المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌سورة التّوبة وهي مدنية، قال ابن الجوزي: إلا آيتين في آخرها - تفسير القرآن الكريم وإعرابه وبيانه - الدرة - جـ ٤

[محمد علي طه الدرة]

الفصل: ‌ ‌سورة التّوبة وهي مدنية، قال ابن الجوزي: إلا آيتين في آخرها

‌سورة التّوبة

وهي مدنية، قال ابن الجوزي: إلا آيتين في آخرها {لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ..} . إلخ فإنها نزلت بمكة، وهي آخر سور القرآن الكريم نزولا، وهي: مائة وتسع وعشرون آية، وأربعة آلاف، وثمان وسبعون كلمة، وعشرة آلاف وأربعمائة، وثمان وثمانون حرفا، ولهذه السورة أسماء عشرة: سورة (التوبة) وسورة براءة، وهذان الاسمان مشهوران والمقشقشة قاله ابن عمر، سميت بذلك؛ لأنها تقشقش من النفاق، أي: تبرئ منه، والمبعثرة؛ لأنها تبعثر عن أخبار المنافقين، وتبحث عنها وتثيرها، والفاضحة، قاله ابن عباس؛ لأنها فضحت المنافقين، وسورة العذاب، قاله حذيفة رضي الله عنه، والمخزية؛ لأن فيها خزي المنافقين، والمدمدمة سميت بذلك؛ لأن فيها هلاك المنافقين، والمشردة، سميت بذلك؛ لأنها شردت جموع المنافقين، وفرقتهم، والمثيرة، سميت بذلك؛ لأنها أثارت مخازي المنافقين، وكشفت أحوالهم، وهتكت أستارهم. انتهى خازن. وزيد المنكلة، والمنقرة، والحافرة، والبحوث، وغير ذلك.

عن سعيد بن جبير رضي الله عنه، قال: قلت لابن عباس-رضي الله عنهما: سورة (التوبة) قال: بل هي الفاضحة، ما زالت تقول، ومنهم، ومنهم

حتى ظنوا أن لا يبقى أحد إلا ذكر فيها، قال: قلت: سورة (الأنفال)، قال: نزلت في بدر، قال: قلت: سورة (الحشر)، قال: بل سورة بني النضير. أخرجاه في الصحيحين. انتهى. خازن.

تنبيه: لقد اختلف بسبب ترك التسمية في أول هذه السورة الكريمة، وها أنا ذا أنقل لك ما كتبه الخازن في هذا الصدد: فعن محمد بن الحنفية-رضي الله عنهما-قال: قلت لأبي، يعني علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: لم لم تكتبوا في براءة {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ؟} قال:

يا بني إن براءة نزلت بالسيف، وإن {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ} أمان، وسئل سفيان بن عيينة عن هذا، فقال: لأن التسمية رحمة، والرحمة أمان، وهذه السورة نزلت في المنافقين، وقال المبرد: لم تفتح هذه السورة الشريفة ب {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ؛} لأن التسمية افتتاح للخير، وأول هذه السورة وعيد، ونقض عهود، فلذلك لم تفتح بالتسمية.

وسئل أبي بن كعب-رضي الله عنه-عن هذا، فقال: إنها نزلت في آخر القرآن، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر في كل سورة بكتابة {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ،} ولم يأمر في براءة بذلك، فضمت إلى الأنفال لشبهها بها، وقيل: إن الصحابة اختلفوا في أن سورة (الأنفال)،

ص: 98

وسورة براءة هل هما سورة واحدة، أو سورتان، فقال بعضهم: سورة واحدة لأنهما نزلتا في القتال، ومجموعهما معا مائتان وثمانون آية، فكانت هي السورة السابعة من السبع الطوال، وقال بعضهم: هما سورتان، فلما حصل هذا الاختلاف بين الصحابة تركوا بينهما فرجة، تنبيها على قول من يقول: إنهما سورتان، ولم يكتبوا {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ} وتنبيها على قول من يقول: هما سورة واحدة. انتهى. خازن.

وقيل: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا نزلت عليه سورة، أو آية بين موضعها، وتوفي؛ ولم يبين موضعها، وكانت قصتها تشابه قصة الأنفال، وتناسبها؛ لأن في الأنفال ذكر العهود، وفي براءة نبذها، فضمت إليها. انتهى. بيضاوي.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

{بَراءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (1)}

الشرح: {بَراءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ} : أصل البراءة في اللغة: انقطاع العصمة، يقال: برئت من فلان أبرأ براءة، فأنا بريء منه، أي: انقطعت بيننا العصمة، ولم يبق بيننا علقة، وقيل: معناه التباعد مما تكره مجاورته، وانظر شرح {اللهِ وَرَسُولِهِ} في الآية رقم [1] من سورة (الأنفال).

{إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} أي: إلى الذين عاهدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه كان المتولي للعقود، وأصحابه جميعهم راضون بذلك، فكأنهم عاقدوا، وعاهدوا فنسب العقد إليهم، وكانت هذه البراءة بعد أن نكث المشركون، ما عاهدوا عليه النبي صلى الله عليه وسلم، فإنهم نكثوا إلا أناسا منهم: بنو ضمرة وبنو كنانة، فأمرهم الله بنبذ العهد، إلى الناكثين، وإمهال من لم ينكث من المشركين أربعة أشهر، وهو نص الآية التالية.

الإعراب: {بَراءَةٌ} : خبر لمبتدإ محذوف، التقدير: هذه براءة. {مِنَ اللهِ} : متعلقان ب {بَراءَةٌ،} أو بمحذوف صفة له. {وَرَسُولِهِ} : معطوف على ما قبله، والهاء في محل جر بالإضافة. {إِلَى الَّذِينَ}: متعلقان بما تعلق به ما قبلهما، والجملة الفعلية صلة الموصول، والعائد محذوف، التقدير: عاهدتموهم. {مِنَ الْمُشْرِكِينَ} : متعلقان بمحذوف حال من المفعول المحذوف، هذا؛ وجوز اعتبار {بَراءَةٌ} مبتدأ، والخبر {إِلَى الَّذِينَ} وسوغ الابتداء بالنكرة وصفها كما رأيت، هذا؛ وقرئ بنصب:(براءة) على تقدير: اسمعوا، أو التزموا براءة، ففيه معنى الإغراء.

ص: 99

{فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاِعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَأَنَّ اللهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ (2)}

الشرح: {فَسِيحُوا} : سيروا في الأرض مقبلين ومدبرين، آمنين غير خائفين أحدا من المسلمين بحرب، ولا سلب، ولا قتل، ولا أسر. {أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ}: هي شوال، وذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم؛ لأن الآية نزلت في شوال، وقيل: هي عشرون من ذي الحجة، والمحرم، وصفر، وربيع الأول، وعشر من ربيع الآخر؛ لأن التبليغ كان يوم النحر، كما ستعرفه، وانظر شرح الأشهر في الآية رقم [37]. {وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ} أي: اعتقدوا وتيقنوا: أنكم لا تعجزون الله، ولا تفوتونه، واعتقدوا أن الله مذل الكافرين بالقتل والأسر في الدنيا، والعذاب في الآخرة، وانظر شرح {كَفَرُوا} في الآية رقم [66](الأعراف)، هذا؛ و {غَيْرُ} اسم شديد الإبهام، ولا يتعرف بالإضافة لمعرفة وغيرها، وهو ملازم للإضافة، ويجوز أن يقطع عنها، إن فهم المعنى، أو تقدمت كلمة ليس عليها، يقال: قبضت عشرة ليس غير، وهو مبني على الضم، أو الفتح خلاف، وإن أردت الزيادة فانظر مبحثها في كتابنا:«فتح القريب المجيب» .

تنبيه: لقد اختلف العلماء في هذا التأجيل، وفي هؤلاء الذين برئ الله ورسوله إليهم من العهود التي كانت بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال مجاهد: هذا التأجيل من الله للمشركين، فمن كانت مدة عهده أقل من أربعة أشهر رفعه إلى أربعة أشهر، ومن كانت مدته أكثر حطه إليها، ومن كان عهده بغير أجل معلوم محدود حدّه بها، ثم هو بعد ذلك حرب لله ولرسوله، يقتل حيث أدرك، ويؤسر إلا أن يتوب ويرجع إلى الإيمان، وكان ابتداء هذا الأجل يوم الحج الأكبر، وانقضاؤه إلى عشر من ربيع الآخر في السنة التاسعة للهجرة على المعتمد.

وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد أراد الحج، فقيل له: إن المشركين يحضرون، ويطوفون بالبيت عراة، فقال:«لا أحب أن أحج حتى لا يكون ذلك» . فبعث أبا بكر-رضي الله عنه-في تلك السنة أميرا على الحج، ثم بعد مسيره بأيام نزلت الآيات من أول سورة براءة، فبعث بها مع علي بن أبي طالب-رضي الله عنه-على ناقته العضباء ليقرأ الآيات على الناس، وأمره أن يؤذن بمكة ومنى، وعرفة: أن قد برئت ذمة الله وذمة رسوله من كل مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، فقيل له: لو بعثت بها إلى أبي بكر، فقال: لا يبلغ عني إلا رجل مني، فلما قرب علي رضي الله عنه سمع أبو بكر رضي الله عنه الرغاء، فوقف، وقال: هذا رغاء ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما لحقه، قال: أمير أم مأمور؟ قال: بل مأمور، فلما كان يوم التروية، خطب أبو بكر الناس، وعلمهم مناسكهم، ووقف علي يوم النحر عند جمرة العقبة، وقال: يا أيها الناس! إني رسول الله إليكم.

قالوا: بماذا؟ فقرأ عليهم الآيات من أول سورة براءة ثلاثين أو أربعين، ثم قال: أمرت بأربع:

ص: 100

أن لا يقرب البيت بعد هذا العام مشرك، وأن لا يطوف بالبيت عريان، ولا يدخل الجنة إلا كل نفس مؤمنة، ومن كان بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم عهد، فهو إلى مدته، ومن لم يكن له عهد، فأجله أربعة أشهر، وهذا يخالف ما روي عن مجاهد.

تنبيه: بعث النبيّ صلى الله عليه وسلم عليا رضي الله عنه ليبلغ ما ذكر، ليس عزلا لأبي بكر رضي الله عنه عن إمارة الحج ذلك العام، ولا دليل فيه على فضل علي على أبي بكر-رضي الله عنهما، وإنما كان هذا البعث والتولي جاريا على عادة العرب أن لا يتولى تقرير العهد، أو نقضه إلا سيد القبيلة وعظيمها، أو رجل من أقاربه، وكان علي رضي الله عنه أقرب الناس إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فبعثه الرسول لهذا السبب، ولئلا يقولوا: هذا على خلاف ما نعرفه عن عادتنا في عهد العهود ونقضها انتهى. بيضاوي وخازن بتصرف كبير. هذا؛ ولا تنس أن في الكلام التفاتا من الغيبة إلى الخطاب، وأيضا من خطاب إلى خطاب آخر، انظر الالتفات في الآية رقم [6] من سورة (الأنعام) فإنه جيد. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم.

الإعراب: {فَسِيحُوا} : الفاء: حرف استئناف. (سيحوا): فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية مقولة لقول محذوف، إذ التقدير: قل لهم:

سيحوا

إلخ، وهذه الجملة مستأنفة لا محل لها. {فِي الْأَرْضِ}: متعلقان بما قبلهما.

{أَرْبَعَةَ} : ظرف زمان متعلق بما قبله، و {أَرْبَعَةَ}: مضاف، و {أَشْهُرٍ}: مضاف إليه.

{وَاعْلَمُوا} : إعرابه مثل سابقه. {أَنَّكُمْ} : حرف مشبه بالفعل، والكاف اسمها. {غَيْرُ}: خبر (أن)، وهو مضاف، و {مُعْجِزِي}: مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الياء نيابة عن الكسرة لأنه جمع مذكر سالم، وحذفت النون للإضافة، و {مُعْجِزِي}: مضاف، و {اللهِ}: مضاف إليه، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه، و (أن) واسمها وخبرها في تأويل مصدر في محل نصب سد مسد مفعولي الفعل (اعلموا)، وهذه الجملة معطوفة على ما قبلها، فهي في محل نصب مقول القول مثلها، وأيضا المصدر المؤول من {وَأَنَّ اللهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ} معطوف على ما قبله، فهو في محل نصب مثله، هذا؛ و {مُخْزِي} خبر (أن) مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل، وهو مضاف، و {الْكافِرِينَ}: مضاف إليه

إلخ، والإضافة من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه.

{وَأَذانٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (3)}

الشرح: {وَأَذانٌ} : إعلام، والأذان، من الإيذان، كالأمان من الإيمان، والعطاء من

ص: 101

الإعطاء. {اللهِ وَرَسُولِهِ} : انظر الآية رقم [1](الأنفال). {النّاسِ} : انظر الآية رقم [82](الأعراف). {يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ} : يوم عيد الأضحى؛ لأن فيه تمام الحج ومعظم أفعاله أو المراد به يوم عرفة؛ لأن الوقوف فيها أهم أركان الحج وأفعاله، ووصف الحج بالأكبر؛ لأن العمرة تسمى الحج الأصغر، أو لأن ذلك الحج اجتمع فيه المسلمون والمشركون، ووافق عيده عيد أهل الكتاب، أو لأنه ظهر فيه عزّ المسلمين، وذلّ المشركين كما رأيت في الآية السابقة.

{بَرِيءٌ} : انظر شرح براءة في الآية رقم [1]. {الْمُشْرِكِينَ} أي: الذين اتخذوا معه إلها آخر من حجر، أو شخص، أو حيوان، وغير ذلك.

{وَرَسُولِهِ} أي: هو بريء أيضا من المشركين، وعهودهم. {فَإِنْ تُبْتُمْ} من الكفر، والغدر، {فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} أي: فالتوبة خير لكم، وانظر شرح {خَيْرٌ} في الآية رقم [12] من سورة (الأعراف). {وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ}: عن التوبة من الكفر، وأعرضتم عن الإيمان بالله ورسوله. {فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ..}. إلخ: انظر الآية رقم [2]. {وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا..} . إلخ: أصل البشارة أن تكون بما يسر المخبر به، وقد تستعمل بالشر وبما يسوء على سبيل التهكم والاستهزاء، وهو ما في الآية الكريمة، ومثلها كثير. وانظر ما ذكرته في الآية رقم [58] من سورة (النحل)، إن أردت الزيادة، وانظر {كَفَرُوا} في الآية رقم [66](الأعراف). وفي الكلام التفات كما ترى.

الإعراب: {وَأَذانٌ} : الواو: حرف عطف. (أذان): خبر لمبتدإ محذوف، التقدير: هذا أذان: أو قل: الآيات الآتي ذكرها (أذان). {مِنَ اللهِ} : متعلقان بمحذوف صفة: (أذان)، أو هما متعلقان به؛ لأنه مصدر. و {وَرَسُولِهِ}: معطوف على ما قبله، والهاء: في محل جر بالإضافة. {إِلَى النّاسِ} : متعلقان بما تعلق به ما قبلهما. {يَوْمَ} : ظرف زمان متعلق بما تعلق به الجار والمجرور قبله، و {يَوْمَ}: مضاف، و {الْحَجِّ}: مضاف إليه. {الْأَكْبَرِ} : صفة {الْحَجِّ،} هذا؛ وقيل: إن يوم متعلق بصفة: (أذان) المحذوفة، ولا يحسن أن يتعلق ب (أذان)؛ لأنه وصف، فخرج عن حكم الفعل، وقيل: متعلق ب {مُخْزِي،} وفيه بعد، هذا؛ ويجوز اعتبار (أذان) مبتدأ، و {إِلَى النّاسِ} متعلقان بمحذوف خبره، و {يَوْمَ} متعلق بالخبر المحذوف أيضا، وعلى الاعتبارين في (أذان) فالجملة الاسمية معطوفة على قوله {بَراءَةٌ مِنَ اللهِ..} . إلخ لا محل لها، الأولى بالابتداء، والثانية بالاتباع، هذا؛ والمصدر المؤول من {أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} في محل جر بحرف جر محذوف مقدر بالباء، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف صفة:(أذان) على الوجه الأول فيه، ومتعلقان بمحذوف خبره على الوجه الثاني فيه، وينبغي أن تلاحظ: أن الصفة قد تعددت وهي شبه جملة على الوجه الأول، وأن الخبر قد تعدد، وهو شبه جملة على الوجه الثاني، هذا؛ وقرئ بكسر همزة:«(إنّ)» ، فتكون الجملة تعليلا لما تقدم أو مستأنفة لا محل لها على الوجهين.

ص: 102

{وَرَسُولِهِ} : (رسوله): بالرفع فيه ثلاثة أوجه: أحدها: هو معطوف على الضمير المستتر في: بريء، وما بينهما يجري مجرى التوكيد؛ فلذا ساغ العطف، والثاني: هو مبتدأ محذوف خبره، التقدير: ورسوله بريء أيضا، والثالث: هو معطوف على محل اسم (أنّ)، وهو عند المحققين غير جائز؛ لأن المفتوحة لها موضع غير الابتداء بخلاف المكسورة، وقرئ بالنصب من وجهين: أحدهما: العطف على اسم (أنّ)، وثانيهما: على أنه مفعول معه، والواو بمعنى مع، وقرئ شاذا بالجر على إرادة القسم، وحذف جوابه لفهم المعنى. وقيل: على الجوار، كما أنهم نعتوا أو أكدوا على الجوار، كما رأيت في الآية رقم [7] من سورة (المائدة). {فَإِنْ}:

الفاء: حرف تفريع واستئناف. {فَإِنْ} : حرف شرط جازم. {تُبْتُمْ} : ماض مبني على السكون في محل جزم فعل الشرط، والتاء فاعله، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال؛ لأنها جملة شرط غير ظرفي. {فَهُوَ}: الفاء: واقعة في جواب الشرط. (هو): ضمير منفصل مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ. {خَيْرٌ} : خبر المبتدأ. {لَكُمْ} : متعلقان ب {خَيْرٌ،} والجملة الاسمية في محل جزم جواب الشرط عند الجمهور، والدسوقي يقول: لا محل لها؛ لأنها لم تحل محل المفرد، و (إن) ومدخولها كلام مفرع عما قبله لا محل له من الإعراب، وما بعده معطوف عليه، وإعرابه مثله، {فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ}: إعراب هذه الجملة مثل الآية رقم [2]. {وَبَشِّرِ} : أمر، وفاعله أنت. {الَّذِينَ}: اسم موصول مبني على الفتح في محل نصب مفعول به، وجملة:{كَفَرُوا} صلته. {بِعَذابٍ} : متعلقان بالفعل قبلهما. {أَلِيمٍ} :

صفته، وجملة:{وَبَشِّرِ الَّذِينَ..} . إلخ مستأنفة، والعطف لا يؤيده المعنى.

{إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (4)}

الشرح: {إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ..} . إلخ: المراد بهؤلاء بنو ضمرة-حي من كنانة-فقد أمر الله رسوله والمؤمنين بإتمام عهدهم، إلى تمام مدته، وكان قد بقي من ذلك تسعة أشهر، والسبب فيه أن هؤلاء القوم لم ينقضوا العهد، ولم يعاونوا أحدا على الرسول صلى الله عليه وسلم، وإذا كان ذلك واقعا منهم؛ فلا يعاملون معاملة الناكثين:{إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ،} انظر هذا الحب في الآية رقم [59] الأنفال، هذا؛ وقرئ «(ينقضوكم)» بالضاد، أي: لم ينقضوا العهد الذي بينكم وبينهم، هذا؛ وانظر {الْمُشْرِكِينَ} في الآية رقم [3]. «ينقضوكم»: انظر (زاد) في الآية رقم [69] الأعراف. {شَيْئاً} : انظر الآية رقم [85](الأعراف). {أَحَداً} : انظر الآية رقم [80](الأعراف). {الْمُتَّقِينَ} : انظر الآية رقم [1] من سورة (الأنفال). {ثُمَّ} : انظر الآية رقم [103] من سورة (الأعراف).

ص: 103

الإعراب: {إِلاَّ} : أداة استثناء. {الَّذِينَ} : اسم موصول مبني على الفتح في محل نصب على الاستثناء من المشركين، والجملة بعده صلته، والعائد محذوف، إذ التقدير: عاهدتموهم

{مِنَ الْمُشْرِكِينَ} : متعلقان بمحذوف حال من الضمير المحذوف. {ثُمَّ} : حرف عطف. {لَمْ} :

حرف نفي وقلب وجزم. {يَنْقُصُوكُمْ} : مضارع مجزوم ب {لَمْ،} وعلامة جزمه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والكاف مفعول به. {شَيْئاً}: مفعول به ثان، وقيل: نائب مفعول مطلق، والجملة الفعلية معطوفة على جملة الصلة لا محل لها مثلها، وكذلك جملة:{وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً} معطوفة عليها لا محل لها أيضا. {فَأَتِمُّوا} : الفاء: هي الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن شرط مقدر. {فَأَتِمُّوا} : فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق. {إِلَيْهِمْ}: متعلقان بما قبلهما. {عَهْدَهُمْ} : مفعول به. {إِلى مُدَّتِهِمْ} : متعلقان بمحذوف حال مما قبلهما، التقدير: ممتدا إلى مدتهم، والهاء في محل جر بالإضافة، وجملة:{فَأَتِمُّوا..} .

إلخ لا محل لها؛ لأنها جواب شرط غير جازم، التقدير: وإذا كان ذلك حاصلا منهم فأتموا

إلخ، هذا؛ وجوز اعتبار:{الَّذِينَ} مبتدأ، واعتبار:{فَأَتِمُّوا..} . إلخ في محل رفع خبره، وتكون الجملة الاسمية في محل نصب على الاستثناء من الكلام المتقدم، والإعراب الأول أقوى وأولى.

{إِنَّ} : حرف مشبه بالفعل. {اللهَ} : اسمها. {يُحِبُّ} : مضارع، والفاعل يعود إلى {اللهَ} .

{الْمُتَّقِينَ} : مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الياء نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، وجملة:{يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} في محل رفع خبر {إِنَّ،} والجملة الاسمية: {إِنَّ اللهَ..} . إلخ تعليل لما أمروا به من وفاء العهود، وإتمام المدة للذين لم ينقضوا العهود. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم.

{فَإِذَا اِنْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاُحْصُرُوهُمْ وَاُقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)}

الشرح: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ} : إذا انتهت، وانقضت الأشهر الحرم، وقد اختلف في الأشهر الحرم، فقيل: هم خمسون يوما منها عشرون من شهر ذي الحجة والمحرم، والمعتمد:

أنها أربعة أشهر، وهي المدة التي ضربها الله للمشركين فيما رأيت، وسميت حرما مع كون صفر وربيع ليسا من الحرم لتحريم قتل المشركين فيها، ومنحهم فرصة التأمل، والتفكر لعلهم يثوبون إلى رشدهم، ويدخلون في دين الله أفواجا، وهذا هو الذي حصل بعدئذ. هذا؛ والانسلاخ في الأصل: الكشط، والنزع، ومنه سلخت جلد الشاة، فانسلخ، فقد استعير الانسلاخ لمضي الأشهر وانقضائها، كما استعير في قوله تعالى:{وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ} للإزالة،

ص: 104

وكشف النهار من الليل وإيضاحه. {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} : المراد بالمشركين هنا عبدة الأوثان يستثنى منهم الأطفال، والشيوخ، والغرض من ذلك تطهير الجزيرة العربية من عبادة الأوثان، وأما الكفرة من يهود ونصارى فيقرون بالجزية، كما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم بأهل خيبر وغيرهم، و {حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} أي: في محل أو حرم، ولو في جوف الكعبة. {وَخُذُوهُمْ} أي:

خذوهم أسرى. {وَاحْصُرُوهُمْ} : احبسوهم، أو حيلوا بينهم وبين المسجد الحرام. {وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ}: كل طريق، والمرصد في الأصل: الموضع الذي يرقب فيه العدو، وهو هنا اسم مكان. {فَإِنْ تابُوا}: عن الشرك، ورجعوا إلى الإيمان. {فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ}: فدعوهم، ولا تتعرضوا لهم بشيء من ذلك، وفيه دليل على أن تارك الصلاة، ومانع الزكاة، لا يخلى سبيله. {إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} أي: غفور لمن تاب ورجع عن الشرك إلى الإيمان؛ لأن الإسلام يجب ما قبله. {رَحِيمٌ} : بأهل طاعته وأوليائه. هذا؛ والأشهر جمع: شهر، ويجمع أيضا على شهور، وسمي الشهر شهرا لشهرته برؤية القمر في أوله. {حَيْثُ}: انظر الآية رقم [27] الأعراف. {وَخُذُوهُمْ} : انظر ما ذكرته في الآية رقم [145](الأعراف). {وَأَقامُوا الصَّلاةَ} :

أدوها في أوقاتها، وحافظوا على طهارتها، وركوعها وسجودها وخشوعها، ومن لم يؤدها على الوجه الأكمل، يقال عنه: صلى ولا يقال: أقام الصلاة، هذا؛ والصلاة في اللغة: الدعاء والتضرع، وهي في الشرع: أقوال وأفعال مخصوصة، مبتدأة بالتكبير، مختتمة بالتسليم، ولها أركان، وشروط، ومبطلات، ومكروهات مذكورة في الفقه الإسلامي، والصلاة من العبد معناها: التضرع والدعاء، ومن الملائكة على العبد معناها الاستغفار، ومن الله على عباده:

الرحمة وإنزال البركات، وقد جمعت الأنواع الثلاثة في قوله تعالى:{إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} والزكاة في اللغة: التطهير، والإصلاح، والنماء، وفي الاصطلاح: اسم لما يخرج عن مال، أو بدن على وجه مخصوص، وتدفع لأشخاص مخصوصين مذكورين في الآية رقم [61] وانظر ما ذكرته في الآية رقم [12] الآتية.

{سَبِيلَهُمْ} : انظر [142] من سورة (الأعراف). {غَفُورٌ رَحِيمٌ} : صيغتا مبالغة.

تنبيه: قال الحسن بن الفضل: نسخت هذه الآية كل آية فيها ذكر الإعراض عن المشركين، والصبر على أذى الأعداء.

الإعراب: {فَإِذَا} : الفاء: حرف استئناف. (إذا): ظرف لما يستقبل من الزمان، خافض لشرطه، منصوب بجوابه، صالح لغير ذلك مبني على السكون في محل نصب. {اِنْسَلَخَ الْأَشْهُرُ}:

فعل وفاعل، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة (إذا) إليها على القول المرجوح المشهور.

{الْحُرُمُ} : صفة {الْأَشْهُرُ} . {فَاقْتُلُوا} : الفاء: واقعة في جواب (إذا). اقتلوا: أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق، وانظر إعراب:{اُسْجُدُوا} في الآية رقم [11]

ص: 105

(الأعراف). {الْمُشْرِكِينَ} : مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الياء نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، {حَيْثُ}: ظرف مكان مبني على الضم في محل نصب متعلق بالفعل قبله. {وَجَدْتُمُوهُمْ} : فعل ماض مبني على السكون، والتاء فاعله، والميم علامة جمع الذكور، وحركت بالضم لتحسين اللفظ فتولدت واو الإشباع، والهاء: مفعول به، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة {حَيْثُ} إليها، وجملة:{فَاقْتُلُوا..} . إلخ جواب (إذا) لا محل لها، و (إذا) ومدخولها كلام مستأنف لا محل له من الإعراب. {وَخُذُوهُمْ}: فعل وفاعل ومفعول به، وإعرابه مثل إعراب:{فَاقْتُلُوا..} . إلخ، والجملة معطوفة على جواب (إذا) لا محل لها مثله، وأيضا جملة:{وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ} معطوفتان على جواب (إذا) لا محل لهما مثله. {كُلَّ} : ظرف مكان متعلق بما قبله، وقيل: هو منصوب بنزع الخافض، التقدير: على كل، و {كُلَّ}: مضاف، و {مَرْصَدٍ}: مضاف إليه {فَإِنْ تابُوا} إعرابه مثل إعراب: {فَإِنْ تُبْتُمْ} في الآية رقم [4] وجملة:

{وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ} معطوفتان على جملة فعل الشرط لا محل لهما مثلها، وجملة:

{فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} في محل جزم جواب الشرط عند الجمهور، والدسوقي يقول: لا محل لها؛ لأنها لم تحل محل المفرد، و {فَإِنْ} ومدخولها كلام مستأنف لا محل له، والجملة الاسمية:{إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} تعليل للأمر لا محل لها. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم.

{وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اِسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ (6)}

الشرح: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ} أي: وإن استأمنك يا محمد أحد المشركين الذين أمرت بقتالهم، وقتلهم بعد انسلاخ الأشهر الحرم، ليسمع كلام الله الذي أنزل عليك، وهو القرآن، فأجره حتى يسمع كلام الله، ويعرف ما له من الثواب إن آمن، وما عليه من العقاب إن أصر على الكفر، ثم أبلغه مأمنه؛ أي: إن لم يسلم أوصله إلى الموضع الذي يأمن فيه، وهو دار قومه، وإن قاتلك بعد ذلك وقدرت عليه؛ فاقتله. {ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ}: ما الإيمان، وما حقيقة ما تدعوهم إليه، فلا بد من أمانهم، ريثما يسمعون ويتدبرون، قال الحسن: هذه الآية محكمة إلى يوم القيامة، أي: باق حكمها.

هذا، وانظر شرح {أَحَدٌ} في الآية رقم [80] من سورة (الأعراف). {يَسْمَعَ}: انظر الآية رقم [100] منها. {كَلامَ اللهِ} : انظر الآية رقم [144] منها. {قَوْمٌ} : انظر الآية رقم [32] منها.

{لا يَعْلَمُونَ} : لا يعرفون، وانظر الآية رقم [61](الأنفال).

الإعراب: {وَإِنْ} : الواو: حرف استئناف. (إن): حرف شرط جازم. {أَحَدٌ} : فاعل لفعل محذوف يفسره المذكور بعده. {مِنَ الْمُشْرِكِينَ} : جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة {أَحَدٌ} .

ص: 106

{اِسْتَجارَكَ} : ماض، وفاعله مستتر تقديره: هو يعود إلى {أَحَدٌ،} والكاف مفعول به، والجملة الفعلية مفسرة لا محل لها، وهذا عند البصريين، وأما الكوفيون فيجيزون أن يكون {أَحَدٌ} فاعلا مقدما بالفعل بعده. انظر الشاهد [990] من كتابنا:«فتح القريب المجيب» تجد ما يسرك. {فَأَجِرْهُ} : الفاء: واقعة في جواب الشرط. (أجره): أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» ، والهاء: مفعول به، والجملة الفعلية في محل جزم جواب الشرط عند الجمهور، والدسوقي يقول: لا محل لها؛ لأنها لم تحل محل المفرد. {حَتّى} : حرف غاية وجر. {يَسْمَعَ} : مضارع منصوب ب «أن» مضمرة بعد {حَتّى،} والفاعل يعود إلى {أَحَدٌ} . {كَلامَ} : مفعول به، وهو مضاف، و {اللهِ}: مضاف إليه، و «أن» المضمرة والفعل المضارع في تأويل مصدر في محل جر ب {حَتّى،} والجار والمجرور متعلقان بالفعل أجره. {ثُمَّ} : حرف عطف. {أَبْلِغْهُ} : فعل ومفعوله، وفاعله مستتر فيه، والجملة الفعلية معطوفة على جملة جواب الشرط. {مَأْمَنَهُ}:

مفعول به ثان، والهاء: في محل جر بالإضافة. {ذلِكَ} : اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع مبتدأ، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب لا محل له. {بِأَنَّهُمْ}: الباء: حرف جر.

(أنهم): حرف مشبه بالفعل، والهاء: اسمها. {قَوْمٌ} : خبرها، وجملة:{لا يَعْلَمُونَ} مع المفعول المحذوف في محل رفع صفة {قَوْمٌ،} و (أنّ) واسمها وخبرها في تأويل مصدر في محل جر بالباء، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ، والجملة الاسمية:{ذلِكَ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها.

{كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فَمَا اِسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (7)}

الشرح: {كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ} : استبعاد أن يكون للمشركين عهد وأمان من الله ورسوله، ولا ينكثون؛ لأن قلوبهم تغلي حقدا وحسدا، وهم مطبوعون على خلف الوعود، ونقض العهود، وهذا هو الذي حصل من المشركين فقد نقض كفار قريش العهد الذي أبرموه مع الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديبية، نقضوه بإعانة بني بكر حلفائهم على بني خزاعة حلفاء الرسول صلى الله عليه وسلم. {إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ}: وهم بنو ضمرة، فهم ثابتون على عهدهم، ووفائهم، {فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ} أي: ما داموا محافظين على عهودهم، ومواثيقهم فأتموا إليهم المدة المبرمة بينكم وبينهم، وهو ما أفادته الآية رقم [5]. {إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} أي: يخافون الله، فيفون بالوعود، ويتممون العهود التي يبرمونها، وانظر الآية رقم [59] الأنفال. {عَهْدٌ}: انظر الآية رقم [102] من سورة (الأعراف).

ووصف الله الكعبة ب {الْحَرامِ} تنويها بشأنها، ورفعة لقدرها، وتعظيما لحرمتها.

ص: 107

الإعراب: {كَيْفَ} : اسم استفهام، واستبعاد، مبني على الفتح في محل نصب خبر {يَكُونُ} تقدم عليها وعلى اسمها، أو خبر:{يَكُونُ} الجار والمجرور: {لِلْمُشْرِكِينَ} أو الخبر متعلق الظرف: {عِنْدَ} وهو على الاعتبارين الأولين متعلق بمحذوف صفة: {عَهْدٌ،} أو هو متعلق به؛ لأنه مصدر، أو هو متعلق بالفعل {يَكُونُ،} و {كَيْفَ} على الاعتبارين الآخرين في محل نصب حال من عهد، كان صفة له، فلما قدم عليه صار حالا على القاعدة:«نعت النكرة إذا تقدم عليها صار حالا» ، هذا؛ وجوز اعتبار {يَكُونُ} تاما، فيكون {عَهْدٌ} فاعلا به، و {كَيْفَ} حالا منه، والظرف والجار والمجرور متعلقان بالفعل، و {عِنْدَ}: مضاف، و {اللهِ}: مضاف إليه. {وَعِنْدَ رَسُولِهِ} : معطوف على ما قبله. {إِلاَّ} : أداة استثناء، أو هي حرف حصر. {الَّذِينَ}: اسم موصول مبني على الفتح وفيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنه في محل نصب على الاستثناء من المشركين. الثاني: أنه في محل جر بدل من المشركين. والثالث: أنه في محل رفع مبتدأ؛ وعليه فالاستثناء منقطع، وهو بمعنى: لكن الذين، والجملة الفعلية بعد الموصول صلته، والعائد محذوف، التقدير: عاهدتموهم. {عِنْدَ} : ظرف مكان متعلق بالفعل قبله، و {عِنْدَ}: مضاف، و {الْمَسْجِدِ}: مضاف إليه. {الْحَرامِ} : صفة {الْمَسْجِدِ} . {فَمَا} :

الفاء: حرف تفريع، أو هي زائدة. (ما): ظرفية مصدرية، تؤول مع الفعل بعدها بمصدر في محل نصب على الظرفية المكانية متعلق بفعل الأمر الآتي، التقدير: فاستقيموا لهم مدة استقامتهم لكم. {فَاسْتَقِيمُوا} : الفاء: هي الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن شرط مقدر، التقدير:

وإذا حصل منهم ثبات على العهد {فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ،} و {اِسْتَقامُوا} : ماض مبني على الضم، والواو فاعله، والألف للتفريق، و (استقيموا) أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق، وانظر إعراب:{قالُوا} في الآية رقم [5] الأعراف، والشرط المقدر ومدخوله معطوف على ما قبله، هذا؛ وجوز اعتبار (ما) اسم شرط جازما. وفي محلها وجهان: أحدهما: أنها في محل نصب على الظرف الزماني، التقدير: أيّ زمان استقاموا لكم فاستقيموا لهم، والثاني: أنها في محل رفع بالابتداء، وفي الخبر الاختلاف الذي رأيته في الآية رقم [13] الأنفال، ويحتاج الكلام إلى تقدير رابط، أي: أيّ زمان استقاموا لكم فيه، هذا؛ والجملة الشرطية في محل رفع خبر المبتدأ:{الَّذِينَ} على وجه رأيته فيه، وتكون الفاء زائدة؛ لأن الموصول يشبه الشرط في العموم. {إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} انظر إعراب هذه الجملة في الآية رقم [5] وهي مفيدة للتعليل.

{كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ (8)}

الشرح: {كَيْفَ} : فالفعل بعده محذوف؛ إذ الأصل: كيف يكون لهم عهد معتد به عند الله ورسوله؟! ومثل هذه الآية قول كعب الغنوي في مرثية أخيه مع صاحبيه: [الطويل]

ص: 108

لعمر أبي إنّ البعيد الّذي مضى

وإنّ الّذي يأتي غدا لقريب

وخبّر تماني أنّما الموت بالقرى

فكيف، وهاتا هضبة وقليب؟

إذ التقدير: فكيف مات أخي في هذا الموضع، وهو برية، فقد أعاد سبحانه التعجب من أن يكون لهم عهد مع خبث أعمالهم. {وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً}: معناه وإن يغلبوكم ويتمكنوا من قتلكم لا يراعوا فيكم إلاّ ولا ذمة، هذا؛ والإلّ: القرابة، أو الرحم، وقال قتادة: هو الحلف، وبمعنى القرابة، قال حسان رضي الله عنه:[الوافر]

لعمرك إنّ إلّك من قريش

كإلّ السّقب من رأل النّعام

الإلّ: القرابة، والسقب: حوار الناقة، والرأل: ولد النعام، يريد: أنه لا قرابة بينك وبينهم، كما أنه لا قرابة بين السقب وولد النعام. {ذِمَّةً}: عهدا أو حقا، هذا؛ وقيل: الإلّ:

الإله، ومنه قول أبي بكر رضي الله عنه لما سمع كلام مسيلمة الكذاب: إن هذا الكلام لم يخرج من إلّ، أي: من الله، وعلى هذا القول يكون معنى الآية: لا يرقبون الله فيكم، ولا يحفظونه، ولا يراعونه، وفي القاموس: الإل بالكسر العهد، والحلف، وموضع، والجؤار، والقرابة والمعدن، والحقد، والعداوة، والربوبية، واسم الله تعالى، والرضا، والأمان، والجزع عند المصيبة. انتهى. فظهر لك: أنه يستعمل في الأضداد. {يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ} أي: يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم، وذلك بوعد الإيمان والطاعة، والوفاء بالعهد، وهم يبطنون الكفر والمعاداة بحيث إن ظفروا لم يبقوا عليكم، هذا؛ و (تأبى) من الإباء، وهو الامتناع، أو أشده، وإباء الله: قضاؤه ألا يكون الأمر، أو عدم قضائه أن يكون، كما في الآية رقم [33] الآتية، هذا؛ ويكون متعديا إذا كان بمعنى كره، ولازما إن كان بمعنى امتنع، وهذا الفعل يتضمن النفي والإيجاب؛ لأنه بمعنى لا يقبل إلا

إلخ، {وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ}: مارقون خارجون عن طاعة الله متمردون، لا عقيدة تردعهم، ولا مروءة تزجرهم، وانظر الآية رقم [45](الأعراف). وكل كافر فاسق.

الإعراب: {كَيْفَ} : اسم استفهام مبني على الفتح في محل نصب على الحال عامله وصاحبه محذوفان. انظر الشرح. {وَإِنْ} : الواو: واو الحال، (إن): حرف شرط جازم.

{يَظْهَرُوا} : مضارع فعل الشرط مجزوم، وعلامة جزمه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي. {عَلَيْكُمْ} : متعلقان بما قبلهما. {لا} : نافية. {يَرْقُبُوا} : جواب الشرط مجزوم، والواو فاعله، والألف للتفريق، {فِيكُمْ}: متعلقان بما قبلهما. {إِلاًّ} : مفعول به.

{وَلا} : الواو: حرف عطف. (لا): زائدة لتأكيد النفي. {ذِمَّةً} : معطوف على ما قبله، وجملة:{لا يَرْقُبُوا..} . إلخ لا محل لها؛ لأنها جملة جواب الشرط، ولم تقترن بالفاء، ولا بإذا

ص: 109

الفجائية، و (إن) ومدخولها في محل نصب حال من الضمير الموجود في الجملة المحذوفة، والرابط: الواو، والضمير. {يُرْضُونَكُمْ}: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة الفعلية مستأنفة لا محل لها. {بِأَفْواهِهِمْ}: متعلقان بما قبلهما، والهاء في محل جر بالإضافة. {وَتَأْبى}: مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر. {قُلُوبُهُمْ}: فاعله، والهاء في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية في محل نصب حال من واو الجماعة، والرابط: الواو، والضمير.

{وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ} : مبتدأ وخبر، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها، فهي في محل نصب حال مثلها. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم.

{اِشْتَرَوْا بِآياتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (9)}

الشرح: {اِشْتَرَوْا} : استبدلوا، والاشتراء: استبدال عين مرئية بعوض معلوم، فقد استعاره لإعراض الكفار عن الإيمان، ورضاهم بالكفر. {بِآياتِ اللهِ}: المراد بها: القرآن الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، وانظر الآية رقم [9] (الأعراف). {ثَمَناً قَلِيلاً}: عوضا يسيرا، وهو اتباع الأهواء والشهوات، وقيل: نقضوا العهد الذي كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبب أكلة أطعمهم إياها أبو سفيان، وطلب منهم ذلك فأجابوه، هذا؛ والدنيا كلها ثمن قليل بجانب الآخرة.

{فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ} : منعوا الناس من الدخول في دين الإسلام، وانظر {يَصُدُّونَ} في الآية رقم [45] من سورة (الأعراف). {ساءَ}: يجوز فيه أن يكون على بابه من التصرف والتعدي، ومفعوله محذوف، أي: ساءهم الذي كانوا يعملونه، أو عملهم، وأن يكون جاريا مجرى بئس، فيحول إلى فعل بالضم، ويمتنع تصرفه، ويصير للذم، ويكون المخصوص بالذم، محذوفا كما تقرر غير مرة. انتهى جمل نقلا عن السمين. وانظر مثل إعلال {اِشْتَرَوْا} في الآية رقم [138] من سورة (الأعراف).

الإعراب: {اِشْتَرَوْا} : ماض مبني على فتح مقدر على الألف المحذوفة لالتقائها ساكنة مع واو الجماعة التي هي فاعله، والألف للتفريق. {بِآياتِ}: متعلقان بما قبلهما، و {بِآياتِ}: مضاف، و {اللهِ}: مضاف إليه. {ثَمَناً} : مفعول به. {قَلِيلاً} : صفته، وجملة:{اِشْتَرَوْا..} . إلخ ابتدائية أو مستأنفة لا محل لها، وجملة:{فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ} مع المفعول المحذوف معطوفة على ما قبلها لا محل لها مثلها. {إِنَّهُمْ} : حرف مشبه بالفعل، والهاء ضمير متصل في محل نصب اسمها. {ساءَ}: فعل ماض جامد لإنشاء الذم، وفاعله مستتر فيه وجوبا فسره التمييز، وهو {ما} فإنها نكرة موصوفة بمعنى شيئا مبنية على السكون في محل نصب، والجملة بعدها صفتها، والرابط محذوف، التقدير: ساء الشيء شيئا كانوا يعملونه، والمخصوص بالذم محذوف، التقدير:

ص: 110

المذموم عملهم، وهذا الإعراب على اعتبار الفعل جامدا، وأما على اعتباره متصرفا، فمفعوله محذوف، التقدير: ساءهم، و {ما} تحتمل الموصولة، والموصوفة، والمصدرية، فعلى الأولين مبنية على السكون في محل رفع فاعله، والجملة الفعلية بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد أو الرابط محذوف، التقدير: ساءهم الذي، أو شيء كانوا يعملونه، وعلى اعتبار {ما} مصدرية تؤول مع ما بعدها بمصدر في محل رفع فاعل، التقدير: ساءهم عملهم. {كانُوا} : ماض ناقص، والواو اسمه، والألف للتفريق، وجملة:{يَعْمَلُونَ} في محل نصب خبره، وجملة:{ساءَ..} . إلخ في محل رفع خبر (إنّ)، والجملة الاسمية:{إِنَّهُمْ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها.

{لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (10)}

الشرح: المعنى إن هؤلاء المشركين لا يراعون في مؤمن عهدا، ولا ذمة، ولا قرابة، فمن قدروا عليه قتلوه، وأولئك هم المتجاوزون حدود الله بنقض العهود، والكفر، وتحليل ما حرم الله ورسوله، وليس في الكلام تكرير لأن الأول يشمل المشركين والكافرين، والثاني يخص اليهود الذين اشتروا بآيات الله ثمنا قليلا، حيث باعوا حجج الله وبيانه بطلب الرئاسة، وجمع حطام الدنيا الفاني.

الإعراب: {لا} : نافية. {يَرْقُبُونَ} : مضارع مرفوع، والواو فاعله. {فِي مُؤْمِنٍ}: متعلقان به. {إِلاًّ} : مفعول به. {وَلا} : الواو: حرف عطف. (لا): زائدة لتأكيد النفي. {ذِمَّةً} :

معطوف على ما قبله، والجملة الفعلية في محل نصب حال من واو الجماعة، والرابط: الضمير فقط، والاستئناف ممكن. الواو: واو الحال. (أولئك): اسم إشارة مبني على الكسر في محل رفع مبتدأ، والكاف: حرف خطاب لا محل له. {هُمُ} : ضمير فصل لا محل له.

{الْمُعْتَدُونَ} : خبر المبتدأ مرفوع، وعلامة رفعه الواو؛ لأنه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، هذا؛ وإن اعتبرت:{هُمُ} مبتدأ ثانيا، و {الْمُعْتَدُونَ}: خبره، فتكون الجملة الاسمية خبر (أولئك)، وعلى الوجهين فالجملة الاسمية معطوفة على الجملة الفعلية فهي في محل نصب حال مثلها، وإن اعتبرتها حالا ثانية من واو الجماعة في الآية السابقة؛ فلست مفندا، والاستئناف ممكن. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم.

{فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (11)}

الشرح: {فَإِنْ تابُوا} أي: عن الكفر، وآمنوا بالله ورسوله. {وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ}: انظر الآية رقم [6]. {الدِّينِ} : انظر الآية رقم [162] من سورة (الأنعام). {وَنُفَصِّلُ}

ص: 111

الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ أي: نبين حجج أدلتنا، ونوضح بيان آياتنا لمن يعلم ذلك، ويفهمه، والعلم هنا بمعنى المعرفة، انظر الآية رقم [61] الأنفال. هذا؛ وخصّ الله الذين يعلمون بالذكر لأنهم هم الذين ينتفعون بالبيان والتوضيح، وانظر (نا) في الآية رقم [7](الأعراف).

تنبيه: قال ابن عباس-رضي الله عنهما: حرمت هذه الآية دماء أهل القبلة، وقال ابن مسعود رضي الله عنه: أمرتم بالصلاة، والزكاة، فمن لم يزك؛ فلا صلاة له، وقال ابن زيد: افترضت الصلاة والزكاة جميعا لم يفرق الله بينهما، وأبى أن يقبل الصلاة، إلا بالزكاة، وقال: يرحم الله أبا بكر ما كان أفقهه، يعني بذلك ما ذكره أبو بكر رضي الله عنه في حق من منع الزكاة، وهو قوله:

«والله لا أفرق بين شيئين جمع الله بينهما» يعني: الصلاة والزكاة. انتهى. خازن.

