمر، وفاعله، ومفعوله، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها. {عَلى وَجْهِ}: متعلقان بما قبلهما، و {وَجْهِ}: مضاف، و {أَبِي}: مضاف إليه مجرور، وعلامة جره كسرة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم، منع من ظهورها اشتغال المحل بالحركة المناسبة، والياء في محل جر بالإضافة. {يَأْتِ}: مضارع مجزوم لوقوعه جوابا للطلب، وجزمه عند الجمهور بشرط محذوف، التقدير: إن تلقوه
…
يأت، وعلامة جره حذف حرف العلة من آخره، وهو الياء، والفاعل مستتر يعود إلى {أَبِي}. {بَصِيراً}: حال من الفاعل المستتر.
{وَأْتُونِي} : الواو: حرف عطف. (ائتوني): أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والنون للوقاية، وياء المتكلم مفعول به {بِأَهْلِكُمْ}: متعلقان بما قبلهما، والكاف في محل جر بالإضافة. {أَجْمَعِينَ}: توكيد لما قبله مجرور، وعلامة الجر الياء
…
إلخ بعد هذا ينبغي أن تعلم: أن الآية بكاملها في محل نصب مقول القول، سواء الجمل معطوفة ومعطوفا عليها.
الشرح: {وَلَمّا فَصَلَتِ الْعِيرُ} أي: خرجت من عريش مصر، يقال: فصل من البلد فصولا، إذا انفصل منه، وجاوز حيطانه، وهذا الفعل يكون لازما ومتعديا، وانظر شرح العير في الآية رقم [70] {قالَ أَبُوهُمْ} أي: لمن حضره من أحفاده ونسائه. {إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ} أي:
لأشم رائحته، قيل: إن ريح الصبا استأذنت ربها في أن تأتي يعقوب بريح يوسف قبل أن يأتيه البشير، وكانت المسافة ثلاث ليال، وقيل: مسيرة ثماني ليال، وقال الحسن: مسيرة عشر ليال.
{لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ} أي: تنسبوني إلى الفند، وهو نقصان العقل بسبب الهرم، وهو ما يسمى بالخرف، وقيل: تسفهوني، وقيل: تجهلوني، وقيل: تغلطوني، قال رجل يخاطب ابنه:[الطويل]
وسمّيتني باسم المفنّد رأيه
…
وفي رأيك التّفنيد لو كنت تعقل
وخذ قول دعبل الخزاعي: [البسيط]
ما أكثر النّاس، لا بل ما أقلّهم
…
الله يعلم أنّي لم أقل فندا
إنّي لأغمض عيني ثمّ أفتحها
…
على كثير، ولكن لا أرى أحدا
وفي القاموس: الفند بالتحريك: الخرف، وإنكار العقل لهرم، أو مرض، والخطأ في الرأي، والقول، والكذب، ولا تقل: عجوز مفندة؛ لأنها لم تكن ذات رأي: أبدا، انتهى.
يريد: أنها لم تكن في شبابها ذات رأي، فتفند في كبرها، أقول: قد كان منهن ذات رأي: آسية ومريم، وخديجة الكبرى.
تنبيه: قال أهل المعاني: إن الله تعالى أوصل ريح يوسف إلى يعقوب عليهما السلام عند انقضاء مدة المحنة من المكان البعيد، ومنع وصول خبره إليه مع قرب إحدى البلدتين من الأخرى في مدة ثمانين سنة، وذلك يدل على أن كل سهل في مدة المحنة صعب، وكل صعب زمن الإقبال سهل.
الإعراب: {وَلَمّا} : الواو: حرف استئناف. (لما): حرف وجود لوجود عند سيبويه، وبعضهم يقول: حرف وجوب لوجوب، وهي ظرف بمعنى (حين) عند ابن السراج والفارسي وابن جني وجماعة، تتطلب جملتين مرتبطتين ببعضهما ارتباط فعل الشرط بجوابه، وصوب ابن هشام الأول، والمشهور الثاني، والجملة الفعلية:{فَصَلَتِ الْعِيرُ} في محل جر بإضافة (لمّا) إليها على اعتبارها ظرفا، وهي ابتدائية لا محل لها على اعتبار (لما) حرفا. {قالَ}: ماض. {أَبُوهُمْ} : فاعل مرفوع، وعلامة رفعه الواو نيابة عن الضمة؛ لأنه من الأسماء الخمسة، والهاء في محل جر بالإضافة. {إِنِّي}: حرف مشبه بالفعل، وياء المتكلم اسمها. اللام: هي المزحلقة. (أجد):
مضارع، والفاعل مستتر تقديره:«أنا» . {رِيحَ} : مفعول به، وهو مضاف، ويوسف مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الفتحة نيابة عن الكسرة؛ لأنه ممنوع من الصرف للعلمية والعجمة، وجملة:
(أجد
…
) إلخ في محل رفع خبر (إن)، والجملة الاسمية:{إِنِّي..} . إلخ في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالَ..} . إلخ جواب (لمّا) لا محل لها، و (لما) ومدخولها كلام مستأنف لا محل له. {لَوْلا}: حرف امتناع لوجود متضمن معنى الشرط. {أَنْ} : حرف مصدري ونصب.
{تُفَنِّدُونِ} : مضارع منصوب ب {أَنْ،} وعلامة نصبه حذف النون
…
إلخ، والواو فاعله، والنون للوقاية، وياء المتكلم المحذوفة مفعول به، وأن والمضارع في تأويل مصدر في محل رفع مبتدأ، خبره محذوف، التقدير: لولا تفنيدكم لي أو إياي موجود، وجواب لولا محذوف أيضا، تقديره: لصدقتموني، ولولا ومدخولها في محل نصب مقول القول أيضا.
{قالُوا تَاللهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ (95)}
الشرح: {قالُوا} أي: الحاضرون عند يعقوب من أحفاده ونسائه وقرابته، وقيل: إن الذي قال له ذلك من بقي معه من ولده، ولم يرجع إلى يوسف. {تَاللهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ} أي: لفي ذهابك عن الصواب قديما في إفراط محبتك ليوسف، أو في خطئك القديم من حب يوسف، وكان عندهم أنه قد مات، وتفسير الضلال بما ذكر هو الحق، وانظر ما ذكرته في الآية رقم [8] تجد ما يسرك.
الإعراب: {قالُوا تَاللهِ} : انظر الآية رقم [73] ففيها الشرح والإعراب. {إِنَّكَ} : حرف مشبه بالفعل، والكاف اسمه. {لَفِي ضَلالِكَ}: اللام: هي المزحلقة. {(لَفِي ضَلالِكَ)} : متعلقان بمحذوف
خبر (إن)، والكاف في محل جر بالإضافة من إضافة المصدر لفاعله. {الْقَدِيمِ}: صفة، والجملة الاسمية:{إِنَّكَ..} . إلخ جواب القسم لا محل لها، والقسم وجوابه في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالُوا..} . إلخ مستأنفة لا محل لها. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم.
الشرح: {فَلَمّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ} أي: المبشر بخبر يوسف، وهو يهودا كما رأيت في الآية رقم [93] {أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ} أي: ألقى قميص يوسف على وجه يعقوب، وكان قد سبق العير.
{فَارْتَدَّ بَصِيراً} أي: فرجع بصيرا بعد أن كان قد عمي، وعادت إليه قوته بعد الضعف، وسروره بعد الحزن. قال: ألم أقل
…
إلخ: ذكرهم بقوله لهم في الآية رقم [86]. روي أن يعقوب قال للبشير: كيف تركت يوسف؟ قال: تركته ملك مصر، قال: وما أصنع بالملك؟! على أي:
دين تركته؟ قال: على دين الإسلام، أي: دين التوحيد، قال: الآن تمت النعمة، ويقال: إن يعقوب عليه السلام علم البشير كلمات مكافأة له على بشارته، كان قد ورثها عن أبيه إسحاق، وهو عن أبيه إبراهيم على نبينا، وعليهم جميعا أفضل صلاة، وأزكى سلام، وهي:«يا لطيفا فوق كلّ لطيف! الطف بي في أموري كلّها كما أحبّ، ورضّني في دنياي وآخرتي» هذا؛ وزيدت {أَنْ} بعد لما في هذه الآية للتوكيد، أكدت وجود الفعلين، مرتبا أحدهما على الآخر، كأنهما وجدا في جزء واحد من الزمن، كأنه قيل: لما أحسّ بمجيء البشير؛ فاجأه بإلقاء القميص على وجهه، من غير ريث خيفة عليه من الخيبة وقطع الأمل من مجيء يوسف على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام، كما زيدت {أَنْ} بعد (لما) في الآية رقم [19] من سورة (القصص)، وفي الآية رقم [33] من سورة (العنكبوت)، علما بأنها لم تزد في الآية رقم [77] من سورة (هود).
الإعراب: {فَلَمّا} : الفاء: حرف استئناف. (لما): انظر الآية رقم [94]{أَنْ} : زائدة، وجملة:{جاءَ الْبَشِيرُ} في محل جر بإضافة (لمّا) إليها على اعتبارها ظرفا، وهي ابتدائية لا محل لها على اعتبار (لمّا) حرفا وهو الراجح لوجود الفاصل بينها وبين الجملة المضافة إليها، وعلى إبقاء (لمّا) على ظرفيتها، فهذه الآية ترجح تعليق لما بفعل شرطها لوجود الفاصل المذكور.
{أَلْقاهُ} : ماض مبني على فتح مقدر على الألف للتعذر، والفاعل يعود إلى البشير، والهاء مفعول به، والجملة الفعلية جواب (لمّا) لا محل لها. {عَلى وَجْهِهِ}: متعلقان بالفعل قبلهما، والهاء في محل جر بالإضافة. {فَارْتَدَّ}: الفاء: حرف عطف. (ارتد): ماض، وفاعله يعود إلى يعقوب.