ومن القرطبي: وفي حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:«من فرّق بين ثلاث فرّق الله بينه وبين رحمته يوم القيامة: من قال: أطيع الله ولا أطيع الرّسول، والله يقول {أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} ومن قال: أقيم الصلاة، ولا أوتي الزكاة، والله تعالى يقول {وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ} ومن فرق بين شكر الله وشكر والديه، والله عز وجل يقول {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ» }. انتهى. وانظر جزاء مانعي الزكاة في الآية رقم [35] و [36] الآتيتين، وانظر شرح الصلاة والزكاة في رقم [5].

الإعراب: {فَإِنْ} : الفاء: حرف استئناف. إن: حرف شرط جازم. {تابُوا} : ماض مبني على الضم في محل جزم فعل الشرط، والواو فاعله، والألف للتفريق، والمتعلق محذوف، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي، والجملتان بعدها معطوفتان عليها. {فَإِخْوانُكُمْ}: الفاء: واقعة في جواب الشرط. (إخوانكم): خبر لمبتدإ محذوف، التقدير: فهم إخوانكم، والكاف في محل جر بالإضافة، والجملة الاسمية في محل جزم جواب الشرط عند الجمهور، والدسوقي يقول: لا محل لها؛ لأنها لم تحل محل المفرد، وإن ومدخولها كلام مستأنف لا محل له. {وَنُفَصِّلُ}: مضارع، وفاعله مستتر فيه وجوبا تقديره:

«نحن» ، {الْآياتِ}: مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مؤنث سالم. {لِقَوْمٍ}: متعلقان بالفعل قبلهما. {يَعْلَمُونَ} : فعل مضارع وفاعله، ومفعوله محذوف، والجملة الفعلية في محل جر صفة {لِقَوْمٍ،} وجملة: {وَنُفَصِّلُ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها.

{وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (12)}

الشرح: {وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ} أي: إن نقض الكفار ما بايعوا عليه من الأيمان، والوفاء بالعهود، فالنكث: النقض، وهو في الأصل في كل ما فتل، ثم حل، قال تعالى:{وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً} لذا فقد استعير النقض للأيمان

ص: 112

والعهود استعارة، وانظر الآية رقم [102] الأعراف. {وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ}: عابوا دينكم بصريح التكذيب، وتقبيح الأحكام، أو قدحوا في أصوله وقواعده، هذا؛ ومضارع طعن: يطعن، بضم عين المضارع في كل ما هو حسي كيطعن في الرمح ونحوه، وأما المعنوي كيطعن في النسب أو في الدين فهو بفتح العين، وأجاز الفراء فتح العين فيه في جميع تصرفاته ومعانيه لمكان حرف الحلق، أي: فهو من الباب الثالث لوجود حرف الحلق فيه، وهو العين. هذا؛ والطعن المعنوي استعارة من الحسي كما هو ظاهر، {فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ} أي: فقاتلوهم، فوضع الاسم الظاهر مكان الضمير للدلالة على أنهم صاروا بذلك ذوي الرئاسة، والتقدم في الكفر أحقاء بالقتل.

وما نقله الخازن عن ابن عباس-رضي الله عنهما-من أن الآية نزلت في زعماء قريش يبعده أن نزولها في السنة التاسعة، وكانت شوكة قريش في تلك السنة قد قضي عليها، فلم يبق منهم إلا مسلم أو مسالم بعد فتح مكة، فعلى هذا يكون كل من نقض العهد، وتبعه غيره في ذلك يكون من أئمة الكفر. {إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ} أي: لا عهود لهم بمعنى: لا وفاء لهم بالعهود والمواثيق، وقرئ بكسر الهمزة بمعنى: لا دين لهم ولا تصديق، وهو بفتح الهمزة جمع: يمين، والمراد به: الحلف بالله، أو بصفة من صفاته، أو باسم من أسمائه، واليمين أيضا اليد اليمنى، وتجمع أيضا على أيمان، كما في قوله تعالى:{أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ} وهو كثير في القرآن الكريم. {لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ} : عن كفرهم ومعاداتهم للإسلام وأهله، والمعنى: ليكن غرضكم، وغايتكم من قتالهم انتهاءهم عما هم عليه؛ لا مجرد إيذائهم، كما هو شأن المؤذين، وانظر مثل هذا الترجي في الآية رقم [58] الأنفال. هذا؛ وأئمة جمع: إمام، وهو من يقتدى به في فعل الخير، وقد يكون قدوة في الشر، فهنيئا للأول، وويل للثاني، والمراد به هنا: زعماء الكفار ورؤساؤهم، وأصله أأممة مثل: خباء وأخبية، فنقلت حركة الميم الأولى إلى الهمزة الساكنة، وأدغمت في الميم الأخرى، فمن حقق الهمزتين أخرجهما على الأصل، ومن قلب الثانية ياء فلكسرتها المنقولة إليها، ولا يجوز هنا أن تجعل بين بين، كما جعلت همزة أإذا؛ لأن الكسرة هنا منقولة، وهناك أصلية، ولو خففت الهمزة الثانية هنا على القياس، لكانت ألفا؛ لانفتاح ما قبلها، ولكن ترك ذلك لتتحرك حركة الميم في الأصل، وفيها ثلاث قراءات مشهورة.

تنبيه: استدل بعض العلماء بهذه الآية على وجوب قتل كل من طعن في الدين؛ إذ هو كافر، والطعن أن ينسب إليه ما لا يليق به، أو يعترض بالاستخفاف على ما هو من الدين، لما ثبت من الدليل القطعي على صحة أصوله، واستقامة فروعه، وقال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن من سب النبي صلى الله عليه وسلم عليه القتل. انتهى. قرطبي. أقول: سواء أكان من المسلمين أم من الكافرين يقتل، واختلفوا إذا سبه، ثم أسلم تقية من القتل، فقيل: يسقط بإسلامه قتله؛ لأن الإسلام يجب ما قبله، بخلاف المسلم إذا سبه ثم تاب، قال الله عز وجل {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ} وقيل: لا يسقط الإسلام قتله.

ص: 113

الإعراب: {وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ} : انظر الآية السابقة. {مِنْ بَعْدِ} : متعلقان بمحذوف حال من {أَيْمانَهُمْ} أو هما متعلقان بالفعل قبلهما، و {بَعْدِ}: مضاف، و {عَهْدِهِمْ}: مضاف إليه، والهاء: في محل جر بالإضافة، وجملة:{وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ} معطوفة على ما قبلها لا محل لها. {فَقاتِلُوا} : أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق. {أَئِمَّةَ}: مفعول به، وهو مضاف، و {الْكُفْرِ}: مضاف إليه، وجملة:{فَقاتِلُوا..} . إلخ في محل جزم جواب الشرط عند الجمهور، والدسوقي يقول: لا محل لها؛ لأنها لم تحل محل المفرد، و (إن) ومدخولها كلام مستأنف لا محل له. {أَيْمانَهُمْ}: حرف مشبه بالفعل، والهاء اسمها. {لا}:

نافية للجنس. {أَيْمانَ} : اسم {لا} مبني على الفتح

إلخ، وانظر إعراب:{لا غالِبَ لَكُمُ} في الآية رقم [49] من سورة (الأنفال) لبقية الإعراب، والجملة الاسمية:{لا أَيْمانَ لَهُمْ} في محل رفع خبر (إن)، والجملة الاسمية:{أَيْمانَهُمْ..} . إلخ تعليل للأمر بالقتال. {لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ} : انظر إعراب مثل هذه الجملة في الآية رقم [26] الأنفال، وهي تعليل أيضا للقتل.

{أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (13)}

الشرح: {أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ} : فيه توبيخ، وفيه حض على قتال المشركين الذين نقضوا العهود التي أبرموها مع الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديبية على أن لا يعاونوا عليهم، فعاونوا حلفاءهم بني بكر على حلفاء الرسول بني خزاعة. {وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ} أي: من مكة، وذلك كان يوم تآمروا في دار الندوة، كما رأيت في الآية رقم [30] من سورة (الأنفال)، و {وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ}: وذلك كان يوم بدر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم خرج للعير، ولما أحرزوا عيرهم كان يمكنهم الانصراف والرجوع إلى مكة، فأبوا إلا الوصول إلى بدر، وشرب الخمر فيها، كما رأيت في الآية رقم [48] الأنفال، {أَتَخْشَوْنَهُمْ} أي: أتخافونهم، فتتركوا قتالهم. {فَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ} أي: أحق بالخوف منه، وفي آية (المائدة):{فَلا تَخْشَوُا النّاسَ وَاخْشَوْنِ} هذا؛ والخشية خوف يشوبه تعظيم، وأكثر ما يكون ذلك عن علم بما يخشى منه، هذا؛ والماضي:

خشي، والمصدر خشية، والرجل خشيان، والمرأة خشيا، وهذا المكان أخشى من ذاك، أي:

أشد خوفا، هذا؛ وقد يأتي الفعل (خشي) بمعنى (علم) القلبية، قال الشاعر:[الكامل]

ولقد خشيت بأنّ من تبع الهدى

سكن الجنان مع النّبيّ محمّد

قالوا: معناه: علمت، وقوله تعالى:{فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً} قال الأخفش:

معناه: كرهنا: بعد ما تقدم انظر: {قَوْماً} في الآية رقم [32](الأعراف). و {نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ}

ص: 114

في الآية السابقة. {أَوَّلَ} : انظر الآية رقم [142](الأعراف)، وانظر إعلال:{تَحْيَوْنَ} في الآية رقم [25] الأعراف. فإعلال {تَخْشَوْهُ} مثله. {كُنْتُمْ} : انظر إعلال {قُلْنا} في الآية رقم [11] الأعراف فهو مثله، ومعنى {مُؤْمِنِينَ} مصدقين بوعد الله ووعيده، وانظر الإيمان في الآية رقم [2] من سورة (الأعراف). هذا؛ و {وَهَمُّوا} قصدوا وأرادوا، والهم: العزم على الشيء وقصده.

هذا؛ والهم أيضا: الحزن، ومثله الغم، ويفرق بينهما بأن الأول الحزن لأجل تحصيل شيء في المستقبل، والثاني لأجل فوات شيء، وفقدانه في الماضي، وبأن الأول: يطرد النوم، ويسبب الأرق، والثاني: يجلب النوم، ويسبب الهدوء والسكون، والهموم والأحزان، إذا تفاقمت على الإنسان؛ أسرع فيه الشيب، وهزل جسمه، روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قال: «الهمّ نصف الهرم» . وقال أبو الطيب المتنبي: [البسيط]

والهمّ يخترم الجسيم نحافة

ويشيب ناصية الصّبيّ، فيهرم

تنبيه: هذا؛ وقيل: إن المراد بالذين نكثوا العهد اليهود، وهذا دأبهم، فقد نقضوا عهد الرسول صلى الله عليه وسلم مرارا كما هو معلوم ومشهور، {وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ} من المدينة، كما قال تعالى:{وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها} الآية رقم [76] من سورة (الإسراء)، {وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} بالمعاداة، أو المقاتلة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم بدأهم بالدعوة، وإلزام الحجة بالكتاب، والتحدي به، فعدلوا عن معارضته إلى المعاداة والمقاتلة، فما يمنعكم أيها المسلمون أن تعارضوهم وتصادموهم؟ وانظر ما ذكرته في الآية السابقة، وإذا علمت: أن السورة نزلت في السنة التاسعة، بعد ما نقض اليهود العهد قبيلة قبيلة ثبت لك هذا. كما يمكن أن يراد بالآيتين قبائل العرب التي بقيت على كفرها بعد فتح مكة، وقيل: المراد الفرس والروم، وهذا ضعيف، والله أعلم بمراده وأسرار كتابه.

الإعراب: {أَلا} : حرف تحضيض، متضمن معنى التوبيخ. {تُقاتِلُونَ}: فعل مضارع، والواو فاعله. {قَوْماً}: مفعول به، وجملة:{نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ} في محل نصب صفة: {قَوْماً،} وجملة: {وَهَمُّوا بِإِخْراجِ} معطوفة عليها، فهي في محل نصب مثلها، و (إخراج) مضاف، و {الرَّسُولِ}: مضاف إليه، من إضافة المصدر لمفعوله، وفاعله محذوف. {وَهُمْ}: الواو: واو الحال. (هم): ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {بَدَؤُكُمْ} : ماض مبني على الضم، والواو فاعله، والكاف مفعول به، وانظر إعراب:{قالُوا} في الآية رقم [5](الأعراف){أَوَّلَ} : ظرف زمان، وهو مضاف، و {مَرَّةٍ}: مضاف إليه، وجملة:

{بَدَؤُكُمْ..} . إلخ في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية:{وَهُمْ..} . إلخ في محل نصب حال من واو الجماعة، والرابط: الواو، والضمير، وجملة:{أَلا تُقاتِلُونَ..} . إلخ ابتدائية لا محل لها. {أَتَخْشَوْنَهُمْ} : الهمزة: حرف استفهام وتوبيخ. (تخشونهم): مضارع وفاعله

ص: 115

ومفعوله، والجملة الفعلية مستأنفة لا محل لها. {فَاللهُ}: الفاء: حرف استئناف. (الله): مبتدأ.

{أَحَقُّ} : خبره. {أَنْ تَخْشَوْهُ} : مضارع منصوب ب {أَنْ،} وعلامة نصبه حذف النون، والواو:

فاعله، والهاء: مفعوله، و {أَنْ} والمضارع في تأويل مصدر في محل جر بحرف جر محذوف، التقدير: ب (خشيتكم)، والجار والمجرور متعلقان ب {أَحَقُّ} هذا؛ وجوز اعتبار المصدر المؤول في محل رفع بدل اشتمال من المبتدأ، كما جوز اعتباره مبتدأ ثانيا مؤخرا، و {أَحَقُّ} خبره مقدما، والجملة الاسمية في محل رفع خبر المبتدأ الأول. والجملة الاسمية:{فَاللهُ أَحَقُّ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها. {أَنْ} : حرف شرط جازم. {كُنْتُمْ} : ماض ناقص مبني على السكون في محل جزم فعل الشرط، والتاء اسمه. {مُؤْمِنِينَ}: خبر كان منصوب، وعلامة نصبه الياء نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، وجملة:{كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي، وجواب الشرط محذوف؛ لأنه سبقه ما هو جواب في المعنى. إذ التقدير: إن كنتم مؤمنين؛ فاخشوا الله وحده.

{قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14)}

الشرح: {قاتِلُوهُمْ} : أمر للمؤمنين بالقتال، بعد بيان موجبه، والتوبيخ على تركه، والوعيد عليه. {يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ} أي: بالقتل والأسر. فهو وعد من العزيز الحكيم بأن ينصر المؤمنين، ويمكنهم من رقاب المشركين. {وَيُخْزِهِمْ}: ويذلهم بما تقدم، وينزل بهم الذل والهوان، {وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ}: يعني بني خزاعة، وقيل: بطونا من اليمن وسبأ، قدموا مكة، فأسلموا، فلقوا من أهلها أذى شديدا، فشكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: أبشروا فإن الفرج قريب. انتهى. بيضاوي.

هذا؛ وقال الخازن: ومن المعلوم أن من طال تأذيه من خصمه، ثم مكنه الله منه، فإنه يفرح بذلك، ويعظم سروره، ويصير ذلك سببا لقوة اليقين، وثبات العزيمة. انتهى. أقول:{وَيَشْفِ} استعارة تصريحية؛ لأن الشفاء في الحقيقة إنما هو للأجسام، واستعماله لشفاء القلوب من غيظها استعارة. {بِأَيْدِيكُمْ}: انظر الآية رقم [108](الأعراف).

الإعراب: {قاتِلُوهُمْ} : فعل أمر مبني على حذف النون؛ والواو فاعله، والهاء مفعوله، وانظر إعراب:{اُسْجُدُوا} في الآية رقم [11] الأعراف. {يُعَذِّبْهُمُ} : مضارع مجزوم لوقوعه جوابا للأمر، وهو عند الجمهور مجزوم بشرط محذوف، التقدير: إن تقاتلوهم يعذبهم، والهاء مفعول به. {اللهُ}: فاعله، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها جواب للشرط المقدر، ولم تقترن بالفاء، ولا بإذا الفجائية، وجملة:{قاتِلُوهُمْ} لا محل لها؛ لأنها ابتدائية.

ص: 116

{بِأَيْدِيكُمْ} : متعلقان بالفعل قبلهما، وعلامة الجر كسرة مقدرة على الياء للثقل، والكاف في محل جر بالإضافة. {وَيُخْزِهِمْ}: معطوف على جواب الطلب مجزوم مثله، وعلامة جزمه حذف حرف العلة من آخره، وهو الياء، والكسرة قبلها دليل عليها، والفاعل يعود إلى {اللهُ،} والهاء مفعول به، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها لا محل لها مثلها، وأيضا جملة:

{وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ..} . إلخ معطوفتان عليها لا محل لهما مثلها، والإعراب ظاهر إن شاء الله تعالى.

{وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (15)}

الشرح: {وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ} أي: قلوب بني خزاعة بما نالوه من بني بكر بمساعدة قريش. {وَيَتُوبُ اللهُ عَلى مَنْ يَشاءُ} أي: يهدي الله من يشاء إلى الإسلام فيوفقه للتوبة من الشرك، كما فعل بأبي سفيان، وعكرمة بن أبي جهل، وسهيل بن عمرو، وصفوان بن أمية، فهؤلاء كانوا من أئمة الكفر، فأسلموا يوم فتح مكة. {عَلِيمٌ}: بما كان وما سيكون، ويعلم من سبقت له العناية الأزلية بالسعادة الأبدية، فيوفقه لعملها. {حَكِيمٌ}: لا يفعل إلا ما فيه حكمة، أو على وفقها. {يَشاءُ}: انظر الآية رقم [89] من سورة (الأعراف).

الإعراب: {وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ} هذه الجملة معطوفة على جملة جواب الطلب لا محل لها مثلها، وهي مثلها في الإعراب. {وَيَتُوبُ}: الواو: حرف استئناف. {وَيَتُوبُ اللهُ} : فعل وفاعل، والجملة الفعلية مستأنفة لا محل لها، هذا؛ وقرئ بنصب يتوب على إضمار (أن) بعد واو المعية؛ وعليه تؤول مع الفعل بمصدر معطوف بواو المعية على مصدر متصيد من الأفعال السابقة، ويكون تقدير الكلام: إن تقاتلوا المشركين؛ يكن لهم تعذيب بأيديكم، وخزي لهم، ونصر لكم عليهم، وشفاء لصدور قوم مؤمنين، وتوبة لمن يشاء الله له الخير والسعادة. {عَلى مَنْ}: متعلقان بالفعل قبلهما، و {مَنْ} تحتمل الموصولة، والموصوفة، فهي مبنية على السكون في محل جر، والجملة الفعلية بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد أو الرابط: محذوف؛ إذ التقدير: يشاؤه، والجملة الاسمية:{وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} مستأنفة لا محل لها، والحالية ضعيفة هنا.

{أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (16)}

الشرح: {حَسِبْتُمْ} ظننتم: خطاب للمؤمنين حين كره بعضهم القتال، وقيل: هو للمنافقين، وانظر (حسب) في الآية رقم [59] من سورة (الأنفال). {أَنْ تُتْرَكُوا} أي: من غير أن تبتلوا وتختبروا بما يظهر به المؤمن والمنافق الظهور الذي يستحق به الثواب والعقاب.

ص: 117

{وَلَمّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ} : قال البيضاوي: نفى العلم، وأراد نفي المعلوم للمبالغة، فإنه كالبرهان عليه، من حيث إن تعلق العلم به مستلزم لوقوعه، وقال الخازن نقلا عن الفخر الرازي: أراد بالعلم المعلوم؛ لأن وجود الشيء يلزمه معلوم الوجود عند الله، لا جرم جعل علم الله بوجوده كفاية عن وجود. انتهى، ومثله الآية [166] و [167] من سورة (آل عمران).

{وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللهِ..} . إلخ: معطوف على ما قبله، وهو داخل في حكمه، وما قيل فيه.

{وَلِيجَةً} : قال الفراء: هي البطانة من المشركين يتخذونهم، يفشون إليهم أسرارهم، وقال قتادة: وليجة، يعني: خيانة، وقال الضحاك: خديعة، وقال عطاء: أولياء، المعنى: لا تتخذوا المشركين أولياء من دون الله ورسوله والمؤمنين، وقال أبو عبيدة: كل شيء أدخلته في شيء ليس منه، فهو وليجة، والرجل يكون في القوم، وليس منهم فهو وليجة من: الولوج. انتهى. خازن، وما أحراك أن تنظر {بِطانَةً} في الآية رقم [118] من آل عمران وسبب نزول تلك الآية فإنه جيد. {وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ}: لا يخفى عليه شيء من أموركم وأعمالكم. هذا؛ وبطانة، ووليجة تكونان للمفرد وغيره من مذكر ومؤنث. {دُونِ}: انظر الآية رقم [3] من سورة (الأعراف). و {اللهُ} و {رَسُولِهِ} : انظر الآية رقم [1] من سورة (الأنفال).

الإعراب: {أَمْ} : حرف عطف، وهي بمعنى (بل) التي للإضراب. {حَسِبْتُمْ}: فعل وفاعل، وانظر إعراب:{وَجَعَلْنا} في الآية رقم [10] الأعراف. والمصدر المؤول من: {أَنْ تُتْرَكُوا} في محل نصب سد مسد مفعولي حسب، والواو: نائب فاعل، وهو المفعول الأول، والمفعول الثاني محذوف، تقديره: أن تتركوا بدون تكليفكم بالقتال الذي كرهتموه. {وَلَمّا} :

الواو: واو الحال. (لما): حرف نفي وقلب وجزم. {يَعْلَمِ} : مضارع مجزوم ب (لما)، وحرك بالكسرة لالتقاء الساكنين. {اللهُ}: فاعله. {الَّذِينَ} : اسم موصول مبني على الفتح في محل نصب مفعول به، واكتفى {يَعْلَمِ} به لأنه بمعنى يعرف، وجملة:{جاهَدُوا مِنْكُمْ} صلة الموصول لا محل لها، وجملة:{وَلَمّا يَعْلَمِ..} . إلخ في محل نصب حال من تاء الفاعل، والرابط: الواو، والضمير المجرور محلا بمن، وجملة:{وَلَمْ يَتَّخِذُوا..} . إلخ معطوفة على جملة: {جاهَدُوا مِنْكُمْ} فتكون من جملة الصلة لا محل لها، أو هي في محل نصب حال من واو الجماعة، فتكون حالا متداخلة. {مِنْ دُونِ}: متعلقان بالفعل قبلهما، وهما في محل نصب مفعوله الثاني إن كان متعديا لمفعولين، أو هما متعلقان بمحذوف حال من:{وَلِيجَةً،} كان صفة له، فلما قدم عليه صار حالا، على القاعدة:«نعت النكرة إذا تقدم عليها صار حالا» إن كان الفعل متعديا لمفعول واحد، و {دُونِ}: مضاف، و {اللهُ}: مضاف إليه. {وَلا} : زائدة لتأكيد النفي. {رَسُولِهِ} : معطوف على ما قبله، والهاء في محل جر بالإضافة. {وَلا}: زائدة لتأكيد النفي. {الْمُؤْمِنِينَ} : معطوف على ما قبله مجرور، وعلامة جره الياء نيابة عن الكسرة لأنه

ص: 118

جمع مذكر سالم

إلخ. {وَلِيجَةً} : مفعول به. {وَاللهُ خَبِيرٌ} : مبتدأ وخبر. {بِما} : متعلقان ب {خَبِيرٌ،} و (ما) تحتمل الموصولة، والموصوفة، فهي مبنية على السكون في محل جر بالباء، والجملة بعدها صلتها أو صفتها، والعائد أو الرابط محذوف؛ التقدير: بالذي، أو بشيء تعملونه، هذا؛ وتحتمل (ما) المصدرية، فتؤول مع الفعل بعدها بمصدر في محل جر بالباء، التقدير: بعملكم، والجملة الاسمية:{وَاللهُ خَبِيرٌ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها.

{ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللهِ شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ وَفِي النّارِ هُمْ خالِدُونَ (17)}

الشرح: {ما كانَ} : ما صح ولا استقام. {لِلْمُشْرِكِينَ} : هم عبدة الأوثان. {أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللهِ} : أن يبنوا المساجد، ويشيدوها، ويقوموا بمصالحها، أو بما يلزم لها من ترميم ونحوه، والمراد جميع المساجد في جميع بقاع الأرض، أو المراد المسجد الحرام، وجمع لأنه قبلة جميع المساجد، وإمامها، فعامره كعامر الجميع، ويؤيده قراءة ابن كثير وأبي عمرو، ويعقوب:«(المسجد)» بالإفراد. {شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ} : وذلك بإظهار الشرك بعبادة الحجارة، وتكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم، والطواف بالكعبة عراة، وغير ذلك. {أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ}: ذهب ثوابها ضياعا، كما قال تعالى:{وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً} وقال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً} . {وَفِي النّارِ هُمْ خالِدُونَ} : مقيمون لا يبرحون منها أبدا، وانظر الآية رقم [55] تجد ما يسرك، ويثلج صدرك.

هذا؛ وانظر {مَسْجِدٍ} في الآية رقم [29](الأعراف)، ويقرأ {يَعْمُرُوا} من الثلاثي ومن الرباعي. {أَنْفُسِهِمْ}: انظر الآية رقم [9](الأعراف). {بِالْكُفْرِ} : انظر الآية رقم [66](الأعراف). {النّارِ} : انظر الآية رقم [12] منها أيضا.

تنبيه: روي: أن جماعة من رؤساء كفار قريش أسروا يوم بدر، ومنهم العباس عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقبل عليهم نفر من الصحابة يعيرونهم بالشرك، وجعل علي رضي الله عنه يوبخ عمه العباس بسبب قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم وقطيعة الرحم، فقال العباس-رضي الله عنه-ما لكم تذكرون مساوينا، وتكتمون محاسننا؟ فقيل له: وهل لكم محاسن؟ قال: نعم أفضل منكم، نحن نعمر المسجد الحرام، ونحجب الكعبة، ونسقي الحجيج، ونفك العاني، فنزلت الآية الكريمة وما بعدها، فقد أوجب الله على المسلمين منعهم من ذلك؛ لأن المساجد إنما تعمر لعبادة الله وحده، فمن كان كافرا بالله، فليس له أن يعمر مساجد الله.

الإعراب: {ما} : نافية. {كانَ} : ماض ناقص. {لِلْمُشْرِكِينَ} : متعلقان بمحذوف خبر {كانَ} تقدم على اسمها، والمصدر المؤول من {أَنْ يَعْمُرُوا} في محل رفع اسم {كانَ} مؤخر.

ص: 119

{مَساجِدَ} : مفعول به، وهو مضاف، و {اللهِ}: مضاف إليه. {شاهِدِينَ} : حال من واو الجماعة منصوب، وعلامة نصبه الياء؛ لأنه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد وفاعله مستتر فيه. {عَلى أَنْفُسِهِمْ}: متعلقان ب {شاهِدِينَ،} والهاء في محل جر بالإضافة.

{بِالْكُفْرِ} : متعلقان ب {شاهِدِينَ} أيضا. {أُولئِكَ} : اسم إشارة مبني على الكسر في محل رفع مبتدأ، والكاف حرف خطاب لا محل له. {حَبِطَتْ}: ماض، والتاء للتأنيث. {أَعْمالُهُمْ،} فاعله، والهاء في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية:{أُولئِكَ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها. {وَفِي النّارِ} : متعلقان ب {خالِدُونَ} بعدهما.

{أَنْفُسِهِمْ} : مبتدأ. {خالِدُونَ} : خبره، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها.

تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل وأكرم.

{إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللهَ فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (18)}

الشرح: {إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} : بعد أن بين الله سبحانه في الآية السابقة: أن الكافر ليس له أن يعمر مساجد الله بين في هذه الآية من هو المستحق لعمارة المساجد، وهم الجامعون للكمالات العلمية والعملية، ويدخل في عمارتها تزيينها بالفرش، وتنويرها بالسرج، وإدامة العبادة والذكر فيها، ودراسة العلم، وصيانتها عما لم تبن له، كالبيع والشراء، وحديث الدنيا، وقد وردت أحاديث كثيرة في بيان ثواب عمارها، وزوارها.

فعن أنس رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من بنى لله مسجدا صغيرا، كان أو كبيرا بنى الله له بيتا في الجنة» . أخرجه الترمذي، وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا رأيتم الرّجل يعتاد المساجد فاشهدوا له بالإيمان، فإنّ الله عز وجل يقول: {إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ..}. إلخ» . أخرجه الترمذي. {وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ} : انظر الآية رقم [5]. {وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللهَ} أي: في أبواب الدين، فإن الخشية عن المحاذير جبلية، لا يكاد العاقل يتمالك عنها. انتهى. بيضاوي.

وقال القرطبي: إن قيل: ما من مؤمن إلا وقد خشي غير الله، وما زال المؤمنون، والأنبياء يخشون الأعداء، قيل له: المعنى ولم يخش إلا الله مما يعبد، فإن المشركين كانوا يعبدون الأوثان، ويخشونها، ويرجونها، وانظر (خشي) في الآية رقم [14]. {فَعَسى أُولئِكَ}: فعسى من الله لا تفيد الترجي، وإنما هي للوجوب، وانظر (الترجي) في الآية رقم [58] من سورة (الأنفال). {أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} أي: الموفقين لما يحبه الله ويرضاه، هذا؛ واليوم الآخر، هو آخر أيام الدنيا، فيه الحشر، والنشر والحساب، إلى دخول أهل الجنة الجنة، وإلى دخول أهل النار النار، هذا؛ ولم يذكر الإيمان بالرسول؛ لأن تلك الأعمال لا تقبل، إلا ممن آمن به وصدقه.

ص: 120

الإعراب: {إِنَّما} : كافة ومكفوفة مفيدة للحصر. {يَعْمُرُ} : مضارع. {مَساجِدَ} : مفعول به، وهو مضاف، و {اللهِ}: مضاف إليه. {مَنْ} : اسم موصول، أو نكرة موصوفة، مبنية على السكون في محل رفع فاعل، وجملة:{آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ} صلة {مَنْ،} أو صفتها، والعائد أو الرابط رجوع الفاعل إليها، وجملة:{وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ} معطوفتان على ما قبلهما على الوجهين المعتبرين فيها. {وَلَمْ} : الواو: واو الحال. (لم): حرف نفي وقلب وجزم. {يَخْشَ} :

مضارع مجزوم ب (لم)، وعلامة جزمه حذف حرف العلة من آخره، وهو الألف، والفتحة قبلها دليل عليها. {إِلاَّ}: حرف حصر. {اللهِ} : مفعول به، وجملة:{وَلَمْ يَخْشَ..} . إلخ في محل نصب حال من فاعل {آمَنَ،} وما عطف عليه، والرابط: الواو، والضمير. {فَعَسى}:

الفاء: حرف استئناف. (عسى): ماض جامد مبني على فتح مقدر على الألف للتعذر.

{أُولئِكَ} : اسم إشارة مبني على الكسر في محل رفع اسم (عسى)، والكاف حرف خطاب.

{أَنْ} : حرف مصدري ونصب. {يَكُونُوا} : مضارع ناقص منصوب ب {أَنْ،} وعلامة نصبه حذف النون، والواو اسمه، والألف للتفريق.

{مِنَ الْمُهْتَدِينَ} : جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر: {يَكُونُوا،} و {أَنْ يَكُونُوا} في تأويل مصدر في محل نصب خبر: (عسى)، وجملة:{فَعَسى أُولئِكَ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها.

{أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظّالِمِينَ (19)}

الشرح: {أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ} : في الكلام محذوف، التقدير: أجعلتم أصحاب سقاية الحاج مثل من آمن بالله، وجاهد في سبيله؟! أو التقدير: أجعلتم عمل سقي الحاج كعمل من آمن؟! وإنما وجب تقدير المحذوف؛ لأن المصادر لا تشبه بالجثث، أي: الأشخاص؛ لأن السقاية مصدر كالسعاية، والحماية، فجعل الاسم بموضع المصدر؛ إذ علم معناه، مثل: إنما السخاء حاتم، وإنما الشعر زهير، وقرئ «(سقاة)» و «(عمرة)» جمع ساق، وعامر، وأصل سقاة:

(سقية) تحركت الياء، وانفتح ما قبلها، فقلبت ألفا، وانظر شرح {الْمَسْجِدِ الْحَرامِ} في الآية رقم [8]. {آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ}: انظر الآية السابقة. {وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللهِ} : انظر الآية رقم [72] الأنفال. {لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللهِ} أي: لا يستوي حال هؤلاء الذين آمنوا بالله، وجاهدوا في سبيله بحال من سقى الحاج وعمّر المسجد الحرام، وهو مقيم على شركه وكفره؛ لأن الله لا يقبل عملا صالحا إلا مع الإيمان به. {وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظّالِمِينَ} أي: لا يوفق الذين ظلموا بأنفسهم بالكفر والمعاصي، وظلموا غيرهم بالاعتداء على حقوقهم، وحرماتهم، وسبق في علم الله الأزلي: أنهم من أهل النار، ولو تركوا وشأنهم، لما اختاروا غير ذلك. {الظّالِمِينَ}:

ص: 121

انظر الآية رقم [146](الأنعام). بعد هذا انظر ما ذكرته في الآية رقم [18] بشأن نزول هذه الآيات.

الإعراب: {أَجَعَلْتُمْ} : الهمزة: حرف استفهام إنكاري. (جعلتم): فعل وفاعل. {سِقايَةَ} :

مفعول به، وهو مضاف، و {الْحاجِّ}: مضاف إليه، من إضافة المصدر لمفعوله، وفاعله محذوف، التقدير: سقايتكم الحاج. {وَعِمارَةَ} : معطوف على {سِقايَةَ،} وهو مضاف، و {الْمَسْجِدِ}: مضاف إليه من إضافة المصدر لمفعوله

إلخ وفاعله محذوف. {الْحَرامِ} :

صفة: {الْمَسْجِدِ} على اللفظ. {كَمَنْ} : الكاف: اسم بمعنى مثل مبني على الفتح في محل نصب مفعول به ثان ل (جعل)، والكاف: مضاف، و (من) مبنية على السكون في محل جر بالإضافة، وهي تحتمل الموصولة، والموصوفة، وجملة:{آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} صفة (من)، أو صلتها، والعائد، أو الرابط: رجوع فاعل (آمن) عليها. وجملة: {وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللهِ} معطوفة على ما قبلها لا محل لها مثلها، وجملة:{لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللهِ} مستأنفة لا محل لها، وجوز اعتبارها حالا من المفعول الأول، والأول أقوى. {وَاللهُ}: مبتدأ. {لا} : نافية.

{يَهْدِي} : مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل، والفاعل يعود إلى (الله).

{الْقَوْمَ} : مفعول به. {الظّالِمِينَ} : صفة {الْقَوْمَ} مجرور مثله، وعلامة جره الياء

إلخ، وجملة:{لا يَهْدِي..} . إلخ في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية:{وَاللهُ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها، وقيل: هي تعليل لنفي المساواة. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم.

{الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ (20)}

الشرح: {الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ} : ما أحراك أن تنظر شرح هذه الكلمات بالتفصيل في الآية رقم [72] من سورة (الأنفال). {أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللهِ} : إن الموصوفين بالصفات المذكورة أرفع درجة عند الله ممن افتخر بالسقاية وعمارة المسجد الحرام، وإنما لمن يذكر القسم المرجوح لبيان فضل القسم الراجح على من سواهم، والمراد بالدرجة:

المنزلة والرفعة عند الله، هذا؛ وقد قال القرطبي: وليس للكافرين درجة عند الله، حتى يقال:

المؤمن أعظم درجة، والمراد أنهم قدروا لأنفسهم الدرجة بالعمارة والسقي، فخاطبهم على ما قدروه في أنفسهم، وإن كان التقدير خطأ. {وَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ}: أي: بالثواب العظيم، ونيل الحسنى عند الله دون الكافرين.

الإعراب: {الَّذِينَ} : اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ. {آمَنُوا} : ماض مبني على الضم، والواو فاعله، والألف للتفريق، وجملة:{آمَنُوا} مع المتعلق المحذوف صلة

ص: 122

الموصول لا محل لها، وجملة:{وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ} معطوفتان على جملة:

{آمَنُوا} لا محل لهما مثلها. {أَعْظَمُ} : خبر المبتدأ. {دَرَجَةً} : تمييز. {عِنْدَ} : ظرف مكان متعلق ب {أَعْظَمُ،} أو هو متعلق بمحذوف صفة: {دَرَجَةً،} و {عِنْدَ} : مضاف، و {اللهِ}: مضاف إليه، والجملة الاسمية:{الَّذِينَ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها. {وَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ} انظر إعراب مثلها في الآية رقم [11] والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها، أو هي مستأنفة لا محل لها على الوجهين.

{يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ وَجَنّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ (21)}

الشرح: {يُبَشِّرُهُمْ} أي: يبشر الذين آمنوا

إلخ، وانظر الآية رقم [4]. {رَبُّهُمْ}:

انظر الآية رقم [3] من سورة (الأعراف). {بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ} : وهذا من أعظم البشارات؛ لأن الرحمة والرضوان من الله عز وجل على العبد نهاية مقصوده. {وَجَنّاتٍ} : جمع جنة، وانظر الآية رقم [40] (الأعراف). {لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ}: دائم لا ينقطع، والنعيم: لين العيش، ورغده، ومقيم أصله: مؤقوم، انظر إعلاله في الآية رقم [3] الأنفال والآية رقم [69]، هذا؛ ويقرأ {يُبَشِّرُهُمْ} بالتشديد والتخفيف.

قال أبو حيان-رحمه الله تعالى-لما وصف الله المؤمنين بثلاث صفات. الإيمان والهجرة، والجهاد بالنفس والمال، قابلهم على ذلك بالتبشير بثلاث، بدأ: بالرحمة في مقابلة الإيمان؛ لتوقفها عليه، وثنى: بالرضوان الذي هو نهاية الإحسان، في مقابلة الجهاد بالنفس والمال، ثم ثلث: بالجنات في مقابلة الهجرة وترك الأوطان، إشارة إلى أنهم لما آثروا تركها؛ بدلهم دارا عظيمة دائمة، وهي الجنات. انتهى. جمل.

الإعراب: {يُبَشِّرُهُمْ} : مضارع، والهاء مفعوله. {رَبُّهُمْ}: فاعله، والهاء في محل جر بالإضافة. {بِرَحْمَةٍ}: متعلقان بالفعل قبلهما. {مِنْهُ} : متعلقان بمحذوف صفة رحمة، أو هما متعلقان بها. {وَرِضْوانٍ وَجَنّاتٍ}: معطوفان على (رحمة). {لَهُمْ} : متعلقان بمحذوف خبر مقدم.

{فِيها} : متعلقان بالخبر المحذوف، أو هما متعلقان ب {مُقِيمٌ} بعدهما. {نَعِيمٌ}: مبتدأ مؤخر. {مُقِيمٌ} : صفة {نَعِيمٌ،} والجملة الاسمية: {لَهُمْ فِيها..} . إلخ في محل جر صفة (جنّات)، وجملة:{يُبَشِّرُهُمْ..} . إلخ في محل نصب حال من واو الجماعة، والرابط: الضمير فقط، أو هي مستأنفة لا محل لها. تأمل، وتدبر، وربك أعلم. وأجل، وأكرم.

{خالِدِينَ فِيها أَبَداً إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (22)}

الشرح: {خالِدِينَ} : مقيمين لا يبرحون منها. {فِيها} : في الجنات. {أَبَداً} : الأبد:

هو الزمان الطويل الذي ليس له حد، فإذا قلت: لا أكلمك أبدا، فالأبد من وقت التكلم إلى آخر

ص: 123

العمر، هذا؛ وقيد سبحانه الخلود بالأبد حتى لا يفهم منه المكث الطويل. {إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} أي: لمن آمن به وبرسوله، وعمل بطاعته وجاهد في سبيله.

الإعراب: {خالِدِينَ} : حال من الضمير المجرور باللام منصوب، وعلامة نصبه الياء نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد. وفاعله مستتر فيه. {فِيها}: متعلقان ب {خالِدِينَ} . {أَبَداً} : ظرف زمان متعلق به أيضا. {عِنْدَهُ} : ظرف مكان متعلق بمحذوف خبر مقدم. {أَجْرٌ} : مبتدأ مؤخر. {عَظِيمٌ} : صفته، والجملة الاسمية:

{عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} في محل رفع خبر {إِنَّ،} والجملة الاسمية: {إِنَّ اللهَ..} . إلخ تعليل، أو مستأنفة لا محل لها.

{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ اِسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ (23)}

الشرح: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا..} . إلخ: ظاهر هذه الآية: أنها خطاب لجميع المؤمنين كافة، وهي باقية إلى يوم القيامة في قطع الولاية بين المؤمنين والكافرين، وروت فرقة: أن هذه الآية إنما نزلت في الحض على الهجرة، ورفض بلاد الكفرة، فالمخاطبة على هذا إنما هي للمؤمنين الذين كانوا بمكة وغيرها من بلاد العرب. انتهى. قرطبي.

أقول: خصوص السبب لا يمنع التعميم أبدا، وأحكام القرآن أغلبها نزل في سبب، وهي باقية إلى يوم القيامة بلا ريب وبلا شك. ولم يذكر الأبناء في هذه الآية؛ لأنهم تبع للآباء في الأغلب. {أَوْلِياءَ} أي: بطانة وأصدقاء تفشون إليهم أسراركم، وتؤثرون المقام معهم على الهجرة، وانظر الآية [3] (الأعراف). {اِسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ}: أحبوا واختاروا الكفر على الإيمان، وانظر {كَفَرُوا} في الآية رقم [66] (الأعراف). و {الْإِيمانِ} في الآية رقم [1] منها. {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ}: يعني: ومن يختار المقام معهم على الهجرة والجهاد، فقد ظلم نفسه بمخالفة أمر الله، واختيار الكفار على المؤمنين، وقال ابن عباس: هو مشرك مثلهم؛ لأن من رضي بالشرك فهو مشرك، هذا؛ والرضا بالمعصية معصية أيضا، ولا تنس مراعاة لفظ (من) في الفاعل، ومعناها في الإشارة.

تنبيه: نزلت الآية الكريمة في المهاجرين، فإنهم لما أمروا بالهجرة، قالوا: إن هاجرنا قطعنا آباءنا، وإخواننا، وعشائرنا، وذهبت تجارتنا، وبقينا ضائعين.

الإعراب: {يا أَيُّهَا} : (يا): حرف نداء ينوب مناب أدعو. (أيها): نكرة مقصودة مبنية على الضم في محل نصب بأداة النداء، و (ها): حرف تنبيه لا محل له، وأقحم للتوكيد، وهو عوض

ص: 124

عن المضاف إليه. {الَّذِينَ} : اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع بدل من أي، وانظر الآية رقم [158](الأعراف) ففيها بحث جيد، وجملة:{آمَنُوا} مع المتعلق المحذوف صلة الموصول لا محل لها. {لا} : ناهية جازمة. {تَتَّخِذُوا} : مضارع مجزوم ب {لا،} وعلامة جزمه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والألف للتفريق. {آباءَكُمْ}:

مفعول به أول. {وَإِخْوانَكُمْ} : معطوف على ما قبله، والكاف: في محل جر بالإضافة، والميم:

علامة جمع الذكور. {أَوْلِياءَ} : مفعول به ثان، وجملة:{لا تَتَّخِذُوا..} . إلخ لا محل لها؛ لأنها ابتدائية كالجملة الندائية قبلها. {إِنِ} : حرف شرط جازم. {اِسْتَحَبُّوا} : ماض مبني على الضم في محل جزم فعل الشرط، والواو فاعله، والألف للتفريق. {الْكُفْرَ}: مفعول به. {عَلَى الْإِيمانِ} : متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من {الْكُفْرَ،} التقدير:

مفضلا على الإيمان، وجملة:{اِسْتَحَبُّوا..} . إلخ لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي، وجواب الشرط محذوف لدلالة ما قبله عليه. التقدير: إن استحبوا

فلا تتخذوهم.. إلخ. {وَمَنْ} : الواو: حرف استئناف. (من): اسم شرط جازم مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {يَتَوَلَّهُمْ} : مضارع فعل الشرط مجزوم، وعلامة جزمه حذف حرف العلة من آخره، وهو الألف، والفتحة قبلها دليل عليها، والفاعل يعود إلى (من) تقديره:«هو» ، والهاء مفعوله، {مِنْكُمْ}: متعلقان بما قبلهما. {فَأُولئِكَ} : الفاء: واقعة في جواب الشرط {فَأُولئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ} انظر إعراب مثلها في الآية رقم [11] والجملة الاسمية في محل جزم جواب الشرط عند الجمهور، والدسوقي يقول: لا محل لها؛ لأنها لم تحل محل المفرد، وخبر المبتدأ الذي هو من مختلف، فقيل: هو جملة الشرط، وقيل: جملة الجواب، وقيل: هو الجملتان، وهو المرجح لدى المعاصرين، والجملة الاسمية مستأنفة لا محل لها من الإعراب.

{قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اِقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (24)}

الشرح: {قُلْ} أي: قل يا محمد لهؤلاء الذين قالوا ما تقدم. {إِنْ كانَ آباؤُكُمْ..} . إلخ:

{أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ} أي: أحب إليكم من الهجرة إلى الله ورسوله، أي:

لأجلهما. {وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ} أي: من أجل إعلاء دينه، وإعزاز نبيه، {فَتَرَبَّصُوا}: فانتظروا وترقبوا، فهو تهديد ووعيد. {حَتّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ}: بقضائه وقدره، أي: ما أعده للمتخلفين عن الهجرة، والمخالفين لأوامره وأوامر نبيه. {وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ}: انظر الآية رقم [20].

ص: 125

تنبيه: بين الله جلت قدرته: أنه يجب تحمل جميع المضار في الدنيا ليبقى الدين سليما، وأخبر: أنه إن كانت رعاية المصالح الدنيوية عندكم أولى من طاعة الله وطاعة رسوله ومن المجاهدة في سبيل الله، فأنتم مهددون بما تستحقون من الانتقام. (آباء وأبناء): أصلها آباو، وأبناو تبعا لأصل مفردهما، فقل في إعلالهما: تحركت الواو وانفتح ما قبلهما فقلبت ألفا، ولم يعتد بالألف الزائدة؛ لأنها حاجز غير حصين، فالتقى ساكنان: الألف الزائدة والألف المنقلبة، فأبدلت الثانية همزة، {وَأَزْواجُكُمْ}: جمع زوج، وانظر الآية رقم [19] (الأعراف). {وَعَشِيرَتُكُمْ}:

وقرئ «عشيراتكم» ، و «عشائركم» ، أي: بالجمع، هذا؛ والعشيرة: أقرباء الإنسان الذين يعيشون معه، ويعاشرونه.

ومن الجدير بالذكر: أن العشيرة آخر طبقة من الطبقات السبع التي عليها العرب، وهي الشعب والقبيلة والعمارة والبطن والفخذ، والفصيلة والعشيرة، فالشعب يجمع القبائل، والقبيلة تجمع العمائر، والعمارة تجمع البطون، والبطن تجمع الأفخاذ، والفخذ تجمع الفصائل، والفصيلة تجمع العشائر، وليس بعد العشيرة شيء يوصف عند العرب، واستحدث اسم الأسرة والعائلة لما يشمل الزوج والزوجة وأولادهما الذين يعيشون في دار واحدة، وأخيرا سمع قول العلي القدير:{يا أَيُّهَا النّاسُ إِنّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} . {وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها} : اكتسبتموها، واقترف الذنب: عمله، وانظر {وَأَمْوالٌ} في الآية رقم [28] من سورة (الأنفال). {وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها}: تخافون عدم نفادها وعدم بيعها، ومن الغريب ما نقله القرطبي عن ابن المبارك، أنه قال: هي البنات، والأخوات إذا كسدن في البيت لا يجدن لهن خاطبا، قال الشاعر:[المتقارب]

كسدن من الفقر في قومهنّ

وقد زادهنّ مقامي كسودا

أقول: لم يذكر الشاعر التجارة، وإنما ذكر الكساد وحده، وهو لا يتضمن معنى التجارة لا من قريب، ولا من بعيد. {وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها} أي: تعبتم في بنائها، وتجدون فيها راحتكم، وسروركم. {أَحَبَّ}: أفعل تفضيل، أصله: أحبب، فنقلت فتحة الباء الأولى، إلى الحاء بعد سلب سكونها، ثم أدغمت الباء في الباء، وقد يقال فيه: حب، انظر الآية رقم [12] من سورة (الأعراف) تجد ما يسرك.