{بَصِيراً} : حال من الفاعل المستتر، وهذا على اعتبار (ارتد) بمعنى رجع، وأما إذا كان بمعنى صار، فهو ناقص، والمستتر اسمه، و {بَصِيراً} خبره، وجملة:{فَارْتَدَّ بَصِيراً} معطوفة على جواب
لما، لا محل لها مثله، و (لمّا) ومدخولها كلام مستأنف لا محل له. {قالَ}: ماض، وفاعله يعود إلى يعقوب. {أَلَمْ}: الهمزة: حرف استفهام وتقرير وتوبيخ. (لم): حرف نفي وقلب وجزم.
{أَقُلْ} : مضارع مجزوم ب (لم)، والفاعل مستتر تقديره:«أنا» . {لَكُمْ} : متعلقان بالفعل قبلهما. {إِنِّي} : حرف مشبه بالفعل، وياء المتكلم اسمها، وجملة {أَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ} في محل رفع خبر (إنّ)، وانظر إعرابها في الآية رقم [86] والجملة الاسمية:{إِنِّي..} . إلخ في محل نصب مقول القول، وجملة:{أَلَمْ أَقُلْ..} . إلخ في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالَ..} .
إلخ مستأنفة لا محل لها، وانظر ما ذكرته عن أبي البقاء في الآية رقم [69].
{قالُوا يا أَبانَا اِسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنّا كُنّا خاطِئِينَ (97)}
الشرح: {قالُوا يا أَبانَا..} . إلخ: في الكلام حذف، التقدير: فلما رجعوا من مصر، ودخلوا على يعقوب؛ قالوا
…
إلخ. والمعنى اسأل الله تعالى أن يغفر لنا ذنوبنا التي اجترحناها بسبب ما فعلنا بك وبيوسف لأننا كنا مخطئين في عملنا، وانظر ما ذكرته في الآية رقم [91]، هذا فقد اعترفوا بذنبهم، ومن حق المعترف له بالذنب أن يصفح عن المسيء ويسأل الله له المغفرة.
قال القرطبي: وهذا الحكم ثابت فيمن آذى مسلما في نفسه، أو ماله، أو غير ذلك ظالما له، فإنه يجب عليه أن يتحلل له، ويخبره بالمظلمة وقدرها، وفي صحيح البخاري وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من كانت له مظلمة لأخيه من عرضه، أو شئ فليحلّله منه اليوم قبل ألاّ يكون دينار، ولا درهم، إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيّئات صاحبه، فحمل عليه» .
الإعراب: {قالُوا} : ماض، والواو فاعله، والألف للتفريق. (يا): حرف نداء ينوب مناب أدعو. (أبانا): منادى منصوب، وعلامة نصبه الألف نيابة عن الفتحة؛ لأنه من الأسماء الخمسة، و (نا): في محل جر بالإضافة. {اِسْتَغْفِرْ} : أمر والتماس، والفاعل تقديره:«أنت» .
{لَنا} : متعلقان بما قبلهما. {ذُنُوبَنا} : مفعول به، و (نا) في محل جر بالإضافة. {أَبانَا}: حرف مشبه بالفعل، و (نا): اسمها. {كُنّا} : ماض ناقص مبني على السكون، و (نا): اسمها.
{خاطِئِينَ} : خبر كان منصوب
…
إلخ، وجملة:{كُنّا خاطِئِينَ..} . في محل رفع خبر (إن)، والجملة الاسمية:{أَبانَا..} . إلخ تعليل للأمر، والكلام كله في محل نصب مقول القول، وجملة:
{قالُوا..} . إلخ مستأنفة لا محل لها.
{قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (98)}
الشرح: {قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي} : أخره إلى السحر، أو إلى صلاة الليل، أو إلى ليلة الجمعة، تحريا لوقت الإجابة، أو إلى أن يستحل لهم من يوسف، أو يعلم أنه عفا عنهم،
فإن عفو المظلوم شرط المغفرة، ويؤيده ما روي: أنه استقبل القبلة قائما يدعو، ويوسف خلفه يؤمن، وقاموا خلفهما أذلة خاشعين حتى نزل جبريل عليه السلام، فقال: إن الله تعالى قد أجاب دعوتك في ولدك، وعقد مواثيقهم بعدك على النبوة، وهو إن صح فدليل على نبوتهم، وأن ما صدر منهم كان قبل استنبائهم. {إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ}: لذنوب عباده. {الرَّحِيمُ} :
بجميع خلقه.
قال عطاء الخراساني: طلب الحوائج إلى الشباب أسهل منه إلى الشيوخ، ألا ترى إلى قول يوسف لإخوته:{لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ..} . وقول يعقوب: {سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي..} . إلخ.
الإعراب: {قالَ} : ماض، وفاعله يعود إلى يعقوب. {سَوْفَ}: حرف تسويف واستقبال.
{أَسْتَغْفِرُ} : مضارع والفاعل مستتر فيه تقديره: «أنا» . {لَكُمْ} : متعلقان بما قبلهما. {رَبِّي} :
مفعول به منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم
…
إلخ، والياء في محل جر بالإضافة من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه {إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} انظر إعراب مثل هذه الجملة في الآية رقم [83]، والكلام {سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ..} . إلخ في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالَ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها.
الشرح: {فَلَمّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ} : قيل: إن يوسف عليه السلام بعث مع البشير مائتي راحلة وجهازا وأموالا، وسأل أباه أن يأتيه بأهله وولده جميعا، واستقبله يوسف، والملك، وأهل مصر، وكان أولاد يعقوب الذين دخلوا معه مصر اثنين وسبعين رجلا وامرأة، وقال مسروق: كانوا ثلاثة وتسعين، وكانوا حين خرجوا مع موسى وهارون عليهما السلام ستمائة ألف، وخمسمائة، وبضعة وسبعين رجلا سوى الذرية والهرمى التي بلغت ألف ألف ومائتي ألف بعد أن أقاموا أربعمائة سنة.
وقال المرحوم عبد الوهاب النجار: وكان بين ورودهم إلى مصر، وخروجهم منها على يد موسى على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام خمس عشرة سنة، ومائتا سنة على ما حققه رحمة الله الهندي. انتهى. وأعتمد الأول.
وفي قوله تعالى: {أَبَوَيْهِ} تغليب الأب على الأم، وكذا في (والديه) تغليب أيضا، والمراد بأبويه هنا: أبوه وخالته (ليّا) لأن أمه (راحيل) توفيت في نفاس (بنيامين)، فنزلت الخالة منزلة الأم تكريما وتعظيما، كما أن العم ينزل منزلة الأب لذلك، هذا؛ والمراد بالدخول الأول: دخول
أرض مصر حين استقبلهم، والمراد بالدخول الثاني دخول قصره الذي يسكنه، وقيل بالعكس، فيكون في الكلام تقديم وتأخير، ويكون الاستثناء بالمشيئة مقارنا لدخولهم أرض مصر، وهو الذي يقتضيه المقام، و {آمِنِينَ} أي: من المكاره، والمظالم، وقيل: إن الناس كانوا يخافون من ملوك مصر، فلا يدخلها أحد إلا بجوارهم، فقال لهم يوسف:{اُدْخُلُوا مِصْرَ..} . إلخ.
تنبيه: خرج يوسف لاستقبال أبيه بعسكره وحشمه وأبهته، وكان يعقوب يمشي، وهو يتوكأ على يد ابنه يهوذا، فلمّا نظر إلى الخيل والناس؛ قال: يا يهودا هذا فرعون مصر، قال: لا بل هذا ابنك يوسف، فلما دنا كل واحد من صاحبه أراد يوسف أن يبدأ يعقوب بالسلام، فقال له جبريل: خل يعقوب يبدأ بالسلام، فقال يعقوب: السّلام عليك يا مذهب الأحزان! وقيل: إنهما نزلا، وتعانقا، وفعلا كما يفعل الوالد بولده، والولد بوالده، وبكيا، وقيل: إن يوسف قال لأبيه: يا أبت بكيت عليّ حتى ذهب بصرك، ألم تعلم أن القيامة تجمعنا؟ قال: بلى، ولكن خشيت أن يسلب دينك، فيحال بيني وبينك.
الإعراب: {فَلَمّا} : الفاء: حرف استئناف. (لما): انظر الآية رقم [94] وجملة: {دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ} في محل جر بإضافة (لمّا) إليها على اعتبارها ظرفا، وهي ابتدائية لا محل لها على اعتبارها حرفا. {آوى}: ماض، وفاعله يعود إلى {يُوسُفَ}. {إِلَيْهِ}: متعلقان بما قبلهما.
{أَبَوَيْهِ} : مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الياء نيابة عن الفتحة؛ لأنه مثنى صورة، وحذفت النون للإضافة، والهاء في محل جر بالإضافة، وجملة:{آوى..} . إلخ جواب (لمّا) لا محل لها، و (لمّا) ومدخولها كلام مستأنف لا محل له. (قال): ماض، والفاعل يعود إلى (يوسف).
{اُدْخُلُوا} : أمر، وفاعله، والألف للتفريق، وانظر تفصيل الإعراب في الآية رقم [67] {مِصْرَ}: ظرف مكان متعلق بما قبله عند بعض النحاة، وفي مقدمتهم سيبويه، والمحققون وعلى رأسهم الأخفش ينصبونه على التوسع في الكلام بإسقاط الخافض، لا على الظرفية، فهو منتصب انتصاب المفعول به على السعة، بإجراء اللازم مجرى المتعدي، ومثل ذلك قل في (دخلت المدينة، ونزلت البلد، وسكنت الشام).
{إِنْ} : حرف شرط جازم. {شاءَ} : ماض مبني على الفتح في محل جزم فعل الشرط.
{اللهُ} : فاعله، وهذا الشرط لا جواب له، فيما أرى؛ لأن المعنى بمشيئة الله، وقد اختلف في هذه المشيئة، فقيل: هي من متعلق قول يعقوب {سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ،} وقيل: هي من متعلق الدخول، وقيل: هي من متعلق {آمِنِينَ} وعليه وعلى الأول في الكلام تقديم وتأخير، واعتراض بين متلازمين. {آمِنِينَ}: حال من واو الجماعة منصوب؛ وعلامة نصبه الياء
…
إلخ وجملة المشيئة معترضة بين الحال وصاحبها، فهي للتبرك، وليست للتعليق، وجملة:{اُدْخُلُوا..} . إلخ في محل نصب مقول القول، وجملة: (قال
…
) إلخ معطوفة على ما قبلها لا محل لها مثلها.
الشرح: {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ} أي: على السرير الذي كان يوسف يجلس عليه، والرفع النقل إلى العلو. {وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً} أي: سقط يعقوب وزوجته (ليّا) وبنوه سجدا ليوسف عليه السلام، وكانت تحية الناس يومئذ السجود وهو الانحناء والتواضع، ولم يرد به حقيقة السجود من وضع من وضع الجبهة على الأرض على سبيل العبادة، وقد استجاز يوسف أن يسجد له أبوه، وهو أكبر منه، وأعلى منصبا في النبوة والشيخوخة بأمر الله تعالى لتحقيق رؤياه التي رأيتها في أول السورة، وانظر ما ذكرته في الآية رقم [31] من سورة (الحجر)، وقيل: المعنى خروا لأجله سجدا، لله شكرا، وقيل: الضمير في {لَهُ} لله تعالى، والمعتمد الأول.
وقال: {يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ} أي: التي رأيتها في الصغر في نومي. {قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا} أي: حققها في اليقظة، اختلفوا في المدة التي كانت بين رؤياه وتأويلها على أقوال كثيرة، أشهرها أنها كانت ثمانين سنة، وعن الحسن أن عمر يوسف يوم ألقي في الجب كان سبع عشرة سنة، وأقام في العبودية والسجن والملك ثمانين سنة، وأقام مع أبيه وإخوته وأقاربه ثلاثا وعشرين سنة، وتوفي وهو ابن مائة وعشرين سنة.
وأقام يعقوب بمصر أربعا وعشرين سنة في أحسن حال، ومات بمصر، وأوصى إلى ابنه يوسف أن يحمل جسده حتى يدفنه عند أبيه إسحاق بالشام ففعل، ثم انصرف إلى مصر، قال سعيد بن جبير: نقل يعقوب على نبينا، وعليه أفضل صلاة، وأزكى سلام في تابوت من ساج إلى بيت المقدس، ووافق ذلك يوم مات عيصو أخوه، فدفنا في قبر واحد؛ وكانا قد ولدا في بطن واحد.
{وَقَدْ أَحْسَنَ بِي} أي: أنعم علي، وأحسن بي وإليّ بمعنى واحد. {إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ}:
لم يقل من الجب استعمالا للكرم والمروءة، لئلا يذكر إخوته صنيعهم به بعد عفوه عنهم بقوله:
{لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ} ولأن نعمة الله عليه في إخراجه من السجن كانت أعظم من إخراجه من الجب، وسبب ذلك أن خروجه من الجب كان سببا لحصوله في العبودية والرق، وخروجه من السجن كان سببا لوصوله إلى الملك والسيادة والعزة. {وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ} أي: من البادية، والبدو في الأصل: البسيط من الأرض، يبدو الشخص فيه من بعد، أي: يظهر، والبدو خلاف
الحضر، والبادية خلاف الحاضرة، وكان يعقوب وأولاده أصحاب ماشية فسكنوا البادية، أي:
وهم في الأصل من أهل الحاضرة؛ لأن الله لم يبعث نبيا من أهل البادية، وقيل: إنهم خرجوا إلى بدا، وهو موضع، وإياه عنى جميل بثينة بقوله:[الطويل]
وأنت التي حبّبت شغبا إلى بدا
…
إليّ وأوطاني بلاد سواهما
فشغب وبدا موضعان، وليعقوب بهذا الموضع مسجد حتى جبل بدا. انتهى. قرطبي.
{مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي} أي: أفسد ما بيني وبين إخوتي، أحال ذنبهم على الشيطان تكرما، وهذا على سبيل المجاز، لا على الحقيقة؛ لأن الفاعل المطلق المختار هو الله تعالى، وليس للشيطان مدخل إلا بإلقاء الوسوسة والتحريش، لإفساد ذات البين، وذلك بإقدار الله إياه على ذلك. هذا؛ والنزغ، والنخس، والنسغ، والنفر، والهمز، والوسوسة ألفاظ مترادفة، قال تعالى:{وَإِمّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} الآية رقم [199] من سورة (الأعراف)، فقد شبه الله سبحانه وسوسة الشيطان، وإغواءه للناس بنخس السائق دابته بشيء؛ لتسير. {إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ}: لطيف التدبير له؛ إذ ما من صعب إلا وتنفذ فيه مشيئته، ويتسهل دونها، وقال الخطابي: اللطيف هو البر بعباده الذي يلطف بهم من حيث لا يعلمون، ويسبب لهم مصالحهم من حيث لا يحتسبون، كقوله تعالى:{اللهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ} {إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ} : بوجود المصالح والتدبير. {الْحَكِيمُ} : الذي يفعل كل شيء في وقته على وجه يقتضي الحكمة.
روي: أن يوسف طاف بأبيه عليهما السلام في خزائنه، فلما أدخله خزانة القراطيس، قال:
يا بني ما أعقك! عندك هذه القراطيس، وما كتبت إلي على ثماني مراحل، قال: أمرني جبريل عليه السلام، قال: أو ما تسأله؟ قال: أنت أبسط إليه مني، فسأله، فقال جبريل: الله أمرني بذلك لقولك: {وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ} فقال: فهلا خفتني.
الإعراب: {وَرَفَعَ} : الواو: حرف عطف. (رفع): ماض، وفاعله يعود إلى (يوسف).
{أَبَوَيْهِ} : مفعول به منصوب
…
إلخ، والهاء في محل جر بالإضافة. {عَلَى الْعَرْشِ}: متعلقان بما قبلهما، والجملة الفعلية معطوفة على جملة: (قال
…
) إلخ في الآية السابقة لا محل لها مثلها. (خروا): ماض وفاعله، والألف للتفريق. {لَهُ}: متعلقان بما قبلهما. {سُجَّداً} : حال من واو الجماعة، وجملة: (خروا
…
) إلخ معطوفة على ما قبلها. (قال): ماض، وفاعله يعود إلى يوسف. {يا أَبَتِ}: انظر الشرح والإعراب في الآية رقم [4]{هذا} : اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع مبتدأ، والهاء حرف تنبيه لا محل له. {تَأْوِيلُ}: خبر المبتدأ، وهو مضاف، و {رُءْيايَ}: مضاف إليه مجرور، وعلامة جره كسرة مقدرة على الألف للتعذر وياء
المتكلم في محل جر بالإضافة: من إضافة المصدر لفاعله. {مِنْ قَبْلُ} : متعلقان بمحذوف حال من {رُءْيايَ،} والعامل اسم الإشارة، أو هما متعلقان ب {رُءْيايَ،} وقول الجمل: متعلقان بمحذوف صفة ل {رُءْيايَ،} أي: رؤياي الكائنة من قبل، أي: من قبل الحوادث التي وقعت، لا وجه له؛ لأن رؤياي معرفة. {قَدْ}: حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال. {جَعَلَها} :
ماض ومفعوله. {رَبِّي} : فاعل مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم
إلخ، والياء في محل جر بالإضافة من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {حَقًّا}:
صفة مفعول مطلق محذوف، أي: جعلا حقّا، أو هو مفعول به ثان على اعتبار (جعل) من أفعال التصيير، ويجوز أن يكون حالا، ويجوز أن يكون مفعولا مطلقا من غير لفظ الفعل، بل من معناه؛ لأن جعلها بمعنى حققها، وحقّا في معنى تحقيق. انتهى. عكبري، وجملة:{قَدْ جَعَلَها..} . إلخ في محل نصب حال من {رُءْيايَ} والرابط الضمير فقط. {وَقَدْ} : الواو: واو الحال. (قد): حرف تحقيق
…
إلخ. {أَحْسَنَ} : ماض، وفاعله يعود إلى {رَبِّي}. {رَبِّي}:
متعلقان بالفعل قبلهما. {إِذْ} : ظرف لما مضى من الزمان مبني على السكون في محل نصب متعلق بالفعل قبله، واعتبره الجمل حرف تعليل. {أَخْرَجَنِي}: ماض، والفاعل يعود إلى ربي، والنون للوقاية، وياء المتكلم مفعول به، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة {إِذْ} إليها، أو هي للتعليل لا محل لها. {مِنَ السِّجْنِ}: متعلقان بما قبلهما، وجملة:{وَقَدْ أَحْسَنَ..} . إلخ في محل نصب حال من ربي، والرابط: الواو، والضمير، وهي حال متداخلة. (جاء): ماض والفاعل يعود إلى ربي. {بِكُمْ} : متعلقان بما قبلهما. {مِنَ الْبَدْوِ} : متعلقان بما قبلهما أيضا.