{اللهِ وَرَسُولِهِ} : انظر الآية رقم [1] الأنفال والآية رقم [12] بعد هذا خذ قول الرسول صلى الله عليه وسلم:

«لا يطعم أحدكم طعم الإيمان حتّى يحبّ في الله، ويبغض في الله، حتى يحبّ في الله أبعد الناس، ويبغض في الله أقرب الناس إليه» . انتهى. كشاف. {الْفاسِقِينَ} أي: الذين يخالفون أوامر الله ورسوله، وانظر الآية رقم [145] من سورة (الأعراف). ومعنى {لا يَهْدِي} لا يوفق إلى الإيمان، ولا إلى العمل الصالح، وهذا يرجع إلى علمه الأزلي بأنهم لو تركوا وشأنهم لما

ص: 126

اختاروا غير الفسوق والعصيان، والكفر والضلال، وانظر ما ذكرته في الآية رقم [29] من سورة (الرعد). وانظر (خشي) في الآية رقم [14].

الإعراب: {قُلْ} : أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» . {إِنْ} : حرف شرط جازم. {كانَ} :

ماض ناقص مبني على الفتح في محل جزم فعل الشرط، {آباؤُكُمْ}: اسم {كانَ،} وما بعده معطوف عليه، والكاف في محل جر بالإضافة، والميم: علامة جمع الذكور. {اِقْتَرَفْتُمُوها} : فعل وفاعل ومفعول به، وانظر إعراب:{وَجَدْتُمُوهُمْ} في الآية رقم [5] والجملة الفعلية في محل رفع صفة (أموال)، وجملة:{تَخْشَوْنَ كَسادَها} في محل رفع صفة: (تجارة)، وجملة:{تَرْضَوْنَها} في محل رفع صفة (مساكن). {أَحَبَّ} : خبر {كانَ} . {إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ} : كلاهما متعلق ب {أَحَبَّ} . {وَرَسُولِهِ} : معطوف على ما قبله، والهاء في محل جر بالإضافة. {وَجِهادٍ}:

معطوف على ما قبله. {فِي سَبِيلِهِ} : متعلقان بمحذوف صفة (جهاد)، أو هما متعلقان به لأنه مصدر، وجملة:{فَتَرَبَّصُوا..} . إلخ في محل جزم جواب الشرط عند الجمهور، والدسوقي يقول: لا محل لها؛ لأنها لم تحل محل المفرد. {حَتّى} : حرف غاية وجر. {يَأْتِيَ} : مضارع منصوب ب «أن» مضمرة بعد {حَتّى} . {اللهِ} : فاعله. {بِأَمْرِهِ} : متعلقان بالفعل قبلهما، والهاء في محل جر بالإضافة، و «أن» المضمرة والمضارع في تأويل مصدر في محل جر ب {حَتّى،} والجار والمجرور متعلقان بالفعل (تربصوا)، وجملة:{كانَ} لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي، و {إِنْ} ومدخولها في محل نصب مقول القول، وجملة:

{قُلْ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها {وَاللهُ لا يَهْدِي..} . إلخ. انظر إعراب مثلها في الآية رقم [20] إفرادا وجملة. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم.

{لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25)}

الشرح: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ} : هذا خطاب للصحابة الكرام، وتذكير لهم بنعم الله عليهم، وانظر مثله في الآية رقم [123] من سورة (آل عمران). {مَواطِنَ}: جمع موطن، وهو اسم مكان، والمراد: غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم، وسراياه التي حصلت في تلك المواطن. {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ} أي: وموطن يوم حنين، أو يقدر: في أيام مواطن حنين، وذلك ليتناسب المتعاطفان، وحنين: اسم واد قريب من الطائف بينه وبين مكة بضعة عشر ميلا، {إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ}: انظر العجب في الآية رقم [63] من سورة (الأعراف) تجد ما يسرك. {فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً} أي: لم تنفعكم الكثرة في هذه الحرب نفعا ما. {وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ}

ص: 127

الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ أي: برحبها: بسعتها، لا تجدون فيها مقرّا تطمئن إليه نفوسكم، من شدة الرعب، خذ قول الشاعر:[الطويل]

كأنّ بلاد الله، وهي عريضة

على الخائف الطّلوب كفّة حابل

هذا؛ و (الرحب) بالضم: السعة، وهو بفتح الراء الواسع، والفعل (رحب) من باب ظرف.

{وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ} أي: منهزمين أعطيتم ظهوركم لأعدائكم.

تنبيه: الآية الكريمة، وما بعدها متعلقتان بغزوة حنين، وقد حصلت هذه الحرب مع قبيلة هوازن، وساعدهم بنو ثقيف بعد فتح مكة في السنة الثامنة للهجرة، وتسليم مقاليدها للرسول صلى الله عليه وسلم، فإن قبيلة هوازن لما سمعوا بذلك؛ حشدوا جموعهم مع حلفائهم، وظنوا أنهم يقضون على الرسول العظيم، وعلى أصحابه أجمعين لتكون السيطرة لهم على مكة، بعد قريش الذين استسلموا، وكان أميرهم وصاحب رأيهم دريد بن الصمة، فولوا مكانه شابا هو مالك بن عوف النصري، فساق مع الكفار أموالهم ومواشيهم، ونساءهم، وأولادهم، وزعم أن ذلك يحمي به نفوسهم، ويشد عزيمتهم.

فلما سمع القائد العظيم صلى الله عليه وسلم بقدومهم، ندب أصحابه لملاقاتهم قبل هجومهم على مكة، وكانت عدة المسلمين عشرة آلاف، وخرج من أهل مكة معه ألفان، ممن أسلموا، حديثا، وممن بقوا على شركهم بموجب معاهدة مع الرسول صلى الله عليه وسلم، ولما خرج الجيش الخضم من مكة، قال رجل من الأنصار، يقال له: سلمة بن سلامة بن رقيش: لن نغلب اليوم من قلة، فساء رسول الله صلى الله عليه وسلم كلامه، زلق بعض المفسرين فنسب الكلمة إلى رسول الله، وبعضهم نسبها إلى أبي بكر، وحاشاهما من ذلك.

وكانت قبيلة هوازن قد كمنت في مضيق يقع بين جبلين، فلما اندفع المسلمون إلى المضيق، رشقهم الكفار بالنبل، فدهش المسلمون، وانجفلوا هاربين، لا يلوون على شيء، وثبت الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو راكب على بغلته، وهو يقول: أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب، وثبت معه رجال قليلون يدافعون عنه، مثل أبي بكر وعمر وعلي والعباس، وأولاده، وابن أخيه أبو سفيان بن الحارث، الذي كان آخذا بزمام بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وغيرهم.

فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: «يا عباس! ناد أصحاب السمرة» . وهي الشجرة التي كانت عندها بيعة الرضوان عام الحديبية، فنادى العباس، وكان رجلا صيتا، ويروى من شدة صوته: أنه أغير يوما على مكة، فنادى: وا صباحاه! فأسقطت كل حامل سمعت صوته جنينها، فنادى بأعلى صوته:

أين أصحاب السمرة؟ قال: فو الله لكأنهم بقر عطفوا على أولادها، فقالوا: يا لبيك! يا لبيك! فاقتتلوا مع الكفار، ثم أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم كفا من حصى، فرمى بهن وجوه الكفار، وقال:

«شاهت الوجوه» . ثم قال: «انهزموا ورب محمد» . فلم تبق عين إلا دخلها من ذلك، وانظر

ص: 128

الآية رقم [17] من سورة (الأنفال). وقال سعيد بن جبير رضي الله عنه: حدثنا رجل من المشركين يوم حنين، قال: لما التقينا مع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم يقفوا لنا حلبة شاة، حتى إذا انتهينا إلى صاحب البغلة الشهباء؛ تلقانا رجال بيض الوجوه حسان، فقالوا لنا: شاهت الوجوه، ارجعوا، فرجعنا، وركبوا أكتافنا، فكانت إياها-يعني الملائكة-هذا؛ وقد قتل أيمن بن أم أيمن، وكان من الذين ثبتوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين انهزم المسلمون، وقد قال العباس رضي الله عنه فيما بعد:[الطويل]

نصرنا رسول الله في الحرب تسعة

وقد فرّ من قد فرّ عنه، وأقشعوا

وعاشرنا لاقى الحمام بنفسه

بما مسّه في الله لا يتوجّع

الإعراب: {لَقَدْ} : اللام: هي لام ابتداء، أو هي واقعة في جواب قسم محذوف، التقدير:

والله لقد. (قد): حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال. {نَصَرَكُمُ اللهُ} : ماض ومفعوله، وفاعله، والجمل الفعلية لا محل لها على الوجهين المعتبرين في اللام. {فِي مَواطِنَ}: متعلقان بالفعل قبلهما، وعلامة الجر الفتحة نيابة عن الكسرة؛ لأنه ممنوع من الصرف لصيغة منتهى الجموع. {كَثِيرَةٍ}: صفة {مَواطِنَ} . {وَيَوْمَ} : معطوف على الجار والمجرور قبله، التقدير:

ونصركم يوم حنين، وصرف {حُنَيْنٍ} لأنه اسم مذكر، وهي لغة القرآن، ومن العرب من لا يصرفه؛ لأنه يعتبره اسما للبقعة، خذ قول حسان رضي الله عنه في مدح الأنصار. [الكامل]

نصروا نبيّهم، وشدّوا أزره

بحنين يوم تواكل الأبطال

{إِذْ} : ظرف بدل من (يوم) مبني على السكون في محل نصب. {أَعْجَبَتْكُمْ} : ماض، والتاء: للتأنيث، والكاف: مفعول به. {كَثْرَتُكُمْ} : فاعل، والكاف في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة {إِذْ} إليها. {فَلَمْ}: حرف جازم. {تُغْنِ} : مضارع مجزوم ب (لم)، وعلامة جزمه حذف حرف العلة، والفاعل يعود إلى {كَثْرَتُكُمْ،} والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، فهي في محل جر مثلها. {عَنْكُمْ}: متعلقان بما قبلهما.

{شَيْئاً} : مفعول به، أو هو نائب مفعول مطلق، وجملة:{وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ} معطوفة على ما قبلها، فهي في محل جر مثلها. {بِما}:(ما): مصدرية تؤول مع الفعل بعدها بمصدر في محل جر بالباء، التقدير: برحبها، والجار والمجرور متعلقان بالفعل (ضاقت). {ثُمَّ}:

حرف عطف. {وَلَّيْتُمْ} : فعل وفاعل، وانظر إعراب:{وَجَعَلْنا} في الآية رقم [10](الأعراف). {مُدْبِرِينَ} : حال مؤكدة للفعل منصوب، وعلامة نصبه الياء نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، وجملة:{وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ} معطوفة على ما قبلها، فهي في محل جر أيضا.

ص: 129

{ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (26)}

الشرح: {ثُمَّ} : انظر الآية رقم [103] من سورة (الأعراف). {سَكِينَتَهُ} : رحمته التي سكنوا بها، حتى اجترءوا على قتال المشركين، بعد أن ولوا مدبرين، {وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها}: وهم الملائكة يقوون المؤمنين، ويثبتونهم في القتال، وانظر الآية رقم [12] من سورة (الأنفال)، ويلقون الرعب في قلوب المشركين من حيث لا يرونهم، ومن غير قتال؛ لأن الملائكة لم تقاتل إلا يوم بدر على الراجح. {وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا}: بالقتل والسبي والأسر، وانظر {كَفَرُوا} في الآية رقم [66] (الأعراف). {وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ} أي: ما فعل بهم جزاء كفرهم في الدنيا، ولعذاب الآخرة أخزى، وأنكى، هذا؛ والجزاء المجازاة، والمكافأة على عمل ما، تكون في الخير، وتكون في الشر، فمن الأول قوله تعالى:{هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلاَّ الْإِحْسانُ} ومن الثاني ما في الآية الكريمة، فقد أراد جزاء الشر، والجزاء من جنس العمل، إن خيرا فخير، وإن شرا فشرّ، هذا؛ والفعل:(جزى يجزي) ينصب مفعولين، هذا؛ وانظر سكينة بني إسرائيل في الآية رقم [247] من سورة (البقرة).

الإعراب: {ثُمَّ} : حرف عطف، عطفت جملة:{أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ} على الجمل قبلها، فهي في محل جر مثلها. {وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ} جار ومجرور معطوفان على ما قبلهما، وعلامة الجر الياء؛ لأنه جمع مذكر سالم

إلخ، وجملة:{وَأَنْزَلَ جُنُوداً} معطوفة على ما قبلها، فهي في محل جر أيضا. {لَمْ تَرَوْها}: مضارع مجزوم ب {لَمْ،} وعلامة جزمه حذف النون لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، وها: مفعوله، والفعل بصري اكتفى بمفعول واحد، والجملة الفعلية في محل نصب صفة جنودا، وجملة:{وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا} معطوفة على ما قبلها، فهي في محل جر أيضا. {وَذلِكَ}: الواو: حرف استئناف. {ذلِكَ} : اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع مبتدأ، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب لا محل له. {جَزاءُ}: خبر المبتدأ، وهو مضاف، و {الْكافِرِينَ}: مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الياء.. إلخ، وهذه الإضافة من إضافة المصدر لمفعوله، وفاعله مستتر فيه، والجملة الاسمية (ذلك

) إلخ مستأنفة لا محل لها من الإعراب.

{ثُمَّ يَتُوبُ اللهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (27)}

الشرح: {ثُمَّ يَتُوبُ اللهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ..} . إلخ: وذلك بالتوفيق للإسلام، كما فعل بمن بقي من هوازن، وانظر (شاء) في الآية رقم [89] (الأعراف) {وَاللهُ غَفُورٌ}: لمن تاب وأناب.

{رَحِيمٌ} : بعباده لا يعاجلهم العقوبة.

ص: 130

تنبيه: روي: أن ناسا من هوازن، جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأعلنوا إسلامهم، وقالوا:

يا رسول الله! أنت خير الناس وأبرهم، وقد سبي أولادنا وأهلونا، وأخذت أموالنا-وكان قد سبي يومئذ ستة آلاف نفس، وأخذ من الإبل والغنم ما لا يحصى-فقال صلى الله عليه وسلم:«اختاروا إما سباياكم، وإما أموالكم» . فقالوا: ما كنا نعدل بالأحساب شيئا، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال:

«إن هؤلاء جاءوا مسلمين، وإنا خيرناهم بين الذراري والأموال، فلم يعدلوا بالأحساب شيئا، فمن كان بيده سبي، وطابت نفسه أن يرده، فشأنه، ومن لا؛ فليعطنا، وليكن قرضا علينا، حتى نصيب شيئا، فنعطيه مكانه» . فقالوا: رضينا، وسلمنا، فقال:«إني لا أدري لعل فيكم من لا يرضى، فمروا عرفاءكم، فليرفعوا إلينا» . فرفعوا: أنهم قد رضوا، وأتت النبي صلى الله عليه وسلم أخته الشيماء من الرضاعة، وهي بنت حليمة السعدية-رضي الله عنها التي أرضعته صلى الله عليه وسلم-فأكرمها وأحسن وفادتها».

الإعراب: {ثُمَّ} : حرف عطف، عطفت جملة:{يَتُوبُ اللهُ مِنْ بَعْدِ} على ما قبلها من جمل، و {بَعْدِ}: مضاف، و {ذلِكَ}: اسم إشارة مبني على السكون في محل جر بالإضافة، واللام للبعد والكاف حرف خطاب لا محل له. {عَلى مَنْ}: جار ومجرور متعلقان بالفعل يتوب، و {مِنْ} تحتمل الموصولة، والموصوفة فهي مبنية على السكون في محل جر ب {عَلى} والجملة بعدها صلتها، أو صفتها، العائد أو الرابط محذوف؛ إذ التقدير: على الذي، أو على شخص يشاؤه، والجملة الاسمية:{وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} مستأنفة لا محل لها.

{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (28)}

الشرح: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} : خصّ الله المؤمنين بهذا النداء، ليتنبهوا للمشركين، ولما وصفهم الله به. {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ}: فهذا يعم جميع الكفار من مشركين، ويهود ونصارى، وهذه النجاسة هي نجاسة الباطن، أي: العقيدة، أو لأنه يجب أن يجتنبوا كما يجتنب النجس، أو لأنهم لا يتطهرون، ولا يتجنبون النجاسات، فهم ملابسون لها غالبا، أو لأنهم يجنبون ولا يغتسلون.

وعن ابن عباس-رضي الله عنهما: أن أعيانهم نجسة كالكلاب، وبه أخذ الشيعة، لذا فإذا شرب كافر، أو أكل في وعائهم، فيكسرونه، فلا يطهر بالغسل، وأما أهل السنة، فقد قالوا بالقول الأول، وحبس ثمامة في المسجد قبل أن يسلم يدحض قول الشيعة، ويؤيد أهل السنة، هذا؛ وقرئ:{نَجَسٌ} بفتح النون والجيم، كما قرئ بكسر النون وسكون الجيم، وهو يوصف به

ص: 131

المفرد، والمثنى، والجمع، والمذكر، والمؤنث. فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا:

نهى سبحانه عن اقترابهم المسجد الحرام، وهو أبلغ في النهي من دخولهم فيه.

هذا؛ ويلحق بالمسجد الحرام جميع أرض الحرم المحيطة بمكة من جميع جهاتها، وقال الإمام مالك: يمنعون من دخول جميع مساجد المسلمين، والمراد ب:{عامِهِمْ} العام التاسع للهجرة الذي حج فيه أبو بكر رضي الله عنه، وهو العام الذي وقع فيه الأذان، كما رأيت في الآية رقم [3] {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ}: العيلة: الفقر، وكان المسلمون يتعاملون مع المشركين بالتجارة، قذف الشيطان في قلوبهم الخوف من الفقر، وقالوا: من أين نعيش؟ فوعدهم الله أن يغنيهم من فضله، وقد حقق ذلك، ففتح عليهم باب الجزية من أهل الذمة، كما أغناهم بالخصب، ولم يلبث العرب أن آمنوا جميعا، ودخلوا في دين الله أفواجا، والتعليق بالمشيئة، إنما هو للتبرك، وقال البيضاوي: قيده بالمشيئة ليقطع الآمال إليه تعالى، ولينبه على أنه المتفضل في ذلك، {إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}: انظر الآية رقم [16] وانظر المسجد الحرام في الآية رقم [8].

الإعراب: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} : انظر إعراب هذه الجملة في الآية رقم [24]{إِنَّمَا} :

كافة ومكفوفة. {الْمُشْرِكُونَ} : مبتدأ مرفوع وعلامة رفعه الواو؛ لأنه جمع مذكر

إلخ.

{نَجَسٌ} : خبر المبتدأ {فَلا} الفاء: حرف عطف على قول من يجيز عطف الإنشاء على الخبر، وابن هشام يعتبرها للسببية المحضة، وأراها الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن شرط مقدر، التقدير:

وإذا كان ذلك حاصلا وواقعا؛ فلا.. إلخ. (لا): ناهية جازمة. {يَقْرَبُوا} : مضارع مجزوم بلا الناهية، وعلامة جزمه حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية لا محل لها على جميع الوجوه المعتبرة في الفاء. {الْمَسْجِدَ}: مفعول به. {الْحَرامَ} : صفة المسجد.

{بَعْدَ} : ظرف زمان متعلق بالفعل قبله، و {بَعْدَ}: مضاف، و {عامِهِمْ}: مضاف إليه، والهاء:

في محل جر بالإضافة. {هذا} : اسم إشارة مبني على السكون في محل جر صفة: {عامِهِمْ} والهاء: حرف تنبيه. {وَإِنْ} : حرف شرط جازم. {خِفْتُمْ} : ماض مبني على السكون في محل جزم فعل الشرط، والتاء فاعله. {عَيْلَةً}: مفعول به، وجملة:{خِفْتُمْ عَيْلَةً} لا محل لها؛ لأنها ابتدائية. {فَسَوْفَ} : الفاء: واقعة في جواب الشرط. (سوف): حرف استقبال.

{يُغْنِيكُمُ} : مضارع مرفوع

إلخ، والكاف مفعول به. {اللهُ}: فاعله. {مِنْ فَضْلِهِ} :

متعلقان بالفعل قبلهما، والهاء في محل جر بالإضافة، وجملة:{فَسَوْفَ..} . إلخ في محل جزم جواب الشرط، و (إن) ومدخولها كلام مستأنف لا محل له. {شاءَ}: ماض في محل جزم فعل الشرط، والفاعل يعود إلى الله، وجواب الشرط محذوف دل عليه ما قبله، والجملة الاسمية:

{إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} تعليل، أو مستأنفة لا محل لها على الوجهين.

ص: 132

{قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ (29)}

الشرح: {قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ} : هذا أمر للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الغر الميامين بمقاتلة الكفار من أهل الكتاب، وعدم إيمانهم بالله هو أنهم يصفونه بصفات لا تليق به من اتخاذ الولد وغير ذلك، وعدم إيمانهم باليوم الآخر هو اعتقادهم بعثة الأرواح دون الأجسام، وأن أهل الجنة لا يأكلون فيها، ولا يشربون، ولا ينكحون. {وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ}: كالخمر، والخنزير، ونحوهما، وقيل: معناه: لا يحرمون ما حرّم الله في القرآن، ولا ما حرم رسوله في السنة، وقيل: معناه لا يعملون بما في التوراة والإنجيل، بل حرفوهما، وأتوا بأحكام من قبل أنفسهم. {وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ} أي: لا يعتقدون صحة الإسلام الذي هو دين الحق، الثابت الناسخ لجميع الأديان، ومبطلها. {مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ}: بيان للذين لا يؤمنون، وهم اليهود والنصارى، الذين أعطوا التوراة، والإنجيل. {حَتّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ} أي: حتى يدفعوا الجزية المقررة عليهم، وسميت جزية للاجتزاء بها في حقن دمائهم، وحفظ أموالهم، وحقوقهم، ومعنى {عَنْ يَدٍ} عن قهر، وغلبة، يقال لكل من أعطى شيئا كرها من غير طيب نفس: أعطى عن يد. {وَهُمْ صاغِرُونَ} : ذليلون حقيرون، وقال الإمام الشافعي رضي الله عنه: الصغار هو جريان أحكام المسلمين عليهم، علما بأنها تسقط بالإسلام.

تنبيه: مفهوم الآية يقتضي تخصيص الجزية بأهل الكتاب، ويؤيده أن عمر رضي الله عنه لم يكن يأخذ الجزية من المجوس حتى شهد عنده عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذها من مجوس هجر، وأنه قال:«سنوا بهم سنة أهل الكتاب» . وذلك لأن لهم شبهة كتاب فألحقوا بالكتابيين، وأما سائر الكفرة من الوثنيين؛ فلا تؤخذ منهم بل يقتلون، وعند الإمام مالك: تؤخذ من كل كافر إلا المرتد.

بعد هذا انظر الشرح {بِالْيَوْمِ الْآخِرِ} في الآية رقم [19] و {اللهُ وَرَسُولُهُ} : في الآية رقم [1] من سورة (الأنفال){حَرَّمَ} : انظر الآية رقم [145] الأنعام، {دِينَ الْحَقِّ}: انظر ما تقدم، وانظر {دِيناً} في الآية رقم [161] الأنعام و {الْحَقِّ} في الآية رقم [33] (الأعراف) {أُوتُوا}: أصله (أوتيوا)، فاستثقلت الضمة على الياء، فحذفت، فصار {أُوتُوا} ثم قلبت الكسرة ضمة لمناسبة الواو.

{الْكِتابَ} : انظر الآية رقم [2] من سورة (الأعراف). {يَدٍ} : انظر الآية رقم [107] منها أيضا.

تنبيه: قال مجاهد نزلت الآية الكريمة حين أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتال الروم، فغزا بعد نزولها غزوة تبوك، وقال الكلبي: نزلت في قريظة والنضير من اليهود، فصالحهم، فكانت أول جزية أصابها

ص: 133

أهل الإسلام، وأول ذل أصاب أهل الكتاب بأيدي المسلمين، وينبغي أن تعلم أن الكلام على مشركي العرب قد تم عند الآية السابقة، وهي الآيات التي بعث بها النبي صلى الله عليه وسلم عليّا ابن عمه ليقرأها على الناس يوم الحج الأكبر كما قد رأيت سابقا.

الإعراب: {قاتِلُوا} : أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق، وانظر إعراب:{اُسْجُدُوا} في الآية رقم [11](الأعراف). {الَّذِينَ} : اسم موصول مبني على الفتح في محل نصب مفعول به، وجملة:{لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ} صلة الموصول لا محل لها. {لا} :

زائدة لتأكيد النفي. {بِالْيَوْمِ} : معطوفان على ما قبلهما. {وَلا يُحَرِّمُونَ} : مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، و {لا}: زائدة لتأكيد النفي، والجملة الفعلية معطوفة على جملة الصلة لا محل لها مثلها. {ما}: تحتمل الموصولة، والموصوفة فهي مبنية على السكون في محل نصب مفعول به، والجملة الفعلية بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد أو الرابط محذوف؛ إذ التقدير: حرمه الله ورسوله، وجملة:{وَلا يَدِينُونَ} معطوفة على جملة الصلة لا محل لها مثلها. {دِينَ} : مفعول مطلق، أو هو مفعول به على تفسير (يدينون): يعتقدون، و {دِينَ}: مضاف، و {الْحَقِّ}: مضاف إليه من إضافة الموصوف لصفته.

{مِنَ الَّذِينَ} : متعلقان بمحذوف حال من واو الجماعة. {أُوتُوا} : ماض مبني للمجهول، والواو فاعله، وهو المفعول الأول، والألف للتفريق، والجملة الفعلية صلة الموصول.

{الْكِتابَ} : مفعول به ثان. {حَتّى} : حرف غاية وجر. {يُعْطُوا} : مضارع منصوب ب «أن» مضمرة بعد {حَتّى،} وعلامة نصبه حذف النون.. إلخ، والواو فاعله، والألف للتفريق، والمفعول الأول محذوف؛ إذ التقدير: حتى يعطوكم. {الْجِزْيَةَ} : مفعول به ثان، و «أن» المضمرة والفعل المضارع في تأويل مصدر في محل جر ب {حَتّى} والجار والمجرور متعلقان بالفعل (قاتلوا). {عَنْ يَدٍ}: متعلقان بمحذوف حال من واو الجماعة، وجملة:{وَهُمْ صاغِرُونَ} في محل نصب حال من واو الجماعة، والرابط: الواو، والضمير.

{وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ اِبْنُ اللهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ اِبْنُ اللهِ ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قاتَلَهُمُ اللهُ أَنّى يُؤْفَكُونَ (30)}

الشرح: {وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ} : وقد اختلف في سبب قولهم هذا، فأكتفي بما قاله الكلبي: إن بختنصر لما غزا بيت المقدس بعد سليمان عليه السلام، وظهر على بني إسرائيل، وقتل من قرأ التوراة، كان عزيز إذ ذاك صغيرا، فلم يقتله لصغره فلما رجع بنوا إسرائيل إلى بيت المقدس، وليس فيهم من يقرأ التوراة بعث الله لهم عزيرا ليجدد لهم ما في التوراة،

ص: 134

ويكون لهم آية بعد ما أماته الله مائة عام، قال: فأتى ملك بإناء فيه ماء فشرب منه، فمثلت له التوراة في صدره، فلما أتاهم، قال: أنا عزير، فكذبوه، وقالوا: إن كنت كما تزعم فأمل علينا التوراة، فكتبها لهم من صدره، ثم إن رجلا منهم، قال: إن أبي حدثني، عن جدي: أن التوراة جعلت في خابية، ودفنت في كرم كذا، فانطلقوا معه حتى أخرجوها فعارضوها بما كتب لهم عزير، فلم يجدوه غادر حرفا، فقالوا: إن الله لم يقذف التوراة في قلب عزير إلا لأنه ابنه، فعند ذلك، قالت اليهود: عزير ابن الله، وانظر الآية رقم [258](البقرة).

وأما قول النصارى: {الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ} فكان السبب فيه: أنهم كانوا على الدين الحق بعد رفع عيسى عليه السلام، إحدى وثمانين سنة يصلون إلى القبلة، ويصومون رمضان حتى وقع بينهم وبين اليهود حرب، وكان في اليهود رجل شجاع، يقال له: بولص، قد قتل جماعة من أصحاب عيسى عليه السلام، ثم قال بولص لليهود: إن كان الحق مع عيسى فقد كفرنا، والنار مصيرنا، فنحن مغبونون إن دخلنا النار، ودخلوا الجنة، فإني سأحتال، وأضلهم حتى يدخلوا النار معنا، ثم عمد إلى فرس كان يقاتل عليه، فعرقبه، وأظهر الندامة والتوبة، ووضع التراب على رأسه، ثم أتى إلى النصارى، فقالوا له: من أنت؟ قال: أنا عدوكم بولص، فقد نوديت من السماء: أنه ليس لك توبة حتى تتنصر، وقد تبت وأتيتكم، فأدخلوه الكنيسة ونصروه، وأدخلوه بيتا منها، لم يخرج منه سنة حتى تعلم الإنجيل، ثم خرج، وقال: قد نوديت: أن الله قبل توبتك، فصدقوه، وأحبوه، وعلا شأنه فيهم، ثم إنه عمد إلى ثلاثة رجال: اسم الواحد: نسطور، والآخر: يعقوب، والثالث:

ملكان، فعلم نسطور: أن عيسى ومريم والإله ثلاثة، وعلم يعقوب: أن عيسى ليس بإنسان، ولكنه ابن الله، وعلم ملكان: أن عيسى هو الله ولم يزل، ولا يزال، فلما استمكن ذلك فيهم دعا كل واحد في الخلوة، وقال له: أنت خالصتي، وادع الناس لما علمتك، وأمره أن يذهب إلى ناحية من البلاد، ثم قال لهم: إني رأيت عيسى في المنام، وقد رضي عني، وقال لكل واحد منهم: إني سأذبح نفسي تقربا إلى عيسى، ثم ذهب إلى المذبح، وذبح نفسه، وتفرق أولئك الثلاثة، فذهب كل واحد إلى ناحية، وأظهر مقالته، ودعا الناس إليها، فتبعه على ذلك طوائف من الناس، فتفرقوا، واختلفوا، ووقع القتال بينهم، انتهى. خازن.

{ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ} أي: يقولون ذلك بألسنتهم من غير علم يرجعون إليه، وانظر الآية [33] الآتية. {يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ} أي: يضاهي قولهم قول الذين.. إلخ فحذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه، وذلك لأن الجثث لا تقابل بالمصادر، كما رأيت في الآية [20] ويقرأ الفعل بالهمز، وبدونه «(يضاهون)» ، هذا؛ والمضاهاة: المشابهة، أو الموافقة، والمراد ب {الَّذِينَ كَفَرُوا} من الأمم السابقة، وقيل من مشركي العرب، حيث قالوا:

الملائكة بنات الله. {قاتَلَهُمُ اللهُ} : لعنهم الله، وقيل: هو دعاء عليهم بالإهلاك الذي سببه

ص: 135

القتل. {أَنّى يُؤْفَكُونَ} : كيف يصرفون عن الحق إلى الباطل بعد وضوح الدليل، وإقامة الحجة بأن الله واحد أحد. وانظر الآية رقم [95] من سورة (الأنعام) تجد ما يسرك، وانظر:

{الْيَهُودُ} في الآية رقم [20] المائدة، وانظر المسيح في الآية رقم [45] آل عمران.

و {كَفَرُوا} في الآية رقم [66] من سورة (الأعراف).

الإعراب: {وَقالَتِ} : (قالت): ماض، والتاء للتأنيث، وهي حرف لا محل له، وحركت بالكسر لالتقاء الساكنين. {الْيَهُودُ}: فاعله. {عُزَيْرٌ ابْنُ} : مبتدأ وخبر، والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول، و {اِبْنُ}: مضاف، و {اللهِ}: مضاف إليه، والجملة الفعلية (قالت

) إلخ مستأنفة لا محل لها، وجملة:{وَقالَتِ النَّصارى..} . إلخ معطوفة عليها لا محل لها. {ذلِكَ} : اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع مبتدأ، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب لا محل له. {قَوْلُهُمْ}: خبر المبتدأ، والهاء: في محل جر بالإضافة، من إضافة المصدر لفاعله، والجملة الاسمية مستأنفة لا محل لها. {بِأَفْواهِهِمْ}: متعلقان بالمصدر قبلهما، والهاء في محل جر بالإضافة، وجوز تعليقهما بمحذوف حال من الهاء، والعامل فيه القول، وقيل: معنى الإشارة. {يُضاهِؤُنَ} : فعل وفاعل، وانظر الشرح. {قَوْلَ}: مفعول به، وهو مضاف، و {الَّذِينَ} مبني على الفتح في محل جر بالإضافة، وجملة:{كَفَرُوا} مع المتعلق المحذوف صلة الموصول لا محل لها. {مِنْ قَبْلُ} : متعلقان بمحذوف حال من واو الجماعة، وبني قبل على الضم؛ لأنه مبهم، وقطع عن الإضافة لفظا، لا معنى، وجملة:{يُضاهِؤُنَ..} .

إلخ في محل نصب حال من الضمير المجرور محلا بالإضافة، والرابط: الضمير فقط، أو هي مستأنفة لا محل لها، وجملة:{قاتَلَهُمُ اللهُ} : المقصود منها الدعاء، وهي مستأنفة لا محل لها أيضا. {أَنّى}: اسم استفهام بمعنى كيف مبني على السكون في محل نصب حال من واو الجماعة، هذا؛ وإن اعتبرت {أَنّى} بمعنى (أين) للمكان كما هو أصل معناها، فتكون في محل نصب على الظرفية المكانية متعلقة بالفعل بعدها. {يُؤْفَكُونَ}: مضارع مبني للمجهول مرفوع

إلخ، والواو: نائب فاعله، ومتعلقه محذوف، انظر الشرح، والجملة الفعلية مستأنفة لا محل لها.

تنبيه: رأيت أن (عزيرا) قد نون، وأن همزة {اِبْنُ} قد ثبتت، والسبب في ذلك أن التنوين والألف إنما تحذفان للتخفيف إذا وقعت كلمة {اِبْنُ} بين علمين، وكانت صفة للأول منهما، وهي هاهنا خبر عن الأول لا صفة له كما قد رأيت في الإعراب، هذا؛ ويقرأ بحذف تنوين {عُزَيْرٌ} ويبقى الإعراب كما هو، ويكون التنوين قد حذف لالتقاء الساكنين؛ إذ هو مشبه بحروف المد واللين، وتثبيت ألف {اِبْنُ} في الخط، وعليه جاء قول الأسود بن يعفر من بني نهشل، وهو الشاهد رقم (58) من كتابنا:«فتح القريب المجيب» : [الطويل]

لعمرك ما أدري، وإن كنت داريا

شعيث ابن سهم، أم شعيث ابن منقر

ص: 136

حيث ثبتت ألف {اِبْنُ} في الجملتين الاسميتين، هذا؛ وأجاز أبو حاتم أن يكون {عُزَيْرٌ} اسما أعجميا لا ينصرف، وهو بعيد مردود؛ لأنه لو كان أعجميا لانصرف؛ لأنه على ثلاثة أحرف، مثل لوط ونوح وهود ونحو ذلك، فصرفه في التصغير أولى، هذا؛ وقيل: إن {عُزَيْرٌ} مبتدأ و {اِبْنُ} صفة له، فيحذف التنوين على هذا استخفافا، ولالتقاء الساكنين، ولأن الصفة والموصوف كاسم واحد، وتحذف ألف {اِبْنُ} حينئذ من الخط، ويكون {عُزَيْرٌ} مبتدأ محذوف الخبر، التقدير: عزير ابن الله صاحبنا أو نبينا أو معبودنا، أو يكون خبرا لمبتدإ محذوف يقدر ما تقدم. انتهى. عكبري ومكي بتصرف كبير مني. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم.

{اِتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ اِبْنَ مَرْيَمَ وَما أُمِرُوا إِلاّ لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلاّ هُوَ سُبْحانَهُ عَمّا يُشْرِكُونَ (31)}

الشرح: {اِتَّخَذُوا} أي: اليهود، والنصارى. {أَحْبارَهُمْ}: جمع حبر بكسر الحاء وفتحها لغتان. قاله الفراء، وهو الذي يحسن القول، وينظمه، ويتقنه بحسن البيان عنه، وهو العالم الفاهم، ولذا سمي عبد الله بن عباس-رضي الله عنهما-حبر الأمة، أي: عالمها. {وَرُهْبانَهُمْ} : جمع:

راهب، مأخوذ من الرهبنة، وهو الذي حمله خوف الله تعالى على أن يخلص له النية دون الناس، ويجعل زمانه له، وعمله معه، وأنسه به، فاتخذ لنفسه صومعة يتعبد فيها، واعتزل الناس وانظر الآية رقم [47] و [85] من سورة (المائدة) إن أردت الزيادة {أَرْباباً}: جمع: «رب» بمعنى: معبود.

وانظر الآية رقم [3] من سورة (الأعراف). {دُونِ} : انظر الآية رقم [3] منها. {وَالْمَسِيحَ} : هو لقب عيسى عليه السلام، وهو من الألقاب المشرفة، كالصديق، وأصله بالعبرية: مشيخا، ومعناه:

المبارك، وفيه وجهان: أحدهما: أنه فعيل بمعنى فاعل، فحول منه مبالغة، فقيل: لأنه مسيح الأرض بالسياحة، وقيل: لأنه كان يمسح ذا العاهة فيبرأ، وقيل: هو بمعنى مفعول؛ لأنه مسيح بالبركة، أو لأنه مسح القدم، أو لمسح وجهه بالملاحة، والثاني: أن وزنه مفعل من السياحة، وعلى هذا كله فهو منقول من الصفة. {اِبْنَ مَرْيَمَ}: نسبه إلى أمه مع كون الرجال تنسب إلى آبائهم؛ لكونه لا أب له، ومريم ابنة عمران سمتها أمها صفة بذلك؛ لأن مريم في لغتهم العابدة، فأرادت بذلك التقرب والطلب إليه أن يعصمها من كيد الشيطان؛ حتى يكون فعلها مطابقا لاسمها، وأن يصدق ظنها بها، ألا ترى في الآية رقم [36] من آل عمران، كيف أتبعت طلبها بالاستعاذة لها ولولدها من الشيطان الرجيم، وما أحراك أن تنظر ما ذكرته في الآية رقم [41] من آل عمران لبيان مكانتها عند الله. {سُبْحانَهُ}: انظر الآية رقم [100] من سورة (الأنعام).

معنى الآية الكريمة: إن اليهود والنصارى اتخذوا أحبارهم، ورهبانهم آلهة من دون الله، وليست عبادتهم لهم حقيقة، وإنما أطاعوهم في الكفر، والضلال، ومعصية الله تعالى، وذلك: أنهم أحلوا

ص: 137

لهم أشياء، وحرموا عليهم أشياء من قبل أنفسهم، فأطاعوهم فيها، واتخذوهم كأرباب في التحليل والتحريم، فقد روى الترمذي، وأحمد، عن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال: أتيت النبيّ وفي عنقي صليب من ذهب، فقال:«يا عديّ! اطرح عنك هذا الوثن!» . فطرحته، وسمعته يقرأ في سورة براءة {اِتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} حتى فرغ، فقلت: يا رسول الله! إنّا لسنا نعبدهم! فقال: «أليسوا يحرمون ما أحل الله فتحرمونه، ويحلّون ما حرّم الله فتستحلّونه» .

قلت: بلى! قال: «فتلك عبادتهم» . قال عبد الله بن المبارك رحمه الله تعالى: [المتقارب]

وهل بدّل الدّين إلاّ الملوك

وأحبار سوء ورهبانها؟

لذا فإن كل إنسان يتبع إنسانا في كل زمان ومكان في تحليل أو تحريم ما لم يأذن به الله كمن اتخذه ربا.

الإعراب: {اِتَّخَذُوا} : فعل وفاعل، والألف للتفريق، وانظر إعراب:{قالُوا} في الآية رقم [5](الأعراف). {أَحْبارَهُمْ} : مفعول به أول. و {وَرُهْبانَهُمْ} : معطوف عليه، والهاء فيهما: في محل جر بالإضافة. {أَرْباباً} : مفعول به ثان. {مِنْ دُونِ} : متعلقان ب {أَرْباباً،} أو بمحذوف صلة له، و {دُونِ}: مضاف، و {اللهِ}: مضاف إليه. {وَالْمَسِيحَ} : معطوف على {أَحْبارَهُمْ،} التقدير: واتخذوا المسيح، وقد حذف المفعول الثاني لدلالة الأول عليه. {اِبْنَ}: صفة (المسيح)، وهو مضاف، و {مَرْيَمَ}: مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الفتحة نيابة عن الكسرة؛ لأنه ممنوع من الصرف للعلمية والتأنيث، وجملة:{اِتَّخَذُوا} مستأنفة لا محل لها. {وَما} :

الواو واو الحال. (ما): نافية. {أُمِرُوا} : ماض مبني للمجهول، والواو نائب فاعله، والألف للتفريق. {إِلاّ}: حرف حصر. {لِيَعْبُدُوا} : مضارع منصوب ب «أن» مضمرة بعد لام التعليل، وعلامة نصبه حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق. {إِلهاً}: مفعول به، {واحِداً}:

صفته. {لا إِلهَ إِلاّ هُوَ} : انظر إعراب هذه الجملة في الآية رقم [158] من سورة (الأعراف)، والجملة الاسمية في محل نصب صفة ثانية ل {إِلهاً}. وقيل: مستأنفة مقررة للتوحيد، و «أن» المضمرة والفعل المضارع في تأويل مصدر في محل جر باللام، والجار والمجرور متعلقان بالفعل {أُمِرُوا،} واللام بمعنى الباء. تأمل. {سُبْحانَهُ} : مفعول مطلق لفعل محذوف، والهاء في محل جر بالإضافة، من إضافة المصدر، أو اسم المصدر لفاعله؛ فيكون المفعول محذوفا، أو من إضافة المصدر لمفعوله، فيكون الفاعل محذوفا، والجملة الفعلية الحاصلة منه ومن فعله المحذوف مستأنفة لا محل لها، وهذا عند الخليل وسيبويه، وقال الكسائي: هو منصوب على أنه نداء مضاف، والأول أقوى. {عَمّا}: جار ومجرور متعلقان بالمصدر، أو بفعله المحذوف، و (ما): تحتمل الموصولة، والموصوفة، والمصدرية، فعلى الأولين مبنية على السكون في محل جر ب (عن)، والجملة الفعلية بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد أو الرابط محذوف؛ إذ التقدير: عن الذين أو عن شيء يشركون به،

ص: 138

وعلى اعتبار (ما) مصدرية تؤول مع الفعل بعدها بمصدر في محل جر ب (عن)، التقدير: تنزه الله عن شركهم. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم.

{يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلاّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (32)}

الشرح: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللهِ} أي: دلائله، وحججه، وبراهينه على توحيده، جعل البراهين بمنزلة النور؛ لما فيها من البيان، وقيل: المعنى نور الإسلام، أي: أن يخمدوا دين الله بتكذيبهم، وانظر (أراد) في الآية رقم [88] (الأعراف). {بِأَفْواهِهِمْ}: جمع فوه على الأصل؛ لأن الأصل في فم (فوه) مثل حوض وأحواض. {وَيَأْبَى اللهُ} : انظر (تأبى) في الآية رقم [9].

{إِلاّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ} أي: أبى الله إلا إعلاء دينه، وإظهار كلمته، وإتمام الحق الذي بعث به نبيه صلى الله عليه وسلم، {وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ} أي: كرهوا الإسلام وإعلاء كلمته، لا بد وأن يحصل ما تقدم ذكره، وقد كان ذلك يوم اختار الله، وهيأ لهذا الدين من حمل لواءه، وبذلوا في سبيله ما بذلوا، والتاريخ شاهد صدق على ذلك، حتى سطع نوره، وعمّ ربوع الدنيا.

الإعراب: {يُرِيدُونَ} : مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون

إلخ، والواو: فاعله، والمصدر المؤول من:{أَنْ يُطْفِؤُا} في محل نصب مفعول به. {نُورَ} : مفعول به، وهو مضاف، و {اللهِ}: مضاف إليه. {بِأَفْواهِهِمْ} : متعلقان بالفعل قبلهما، والهاء في محل جر بالإضافة، وجملة:{يُرِيدُونَ..} . إلخ في محل نصب حال من واو الجماعة، والرابط: الضمير فقط، أو هي مستأنفة لا محل لها. {وَيَأْبَى}: مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر. {اللهِ}: فاعله. {إِلاّ} : حرف حصر لا محل له، والمصدر المؤول من:{أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ} في محل نصب مفعول به، وجملة:{وَيَأْبَى..} . إلخ معطوفة على ما قبلها على الوجهين المعتبرين فيها. {وَلَوْ} : الواو: واو الحال. (لو): وصلية. {كَرِهَ الْكافِرُونَ} : فعل وفاعل، والمفعول محذوف، والجملة الفعلية في محل نصب حال من إتمام نوره، والرابط:

الواو، والمفعول المحذوف، هذا؛ وإن اعتبرت (لو) شرطية امتناعية، فشرطها المذكور، وجوابها محذوف لدلالة ما قبله عليه، التقدير: ولو كره الكافرون ليتم نوره.

{هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33)}

الشرح: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى} أي: الله الذي بعث محمدا صلى الله عليه وسلم بالنور والقرآن.

{وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} أي: دين الإسلام ليعليه على جميع الأديان بالحجج

ص: 139

الدامغات، والبراهين الساطعات. {وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ}: هو مثل الآية السابقة وفيهما تغليب الرجال على النساء؛ إذ ما من شك: أن في النساء كافرات ومشركات، وهذا شيء معلوم لا ينكره مسلم، فامرأة أبي لهب كانت أضل من كثير من الرجال، وامرأة نوح وامرأة لوط كانتا أخبث وأضل، وانظر العكس في الآية [45]. هذا؛ وقد قال البيضاوي، الآية الكريمة كالبيان لما تقدم، ولذلك كرر:{وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} غير أنه وضع {الْمُشْرِكُونَ} موضع {الْكافِرُونَ} للدلالة على أنهم ضموا الكفر بالرسول إلى الشرك بالله، والضمير في {لِيُظْهِرَهُ} للدين الحق، أو للرسول عليه الصلاة والسلام، واللام في {الدِّينِ} للجنس، أي: على سائر الأديان فينسخها، أو على أهلها فيخذلهم.

تنبيه: قال أبو هريرة والضحاك: هذا، أي: ما ذكر في الآية الكريمة عند نزول عيسى عليه السلام، وقال السدي: ذاك عند خروج المهدي، ولا يبقى أحد إلا دخل في الإسلام، وأيد ذلك القرطبي، والصواب ما ذكرته في الآية السابقة.

الإعراب: {هُوَ} : ضمير رفع منفصل مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ. {الَّذِي} : اسم موصول مبني على السكون في محل رفع خبره، وجملة:{أَرْسَلَ رَسُولَهُ} صلة الموصول لا محل لها. {بِالْهُدى} : متعلقان بمحذوف حال من: {رَسُولَهُ،} أي: مقرونا، أو ملتبسا بالهدى، وعلامة الجر كسرة مقدرة على الألف للتعذر. {وَدِينِ الْحَقِّ}: معطوف على (الهدى)، والإضافة من إضافة الموصوف للصفة. {لِيُظْهِرَهُ}: مضارع منصوب ب «أن» مضمرة بعد لام التعليل، والفاعل يعود إلى (الله)، والهاء: مفعول به، و «أن» المضمرة والمضارع في تأويل مصدر في محل جر باللام، والجار والمجرور متعلقان بالفعل:{أَرْسَلَ} . {عَلَى الدِّينِ} : متعلقان بالفعل قبلهما. {كُلِّهِ} : توكيد ل {الدِّينِ؛} لأنه بمعنى جميع الأديان، والهاء في محل جر بالإضافة {وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} انظر إعراب مثلها في الآية السابقة، والجمل الاسمية:{هُوَ الَّذِي..} .

إلخ مستأنفة لا محل لها.

{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النّاسِ بِالْباطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (34)}

الشرح: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} : نادى الله المؤمنين خاصة، ولفت أنظارهم إلى ذلك؛ لأنهم هم الذين ينتبهون، فينتفعون بذلك. {الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ}: انظر الآية رقم [32]. {لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النّاسِ بِالْباطِلِ} : يأخذونها بالرشى في الأحكام، سمي أخذ المال أكلا لأنه الغرض الأعظم منه، وانظر:{أَمْوالَ} في الآية رقم [28] الأنفال. و {النّاسِ} : في الآية رقم [82](الأعراف).

ص: 140

و {بِالْباطِلِ} : في الآية رقم [139](الأعراف)، {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ}: لقد اختلف في المراد بهؤلاء، فقال معاوية: هم الأحبار والرهبان فيكون مبالغة في وصفهم بالحرص على المال والضن به، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: نزلت في مانعي الزكاة من المسلمين؛ وذلك: أنه سبحانه وتعالى لما ذكر قبح طريقة الأحبار والرهبان، في الحرص، على أخذ الأموال بالباطل؛ حذر المسلمين من ذلك، وذكر وعيد من جمع المال، ومنع حقوق الله فيه.

وقال أبو ذر الغفاري رضي الله عنه: نزلت في أهل الكتاب وفي المسلمين، وكان الاختلاف في تفسير هذه الآية بين معاوية وأبي ذر سببا في إبعاد أبي ذر عن المدينة، إلى الرّبذة. {وَلا يُنْفِقُونَها}: لم يعد الضمير مثنى على الذهب والفضة، وفي ذلك أجوبة: الأول: قصد الأغلب والأعم، وهي الفضة، قاله ابن الأنباري، ومثله قوله تعالى:{وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ} وقوله تعالى: {وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها} فأعاد الضمير للصلاة وللتجارة، فالصلاة أعم، والتجارة أهم-الثاني: أن الضمير للكنوز-الثالث: أن الضمير للأموال-الرابع:

الاكتفاء بضمير الواحد عن ضمير الآخر، إذا فهم المعنى، قال ابن أحمر:[الطويل]

رماني بأمر كنت منه ووالدي

بريئا، ومن أجل الطويّ رماني

لم يقل: بريئين، والطوي: البئر. {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ} : انظر مثل هذه البشارة في الآية رقم [4] وقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم البشارة في هذا العذاب بقوله: «بشّر الكنّازين برضف يحمى عليه في نار جهنم، فيوضع على حلمة ثدي أحدهم؛ حتى يخرج من نغض كتفيه، ويوضع على نغض كتفيه؛ حتى يخرج من حلمة ثدييه، فيتزلزل» . أخرجه مسلم عن أبي ذر رضي الله عنه. الرضف، والحجارة، والنغض بفتح النون وضمها: أعلى الكتف، قال العلماء: فخروج الرضف من حلمة ثديه إلى نغض كتفه؛ لتعذيب قلبه، وباطنه حين امتلأ بالفرح بكثرة المال والسرور في الدنيا، فعوقب بالهم والعذاب في الآخرة. انتهى. قرطبي. هذا؛ والنغض بسكون الغين وبفتح النون وضمها.

روى أبو داود عن ابن عباس-رضي الله عنهما-قال: لما نزلت هذه الآية كبر ذلك على المسلمين، فقال عمر: أنا أفرج عنكم، فانطلق، فقال: يا نبي الله! إنه كبر على أصحابك هذه الآية، فقال:«إن الله لم يفرض الزكاة إلا ليطيب ما بقي من أموالكم، وإنما فرض المواريث لتكون لمن بعدكم» . قال: فكبّر عمر رضي الله عنه، ثم قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:«ألا أخبرك بخير ما يكنز المرء، المرأة الصالحة، إذا نظر إليها؛ سرّته، وإذا أمرها؛ أطاعته، وإذا غاب عنها؛ حفظته» . وروى الترمذي وغيره عن ثوبان رضي الله عنه أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: قد ذم الله سبحانه الذهب والفضة، فلو علمنا أي: المال خير حتى نكتسبه، فقال عمر رضي الله عنه: أنا أسأل لكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله، فقال:«لسان ذاكر، وقلب شاكر، وزوجة تعين المرء على دينه» . وانظر ما ذكرته في الآية رقم [180] من سورة (آل عمران).

ص: 141

الإعراب: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} : انظر إعراب هذه الجملة في الآية رقم [24]. {إِنَّ} : حرف مشبه بالفعل. {كَثِيراً} : اسم {إِنَّ} . {مِنَ الْأَحْبارِ} : متعلقان ب {كَثِيراً} .

و {وَالرُّهْبانِ} : معطوف على ما قبله. {لَيَأْكُلُونَ} : اللام: هي المزحلقة. (يأكلون): مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو: فاعله، والجملة الفعلية في محل رفع خبر {إِنَّ}. {أَمْوالَ}: مفعول به، وهو مضاف، و {النّاسِ}: مضاف إليه.

{بِالْباطِلِ} : متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من {أَمْوالَ النّاسِ} والجملة الاسمية:{إِنَّ كَثِيراً..} . إلخ لا محل لها؛ لأنها ابتدائية كالجملة الندائية قبلها، وجملة:{وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ} مع المفعول المحذوف معطوفة على جملة: {لَيَأْكُلُونَ..} .

إلخ فهي في محل رفع مثلها. {وَالَّذِينَ} : الواو: حرف استئناف. (الذين): اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ، وجملة:{يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} صلة الموصول لا محل لها، وجملة:{وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللهِ} معطوفة على جملة الصلة، لا محل لها مثلها.

{فَبَشِّرْهُمْ} : الفاء: زائدة. (بشرهم): أمر، وفاعله مستتر أنت، والهاء: مفعول به.

{بِعَذابٍ} : متعلقان بما قبلهما. {أَلِيمٍ} : صفة (عذاب)، هذا؛ وفي خبر المبتدأ وجهان:

أحدهما أنه الجملة الفعلية: {فَبَشِّرْهُمْ..} . إلخ وجاز دخول الفاء زائدة على الخبر؛ لأن المبتدأ أشبه الشرط في العموم؛ لكونه موصولا صلته فعل مستقبل، وهذا على قول من يجيز وقوع الخبر جملة إنشائية، والوجه الثاني: أن الخبر محذوف، التقدير:{وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ..} . إلخ عذابهم ما يتلى عليكم، ويكون الفعل المذكور، دالا على الخبر المحذوف، وهذا نظير ما قاله سيبويه في نحو قوله تعالى:{الزّانِيَةُ وَالزّانِي فَاجْلِدُوا..} . إلخ وقوله جل شأنه: {وَالسّارِقُ وَالسّارِقَةُ فَاقْطَعُوا..} . إلخ. والجملة الاسمية: {وَالَّذِينَ..} . إلخ مستأنفة على تفسير معاوية، ومعطوفة على جملة:{إِنَّ..} . إلخ على تفسير أبي ذر الغفاري-رضي الله عنهم أجمعين-.

{يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (35)}

الشرح: {يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ} أي: يوم توقد النار ذات حمى شديدة عليها، وأصله تحمى بالنار، فجعل الإحماء للنار مبالغة، ثم حذفت النار، وأسند الفعل إلى الجار والمجرور تنبيها على المقصود، فانتقل من صيغة التأنيث إلى صيغة التذكير، وانظر ما ذكرته في مرجع الضمير في الآية السابقة، وانظر شرح {نارِ} في الآية رقم [12] (الأعراف). {فَتُكْوى بِها}: الكي:

إلصاق الحار من الحديد والنار بالعضو حتى يحترق موضعه من الجلد. {جِباهُهُمْ} : جمع جبهة،

ص: 142

وهي مستوى ما بين الحاجب إلى الناصية. {وَجُنُوبُهُمْ} : جمع جنب، والكي في الوجه، أشهر وأشنع، وفي الجنب والظهر آلم وأوجع، فلذلك خصّ الله الثلاثة بالذكر من بين سائر الأعضاء.

هذا؛ وقد قال ابن عباس-رضي الله عنهما: لا يوضع دينار على دينار، ولا درهم على درهم ولكن يوسع جلده، حتى يوضع كل دينار ودرهم في موضع على حدته.

قال بعض العلماء: إنما خصت هذه الأعضاء بالكي؛ لأن الغني إذا أتاه السائل، فطلب منه شيئا، تبدو منه آثار الكراهية والمنع، فعند ذلك يقطب وجهه ويكلح، وتجتمع أسارير وجهه فيتجعد جبينه، ثم إن كرر السائل الطلب؛ نأى بجانبه عنه، وتركه جانبا، ثم إن كرر الطلب، ولاه ظهره وأعرض عنه، وهي النهاية في الرد، الدال على كراهية الإعطاء والبذل. انتهى. خازن بتصرف كبير. {هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ} أي: يقال لهم: هذا ما ادخرتم، وجمعتم من الأموال لأنفسكم، وانظر شرح (النفس) في الآية رقم [8] (الأعراف). {فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ}: انظر مثل هذه الإذاقة في الآية رقم [14] الأنفال-وانظر إعلال مثل {كُنْتُمْ} في الآية رقم [11] من سورة (الأعراف).

الإعراب: {يَوْمَ} : ظرف زمان متعلق بقوله: {بِعَذابٍ أَلِيمٍ} وقيل: متعلق بمحذوف يدل عليه عذاب، أي: يعذبون، وقيل: تقدير المحذوف: اذكر يوم، هذا؛ وقال العكبري: وهو بدل من مثله محذوفا، فإن التقدير: فبشرهم بعذاب يوم أليم، فلما حذف المضاف؛ أقيم اليوم مقامه، وهو تعسف بارد، وتكلف لا داعي له. {يُحْمى}: مضارع مبني للمجهول مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر. {عَلَيْها}: متعلقان بمحذوف في محل رفع نائب فاعل، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة {يَوْمَ} إليها. {فِي نارِ}: متعلقان بالفعل قبلهما، و {نارِ}: مضاف، و {جَهَنَّمَ}: مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الفتحة نيابة عن الكسرة؛ لأنه ممنوع من الصرف للعلمية والعجمة، وجملة:{فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ} معطوفة على ما قبلها، فهي في محل جر مثلها، وإعرابها مثلها. {وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ}: معطوفان على نائب الفاعل، والهاء في الكل في محل جر بالإضافة، والميم علامة جمع الذكور. {هذا}: اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع مبتدأ، والهاء: حرف تنبيه لا محل له. {ما} : اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الفعلية بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد أو الرابط محذوف؛ إذ التقدير: الذي، أو شيء كنزتموه لأنفسكم، والكاف:

في محل جر بالإضافة، والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول لقول محذوف، انظر تقديره في الشرح، والجملة الفعلية (يقال لهم هذا

) إلخ مستأنفة لا محل لها. {فَذُوقُوا} :

الفاء: هي الفصيحة، وانظر الآية رقم [29]. (ذوقوا): أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق، {ما}: اسم موصول، أو نكرة مبنية على السكون في محل نصب

ص: 143

مفعول به، وهي في الأصل مضاف إليه، التقدير: ذوقوا جزاء ما

إلخ. فلما حذف المضاف أقيم المضاف إليه مقامه. {كُنْتُمْ} : ماض ناقص مبني على السكون، والتاء: اسمه، وجملة:

{تَكْنِزُونَ} في محل نصب خبر (كان)، والجملة الفعلية صلة:{ما،} أو صفتها، والعائد، أو الرابط: محذوف، التقدير: جزاء الذي، أو جزاء شيء كنتم تكنزونه، هذا؛ وجوز اعتبار:

{ما} مصدرية تؤول مع ما بعدها بمصدر، ويكون التقدير: جزاء كونكم تكنزون، وجملة:

(ذوقوا

) إلخ لا محل لها على جميع الوجوه المعتبرة في الفاء.

{إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اِثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاِعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (36)}

الشرح: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً} : المراد بهذه الأشهر شهور العام الكامل، والسنة التامة، وهذه الشهور، منها القمرية، ومنها الشمسية، وعلى الشهور القمرية يعتمد المسلمون في صيامهم، وحجهم، وأعيادهم، وسائر أمورهم، وأحكامهم، وأيام هذه الشهور ثلاثمائة وخمسة وخمسون يوما، بينما أيام الشهور الشمسية تزيد عن الشهور القمرية عشرة، أو أكثر، فبسبب ذلك تكون السنة الشمسية ثابتة، بينما نرى السنة القمرية تدور بسبب نقصانها، فيقع الصوم والحج تارة في الصيف، وتارة في الشتاء. ومعنى {عِنْدَ اللهِ} أي: في حكمه الأبدي وتقديره الأزلي، {فِي كِتابِ اللهِ} أي: في اللوح المحفوظ الذي كتب الله فيه جميع أحوال الخلق، وما يأتون وما يذرون، وقيل: المعنى في حكم الله الذي أوجبه وأمر عباده بالأخذ به. {يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ} أي: إن هذا الحكم حكم به وقضاه يوم خلق السموات والأرض: أن السنة اثنا عشر شهرا. {مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} : من الشهور أربعة حرم، هي: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، ورجب، وإنما سميت حرما؛ لأن العرب في الجاهلية كانت تعظمها، وتحرم القتال فيها، حتى لو أن أحدهم لقي قاتل أبيه، وأخيه في هذه الأشهر؛ فلا يهيجه.

{ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} أي: تحريم الأشهر الأربعة هو الدين القويم، دين إبراهيم، وإسماعيل عليهما السلام، والعرب ورثوه منهما، وقيل: المعنى ذلك الحساب المستقيم والعدد الصحيح المستوي، فالدين هنا بمعنى الحساب، والأول أولى. {فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} أي: بهتك حرمتها، وارتكاب المعاصي، والمنكرات فيها، وقيل: المراد جميع أشهر السنة، والمعتمد أن

ص: 144

المراد الأشهر الحرم خاصة، فإن من عصى الله فيها يضاعف عقابه، كما أن العمل الصالح فيها يضاعف ثوابه، وهذا مبني على قاعدة، وهي أن الأعمال يضاعف ثوابها؛ إن كانت صالحة، ويضاعف عقابها، إن كانت سيئة، بالنسبة للزمان والمكان، والشخص الذي يعمل العمل، فالزمان المفضل على غيره يضاعف ثواب العمل فيه؛ إن كان صالحا، ويضاعف عقاب العمل فيه؛ إن كان سيئا، وقل مثل ذلك في المكان وفي الشخص، فصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة، والعمل السيئ بمائة ألف عمل سيئ.

وخذ قوله تعالى: {يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ} وقوله جل شأنه: {وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ} . {وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} أي: قاتلوا محيطين بهم ومجتمعين على قتالهم، كما يقاتلونكم مجتمعين عليكم، والمعنى: تعاونوا، وتناصروا على قتالهم، ولا تتفرقوا؛ فتفشلوا، وتذهب ريحكم، وقيل: معنى كافة أي: في جميع الشهور الحرم وغيرها، وعليه فالآية ناسخة لتحريم القتال في الأشهر الحرم، والصحيح: أن الآية الناسخة لذلك هي آية البقرة رقم [216].

{وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} : بالنصر والتأييد، والمعونة على أعدائهم، لا المعية الحسية، وانظر الآية رقم [47] من سورة (الأنفال).

بعد هذا فالشهور جمع شهر، وتجمع أيضا على: أشهر، وسمي الشهر شهرا لشهرته برؤية الهلال في أوله. {كِتابِ}: انظر شرحه في الآية رقم [2](الأعراف). {يَوْمَ} : انظر الآية رقم [128] الأنعام. {السَّماواتِ وَالْأَرْضَ} : انظر الآية رقم [1] الأنعام. {الدِّينُ} : انظر الآية رقم [162] منها. {الْقَيِّمُ} : أصله القيوم، قلبت الواو ياء، ثم أدغمت في الياء. {فَلا تَظْلِمُوا}:

انظر الظلم في الآية رقم [146] الأنعام. {أَنْفُسَكُمْ} : انظر الآية رقم [9](الأعراف).

{كَافَّةً} : هو مصدر مثل: عامة وخاصة، قال الزجاج: مثل هذا من المصادر عافاه الله عافية، وعاقبه عاقبة، ولا يثنى ولا يجمع. {اللهِ}: انظر الآية رقم [1] الأنفال. {الْمُتَّقِينَ} : انظر الآية رقم [1] منها هذا؛ و {كَافَّةً} وما ذكر من المصادر لا يأتي إلا منصوبا، ولقد عيب على الزمخشري حيث أتى به مجرورا في مقدمة الكشاف، فقال: ولكافة المسلمين، وانظر الآية [123] الآتية.

الإعراب: {إِنَّ} : حرف مشبه بالفعل. {عِدَّةَ} : اسمها، وهو مضاف، و {الشُّهُورِ}:

مضاف إليه. {عِنْدَ} : ظرف مكان متعلق ب {عِدَّةَ} لأنه مصدر، و {عِنْدَ}: مضاف، و {اللهِ}: مضاف إليه. {اِثْنا} : خبر {إِنَّ} مرفوع، وعلامة رفعه الألف؛ لأنه ملحق بالمثنى و {عَشَرَ} مبني على الفتح لا محل له من الإعراب؛ لوقوعه موقع نون المثنى، ولا يصح أن يقال: إنه مضاف إليه؛ لتضمنه معنى العطف. {شَهْراً} : تمييز مؤكد؛ لأنه لم يذكر للبيان؛ لأن

ص: 145

الذات معروفة مما تقدم. {فِي كِتابِ} : متعلقان بمحذوف صفة {اِثْنا عَشَرَ،} التقدير:

مسجلة، أو مكتوبة في كتاب الله. {يَوْمَ}: ظرف زمان متعلق ب {كِتابِ} على اعتباره مصدرا، أو هو متعلق بما تعلق به {فِي كِتابِ} على اعتباره اسما. {خَلَقَ}: ماض، وفاعله ضمير يعود إلى الله. {السَّماواتِ}: مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مؤنث سالم، و {وَالْأَرْضَ}: معطوف على ما قبله، وجملة:{خَلَقَ..} . إلخ في محل جر بإضافة {يَوْمَ} إليها. {مِنْها} : متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {أَرْبَعَةٌ} : مبتدأ مؤخر.

{حُرُمٌ} : صفته، والجملة الاسمية في محل رفع صفة ثانية ل {اِثْنا عَشَرَ،} أو هي في محل نصب حال منه بعد وصفه بما تقدم، والرابط: الضمير فقط، أو هي مستأنفة لا محل لها.

{ذلِكَ} : اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع مبتدأ، واللام للبعد، والكاف: حرف خطاب لا محل له. {الدِّينُ} : خبره. {الْقَيِّمُ} : صفة {الدِّينُ،} والجملة الاسمية مستأنفة لا محل لها. {فَلا} : الفاء: هي الفصيحة، وانظر الآية رقم [29]. (لا): ناهية. {تَظْلِمُوا} :

مضارع مجزوم ب (لا)، وعلامة جزمه حذف النون

إلخ، والواو فاعله، والألف للتفريق.

{فِيهِنَّ} : متعلقان بما قبلهما. {أَنْفُسَكُمْ} : مفعول به، والكاف: في محل جر بالإضافة، وجملة:{فَلا تَظْلِمُوا..} . إلخ لا محل لها على جميع الوجوه المعتبرة في الفاء، وتقدير الكلام:

وإذا كان ما ذكر حاصلا وواقعا فلا

إلخ، وهذا الكلام مستأنف لا محل له. {وَقاتِلُوا}:

أمر وفاعله، وانظر إعراب:{اُسْجُدُوا} في الآية رقم [11](الأعراف). {الْمُشْرِكِينَ} : مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الياء؛ لأنه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد. {كَافَّةً}: حال من واو الجماعة، أو من المفعول به، وجملة:{وَقاتِلُوا..} . إلخ معطوفة على ما قبلها لا محل لها مثلها. {كَما} : الكاف: حرف تشبيه وجر. (ما): مصدرية.

{يُقاتِلُونَكُمْ} : فعل وفاعل ومفعول به. {كَافَّةً} : حال من واو الجماعة، أو من الكاف، و (ما) المصدرية والمضارع بعدها في تأويل مصدر في محل جر بالكاف، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف صفة لمصدر محذوف، واقع مفعولا مطلقا، والتقدير: قاتلوا المشركين قتالا كائنا مثل قتالهم لكم، وهذا ليس مذهب سيبويه، وإنما مذهبه في مثل هذا التركيب أن يكون منصوبا على الحال من المصدر المضمر المفهوم من الفعل المتقدم، وإنما أحوج سيبويه إلى هذا؛ لأن حذف الموصوف، وإقامة الصفة مقامه لا يجوز إلا في مواضع محصورة، وليس هذا منها. {وَاعْلَمُوا}:(اعلموا): أمر وفاعله. {إِنَّ} : حرف مشبه بالفعل. {اللهِ} : اسمها.

{مَعَ} : ظرف مكان متعلق بمحذوف خبر {إِنَّ،} و {مَعَ} : مضاف، و {الْمُتَّقِينَ}: مضاف إليه مجرور

إلخ، و {إِنَّ} واسمها وخبرها في تأويل مصدر في محل نصب سد مسد مفعولي (اعلموا)، والجملة الفعلية:{وَاعْلَمُوا..} . إلخ معطوفة على ما قبلها لا محل لها مثلها.

ص: 146

{إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللهُ فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (37)}

الشرح: {إِنَّمَا النَّسِيءُ} أي: تأخير حرمة الشهر إلى شهر آخر، وذلك: أنهم كانوا أصحاب حروب، وغارات، فإذا جاءهم شهر حرام؛ شق عليهم ترك المحاربة، فيحلونه، ويحرمون مكانه شهرا آخر، حتى رفضوا تخصيص الأشهر الحرم بالتحريم، فكانوا يحرمون من بين الشهور أربعة أشهر، فنظروا إلى عدد الشهور المحرمة، ولم ينظروا إلى أعيانها، هذا؛ ويقرأ «(النسيّ)» بقلب الهمزة ياء، وإدغامها في الياء، وقرئ:«(النّسي)» بحذفها، والنسى، والنساء ثلاثتها مصادر:

نسأه: إذا أخره، {زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ}: لأنه تحريم ما أحله الله وتحليل ما حرمه الله، فهو كفر آخر إلى إلى كفرهم، فقد أنكروا وجود البارئ تعالى، حيث قالوا:{وَمَا الرَّحْمنُ} وأنكروا البعث، وأنكروا بعثة الرسول. {يُضَلُّ بِهِ} أي: بالنسيء، وقرئ:(يُضَلُّ) بالبناء للمعلوم، وبالبناء للمجهول، وقرئ:«(يَضِلُّ)» أيضا. {يُحِلُّونَهُ عاماً} : يحلون المحرم، أو غيره في عام، {وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً}: يعيدون إليه حرمته في عام آخر. {لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللهُ} أي: ليوافقوا عدة الأشهر الأربعة المحرمة في كتاب الله تعالى. {زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ} : يقرأ الفعل بالبناء للمعلوم وبالبناء للمجهول، والمعنى: زين لهم الشيطان، وحسن قبيح أعمالهم حتى رأوه حسنا، وقيل: الفاعل هو الله، والمعنى: خذلهم، وأضلهم حتى حسبوا القبيح حسنا. {وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ}: انظر مثل هذه الجملة في الآية رقم [20] و [25] ففيهما الكفاية.

تنبيه: لقد اختلف في أول من أحدث النسيء في العرب على أقوال كثيرة، والذي ذكره صاحب السيرة، وهو ابن إسحاق: أن أول من نسأ الشهور على العرب، فأحل منها ما حرم الله، وحرم منها ما أحل الله رجل يقال له: القلمّس، فكانت العرب، إذا فرغت من حجها، اجتمعت إليه، فقام فيهم خطيبا، فحرم رجبا وذا القعدة وذا الحجة، ويحل المحرم عاما، ويجعل مكانه صفرا، ويحرمه عاما آخر ليواطئ عدة ما حرم الله، والقلمس من بني كنانة، وفي ذلك يقول شاعرهم:[الوافر]

ومنّا ناسئ الشهر القلمّس

وقال الكميت: [الوافر]

ألسنا النّاسئين على معدّ

شهور الحلّ نجعلها حراما

ص: 147

وقيل: أول من أحدث ذلك عمرو بن لحي الخزاعي، ثم كان بعده رجال، وآخر واحد منهم اسمه جنادة بن عوف، وهو الذي أدركه النبي صلى الله عليه وسلم.

تنبيه: لقد ذكر في النسيء غير ما تقدم، وهو أنهم كانوا يؤخرون تحريم المحرم إلى صفر، ثم يؤخرون التحريم إلى ربيع الأول، ثم إلى ربيع الآخر، وهكذا شهرا بعد شهر، حتى يستدير التحريم على السنة كلها، وكانوا يحجون في كل شهر عامين، فحجوا في ذي الحجة عامين، ثم حجوا في المحرم عامين، ثم في صفر عامين، وكذا باقي شهور السنة، فوافقت حجة أبي بكر رضي الله عنه في السنة التاسعة قبل حجة الوداع المرة الثانية من ذي القعدة، ثم حج النبي صلى الله عليه وسلم في العام المقبل حجة الوداع، فوافقت ذا الحجة، فذلك قوله صلى الله عليه وسلم:«إنّ الزّمان قد استدار كهيئته» .

الحديث، أراد بذلك أن أشهر الحج رجعت إلى مواضعها، وعاد الحج إلى ذي الحجة، وبطل النسيء. انتهى. قرطبي وخازن بتصرف كبير مني، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

الإعراب: {إِنَّمَا} : كافة ومكفوفة. {النَّسِيءُ} : مبتدأ. {زِيادَةٌ} : خبره. {فِي الْكُفْرِ} :

متعلقان بمحذوف صفة: {زِيادَةٌ،} أو هما متعلقان به لأنه مصدر. {يُضَلُّ} : فعل مضارع مبني للمجهول. {بِهِ} : متعلقان بما قبلهما. {الَّذِينَ} : اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع نائب فاعل، أو في محل رفع فاعل على قراءة «(يَضِل)» وهو مفعول به على قراءة «(يُضِل)» من الرباعي، فيكون الفاعل ضميرا عائدا إلى الله، أو الشيطان، كما جوز على هذه القراءة أن يكون الفاعل {الَّذِينَ،} والمفعول محذوفا، التقدير: يضل به الذين كفروا أتباعهم، وجملة:

{كَفَرُوا} : مع المتعلق المحذوف صلة الموصول لا محل لها، وجملة:{يُضَلُّ بِهِ..} . إلخ تعليل لزيادة الكفر، أو هي في محل نصب حال من الكفر، والرابط: الضمير المجرور محلا بالباء، والمعنى على الوجهين صحيح، وعلى الثاني أقوى. {يُحِلُّونَهُ}: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة الفعلية مفسرة للضلال، أو هي في محل نصب حال من واو الجماعة، والرابط: الضمير فقط. {عاماً} : ظرف زمان متعلق بالفعل قبله، وجملة:{وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً} معطوفة على ما قبلها.

{لِيُواطِؤُا} : مضارع منصوب ب «أن» مضمرة بعد لام التعليل، وعلامة نصبه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والألف للتفريق، و «أن» المضمرة والفعل المضارع في تأويل مصدر في محل جر باللام، والجار والمجرور متعلقان بأحد الفعلين السابقين على التنازع، والثاني أولى عند البصريين لقربه، والأول أولى عند الكوفيين لسبقه. {عِدَّةَ}: مفعول به. {إِنَّمَا} : تحتمل الموصولة، والموصوفة، فهي مبنية على السكون في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف؛ إذ التقدير: عدة الذي، أو عدة شيء حرمه الله. {فَيُحِلُّوا}: معطوف على ما قبله منصوب مثله

إلخ. {ما حَرَّمَ اللهُ} هو مثل سابقه، مع ملاحظة أن {إِنَّمَا} مفعول به. {زُيِّنَ}: ماض مبني للمجهول. {لَهُمْ} :

ص: 148

متعلقان بما قبلهما. {سُوءُ} : نائب فاعل، وعلى قراءة الفعل بالبناء للمعلوم، فهو مفعول به، والفاعل يعود إلى الله، وقيل: إلى الشيطان، و {سُوءُ}: مضاف، و {أَعْمالِهِمْ}: مضاف إليه، والهاء في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية:{زُيِّنَ لَهُمْ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها {وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ} انظر إعراب مثل هذه الجملة ومحلها في الآية رقم [20].

{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ اِنْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ اِثّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلاّ قَلِيلٌ (38)}

الشرح: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} : خص الله المؤمنين بهذا النداء، دون المنافقين، مع كونهم جميعا حصل منهم هذا التثاقل؛ لأن المؤمنين هم الذين ينتفعون بذلك دون المنافقين، فلذا سارعوا، وبادروا إلى الخروج مع الرسول صلى الله عليه وسلم، قيل: أصله قول، بضم القاف وكسر الواو، فنقلت حركة الواو، إلى القاف، بعد سلب حركتها، فصار (قول) بكسر القاف، وسكون الواو، ثم قلبت الواو ياء، لوقوعها ساكنة بعد كسرة، فصار:«قيل» ، وانظر «القول» في الآية رقم [5] (الأعراف). {اِنْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ}: اخرجوا إلى الجهاد، يقال: استنفر الإمام الناس: إذا حثهم على الخروج إلى الجهاد، ودعاهم إليه، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم:«وإذا استنفرتم فانفروا» . والاسم:

النفير. {اِثّاقَلْتُمْ} أي: تثاقلتم، وتباطأتم عن الخروج إلى الحرب، ومعنى:{إِلَى الْأَرْضِ} أي:

لزمتم أرضكم ومساكنكم، وإنما استثقلوا ذلك الغزو والخروج إليه، لشدة الزمان، وضيق الوقت، وشدة الحر، وبعد المسافة، والحاجة إلى كثرة الاستعداد، من العدد، والزاد، وكان ذلك الوقت وقت إدراك ثمار المدينة، وطيب ظلالها، وكان العدو كثيرا، فاستثقل المسلمون تلك الغزوة، فعاتبهم الله بهذه الآية.

{أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ} أي: ركنتم إلى الدنيا ولذاتها، وأعرضتم عن نعيم الآخرة الدائم. {فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلاّ قَلِيلٌ} أي: فما الدنيا ولذاتها بجانب الآخرة ونعيمها إلا شيء تافه لا قيمة له، والسبب أن الدنيا فانية لا بقاء لها، وأن الآخرة باقية لا يطرأ عليها زوال وفناء، هذا؛ ويقرأ الفعل {اِثّاقَلْتُمْ} «تثاقلتم» على الأصل، فإن الأول فيه قلب التاء ثاء، ثم أدغمت الثاء في الثاء، كما يقرأ:«(أثاقلتم)» بقطع الهمزة على الاستفهام. بعد هذا انظر شرح {مَتاعُ} في الآية رقم [24](الأعراف) وانظر شرح {بِالْحَياةِ الدُّنْيا} في الآية رقم [29] الأنعام، والمراد بالآخرة الحياة الثانية التي تكون بعد الموت، ثم بعد البعث والحساب، ودخول الجنة، والخلود فيها، أو دخول النار، والخلود فيها.

ص: 149

تنبيه: نزلت الآية الكريمة توبخ المسلمين لما تباطئوا عن الخروج مع الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الجهاد في غزوة تبوك، وكانت في السنة التاسعة في شهر رجب بعد فتح مكة، وبعد غزوة حنين، ومحاصرة الرسول صلى الله عليه وسلم ومن معه لبني ثقيف في الطائف، وكان قد بلغ الرسول صلى الله عليه وسلم استعداد الروم لغزو المدينة فندب المسلمين للخروج إليهم ومحاربتهم في بلادهم، ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يريد غزوة إلاّ ورّى بغيرها حتى كانت غزوة تبوك، فصرح للمسلمين بما يريد ليتأهبوا، فشق عليهم الخروج للأسباب التي ذكرتها، فلما نزلت الآية وما بعدها؛ هرع المسلمون للخروج وحث الرسول صلى الله عليه وسلم المسلمين على التبرع وبذل المال في سبيل الله.

وأول من تبرع أبو بكر رضي الله عنه، فجاء بجميع ماله، وجاء عمر بنصف ماله، وتبرع العباس، وعثمان، وعبد الرحمن بن عوف، وكرام الصحابة رضوان الله عليهم بمال كثير، وتخلف المنافقون عن الخروج، وعن بذل المال في سبيل الله، وأخذوا يعتذرون الأعذار الكاذبة، والسورة الكريمة من هذه الآية إلى آخرها تكشف لنا عن نفاق المنافقين، كما ستقف عليه عند شرح كل آية بعون الله وتوفيقه، ويفهم من هذا أن صدر السورة الكريمة من أولها إلى هنا متأخر في النزول عن هذه الآية إلى آخر السورة؛ لأن صدر السورة نزل في موسم الحج من السنة التاسعة للهجرة، وغزوة تبوك كانت في شهر رجب من السنة نفسها.

الإعراب: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} انظر إعراب هذه الجملة في الآية رقم [24]. {ما} :

اسم استفهام مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {لَكُمْ} : جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ، والجملة الاسمية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية كالجملة الندائية قبلها. {إِذا}: ظرف لما يستقبل من الزمان، خافض لشرطه، منصوب بجوابه، صالح لغير ذلك، مبني على السكون في محل نصب. {قِيلَ}: ماض مبني للمجهول. {لَكُمْ} : متعلقان بمحذوف في محل رفع نائب فاعل. {اِنْفِرُوا} : أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق، {فِي سَبِيلِ}: متعلقان بما قبلهما، و {سَبِيلِ}: مضاف، و {اللهِ}: مضاف إليه، والجملة الفعلية:

{اِنْفِرُوا..} . إلخ في محل نصب مقول القول، وبعضهم يعتبرها في محل رفع نائب فاعل {قِيلَ،} وهذا على رأي: من يجيز وقوع الجملة فاعلا، ويكون جاريا على القاعدة في بناء الفعل للمجهول:«يحذف الفاعل، ويقام المفعول مقامه» . وهذا لا غبار عليه، وقيل: نائب الفاعل ضمير مستتر تقديره: قيل القول، فالأقوال ثلاثة في مثل هذا التركيب، وجملة:

{قِيلَ..} . إلخ في محل جر بإضافة {إِذا} إليها على القول المشهور المرجوح. {اِثّاقَلْتُمْ} :

فعل وفاعل، والجملة الفعلية جواب {إِذا} لا محل لها هذا هو الإعراب الظاهر والمتبادر.

هذا، وقال الجمل: الجملة الفعلية حال، وهذا يعني: أنها حال من كاف الخطاب، والعامل في الحال الاستفهام، وقال: إذا ظرف لهذه الحال مقدم عليها، والتقدير: أي: شيء ثبت لكم من الأعذار حال كونكم متثاقلين في وقت قول الرسول لكم: انفروا. {إِلَى الْأَرْضِ} : متعلقان بما

ص: 150

قبلهما. الهمزة: حرف استفهام إنكاري توبيخي. (رضيتم): فعل وفاعل. {بِالْحَياةِ} : متعلقان بالفعل قبلهما. {الدُّنْيا} : صفة (الحياة) مجرور مثله، وعلامة جره كسرة مقدرة على الألف للتعذر. {مِنَ الْآخِرَةِ}: متعلقان بمحذوف حال من (الحياة الدنيا)، أي: بدلا من الآخرة، وجملة:{أَرَضِيتُمْ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها. {فَما} : الفاء: حرف استئناف. (ما): نافية.

{مَتاعُ} : مبتدأ، وهو مضاف، و {بِالْحَياةِ}: مضاف إليه. {الدُّنْيا} : صفة: {بِالْحَياةِ} . {فِي الْآخِرَةِ} : متعلقان بمحذوف حال من {مَتاعُ الْحَياةِ} التقدير: فما متاع الحياة الدنيا محسوبا في الآخرة، وقال الحوفي: إنه متعلق بخبر المبتدأ، وهو قليل، وهو أولى؛ لأن مجيء الحال من المبتدأ لا يجيزه كثير من النحاة، وعلى رأسهم سيبويه. {إِلاّ}: حرف حصر، والجملة الاسمية:{فَما مَتاعُ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها.

{إِلاّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39)}

الشرح: {إِلاّ تَنْفِرُوا} أي: إن لم تخرجوا أيها المؤمنون إلى ما ندبكم الرسول صلى الله عليه وسلم إليه.

{يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً} أي: في الآخرة؛ لأن العذاب الأليم لا يكون إلا في الآخرة، وقيل:

إن المراد به: القحط والجوع في الدنيا، هذا؛ و (عذاب) اسم مصدر لا مصدر؛ لأن المصدر تعذيب؛ لأنه من عذب، يعذب بتشديد الذال فيهما، وقيل: هو مصدر على حذف الزوائد، مثل:

عطاء، ونبات لأعطى، وأنبت. {أَلِيماً}: مؤلم، أي: موجع بكسر اللام، فهو اسم فاعل، وقال الجمل: بفتح اللام على طريق الإسناد المجازي حيث أسند الألم للعذاب، وهو في الحقيقة إنما يسند إلى الشخص المعذب، فهو على حد (جدّ جدّه). انتهى. بتصرف.

{وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ} أي: خيرا منكم وأطوع، قال سعيد بن جبير-رحمه الله تعالى-:

هم أبناء فارس، وقيل: هم أهل اليمن، ففيه وعيد، وتهديد للمؤمنين، وفيه تنبيه على أنه تعالى قد تكفل بنصره وإعزاز دينه، فإن هم نصروه؛ فلهم الفضل، والأجر، وإلا ينصره بغيرهم، وحصلت العتبى لهم. {وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً}: الضمير راجع إلى الله، والمعنى: لا تضروا الله شيئا بتخلفكم؛ لأنه غني عن العالمين، وقيل: الضمير يعود إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، والمعنى لا تضروه شيئا فإن الله ناصره على أعدائه، ولا يخذله، {وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}: فيقدر أن ينصر نبيه، ويعز دينه بأي سبب من الأسباب، بعد هذا انظر {قَوْماً} في الآية رقم [32](الأعراف).

{شَيْئاً} : انظر الآية رقم [85] منها (غير): انظر الآية رقم [2].

تنبيه: قال الحسن وعكرمة: هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: {وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً} وقال الجمهور: هذه الآية محكمة؛ لأنها خطاب لقوم استنفرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم

ص: 151

ينفروا، كما نقل عن ابن عباس-رضي الله عنهما. وعلى هذا فليست منسوخة. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

الإعراب: {إِلاّ} : هي «إن» الشرطية مدغمة في «لا» نافية. {تَنْفِرُوا} : مضارع فعل الشرط مجزوم، وعلامة جزمه حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق، والمتعلق محذوف، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي. {يُعَذِّبْكُمْ} :

مضارع جواب الشرط، والفاعل يعود إلى (الله)، والكاف مفعول به، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها جملة جواب الشرط، ولم تقترن بالفاء، ولا بإذا الفجائية. {عَذاباً}: مفعول مطلق.

{أَلِيماً} : صفته. {وَيَسْتَبْدِلْ} : معطوف على جواب الشرط مجزوم مثله، ويجوز في مثله الرفع والنصب، كما رأيت في الآية رقم [283] من سورة (البقرة). وقد قرئ هناك بالرفع والنصب والجزم، ولكن هنا لم أطلع على غير قراءة الجزم، والفاعل يعود إلى (الله). {قَوْماً}: مفعول به. {غَيْرَكُمْ} : صفة قوما، والكاف: في محل جر بالإضافة. {وَلا} : الواو: حرف عطف.

(لا): نافية. {تَضُرُّوهُ} : مضارع معطوف على جواب الشرط مجزوم مثله

إلخ، والواو:

فاعله، والهاء: مفعول به. {شَيْئاً} : نائب مفعول مطلق، وقيل: مفعول به ثان، و «إن» الشرطية ومدخولها كلام مستأنف لا محل لها. {وَاللهُ}: مبتدأ. {عَلى كُلِّ} : متعلقان ب: {قَدِيرٌ} بعدهما، و {كُلِّ}: مضاف، و {شَيْءٍ}: مضاف إليه. {قَدِيرٌ} : خبر المبتدأ، والجملة الاسمية:{وَاللهُ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها من الإعراب.

{إِلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اِثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنا فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيا وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40)}

الشرح: {إِلاّ تَنْصُرُوهُ} : المعنى إذا لم تنصروا محمدا صلى الله عليه وسلم على أعدائه، وذلك بالخروج معه إلى غزوة تبوك، فإن ليست على بابها من الشك، بل الكلام يفيد التحقيق، وصحة الوقوع، وتأكيده. {فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ}: أيده بنصره، وحفظه، ورعاه وقت أخرجه الذين كفروا من بلده مكة المكرمة، وأسند الإخراج إلى الذين كفروا؛ لأنهم سببه حيث تآمروا على قتله، أو حبسه فعند ذاك أذن الله له بالخروج. {ثانِيَ اثْنَيْنِ} أي: أحد اثنين، وهذا كثالث ثلاثة، ورابع أربعة، وهكذا، فإذا اختلف اللفظ، فقلت: رابع ثلاثة، وخامس أربعة، فالمعنى صير الثلاثة أربعة بنفسه، والأربعة خمسة. {إِذْ هُما فِي الْغارِ} أي: الرسول صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر الصديق رضي الله عنه؛ الذي صحبه

ص: 152

في طريق الهجرة، وقد كمنا في غار ثور ثلاثة أيام، هذا؛ ويجمع الغار على غيران، مثل تاج وتيجان، وقاع وقيعان، والغار أيضا: نبت طيب الريح، والغار أيضا: الجماعة، والغارة: الهجوم على الأعداء، وهي أيضا: النهب والسلب، والغاران: البطن والفرج، وألف الغار منقلبة عن واو؛ إذ الأصل (غور) وانظر:{مَغاراتٍ} في الآية رقم [57] الآتية.

{إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ} : إذ يقول محمد صلى الله عليه وسلم لصاحبه الصديق: «لا تحزن» . وكان هذا حين خاف أبو بكر رضي الله عنه حيث رأى أقدام الكفار الباحثين عنهما على فم الغار، وقال: يا رسول الله لو نظر أحدهم مكان قدميه؛ لرآنا، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم:«يا أبا بكر! ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟!» . {إِنَّ اللهَ مَعَنا} أي: الحفظ والرعاية، {فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ} أي: على النبي صلى الله عليه وسلم أو على أبي بكر الصديق رضي الله عنه الذي خاف على حبيبه من المشركين، والمراد بالسكينة الرحمة التي سكن إليها، واطمأن قلبه بها، وذهب عنه ما كان يساوره من القلق، وانظر سكينة بني إسرائيل في الآية رقم [247] من سورة (البقرة).

{وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها} : يعني الملائكة، أنزلهم الله ليحرسوا نبيه في الغار، أو ليعينوه على أعدائه يوم بدر والأحزاب وحنين، هذا؛ وقد أنبت الله على فم الغار شجرة سدت فمه، وأمر حمامتين فباضتا كذلك، وأمر العنكبوت أن تنسج خيوطها كذلك، فلما رأى المشركون ذلك استبعدوا أن يكون أحد دخل الغار منذ أيام. {وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى} أي: جعل كلمة الشرك هي الحقيرة المنحطة، {وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيا} أي: كلمة التوحيد والإيمان هي المرتفع قدرها العالي شأنها إلى يوم القيامة. {وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} : انظر الآية رقم [10] من سورة (الأنفال).

بعد هذا انظر {كَفَرُوا} في الآية رقم [66](الأعراف){يَقُولُ} : انظر القول في الآية رقم [5] منها {لِصاحِبِهِ} : انظر الآية رقم [36] منها {اللهُ} : انظر الآية رقم [1] الأنفال.

{كَلِمَةَ} : انظر الآية رقم [137] من سورة (الأعراف).

الإعراب: {إِلاّ تَنْصُرُوهُ} : انظر مثل هذه الجملة في الآية السابقة، وجواب الشرط محذوف، التقدير: فالله يتكفل به، أو تقديره: فسينصره الله، وإن ومدخولها كلام مستأنف لا محل له.

{فَقَدْ} : الفاء: حرف تعليل، وجملة:{فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ} تعليلية لا محل لها. {إِذْ} : ظرف لما مضى من الزمان مبني على السكون في محل نصب متعلق بالفعل نصره، وجملة:{أَخْرَجَهُ الَّذِينَ} في محل جر بإضافة {إِذْ} إليها، وجملة:{كَفَرُوا} مع المتعلق المحذوف صلة الموصول.

{ثانِيَ} : حال من الضمير المنصوب، وقرئ بإسكان الياء إجراء للمنقوص مجرى المقصور بتقدير الحركات الثلاث على الياء، و {ثانِيَ}: مضاف، و {اِثْنَيْنِ}: مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الياء؛ لأنه ملحق بالمثنى. {إِذْ}: بدل من {إِذْ} الأولى، أي: هي متعلقة

ص: 153

ب {ثانِيَ} : {هُما} : ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {فِي الْغارِ} :

متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل جر بإضافة {إِذْ} إليها. {إِذْ}: بدل ثان من الأولى، وجملة:{يَقُولُ لِصاحِبِهِ} في محل جر بإضافة {إِذْ} إليها. {لا تَحْزَنْ} :

مضارع مجزوم ب (لا) الناهية، والفاعل مستتر تقديره:«أنت» ، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول. {إِنَّ}: حرف مشبه بالفعل. {اللهُ} : اسمها. {مَعَنا} : ظرف مكان متعلق بمحذوف خبر {إِنَّ،} و (نا): في محل جر بالإضافة، والجملة الاسمية:{إِنَّ اللهَ مَعَنا} تعليل للنهي لا محل لها، والجملة الفعلية:{فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ} مستأنفة لا محل لها.

{لَمْ} : حرف نفي وقلب وجزم. {تَرَوْها} : مضارع مجزوم ب {لَمْ،} وعلامة جزمه حذف النون، والواو: فاعله، و (ها): مفعول به، والجملة الفعلية في محل جر صفة:(جنود)، وجملة:

(أيده

) إلخ معطوفة على ما قبلها لا محل لها مثلها. {وَجَعَلَ} : ماض، والفاعل يعود إلى (الله). {كَلِمَةَ}: مفعول به، وهو مضاف، و {الَّذِينَ} اسم موصول مبني على الفتح في محل جر بالإضافة. {كَفَرُوا}: ماض مبني على الضم، والواو فاعله، والألف للتفريق، وانظر إعراب:{قالُوا} في الآية رقم [5](الأعراف) والجملة الفعلية صلة الموصول لا محل لها.

{السُّفْلى} : مفعول به ثان منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على الألف للتعذر، وجملة:

{وَجَعَلَ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها لا محل لها مثلها. {وَكَلِمَةُ} : الواو: حرف استئناف.

(كلمة): مبتدأ، وقرئ بالنصب عطفا على مفعول (جعل) الأول، والرفع أبلغ لما فيه من الإشعار بأن كلمة الله عالية في نفسها، وإن فاق غيرها، فلا ثبات لتفوقه، و {وَكَلِمَةُ}: مضاف، و {اللهُ}: مضاف إليه. {هِيَ} : ضمير رفع منفصل مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ ثان.