{مِنْ بَعْدِ} : متعلقان بمحذوف خبر لمبتدإ محذوف، التقدير: كل ذلك من بعد، وهذه الجملة الاسمية في محل نصب حال مؤكدة لمضمون الكلام السابق. وجملة: (جاء
…
) إلخ معطوفة على جملة: {أَخْرَجَنِي} على الوجهين المعتبرين فيها. {أَنْ} : حرف مصدري ونصب. {نَزَغَ} :
ماض في محل نصب ب {أَنْ} . {الشَّيْطانُ} : فاعله. {بَيْنِي} : ظرف مكان متعلق بالفعل منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم، منع
…
إلخ، والياء في محل جر بالإضافة، {وَبَيْنَ}: معطوف على ما قبله، و (بين) مضاف. و {إِخْوَتِي}: مضاف إليه مجرور، وعلامة جره كسرة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم
…
إلخ، والياء في محل جر بالإضافة، و {أَنْ} المصدرية والفعل {نَزَغَ} في تأويل مصدر في محل جر بإضافة بعد إليه، التقدير: من بعد نزغ الشيطان
…
إلخ. {أَنْ} : حرف مشبه بالفعل. {رَبِّي} : اسمها منصوب
…
إلخ، والياء في محل جر بالإضافة من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {لَطِيفٌ}: خبر (إن). {لِما} : متعلقان ب {لَطِيفٌ،} و (ما) تحتمل الموصولة، والموصوفة، فهي مبنية على السكون في محل جر باللام، والجملة الفعلية بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد أو الرابط
محذوف، التقدير: لطيف للذي، أو لشيء يشاؤه. {يا أَبَتِ..} . إلخ كله في محل نصب مقول القول، وجملة: (قال
…
) إلخ معطوفة على ما قبلها لا محل لها أيضا.
الشرح: {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ} أي: بعض الملك، وهو ملك مصر فقط. {وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ} أي: فهم الكتب، أو علم تعبير الرؤيا، كما رأيت فيما سلف، و {مِنَ} أيضا للتبعيض لأنه لم يؤت كل التأويل. {فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ}: خالقهما ومبدعهما على غير مثال سبق، وأصل الفطر: الشق، يقال: فطر ناب البعير: إذا شق وظهر، وفطر الله الخلق أوجده وأبدعه. {أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ} أي: معيني ومتولي أموري وناصري. {تَوَفَّنِي مُسْلِماً} :
موحدا، وليس المراد أنه كان على ملة الإسلام الحادثة التي جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم، وانظر الكلام الشافي على ذلك في الآية رقم [67] من سورة (آل عمران). {وَأَلْحِقْنِي بِالصّالِحِينَ}: من آبائي وأجدادي، أو بعامة الصالحين في الرتبة والكرامة. فإذا قيل: درجات الأنبياء أفضل من درجات الصالحين، فما السبب في أن الأنبياء يطلبون جعلهم من الصالحين؟ وقد تمنى ذلك سليمان على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام، ذلك بقوله:{وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصّالِحِينَ!} أجيب: بأن الصالح الكامل، هو الذي لا يعصي الله، ولا يفعل معصية، ولا يهم بها، وهذه درجة عالية. انتهى. جمل نقلا عن الخطيب في سورة (النمل).
بعد هذا قال قتادة: لم يتمنّ الموت أحد، نبيّ ولا غيره إلا يوسف عليه السلام حين تكاملت عليه النعم، وجمع له الشمل اشتاق إلى لقاء ربه عز وجل، وقيل: إن يوسف لم يتمن الموت، وإنما تمنى الوفاة على الإسلام، أي: إذا جاء أجلي توفني مسلما، وهذا قول الجمهور، وقال سهل بن عبد الله التستري: لا يتمنى الموت إلا ثلاث: رجل جاهل بما بعد الموت، أو رجل يفر من أقدار الله عليه، أو مشتاق محب للقاء الله عز وجل. وثبت في الصحيح عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يتمنّينّ أحدكم الموت لضرّ نزل به، فإن كان لا بدّ متمنّيا، فليقل: اللهمّ أحيني ما كانت الحياة خيرا لي، وتوفّني إذا كانت الوفاة خيرا لي» . رواه مسلم.
تنبيه: ذكرت لك فيما مضى عمره، وأولاده، وأضيف: أنه لما مات تشاح الناس فيه، فطلب كل محلة أن يدفن في محلتهم رجاء بركته حتى هموا أن يقتتلوا، ثم اتفقوا أن يجعلوه في صندوق من مرمر، وأن يدفنوه في النيل بحيث يجري الماء عليه، ويتفرق عنه، وتصل بركته، إلى الناس أجمعين، فبقي إلى أن أخرجه موسى عليه الصلاة والسلام، وحمله معه حتى دفنه بقرب آبائه بالشام في الأرض المقدسة، وكان قد أوصى بذلك قبل وفاته، فسبحان من لا انقضاء لملكه!.
الإعراب: {رَبِّ} : منادى حذف منه حرف النداء منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم
…
إلخ، وانظر الآية رقم [33]. {قَدْ}: حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال. {آتَيْتَنِي} : ماض مبني على السكون، والتاء فاعله، والنون للوقاية، وياء المتكلم مفعول به. {مِنَ الْمُلْكِ}: متعلقان بالفعل قبلهما، وهما في محل نصب مفعوله الثاني، {وَعَلَّمْتَنِي}:
فعل وفاعل، والنون للوقاية، والياء مفعول به. {مِنْ تَأْوِيلِ}: متعلقان بالفعل قبلهما، وهما في محل نصب مفعوله الثاني أيضا. وقيل: متعلقان بمحذوف صفة للمفعول الثاني، التقدير: شيئا عظيما من الملك، وشيئا عظيما من الأحاديث، وقيل:{مِنَ} زائدة، وليس بشيء، و {تَأْوِيلِ}:
مضاف، و {الْأَحادِيثِ}: مضاف إليه، وجملة: (علمتني
…
) إلخ معطوفة على ما قبلها.
{فاطِرَ} : يجوز فيه أن يكون صفة ل {رَبِّ} وأن يكون بدلا، وأن يكون عطف بيان، وأن يكون منصوبا بفعل محذوف، تقديره: أعني، وأن يكون منادى بأداة نداء محذوفة، التقدير: يا فاطر، وهو مضاف، و {السَّماواتِ}: مضاف إليه، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه.
(الأرض): معطوفة على ما قبله. {أَنْتَ} : ضمير منفصل مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ.
{وَلِيِّي} : خبره مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم
…
إلخ والياء في محل جر بالإضافة من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {فِي الدُّنْيا}: متعلقان به، وقيل: متعلقان بمحذوف حال منه، ولا وجه له. (الآخرة): معطوف على ما قبله. {تَوَفَّنِي} :
فعل دعاء مبني على حذف حرف العلة من آخره، وهو الألف المقصورة، والفاعل مستتر تقديره:
«أنت» ، والنون للوقاية وياء المتكلم مفعول به. {مُسْلِماً}: مفعول به ثان، أو هو حال من ياء المتكلم. {وَأَلْحِقْنِي}: أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» ، والنون للوقاية أيضا، والياء مفعول به. {بِالصّالِحِينَ}: متعلقان بما قبلهما، بعد هذا ينبغي أن تعلم: أن الآية الكريمة بكاملها من مقول يوسف، على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام.
الشرح: {ذلِكَ} : الإشارة إلى ما ذكر في السورة الكريمة من خبر يوسف مع إخوته، وما آل إليه أمره. {مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ}: من أخبار الغيب. {نُوحِيهِ إِلَيْكَ} : أخبرناك به يا محمد بواسطة الوحي. {وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ} أي: عند أولاد يعقوب. {إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ} : حين قرروا وعزموا على إلقاء يوسف في الجب. {وَهُمْ يَمْكُرُونَ} أي: يحتالون في هلاكه، أو يمكرون بأبيهم حين جاءوه عشاء يبكون، وجاءوا بالقميص ملطخا بالدم، أي: ما شاهدت تلك الأحوال، ولكن الله أطلعك عليها، وانظر (أجمع) في الآية رقم [15].
قال الخازن: وفي الآية دليل قاطع على صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنه كان رجلا أميا، لم يقرأ الكتب، ولم يلق العلماء، ولم يسافر إلى بلد آخر غير بلده الذي نشأ فيه، وأنه نشأ بين أمة أمية مثله، ثم إنه صلى الله عليه وسلم أتى بهذه القصة الطويلة على أحسن ترتيب، وأبين معان، وأفصح عبارة، فعلم بذلك أن الذي أتى به، هو وحي إلهي، ونور قدسي سماوي، فهو معجزة له قائمة إلى آخر الدهر، وما أجدرك أن تنظر الآية رقم [49] ورقم [100] من سورة (هود) على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام.