{الْعُلْيا} : خبره مرفوع

إلخ، والجملة الاسمية في محل رفع خبر المبتدأ الأول، وإن اعتبرت {هِيَ} ضمير فصل لا محل له، ف {الْعُلْيا} خبر {وَكَلِمَةُ اللهِ،} وعلى الوجهين فالجملة الاسمية: {وَكَلِمَةُ اللهِ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها، والجملة الاسمية:{وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} مستأنفة، أو معترضة في آخر الكلام لا محل لها أيضا.

{اِنْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (41)}

الشرح: {اِنْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً} أي: اخرجوا إلى الحرب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصفة التي يخف عليكم الجهاد فيها، وعلى الصفة التي يثقل عليكم الجهاد فيها، وهذان الوصفان يدخل تحتهما أقسام كثيرة؛ فلهذا اختلفت عبارات المفسرين فيهما، فقيل: شبابا وشيوخا، وقيل: نشاطا وغير نشاط، وقيل: ركبانا ومشاة، وقيل: فقراء وأغنياء، وقيل: عزلا من السلاح

ص: 154

ومسلحين، وقيل: أصحاء ومرضى، وقيل: عزابا ومتزوجين. والصحيح أن هذا عام؛ لأن هذه الأحوال كلها داخلة تحت قوله تعالى: {خِفافاً وَثِقالاً} والمعنى: على أي حال كنتم فيها.

{وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ} : أبذلوا أموالكم، وأرواحكم من أجل إعلاء كلمة الله تعالى، وانظر ما ذكرته في حق الجهاد في الآية رقم [96] من سورة (النساء) وانظر شرح الأموال في الآية رقم [28] الأنفال و {وَأَنْفُسِكُمْ} في الآية رقم [9] (الأعراف). و {سَبِيلِ} في الآية رقم [142] منها {ذلِكُمْ} أي: ما ذكر في النفر والجهاد في سبيل الله. {خَيْرٌ} : انظر الآية رقم [12](الأعراف). {تَعْلَمُونَ} : أنه خير لكم فلا تثاقلوا عن الخروج إلى الجهاد، وإخبار الله لا يكون إلا صدقا، فبادروا إلى ما يدعوكم إليه نبيكم صلى الله عليه وسلم.

وينبغي أن تلاحظ: أن الله جلت قدرته قدم في هذه الآية وغيرها الجهاد بالمال على النفس؛ لأن المال شقيق الروح، وقد يبذل الإنسان حياته وروحه في سبيل المال، وقد يهدر كرامته وشرفه في سبيله، وكثير من الناس، يسبب لهم المال العذاب الأليم في نار الجحيم؛ وذلك حينما لم يراقبوا الله تعالى في جمعه وإنفاقه. وكثير من الناس يبيعون الشرف والكرامة بدريهمات، وهو مشاهد في كل زمان ومكان.

الإعراب: {اِنْفِرُوا} : أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية ابتدائية، أو مستأنفة لا محل لها. {خِفافاً وَثِقالاً}: حالان من واو الجماعة، وجملة:

{وَجاهِدُوا..} . إلخ معطوفة على ما قبلها لا محل لها مثلها، والكاف: في محل جر بالإضافة، والميم علامة جمع الذكور. {فِي سَبِيلِ}: متعلقان بالفعل: (جاهدوا)، و {سَبِيلِ}: مضاف، و {اللهِ}: مضاف إليه. {ذلِكُمْ} : اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع مبتدأ، والكاف حرف خطاب لا محل له، واللام: للبعد، والميم: علامة جمع الذكور. {خَيْرٌ} : خبر المبتدأ.

{بِأَمْوالِكُمْ} : متعلقان بخير، والجملة الاسمية مستأنفة لا محل لها. {إِنْ كُنْتُمْ}: انظر الآية رقم [14]{تَعْلَمُونَ} : فعل وفاعل، والمفعول به محذوف، انظر تقديره في الشرح، والجملة الفعلية في محل نصب خبر (كان)، وجواب الشرط محذوف دل عليه ما قبله، التقدير: إن كنتم تعلمون فانفروا

إلخ.

{لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قاصِداً لاتَّبَعُوكَ وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَوِ اِسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (42)}

الشرح: {لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً} أي: لو كان ما تدعوهم إليه غنيمة سهلة، قريبة التناول، لا تعب فيها، ولا عناء، والعرض: ما عرض لك من منافع الدنيا، ومتاعها، وفي الحديث

ص: 155

الشريف: «الدنيا عرض حاضر، يأكل منه البرّ والفاجر» . وانظر الآية رقم [67] من سورة (الأنفال)، {وَسَفَراً قاصِداً} أي: قريبا سهلا. {لاتَّبَعُوكَ} : لخرجوا معك. {وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ} أي: المسافة التي تقطع بمشقة؛ لأنه يشق على الإنسان سلوكها. وقرئ بكسر العين والشين. وكانوا يستعظمون غزو الروم؛ لذا تخلفوا لهذا السبب. {وَسَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ} أي: لو كان لنا قدرة في البدن، وقدرة على الراحلة، والزاد؛ لخرجنا معكم، ولما تخلفنا عنكم، وهذا من المعجزات؛ لأنه إخبار عما وقع قبل وقوعه. {يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ} أي:

يوقعون أنفسهم في الهلاك بسبب الأيمان الكاذبة، وذلك دليل على أن الأيمان الكاذبة تهلك صاحبها؛ لأنها تؤدي به إلى النار. {وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ} أي: في أيمانهم، وقولهم:{لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ؛} لأنهم كانوا قادرين على الخروج.

تنبيه: نزلت الآية الكريمة في المنافقين الذين تخلفوا عن الخروج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك.

الإعراب: {لَوْ} : حرف لما كان سيقع لوقوع غيره. {كانَ} : ماض ناقص، واسمها محذوف انظر تقديره في الشرح. {عَرَضاً}: خبر {كانَ} . {قَرِيباً} : صفته، وجملة:{كانَ عَرَضاً قَرِيباً} لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي. {لاتَّبَعُوكَ} : اللام:

واقعة في جواب {لَوْ} . (اتبعوك): فعل وفاعل ومفعول به، والجملة الفعلية جواب:{لَوْ} .

لا محل لها. {وَلكِنْ} : الواو: حرف عطف. (لكن): حرف استدراك لا محل له. {بَعُدَتْ} :

ماض، والتاء للتأنيث. {عَلَيْهِمُ}: متعلقان بالفعل قبلهما. {الشُّقَّةُ} : فاعله، والجملة الفعلية معطوفة على جواب {لَوْ،} لا محل لها مثله، و {لَوْ} ومدخولها كلام مستأنف لا محل له.

{وَسَيَحْلِفُونَ} : الواو: حرف استئناف. (سيحلفون): فعل وفاعل والسين حرف استقبال لا محل له. {بِاللهِ} : متعلقان بالفعل قبلهما. {لَوْ} : مثل سابقه. {اِسْتَطَعْنا} : فعل وفاعل، والمفعول محذوف، تقديره: الخروج، وانظر إعراب:{وَجَعَلْنا} في الآية رقم [10](الأعراف)، وقل في الجملة ما رأيته في مثلها. {لَخَرَجْنا}: اللام: واقعة في جواب القسم. (خرجنا): فعل وفاعل.

{مَعَكُمْ} : ظرف مكان متعلق بالفعل قبله، والكاف في محل جر بالإضافة، وجملة:{لَخَرَجْنا مَعَكُمْ} جواب القسم لا محل له، وحذف جواب {لَوْ} على القاعدة:«إذا اجتمع شرط وقسم؛ فالجواب للسابق منهما» قال ابن مالك رحمه الله في ألفيته: [الرجز]

واحذف لدى اجتماع شرط وقسم

جواب ما أخّرت فهو ملتزم

{يُهْلِكُونَ} : فعل وفاعل. {أَنْفُسَهُمْ} : مفعول به، والهاء: في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية في محل نصب حال من واو الجماعة، والرابط: الضمير فقط، أو هي مستأنفة لا محل لها، هذا؛ وقيل: هي بدل من جملة: {وَسَيَحْلِفُونَ بِاللهِ} لأن الحلف الكاذب إهلاك للنفس،

ص: 156

وجملة: {وَسَيَحْلِفُونَ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها. {وَاللهُ} : مبتدأ. {يَعْلَمُ} : مضارع، والفاعل يعود إلى (الله)، وهو معلق عن العمل بسبب لام الابتداء الداخلة على خبر:(إن). {إِنَّهُمْ} :

حرف مشبه بالفعل، والهاء: اسمها. {لَكاذِبُونَ} : اللام: هي المزحلقة. (كاذبون): خبر (إن) مرفوع، وعلامة رفعه الواو.. الخ، والجملة الاسمية: {إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ

،} في محل نصب سدت مسد مفعولي {يَعْلَمُ} المعلق عن العمل لفظا؛ ولذا كسرت همزة (إن)، ولولا لام الابتداء لفتحت همزة (إن)، وتأولت مع اسمها وخبرها بمصدر في محل نصب سد مسد المفعولين، قال ابن مالك رحمه الله تعالى في ألفيته:[الرجز]

وكسروا من بعد فعل علّقا

باللاّم كاعلم إنّه لذو تقى

وجملة: {يَعْلَمُ..} . إلخ في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية:{وَاللهُ يَعْلَمُ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها.

{عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ (43)}

الشرح: {عَفَا اللهُ عَنْكَ} : هذا خطاب لسيد الخلق، وحبيب الحق صلى الله عليه وسلم، وهو متضمن عتابا من الله تعالى له في إذنه لمن أذن له في التخلف عن الخروج معه حين شخص إلى تبوك لغزو الروم، قال سفيان بن عيينة رحمه الله تعالى: انظروا إلى هذا اللطف بدأه بالعفو قبل أن يعيره بالذنب. {لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} أي: في التخلف. {حَتّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا} أي: في اعتذارهم. {وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ} أي: فيما يعتذرون به، قال ابن عباس-رضي الله عنهما: لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرف المنافقين يومئذ حتى نزلت براءة. {عَفَا} : انظر الآية رقم [95] من سورة (الأعراف). {لِمَ} : انظر الآية رقم [165] منها، هذا؛ ويقال: تبين الشيء وبان وأبان، واستبان كله بمعنى واحد، وهو لازم وقد يستعمل بعضها متعديا.

قال قتادة، وعمرو بن ميمون: ثنتان فعلهما النبي صلى الله عليه وسلم لم يؤمر بهما: إذنه لطائفة من المنافقين في التخلف عنه، وأخذه الفدية من الأسارى، فعاتبه الله كما تسمعون، وتقرءون.

تنبيه: استدل بهذه الآية من يرى جواز صدور الذنب من الأنبياء، وبيانه من وجهين:

أحدهما أنه سبحانه وتعالى قال {عَفَا اللهُ عَنْكَ} والعفو يستدعي سابقة الذنب، والوجه الثاني:

أنه سبحانه وتعالى قال: {لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} وهذا استفهام معناه الإنكار.

والجواب عن الأول: أنا لا نسلم: أن قوله تعالى: {عَفَا اللهُ عَنْكَ} يوجب صدور الذنب، بل نقول: إن ذلك يدل على المبالغة في التعظيم، والتوقير، فهم كما يقول الرجل لغيره

ص: 157

إذا كان معظما له: عفا الله عنك ما صنعت في أمري؟ رضي الله عنك، ما جوابك عن كلامي؟ وعافاك الله، وغفر لك، كل هذه الألفاظ في ابتداء الكلام وافتتاحه، تدل على تعظيم المخاطب به، وهو وارد في الشعر العربي.

والجواب عن الثاني: أنه لا يجوز أن يكون المراد بقوله: {لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} الإنكار عليه، وبيانه إما أن يكون قد صدر عنه ذنب في هذه الواقعة أو لا، فإن كان قد صدر عنه الذنب بعد العفو لا يليق، وإن لم يكن قد صدر عنه ذنب؛ امتنع الإنكار عليه، فثبت بهذا أن الإنكار يمتنع في حقه صلى الله عليه وسلم. انتهى. خازن بتصرف بسيط، وانظر الآية رقم [106] من سورة (النساء) تجد ما يسرك، ويثلج صدرك.

الإعراب: {عَفَا} : ماض مبني على فتح مقدر على الألف للتعذر. {اللهُ} : فاعله.

{عَنْكَ} : متعلقان بما قبلهما، والجملة الفعلية مستأنفة لا محل لها. {لِمَ} اللام: حرف جر، وما: اسم استفهام مبني على السكون في محل جر باللام، وحذفت ألفها بيانا للفرق بين الخبر، والاستخبار، والجار والمجرور متعلقان بالفعل بعدهما. {أَذِنْتَ}: فعل وفاعل. {لَهُمْ} :

متعلقان به، والجملة الفعلية مستأنفة لا محل لها. {حَتّى}: حرف غاية وجر. {يَتَبَيَّنَ} : مضارع منصوب ب «أن» مضمرة بعد {حَتّى} . {لَكَ} : متعلقان بما قبلهما. {الَّذِينَ} : اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع فاعل، وجملة {صَدَقُوا} مع المتعلق المحذوف صلة الموصول لا محل لها، و «أن» المضمرة والفعل المضارع في تأويل مصدر في محل جر ب {حَتّى،} والجار والمجرور متعلقان بفعل محذوف، التقدير: هلا تركتهم بلا إذن إلى أن يتبين، أي: إلى تبيين حالهم وشأنهم، ولا يجوز أن يتعلق {حَتّى..} . إلخ ب {أَذِنْتَ؛} لأن ذلك يوجب أن يكون أذن لهم إلى هذه الغاية، أو لأجل التبيين، وهذا لا يعاتب عليه. {وَتَعْلَمَ}: معطوف على {يَتَبَيَّنَ} منصوب مثله، والفاعل تقديره:«أنت» . {الْكاذِبِينَ} : مفعول به منصوب.. الخ، واكتفى الفعل بمفعول واحد؛ لأنه بمعنى: تعرف، انظر ما ذكرته في الآية رقم [61] من سورة (الأنفال).

تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم.

{لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (44)}

الشرح: {لا يَسْتَأْذِنُكَ..} . إلخ أي: ليس من عادة المؤمنين أن يستأذنوك في الخروج إلى الجهاد، فإن المؤمنين الصادقين يبادرون إليه، ولا يوقفونه على الإذن فيه، فضلا عن الاستئذان في التخلف عنه، وإنما استأذنك المنافقون كراهة للجهاد، وجبنا عنه، {وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ} أي: الذين يسارعون إلى أوامر الله وأوامر رسوله صلى الله عليه وسلم فيجازيهم على ذلك أحسن الجزاء، بعد

ص: 158

هذا انظر شرح: {وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} في الآية رقم [9]{أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ} انظر الآية رقم [42] وفيه تغليب الرجال على النساء؛ إذ ما من شك أن في النساء متقيات مهتديات، هذا شيء معلوم لا ينكره مسلم، وانظر العكس في الآية رقم [34].

الإعراب: {لا} : نافية. {يَسْتَأْذِنُكَ} : مضارع، والكاف: مفعول به. {الَّذِينَ} : اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع فاعل، وجملة:{يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} صلة الموصول لا محل لها، والمصدر المؤول من:{أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ} في محل جر بحرف جر محذوف، التقدير: في الجهاد

إلخ، والجار والمجرور متعلقان بالفعل:{لا يَسْتَأْذِنُكَ..} .

إلخ وقيل: المصدر المؤول في محل جر بالإضافة، والمضاف محذوف، التقدير: كراهة الجهاد، وهذا المحذوف مفعول لأجله؛ وعليه يتغير المعنى عن التقدير الأول، والجملة الفعلية:{لا يَسْتَأْذِنُكَ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها. {وَاللهُ} : مبتدأ. {عَلِيمٌ} : خبره. {بِالْمُتَّقِينَ} : جار ومجرور متعلقان ب {عَلِيمٌ،} وعلامة الجر الياء نيابة عن الكسرة؛ لأنه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، والجملة الاسمية:{وَاللهُ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها.

{إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَاِرْتابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (45)}

الشرح: بينت هذه الآية الكريمة: أن الذين استأذنوا الرسول صلى الله عليه وسلم في التخلف عن الخروج معه إلى غزوة تبوك: أنهم لا يؤمنون بالله واليوم الآخر، وأن في قلوبهم شكا ونفاقا، فهم متحيرون لا هم مع الكفار، ولا هم مع المؤمنين، كما قال تعالى:{مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ} وتخصيص الإيمان بالله واليوم الآخر في الذكر في هذه الآية الكريمة والتي قبلها للإشعار بأن الباعث على الجهاد، والوازع عنه، الإيمان، وعدم الإيمان بهما.

هذا؛ والريب: الشك، تقول: رابني هذا الأمر: أوقعني في شك، وحقيقة الريبة: قلق النفس، واضطرابها، قال الرسول صلى الله عليه وسلم:«دع ما يريبك إلى ما لا يريبك» . رواه الإمام ابن الإمام الحسن بن علي بن أبي طالب-رضي الله عنهما-وأرضاهما.

الإعراب: {إِنَّما} : كافة ومكفوفة. {يَسْتَأْذِنُكَ} : مضارع والكاف مفعول به. {الَّذِينَ} :

فاعل، وجملة:{لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} صلة الموصول لا محل لها. {وَارْتابَتْ} : ماض، والتاء للتأنيث. {قُلُوبُهُمْ}: فاعل، والهاء: في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية معطوفة على جملة الصلة لا محل لها مثلها، وإن اعتبرتها في محل نصب حال من واو الجماعة، فهي على تقدير (قد) قبلها. {فَهُمْ}: الفاء: حرف عطف. (هم): مبتدأ. {فِي رَيْبِهِمْ} : متعلقان بما بعدهما، والهاء: في محل جر بالإضافة، وجملة:{يَتَرَدَّدُونَ} في محل رفع خبر المبتدأ،

ص: 159

والجملة الاسمية: {فَهُمْ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها على الوجهين المعتبرين فيها، والجملة الفعلية:{إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ..} . إلخ ابتدائية، أو مستأنفة لا محل لها على الاعتبارين.

{وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلكِنْ كَرِهَ اللهُ اِنْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اُقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ (46)}

الشرح: {وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ} : إلى الجهاد والغزو معكم، {لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً}: لتهيئوا بإعداد آلات السفر، وآلات القتال، فتركهم الاستعداد دليل على إرادتهم التخلف. {وَلكِنْ كَرِهَ اللهُ انْبِعاثَهُمْ} أي: كره خروجهم معكم، إلى الغزو، وملاقاة العدو. {فَثَبَّطَهُمْ} أي: منعهم، وحبسهم عن الخروج معكم، وضعف رغبتهم في ذلك، والتثبيط: التوقيف عن الأمر، بالتزهيد فيه. {وَقِيلَ اقْعُدُوا} أي: قال بعضهم لبعض، أو قاله الرسول صلى الله عليه وسلم غضبا، أو قاله الشيطان لهم بالوسوسة. {مَعَ الْقاعِدِينَ} أي: مع أولي الضرر، والعميان، والزمنى، والنسوان، والصبيان.

الإعراب: {وَلَوْ} : (لو): حرف لما كان سيقع لوقوع غيره. {أَرادُوا} : فعل وفاعل، والألف للتفريق، {الْخُرُوجَ}: مفعول به، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي. {لَأَعَدُّوا} : اللام: واقعة في جواب (لو). (أعدوا): فعل وفاعل والألف للتفريق، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها جواب (لو). {لَهُ}: متعلقان بما قبلهما. {عُدَّةً} :

مفعول به، وليس مصدرا، و (لو) ومدخولها كلام مستأنف لا محل له، وجوز عطفه على الآية رقم [43]. {وَلكِنْ}: الواو: حرف عطف. (لكن): حرف استدراك مهمل لا عمل له. {كَرِهَ اللهُ} : فعل وفاعل، والجملة الفعلية معطوفة على مفهوم جملة:{أَرادُوا} إذ المعنى: ما أرادوا الخروج؛ لأن الله كره ذلك منهم. {اِنْبِعاثَهُمْ} : مفعول به، والهاء: في محل جر بالإضافة من إضافة المصدر لفاعله. {فَثَبَّطَهُمْ} : (ثبطهم): ماض ومفعوله، والفاعل يعود إلى الله، والجملة معطوفة على ما قبلها. {وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ} انظر الإعراب مثل هذا الكلام في الآية رقم [39] والجملة الفعلية:{وَقِيلَ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، أو هي مستأنفة لا محل لها.

{لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلاّ خَبالاً وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمّاعُونَ لَهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظّالِمِينَ (47)}

الشرح: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلاّ خَبالاً} أي: لو خرج هؤلاء المنافقون معكم إلى الغزو ما زادوكم إلا شرا وفسادا، وبث الفتن فيما بينكم، وتوهين معنوياتكم، وأصل الخبال:

اضطراب، ومرض يؤثر في العقل كالجنون، وأما الذي في قول النبي صلى الله عليه وسلم: «من قفا مؤمنا بما ليس

ص: 160

فيه وقفه الله في ردغة الخبال حتّى يجيء بالمخرج منه». فالمراد بالخبال: صديد أهل النار، والردغة: الطينة، وقفا قذف. {وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ} أي: لأسرعوا فيكم، وساروا بينكم بالنميمة، والأحاديث الكاذبة، والإيضاع: سرعة السير، من: وضع البعير وضعا: إذا أسرع، ففي الكلام استعارة تبعية تنبه لها. {يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ}: يطلبون لكم الشر والإفساد، وتوهين العزائم، وذلك بقولهم: لقد جمع لكم العدو كذا وكذا، ولا طاقة لكم بهم، وإنكم ستهزمون، أو تقتلون. {وَفِيكُمْ سَمّاعُونَ لَهُمْ} أي: من يسمع قولهم، ويؤثر فيهم ما يقولون لضعف إيمانهم، وخور عزيمتهم، وهذا قد يكون عمن لهم أقارب من المنافقين. {وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظّالِمِينَ}: هذا وعيد وتهديد للمنافقين؛ الذين يلقون الفتن والشبهات بين المؤمنين. بعد هذا انظر: (زاد) في الآية رقم [69](الأعراف).

و {سَمّاعُونَ} : صيغة مبالغة، فالأصل: سامعون، وانظر الآية رقم [44] من سورة (المائدة).

الإعراب: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ} : انظر الآية السابقة لإعراب مثله. {ما} : نافية. {زادُوكُمْ} : فعل وفاعل ومفعول به أول. {إِلاّ} : حرف حصر. {خَبالاً} : مفعول به ثان، وقيل: المفعول الثاني محذوف، تقديره: شيئا، أو قوة، ونحو ذلك؛ وعليه ف {خَبالاً} مستثنى ب {إِلاّ} فقيل: متصل، وقيل: منقطع، وجملة:{ما زادُوكُمْ..} . إلخ جواب (لو) لا محل لها، وجملة:{وَلَأَوْضَعُوا} معطوفة عليها، لا محل لها مثلها، واللام واقعة في جواب (لو) بسبب العطف. تأمل. {خِلالَكُمْ}: ظرف مكان متعلق بالفعل قبله، والكاف: في محل جر بالإضافة، والميم: حرف دال على جماعة الذكور.

{يَبْغُونَكُمُ} : فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والكاف: مفعول به أول، وهو في الأصل مجرور بحرف الجر بمحذوف، فلما حذف الجار، اتصل بالفعل، وانتصب به، على حد قوله تعالى:{وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3)} . {الْفِتْنَةَ} :

مفعول به ثان، والجملة الفعلية في محل نصب حال من واو الجماعة، التقدير: حال كونهم باغين لكم {الْفِتْنَةَ} . {وَفِيكُمْ} : الواو: واو الحال. (فيكم): متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {سَمّاعُونَ} :

مبتدأ مؤخر مرفوع، وعلامة رفعه الواو.. الخ. {لَهُمْ}: متعلقان به، والجملة الاسمية في محل نصب حال من واو الجماعة، أو من الكاف لوجود ضميرين فيها، وعلى الاعتبارين فهي حال متداخلة، وجوز اعتبارها مستأنفة أيضا. {وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظّالِمِينَ}: انظر إعراب مثلها في الآية رقم [45] إفراد وجملة، و (لو) ومدخولها كلام مستأنف لا محل له.

{لَقَدِ اِبْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتّى جاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ كارِهُونَ (48)}

الشرح: {لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ} أي: لقد أرادوا لك الشر والفساد، وتشتيت أمرك، وتفريق أصحابك عنك من قبل هذه الغزوة، وذلك كان يوم أحد، فإن ابن أبيّ لعنه الله رجع

ص: 161

بأصحابه من ثنيات الوداع بعد ما خرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لحرب قريش. {وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ} أي: دبروا لك المكايد، والحيل، ورددوا الآراء في إبطال أمرك، وتفريق أصحابك عنك، {حَتّى جاءَ الْحَقُّ} أي: التأييد والنصر الإلهي، {وَظَهَرَ أَمْرُ اللهِ}: علا دين الله وانتصر. {وَهُمْ كارِهُونَ} : لما منّ الله به عليك من النصر المظفر، والعزة والسيادة، ورفعة الشأن، وعلو القدر فدخلوا في الإسلام ظاهرا، هذا؛ وفي الآية وسابقتها كشف لأسرار المنافقين، وهتك لأسرارهم، وما فيهما وما يذكر في غيرهما هو الذي جعل سورة (التوبة) جديرة بأن تسمى بالأسماء التي رأيتها في أولها، هذا؛ والفتنة تطلق على الشر والفساد، وعلى الشرك، وعلى الاختبار والابتلاء والامتحان مما رأيته سابقا.

الإعراب: {لَقَدِ} : اللام: واقعة في جواب قسم محذوف، التقدير: والله، والجار والمجرور متعلقان بفعل محذوف، تقديره: أقسم، ويقال: اللام لام الابتداء. (قد): حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال. {اِبْتَغَوُا} : ماض مبني على فتح مقدر على الألف المحذوفة لالتقائها ساكنة مع واو الجماعة، والواو فاعله، والألف للتفريق. {الْفِتْنَةَ}: مفعول به. {مِنْ قَبْلُ} : متعلقان بالفعل قبلهما، وبني قبل على الضم لقطعه عن الإضافة لفظا لا معنى، وجملة:

{لَقَدِ ابْتَغَوُا..} . إلخ: لا محل لها على الوجهين المعتبرين في اللام، وجملة:{وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ} : معطوفة عليها، لا محل لها مثلها، {حَتّى}: حرف غاية وجر بعدها «أن» مضمرة تقديرا: {جاءَ الْحَقُّ} : فعل وفاعل، و «أن» المضمرة والفعل {جاءَ} في تأويل مصدر في محل جر ب {حَتّى،} والجار والمجرور متعلقان بفعل محذوف؛ إذ التقدير: واستمروا على تقليب الأمور. أي: على خبثهم ومكرهم إلى مجيء أمر الله، وجملة:{وَظَهَرَ أَمْرُ اللهِ} : معطوفة على ما قبلها، فهي داخلة في الغاية حكما، والجملة الاسمية:{وَهُمْ كارِهُونَ} : في محل نصب حال من واو الجماعة، والرابط: الواو، والضمير.

{وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ اِئْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ (49)}

الشرح: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي} أي: من المنافقين من يقول: ائذن لي في القعود عن الجهاد، والتخلف عن الخروج معك، {وَلا تَفْتِنِّي} أي: ولا توقعني في الفتنة، أي:

العصيان والمخالفة، وفيه إشعار بأنه متخلف لا محالة، أذن له، أم لم يؤذن، أو بالفتنة بنساء الروم، لما روي أن الجد بن قيس أخي بني سلمى قال للرسول صلى الله عليه وسلم، حين قال له:«يا جد هل لك في جلاد بني الأصفر تتخذ منهم سراري ووصفاء؟!» . فقال: يا رسول الله لقد عرف قومي:

أني رجل مغرم بحب النساء، وإني أخشى إن رأيت نساء بني الأصفر أن لا أصبر عنهن، ائذن لي

ص: 162

في القعود، ولا تفتني بهن، وأعينك بمالي، ولم يكن به علة إلا النفاق، فأذن له. {أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا} أي: في الإثم، والمعصية وقعوا، وهي النفاق، والتخلف عن النبي صلى الله عليه وسلم، وفي {سَقَطُوا} استعارة تبعية. {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ} أي: يوم القيامة تحيط بهم وتجمعهم فيها، وتحيط أيضا بالكافرات على مثال ما رأيت في الآية رقم [34] و [45]، وانظر إعلال {مُحِيطٌ} في الآية رقم [47]، الأنفال، وانظر {كَفَرُوا} في الآية رقم [66](الأعراف)، فقد اعتبر الله المنافقين كافرين، وانظر الآية رقم [63].

هذا؛ و {اِئْذَنْ} أمر من: أذن، يأذن، والأمر بهمزتين: همزة الوصل التي يتوصل بها إلى النطق بالساكن، والثانية هي فاء الفعل، ولا يجتمع همزتان، فإذا ابتدأت الكلام، قلت: ايذن بإبدال الثانية ياء لكسر ما قبلها، فإذا وصلت الكلام زالت العلة في الجمع بين همزتين، فتحذف همزة الوصل، وتعود الهمزة الأصلية، فتقول: ائذن، ومثل ذلك قل في إعلال: أتى، يأتي، ائت.

الإعراب: {وَمِنْهُمْ} : (منهم): جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {مَنْ} : اسم موصول أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل رفع مبتدأ مؤخر، هذا هو الإعراب الظاهر، والأصح: أن مضمون (منهم) مبتدأ، و {مَنْ} هي الخبر؛ لأن (من) الجارة دالة على التبعيض، أي: وبعض الناس، وجمع الضمير يؤيد ذلك، ولا استبعاد في وقوع الظرف بتأويل معناه مبتدأ، يرشدك إلى ذلك قوله تعالى:{مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ،} فعطف (أكثرهم) على {مِنْهُمْ} يؤيد أن معناه بعضهم، وخذ قول الحماسي:[الكامل]

منهم ليوث، لا ترام وبعضهم

ممّا قمشت، وضمّ حبل الحاطب

حيث قابل لفظة (منهم) بما هو مبتدأ، أعني لفظة (بعضهم) وهذا مما يدل على أن مضمون (منهم) مبتدأ، هذا؛ وليوث جمع ليث، وهو الأسد، (لا ترام): لا تقصد بشر، (قمشت):

جمعت من هنا وهناك، والمراد: رذالة الناس، والقمش: الرديء من كل شيء.

{يَقُولُ} : مضارع، والفاعل يعود إلى {مَنْ،} {اِئْذَنْ} : أمر، وفاعله:(أنت). {لِي} :

جار ومجرور متعلقان بما قبلهما، وجملة:{اِئْذَنْ لِي} : في محل نصب مقول القول، وجملة:

{يَقُولُ..} . إلخ: صلة {مَنْ،} أو صفتها، والعائد أو الرابط: رجوع الفاعل إليها. {يَقُولُ} :

الواو: حرف عطف. (لا): ناهية، {تَفْتِنِّي}: مضارع مجزوم ب (لا) الناهية، ونون الفعل الأصلية مدغمة في نون الوقاية، والفاعل مستتر تقديره:«أنت» ، وياء المتكلم في محل نصب مفعول به، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، فهي في محل نصب مقول القول مثلها، والجملة الاسمية:{وَمِنْهُمْ مَنْ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها. {أَلا} : حرف تنبيه واستفتاح يسترعي انتباه المخاطب لما يأتي بعده من كلام. {فِي الْفِتْنَةِ} : متعلقان بما بعدهما.

ص: 163

{سَقَطُوا} : فعل وفاعل، والألف للتفريق، والجملة الفعلية مستأنفة، أو ابتدائية لا محل لها.

{وَإِنَّ} : الواو: واو الحال. (إن): حرف مشبه بالفعل. {جَهَنَّمَ} : اسمها، {لَمُحِيطَةٌ}:

اللام: هي المزحلقة. (محيطة): خبر (إن). {بِالْكافِرِينَ} : متعلقان ب (محيطة)، والجملة الاسمية:{وَإِنَّ جَهَنَّمَ..} . إلخ في محل نصب حال من واو الجماعة، والرابط: الواو فقط.

{إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ (50)}

الشرح: {إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ} أي: إن يصبك يا محمد خير من نصر، وغنيمة؛ يحزن المنافقون، ويتمنون أن يكونوا معك في تلك الغزوة، {وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ}: من هزيمة وشدة، كما حصل في غزوة أحد. {يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا} أي: احتطنا لأنفسنا، وأخذنا بالأمر الحزم؛ حيث لم نخرج للقتال. {وَيَتَوَلَّوْا}: يعرضوا عن محدثهم، وهم مسرورون بذلك، أو يعرضوا عن الرسول صلى الله عليه وسلم، {وَهُمْ فَرِحُونَ} بما صنعوا من التخلف، وما أحراك أن تنظر الآية رقم [120] من سورة (آل عمران)، والآية رقم [72] النساء، فهما تشبهان هذه الآية، هذا؛ وقد قابل الله هنا الحسنة بالمصيبة، ولم يقابلها بالسيئة، كما في الآية رقم [120] آل عمران؛ لأن الخطاب هنا للنبي صلى الله عليه وسلم، وهي في حقه مصيبة يثاب عليها، لا سيئة يعاتب عليها، كما في آل عمران، فإنها خطاب للمؤمنين، وانظر القول في الآية رقم [5](الأعراف).

بعد هذا ف {تُصِبْكَ،} ماضيه: أصاب، وهو يحتمل معاني كثيرة، تقول: أصاب السهم يصيب، لم يخطئ هدفه، وأصاب الرجل في قوله، أو في رأيه يصيب: أتى بالصواب، وأصاب فلانا البلاء يصيبه: وقع عليه، وأصل يصيب: يؤصوب، أو يؤصيب، فقل في إعلاله: حذفت الهمزة للتخفيف حملا على المبدوء بهمزة المضارعة، مثل أؤصيب الذي حذفت همزته الثانية للتخلص من ثقل الهمزتين، فصار (يصوب، أو يصيب) ثم يقال: اجتمع معنا حرف صحيح ساكن، وحرف علة متحرك، والحرف الصحيح أولى بالحركة من حرف العلة، فنقلت حركة الياء، أو الواو، وهي الكسرة إلى الصاد قبلها بعد سلب سكونها، فصار (يصيب، أو يصوب) ثم قلبت الواو في الثاني ياء لانكسار ما قبلها، ولما دخل الجازم صار (تصيب) فحذفت الياء لالتقاء الساكنين، فصار {إِنْ تُصِبْكَ..} . إلخ وهذا الإعلال يجري في كل فعل ثلاثي مزيدة الهمزة في أوله للتعدية، مثل: أجاب، يجيب، وأكرم، يكرم، ونحو ذلك كما حذفت الهمزة الثانية من يؤمنون؛ لأن ماضيه آمن، وأصله: أأمن، والمضارع: يؤأمن، أؤمن، فتحذف من الأول، وتسهل في الثاني، وقد يجيء على القياس، وهو الأصل المهجور، كما في قول أبي حيان الفقعسي:[الرجز]

ص: 164

فإنه أهل لأن يؤكرما

ولا تنس أن الهمزة المزيدة هذه تحذف من اسمي الفاعل والمفعول المأخوذين من الفعل الثلاثي المزيدة فيه الهمزة، وذلك مثل: مكرم، ومكرم، ومصيبة، ومصاب، وقس على ذلك.

تنبه لهذا، واحفظه.

الإعراب: {إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ،} {وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا} : إعراب هاتين الجملتين مثل إعراب قوله تعالى: {إِلاّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ..} . إلخ في الآية رقم [40]، {قَدْ}:

حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال. {أَخَذْنا} : فعل وفاعل. {أَمْرَنا} : مفعول به، و (نا): في محل جر بالإضافة، وجملة:{قَدْ أَخَذْنا..} . إلخ في محل نصب مقول القول. {وَيَتَوَلَّوْا} :

(يتولوا): معطوف على جواب الشرط مجزوم مثله، وعلامة جزمه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والألف للتفريق، ويجوز في مثله النصب والرفع، انظر الآية رقم [283] من سورة (البقرة)، {مِنْ قَبْلُ}: متعلقان بما قبلهما، وانظر الآية رقم [49]، والجملة الاسمية:

{وَهُمْ فَرِحُونَ} : في محل نصب حال، من واو الجماعة، والرابط: الواو، والضمير.

{قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلاّ ما كَتَبَ اللهُ لَنا هُوَ مَوْلانا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51)}

الشرح: {لَنْ يُصِيبَنا إِلاّ ما كَتَبَ اللهُ لَنا} أي: قل يا محمد لهؤلاء الذين يفرحون بما يصيبك من مكروه: لن يصيبنا إلا ما قدره الله لنا، أو علينا، وسجله في اللوح المحفوظ؛ لأن القلم جف بما هو كائن إلى يوم القيامة، من خير وشر، فلا يقدر أحد أن يدفع عن نفسه مكروها نزل به، أو يجلب لنفسه نفعا، أراده لم يقدر له. {مَوْلانا}: المولى يطلق، ويراد: به الإله المعبود بحق، كما يطلق على السيد، والعبد، والحليف، وابن العم، والنصير، والصاحب، {وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} أي: فليعتمدوا عليه لا على غيره، فهو الذي يحفظهم، ويرد عنهم كيد أعدائهم، وانظر إعلال (يصيب) في الآية السابقة. {اللهُ}: انظر الآية رقم [1] من سورة (الأنفال).

الإعراب: {قُلْ} : أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» ، {لَنْ}: حرف نفي، ونصب واستقبال، {يُصِيبَنا}: مضارع منصوب ب {لَنْ،} و (نا): مفعول به، {إِلاّ}: حرف حصر.

{ما} : تحتمل الموصولة، والموصوفة، فهي مبنية على السكون في محل رفع فاعل، والجملة بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد أو الرابط: محذوف؛ إذ التقدير: إلا الذي، أو شيء كتبه الله لنا، من الخير، أو علينا من الشر. {هُوَ}: ضمير رفع منفصل مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ. {مَوْلانا} : خبره مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر، و (نا): في محل جر بالإضافة، والجملة الاسمية تعليل للكلام السابق لا محل لها. {وَعَلَى}: الواو: فيما أرى

ص: 165

زائدة. (على الله): متعلقان بالفعل بعدهما. {فَلْيَتَوَكَّلِ} : الفاء: حرف استئناف، أو هي الزائدة، والواو: عاطفة، اللام: لام الأمر. (يتوكل): مضارع مجزوم بلام الأمر، وحرك بالكسرة لالتقاء الساكنين. {الْمُؤْمِنُونَ}: فاعل مرفوع، وعلامة رفعه الواو.. الخ، والجملة الفعلية هذه مستأنفة لا محل لها، هذا؛ وقد قال أبو البقاء: دخلت الفاء لمعنى الشرط، والمعنى: إن فرحوا بتخلفهم، وشمتوا فيكم؛ فتوكلوا أنتم على الله، وإن اشتد الأمر؛ فتوكلوا، وعلى هذا فالواو ليست زائدة، وإنما هي عاطفة جملة شرطية على الكلام السابق، وتكون الفاء هي الفصيحة، ولا يخفى ما فيه من التكلف. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم.

{قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلاّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينا فَتَرَبَّصُوا إِنّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (52)}

الشرح: {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا} أي: قل يا محمد لهؤلاء المنافقين هل تنتظرون بنا أيها المنافقين، والتربص: الانتظار والترقب. {إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ} : إما النصر والغنيمة، وإما الشهادة والمغفرة، وهي الغاية القصوى التي يهدف إليها المؤمن ويرغب فيها، ويدل على ذلك ما جاء عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:«تكفّل الله-وفي رواية تضمّن الله-لمن خرج في سبيله، لا يخرج إلاّ جهادا في سبيلي، وإيمانا بي، وتصديقا برسلي، فهو عليّ ضامن، أن أدخله الجنّة، أو أرجعه إلى مسكنه الّذي خرج منه، نائلا ما نال من أجر، أو غنيمة» . أخرجاه في الصحيحين.

هذا؛ والحسنيين تثنية: الحسنى، وهي مؤنث الأحسن، والجمع: الحسن، والحسنيات، ولا يجوز النطق به إلا معرفا. {وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ} أي: ننتظر ونترقب بكم إحدى السوءين:

أولهما {أَنْ يُصِيبَكُمُ اللهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ} بأن يهلككم، كما أهلك من كان قبلكم من الأمم الخالية. {أَوْ بِأَيْدِينا}: الثانية بأن يسلطنا عليكم ويأذن لنا بقتالكم، {فَتَرَبَّصُوا}: وعيد، وتهديد، أي: انتظروا مواعيد الشيطان. {إِنّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ} : منتظرون مواعيد الله، بالنصر والظفر والعزة والسيادة، وقد حقق الله وعده، ونصر عبده، وأعز جنده، بعد هذا انظر إعلال (يصيب) في الآية رقم [51]، {بِعَذابٍ}: انظر الآية رقم [40]، {بِأَيْدِينا}: جمع يد، وانظر الآية رقم [108] من سورة (الأعراف)، وانظر {الْحُسْنى}: في الآية رقم [180] منها أيضا، و [110] من سورة (الإسراء).

الإعراب: {قُلْ} : أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» ، {هَلْ}: حرف استفهام إنكاري توبيخي، ومعناه النفي. {تَرَبَّصُونَ}: فعل وفاعل. {بِنا} : متعلقان بما قبلهما. {إِلاّ} :

حرف حصر، {إِحْدَى}: مفعول به منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على الألف للتعذر،

ص: 166

و {إِحْدَى} : مضاف، و {الْحُسْنَيَيْنِ}: مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الياء لأنه مثنى.. الخ، وجملة:{هَلْ تَرَبَّصُونَ..} . إلخ في محل نصب مقول القول، وجملة:{قُلْ هَلْ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها. {وَنَحْنُ} : الواو: واو الحال. (نحن): ضمير منفصل مبني على الضم في محل رفع مبتدأ، وجملة:{نَتَرَبَّصُ بِكُمْ..} . إلخ في محل رفع خبره، والمصدر المؤول من {أَنْ يُصِيبَكُمُ اللهُ بِعَذابٍ} في محل نصب مفعول به، التقدير: نتربص بكم إصابة الله لكم بعذاب، والجملة الاسمية (نحن.. الخ) في محل نصب حال من (نا) والرابط: الواو، والضمير. {مِنْ عِنْدِهِ}:

متعلقان {بِعَذابٍ،} أو بمحذوف صفة له، {أَوْ}: حرف عطف. {بِأَيْدِينا} : معطوفان على قوله {مِنْ عِنْدِهِ} والجر مقدر على الياء، و (الهاء) و (نا): كلاهما في محل جر بالإضافة.

{فَتَرَبَّصُوا} : الفاء: هي الفصيحة، وانظر الآية رقم [29]، (تربصوا): أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق، وانظر إعراب:{اُسْجُدُوا} في الآية رقم [11]، من سورة (الأعراف)، والمفعول محذوف، انظر الشرح، والجملة الفعلية لا محل لها على جميع الوجوه المعتبرة بالفاء. {إِنّا}: حرف مشبه بالفعل، و (نا): اسمها، وحذفت نونها للتخفيف، وبقيت الألف دليلا عليها. {مَعَكُمْ}: ظرف مكان متعلق بما بعده. والكاف: في محل جر بالإضافة. {مُتَرَبِّصُونَ} : خبر (إنّ) مرفوع، وعلامة رفعه الواو، وفاعله مستتر فيه، ومفعوله محذوف، انظر الشرح، والجملة الاسمية:{إِنّا..} . إلخ، تعليل للأمر، لا محل لها.

{قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فاسِقِينَ (53)}

الشرح: {قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً} أي: قل يا محمد لهؤلاء المنافقين أنفقوا طائعين من قبل أنفسكم، أو مكرهين بالإنفاق، بإلزام الله ورسوله إياكم بالإنفاق، فلن يقبل منكم ما تنفقونه، ونفي التقبل يحتمل أمرين: أن لا يؤخذ منهم، وأن لا يثابوا عليه، لأن هذا الإنفاق كان لغير وجه الله تعالى، {إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فاسِقِينَ}: هذا تعليل لعدم قبول نفقاتهم، وهذه الآية، وإن كانت خاصة في إنفاق المنافقين فهي تعم كل من أنفق ماله لغير وجه الله، بل أنفقه رياء وسمعة، انظر الآية رقم [263]، من سورة (البقرة)، ففيها الدواء الشافي، علما بأن الآية الكريمة متعلقة بالجد بن قيس المذكور في الآية رقم [50] وهي في معنى قوله تعالى:{اِسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ..} . إلخ.

بعد هذا انظر (القول) في الآية رقم [4](الأعراف)، و (نفق) في الآية رقم [3] الأنفال، وإعلال مثل:{كُنْتُمْ} في الآية رقم [11] من سورة (الأعراف)، و {قَوْماً} في الآية رقم [32] منها، و {فاسِقِينَ}: في الآية رقم [145] منها، ومعناه هنا:(كافرين)، وهو ما تبينه الآية التالية، وفيه تغليب الرجال على النساء كما رأيت في الآية رقم [34] و [45].

ص: 167

الإعراب: {قُلْ} : أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» ، {أَنْفِقُوا}: أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول، وجملة:{قُلْ أَنْفِقُوا} مستأنفة لا محل لها. {طَوْعاً} : صفة مفعول مطلق محذوف، أو هو حال على تأويله ب «طائعين» .

{أَوْ} : حرف عطف. {كَرْهاً} : معطوف على ما قبله. {لَنْ} : حرف نفي ونصب، ومعناه:

الحال لا الاستقبال هنا. {يُتَقَبَّلَ} : مضارع مبني للمجهول، ونائب الفاعل محذوف؛ إذ التقدير:

لن يتقبل منكم ما تنفقونه. {مِنْكُمْ} : جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، وجملة:{لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ} في محل نصب حال من واو الجماعة. والرابط: الضمير فقط. والتقدير: غير متقبل منكم إنفاقكم. {إِنَّكُمْ} : حرف مشبه بالفعل، والكاف: اسمها. {كُنْتُمْ} : ماض مبني على السكون، والتاء اسمه، والميم علامة جمع الذكور. {قَوْماً}: خبر كان. {فاسِقِينَ} : صفة:

{قَوْماً} منصوب، وعلامة نصبه الياء؛ لأنه جمع مذكر سالم، وجملة:{كُنْتُمْ قَوْماً فاسِقِينَ} في محل رفع خبر إن، والجملة الاسمية:{إِنَّكُمْ..} . إلخ تعليل لعدم القبول لا محل لها.

{وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلاّ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلاّ وَهُمْ كُسالى وَلا يُنْفِقُونَ إِلاّ وَهُمْ كارِهُونَ (54)}

الشرح: {وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ..} . إلخ: أي: إن المانع من قبول نفقاتهم، وعدم إثابتهم عليها، هو كفرهم بالله ورسوله، هذا؛ ويقرأ «(يقبل)» بالتاء والياء، وبالبناء للمجهول؛ لأن النفقات مؤنث مجازي، وأيضا فصل بينها وبين الفعل، كما قرئ:«(يقبل)» بالبناء للمعلوم، ونصب نفقاتهم، فيكون الفاعل عائدا إلى الله، {وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلاّ وَهُمْ كُسالى} أي: لا يأتون المسجد لأداء الصلاة إلا وهم كسالى متثاقلين، وإن كانوا في جماعة صلوا، وإن انفردوا في بيوتهم، أو غيرها لم يصلوا؛ لأنهم لا يرجون عليها ثوابا، ولا يخشون في تركها عقابا، وانظر الآية رقم [142] من سورة (النساء)، {وَلا يُنْفِقُونَ إِلاّ وَهُمْ كارِهُونَ}: وذلك لأنهم يعتقدون الإنفاق في سبيل الله مغرما، لا ثواب فيه، ومنعه مغنما، وانظر الصلاة والزكاة في الآية رقم [12].