الإعراب: {ذلِكَ} : اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع مبتدأ، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب لا محل له. {مِنْ أَنْباءِ}: متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ، و {أَنْباءِ}:
مضاف، و {الْغَيْبِ}: مضاف إليه. {نُوحِيهِ} : مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل، والفاعل مستتر تقديره:«نحن» ، والهاء مفعول به. {إِلَيْكَ}: متعلقان بالفعل قبلهما، والجملة الفعلية في محل رفع خبر ثان للمبتدإ، إن عاد الضمير على الإشارة، أو في محل نصب حال من الغيب، إن عاد الضمير إليه والعامل في الحال اسم الإشارة، هذا؛ وقد قال الجمل:{نُوحِيهِ} مستأنفة، وقال أبو البقاء:{مِنْ أَنْباءِ} متعلقان بالفعل بعدهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من الضمير المنصوب، وقولهما هذا مثله في الآية رقم [44] من سورة (آل عمران)، ولا أؤيده. {وَما}: الواو: واو الحال. (ما): نافية. {كُنْتَ} : ماض ناقص مبني على السكون، والتاء اسمه. {لَدَيْهِمْ}: ظرف مكان منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على الألف المنقلبة ياء؛ لاتصاله بالهاء التي هي ضمير متصل في محل جر بالإضافة، وهو متعلق بمحذوف خبر كان. {إِذْ}: ظرف لما مضى من الزمان مبني على السكون في محل نصب متعلق بالخبر المحذوف، وجملة:{أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ} في محل جر بإضافة {إِذْ} إليها، وجملة:{وَما كُنْتَ..} . إلخ في محل نصب حال من كاف الخطاب في {إِلَيْكَ} والرابط: الواو، والضمير.
{وَهُمْ} : الواو: واو الحال. (هم): ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ.
{يَمْكُرُونَ} : مضارع مرفوع
…
إلخ، والواو فاعله، ومتعلقه محذوف، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية: (هم
…
) إلخ في محل نصب حال من واو الجماعة، والرابط: الواو، والضمير، وهي حال متداخلة. تأمل.
{وَما أَكْثَرُ النّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103)}
الشرح: الخطاب في هذه الآية للنبي صلى الله عليه وسلم، وذلك: أن اليهود وقريشا سألوه عن قصة يوسف مع إخوته، فلما أخبرهم بها على الوجه الأكمل، لم يسلموا، فحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم لذلك، فقيل له: إنهم لا يؤمنون، وإن كنت شديد الحرص على إيمانهم، ففيه تسلية له، هذا؛ والحرص على
المال البخل به، والطمع في جمعه من حلال، أو حرام، هذا؛ والفعل من باب ضرب، ويأتي بقلة من باب (نصر) و (فرح).
الإعراب: {وَما} : الواو: حرف استئناف. (ما): نافية حجازية تعمل عمل (ليس).
{أَكْثَرُ} : اسمها، وهو مضاف، و {النّاسِ}: مضاف إليه. {وَلَوْ} : الواو: واو الاعتراض.
(لو): حرف لما كان سيقع لوقوع غيره. {حَرَصْتَ} : فعل وفاعل، والمتعلق محذوف، التقدير:
على إيمانهم، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي، وجواب (لو) محذوف لدلالة المقام عليه، التقدير: ولو حرصت على إيمانهم لم يؤمنوا. و (لو) ومدخولها كلام معترض بين اسم (ما) وخبرها لا محل لها. {بِمُؤْمِنِينَ} : الباء: حرف جر صلة. (مؤمنين): خبر (ما) مجرور لفظا، منصوب محلاّ، والجملة الاسمية:{وَما أَكْثَرُ..} .
إلخ مستأنفة لا محل لها.
{وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلاّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (104)}
الشرح: {وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ} : ما تطلب ثوابا ومكافأة على ما تدعوهم إليه من الإيمان بالله، والاهتداء بالقرآن. {إِنْ هُوَ} أي: القرآن والوحي الذي نزل عليك. {إِلاّ ذِكْرٌ} أي: عظة وتذكرة للناس أجمعين. هذا؛ و {لِلْعالَمِينَ} : جمع عالم بفتح اللام، وهو يقال لكل ما سوى الله، ويدل له قول موسى-على نبينا، وعليه أفضل صلاة، وأزكى سلام-لما قال له فرعون:{وَما رَبُّ الْعالَمِينَ (23) قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ} والعوالم كثيرة لا تحصيها الأرقام، وهي منتشرة في هذا الكون المترامي الأطراف في البر والبحر؛ إذ كل جنس المخلوقات يقال له: عالم، قال تعالى:{وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاّ هُوَ} .
الإعراب: {وَما} : الواو: واو الحال. (ما): نافية. {تَسْئَلُهُمْ} : مضارع، والفاعل مستتر تقديره:«أنت» ، والهاء مفعول به أول. {عَلَيْهِ}: متعلقان بما قبلهما أو هما متعلقان بمحذوف حال من أجر، كان صفة له، فلما قدم عليه صار حالا على القاعدة:«نعت النكرة إذا تقدم عليها صار حالا» . {مِنْ} : حرف جر صلة. {أَجْرٍ} : مفعول به منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على آخره، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد، والجملة الفعلية:{وَما تَسْئَلُهُمْ..} . إلخ في محل نصب حال من تاء الفاعل، أو من الضمير المستتر في مؤمنين، وعلى الوجهين فالرابط: الواو، والضمير، وإن اعتبرتها مستأنفة؛ فلا محل لها. {إِنْ}: حرف نفي، {هُوَ}: ضمير منفصل مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ. {إِلاّ} : حرف حصر. {ذِكْرٌ} :
خبر المبتدأ. {لِلْعالَمِينَ} : متعلقان ب {ذِكْرٌ،} أو بمحذوف صفة له، والجملة الاسمية:{إِنْ هُوَ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها.
الشرح: {وَكَأَيِّنْ} : أصلها: (أي) الاستفهامية، دخلت عليها كاف التشبيه، فصارت بمعنى كم التكثيرية، وهي كناية عن عدد مبهم، مثل كم وكذا، وفيها خمس لغات، كلها قرئ بها: إحداها: كأيّن، وهي الأصل، وبها قرأ الجماعة إلا ابن كثير، والثانية: كائن بوزن كاعن، وبها قرأ ابن كثير وجماعة، وهي أكثر استعمالا من كأيّن، وإن كانت تلك الأصل، الثالثة: كئين بوزن كريم، الرابعة: كيئن بياء ساكنة وهمزة مكسورة، الخامسة: كأن بوزن كعن، هذا؛ والجلال المحلي اعتبر (كأين) بسيطة غير مركبة، وأن آخرها نون من نفس الكلمة لا تنوين؛ لأن هذه الدعاوى المتقدمة، لا يقوم عليها دليل، والشيخ رحمه الله تعالى سلك في ذلك الطريق الأسهل، والنحويون ذكروا هذه الأشياء محافظة على أصولهم، مع ما ينضم إلى ذلك من الفوائد، وتشحين الذهن، وتمرينه.
ومعنى {وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ..} . إلخ: أي: كأي عدد شئت من الآيات والعلامات الدالة على وجود الصانع ووحدته، وكمال علمه وقدرته وحكمته غير هذه الآية التي جئت بها، {فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ} أي: كائنة فيهما من الأجرام الفلكية، وما فيها من النجوم، وتغير أحوالها، ومن الجبال والبحار، وسائر ما في الأرض من العجائب الفائقة للحصر. {يَمُرُّونَ عَلَيْها..}. إلخ أي:
يشاهدونها، ولا يفكرون فيها، ولا يعتبرون بها، هذا؛ وقرئ برفع «(الأرضُ)» على الابتداء، وجملة:{يَمُرُّونَ..} . إلخ خبره، كما قرئ بنصبه، فيكون التقدير: ويطئون الأرض، وعلى هاتين القراءتين يكون الوقف على السموات.
الإعراب: {وَكَأَيِّنْ} : الواو: حرف استئناف. (كأين): اسم كناية بمعنى كثير، مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {مِنْ}: حرف جر صلة. {آيَةٍ} : تمييز ل (كأين) منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على آخره، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد.
{فِي السَّماواتِ} : متعلقان بمحذوف صفة آية. (الأرض): بالجر معطوف على ما قبله، وجملة:
{يَمُرُّونَ عَلَيْها} في محل رفع خبر المبتدأ (كأين). (هم): مبتدأ. {عَنْها} : متعلقان بما بعدهما.
{مُعْرِضُونَ} : خبر المبتدأ مرفوع
…
إلخ، والجملة الاسمية (هم
…
) إلخ في محل نصب حال من واو الجماعة، والرابط: الواو، والضمير، والجملة الاسمية (كأين
…
) إلخ مستأنفة لا محل لها، هذا؛ وقيل: إن الجار والمجرور {فِي السَّماواتِ} متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ وجملة:
{يَمُرُّونَ عَلَيْها} صفة: {آيَةٍ} ولا وجه له البتة؛ لأن الفائدة لا تتم بالجار والمجرور ولا يفصل بين الصفة والموصوف بأجنبي.
{وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلاّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106)}
الشرح: نزلت الآية الكريمة في مشركي قريش، كانوا إذا سئلوا من خلق السموات والأرض؟ قالوا: الله، ومع ذلك فقد كانوا يعبدون الأوثان والحجارة، وهي تنطبق على النصارى واليهود الذين يعترفون بوجود الله، ومع ذلك فقد نسبوا إليه التبني، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا! وأيضا كفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم، وقيل: نزلت الآية في المنافقين الذين يؤمنون بألسنتهم، وقلوبهم مفعمة بالكفر، وقيل: معناها أن الناس يدعون الله ينجيهم من الهلكة، فإذا أنجاهم قال قائلهم: لولا فلان، لولا الطبيب
…
إلخ لهلكنا، وقد يقع في هذا القول كثير من المسلمين، ولا حول، ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
الإعراب: {وَما} : الواو: حرف عطف. (ما): نافية. {يُؤْمِنُ} : مضارع. {أَكْثَرُهُمْ} :
فاعل، والهاء في محل جر بالإضافة. {بِاللهِ}: متعلقان بالفعل قبلهما. {إِلاّ} : حرف حصر، {وَهُمْ}: الواو: واو الحال، والجملة الاسمية:{وَهُمْ مُشْرِكُونَ} في محل نصب حال مستثنى من عموم الأحوال، وجملة:{وَما يُؤْمِنُ..} . إلخ معطوفة على جملة: {وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ} فهي في محل نصب حال مثلها.