تنبيه: أفادت الآية الكريمة وسابقتها أن أفعال الكافر إذا كانت برا، كصلة القرابة ونحوها، لا يثاب عليها، ولا ينتفع بها في الآخرة، بيد أنه يطعم بها في الدنيا، دليله ما رواه مسلم عن عائشة-رضي الله عنها، قالت قلت: يا رسول الله ابن جدعان كان في الجاهليّة يصل الرّحم، ويطعم المسكين، فهل ذلك نافعه؟ قال:«لا ينفعه، إنه لم يقل يوما: ربّ اغفر لي خطيئتي يوم الدّين» . وروي عن أنس رضي الله عنه، قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«إنّ الله لا يظلم مؤمنا حسنة يعطى بها في الدّنيا، ويجزى بها في الآخرة، وأما الكافر؛ فيطعم بحسنات ما عمل بها لله في الدنيا؛ حتّى إذا أفضى إلى الآخرة، لم يكن له حسنة يجزى بها» . وهذا نص، ثم قيل: هل

ص: 168

بحكم هذا الوعد الصادق، لا بد أن يطعم الكافر، ويعطى بحسناته في الدنيا، أو ذلك مقيد بمشيئة الله المذكورة في قوله تعالى:{عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ} وهذا هو الصحيح من القولين، والله أعلم.

وتسمية ما يصدر من الكافر حسنة إنما هو بحسب ظن الكافر، وإلا فلا يصح منه قربة، لعدم شرطها المصحح لها، وهو الإيمان، أو سميت حسنة؛ لأنها تشبه صورة حسنة المؤمن ظاهرا، قولان أيضا. انتهى قرطبي. وما أحراك أن تنظر سورة (النور) رقم [39] والفرقان رقم [23] وسورة (إبراهيم) عليه السلام [18].

أقول: ومعنى إطعام الكافر في الدنيا، إدرار الرزق عليه، ومده بالصحة والعافية، وسروره في هذه الدنيا، وراحة باله وهناءة عيشه وغير ذلك من نعيم الدنيا، وملذاتها، وانظر الآية رقم [15] من سورة (هود) عليه السلام تجد ما يسرك ويثلج صدرك.

الإعراب: {وَما} : (ما): نافية. {مَنَعَهُمْ} : ماض، والهاء: مفعول به، والمصدر المؤول من {أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ}: في محل نصب مفعول به ثان، أو هو في محل جر بحرف جر محذوف، التقدير: وما منعهم من قبول نفقاتهم. {إِلاّ} : حرف حصر. {أَنَّهُمْ} : حرف مشبه بالفعل، والهاء: اسمها، وجملة:{كَفَرُوا بِاللهِ وَبِرَسُولِهِ} في محل رفع خبر (أن)، و (أن) واسمها وخبرها في تأويل مصدر في محل رفع فاعل (منع) التقدير: إلا كفرهم، وعلى قراءة «(يقبل)» بالبناء للمعلوم، واعتبار الفاعل عائدا إلى الله فالمصدر المؤول في محل جر بحرف جر محذوف، التقدير: وما منعهم الله قبول نفقاتهم إلا لكفرهم بالله ورسوله. {وَلا} : الواو: حرف عطف. (لا): نافية. {يَأْتُونَ} : فعل وفاعل. {الصَّلاةَ} : مفعول به. والجملة الفعلية معطوفة على جملة: {كَفَرُوا} فهي في محل رفع مثلها. {إِلاّ} : حرف حصر. {وَهُمْ} : الواو: واو الحال. (هم): ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {كُسالى} : خبره مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر، والجملة الاسمية في محل نصب حال من واو الجماعة، والرابط: الواو، والضمير، وجملة:{وَلا يُنْفِقُونَ} مع المفعول المحذوف معطوفة على ما قبلها، فهي في محل رفع مثلها، والجملة الاسمية:{وَهُمْ كارِهُونَ} في محل نصب حال من واو الجماعة، والرابط: الواو، والضمير.

{فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ (55)}

الشرح: {فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ} أي: فلا تلتفت، ولا تنظر إلى ما نمدهم به من أموال، وبنين في هذه الدنيا، إنما هو استدراج لهم، والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، ويشمل كل مؤمن،

ص: 169

{إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها..} . إلخ أي: بسبب ما يكابدون لجمعها، وحفظها من المصاعب، وما يرون فيها من المشاق، والشدائد، والمتاعب، فإن كثرة الأولاد والمال؛ تسبب للإنسان كثرة الهموم والمتاعب، ويزداد الحزن والغم؛ بسبب المصائب الواقعة فيهما، وإنما خص الكافر والمنافق بذكر هذا التعذيب مع كونه يحصل للمؤمن شيء من ذلك؛ لأن الكافر، والمنافق لا يعتقدان أن الآخرة لهما، وأنها ليس فيها ثواب، بخلاف المؤمن، فهو يؤمن بالآخرة، والثواب فيها، كما يؤمن بالجزاء الذي وعده الله للصابرين على البلاء، والمصائب. و {وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ}: والمعنى: أنهم يموتون على الكفر، فيكون عذابهم في الآخرة أشد، وأقسى من عذاب الدنيا، والزهوق: الخروج بصعوبة، وفعله من باب فتح، وقد يأتي من باب فرح. بعد هذا انظر (العجب) في الآية رقم [63](الأعراف). وشرح الأموال في الآية رقم [28] الأنفال، {يُرِيدُ}: انظر إعلال مثله في الآية رقم [51] وشرحه في الآية رقم [89](الأعراف)، {الْحَياةِ الدُّنْيا}: انظر الآية رقم [29] من سورة (الأنعام).

الإعراب: {فَلا} : الفاء: حرف استئناف. (لا): ناهية. {تُعْجِبْكَ} : مضارع مجزوم بلا الناهية، والكاف: مفعول به. {أَمْوالُهُمْ} : فاعله. {وَلا} : الواو: حرف عطف. (لا):

معطوفة على ما قبلها، ومعناها النهي لا النفي. {أَوْلادُهُمْ}: معطوف على ما قبله، فهو داخل في الفاعلية، والهاء: فيهما في محل جر بالإضافة والميم: علامة جمع الذكور، والجملة الفعلية:{فَلا..} . إلخ مستأنفة لا محل لها. {إِنَّما} : كافة ومكفوفة. {يُرِيدُ اللهُ} : فعل وفاعل. {لِيُعَذِّبَهُمْ} : اللام: زائدة قائمة مقام «أن» ، ويقال:«أن» مضمرة بعدها، (يعذبهم):

مضارع منصوب ب «أن» المضمرة بعد اللام، والهاء: مفعول به. {بِها} : متعلقان بالفعل قبلهما. {فِي الْحَياةِ} : متعلقان بالفعل (يعذب) وقيل: متعلقان بالفعل {تُعْجِبْكَ} . {الدُّنْيا} :

صفة: {الْحَياةِ} مجرور، وعلامة جره كسرة مقدرة على الألف للتعذر، و «أن» المضمرة والفعل يعذب في تأويل مصدر في محل جر باللام لفظا، وهو في محل نصب مفعول به، وجملة:{إِنَّما يُرِيدُ..} . إلخ مفيدة للتعليل لا محل لها. {وَتَزْهَقَ} : معطوف على (يعذب) منصوب مثله. {أَنْفُسُهُمْ} : فاعله، والهاء: في محل جر بالإضافة، والجملة الاسمية:{وَهُمْ كافِرُونَ} في محل نصب حال من الضمير المجرور محلا بالإضافة، والرابط: الواو، والضمير.

{وَيَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَما هُمْ مِنْكُمْ وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (56)}

الشرح: {وَيَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ} : يقسم المنافقون بالله: إنهم من ملتكم، وإنهم مسلمون. {وَما هُمْ مِنْكُمْ}: نفي لإسلامهم، لكفر قلوبهم، وخبث نياتهم، {وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ}: يخافون منكم أن تظهروا على سرائرهم فتفعلوا بهم ما تفعلون بالمشركين، لذلك يتظاهرون بالإسلام تقية ووقاية من بطشكم بهم.

ص: 170

الإعراب: {وَيَحْلِفُونَ} : الواو: حرف استئناف، وجملة:{وَيَحْلِفُونَ بِاللهِ} مع جوابها مستأنفة لا محل لها. {إِنَّهُمْ} : حرف مشبه بالفعل، والهاء: اسمها. {لَمِنْكُمْ} : اللام: هي المزحلقة. (منكم): جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر (إنّ)، والجملة الاسمية:{إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ} : جواب القسم لا محل لها. {وَما} : الواو: واو الحال. (ما): نافية حجازية أو تميمية. {إِنَّهُمْ} : ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع اسم (ما)، على إعمالها أو في محل رفع مبتدأ على إهمالها. {لَمِنْكُمْ}: متعلقان بمحذوف في محل نصب خبر (ما)، أو في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية:{وَما هُمْ مِنْكُمْ} : في محل نصب حال من اسم (إنّ)، والرابط: الواو، والضمير، واعتبارها مستأنفة لا بأس به. {وَلكِنَّهُمْ}: الواو: حرف عطف.

(لكنهم): حرف مشبه بالفعل، والهاء: اسمها، {قَوْمٌ}: خبرها، وجملة:{يَفْرَقُونَ} مع المتعلق المحذوف في محل رفع صفة: {قَوْمٌ،} والجملة الاسمية: {وَلكِنَّهُمْ..} . إلخ معطوف على ما قبلها على الوجهين المعتبرين فيها.

{لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغاراتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (57)}

الشرح: {لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً} أي: لو يجد هؤلاء المنافقون حصنا يتحصنون به، ويلجئون إليه، {أَوْ مَغاراتٍ}: جمع مغارة وهي مكان يكون في جوف الأرض يختفي فيه من يريد الاستتار عن الأنظار، وانظر الغار في الآية رقم [41]، {مُدَّخَلاً}: نفقا ومدخلا تحت الأرض يختبئون فيه، الأصل فيه متدخل، وقيل: مدتخل، فأدغمت الدال في التاء، وقرئ: و «(مُدخَلا)» ، و «(مُدْخلا)» و «(مدّخّلا)» ، ففيه ستّ قراءات. {لَوَلَّوْا إِلَيْهِ} أي: لرجعوا إلى أحد المذكورات لو وجدوه، وتحرزوا به مع أن الثلاثة المذكورة شر الأمكنة، وأضيقها. {وَهُمْ يَجْمَحُونَ}: أي:

يسرعون إلى ذلك لا يردهم شيء، كالفرس الجموح الذي لا يلوي على شيء، وقرئ:

«(يجمزون)» من الجمز، وهو ضرب من السير أشد من العنق، وانظر إعلال «يجد» في الآية رقم [17] من سورة (الأعراف)، وإعلال (ولّوا) مثل إعلال (أتوا) في الآية رقم [138] منها.

الإعراب: {لَوْ} : حرف لما كان سيقع لوقوع غيره {يَجِدُونَ مَلْجَأً} فعل وفاعل ومفعول به، {مَغاراتٍ}: معطوف على ما قبله منصوب مثله، وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مؤنث سالم، {مُدَّخَلاً}: معطوف على ما قبله. {لَوَلَّوْا} : اللام: واقعة في جواب {لَوْ} . (ولوا): ماض مبني على فتح مقدر على الألف المحذوفة لالتقائها ساكنة مع واو الجماعة التي هي فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها جواب {لَوْ،} وجملة:

{يَجِدُونَ..} . إلخ لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي، و {لَوْ} ومدخولها كلام مستأنف لا محل له. {وَهُمْ}: والواو: واو الحال. (هم): ضمير منفصل مبني

ص: 171

على السكون في محل رفع مبتدأ، {يَجْمَحُونَ}: فعل وفاعل. والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية:{وَهُمْ يَجْمَحُونَ} في محل نصب حال من واو الجماعة، والرابط:

الواو، والضمير.

{وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ (58)}

الشرح: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ} أي: المنافقين من يعيبك في قسم الصدقات وتوزيعها، قال الجوهري: اللمز: العيب، وأصله: الإشارة بالعين، واللسان، ونحوهما، ورجل لمّاز ولمزة، أي: عياب، والهمز مثل اللمز، قال تعالى:{وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ،} و {يَلْمِزُكَ} قرئ بكسر الميم وضمها، كما قرئ:«(يلامزك)» ، {فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها} ما يريدون ويرغبون فيه.

{رَضُوا} أي: بتلك القسمة، {وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها} أي: ما يريدونه. {إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ} :

يغضبون، ويعيبون على النبي صلى الله عليه وسلم في قسمتها، هذا؛ وأصل {أُعْطُوا}: أعطيوا وأصل {رَضُوا} :

رضيوا. فقل في إعلالهما: استثقلت الضمة على الياء، فحذفت، ثم حذفت الياء لالتقائها ساكنة مع واو الجماعة، ثم قلبت كسرة الطاء والضاد ضمة لمناسبة الواو.

تنبيه: نزلت الآية الكريمة في ذي الخويصرة التميمي، واسمه حرقوص بن زهير، وهو أصل الخوارج، فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم مالا إذ جاءه ذو الخويصرة، فقال: يا رسول الله اعدل! فقال: «ويلك ومن يعدل إذا لم أعدل؟» . فقال عمر بن الخطاب-رضي الله عنه-دعني يا رسول الله أقتل هذا المنافق، فقال:«معاذ الله أن يتحدّث الناس: أنّي أقتل أصحابي، دعه فإنّ له أصحابا يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، إنّ هذا وأصحابه يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدّين كما يمرق السّهم من الرميّة» . وقال الكلبي: قال رجل من المنافقين، يقال له: أبو الجواظ: لم تقسم بالسوية، فنزلت هذه الآية.

الإعراب: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ} : انظر إعراب مثل هذا الكلام في الآية رقم [50]، {فَإِنْ}: الفاء: حرف استئناف. (إن): حرف شرط جازم. {أُعْطُوا} : ماض مبني للمجهول، مبني على الضم في محل جزم فعل الشرط، والواو: نائب فاعله، وهو المفعول الأول، والمفعول الثاني محذوف، تقديره: قسما: {مِنْها} : متعلقان بهذا المحذوف، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي. {رَضُوا} : ماض مبني على الضم في محل جزم جواب الشرط، والواو: فاعله، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها جملة جواب الشرط، ولم تقترن بالفاء، ولا ب {إِذا} الفجائية، و (إن) ومدخولها كلام مستأنف لا محل

ص: 172

له {وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها} مثل إعراب سابقه. {إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ} : انظر إعراب هذه الجملة في الآية رقم [107] من سورة (الأعراف). وإذا الفجائية هنا قائمة مقام فاء الجزاء في الربط على حد قول ابن مالك رحمه الله تعالى في ألفيته: [الرجز]

وتخلف الفاء إذا المفاجأة

كإن تجد إذا لنا مكافأة

فإن الأصل في الآية. (فهم يسخطون)، وإن الشرطية ومدخولها كلام معطوف على ما قبله لا محل له مثله، بعد هذا انظر ما ذكرته في {وَإِنْ لَمْ} في الآية رقم [23] من سورة (الأعراف) فإنه جيد. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم.

{وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ سَيُؤْتِينَا اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنّا إِلَى اللهِ راغِبُونَ (59)}

الشرح: {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ} : ولو أن المنافقين الذين عابوا عليك قسمتك الأموال رضوا بما قسم لهم الرسول صلى الله عليه وسلم، وأعطاهم من الغنيمة، وذكر الله للتعظيم، والتنبيه على أن ما فعله الرسول عليه الصلاة والسلام، كان بأمره تعالى. {وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ}:

كافينا الله. {سَيُؤْتِينَا اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ} أي: سيعطينا الرسول صلى الله عليه وسلم بأمره تعالى من غنيمة أخرى أكثر مما أعطانا في هذه الغزوة، {إِنّا إِلَى اللهِ راغِبُونَ} أي: طامعون في جوده، وكرمه في أن يوسع علينا عن الصدقة، وعن غيرها من أموال الناس.

{حَسْبُنَا} : حسب: اسم ملازم للإضافة ك «قبل» و «بعد» ونحوهما، وتقطع هذه الأسماء عن الإضافة لفظا دون معنى، فتبنى على الضم، نحو قوله تعالى:{لِلّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ} ونحو قبضت عشرة فحسب، أي: فحسبي ذلك، وهي بمعنى اسم الفاعل (كاف)، وتقع صفة للنكرة في حال الإضافة وعدمها، كمررت برجل حسبك من رجل، ورأيت رجلا حسب، وحالا من معرفة، كهذا عبد الله حسبك من رجل، ورأيت رجلا حسب، ومبتدأ، فتستعمل استعمال الأسماء الجامدة، نحو {حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ} وقبضت عشرة فحسب، أي: فحسبي ذلك.

الإعراب: {وَلَوْ} : الواو: حرف استئناف. (لو): حرف لما كان سيقع لوقوع غيره.

{أَنَّهُمْ} : حرف مشبه بالفعل، والهاء: اسمها. {رَضُوا} : فعل وفاعل، والألف للتفريق.

{ما} : اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل نصب مفعول به، والجملة بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد أو الرابط: محذوف؛ إذ التقدير: (آتاهم الله ورسوله إياه)، فهو المفعول الثاني كما ترى، وجملة:{رَضُوا..} . إلخ في محل رفع خبر (أنّ)، و (أنّ) واسمها وخبرها في تأويل مصدر في محل رفع فاعل لفعل محذوف، هو شرط (لو) عند المبرد، التقدير:

ص: 173

ولو حصل رضاهم، أو ثبت، ونحوه، وقال سيبويه: هو في محل رفع بالابتداء، والخبر محذوف، والتقدير: ولو رضاهم ثابت أو حاصل، وقول المبرد هو المرجح؛ لأن «لو» لا يليها إلا فعل ظاهر، أو مقدر، والفعل المقدر، وفاعله المؤول جملة فعلية لا محل لها من الإعراب؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي، وجواب (لو) محذوف، التقدير: لكان خيرا لهم. {حَسْبُنَا} : مبتدأ، و (نا): في محل جر بالإضافة. {اللهُ} : خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول، وجملة:{وَقالُوا..} . إلخ معطوفة على جملة: {رَضُوا..} .

إلخ فهي في محل رفع مثلها. {سَيُؤْتِينَا} : السين: حرف استقبال. (يؤتينا): مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل، و (نا): مفعول به أول. {اللهُ} : فاعله. {مِنْ فَضْلِهِ} : متعلقان بالفعل قبلهما، والهاء: في محل جر بالإضافة. {وَرَسُولُهُ} : معطوف على {اللهُ،} والمفعول الثاني محذوف، انظر الشرح، وجملة:{سَيُؤْتِينَا..} . إلخ في محل نصب مقول القول. {إِنّا} : حرف مشبه بالفعل، و (نا): اسمها. {إِلَى اللهِ} : متعلقان بما بعدهما.

{راغِبُونَ..} . خبر (إنّ) مرفوع، وعلامة رفعه الواو؛ لأنه جمع مذكر سالم

إلخ. والجملة الاسمية: {إِنّا..} . إلخ في محل نصب مقول القول، وقال الجمل: هاتان الجملتان {سَيُؤْتِينَا..} . إلخ كالشرح لقوله: {حَسْبُنَا اللهُ} فلذلك لم يتعاطفا؛ لأنهما كالشيء الواحد، فشدة الاتصال منعت العطف. انتهى. عن كرخي، ويعود فحواه إلى مقول القول، كما ذكرته.

{إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60)}

الشرح: أعلم أن المنافقين لما عابوا النبي صلى الله عليه وسلم في قسم الصدقات؛ بين الله عز وجل في هذه الآية: أن المستحقين للصدقات هؤلاء الأصناف الثمانية، ومصرفها إليهم، ولا تعلق لرسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء منها، ولم يأخذ لنفسه منها شيئا، فعن زياد بن الحارث الصدائي قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايعته، فأتاه رجل فقال: أعطني من الصّدقة، فقال له:«إنّ الله لم يرض بحكم نبيّ، ولا غيره في الصّدقات، حتى حكم فيها هو، فجزّأها ثمانية أجزاء، فإن كنت من تلك الأجزاء أعطيتك حقّك» . أخرجه أبو داود. انتهى. خازن بتصرف.

بعد هذا المراد بالصدقات: الزكوات الواجبة في جميع الأموال على اختلاف أنواعها، كما هو مبين في الفقه الإسلامي.

{لِلْفُقَراءِ} : جمع فقير، وأصله في اللغة: الذي انكسر فقار ظهره، ثم أطلق على المعدم؛ الذي لا يجد حاجته من المال؛ لأنه يشبه الذي انبتّ ظهره، وعدم الحول والقوة، وهو أسوأ

ص: 174

حالا من المسكين عندنا معاشر الشافعية، ويدل عليه قوله تعالى:{أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ..} . إلخ فسماهم مساكين مع كونهم يملكون سفينة يتجرون فيها، وينقلون بضائع للناس من صقع إلى صقع، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يسأل المسكنة، ويتعوذ بالله من الفقر، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«اللهمّ أحيني مسكينا، وأمتني مسكينا، واحشرني في زمرة المساكين يوم القيامة» . رواه الترمذي، فلو كان المسكين أسوأ حالا من الفقير، لما تعوذ من الفقر، وسأل المسكنة.

{وَالْعامِلِينَ عَلَيْها} : هم السعاة الذين يتولون جباية الصدقات، وقبضها من أهلها، ووضعها في جهتها، فيعطون من مال الزكاة بقدر أجورهم، سواء أكانوا فقراء، أم أغنياء، ولا يجوز أن يكونوا من بني هاشم، ولا من بني المطلب.

{وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ} : هم قوم أسلموا، ونيتهم ضعيفة، لم يرسخ الإيمان في قلوبهم، وقد أعطى الرسول صلى الله عليه وسلم من غنائم هوازن: عيينة بن حصن الفزاري، والأقرع بن حابس التميمي، والعباس بن مرداس السلمي، فقد أعطاهم صلى الله عليه وسلم لتقوى رغبتهم في الإسلام، ومن المؤلفة قوم أسلموا ونيتهم قوية في الإسلام، وهم أشراف في أقوامهم، مثل: عدي بن حاتم الطائي، والزبرقان بن بدر، فأعطاهم صلى الله عليه وسلم، تألفا لقومهم، وترغيبا لأمثالهم في الإسلام.

{وَفِي الرِّقابِ} أي: وفي فك الرقاب، ويكون بأمور: بمعاونة المكاتبين على تحرير أنفسهم من الرق، وهذا لا وجود له اليوم، وقيل: بشراء العبيد وإعتاقهم، ويكون بفك الأسرى من يد الكفار، وهذا لا ينعدم في كل زمان ومكان.

{وَالْغارِمِينَ} : جمع غارم، وهم قسمان: قسم ادّانوا لأنفسهم في غير معصية، فيعطون بقدر ديونهم إذا لم يجدوا وفاء، وقسم ادّانوا في المعروف، وإصلاح ذات البين، كأن تحمل أحدهم دية قتيل، أو قتلى لتسكين الفتنة، وقطع دابر الشر، فيعطون من مال الصدقات ما يقضي ديونهم، وإن كانوا أغنياء، أما من كان دينه في معصية فلا يعطى من الصدقات شيئا.

{وَفِي سَبِيلِ اللهِ} أي: وفي النفقة في سبيل الله، والمراد به: الغزاة، فلهم سهم من مال الصدقات، فيعطون إذا أرادوا الخروج إلى الغزو ما يستعينون به على أمر الجهاد. وإن كانوا أغنياء، وأجاز بعض الفقهاء صرف سهم سبيل الله إلى جميع وجوه الخير، من تكفين الموتى، وبناء الجسور والحصون، وعمارة المساجد، وغير ذلك، والقول الأول هو المعتمد لإجماع الجمهور عليه.

{وَابْنِ السَّبِيلِ} أي: المسافر من بلد يعطى من مال الصدقات ما يكفيه لمئونة سفره حتى يصل بلده، وهذا إذا لم يكن معه مال يوصله إلى مقصده، وإن كان له مال كثير في بلده، وانظر شرح (سبيل) في الآية رقم [142](الأعراف).

ص: 175

{فَرِيضَةً مِنَ اللهِ} أي: هذه الأحكام المذكورة في هذه الآية فريضة واجبة من الله، أو المعنى فرض الله هذه الأشياء فريضة، {وَاللهُ عَلِيمٌ} أي: بمصالح عباده. {حَكِيمٌ} : فيما فرض لهم، لا يدخل في تدبيره وحكمه نقض ولا خلل.

تنبيه: يجب أن تفهم أن لجر الأصناف الأربعة الأول باللام، وجر الأربعة الأخر ب (في) فرقا، وتفسيره بأن اللام تفيد الملك، فنصيب الأول يسلم إليهم، وهم أحرار فيه يفعلون فيه ما يشاءون، وأما نصيب القسم الثاني فيجب أن يوضع في الجهة التي استحق الصنف بها هذا السهم، فنصيب الرقاب يجب أن يصرف في فك رقابهم، وتحريرها من الرق، ونصيب الغارمين يجب أن يصرف في وفاء ديونهم، ونصيب الجهاد، والغزاة يجب أن يشترى به ما يحتاجون إليه من أهبة الحرب، ونصيب ابن السبيل يجب أن يصرف في أجرة سفره، وما يحتاجه من طعام وغيره في هذا السفر؛ وهذا يعني أنهم لا يسلمون نصيبهم إلا إذا صرفوه في الجهة التي استحقوا بها هذا المال، والله أعلم بمراده وأسرار كتابه.

الإعراب: {إِنَّمَا} : كافة ومكفوفة. {الصَّدَقاتُ} : مبتدأ. {لِلْفُقَراءِ} : متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ. {وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ} : معطوفان على الفقراء، فهما مجروران مثله، وعلامة الجر فيهما الياء نيابة عن الكسرة.. الخ. {عَلَيْها}: متعلقان بالعاملين؛ لأنه جمع عامل، فهو اسم فاعل. لذا ففيه ضمير مستتر هو فاعله، {وَالْمُؤَلَّفَةِ}: معطوف على ما قبله. {قُلُوبُهُمْ} : نائب فاعله، وقيل: هو فاعل، وهذا على اعتبار فعله لازما. {وَفِي الرِّقابِ}: معطوفان على {لِلْفُقَراءِ} . {وَالْغارِمِينَ} : معطوف على ما قبله مجرور مثله

إلخ. {وَفِي سَبِيلِ} :

معطوفة على {وَفِي الرِّقابِ،} و {سَبِيلِ} مضاف، و {اللهِ}: مضاف إليه. {وَابْنِ} : معطوف على ما قبله، و (ابن) مضاف، و {السَّبِيلِ}: مضاف إليه. {فَرِيضَةً} : مفعول مطلق عامله محذوف، انظر تقديره في الشرح، وعلى قراءته بالرفع فهو خبر لمبتدإ محذوف. انظر التقدير في الشرح.

{مِنَ اللهِ} : متعلقان ب {فَرِيضَةً،} أو بمحذوف صفة لها. {وَاللهُ} : مبتدأ. {عَلِيمٌ} : خبر أول. {حَكِيمٌ} : خبر ثان، والجملة الاسمية معترضة في آخر الكلام لا محل لها.

{وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (61)}

الشرح: {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ} أي: من المنافقين جماعة يؤذون النبي صلى الله عليه وسلم، ويعيبونه، ويقولون ما لا ينبغي، فقال بعضهم: لا تفعلوا، فإنا نخاف أن يبلغه ذلك،

ص: 176

فيقع بنا، وينتقم منا، فقال الجلاس بن سويد، وهو من المنافقين، بل نقول: ما شئنا، ثم نأتيه، وننكر ما قلنا، ونحلف، فيصدقنا بما نقول، فإنما محمد أذن، يسمع كل ما يقال له، ويقبله، وقيل: إن قائل ذلك يقال له نبتل بن الحارث، وكان مشوه الخلقة، وقد قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم:«من أحبّ أن ينظر إلى الشّيطان، فلينظر إلى نبتل بن الحارث» . {قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ} أي: هو أذن خير، لا أذن شر، أي: يسمع الخير، لا يسمع الشر، فالمراد بالأذن صاحبها، فعبر بالجزء عن الكل، كما سمي الجاسوس عينا، وقرئ بضم الذال وسكونها، كما قرئ برفع «(أذنٌ)» وتنوينه وعدمه. {يُؤْمِنُ بِاللهِ}: يصدق بوجوده، ويعترف بربوبيته. {وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ}: ويصدق المؤمنين، ويطمئن لعلمه بإيمانهم، وصلاح نياتهم وضمائرهم. {وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ} أي:

وهو رحمة للمؤمنين حيث يقبل الظاهر منهم، ولا يكشف سرائرهم. {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللهِ} أي: بقول أو بفعل. {لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ} أي: في جهنم، وبئس المصير، هذا؛ و {أُذُنٌ} يستوي فيه المفرد والمثنى والجمع والمذكر والمؤنث. وانظر شرح {النَّبِيَّ} في الآية رقم [1] الأنفال، وانظر (القول) في الآية رقم [5](الأعراف). وانظر الإيمان في الآية رقم [21] منها، {عَذابٌ أَلِيمٌ}: انظر الآية رقم [40] وقرئ (رحمة) بالرفع والنصب والجر.

الإعراب: {وَمِنْهُمُ} : الواو: حرف استئناف. (منهم): جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {الَّذِينَ} : اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ مؤخر. وانظر الآية رقم [50]، وجملة:{يُؤْذُونَ النَّبِيَّ} : صلة الموصول لا محل لها. (يقولون): مضارع مرفوع.. الخ. والواو:

فاعله، والجملة الاسمية:{هُوَ أُذُنٌ} في محل نصب مقول القول، وجملة:{وَيَقُولُونَ..} . إلخ معطوفة على جملة الصلة لا محل لها مثلها، والجملة الاسمية:{وَمِنْهُمُ الَّذِينَ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها. {قُلْ} : أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» . {أُذُنٌ} : خبر مبتدأ محذوف، التقدير:

هو أذن. وهو مضاف، و {خَيْرٍ}: مضاف إليه، هذا؛ وعلى قراءة التنوين، ورفع (خير) فهو صفة {أُذُنٌ}. {لَكُمْ}: متعلقان ب: {خَيْرٍ} أو بمحذوف صفة له، وجملة:{يُؤْمِنُ بِاللهِ} في محل رفع صفة: {أُذُنٌ،} أو في محل نصب حال منه بعد وصفه، أو بعد إضافته، وقال الجمل: هي تفسير ل {أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ،} وجملة: {وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ} معطوفة على ما قبلها، واللام: زائدة في المفعول به، لتفرق بين (يؤمن) بمعنى: يصدق، و (يؤمن) بمعنى: يثبت الأمان، {وَرَحْمَةٌ}: بالرفع عطفا على {أُذُنٌ،} وبالجر على {خَيْرٍ،} وبالنصب، على أنه مفعول لأجله، عامله دل عليه {أُذُنُ خَيْرٍ} أي: يأذن لكم رحمة. {لِلَّذِينَ} : متعلقان ب (رحمة)، أو بمحذوف صفتها، وجملة:

{آمَنُوا} صلة الموصول، {مِنْكُمْ}: متعلقان بمحذوف حال من واو الجماعة. {وَالَّذِينَ} : الواو:

حرف استئناف. (الذين): اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ، وجملة:{يُؤْذُونَ رَسُولَ اللهِ} صلة الموصول لا محل لها. {لَهُمْ} : جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {عَذابٌ} :

ص: 177

مبتدأ مؤخر. {أَلِيمٌ} : صفته، والجملة الاسمية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية:

{وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها.

{يَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كانُوا مُؤْمِنِينَ (62)}

الشرح: {يَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ} : الضمير مراد به النبي صلى الله عليه وسلم، وجمع معه الصحابة تشريفا، وتكريما لهم. {وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ}: اختلفوا في معنى الضمير إلى ماذا يعود، فقيل: الضمير عائد على (الله) تعالى؛ لأن رضا الله في رضا رسوله صلى الله عليه وسلم، والمعنى: والله ورسوله أحق أن يرضوه بالتوبة والإخلاص، وقيل: معناه: والله أحق أن يرضوه، وكذلك رسوله، ومذهب سيبويه أن التقدير: والله أحق أن يرضوه، ورسوله أحق أن يرضوه، فحذف الثاني لدلالة الأول عليه، وقيل غير ذلك، ومذهب سيبويه أولى بالاعتبار معنى وإعرابا، وانظر الآية رقم [18] من سورة (المائدة). {إِنْ كانُوا مُؤْمِنِينَ}: حقا وصدقا فليرضوا الله ورسوله.

تنبيه: قال قتادة والسدي: اجتمع ناس من المنافقين، فيهم الجلاس بن سويد، ووديعة بن ثابت، فيهم غلام من الأنصار، يدعى عامر بن قيس، فحقروه، ثم تكلموا، فقالوا: إن كان ما يقول محمد حقّا لنحن شرّ من الحمير، فغضب الغلام، وقال: والله إنما يقول حق، وأنتم شر من الحمير، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم، وأخبره بمقالهم، فدعاهم، وسألهم، فأنكروا. وحلفوا أن عامرا كاذب، وحلف عامر: أنهم كذبة، فصدقهم النبي صلى الله عليه وسلم، فجعل عامر يدعو، ويقول: اللهم لا تفرق بيننا حتى يتبين صدق الصادق، وكذب الكاذب، فأنزل الله الآية الكريمة.

وقال مقاتل والكلبي: نزلت في رهط من المنافقين تخلفوا عن غزوة تبوك، فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم أتوه يعتذرون، ويحلفون، فأنزل الله هذه الآية.

الإعراب: {يَحْلِفُونَ} : فعل وفاعل. {بِاللهِ} : متعلقان بما قبلهما. {لَكُمْ} : متعلقان بما قبلهما. {لِيُرْضُوكُمْ} : مضارع منصوب ب «أن» مضمرة بعد لام التعليل، وعلامة نصبه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو: فاعله، والكاف: مفعول به، و «أن» المضمرة والفعل المضارع في تأويل مصدر في محل جر باللام، والجار والمجرور متعلقان بفعل محذوف، تقديره: فعلوا ذلك لإرضائكم، وهذه الجملة جواب {يَحْلِفُونَ} لا محل لها، وقيل: اللام واقعة في جواب القسم، وكسرت لما لم يؤكد الفعل بالنون، وهذا القول عزاه ابن هشام في مغنيه لأبي الحسن الأخفش، وقال: وافقه أبو علي الفارسي على ذلك، وقد أورد الآية الكريمة، والآية رقم [113] من سورة (الأنعام)، تأييدا للشاهد [379]، من كتابنا:«فتح القريب المجيب» ،

ص: 178

وجملة: {يَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ..} . إلخ مع جوابها كلام مستأنف لا محل له. {وَاللهُ} : الواو: واو الحال. (الله): مبتدأ. ورسوله: مبتدأ ثان، والهاء: في محل جر بالإضافة. {أَحَقُّ} : خبر عن الأول، وخبر الثاني يدل عليه لدلالة الأول عليه، أو هو خبر عن الثاني، وخبر الأول محذوف لدلالة خبر الثاني محذوف، وقيل: هو خبر عن الاسمين، ويكون إفراد الضمير في {يُرْضُوهُ} للإيذان بأن رضا النبي صلى الله عليه وسلم مندرج تحت رضاه سبحانه وتعالى، وإرضاؤه عليه الصلاة والسلام إرضاء له تعالى، {أَنْ يُرْضُوهُ} إعراب هذا؛ وتأويله وتعليقه مثل {أَنْ تَخْشَوْهُ} في الآية رقم [14] بلا فارق، والجملة الاسمية:{وَاللهُ وَرَسُولُهُ..} . إلخ في محل نصب حال من واو الجماعة، والرابط: الواو، والضمير. {أَنْ}: حرف شرط جازم، {كانُوا}: ماض ناقص مبني على الضم في محل جزم فعل الشرط، والواو: اسمه، والألف للتفريق، {مُؤْمِنِينَ}: خبره منصوب، وعلامة نصبه الياء نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، وجملة:{كانُوا..} . إلخ لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي، وجواب الشرط محذوف، التقدير: إن كانوا.. فليرضوهما، و {أَنْ} ومدخولها كلام معترض في آخر الكلام، لا محل له. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم.

{أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِداً فِيها ذلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (63)}

الشرح: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللهَ وَرَسُولَهُ..} . إلخ. أي: ألم يعلم المنافقون أن الحال والشأن من يخالف ويعاند، ويخاصم الله ورسوله فإنه يستحق الخلود في نار جهنم، والخلود في جهنم أعظم خزي، وأكبر نكال، وهو الفضيحة الكبرى، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم. هذا؛ وقرئ {يَعْلَمُوا} بالياء والتاء، و {يُحادِدِ}: فعل مضاعف يجوز فيه الفك والإدغام عربية، ولكن لم يذكر له قراءة بالإدغام، والخلود: طول المكث، وعدم الخروج، والله أعلم بمراده وأسرار كتابه.

الإعراب: {أَلَمْ} : الهمزة حرف استفهام وتقرير وتوبيخ هنا. (لم): حرف نفي وقلب وجزم، {يَعْلَمُوا}: مضارع مجزوم ب (لم)، وعلامة جزمه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والألف للتفريق، {أَنَّهُ}: حرف مشبه بالفعل، والهاء: ضمير الحال والشأن اسمها.

{مَنْ} : اسم شرط جازم مبني على السكون في محل رفع مبتدأ، {يُحادِدِ}: مضارع فعل الشرط، والفاعل مستتر يعود إلى من تقديره:«هو» . {اللهَ} : منصوب على التعظيم، (رسوله): معطوف على ما قبله، والهاء: في محل جر بالإضافة، {فَأَنَّ}: الفاء: واقعة في جواب الشرط، (أن):

حرف مشبه بالفعل. {اللهَ} : متعلقان بمحذوف خبر (أنّ) تقدم على اسمها. {نارَ} : اسمها

ص: 179

مؤخر، وهو مضاف، و {جَهَنَّمَ}: مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الفتحة نيابة عن الكسرة؛ لأنه ممنوع من الصرف للعلمية، والعجمية، {خالِداً}: حال من الضمير المجرور باللام، وفاعله مستتر فيه. {فِيها}: متعلقان ب {خالِداً،} و (أنّ) واسمها وخبرها في تأويل مصدر في محل رفع مبتدأ، والخبر محذوف، فالخلود في جهنم ثابت لهم، أو في رفع خبر لمبتدإ محذوف، التقدير:

فالواجب خلودهم في جهنم، هذا؛ وقرئ بكسر همزة «(إنّ)» فتكون الجملة الاسمية تامة، ولا تحتاج إلى تقدير محذوف، وعلى الوجهين: فالجملة الاسمية في محل جزم جواب الشرط، وخبر المبتدأ الذي هو من مختلف فيه كما رأيت في الآية رقم [24]، والجملة الاسمية في محل رفع خبر (أنّ)، و (أنّ) واسمها وخبرها في تأويل مصدر في محل نصب سد مسد مفعولي الفعل {يَعْلَمُوا} والجملة الفعلية:{أَلَمْ يَعْلَمُوا..} . إلخ مستأنفة لا محل لها، هذا الإعراب هو الذي أعتمده، وهناك أقوال وتأويلات، وتكلفات لا وجه لها أعرضت عنها، {ذلِكَ}: اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع مبتدأ، واللام: للبعد، والكاف: حرف خطاب لا محل لها. {الْخِزْيُ} :

خبر المبتدأ. {الْعَظِيمُ} : صفته، والجملة الاسمية مستأنفة لا محل لها.

{يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اِسْتَهْزِؤُا إِنَّ اللهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ (64)}

الشرح: {يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ} : يخافون ويخشون. {أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ} أي: على المؤمنين.

{تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ} : تخبر المؤمنين بما في قلوب المنافقين، فتهتك أستارهم، وتكشف نواياتهم الخبيثة، ولذا سميت هذه السورة: الفاضحة، والمخزية، والمبعثرة، والمثيرة، كما رأيت في أولها، ويجوز أن تكون الضمائر كلها عائدة على المنافقين، فإن النازل فيهم كالنازل عليهم، من حيث إنه مقروء، ومحتج به عليهم، وقيل: إن الكلام خبر في معنى الأمر، أي: ليحذر المنافقون، وقال السدي: قال بعض المنافقين: والله وددت لو أني قدمت، فجلدت مائة، ولا ينزل فينا شيء يفضحنا، فنزلت الآية الكريمة. {قُلِ اسْتَهْزِؤُا}: أمر تهديد ووعيد، كقوله تعالى:{اِعْمَلُوا ما شِئْتُمْ،} {إِنَّ اللهَ مُخْرِجٌ} : مظهر للناس {ما تَحْذَرُونَ} : ما تخافون ظهوره وبروزه.

بعد هذا ف {الْمُنافِقُونَ} جمع: منافق، وقد سمي المنافق منافقا، أخذا من نافقاء اليربوع، وهو حجره الذي يقيم فيه، فإنه يجعل له بابين، يدخل من أحدهما، ويخرج من الآخر، فكذلك المنافق يدخل مع المؤمنين بقوله: أنا مؤمن، ويدخل مع الكفار بقوله: أنا كافر. انتهى جمل.

هذا؛ وقد يتصف مؤمن بصفات المنافقين، فيكذب، ويخلف الوعد، ويخون في الأمانة، ويفجر في الخصومة، وما أكثرهم في هذا الزمن، فهذا يقال له: نفاق العمل، وأما الأول فيقال له:

نفاق العقيدة؛ لأنه يظهر الإسلام ويبطن الكفر، وهو أخبث من الكفر، وعقابه أشد منه، قال

ص: 180

تعالى: {إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النّارِ} وقد حذر الرسول صلى الله عليه وسلم من نفاق العمل، والاتصاف به؛ لأنه قد يجر إلى نفاق العقيدة، فقال:«آية المنافق ثلاث: إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان» . وغير ذلك كثير. {تُنَبِّئُهُمْ} : انظر الآية رقم [101](الأعراف).

{اِسْتَهْزِؤُا} : الاستهزاء بالشيء السخرية منه، والاستخفاف به، وهو مذموم، وصاحبه مطرود من رحمة الله تعالى، وانظر ما تفيده سورة (الحجرات)؛ إن كنت من أهل القرآن، وانظر عدد المنافقين والمنافقات في الآية رقم [68] الآتية.

{سُورَةٌ} : هي الطائفة من القرآن، التي أقلها ثلاث آيات، منقولة من سور المدينة؛ لأنها محيطة بطائفة من القرآن، محتوية على أنواع من العلم، احتواه سور المدينة على ما فيها، أو من السّورة، وهي الرتبة؛ لأن السّور كالمراتب والمنازل، يرتقي فيها القارئ، ولها مراتب في الطول والقصر، والفضل والشرف، وثواب القراءة، قال النابغة في مدح النعمان بن المنذر:[الطويل]

ألم تر أنّ الله أعطاك سورة؟

ترى كلّ ملك دونها يتذبذب

والحكمة في تفصيل القرآن، وتقطيعه سورا كثيرة، منها: أن الجنس إذا انطوت تحته أنواع، واشتمل على أصناف كان أحسن من أن يكون بيانا واحدا، ومنها: أن القارئ إذا ختم سورة، ثم أخذ في أخرى كان أنشط له، وأبعث على القراءة منه لو استمر على القرآن بطوله؛ ومن ثم جزأ القرآن أسباعا وأجزاء وعشورا، وأخماسا، ومنها: أن الحافظ إذا حفظ سورة؛ اعتقد أنه أخذ من كتاب الله طائفة مستقلة بنفسها، لها فاتحة وخاتمة فيعظم عنده ما حفظه، ويجل في نفسه، ومنه حديث أنس رضي الله عنه (كان الرجل إذا قرأ البقرة وآل عمران جلّ فينا) أي: عظم، ولذا أنزل الله التوراة، والإنجيل، والزبور، وسائر ما أوحاه إلى أنبيائه مسورة، مترجمة السور، وبوب المصنفون في كل فن من كتبهم، أبوابا موشحة الصدور بالتراجم. انتهى. نسفي في غير هذه السورة بتصرف كبير مني.

الإعراب: {يَحْذَرُ} : مضارع. {الْمُنافِقُونَ} : فاعل مرفوع، وعلامة رفعه الواو

إلخ.

{أَنْ} : حرف مصدري ونصب، {تُنَزَّلَ}: مضارع مبني للمجهول منصوب ب {أَنْ،} {عَلَيْهِمْ} : متعلقان بما قبلهما. {سُورَةٌ} : نائب فاعل، والمصدر المؤول من {أَنْ تُنَزَّلَ} في محل نصب مفعول به. وقيل: في محل جر بحرف جر محذوف، التقدير: من تنزيل سورة، والأول أقوى؛ لأن {يَحْذَرُ} متعد، {تُنَبِّئُهُمْ}: مضارع والفاعل يعود إلى سورة، والهاء:

مفعول به. {بِما} : متعلقان بما قبلهما، وهما في محل نصب مفعوله الثاني، و (ما) تحتمل الموصولة، والموصوفة، فهي مبنية على السكون في محل جر بالباء. {فِي قُلُوبِهِمْ}: متعلقان بمحذوف صلة ما، أو بمحذوف صفتها، والتقدير: بالذي استقر في قلوبهم، أو بشيء كائن في قلوبهم، وجملة:{تُنَبِّئُهُمْ..} . إلخ في محل رفع صفة {سُورَةٌ،} وجملة: {يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ..} .

ص: 181

إلخ مستأنفة لا محل لها. {قُلِ} : أمر وفاعله: (أنت). {اِسْتَهْزِؤُا} : أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول، وجملة:

{قُلِ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها. {أَنْ} : حرف مشبه بالفعل. {اللهَ} : اسمها. {مُخْرِجٌ} :

خبره، وفاعله مستتر فيه، تقديره:«هو» . {بِما} : موصولة، أو موصوفة، فهي مبنية على السكون في محل نصب مفعول به ل {مُخْرِجٌ} . والجملة الفعلية بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف؛ إذ التقدير: مخرج الذي، أو شيئا تحذرونه، والجملة الاسمية:{إِنَّ اللهَ..} .

إلخ تعليل للأمر، لا محل لها من الإعراب. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم.

{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ (65)}

الشرح: روي: أن ركب المنافقين مروا على رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، فقالوا: انظروا إلى هذا الرجل، يريد أن يفتح قصور الشام وحصونه، هيهات هيهات، فأطلع الله نبيه على قولهم هذا، فدعاهم، فقال:«قلتم كذا، وكذا» فقالوا: لا والله! ما كنا في شيء من أمرك، وأمر أصحابك، ولكن كنا في شيء، مما يخوض فيه الركب، ليقصر بعضنا على بعض السفر.

قال القاضي أبو بكر بن العربي: لا يخلو أن يكون ما قالوه من ذلك جدا، أو هزلا، وهو كيفما كان كفر، فإن الهزل بالكفر كفر؛ لا خلاف فيه بين الأئمة، فإن التحقيق أخو العلم، والحق، والهزل أخو الباطل والجهل. انتهى. قرطبي. هذا؛ وأصل الخوض: الدخول في الماء، ثم استعمل في كل دخول فيه ضر وأذى للناس على طريق الاستعارة التبعية.

وفي الآية توبيخ وتقريع للمنافقين، وإنكار عليهم، والمعنى: كيف تقدمون على إيقاع الاستهزاء بالله؟! يعني: بفرائض الله وحدوده، وأحكامه، والمراد بآيات الله كتابه، وبرسوله محمد صلى الله عليه وسلم، وانظر الاستهزاء في الآية السابقة.