الشرح: {أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ مِنْ عَذابِ اللهِ} أي: أفأمن كفار قريش أن تنزل بهم عقوبة تغشاهم وتشملهم؟ قيل: هي الصواعق والقوارع، ومثل الآية في التهديد والوعيد قوله تعالى:
{يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} {أَوْ تَأْتِيَهُمُ السّاعَةُ بَغْتَةً} أي: يأتيهم يوم القيامة فجأة بدون إنذار، ومن غير سابق علامة. {وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} أي: بإتيانها غير مستعدين لها، هذا؛ والشعور إدراك الشيء من وجه يدق، ويخفى، مشتق من الشعر لدقته، وسمي الشاعر شاعرا لفطنته، ودقة معرفته.
الإعراب: {أَفَأَمِنُوا} : الهمزة: حرف استفهام وإنكار وتوبيخ. الفاء: حرف استئناف.
(أمنوا): ماض، والواو فاعله، والألف للتفريق. {أَنْ}: حرف ناصب. {تَأْتِيَهُمْ} : مضارع منصوب ب {أَنْ،} والهاء مفعول به. {غاشِيَةٌ} : فاعل. {مِنْ عَذابِ} : متعلقان بمحذوف صفة {غاشِيَةٌ،} و {عَذابِ} : مضاف إليه، من إضافة اسم المصدر لفاعله، و {أَنْ} والمضارع في تأويل مصدر في محل نصب مفعول به. {أَوْ}: حرف عطف. {تَأْتِيَهُمْ} : معطوف على ما قبله منصوب مثله، والهاء مفعول به. {السّاعَةُ}: فاعل. {بَغْتَةً} : حال، بمعنى مباغتة، وقيل:
مفعول مطلق لفعل محذوف، وتعود الجملة في محل نصب حال. وجوز اعتبار {بَغْتَةً} مصدرا للفعل (يأتي) من غير لفظه، على حد قولهم: أتيته ركضا، فتكون {بَغْتَةً} نائب مفعول مطلق، والجملة الاسمية:{وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} : في محل نصب حال من الضمير المنصوب، والرابط:
الواو، والضمير.
الشرح: {قُلْ هذِهِ سَبِيلِي} أي: قل يا محمد لهؤلاء المشركين هذه طريقي، وسنتي، ومنهاجي. {أَدْعُوا إِلَى اللهِ}: إلى توحيده، وعبادته، وتقديسه، وتعظيمه. {عَلى بَصِيرَةٍ}: على علم، ويقين، وحق، وحجة واضحة غير عمياء، والبصيرة هي المعرفة التي يميز بها بين الحق والباطل. {أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} أي: من آمن بي، وصدق بما جئت به أيضا يدعو إلى ما ذكر.
قال ابن عباس-رضي الله عنهما: إن محمدا صلى الله عليه وسلم، وأصحابه كانوا على أحسن طريقة، وأفضل هداية، وهم معدن العلم، وكنز الإيمان، وجند الرحمن، وقال ابن مسعود رضي الله عنه: من كان مستنا فليستن بمن قد مات، أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، كانوا خير هذه الأمة، وأبرها قلوبا، وأعمقها علما، وأقلها تكلفا، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه، ونقل دينه، فشبهوا بأخلاقهم وطريقتهم، فهؤلاء كانوا على الصراط المستقيم. {وَسُبْحانَ اللهِ} أي: تنزيها لله عما لا يليق بجلاله من جميع العيوب والنقائص، والشركاء، والأضداد، والأنداد. {وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} أي: الذين أشركوا مع الله غيره في العبادة وغيرها.
بعد هذا انظر شرح {سُبْحانَكَ} في الآية رقم [10] من سورة (يونس) والسبيل: الطريق، يذكر ويؤنث بلفظ واحد، فمن التذكير قوله تعالى:{وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً} ومن التأنيث ما في الآية الكريمة، والجمع على التأنيث (سبول) وعلى التذكير سبل بضمتين، وقد تسكن الباء، كما في رسل وعسر، ويسر، قال عيسى بن عمر:
كل اسم على ثلاثة أحرف، أوله مضموم وأوسطه ساكن فمن العرب من يخففه، ومنهم من يثقله، وذلك مثل رحم وأسد
…
إلخ، هذا؛ وابن السبيل المسافر، وسبيل الله الجهاد، وطلب العلم، والحج، وكل ما أمر الله به من أفعال الخير، ويقال: ليس لك علي سبيل، أي: حجة تعتل بها، وليس علي في كذا سبيل، أي: حرج ومؤاخذة.
الإعراب: {قُلْ} : أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» . {هذِهِ} : اسم إشارة مبني على الكسر في محل رفع مبتدأ، والهاء حرف تنبيه لا محل له. {سَبِيلِي}: خبر المبتدأ مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم، منع من ظهورها اشتغال المحل بالحركة
المناسبة، والياء في محل جر بالإضافة. {أَدْعُوا}: مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الواو للثقل، والفاعل مستتر تقديره:«أنا» . {إِلَى اللهِ} : متعلقان بالفعل قبلهما، والجملة الفعلية في محل نصب حال من ياء المتكلم، والرابط: الضمير فقط، والعامل في الحال اسم الإشارة، وقيل: الجملة الفعلية مفسرة لسبيلي تفسيرا، وهو ضعيف، وأضعف منه القول بالاستئناف، هذا؛ وجاز مجيء الحال من المضاف إليه؛ لأن المضاف كجزء منه على حد قوله تعالى:{مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً} قال ابن مالك رحمه الله في ألفيته: [الرجز]
ولا تجز حالا من المضاف له
…
إلاّ إذا اقتضى المضاف عمله
أو كان جزء ما له أضيفا
…
أو مثل جزئه فلا تحيفا
{أَنَا} : ضمير منفصل توكيد لفاعل {أَدْعُوا} المستتر. {وَمَنِ} : الواو: حرف عطف.
(من): اسم موصول مبني على السكون في محل رفع معطوف على {أَدْعُوا} المستتر، وجملة:
{اِتَّبَعَنِي} صلة الموصول لا محل لها، هذا وجه للإعراب، وعليه فالجار والمجرور {عَلى بَصِيرَةٍ} متعلقان بمحذوف حال من فاعل {أَدْعُوا} المستتر، والوجه الثاني اعتبار الجار والمجرور متعلقين بمحذوف خبر مقدم، والضمير مبتدأ مؤخر، والموصول معطوف عليه، وتقدير الكلام: أنا ومن اتبعني كائنان على بصيرة، وعليه فالوقف على {إِلَى اللهِ،} والجملة الاسمية مستأنفة، وأجيز اعتبار {عَلى بَصِيرَةٍ} متعلقين بمحذوف حال من فاعل {أَدْعُوا} المستتر أيضا، واعتبار الضمير {أَنَا} فاعلا بالحال، وهناك أقوال ضعيفة ضربت عنها صفحا. (سبحان):
مفعول مطلق لفعل محذوف، التقدير: وأسبح سبحان، وهو مضاف، و {اللهِ}: مضاف إليه من إضافة اسم المصدر لمفعوله، وفاعله مستتر فيه، والجملة الفعلية الحاصلة معطوفة على جملة:
{أَدْعُوا..} . إلخ على بعض الوجوه، ومعترضة على اعتبار ما بعدها حالا، ومستأنفة مع ما بعدها على اعتبار آخر. {وَما}: الواو: حرف عطف، أو هي واو الحال. (ما): نافية حجازية، أو هي مهملة. {أَنَا}: اسم ما، أو هو مبتدأ. {مِنَ الْمُشْرِكِينَ}: متعلقان بمحذوف خبر (ما)، أو بمحذوف خبر المبتدأ، وعلى الوجهين فالجملة اسمية، وهي معطوفة على ما قبلها، أو هي في محل نصب حال من فاعل {أَدْعُوا،} أو من ياء المتكلم، والرابط: الواو، والضمير.
الشرح: {وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاّ رِجالاً} : هذا رد القائلين: {لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ} أي:
أرسلنا رسلا رجالا، ليس فيهم ملك، ولا امرأة، ولا جني. {نُوحِي إِلَيْهِمْ} أي: كما أوحينا
إليك بواسطة جبريل عليه السلام، ويقرأ «(يوحى إليهم)» {مِنْ أَهْلِ الْقُرى}: يريد الأمصار والقرى. ولم يبعث الله نبيا من أهل البادية لغلبة الجفاء والقسوة على أهل البدو؛ ولأن أهل الحضر أعقل وأحلم، وأفضل وأعلم، وكذلك حياة البدو المتنقلة لا تسمح للرسول بالدعوة على وجه الأكمل. {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ..}. إلخ: أي: أفلم يمش قريش في الأرض ليروا مصارع الأمم المكذبة، وما حل بهم من الهلاك والدمار، فيعتبروا بهم، وفيه ردع وزجر للكافرين المكذبين بأن الله سيهلكهم كما أهلك من قبلهم. {وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا} أي: ولدار حال الآخرة أو لحياة الآخرة، والمراد بهذه الدار: الجنة وما فيها. {أَفَلا تَعْقِلُونَ} أي: أفلا تفهمون؟! أو لا تستعملون عقولكم لتعرفوا أن الحياة في الجنة خير من الحياة في الدنيا، هذا؛ ويقرأ الفعل بالتاء على الخطاب، فيكون في الكلام التفات من الغيبة إلى الخطاب، ويقرأ بالياء على الغيبة فلا التفات حينئذ.
هذا؛ وعاقبة كل شيء آخره ونتيجته ومصيره ومآله، ولم يؤنث الفعل {كانَ؛} لأن {عاقِبَةُ} مؤنث مجازي، وما كان منه يستوي فيه التذكير والتأنيث، أو لأن {عاقِبَةُ} اكتسب التذكير من المضاف إليه.
هذا؛ وأصل {اِتَّقَوْا} اتقى، فلما اتصلت به واو الجماعة صار (اتقاوا) فحذفت الألف لالتقاء الساكنين، وبقيت الفتحة على القاف دليلا عليها، هذا؛ والتقوى حفظ النفس من العذاب الأخروي، بامتثال أوامر الله، واجتناب نواهيه؛ لأن أصل المادة من الوقاية، وهي الحفظ والتحرز من المهالك في الدنيا والآخرة، وانظر ما وصف الله به المتقين في أول سورة (البقرة).
الإعراب: {وَما} : الواو: حرف استئناف. (ما): نافية. {أَرْسَلْنا} : فعل وفاعل. {مِنْ قَبْلِكَ} : متعلقان بالفعل قبلهما وأجيز اعتبارهما متعلقين بمحذوف حال من {رِجالاً،} كان صفة له، فلما قدم عليه صار حالا على القاعدة:«نعت النكرة إذا تقدم عليها صار حالا» ، والكاف في محل جر بالإضافة. {إِلاّ}: حرف حصر، {رِجالاً}: مفعول به. {نُوحِي} : مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل، والفاعل مستتر تقديره:«نحن» . {إِلَيْهِمْ} : متعلقان به، وعلى قراءة الفعل بالياء، فهو مبني للمجهول، والجار والمجرور نائب فاعله، والجملة الفعلية على الاعتبارين في محل نصب صفة {رِجالاً}. {مِنْ أَهْلِ}: متعلقان بمحذوف صفة ثانية ل {رِجالاً} أو هما متعلقان بمحذوف حال منه بعد وصفه بما تقدم، و {أَهْلِ}: مضاف، و {الْقُرى}: مضاف إليه مجرور، وعلامة جره كسرة مقدرة على الألف للتعذر. {أَفَلَمْ}: الهمزة: حرف استفهام وتوبيخ وتقريع. الفاء: حرف عطف. (لم): حرف نفي وقلب وجزم. {يَسِيرُوا} : مضارع مجزوم بلم، وعلامة جزمه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والألف للتفريق. {فِي الْأَرْضِ}: متعلقان بما قبلهما، والجملة الفعلية مستأنفة مع الجملة المقدرة المعطوفة عليها على
القول الثاني في الفاء، ومعطوفة على ما قبلها على القول الأول في الفاء. {فَيَنْظُرُوا}: مضارع مجزوم على اعتبار الفاء عاطفة، ومنصوب على اعتبار الفاء للسببية، وعلامة الجزم، أو النصب حذف النون
…
إلخ، والواو فاعله، والألف للتفريق. {كَيْفَ}: اسم استفهام مبني على الفتح في محل نصب خبر {كانَ} تقدم عليها وعلى اسمها، وهو معلق للفعل قبله عن العمل لفظا.
{كانَ} : ماض ناقص. {عاقِبَةُ} : اسمها، وهو مضاف، و {الَّذِينَ}: اسم موصول مبني على الفتح في محل جر بالإضافة. {مِنْ قَبْلِهِمْ} : متعلقان بمحذوف صلة الموصول، والهاء في محل جر بالإضافة. هذا؛ وأجيز اعتبار {كانَ} تامة، فاعلها {عاقِبَةُ،} فتكون {كَيْفَ} في محل نصب حال من {عاقِبَةُ،} والعامل {كانَ} وجملة: {كَيْفَ كانَ..} . إلخ في محل نصب مفعول به للفعل قبله المعلق عن العمل. {وَلَدارُ} : الواو: حرف استئناف. اللام: لام الابتداء.
(دار): مبتدأ، وهو مضاف، و {الْآخِرَةِ}: مضاف إليه، وانظر الشرح، هذا؛ وقرئ:«(وللدار الآخرة)» على الصفة. {خَيْرٌ} : خبر المبتدأ. {لِلَّذِينَ} : متعلقان ب {خَيْرٌ} . {اِتَّقَوْا} : ماض مبني على فتح مقدر على الألف المحذوفة لالتقاء الساكنين، والواو فاعله، والألف للتفريق، والمفعول محذوف، التقدير: اتقوا الله، والجملة الفعلية صلة الموصول، والجملة:{وَلَدارُ..} .
إلخ مستأنفة لا محل لها، وقيل: في محل نصب حال، ولا وجه له؛ لأنه لا يوجد عامل ولا صاحب للحال. {أَفَلا}: الهمزة: حرف استفهام وتوبيخ وتقريع. الفاء: حرف عطف. (لا):
نافية. {تَعْقِلُونَ} : مضارع مرفوع
…
إلخ، والواو فاعله، وقل في الجملة ما قلته في {أَفَلَمْ يَسِيرُوا..}. إلخ وجملة:{وَما أَرْسَلْنا..} . إلخ مستأنفة لا محل لها.
الشرح: {حَتّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ} أي: يئسوا من إيمان قومهم، وانظر مثله في الآية رقم [80]، وظنوا أنهم قد كذبوا، يقرأ الفعل {كُذِبُوا} بالتخفيف، ووجه هذه القراءة على ما قاله الواحدي: أن معناه: ظن الأمم أن الرسل قد كذبوهم فيما أخبروهم به من نصر الله إياهم، وإهلاك أعدائهم، وهذا معنى قول ابن عباس، وابن مسعود، وسعيد بن جبير، ومجاهد-رضي الله عنهم أجمعين-، وقال أهل المعاني:{كُذِبُوا} من قولهم: كذبتك الحديث، أي: لم أصدقك، ومنه قوله تعالى:{وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللهَ وَرَسُولَهُ} .
قال أبو علي الفارسي: والضمير في قوله {وَظَنُّوا} على هذه القراءة للمرسل إليهم، والتقدير: وظن المرسل إليهم: أن الرسل قد كذبوهم فيما أخبروهم به من نصر الله، وإهلاك أعدائهم، وهذا معنى قول ابن عباس: أنهم لم يؤمنوا بهم حتى نزل بهم العذاب، وإنما ظنوا
ذلك؛ لما شاهدوا من إمهال الله إياهم، ولا يمتنع حمل الضمير في {وَظَنُّوا} على المرسل إليهم، وإن لم يتقدم لهم ذكر؛ لأن ذكر الرسل يدل على ذكر المرسل إليهم، وإن شئت قلت: إن ذكرهم جرى في قوله تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} أي: مكذبي الرسل.
هذا؛ ويقرأ: «(وكذبوا)» بتشديد الذال، ووجهه ظاهر، وهو أن معناه:{حَتّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ} من إيمان قومهم، و {وَظَنُّوا} يعني: وأيقن الرسل أن الأمم قد كذبوهم تكذيبا لا يرجى بعده إيمانهم، فالظن بمعنى اليقين، وهذا معنى قول قتادة، وقال بعضهم: معناه: حتى إذا استيأس الرسل ممن كذبهم من قومهم أن يصدقوهم، وظنوا: أن من قد آمن بهم من قومهم قد فارقوهم، وارتدوا عن دينهم لشدة البلاء والمحنة، واستبطئوا النصر؛ أتاهم النصر، وعلى هذا القول الظن بمعنى الحسبان، والتكذيب مظنون من جهة من آمن بهم. انتهى. خازن باختصار.
هذا؛ وقال القرطبي: وهذه الآية فيها تنزيه الأنبياء وعصمتهم عما لا يليق بهم، وهذا الباب عظيم، وخطره جسيم ينبغي الوقوف عليه لئلا يزل الإنسان فيكون في سواء الجحيم. انتهى.
بعد هذا فعن عروة بن الزبير: أنه سأل عائشة-رضي الله عنهم أجمعين-عن قوله تعالى:
{حَتّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا} أو (كذبوا) قالت: بل كذبهم قومهم، فقلت:
والله لقد استيقنوا أن قومهم كذبوهم، وما هو بالظن، فقالت: يا عروة أجل، لقد استيقنوا بذلك، فقلت: لعلها قد كذّبوا، فقالت: معاذ الله، لم تكن الرسل تظن ذلك بربها! قلت: فما هذه الآية؟ قالت: هم أتباع الرسل الذين آمنوا بربهم، وصدقوهم، فطال عليهم البلاء، واستأخر عنهم النصر، حتى إذا استيأس الرسل ممن كذبهم من قومهم، وظنوا أن أتباعهم كذبوهم، جاءهم نصر عند ذلك. انتهى. خازن.
وقال ابن عباس-رضي الله عنهما: {قَدْ كُذِبُوا} خفيفة، وتلا قوله تعالى:{وَزُلْزِلُوا حَتّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ} أي: إنه جعل هذه الآية شبيهة بآية البقرة رقم [213].
وهذا إن صح عنه، فيكون قد أراد بالظن ما يهجس في القلب من الوسوسة، هذا؛ وقرئ:
(كذبوا) بالتخفيف والبناء للمعلوم، فيكون المعنى: وظن الرسل أنهم قد كذبوا فيما حدثوا عند قومهم لما تراخى النصر عنهم، ولم يروا له أثرا.
{فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ} : المراد به النبي وأتباعه، وإنما لم يعينهم للدلالة على أنهم هم الذين يستأهلون النجاة لا يشاركهم فيها غيرهم، وقرئ:«(فننجي)» وقرئ: «(فنجا)» وانظر الإعراب، {وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} أي: لا يدفع العذاب عن الكافرين إذا نزل بهم.