الإعراب: {وَلَئِنْ} : الواو: حرف استئناف، اللام: موطئة لقسم محذوف، (إن): حرف شرط جازم، {سَأَلْتَهُمْ}: ماض مبني على السكون في محل جزم فعل الشرط، والتاء فاعله، والهاء مفعول به، والمتعلق محذوف، التقدير: عن استهزائهم، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي، {لَيَقُولُنَّ}: اللام: واقعة في جواب القسم المحذوف، (يقولن): مضارع مرفوع، وعلامة رفعه النون المحذوفة لتوالي الأمثال، وواو الجماعة المحذوفة المدلول عليها بالضمة في محل رفع فاعل، والنون: للتوكيد حرف لا محل له، والجملة الفعلية جواب القسم لا محل لها، وجواب الشرط محذوف لدلالة جواب القسم

ص: 182

عليه، انظر ما ذكرته في الآية رقم [43]، {إِنَّما}: كافة ومكفوفة، {كُنّا}: ماض ناقص مبني على السكون، و (نا): اسمه، وجملة:{نَخُوضُ} في محل نصب خبر كان، وجملة:{وَنَلْعَبُ} :

معطوفة على ما قبلها، والجملة {إِنَّما كُنّا..} . إلخ في محل نصب مقول القول، والكلام و {وَلَئِنْ..}. إلخ كله مستأنف لا محل له. {قُلْ}: أمر، وفاعله أنت. {أَبِاللهِ}: الهمزة: حرف استفهام وتوبيخ وتقريع. (بالله): متعلقان بالفعل {تَسْتَهْزِؤُنَ} . {وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ} : معطوفان على ما قبلهما، والهاء في محل جر بالإضافة. {كُنْتُمْ}: ماض ناقص مبني على السكون، والتاء: اسمها، وجملة:{تَسْتَهْزِؤُنَ} في محل نصب خبر كان، وجملة:{أَبِاللهِ..} . إلخ في محل نصب مقول القول، وجملة:{قُلْ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها.

{لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طائِفَةً بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ (66)}

الشرح: {لا تَعْتَذِرُوا} أي: عن الاستهزاء الذي حصل منكم، والاعتذار: التنصل من الذنب، والاعتذار يمحو الموجدة من قلب الإنسان. {قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ}: قد ظهر كفركم بسبب إيذاء الرسول صلى الله عليه وسلم والطعن فيه، بعد أن أظهرتم الإيمان. ونطقتم بكلمة الإسلام. {إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ}: بسبب توبتهم وإخلاصهم، أو لتجنبهم الإيذاء والاستهزاء، {نُعَذِّبْ طائِفَةً بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ}: مصرين على النفاق، والإيذاء والاستهزاء، وقرئ:(نعف) و (نعذب) بالنون، والياء، هذا؛ و {طائِفَةٍ} الجماعة من الناس، لا واحد لها من لفظها، مثل فريق ورهط وجماعة، وجمعها طوائف، هذا؛ وقد أطلق لفظ {طائِفَةٍ} هنا على الواحد، وعلى الاثنين؛ لأن مجموع الطائفتين كانوا ثلاثة.

قال محمد بن إسحاق: الذي عفي عنه، أي: وهو الطائفة الأولى، رجل واحد، وهو مخاشن، وقيل: مخشي، وقيل: جحيش بن حميّر الأشجعي، يقال: هو الذي كان يضحك ولا يخوض، وكان يمشي مجانبا للآخرين، أي: الطائفة الثانية، وكان ينكر بعض ما يسمع، فلما نزلت هذه الآية تاب من نفاقه، وقال: اللهم إني لا أزال أسمع آية تقرأ، تقشعر منها الجلود، وتخفق منها القلوب، اللهم اجعل وفاتي قتلا في سبيلك، لا يقول أحد: أنا غسلت، أنا كفنت، أنا دفنت، فأصيب يوم اليمامة، فلم يعرف أحد من المسلمين مصرعه.

الإعراب: {لا} : ناهية. {تَعْتَذِرُوا} : مضارع مجزوم ب {لا} الناهية، وعلامة جزمه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة والواو فاعله، والألف للتفريق، وجملة:{قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ} تعليل للنهي لا محل لها، وهو أقوى من اعتبارها حالا، {إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طائِفَةً}: إعراب هذه الجملة واضح إن شاء الله، وانظر إعراب مثلها في الآية رقم [40]

ص: 183

والفاعل على قراءة النون مستتر تقديره: «نحن» ، وعلى قراءة الفعلين بالياء فالفاعل مستتر تقديره:«هو» يعود إلى الله، ويقرأ «(يعف)» بالبناء للمجهول، فيكون {عَنْ طائِفَةٍ} متعلقان بمحذوف نائب فاعل، {مِنْكُمْ}: متعلقان بمحذوف صفة طائفة {بِأَنَّهُمْ..} . إلخ. {بِأَنَّهُمْ} :

الباء: حرف جر. (أنهم): حرف مشبه بالفعل، والهاء: اسمها، وجملة:{كانُوا مُجْرِمِينَ} :

في محل رفع خبر (أنّ)، و (أنّ) واسمها وخبرها في تأويل مصدر في محل جر بالباء، والجار والمجرور متعلقان بالفعل {نُعَذِّبْ،} وجملة: {لا تَعْتَذِرُوا..} . إلخ مستأنفة لا محل لها.

{الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ (67)}

الشرح: {الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ} : انظر الآية رقم [65]، {بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ} أي: إنهم على أمر واحد، ودين واحد، مجتمعون على الشر، والأعمال الخبيثة، كما يقول الإنسان لغيره: أنا منك، وأنت مني. هذا؛ وكان المنافقون ثلاثمائة، والمنافقات مائة، وذكر المنافقات إشارة لكثرة النفاق فيهم، حتى عمّ نساءهم. انتهى. جمل. {يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ}: يأمرون بالكفر، والمعاصي، ومخالفة الرسول صلى الله عليه وسلم، {وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ}: عن الإيمان بالله، وتصديق الرسول الكريم، وعن الطاعة والإحسان. {وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ} أي: يمسكون عن إنفاق الأموال في الجهاد، وجميع وجوه الخير، وقبض اليد كناية عن الشح والبخل، وانظر الآية رقم [72] لشرح المنكر والمعروف، وشرح (اليد) في الآية رقم [108] (الأعراف). {نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ} أي: أغفلوا ذكر الله، وتركوا طاعته فتركهم من فضله ولطفه، وقال الخازن: معناه أنهم تركوا أمره حتى صاروا بمنزلة الناسين له، فجازاهم بأن صيرهم بمنزلة المنسي من ثوابه، ورحمته، فخرج على مزاوجة الكلام، فهو كقوله تعالى:{وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها} أقول: ومثل هذا يسمى في فن البلاغة مشاكله، انظر الآية رقم [142] النساء، ورقم [30] (الأنفال). وانظر إعلال مثل {نَسُوا} في الآية رقم [59]. هذا؛ والنسيان: مصدر نسيت الشيء، أنساه، وهو مشترك بين معنيين: أحدهما ترك الشيء عن ذهول وغفلة، والثاني: الترك عن تعمد وقصد، وعليه ما هنا، أي: قصد المنافقون ترك ذكر الله، ومن الأول قوله تعالى حكاية عن قول فتى موسى عليه الصلاة والسلام:{وَما أَنْسانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ} . {إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ} أي: الخارجون عن طاعة الله تعالى، وطاعة رسوله، وانظر الآية رقم [145] من سورة (الأعراف).

الإعراب: {الْمُنافِقُونَ} : مبتدأ مرفوع

إلخ، {وَالْمُنافِقاتُ}: معطوف على ما قبله.

{بَعْضُهُمْ} : مبتدأ، والهاء: في محل جر بالإضافة {مِنْ بَعْضٍ} : متعلقان بمحذوف خبر

ص: 184

المبتدأ، والجملة الاسمية في محل رفع خبر الأول، والجملة الاسمية:{الْمُنافِقُونَ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها، هذا؛ وقول بعضهم: إن {بَعْضُهُمْ} بدل مما قبله، و {مِنْ بَعْضٍ}:

متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ {الْمُنافِقُونَ} لا وجه له. {يَأْمُرُونَ} : مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون، والواو: فاعله، {بِالْمُنْكَرِ}: متعلقان به، والجملة الفعلية:{يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ} : مستأنفة لا محل أو هي في محل رفع خبر ثالث، أو هي في محل نصب حال من الضمير المجرور محلاّ بالإضافة، والرابط الضمير فقط، وما بعدها معطوف عليها. على جميع الوجوه المعتبرة فيها. {نَسُوا}: ماض مبني على الضم، والواو فاعله، والألف للتفريق، وانظر إعراب:{قالُوا} : في الآية رقم [5](الأعراف)، {اللهَ}: منصوب على التعظيم، والجملة الفعلية مستأنفة لا محل لها، وإن اعتبرتها في محل نصب حال من واو الجماعة؛ ف «قد» قبلها مقدرة، والرابط: الضمير فقط، وجملة:{فَنَسِيَهُمْ} : معطوفة عليها. {إِنَّ} : حرف مشبه بالفعل. {الْمُنْفِقِينَ} : اسمها منصوب، وعلامة نصبه الياء

إلخ. {بَعْضُهُمْ} : ضمير رفع منفصل مبني على السكون مبتدأ. {الْفاسِقُونَ} : خبره مرفوع

إلخ، والجملة الاسمية في محل رفع خبر {إِنَّ،} هذا؛ وإن اعتبرت {بَعْضُهُمْ} ضمير فصل لا محل له ف {الْفاسِقُونَ} خبر {إِنَّ،} والجملة الاسمية: {إِنَّ الْمُنافِقِينَ..} . إلخ تعليلية لا محل لها.

{وَعَدَ اللهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْكُفّارَ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللهُ وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ (68)}

الشرح: {وَعَدَ اللهُ الْمُنافِقِينَ..} . إلخ: انظر {وَعَدَ} في الآية رقم [44] من سورة (الأعراف)، {الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ}: انظر الآية رقم [65] والآية السابقة. والخلود في نار جهنم: طول المكث وعدم الخروج. {حَسْبُهُمْ} : انظر الآية رقم [60]، {وَلَعَنَهُمُ}: انظر الآية رقم [43] من سورة (الأعراف)، تجد ما يسرك، {عَذابٌ}: انظر الآية رقم [40]، و {مُقِيمٌ}: أصله (مؤقوم) لأنه من أقام، وهو أجوف واوي، فقل في إعلاله: اجتمع معنا حرف صحيح ساكن، وحرف علة متحرك، والحرف الصحيح أولى بالحركة من حرف العلة، فنقلت حركة الواو إلى القاف بعد سلب سكونها، ثم قلبت الواو لمناسبة الكسرة، وأما حذف الهمزة، فانظر ما ذكرته في الآية رقم [51] هذا؛ وقوله تعالى:{خالِدِينَ فِيها} بمعنى {وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ} قالوا في الثاني: إنه نوع آخر من العذاب المقيم سوى الصلي بالنار، ثم يأتي إشكال آخر، وهو قوله:{هِيَ حَسْبُهُمْ} : وذلك يمنع ضم شيء آخر إلى عذاب النار، وأجيب عنه بأن معناه: هي حسبهم في الإيلام، ولا يمتنع حصول نوع آخر من العذاب من غير جنس

ص: 185

النار كالزمهرير، ولسع العقارب، وأكل الضريع، والزقوم، وشرب الحميم، والصديد، وغير ذلك، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

تنبيه: قدم الله ذكر المنافقين والمنافقات على الكفار، ومثله في الآية الأخيرة من سورة (الأحزاب) ليبين لنا: أن النفاق أخبث من الكفر، وعذاب المنافقين أشد من عذاب الكفار، قال تعالى:{إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً} الآية رقم [145] من سورة (النساء)، وشرحها جيد.

الإعراب: {وَعَدَ اللهُ} : فعل وفاعل. {الْمُنْفِقِينَ} : مفعول به أول منصوب، وعلامة نصبه الياء

إلخ. {وَالْمُنافِقاتِ} : معطوف على ما قبله منصوب مثله، وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة

إلخ. {وَالْكُفّارَ} : معطوف على ما قبله. {نارَ} : مفعول به ثان، و {نارَ}:

مضاف، و {جَهَنَّمَ}: مضاف إليه

إلخ. {خالِدِينَ} : حال ممن تقدم، والعامل محذوف؛ إذ التقدير: يصلونها خالدين، فهو منصوب، وعلامة نصبه الياء

إلخ. وفاعله مستتر فيه، {فِيها}: متعلقان ب {خالِدِينَ،} وجملة: {وَعَدَ اللهُ..} . إلخ: مستأنفة لا محل لها، والجملة الاسمية:{هِيَ حَسْبُهُمْ} معترضة بين الجملتين المتعاطفتين، وهي جملة:{وَعَدَ اللهُ..} . إلخ، وجملة:{وَلَعَنَهُمُ اللهُ} والجملة الاسمية: {وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ} مستأنفة لا محل لها.

{كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوالاً وَأَوْلاداً فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اِسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (69)}

الشرح: {كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} أي: حالكم وشأنكم أيها المنافقون كحال من سبقكم من الأمم في الأفعال السابقة، هي الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف، وقبض الأيدي، وعدم الإنفاق في وجوه الخير. {كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً} أي: في الأبدان، وذلك كقوم هود وقوم صالح، وغيرهما، وانظر شرح:{أَمْوالاً} في الآية رقم [28] الأنفال، والآية رقم [56]، {فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ}: تمتعوا، وتلذذوا بنصيبهم، وحظهم الذي منحوه في هذه الدنيا، وهو كثرة الأموال، والأولاد، {فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا..}. إلخ: أي: تمتعتم وتلذذتم بنصيبكم من الدنيا تمتعا كائنا مثل تمتع من سبقكم من الأمم بنصيبهم. {وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا} أي:

وخضتم في الباطل، والكفر، والضلال، والعناد خوضا كائنا مثل خوض الذين كانوا قبلكم.

وذكرت لك في الآية رقم [65] أن {نَخُوضُ} استعارة تبعية بالفعل، هذا؛ وقد قيل: إن (الذي)

ص: 186

حرف مصدري، ولذا قدر الجلال الكلام:(كخوضهم) وهو مذهب ضعيف لبعض النحاة لا يعتد به، والصواب: أنه موصول اسمي مراد به الجمع، حذفت نونه تخفيفا، والدليل على ذلك جمع الضمير العائد عليه، ومثله:{الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً} في الآية رقم [17] البقرة، ومثله في الآيتين قول الأشهب ابن زميلة النهشلي، وهو الشاهد رقم (346)، من كتابنا:«فتح القريب المجيب» : [الطويل]

وإنّ الّذي حانت بفلج دماؤهم

هم القوم كلّ القوم يا أمّ خالد

{أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ} : انظر الآية رقم [18] والآية رقم [55] تجد ما يسرك، وينبغي أن تعلم: أن الإشارة للمنافقين، ولمن شبهوا بهم من الكفار. {وَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ}: انظر هذا الخسران في الآية رقم [148] من سورة (الأعراف) فإنه جيد.

بعد هذا ينبغي أن تعلم أن قوله تعالى: {كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} بعد التكلم في الغيبة في الآيتين السابقتين التفافا من الغيبة إلى الخطاب، وما أحراك أن تنظر الالتفات في الآية رقم [6] من سورة (الأنعام)، وفي الآية التالية التفات من الخطاب إلى الغيبة.

الإعراب: {كَالَّذِينَ} : جار ومجرور متعلقان بمحذوف في محل رفع خبر لمبتدإ محذوف، التقدير: أنتم كالذين، أو هما متعلقان بمحذوف صفة لمصدر محذوف واقع مفعولا مطلقا، التقدير: وعدكم وعدا كائنا مثل وعد الذين. {مِنْ قَبْلِكُمْ} : متعلقان بمحذوف صلة الموصول.

{كانُوا} : ماض ناقص، مبني على الضم، والواو: اسمه والألف للتفريق، {أَشَدَّ}: خبر كان، {مِنْكُمْ}: متعلقان ب {أَشَدَّ} . {قُوَّةً} : تمييز. {وَأَكْثَرَ} : معطوف على {أَشَدَّ،} {أَمْوالاً} : تمييز، {وَأَوْلاداً}: معطوف على ما قبله، وجملة:{كانُوا..} . إلخ في محل نصب حال من الضمير المستتر في متعلق {مِنْ قَبْلِكُمْ} وهي على تقدير (قد) قبلها. {فَاسْتَمْتَعُوا} :

الفاء: حرف عطف. (استمتعوا): فعل وفاعل. {بِخَلاقِهِمْ} : متعلقان بما قبلهما، والهاء: في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية معطوفة على جملة:{كانُوا..} . إلخ فهي في محل نصب حال مثلها، أو هي مستأنفة لا محل لها. {فَاسْتَمْتَعْتُمْ}: فعل وفاعل. {بِخَلاقِهِمْ} : متعلقان بما قبلهما، والكاف، في محل جر بالإضافة، والميم: في الجميع حرف دال على جماعة الذكور، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها على الوجهين المعتبرين فيها. {كَمَا}: الكاف: حرف تشبيه وجر. (ما): مصدرية. {اِسْتَمْتَعَ الَّذِينَ} : ماض وفاعله. {مِنْ قَبْلِكُمْ} : متعلقان بمحذوف صلة الموصول. {بِخَلاقِهِمْ} : متعلقان بالفعل {اِسْتَمْتَعَ،} والهاء في محل جر بالإضافة، و (ما) المصدرية والفعل بعدها في تأويل مصدر في محل جر بالكاف، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف صفة لمصدر محذوف، واقع مفعولا مطلقا، التقدير: استمتعتم بخلاقكم استمتاعا كائنا مثل استمتاع الذين من قبلكم، وهذا ليس مذهب سيبويه، وإنما مذهبه في

ص: 187

مثل هذا التركيب أن يكون منصوبا على الحال من المصدر المضمر المفهوم من الفعل المتقدم.

وانظر الآية رقم [37]، {وَخُضْتُمْ}: فعل وفاعل. {كَالَّذِي} : جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لمصدر محذوف واقع مفعولا مطلقا، التقدير: خضتم خوضا كائنا مثل خوض الذين خاضوا من قبلكم، وجملة:{وَخُضْتُمْ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، {أُولئِكَ}: اسم إشارة مبني على الكسر في محل رفع مبتدأ، والكاف حرف خطاب لا محل له، وجملة:{حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ..} . في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية:{أُولئِكَ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها. {فِي الدُّنْيا} :

متعلقان بالفعل قبلهما. {وَالْآخِرَةِ} : معطوفة على ما قبلها {وَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ} : انظر إعراب مثلها في الآية رقم [11] والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها.

{أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْراهِيمَ وَأَصْحابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (70)}

الشرح: {أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} : ألم يأت هؤلاء المنافقين والكفار، هذا؛ وانظر (أتى) في الآية رقم [35](الأعراف)، {نَبَأُ}: انظر الآية رقم [101] منها، {قَوْمِ}:

انظر الآية رقم [32] منها، {نُوحٍ}: انظر الآية رقم [59] منها، {وَعادٍ}: انظر الآية رقم [65] منها، {وَثَمُودَ}: انظر الآية رقم [73] منها، {إِبْراهِيمَ}: انظر الآية رقم [74] من سورة (الأنعام)، {وَأَصْحابِ مَدْيَنَ}: هم قوم شعيب، وانظر الآية رقم [85](الأعراف)، وانظر {وَأَصْحابِ} في الآية رقم [35] منها، {وَالْمُؤْتَفِكاتِ} أي: المنقلبات التي جعل الله عاليها سافلها، وهي مدائن قوم لوط، انظر الآية رقم [80](الأعراف)، وما بعدها، وقيل: المراد جميع قرى المكذبين المتمردين، وائتفاكهن: انقلاب أحوالهن من الخير إلى الشر، وقرئ في (النجم):{وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى} بالإفراد على إرادة الجنس، وإنما ذكر سبحانه وتعالى هذه الطوائف الستة؛ لأن آثارهم باقية، وبلادهم بالشام والعراق واليمن، وكل ذلك قريب من أرض العرب، فكانوا يمرون عليهم، ويعرفون أخبارهم.

{أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ} أي: بالمعجزات الباهرات، والحجج الواضحات الدالة على صدقهم، فكذبوهم، وخالفوا أمرنا، كما فعلتم أيها المنافقون والكفار، فاحذروا أن يصيبكم مثل ما أصابهم، فتعجل لكم النقمة كما عجلت لهم. {فَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ} أي: بتعجيل العقوبة لهم، أو ما كان الله ليهلكهم بلا جرم، {وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}: حيث عرضوها للعقاب بسبب الكفر، وارتكاب المعاصي والمنكرات. {أَنْفُسَهُمْ}: انظر الآية رقم [9](الأعراف)، {يَظْلِمُونَ}: انظر الظلم في الآية رقم [146](الأنعام).

ص: 188

الإعراب: {أَلَمْ} : الهمزة: حرف استفهام وتقرير. (لم): حرف جازم. {يَأْتِهِمْ} : مضارع مجزوم ب (لم)، وعلامة جزمه حذف حرف العلة من آخره، وهو الياء، والكسرة قبلها دليل عليها، والهاء: مفعول به. {نَبَأُ} : فاعله، وهو مضاف، و {الَّذِينَ} اسم موصول مبني على الفتح في محل جر بالإضافة. {مِنْ قَبْلِهِمْ}: متعلقان بمحذوف صلة الموصول. {قَوْمِ} : بدل من الذين، و {قَوْمِ}: مضاف، و {نُوحٍ}: مضاف إليه. {وَعادٍ} : معطوف على {نُوحٍ} .

{وَثَمُودَ} : معطوف عليه أيضا مجرور، وعلامة جره الفتحة نيابة عن الكسرة؛ لأنه ممنوع من الصرف للعلمية والتأنيث لأنه اسم للقبيلة، و {قَوْمِ} مضاف، و {إِبْراهِيمَ} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الفتحة نيابة عن الكسرة لأنه ممنوع من الصرف للعلمية والعجمية، ومثله قل في {مَدْيَنَ،} {وَالْمُؤْتَفِكاتِ} : معطوف على ما قبله، والأصل: أصحاب المؤتفكات.

{أَتَتْهُمْ} : ماض مبني على فتح مقدر على الألف المحذوفة لالتقائها ساكنة مع تاء التأنيث الساكنة، {رُسُلُهُمْ}: فاعله، والهاء في الأول: في محل نصب مفعول به، وفي الثاني: في محل جر بالإضافة. {بِالْبَيِّناتِ} : متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من {رُسُلُهُمْ،} وجملة: {أَتَتْهُمْ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها. {فَما} : الفاء: حرف عطف. (ما):

نافية. {كانَ} : ماض ناقص. {اللهُ} : اسمها. {لِيَظْلِمَهُمْ} : مضارع منصوب ب «أن» مضمرة وجوبا بعد لام الجحود، والفاعل يعود إلى {اللهُ،} والهاء: مفعول به، و «أن» المضمرة والمضارع في تأويل مصدر في محل جر باللام، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر {كانَ،} التقدير: ما كان الله مريدا لظلمهم، وهذه الجملة معطوفة على كلام محذوف، التقدير: فكذبوهم فأهلكوا. {فَما..} . إلخ: وهذا الكلام معطوف على ما قبله لا محل له مثله.

{وَلكِنْ} : الواو: حرف عطف، (لكن): حرف استدراك مهمل لا عمل له. {كانُوا} : ماض ناقص مبني على الضم، والواو: اسمه، والألف للتفريق، {أَنْفُسَهُمْ}: مفعول به مقدم، والهاء:

في محل جر بالإضافة، {يَظْلِمُونَ}: فعل وفاعل، والجملة الفعلية في محل نصب خبر {كانَ،} وجملة: {وَلكِنْ كانُوا} معطوفة على ما قبلها لا محل لها أيضا.

{وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71)}

الشرح: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ} : انظر الإيمان في الآية رقم [2](الأعراف) وزيادته في الآية رقم [2] الأنفال، {بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ} أي: في الموالاة في الدين، وتوحيد الكلمة، والمعاونة على البر والتقوى، والمناصرة على الأعداء، {يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ} أي: بالإيمان بالله،

ص: 189

ورسوله، واتباع أوامرهما، واجتناب نواهيهما، و {بِالْمَعْرُوفِ} ما استحسنه الشرع والعقل والفطرة السليمة. {وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ}: عن الشرك، ومخالفة أوامر الله ورسوله، و {الْمُنْكَرِ} ما استقبحه الشرع، والعقل، والفطرة السليمة. {وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ}: انظر الآية رقم [6] وانظر إعلال (يصيب) في الآية رقم [51]، {الزَّكاةَ}: انظر الآية [6] و [12]. {وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ} :

فيما يأمران به، وفيما ينهيان عنه. وانظر الآية رقم [12]، {أُولئِكَ} أي: الموصوفون بما ذكر، {سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ}: هذا وعد من الكريم، ومن أوفى بعهده من الله؟ أي: لا أحد. {عَزِيزٌ} : قوي غالب على كل شيء، لا يمتنع عليه ما يريده. {حَكِيمٌ}: يضع الأشياء في مواضعها، وقدم {عَزِيزٌ} لتقدم العلم بقدرته على العلم بحكمته. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم.

تنبيه: لما وصف الله المنافقين في الآية السابقة، بالأعمال الخبيثة، والأحوال الفاسدة، ثم ذكر بعده ما أعد لهم من أنواع الوعيد في الدنيا والآخرة؛ عقبه بذكر أوصاف المؤمنين، وأعمالهم الحسنة، وما أعد لهم من أنواع الكرامات والخيرات في الدنيا والآخرة. هذا؛ ولما كان نفاق الاتباع وكفرهم إنما حصل بتقليد المتبوعين، وحصل بمقتضى الطبيعة، قال فيهم:

{بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ} ولما كانت الموافقة الحاصلة بين المؤمنين بتسديد الله وتوفيقه، وهدايته، لا بمقتضى الطبيعة، وهوى النفس، وصفهم الله جل شأنه بأن {بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ} انتهى. خازن بتصرف.

الإعراب: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ..} . إلخ: انظر إعراب مثل هذا الكلام في الآية رقم [68] فهو مثله بلا فارق. {أُولئِكَ} : اسم إشارة مبني على الكسرة في محل رفع مبتدأ، والكاف: حرف خطاب لا محل له. {سَيَرْحَمُهُمُ} : السين: حرف استقبال، ووعد. (يرحمهم الله): فعل مضارع، ومفعوله وفاعله، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية:{أُولئِكَ..} . إلخ: مستأنفة لا محل لها، والجملة الاسمية. {إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}: تعليلية، أو مستأنفة لا محل لها.

{وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72)}

الشرح: {جَنّاتٍ} : جمع جنة، وهي البستان من النخل والشجر الكثير المتكاثف، الذي يجن، أي: يستر ما يكون متداخلا فيه، وسميت دار الثواب جنة؛ لما فيها من النعيم الذي لا ينفد، وجمع الجنة على جنات يدل على جنان كثيرة، مرتبة مراتب بحسب أعمال العاملين، لكل طبقة منهم جنة من تلك الجنان، وفي كثير من الآيات: لهم: فاللام: للملك، وهي تدل

ص: 190

على أنهم استحقوا الجنات بسبب أعمالهم الصالحة. {مِنْ تَحْتِهَا} أي: من تحت قصورها وأشجارها، وانظر {مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ} في الآية رقم [9] من سورة (يونس) عليه السلام، {الْأَنْهارُ}: جمع: نهر، وهو معروف في الدنيا، ولكن ما بين أنهار الجنة، وأنهار الدنيا فرق عظيم، هذا؛ ويجمع النهر على أنهر، ونهر، ونهور، وهاء النهر تفتح وتسكن، {خالِدِينَ فِيها}:

مقيمين في تلك الجنات لا يخرجون منها أبدا. {وَمَساكِنَ طَيِّبَةً} : تستطيبها النفس، أو يطيب فيها العيش، وفي الحديث الشريف عن النبي صلى الله عليه وسلم:«إنّها قصور من اللّؤلؤ والزّبرجد، والياقوت الأحمر» . {فِي جَنّاتِ عَدْنٍ} : إقامة، وخلود، ويقال: عدن بالمكان: إذا أقام به، ومنه:

المعدن، أي: الموجود في باطن الأرض، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:«عدن دار الله الّتي لم ترها عين قطّ ولم تخطر على قلب بشر، لا يسكنها إلا ثلاثة: النّبيّون والصّدّيقون والشّهداء، يقول الله: طوبى لمن دخلك» . رواه الطبراني عن أبي الدرداء رضي الله عنه. {وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ} أي: إن رضوان الله الذي ينزله عليهم أكبر من كل ما سلف ذكره من نعيم الجنة. {ذلِكَ..} . إلخ: الإشارة إلى ما تقدم ذكره من نعيم الجنة والرضوان.

تنبيه: أما وصف أهل الجنة فبينه سيد الخلق، وحبيب الحق، الناطق بالصدق بقوله:«أهل الجنة يأكلون ويشربون ولا يبولون، ولا يتغوّطون، ولا يمتخطون، ولا يبزقون، يلهمون الحمد والتسبيح، كما يلهمون النفس، طعامهم جشاء، ورشحهم كرشح المسك» رواه مسلم عن جابر بن عبد الله-رضي الله عنهما.

عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:«إنّ الله تبارك وتعالى يقول لأهل الجنّة: يا أهل الجنّة، فيقولون: لبّيك ربّنا وسعديك، والخير كلّه في يديك، فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون: وما لنا يا ربّنا؟ وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك، فيقول: ألا أعطيكم أفضل من ذلك، فيقولون: وأيّ شيء أفضل من ذلك؟ فيقول: أحلّ عليكم رضواني، فلا أسخط عليكم بعده أبدا» . متفق عليه، وانظر ما ذكرته عن أبي زيد في الآية رقم [119] وانظر الآية رقم [26] من سورة (يونس) على نبينا وعليه ألف صلاة، وألف سلام.

تنبيه: ذكر الله في الآيات المتقدمة المنافقين والمنافقات وصفاتهم، وما أعد لهم من العذاب المقيم في نار الجحيم، ثم ذكر في هاتين الآيتين المؤمنين والمؤمنات، وصفاتهم، وما أعد لهم من النعيم المقيم في دار الخلود، وذلك من باب المقابلة، وانظر الآية رقم [41 و 42] من سورة (الأعراف)، تجد ما يسرك. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم.

الإعراب: {وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنّاتٍ} : انظر إعراب مثل هذه الكلمات، ومحل الجملة في الآية رقم [69]، {تَجْرِي}: مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل.

{مِنْ تَحْتِهَا} : متعلقان بالفعل قبلهما، و (ها): في محل جر بالإضافة. {الْأَنْهارُ} : فاعل

ص: 191

{تَجْرِي} . والجملة الفعلية في محل نصب صفة: {جَنّاتٍ} . {خالِدِينَ} : حال من المؤمنين والمؤمنات منصوب

إلخ. {فِيها} : متعلقان ب {خالِدِينَ،} وفاعله ضمير مستتر؛ لأنه اسم فاعل. {وَمَساكِنَ} معطوف على جنات. {طَيِّبَةً} : صفته. {فِي جَنّاتِ} : متعلقان بمحذوف صفة ثانية ل (مساكن). أو بمحذوف حال منه بعد وصفها ب {طَيِّبَةً،} و {جَنّاتٍ} : مضاف، و {عَدْنٍ}: مضاف إليه. {وَرِضْوانٌ} : الواو: حرف استئناف. (رضوان): مبتدأ. {مِنَ اللهِ} :

متعلقان بمحذوف صفته، وهذه الصفة هي التي سوغت الابتداء به. {أَكْبَرُ}: خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة لا محل لها {ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}. إعراب هذه الجملة مثل إعراب:

{وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ} في الآية رقم [10] بلا فارق.

{يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاُغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (73)}

الشرح: {يا أَيُّهَا النَّبِيُّ} : هذا النداء موجه للنبي صلى الله عليه وسلم، وتدخل فيه أمته من بعده، هذا؛ و {النَّبِيُّ} مأخوذ من النبأ، وهو الخبر، انظر الآية رقم [101] من سورة (الأعراف). وقيل: بل هو مأخوذ من النبوة، وهو الارتفاع؛ لأن رتبة النبي ارتفعت عن رتب سائر الخلق، وهو يقرأ بالهمز وبدونه، والنبي ذكر حر من بني آدم، سليم عن منفر طبعا، أوحي إليه بشرع يعمل به، ولم يؤمر بتبليغه، وإن أمر بالتبليغ، فهو رسول، وانظر عددهم، وما ذكرته بشأنهم في الآية رقم [163] النساء، والآية رقم [86] الأنعام. {جاهِدِ الْكُفّارَ}: بالسيف. {وَالْمُنْفِقِينَ} : وجاهد المنافقين بإقامة الحجة عليهم، وزجرهم، وإقامة الحدود عليهم، واكفهرار الوجه لهم، {وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ}:

شدد عليهم ما ذكر؛ حتى ترهبهم، وتدخل الرعب في قلوبهم. {وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ}: مقرهم بعد الموت جهنم، وانظر الفرق بين (مأوى ومثوى) في الآية رقم [151] من آل عمران، {وَبِئْسَ}:

انظر الآية رقم [41]، الأنفال. {الْمَصِيرُ}: المرجع والمآل، هذا؛ وقد قال الزمخشري رحمه الله تعالى: وكل من وقف منه على فساد في العقيدة، فهذا الحكم ثابت فيه، يجاهد الحجة، وتستعمل معه الغلظة ما أمكن منها.

الإعراب: {يا أَيُّهَا النَّبِيُّ} : انظر الآية رقم [24]، والآية رقم [157] من سورة (الأعراف)، فإنه جيد، {جاهِدِ}: أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» . {الْكُفّارَ} : مفعول به. {وَالْمُنْفِقِينَ} :

معطوف على ما قبله، منصوب مثله، وعلامة نصبه الياء نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، وجملة:{جاهِدِ..} . إلخ، لا محل لها؛ لأنها ابتدائية كالجملة الندائية قبلها. وجملة:{وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} معطوفة عليها لا محل لها مثلها.

ص: 192

{وَمَأْواهُمْ} : الواو: واو الحال، (مأواهم): مبتدأ مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر، والهاء: في محل جر بالإضافة. {جَهَنَّمُ} : خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل نصب حال من {الْكُفّارَ وَالْمُنافِقِينَ} والرابط: الواو، والضمير، {وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}: فعل وفاعل، والمخصوص بالذم محذوف؛ إذ التقدير: المذمومة جهنم، والجملة الفعلية:{وَبِئْسَ الْمَصِيرُ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها من الإعراب.

{يَحْلِفُونَ بِاللهِ ما قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا وَما نَقَمُوا إِلاّ أَنْ أَغْناهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (74)}

الشرح: لقد وردت روايات كثيرة بسبب نزول الآية، وأكتفي بذكر ما يلي:

أقام الرسول صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك شهرين، ينزل عليه القرآن، ويعيب المنافقين المتخلفين، فيسمع من معه منهم، منهم الجلاّس بن سويد، فقال الجلاس: والله لئن كان ما يقول محمد حقا لإخواننا الذين خلفناهم وهم ساداتنا وأشرافنا لنحن شر من الحمير، فقال عامر بن قيس الأنصاري رضي الله عنه للجلاس: أجل والله إن محمدا لصادق، وأنت شر من الحمير! فلما رجع الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، أتاه عامر، فأخبره بما قال الجلاس، فاستحضره الرسول الكريم، فقال الجلاس: كذب عليّ عامر يا رسول الله! فأمرهما النبي العظيم أن يحلفا عند المنبر، فحلفا، الجلاس على النفي، وعامر على الإثبات، ثم رفع عامر يده إلى السماء، فقال: اللهم أنزل على نبيك تصديق الصادق منا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنون:«آمين» . فنزل جبريل عليه السلام قبل أن يتفرقا بهذه الآية، حتى بلغ {فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ،} فقام الجلاّس، فقال:

يا رسول الله أسمع الله قد عرض علي التوبة، صدق عامر بن قيس فيما قاله، لقد قلته، وأنا أستغفر الله، وأتوب إليه، فقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك منه، فتاب، وحسنت توبته.

{يَحْلِفُونَ بِاللهِ} : إنما جمع الضمير مع كون الحالف واحدا؛ لأن جميع المنافقين كانوا يقولون مقالة الجلاس، ويحلفون بالله وهم كاذبون، {ما قالُوا} أي: ما ذكر عن الجلاس.

{وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ} : وهي كلمة الجلاس: (إن كان ما يقول محمد حقا فنحن شر من الحمير)، وقد أطلقت الكلمة على هذه الكلمات كلها، انظر الآية رقم [137] من سورة (الأعراف)، تجد ما يسرك. وانظر {وَكَفَرُوا} في الآية رقم [66] (الأعراف). {وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ}: أظهروا كلمة الكفر بعد إظهار الإسلام، وهي ما تفوهوا به من كلمات، مثل كلمة

ص: 193

الجلاس وغيره. {وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا} أي: من قتل الرسول صلى الله عليه وسلم وكانوا خمسة عشر رجلا تآمروا في طريق عودتهم من غزوة تبوك أن يدفعوه عن ظهر راحلته إلى الوادي إذا تسنم العقبة بالليل، فأخبر جبريل عليه السلام النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، وأمره أن يرسل إليهم من يضرب وجوه رواحلهم، فأرسل عمارا وحذيفة وغيرهما فصدوهم، وأبعدوهم عنه صلى الله عليه وسلم، وقيل غير ذلك. {وَما نَقَمُوا إِلاّ أَنْ أَغْناهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ} أي: ما أنكروا على الرسول شيئا إلا بسبب تفضل الله عليهم بالغنى، وكانوا قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم وهجرته في ضنك من العيش، فعملوا بضد الواجب عليهم، حيث وضعوا النقمة موضع الشكر، والاعتراف بالنعمة، فهذا ليس مما ينقم، وإنما أراد: أن الناس لا ينقمون عليهم شيئا، فهو كقول النابغة الذبياني:[الطويل]

ولا عيب فيهم غير أنّ سيوفهم

بهنّ فلول من قراع الكتائب

وهذا من قبيل تأكيد المدح بما يشبه الذم، هذا؛ والفعل (نقم) يأتي من باب ضرب ومن باب فهم، وانظر الآية رقم [62] المائدة. {فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ}: يرجعوا عن نفاقهم، وهذا الذي حمل الجلاس رضي الله عنه على التوبة، هذا؛ وانظر التوبة وشروطها في الآية رقم [17] من سورة (النساء)، {يَكُ}: انظر الآية رقم [54]، الأنفال، {خَيْراً}: انظر الآية رقم [12](الأعراف). {وَإِنْ يَتَوَلَّوْا} أي: يعرضوا عن الإيمان والتوبة، ويصروا على النفاق والكفر.

{يُعَذِّبْهُمُ اللهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا} : بالخزي والفضيحة والإذلال. {وَالْآخِرَةِ} : يعذبهم في الآخرة بالنار، وانظر {عَذاباً} في الآية رقم [40]. {مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ}: الولي هو الذي يتولى شئون غيره، والنصير المعين والمساعد، والفرق بينهما أن الولي قد يضعف عن النصرة والمعاونة، والنصير قد يكون أجنبيا عن المنصور، فبينهما عموم وخصوص من وجه، وانظر (همّوا) في الآية رقم [13].

الإعراب: {يَحْلِفُونَ} : مضارع وفاعله. {بِاللهِ} : متعلقان بالفعل قبلهما. {ما} : نافية.

{قالُوا} : فعل ماض، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية جواب القسم {يَحْلِفُونَ،} والقسم وجوابه كلام مستأنف لا محل له. {وَلَقَدْ} : الواو: حرف قسم وجر، والمقسم به محذوف، التقدير: والله، والجار والمجرور متعلقان بفعل محذوف، تقديره: أقسم.

{قالُوا} : فعل وفاعل، والألف: للتفريق، والجملة الفعلية جواب القسم المقدر لا محل لها، والقسم وجوابه كلام مستأنف لا محل له. {كَلِمَةَ}: مفعول به، وهو مضاف، و {الْكُفْرِ}:

مضاف إليه. وجملة: {وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ} معطوفة على جواب القسم لا محل لها مثله.

{بِما} : متعلقان بما قبلهما، و (ما) تحتمل الموصولة، والموصوفة، والجملة الفعلية بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط: محذوف؛ إذ التقدير: هموا بالذي، أو بشيء لم ينالوه.

{وَما} : الواو: واو الحال. (ما): نافية. {نَقَمُوا} : فعل وفاعل، والألف للتفريق، والجملة الفعلية في محل نصب حال من واو الجماعة، والرابط: الواو، والضمير، واعتبارها مستأنفة

ص: 194

ممكن. {إِلاّ} : حرف حصر. {أَنْ} : حرف مصدري ونصب. {أَغْناهُمُ} : ماض مبني على فتح مقدر على الألف، وهو في محل نصب ب {أَنْ،} والهاء: مفعول به. {بِاللهِ} : فاعله.

و {وَرَسُولُهُ} : معطوف على ما قبله، والهاء في محل جر بالإضافة، {مِنْ فَضْلِهِ}: متعلقان بالفعل (أغنى)، والضمير عائد على {بِاللهِ،} وهو في محل جر بالإضافة، (أن) المصدرية، والفعل:

(أغنى) في تأويل مصدر في محل جر بحرف جر محذوف، والجار والمجرور متعلقان بالفعل {نَقَمُوا} التقدير: إلا بسبب إغناء الله لهم. وقال أبو البقاء: المصدر المؤول مفعول {نَقَمُوا} وقيل: هو مفعول من أجله والمفعول به محذوف. انتهى. وقول أبي البقاء هذا يجري في الآية رقم [126](الأعراف)، وليس في هذه الآية. تأمل. {فَإِنْ}: الفاء: حرف تفريع، واستئناف، (إن) حرف شرط جازم، {يَتُوبُوا}: مضارع فعل الشرط مجزوم، وعلامة جزمه حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي، {يَكُ}: مضارع ناقص، جواب الشرط مجزوم، وعلامة جزمه السكون على النون المحذوفة للتخفيف، واسمه ضمير مستتر تقديره:«هو» ، يعود على التوب المفهوم من {يَتُوبُوا،} {خَيْراً} : خبره، {لَهُمْ}: متعلقان ب {خَيْراً؛} لأنه أفعل تفضيل، وجملة:{يَكُ خَيْراً لَهُمْ} لا محل لها؛ لأنها جملة جواب الشرط، ولم تقترن بالفاء، ولا بإذا الفجائية، و (إن) ومدخولها كلام مستأنف لا محل له، ولا يصعب عليك بعد هذا إعراب:{وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللهُ} وهو معطوف على ما قبله لا محل له مثله. {عَذاباً} : مفعول مطلق، {أَلِيماً}: صفته، {فِي الدُّنْيا}: متعلقان باسم المصدر، أو بالفعل (يعذب)، {وَالْآخِرَةِ}: معطوف على {الدُّنْيا} مجرور مثله. {وَما} : الواو: حرف استئناف. (ما): نافية. {لَهُمْ} : متعلقان بمحذوف خبر مقدم، {فِي الْأَرْضِ}: متعلقان بالخبر المحذوف، أو بمحذوف خبر ثان، أو بمحذوف حال من الضمير المستتر في متعلق {لَهُمْ} وبعضهم يعلقهما بمحذوف حال من {وَلِيٍّ،} كان صفة له، فلما قدم عليه صار حالا

إلخ، وهو غير مسلم؛ لأن كثيرين لا يجيزون مجيء الحال من المبتدأ. {مِنْ}: حرف جر صلة. {وَلِيٍّ} : مبتدأ مؤخر مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على آخره، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائدة. {وَلا}: الواو: حرف عطف. (لا): زائدة لتأكيد النفي. {نَصِيرٍ} : معطوف على لفظ {وَلِيٍّ،} والجملة الاسمية:

{وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم.

{وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصّالِحِينَ (75)}

الشرح: {وَمِنْهُمْ} أي: ومن المنافقين. {عاهَدَ اللهَ} : أعطى عهدا وميثاقا لله ولرسوله، وانظر العهد في الآية رقم [102] (الأعراف). {لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ}: لئن رزقنا وأعطانا مالا، {لَنَصَّدَّقَنَّ}: لنخرجن الزكاة الواجبة ولنبذلن المال في جميع وجوه الخير والإحسان.

ص: 195

{وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصّالِحِينَ} : ولنعملن في ذلك المال ما يعمله الصالحون بأموالهم من صلة الأرحام، والإحسان إلى الجيران

إلخ.

تنبيه: نزلت الآية الكريمة، وما بعدها في ثعلبة بن حاطب، أحد المنافقين في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، كان ثعلبة فقيرا، وكان يحضر الصلوات الخمس مع النبي صلى الله عليه وسلم، ويحضر مواعظه وإرشاداته، لذا كان يطلق عليه حمامة المسجد.

قال ذات يوم للنبي صلى الله عليه وسلم: ادع الله أن يرزقني مالا، فقال له سيد الخلق، وحبيب الحق، الناطق بالصدق:«ويحك يا ثعلبة! قليل تؤدّي شكره خير من كثير لا تطيقه» . ثم عاد ثانيا: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أما ترضى أن تكون مثل نبيّ الله، لو شئت أن تسير معي الجبال ذهبا لسارت» . ثم أتاه بعد ذلك، فقال: يا رسول الله! ادع الله أن يرزقني مالا، والذي بعثك بالحق، لئن رزقني مالا لأعطين كل ذي حق حقه! فدعا له النبي صلى الله عليه وسلم، فاتخذ غنما، فنمت كما تنمي الدود، فضاقت عليه المدينة، فتنحى عنها، ونزل واديا من أوديتها، حتى جعل يصلي الظهر والعصر في جماعة، ويصلي سائر الصلوات في غنمه، ثم نمت وكثرت، فتباعد عن المدينة، فصار لا يشهد إلا الجمعة. ثم كثرت، حتى تباعد عن المدينة، حتى صار لا يشهد جمعة، ولا جماعة، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم:«يا ويح ثعلبة!» . ثلاثا، فلما أنزل الله آية الصدقة بعث النبي صلى الله عليه وسلم رجلين يأخذان الزكاة من المسلمين، وقال لهما:«مرا بثعلبة، وبفلان، رجل من بني سليم، فخذا صدقاتهما» .

فأتيا ثعلبة فسألاه الصدقة، وأقرءاه كتاب رسول الله، فقال: ما هذه إلا أخت الجزية، انطلقا حتى تفرغا ثم تعودا إلي، فانطلقا إلى السلمي، فأخذ خيار غنمه، وإبله، فعزلها للصدقة، ثم استقبلهما بها، فلما رأياها، قالا: ما هذه عليك، قال: خذاها، فإن نفسي بذلك طيبة، فمرا على الناس، وأخذا الصدقات.

ثم رجعا إلى ثعلبة، فسألاه زكاة ماله، فقال: ما هذه إلا جزية ما هذه إلا أخت الجزية، اذهبا حتى أرى رأيي، فرجعا إلى المدينة، فلما رآهما رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال قبل أن يتكلما:

«يا ويح ثعلبة! يا ويح ثعلبة! يا ويح ثعلبة!» . فأخبراه بالذي صنع ثعلبة، والسلمي، فدعا للسلمي بخير، فأنزل الله الآية، وما بعدها إلى قوله:{وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ،} وعند رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل من أقارب ثعلبة، فسمع ذلك، فخرج حتى أتاه، فقال: ويحك يا ثعلبة! لقد أنزل الله فيك كذا وكذا، فخرج ثعلبة، وأخذ معه غنيمات حتى أتى سيد الخلق، وحبيب الحق، الناطق بالصدق، فسأله أن يقبل منه ما أتى به.

فقال: «إنّ الله منعني أن أقبل منك صدقتك» . فجعل يحثو التراب على رأسه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:«هذا عملك قد أمرتك فلم تطعني» . فرجع إلى غنمه خائبا، فلما قبض

ص: 196

رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى أبا بكر رضي الله عنه، فقال: اقبل صدقتي، فقال: لم يقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنا لا أقبلها! فلما قبض أبو بكر، وتولى عمر رضي الله عنه الخلافة جاءه ثعلبة بصدقته، وطلب قبولها، فقال له: لم يقبلها منك رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أبو بكر، فأنا لا أقبلها، فلما تولى عثمان رضي الله عنه الخلافة جاءه بها، فلم يقبلها، وهلك في خلافته. انتهى. قرطبي وخازن بتصرف.