الإعراب: {حَتّى} : حرف ابتداء. {إِذَا} : ظرف لما يستقبل من الزمان، خافض لشرطه، منصوب بجوابه، صالح لغير ذلك، مبني على السكون في محل نصب، وجملة:{اِسْتَيْأَسَ}
الرُّسُلُ في محل جر بإضافة {إِذَا} إليها على القول المشهور المرجوح، وهناك متعلق محذوف، تقديره: من النصر على أعدائهم. {أَنَّهُمْ} : حرف مشبه بالفعل، والهاء اسمها. {قَدْ}: حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال. {كُذِبُوا} : ماض مبني للمجهول مبني على الضم، والواو نائب فاعله، والألف للتفريق، أو هو فعل وفاعل على البناء للمعلوم، والجملة الفعلية في محل رفع خبر أن، وأن واسمها وخبرها في تأويل مصدر في محل نصب سد مسد مفعولي ظنوا، والجملة الفعلية (ظنوا
…
) إلخ معطوفة على ما قبلها. {جاءَهُمْ} : ماض، والهاء مفعول به:
{نَصْرُنا} فاعل، و (نا): في محل جر بالإضافة، وجملة:{جاءَهُمْ نَصْرُنا} : جواب {إِذَا} لا محل لها، و {إِذَا} ومدخولها كلام مستأنف لا محل له، هذا الإعراب هو المتعارف عليه، ولكن الأخفش يعتبر (حتى) في مثل ذلك جارة ل {إِذَا،} ووافقه الزمخشري والبيضاوي؛ ولذا قدر البيضاوي ما يلي: أي: لا يغررهم تمادي أيامهم، فإن من قبلهم أمهلوا حتى أيس الرسل من النصر عليهم في الدنيا، أو من إيمانهم.
وفي السمين ليس في الكلام شيء يكون {حَتّى} غاية له، فمن ثم اختلف الناس في تقدير شيء يصح جعله مغيّا ب {حَتّى} فقدره الزمخشري: وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا فتراخى نصرهم حتى، وقدره القرطبي: وما أرسلنا من قبلك يا محمد إلا رجالا، ثم لم نعاقب أمتهم بالعذاب حتى إذا
إلخ، وقدره ابن الجوزي: وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا، فدعوا قومهم، فكذبوهم، وطال دعاؤهم وتكذيب قومهم حتى إذا
…
إلخ. انتهى. جمل. {فَنُجِّيَ} : الفاء: حرف عطف.
(نجي): ماض مبني للمجهول، و {مَنْ}: نائب فاعله، وعلى قراءة «(ننجي)» فهو مضارع مرفوع
إلخ، والفاعل مستتر تقديره:«نحن» ، و {مَنْ} مفعول به، وعلى قراءة:«(نجا)» فهو ماض مبني للمعلوم، و {مَنْ} فاعله، و {مَنْ} هي الموصولة، أو هي الموصوفة، والجملة الفعلية بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد أو الرابط محذوف؛ إذ التقدير: الذي أو شخص أو شخصا نشاء نجاته، وجملة: (نجي
…
) إلخ معطوفة على جواب {إِذَا} لا محل لها مثله. {وَلا} : الواو: واو الحال.
{يُرَدُّ} : مضارع مبني للمجهول. {بَأْسُنا} : نائب فاعله، و (نا): في محل جر بالإضافة. {عَنِ الْقَوْمِ} : متعلقان بالفعل قبلهما. {الْمُجْرِمِينَ} : صفة القوم مجرور
…
إلخ، والجملة الفعلية:{وَلا يُرَدُّ..} . إلخ في محل نصب حال من نا، والرابط: الواو، والضمير، أو هي مستأنفة لا محل لها.
الشرح: {لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ} أي: في خبر الأنبياء والرسل وأممهم، أو في خبر يوسف وإخوته، وانظر شرح {نَقُصُّهُ} في الآية رقم [100] من سورة (هود) عليه السلام. {عِبْرَةٌ}:
تذكرة وعظة. {لِأُولِي الْأَلْبابِ} أي: يتعظ بها أصحاب العقول الصحيحة، والقلوب الواعية، هذا؛ والاعتبار والعبرة: الحالة التي يتوصل بها الإنسان من معرفة المشاهد إلى ما ليس بمشاهد، والمراد منه التأمل والتفكر، وانظر الآية رقم [21] من سورة (الرعد).
{ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى} أي: ما كان هذا القرآن حديثا يختلق؛ لأن الذي جاء به من عند الله -وهو محمد صلى الله عليه وسلم-لا يصح منه أن يختلقه أو يبتدعه من تلقاء نفسه؛ لأنه لم يقرأ الكتب السابقة، ولم يخالط العلماء، ثم إنه جاء بهذا القرآن المعجز، فدل ذلك على صدقه، وأنه ليس بمفتر، وانظر {الْأَحادِيثِ} في الآية رقم [6] {وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} أي: ولكن كان تصديق الذي بين يديه من الكتب الإلهية المنزلة على موسى وعيسى وداود وغيرهم على نبينا، وعليهم أفضل صلاة، وأزكى سلام، وفي ذلك إشارة إلى أن قصة يوسف وردت في القرآن على الوجه الموافق لما في التوراة وغيرها.
{وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ} أي: مما يحتاجه الناس في دنياهم من العقائد، والأحكام، والمواعظ، والحلال والحرام، والقصص، والوعد والوعيد، والمحكم والمتشابه كما قال بعضهم ذكرا ما اشتمل عليه القرآن الكريم:[الطويل]
حلال، حرام، محكم، متشابه
…
بشير، نذير، قصّة، عظة، مثل
{وَهُدىً وَرَحْمَةً} أي: رشد وبيان، وهداية من الضلال، ونعمة شاملة سابغة لمن قرأ القرآن وانتفع به. {لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}: خصهم الله بالذكر؛ لأنهم هم الذين ينتفعون بالقرآن وتعاليمه.
هذا؛ وهدى أصله (هديا) بضم الهاء وفتح الدال، وتحريك الياء منونة، فقلبت الياء ألفا، لتحركها وانفتاح ما قبلها، فاجتمع ساكنان: الألف والتنوين، الذي يرسم ألفا في حالة النصب بحسب الأصل، فحذفت الألف لالتقاء الساكنين، فصار (هدى) وإنما أتوا بياء أخرى، لتدل على الياء المحذوفة الأصلية، بخلاف ما إذا لم يأتوا بها، وقالوا:(هدا) فلا يوجد ما يدل عليها.
الإعراب: {لَقَدْ} : اللام: هي لام الابتداء، أو هي واقعة في جواب قسم محذوف، تقديره:
والله. (قد): حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال. {كانَ} : ماض ناقص. {فِي قَصَصِهِمْ} :
متعلقان بمحذوف خبر {كانَ} تقدم على اسمها، والهاء في محل جر بالإضافة. {عِبْرَةٌ}: اسم كان مؤخر، ولم يؤنث الفعل للفاصل، أو لأن {عِبْرَةٌ} مؤنث غير حقيقي. {لِأُولِي}: جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة عبرة، وعلامة الجر الياء نيابة عن الكسرة؛ لأنه ملحق بجمع المذكر السالم، وحذفت النون للإضافة اللازمة، و (أولي): مضاف. و {الْأَلْبابِ} : مضاف إليه، وجملة:{لَقَدْ..} . إلخ لا محل لها على الوجهين المعتبرين باللام.
{ما} : نافية. {كانَ} : ماض ناقص، واسمه ضمير القرآن المفهوم من المقام. {حَدِيثاً}:
خبر كان. {يُفْتَرى} : مضارع مبني للمجهول مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف
للتعذر، ونائب الفاعل مستتر تقديره:«هو» يعود إلى القرآن، أو إلى {حَدِيثاً،} والجملة الفعلية في محل نصب خبر ثان ل {كانَ،} على اعتبار نائب الفاعل عائدا إلى القرآن، أو في محل نصب صفة حديثا على اعتبار نائب الفاعل عائدا إليه، والجملة الفعلية:{ما كانَ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها. الواو: حرف عطف. (لكن): حرف استدراك مهمل، لا عمل له. {تَصْدِيقَ}:
خبر لكان محذوفة، التقدير: ولكن كان
…
إلخ، و {تَصْدِيقَ}: مضاف، و {الَّذِي} اسم موصول مبني على السكون في محل جر بالإضافة، وانظر الآية رقم [37] من سورة (يونس) عليه السلام ففيها كبير فائدة. {بَيْنَ}: ظرف مكان متعلق بمحذوف صلة الموصول. و {بَيْنَ} :
مضاف، و {يَدَيْهِ}: مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الياء؛ لأنه مثنى لفظا في محل جر بالإضافة. {وَتَفْصِيلَ}: معطوف على تصديق، وهو مضاف، و {كُلِّ}: مضاف إليه، و {كُلِّ}: مضاف، و {شَيْءٍ}: مضاف إليه. {وَهُدىً} : معطوف على ما قبله، منصوب مثله، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على الألف المحذوفة لالتقاء الساكنين، والثانية دليل عليها، وليست عينها. {وَرَحْمَةً}: معطوف أيضا على ما قبله. {لِقَوْمٍ} : متعلقان برحمة، أو بمحذوف صفة لها، وجملة:{يُؤْمِنُونَ} مع المتعلق المحذوف في محل جر صفة (قوم). تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم، وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
انتهت سورة (يوسف) على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام تفسيرا وإعرابا بعون الله وتوفيقه، والحمد لله رب العالمين.