الإعراب: {وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللهَ} : انظر إعراب مثل هذه الكلمات في الآية رقم [50] والجملة الاسمية الناتجة منه مستأنفة لا محل لها {لَئِنْ} : اللام: موطئة لقسم محذوف، (إن): حرف شرط جازم. {آتانا} : ماض مبني على فتح مقدر على الألف للتعذر، وهو في محل جزم فعل الشرط، والفاعل يعود إلى (الله)، و (نا): مفعول به أول، {مِنْ فَضْلِهِ}: متعلقان بالفعل قبلهما، وهما في محل نصب مفعوله الثاني، والهاء: في محل جر بالإضافة، وجملة:

{آتانا مِنْ فَضْلِهِ} لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي.

{لَنَصَّدَّقَنَّ} : اللام: واقعة في جواب القسم المحذوف، (نصدقن): مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة التي هي حرف لا محل له، والفاعل مستتر تقديره:«نحن» ، والجملة الفعلية جواب القسم لا محل لها، وجواب الشرط محذوف لدلالة جواب القسم عليه، وانظر الآية رقم [43]، والكلام بمجموعه جواب للقسم المفهوم من {عاهَدَ} وقال أبو البقاء: فيه وجهان: أحدهما: تقديره: عاهد، فقال:{لَئِنْ آتانا،} والثاني: أن يكون {عاهَدَ} بمعنى «قال» ؛ إذ العهد قول، وهذا يعني: أن الكلام على الوجه الأول في محل نصب مقول القول لقول محذوف، وعلى الثاني: أنه مفعول به ل {عاهَدَ،} وغير مسلم له الوجهان، وأما الجمل فقال: جملة: {لَنَصَّدَّقَنَّ} جواب القسم {عاهَدَ،} ولا يمتنع الجمع بين القسم، واللام الموطئة، وهو مردود أيضا، وإعراب:(لنكونن) مثل إعراب سابقه، ولكنه ناقص، فاسمه ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره: نحن {مِنَ الصّالِحِينَ} : متعلقان بمحذوف في محل نصب خبره، والجملة الفعلية معطوفة على سابقتها، لا محل لها مثلها. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم.

{فَلَمّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76)}

الشرح: {فَلَمّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} : فلما أعطاهم، ورزقهم، وأغناهم من خزائنه التي لا تنفد، {بَخِلُوا بِهِ}: منعوا حق الله فيه، ولم يفوا بما عاهدوا الله ورسوله عليه:{وَتَوَلَّوْا} :

أعرضوا عن طاعة الله وطاعة رسوله. {وَهُمْ مُعْرِضُونَ} أي: هم قوم شأنهم، وعادتهم الإعراض عن طاعة الله ورسوله.

تنبيه: جمع الضمير مع كون المنزل بشأنه واحدا، وهو ثعلبة؛ لأن جميع المنافقين مثل ثعلبة، يخلفون الوعود، وينكثون العهود، ويكذبون، ويخونون، وقيل: نزلت الآيات في ثعلبة

ص: 197

ومعتب بن قشير وغيرهما وكلهم عاهدوا الله على القيام بحقوق المال؛ إن هم كثر مالهم، واستغنوا.

الإعراب: {فَلَمّا} : الفاء: حرف استئناف، (لما): حرف وجود لوجود عند سيبويه، وبعضهم يقول: حرف وجوب لوجوب، وهي ظرف بمعنى:«حين» عند ابن السراج، والفارسي، وابن جني، وجماعة، تتطلب جملتين مرتبطتين ببعضهما ارتباط فعل الشرط بجوابه، وصوب ابن هشام الأول، والمشهور الثاني، وجملة:{آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} إعرابها مثل إعراب ما قبلها، ولا محل لها على اعتبار (لما) حرفا؛ لأنها ابتدائية، وهي في محل جر بإضافة (لمّا) إليها على اعتبارها ظرفا، ومتعلقة بالجواب، {بَخِلُوا}: فعل وفاعل، والألف للتفريق، وانظر إعراب:

{قالُوا} : في الآية رقم [5](الأعراف)، {بِهِ}: متعلقان بالفعل قبلهما، والجملة الفعلية جواب (لمّا) لا محل لها، وجملة:{وَتَوَلَّوْا} معطوفة عليها لا محل لها مثلها، والجملة الاسمية:

{وَهُمْ مُعْرِضُونَ} في محل نصب حال من واو الجماعة، والرابط: الواو، والضمير، وهي حال مؤكدة؛ لأن التولي والإعراض بمعنى واحد.

{فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِما أَخْلَفُوا اللهَ ما وَعَدُوهُ وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ (77)}

الشرح: {فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ} أي: فجعل الله عاقبة فعلهم ذلك نفاقا، وسوء اعتقاد في قلوبهم، ويجوز أن يكون الفاعل عائدا على البخل المفهوم من {بَخِلُوا} ويكون المعنى: أورثهم البخل نفاقا متمكنا في قلوبهم، وانظر (النفاق) في الآية رقم [64]، {إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ}: يلقون الله بالموت، أو يلقون جزاء بخلهم، وانظر إعلال:{تَحْيَوْنَ} في الآية رقم [25](الأعراف)، وانظر شرح {يَوْمِ} في الآية رقم [128](الأنعام)، {بِما أَخْلَفُوا اللهَ ما وَعَدُوهُ} أي: بأن يقوموا بحقوق المال على الوجه الكامل، وانظر الوعد في الآية رقم [44](الأعراف)، ولكنهم لم يفوا بما وعدوا كما رأيت. {وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ} أي: بسبب كذبهم على الله ورسوله.

الإعراب: {فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً} : ماض ومفعولاه، وانظر مرجع الفاعل في الشرح، والجملة الفعلية مستأنفة لا محل لها، {فِي قُلُوبِهِمْ}: متعلقان بالفعل قبلهما، والهاء: في محل جر بالإضافة، {إِلى يَوْمِ}: متعلقان بالفعل قبلهما. {يَلْقَوْنَهُ} : مضارع مرفوع، وفاعله، ومفعوله، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة {يَوْمِ} إليها، {بِما}: الباء: حرف جر، ما:

مصدرية. {أَخْلَفُوا} : ماض وفاعله، والألف للتفريق. {اللهَ}: مفعول به أول. {بِما} : تحتمل الموصولة، والموصوفة، والمصدرية، فهي مبنية على السكون في محل نصب مفعول به ثان،

ص: 198

والجملة الفعلية بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد أو الرابط محذوف؛ إذ التقدير: أخلفوا الذي، أو شيئا وعدوه به. وأجاز الجمل اعتبار {بِما} مصدرية، وقدر: بسبب إخلافهم الله الوعد، فيبقى (وعد): بلا مفعول ثان، و {بِما} المصدرية والفعل بعدها في تأويل مصدر في محل جر بالباء، التقدير: بسبب إخلافهم الله

إلخ. والجار والمجرور متعلقان بالفعل (أعقب)، وساغ تعدد المتعلق، لاختلاف الجار، وإعراب:{وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ} مثل إعراب: {بِما أَخْلَفُوا} بلا فارق. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، أجل، وأكرم.

{أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ وَأَنَّ اللهَ عَلاّمُ الْغُيُوبِ (78)}

الشرح: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ..} . إلخ أي: ألم يعلم هؤلاء المنافقون: أن الله يعلم ما تنطوي عليه صدورهم من النفاق، ويعلم ما يتناجون به فيما بينهم، والمعنى: يعلم الله جميع أحوالهم لا يخفى عليه شيء منها، هذا؛ والنجوى هو الخفي من الكلام يكون بين القوم، وانظر (العلم) والمعرفة في الآية رقم [61] الأنفال، {عَلاّمُ}: صيغة مبالغة، {الْغُيُوبِ}: جمع غيب، وهو كل ما غاب عن أعين المخلوقات، وفي الآية توبيخ، وتقريع للمنافقين الذين يعدون، ولا يوفون، ويعهدون، وينقضون، والله أعلم بمراده وأسرار كتابه.

الإعراب: {أَلَمْ} : الهمزة: حرف استفهام إنكاري. (لم): حرف نفي وقلب وجزم. {يَعْلَمُوا} :

مضارع مجزوم ب (لم)، وعلامة جزمه حذف النون

إلخ، والواو فاعله، والألف للتفريق، {أَنَّ}: حرف مشبه بالفعل، {اللهَ}: اسمها، {يَعْلَمُ}: مضارع، والفاعل يعود إلى {اللهَ} .

{سِرَّهُمْ} : مفعول به، والهاء في محل جر بالإضافة، واكتفى الفعل بمفعول واحد؛ لأنه من المعرفة. {وَنَجْواهُمْ}: معطوف على ما قبله منصوب مثله، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على الألف للتعذر، والهاء: في محل جر بالإضافة، وجملة:{يَعْلَمُ..} . إلخ، في محل رفع خبر (أن)، و (أن) واسمها وخبرها في تأويل مصدر في محل نصب سد مسد مفعول، أو مفعولي {يَعْلَمُوا} على اعتباره من المعرفة، أو من العلم، والمصدر المؤول من {وَأَنَّ اللهَ عَلاّمُ} معطوف على ما قبله، و {عَلاّمُ}: مضاف، و {الْغُيُوبِ}: مضاف إليه، من إضافة مبالغة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله ضمير مستتر فيه، والجملة الفعلية:{أَلَمْ يَعْلَمُوا..} . إلخ مستأنفة لا محل لها.

{الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلاّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (79)}

الشرح: {يَلْمِزُونَ} : يعيبون، وانظر الآية رقم [59]، {الْمُطَّوِّعِينَ}: أصله المتطوعين، أدغمت التاء في الطاء؛ لأنهما من مخرج واحد، والتطوع: التبرع بالشيء، وهو ما ليس بفرض،

ص: 199

ومنه تطوع الصيام، والحج، والصلاة. {فِي الصَّدَقاتِ} أي: التبرع في المال. {لا يَجِدُونَ} :

انظر إعلاله في الآية رقم [17](الأعراف). {إِلاّ جُهْدَهُمْ} : إلا قدرتهم وطاقتهم. وهو بضم الجيم، وهي لغة أهل الحجاز، وبالفتح لغيرهم. وقيل: بالضم الطاقة، وبالفتح المشقة، وانظر الآية رقم [109] (الأنعام). {فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ}: يسخروا: يهزأ المنافقون من المؤمنين المتصدقين.

{سَخِرَ اللهُ مِنْهُمْ} : عاقبهم الله وجازاهم على سخريتهم، وذكر لفظ {سَخِرَ} مشاكلة لما صدر منهم، وانظر الآية رقم [68]، {عَذابٌ أَلِيمٌ}: انظر الآية رقم [40].

تنبيه: روي: أن النبي صلى الله عليه وسلم حث على الصدقة في غزوة تبوك، أي: وقت الخروج لها، فجاء عبد الرحمن بن عوف بأربعة آلاف درهم، وقال: يا رسول الله، مالي ثمانية آلاف درهم، جئتك بأربعة آلاف، فاجعلها في سبيل الله، وأمسكت أربعة آلاف لعيالي، فقال له:«بارك الله لك فيما أعطيت، وفيما أمسكت» فبارك الله له في ماله، حتى إنه خلف امرأتين يوم مات، فبلغ ثمن ماله لهما مائة وستين ألف درهم. وتصدق عاصم بن عدي العجلاني يومئذ بمائة وسق من تمر، وجاء أبو عقيل الأنصاري بصاع من تمر، وقال: يا رسول الله بت ليلتي أجر بالجرير الماء، حتى نلت صاعين من تمر، فأمسكت أحدهما لعيالي، وأتيتك بالآخر، فأمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن ينثره في الصدقات، رضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين، فلمزهم المنافقون، فقالوا: ما أعطى عبد الرحمن وعاصم إلا رياء، وإن الله ورسوله لغنيان عن صاع أبي عقيل، ولكن أحب أن يذكر نفسه ليعطى من الصدقة، فأنزل الله تبارك وتعالى الآية الكريمة، هذا؛ وسخر بمعنى: هزئ، وانظر الآية رقم [65].

الإعراب: {الَّذِينَ} : اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ، خبره جملة:

{سَخِرَ..} . إلخ أو في محل نصب على الذم بفعل محذوف، أو في محل جر بدل من الضمير المتصل ب {سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ} وقيل: في محل رفع خبر المبتدأ محذوف، التقدير: هم الذين، وهو أضعفها، وأقواها الأول. {يَلْمِزُونَ}: مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون، والواو فاعله، {الْمُطَّوِّعِينَ}: مفعول به منصوب

إلخ. {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} : متعلقان بمحذوف حال من الضمير المستتر ب {الْمُطَّوِّعِينَ،} وقيل: متعلقان بمحذوف حال منه، والأول أقوى. {فِي الصَّدَقاتِ}: متعلقان بالفعل {يَلْمِزُونَ،} والجملة الفعلية صلة الموصول لا محل لها (الذين): اسم موصول مبني على الفتح في محل نصب معطوف على {الْمُطَّوِّعِينَ،} وجملة: {لا يَجِدُونَ إِلاّ جُهْدَهُمْ} صلة الموصول لا محل لها، وجملة:{فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ} معطوفة على جملة:

{يَلْمِزُونَ} لا محل لها مثلها، وجوز أبو البقاء اعتبارها خبرا للمبتدإ (الذين) على وجه مر ذكره، ولا وجه له، وإنما الخبر جملة:{سَخِرَ اللهُ مِنْهُمْ} وهي مستأنفة على الأوجه الأخر فيه، والجملة الاسمية:{وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ} معطوفة على الجملة الفعلية قبلها على الوجهين المعتبرين فيها.

ص: 200

{اِسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (80)}

الشرح: روي: أن عبد الله بن عبد الله بن أبي كان من المؤمنين المخلصين، فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرض أبيه أن يستغفر له، ففعل، فنزلت، فقال سيد الخلق، وحبيب الحق، الناطق بالصدق:«ولأزيدن على السبعين» . فنزل قوله تعالى: {سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ} وذلك لأنه صلى الله عليه وسلم فهم من السبعين العدد المخصوص؛ لأنه الأصل، فجوز أن يكون ذلك حدا، يخالف حكم ما وراءه، فبين الله له: أن المراد به التكثير، دون التحديد، وقد شاع استعمال السبعة، والسبعين، والسبعمائة، ونحوها في التكثير، لاشتمال السبعة على جملة أقسام العدد، فكأنه العدد بأسره، ولهذا كبر صلى الله عليه وسلم، لما صلى على عمه الحمزة رضي الله عنه سبعين تكبيرة، ولأن آحاد السبعين سبعة، وهو عدد شريف، فإن السموات سبع، والأرضون سبع، والأيام سبع، والأقاليم سبع، والبحار سبع، والنجوم السيارة سبع، فلهذا خص الله السبعين بالذكر للمبالغة في اليأس من طمع المغفرة لهم.

{اِسْتَغْفِرْ لَهُمْ} : هذا أمر، ومعناه الخبر بدليل ما بعده، والمراد بهذا الكلام التساوي بين الاستغفار وعدمه في الإفادة، والمعنى: أطلب لهم المغفرة، أو لا تطلبها، فالسين والتاء للطلب، والفعل يتعدى لاثنين، أولهما بنفسه، والثاني بحرف جر، نحو استغفرت الله من ذنبي، وما في الآية من ذلك، وقد يحذف حرف الجر، فيصل إلى الثاني بنفسه، كقول الشاعر:[البسيط]

أستغفر الله ذنبا لست محصية

ربّ العباد إليه الوجه والقبل

وانظر الآية رقم [104] من سورة (يونس). {ذلِكَ بِأَنَّهُمْ..} . إلخ: إشارة إلى أن اليأس من المغفرة، وعدم قبول استغفارك ليس لبخل منا، ولا تقصير في واجبك يا محمد، بل لعدم صلاحيتهم لغفران الذنوب بسبب الكفر الصارف عنها، {وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ} . انظر شرح مثل هذه الجملة في الآية رقم [20] وانظر شرح {الْفاسِقِينَ} في الآية رقم [145] من سورة (الأعراف)، والمراد بهم هنا: الكافرون، والتعبير عن الكافرين بالفاسقين والمجرمين، والظالمين، والمعتدين، والمسرفين، وغير ذلك كثير في القرآن الكريم، ويتهددهم بالعذاب الأليم ويتوعدهم بالعقاب الشديد، هذا؛ وإننا نجد الكثير من المسلمين يتصفون بهذه الصفات فهل يتوجه إليهم هذا التهديد، وهذا الوعيد؟ والحق أقول: نعم يتوجه إليهم ما ذكره، وهم أحق بذلك، ولا سيما من قرأ القرآن، واطلع على أحوال الأمم السابقة، وما جرى لهم مع رسلهم، وكيف نكل الله بهم، وجعلهم عبرة للمعتبرين، {وَما يَذَّكَّرُ إِلاّ أُولُوا الْأَلْبابِ} وانظر الآية رقم [13] من سورة (يونس) عليه السلام.

ص: 201

الإعراب: {اِسْتَغْفِرْ} : أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» ، ومفعوله محذوف، {لَهُمْ}:

متعلقان بالفعل قبلهما، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، {أَوْ}: حرف عطف.

{لا} : ناهية جازمة. {تَسْتَغْفِرْ} : مضارع مجزوم ب {لا} الناهية، والفاعل مستتر تقديره:

«أنت» ، ومفعوله محذوف. {لَهُمْ}: متعلقان بالفعل قبلهما، والجملة معطوفة على ما قبلها لا محل لها، والكلام خبر كما ذكرته في الشرح، وإن كان لفظه إنشاء. {إِنْ}: حرف شرط جازم. {تَسْتَغْفِرْ} : مضارع فعل الشرط، والفاعل مستتر تقديره:«أنت» ، ومفعوله محذوف أيضا، {لَهُمْ}: متعلقان به. {سَبْعِينَ} : نائب مفعول مطلق، أو هو ظرف زمان، منصوب على الاعتبارين، وعلامة نصبه الياء؛ لأنه ملحق بجمع المذكر السالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد. {مَرَّةً}: تمييز، وجملة:{تَسْتَغْفِرْ..} . إلخ لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال:

لأنها جملة شرط غير ظرفي. {فَلَنْ} : الفاء: واقعة في جواب الشرط. (لن): حرف نفي ونصب واستقبال. {يَغْفِرَ} : مضارع منصوب ب (لن). {اللهُ} : فاعله، ومفعوله محذوف. {لَهُمْ}:

متعلقان به، وجملة:{فَلَنْ يَغْفِرَ..} . إلخ في محل جزم جواب الشرط عند الجمهور، والدسوقي يقول: لا محل لها؛ لأنها لم تحل محل المفرد، و {إِنْ} ومدخولها كلام مستأنف لا محل له.

{ذلِكَ} : اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. واللام: للبعد، والكاف حرف خطاب لا محل له. {بِأَنَّهُمْ}: الباء: حرف جر، (أنهم): حرف مشبه بالفعل، والهاء اسمها.

{كَفَرُوا} : فعل وفاعل، والألف للتفريق:{بِاللهِ} : متعلقان به. {وَرَسُولِهِ} : معطوف على ما قبله، والهاء: في محل جر بالإضافة، وجملة:{كَفَرُوا..} . إلخ في محل رفع خبر (أن)، و (أن) واسمها وخبرها في تأويل مصدر في محل جر بالباء، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية:{ذلِكَ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها. {وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ} انظر إعراب مثلها في الآية رقم [20] والجملة الاسمية مستأنفة.

{فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَقالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ (81)}

الشرح: {فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللهِ} أي: فرح المتخلفون من المنافقين عن غزوة تبوك والخروج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، بقعودهم في المدينة، والمخلف: المتروك، أي: خلفهم الله وثبط هممهم، أو خلفهم رسول الله والمؤمنون لما علموا تثاقلهم. قولان، هذا؛ وقرئ:«(خلف رسول الله)» ، {وَكَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ}: انظر شرح هذه الكلمات في الآية رقم [72] من سورة (الأنفال). {وَقالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ} أي: قال المنافقون بعضهم لبعض:

لا تخرجوا مع رسول الله في غزوة تبوك لأن الوقت وقت حر، وقد رد الله عليهم بما قاله

ص: 202

لرسوله صلى الله عليه وسلم: {قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا} : والمعنى: قل يا محمد لهؤلاء الذين اختاروا الراحة والقعود على الجهاد والخروج معك: إن نار جهنم التي هي موعدهم في الآخرة بسبب تخلفهم أشد حرا من حر الدنيا. {لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ} : انظر {يَفْقَهُونَ} في الآية رقم [179] من سورة (الأعراف)، وانظر (الفرح) في الآية رقم [58] من سورة (يونس)، على نبينا وعليه ألف صلاة، وألف سلام.

الإعراب: {فَرِحَ} : ماض. {الْمُخَلَّفُونَ} : فاعله مرفوع، وعلامة رفعه الواو نيابة عن الضمة؛ لأنه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، {بِمَقْعَدِهِمْ}: متعلقان بالفعل قبلهما، والهاء: في محل جر بالإضافة، من إضافة المصدر الميمي لفاعله. {خِلافَ}: ظرف مكان متعلق بالمصدر، وقيل: ظرف زمان، هذا؛ وجوز اعتباره مفعولا مطلقا، عامله محذوف، مدلول عليه ب (مقعدهم)، ومفعولا لأجله، أي: فرح المنافقون لأجل مخالفتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأعتمد الاعتبار الأول، و {خِلافَ}: مضاف، و {رَسُولِ}: مضاف إليه، و {رَسُولِ}: مضاف، و {اللهِ}: مضاف إليه. {وَكَرِهُوا} : فعل وفاعل، والألف للتفريق، والمصدر المؤول من {أَنْ يُجاهِدُوا} في محل نصب مفعول به، {بِأَمْوالِهِمْ}: متعلقان بالفعل قبلهما. {وَأَنْفُسِهِمْ} : معطوف على ما قبله، والهاء في محل جر بالإضافة، والميم: حرف دال على جماعة الذكور. {فِي سَبِيلِ} :

متعلقان بالفعل {يُجاهِدُوا،} و {سَبِيلِ} : مضاف، و {اللهِ}: مضاف إليه، وجملة:{وَكَرِهُوا أَنْ..} .

إلخ معطوفة على جملة: {فَرِحَ..} . إلخ لا محل لها مثلها، الأولى بالاستئناف، والثانية بالاتباع، وجملة:{لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ} في محل نصب مقول القول، وجملة:{وَقالُوا..} . إلخ معطوفة على ما قبلها لا محل لها أيضا. {نارُ} : مبتدأ، وهو مضاف، و {جَهَنَّمَ}: مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الفتحة نيابة عن الكسرة؛ لأنه ممنوع من الصرف للعلمية والعجمية. {أَشَدُّ}: خبر المبتدأ.

{حَرًّا} : تمييز، والجملة الاسمية:{نارُ جَهَنَّمَ..} . إلخ في محل نصب مقول القول، وجملة:

{قُلْ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها. {لَوْ} : حرف لما كان سيقع لوقوع غيره. {كانُوا} : ماض ناقص، والواو اسمه، والألف للتفريق، وجملة:{يَفْقَهُونَ} : مع مفعوله المحذوف في محل نصب خبر كان، وجملة:{كانُوا..} . إلخ لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي، وجواب {لَوْ} محذوف، وتقدير الكلام:(لو كانوا يفقهون أن مآلهم إليها، أو أنها كيف هي؛ ما اختاروها لأنفسهم بإيثار الراحة على طاعة الله ورسوله بالخروج إلى غزوة تبوك)، و {لَوْ} ومدخولها كلام مستأنف لا محل له. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم.

{فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (82)}

الشرح: {فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً} أي: فليضحك المنافقون الذين تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك قليلا في الدنيا الفانية. {وَلْيَبْكُوا كَثِيراً} أي: في الآخرة مكان ضحكهم في الدنيا، وهذا؛ وإن ورد بصيغة الأمر، إلا أن معناه الإخبار، كما في قوله تعالى:{مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ}

ص: 203

فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا {جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ} أي: إن ذلك البكاء في الآخرة معاقبة لهم على ضحكهم، وأعمالهم الخبيثة في الدنيا، وانظر (جزاء) في الآية رقم [26] هذا؛ وقد كان بعض المسلمين لا يضحك في الدنيا، من شدة الخوف، وإن كان عبدا صالحا.

وهذا مأخوذ من قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا، ولبكيتم كثيرا، ولخرجتم إلى الصّعدات تجأرون إلى الله تعالى، لوددت أنّي كنت شجرة تعضد» . أخرجه الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه، وكان الصحابة يضحكون، إلا أن الإكثار منه مذموم منهي عنه، وهو من فعل السفهاء والبطالة، وإن كثرته تميت القلب، وأما البكاء من خوف الله وعقابه فمحمود، فقد روى البغوي، وابن ماجة عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يا أيّها الناس ابكوا، فإن لم تستطيعوا أن تبكوا، فتباكوا، فإنّ أهل النار يبكون حتّى تسيل دموعهم في وجوههم كأنها جداول حتى تنقطع الدموع، فتسيل الدّماء، فتفرغ العيون، فلو أنّ سفنا أجريت فيها لجرت» .

تنبيه: البكاء بالقصر: إسالة الدمع من غير رفع صوت، وبالمد: إسالة الدمع مع رفعه، قال الخليل رحمه الله تعالى: من قصر البكاء ذهب به إلى معنى الحزن، ومن مدّه ذهب به إلى معنى الصوت، قال كعب بن مالك الأنصاري رضي الله عنه:[الوافر]

بكت عيني، وحقّ لها بكاها

وما يغني البكاء، ولا العويل

الإعراب: {فَلْيَضْحَكُوا} : الفاء: حرف استئناف. (ليضحكوا): مضارع مجزوم بلام الأمر، وعلامة جزمه حذف النون

إلخ، والواو فاعله، والألف للتفريق. {قَلِيلاً}: صفة لمفعول مطلق محذوف، التقدير: ضحكا قليلا، أو هو صفة لزمان محذوف، التقدير: زمانا قليلا، والجملة الفعلية مستأنفة لا محل لها من الإعراب، {وَلْيَبْكُوا كَثِيراً}: مثلها، وهي معطوفة عليها لا محل لها مثلها. {جَزاءً}: مفعول لأجله، أو هو مفعول مطلق، عامله محذوف، وقيل: عامله ما قبله على المعنى. {بِما} : متعلقان ب {جَزاءً،} أو بمحذوف صفة له، و (ما) تحتمل الموصولة، والموصوفة، والمصدرية، فعلى الأولين مبنية على السكون في محل جر بالباء، والجملة الفعلية بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد أو الرابط. محذوف؛ إذ التقدير: جزاء بالذي، أو بشيء كانوا يكسبونه، وعلى المصدرية تؤول مع الفعل بعدها بمصدر في محل جر بالباء، التقدير: بكسبهم الأعمال الخبيثة في الدنيا، والجار والمجرور متعلقان ب {جَزاءً،} أو بمحذوف صفة له.

{فَإِنْ رَجَعَكَ اللهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ (83)}

الشرح: {فَإِنْ رَجَعَكَ اللهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ} : فإن ردك الله يا محمد إلى المدينة من غزوة تبوك، وفيها جماعة من المنافقين وكانوا اثني عشر رجلا، فإن المقيمين في المدينة، لم يكونوا

ص: 204

منافقين؛ فلذا قال سبحانه {مِنْهُمْ} . {فَاسْتَأْذَنُوكَ..} . إلخ، أي: طلب المنافقون الخروج معك إلى غزاة ثانية بعد غزوة تبوك. {فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً} أي: إلى غزوة أخرى، أو إلى أي:

سفر كان، وهو كقوله تعالى في سورة (الفتح):{قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا} . {إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} أي: في غزوة تبوك. {فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ} أي: مع المتخلفين عن الجهاد لعدم استعدادهم ولياقتهم للقتال من صبيان ونساء وشيوخ، وانظر الآية رقم [88] وقرئ «(الخلفين)» وقيل: المعنى مع المخالفين أوامر الله ورسوله، وعلى الأول فيه تغليب الرجال على النساء مع أنهن الأكثر في المدينة حين خروج الرسول صلى الله عليه وسلم إلى غزوة تبوك ورجوعه منها، وفي الآية دليل قاطع على وجوب مقاطعة أهل البدع، والضلال، والنفاق، وذوي الأعمال الفاسدة والمجرمين.

هذا؛ و (رجع) يستعمل متعديا كما في الآية، ولازما كما في قولك: رجع زيد من عمله، {طائِفَةٍ}: انظر الآية رقم [67]، {أَبَداً}: انظر الآية رقم [23]، {عَدُوًّا}: انظر الآية رقم [22] من سورة (الأعراف).

الإعراب: {فَإِنْ} : الفاء: حرف استئناف. (إن): حرف شرط جازم، {رَجَعَكَ}: ماض مبني على الفتح في محل جزم فعل الشرط، والكاف: في محل نصب مفعول به. {اللهُ} :

فاعله، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية. ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي، {إِلى طائِفَةٍ}: متعلقان بالفعل: (رجع). {مِنْهُمْ} : متعلقان بمحذوف صفة: {طائِفَةٍ} .

{فَاسْتَأْذَنُوكَ} : فعل وفاعل ومفعول به، وانظر إعراب:{قالُوا} في الآية رقم [5](الأعراف) والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها لا محل لها مثلها. {لِلْخُرُوجِ} : متعلقان بالفعل قبلهما.

{فَقُلْ} : الفاء: واقعة في جواب الشرط. (قل): أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» . {لَنْ} :

حرف نفي ونصب واستقبال. {تَخْرُجُوا} : مضارع منصوب ب {لَنْ،} وعلامة نصبه حذف النون

إلخ، والواو فاعله، والألف للتفريق. {مَعِيَ}: ظرف مكان متعلق بالفعل قبله منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم، منع من ظهورها اشتغال المحل بالحركة المناسبة، والياء ضمير متصل في محل جر بالإضافة. {أَبَداً}: ظرف زمان متعلق بالفعل قبله، وجملة:{لَنْ تَخْرُجُوا..} . إلخ في محل نصب مقول القول. وجملة: {وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا} :

معطوفة عليها، فهي في محل نصب مقول القول مثلها، وجملة:{فَقُلْ..} . إلخ في محل جزم جواب الشرط عند الجمهور، والدسوقي يقول: لا محل لها؛ لأنها لم تحل محل المفرد، {إِنَّكُمْ}: حرف مشبه بالفعل، والكاف: اسمها، {رَضِيتُمْ}: ماض مبني على السكون، والتاء فاعله، وانظر إعراب:{وَجَعَلْنا} في الآية رقم [10](الأعراف)، والجملة الفعلية في محل رفع خبر (إن). {أَوَّلَ}: ظرف زمان متعلق بالفعل قبله، و {أَوَّلَ}: مضاف، و {مَرَّةٍ}: مضاف إليه، والجملة الاسمية:{إِنَّكُمْ..} . إلخ تعليل لنفي الخروج لا محل لها، و (إن) ومدخولها كلام مستأنف لا محل له. {فَاقْعُدُوا}: الفاء: هي الفصيحة. (اقعدوا): فعل أمر مبني على حذف

ص: 205

النون، والواو فاعله، والألف للتفريق. {مَعَ}: ظرف مكان متعلق بالفعل قبله، أو هو متعلق بمحذوف حال من واو الجماعة، و {مَعَ}: مضاف، و {الْخالِفِينَ}: مضاف إليه مجرور

إلخ، والجملة الفعلية:{فَاقْعُدُوا..} . إلخ: لا محل لها؛ لأنها جواب لشرط مقدر ب «إذا» ، التقدير:

وإذا كنتم رضيتم بالقعود فاقعدوا

إلخ، وهذا الشرط المقدر ومدخوله كلام مستأنف، أو هو معطوف على ما قبله لا محل له على الوجهين.

{وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ (84)}

الشرح: {وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً} : المراد بها صلاة الجنازة، وانظر الآية رقم [6]، {أَحَدٍ}: انظر الآية رقم [80](الأعراف)، {أَبَداً}: انظر الآية رقم [23]، {وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ}:

ولا تقف على قبره للدفن، أو الزيارة، {كَفَرُوا}: انظر الآية رقم [66] من سورة (الأعراف)، {بِاللهِ وَرَسُولِهِ}: انظر الآية رقم [74]، ورقم [1] من سورة (الأنفال)، ومما ينبغي التنبيه له أن الفسق أدنى حالا من الكفر، وهو داخل فيه، ولما كان المنافقون أخبث من المشركين والكافرين، وصفهم الله بالفسق بعد وصفهم بالكفر، زيادة في التشنيع عليهم.

تنبيه: هناك روايات مختلفة في سبب نزول الآية الكريمة أذكر منها ما يلي: لما توفي رأس المنافقين ابن أبي جاء ابنه عبد الله رضي الله عنه، وكان من الصالحين المخلصين، فطلب من الرسول صلى الله عليه وسلم، أن يصلي عليه وسأله قميصه ليكفنه فيه، فأجابه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى ما طلب، فأعطاه قميصه ليكفنه فيه، ولما قام الرسول الكريم ليصلي عليه، تعلق به الفاروق عمر رضي الله عنه، وقال: يا رسول الله! كيف تصلي عليه وقد قال في يوم كذا: كذا، وفي يوم كذا: كذا؟ فقال سيد الخلق، وحبيب الحق:«خيرني ربي، وقال: {اِسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ» }. فذهب فصلى عليه، ثم لم يلبث حتى نزلت الآية الكريمة موافقة رأي: عمر رضي الله عنه، وهذه إحدى الموافقات له رضي الله عنه، وانظر الآية رقم [94]، من سورة (المائدة)، والأرقام المحال عليها هناك.

تنبيه: السبب في صلاة الرسول الكريم على ابن أبيّ تطييب خاطر ابنه، فقد عرفت: أنه من كرام الصحابة المخلصين، والسبب في إعطائه القميص ليكفنه فيه لأن الضنة به مخلة بالكرم، أو لأنه أعطاه لابن أبي، مكافأة له لأنه كان قد أعطى العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم قميصه يوم بدر، يوم وقع أسيرا في يد المسلمين، وسلب ثوبه، فرآه النبي عليه الصلاة والسلام، فأشفق عليه، فطلب له قميصا، فما وجد له قميص يقادره إلا قميص ابن أبي لتقاربهما في طول القامة، فأراد سيد الخلق، وحبيب الحق مكافأته في الدنيا، ورفع المنة عنه.

ص: 206

هذا؛ وقد قيل: إن ابن أبيّ طلب الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو مريض ليأتيه، فأتاه فلما دخل عليه قال له: أهلكك حب اليهود، فقال: يا نبي الله! إني لم أبعث إليك لتؤنبني، ولكن بعثت إليك لتستغفر لي، وسأله قميصه أن يكفن فيه، فأعطاه إياه، واستغفر له، فمات فكفنه في قميصه، ونفث في جلده، ودلاه في قبره، فأنزل الله الآية، وهذه رواية ضعيفة بلا شك؛ لأنها إن صحت تعتبر توبة من ابن أبي، والله يقبل التائبين.

الإعراب: {وَلا} : الواو: حرف استئناف. (لا): ناهية جازمة. {تُصَلِّ} : مضارع مجزوم ب (لا) الناهية، وعلامة جزمه حذف حرف العلة من آخره، وهو الياء، والكسرة قبلها دليل عليها، والفاعل مستتر تقديره:«أنت» . {عَلى أَحَدٍ} : متعلقان بالفعل قبلهما، {مِنْهُمْ}: متعلقان بمحذوف صفة: {أَحَدٍ} . {ماتَ} : ماض، والفاعل يعود إلى {أَحَدٍ،} والجملة الفعلية في محل نصب صفة: {أَحَدٍ،} أو هي في محل نصب حال منه بعد وصفه بما تقدم، وهي على التقدير قد قبلها، {أَبَداً}: ظرف زمان متعلق بالفعل {تُصَلِّ،} والجملة الفعلية هذه مستأنفة لا محل لها، وجملة:

{وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ} : معطوفة عليها، لا محل لها مثلها. {إِنَّهُمْ}: حرف مشبه بالفعل، والهاء:

اسمها، وجملة:{كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ} : في محل رفع خبرها، وجملة:{وَماتُوا} معطوفة عليها فهي في محل رفع مثلها، والجملة الاسمية:{وَهُمْ فاسِقُونَ} في محل نصب حال من واو الجماعة، والرابط: الواو، والضمير، والجملة الاسمية:{إِنَّهُمْ..} . إلخ تعليل للنهي لا محل لها.

{وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ (85)}

تقدمت هذه الآية بحروفها برقم [56] مع اختلاف بسيط، فلا حاجة إلى شرحها وإعرابها، وتكريرها للتأكيد والأمر حقيق به، فإن الأبصار طامحة إلى الأموال والأولاد، والنفوس مغتبطة بها، ولأن تجدد النزول له شأن في تقرير ما نزل وتأكيده، وإرادة أن يكون على بال من المخاطب، لا ينساه، ولا يسهو عنه، وأن يعتقد أن العمل به مهم، يفتقر إلى فضل عناية، لا سيما إذا تراخى ما بين النزولين، فأشبه الشيء الذي أهم صاحبه، فهو يرجع إليه في أثناء حديثه، ويجوز أن تكون هذه الآية في فريق غير الأول. انتهى بيضاوي وكشاف بتصرف.

{وَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللهِ وَجاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اِسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقالُوا ذَرْنا نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ (86)}

الشرح: {وَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ..} . إلخ: يحتمل أن يراد بالسورة بعضها؛ لأن إطلاق لفظ الجمع على البعض جائز ويحتمل أن يراد جميع السورة، فعلى هذا المراد بالسورة: سورة براءة؛

ص: 207

لأنها مشتملة على الأمر بالإيمان، والأمر بالجهاد، وانظر شرح {سُورَةٌ} في الآية رقم [65]، {اِسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ}: استأذنك ذو الغنى واليسار في القعود عن الجهاد، وعدم الخروج إليه، وخص ذوي اليسار بالذكر؛ لأن الذم لهم ألزم لكونهم قادرين على أهبة السفر والجهاد، ولأن العاجز عن ذلك لا يحتاج إلى الاستئذان، وانظر شرح:{أُولُوا} في الآية رقم [75] الأنفال، {ذَرْنا}: اتركنا، وانظر الآية رقم [70](الأعراف)، {الْقاعِدِينَ}: من النساء والصبيان، وقيل: مع الشيوخ والمرضى، {مِنْهُمْ} أي: من المنافقين، وقيل: رؤساؤهم وكبراؤهم، والله أعلم بمراده وأسرار كتابه.

الإعراب: {وَإِذا} : الواو: حرف استئناف، (إذا): ظرف لما يستقبل من الزمان، خافض لشرطه، منصوب بجوابه، صالح لغير ذلك مبني على السكون في محل نصب. {أُنْزِلَتْ}: ماض مبني للمجهول، والتاء: للتأنيث. {سُورَةٌ} : نائب فاعله. {أَنْ} : حرف مصدري ونصب، أو هي مفسرة؛ لأن:(أنزل) متضمن معنى القول دون حروفه، {آمِنُوا}: أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق، {بِاللهِ}: متعلقان به، و {أَنْ} المصدرية والفعل بعدها في تأويل مصدر في محل جر بالباء، التقدير: بالإيمان، والجار والمجرور متعلقان بالفعل {أُنْزِلَتْ،} وعلى اعتبارها مفسرة، فالجملة الفعلية لا محل لها عند الجمهور، والشلوبين يقول:

بحسب ما تفسره، وجملة:{أُنْزِلَتْ..} . إلخ في محل جر بإضافة (إذا) إليها على المشهور المرجوح، وجملة:{وَجاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ} : معطوفة على ما قبلها على الاعتبارين فيها.

{اِسْتَأْذَنَكَ} : ماض، ومفعوله. {أُولُوا}: فاعله، وعلامة رفعه الواو نيابة عن الضمة؛ لأنه ملحق بجمع المذكر السالم، و {أُولُوا}: مضاف، و {الطَّوْلِ}: مضاف إليه. {مِنْهُمْ} : متعلقان بمحذوف حال من: {أُولُوا الطَّوْلِ،} وجملة: {اِسْتَأْذَنَكَ..} . إلخ جواب (إذا) لا محل لها، و (إذا) ومدخولها كلام مستأنف لا محل له من الإعراب:{ذَرْنا} : أمر، ونا: مفعول به، والفاعل مستتر تقديره:«أنت» . {نَكُنْ} : مضارع ناقص مجزوم بجواب الأمر، واسمه مستتر تقديره:«نحن» . {مَعَ} : ظرف مكان متعلق بمحذوف خبر {نَكُنْ،} و {مَعَ} : مضاف، و {الْقاعِدِينَ}: مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الياء نيابة عن الكسرة؛ لأنه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، والكلام {ذَرْنا نَكُنْ} كله في محل نصب مقول القول، وجملة:{وَقالُوا..} . إلخ معطوفة على جواب (إذا) عطف تفسيري لا محل لها مثله.

{رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ (87)}

الشرح: {رَضُوا} أي: رضي المنافقين، وانظر إعلال {رَضُوا} في الآية رقم [59]، {بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ} أي: مع النساء والصبيان، وأصحاب الأعذار من الرجال، وقد يقال

ص: 208

للرجل: خالفة وخالف أيضا إذا كان غير نجيب، يقال: فلان خالفة أهله: إذا كان دونهم، قال النحاس: وأصله من خلف اللّبن، يخلف: إذا حمض من طول مكثه. وخلف فم الصائم: إذا تغير فمه، ومنه: خلف سوء، وقد فسر قوله:{مَعَ الْخالِفِينَ} مع الفاسدين. {وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ} :

ختم عليها؛ إذا الطبع: الختم، وهو التأثير في الطين، ونحوه، فاستعير هنا لعدم فهم القلوب ما يلقى إليها، والطبع: السجية، والخلق الذي جبل عليه الإنسان. {فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ}: لا يعلمون ما في الجهاد، وموافقة الرسول صلى الله عليه وسلم من السعادة السرمدية، وما في التخلف عن الجهاد ومخالفة الرسول الكريم من الشقاوة الأبدية، وانظر {لا يَفْقَهُونَ} في الآية رقم [179] من سورة (الأعراف).

تنبيه: على تفسير {الْخَوالِفِ} بالرجال ذوي الأعذار فيه شذوذ؛ لأن (فواعل) لا يكون جمعا ل «فاعل» إلا إذا كان فيه واحد من ثلاثة أمور:

أحدها: أن يكون اسما، نحو: كاهل وكواهل، وعاتق وعواتق.

وثانيها: أن يكون صفة لمؤنث عاقل، نحو: حائض، وحوائض، وطائف، وطوائف، أو صفة لمؤنث غير عاقل، نحو: ناقة حاسر، وحواسر.

وثالثها: أن يكون صفة لمذكر غير عاقل، نحو: فرس صاهل، وأفراس صواهل.

هذا؛ وقد شذ جمع عشرة ألفاظ من أوصاف العاقلين، فجاءت مجموعة هذا الجمع من غير أن تستحقه قياسا، وهي: فارس وفوارس، وهالك وهوالك، وغائب وغوائب، وشاهد وشواهد، وحاسر وحواسر، وحاجب وحواجب، وخاطئ وخواطئ، وحاج وحواج، ورافد وروافد، وناكس ونواكس، لكنه حسنه في كل ذلك انتفاء الشركة بينه وبين المؤنث؛ لأنهم يقولون: امرأة فارسة

إلخ، فبعد بهذا عن الصفة، فهو كالاسم؛ إذ الفرق بين المؤنث والمذكر بالتاء، إنما يكون في الصفات، وما في الآية الكريمة يمكن أن يكون من ذلك الحسن؛ لأنه يقال: للمذكر خالف، والمؤنث: خالفة. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم.

الإعراب: {رَضُوا} : ماض وفاعله، والألف للتفريق، {بِأَنْ}: الباء: حرف جر، (أن):

حرف ناصب. {يَكُونُوا} : مضارع ناقص منصوب ب (أن)، وعلامة نصبه حذف النون، والواو:

اسمه، والألف للتفريق. {مَعَ}: ظرف مكان متعلق بمحذوف خبر {يَكُونُوا،} و {مَعَ} :

مضاف، و {الْخَوالِفِ}: مضاف إليه، و (أن) المصدرية والفعل بعدها في تأويل مصدر في محل جر بالباء، والجار والمجرور متعلقان بالفعل قبلهما، وجملة:{رَضُوا..} . إلخ مستأنفة لا محل لها، {وَطُبِعَ}: ماض مبني للمجهول. {عَلى قُلُوبِهِمْ} : متعلقان بمحذوف في محل رفع نائب فاعل، والهاء: في محل جر بالإضافة، وجملة:{وَطُبِعَ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها لا محل لها مثلها. {فَهُمْ} : الفاء: حرف عطف. (هم): ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع

ص: 209

مبتدأ. {لا} : نافية. {يَفْقَهُونَ} : فعل وفاعل، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها لا محل لها أيضا.

{لكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (88)}

الشرح: {لكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ..} . إلخ أي: أن تخلف المنافقون عن الجهاد وجبنوا؛ فقد جاهد من هو خير منهم، محمد صلى الله عليه وسلم والمؤمنون معه. {وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ} أي: الرسول والمؤمنون الذين جاهدوا معه لهم خيرات الدنيا، والآخرة ومنافعهما: النصر، والغنيمة في الدنيا، والجنة والكرامة في الآخرة، وقيل: المراد بالخيرات: الحور العين لقوله تعالى: {فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ} وهي جمع: خيرة تخفيف خيّرة. {الْمُفْلِحُونَ} : الفائزون بالجنة الناجون من النار، من أفلح الرجل فاز ببغيته ومراده، هذا؛ والفلاح: اسم جامع للخلاص من كل مكروه، والفوز بكل محبوب، وأصله: المؤفلحون، انظر الآية رقم [51] لإعلاله، وانظر تقديم المال على النفس في الآية رقم [42] والآيات المحال عليها.

الإعراب: {لكِنِ} : حرف استدراك مهمل لا عمل له. {الرَّسُولُ} : مبتدأ. {وَالَّذِينَ} : مبني على الفتح في محل رفع معطوف على ما قبله. {آمَنُوا} : فعل وفاعل والألف للتفريق، {مَعَهُ}:

ظرف مكان متعلق ب {آمَنُوا،} والهاء: في محل جر بالإضافة، وجملة:{آمَنُوا مَعَهُ} : صلة الموصول لا محل لها، وجملة:{جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ} : في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية:{لكِنِ الرَّسُولُ..} . إلخ: مستأنفة لا محل لها. {وَأُولئِكَ} : اسم إشارة مبني على الكسر في محل رفع مبتدأ، والكاف: حرف خطاب لا محل له. {بِأَمْوالِهِمْ} : متعلقان بمحذوف خبر مقدم، {الْخَيْراتُ}: مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية في محل رفع خبر المبتدأ الأول، والجملة الاسمية:{وَأُولئِكَ..} . إلخ: مستأنفة لا محل لها. {وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} : معطوفة على ما قبلها، فهي مؤكدة لمضمونها، وانظر إعراب مثلها في الآية رقم [11].

{أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (89)}

الشرح: {أَعَدَّ اللهُ} : هيأ لهم، وانظر شرح باقي الكلمات في الآية رقم [73]، {ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}: إشارة إلى ما يناله المؤمنون المجاهدون في الآخرة من الأجر العظيم والثواب الكريم.

الإعراب: {أَعَدَّ اللهُ} : فعل وفاعل. {لَهُمْ} : متعلقان بالفعل قبلهما {جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها} : انظر إعراب هذه الكلمات في الآية رقم [73] والجملة الفعلية: {أَعَدَّ..} .

إلخ مستأنفة لا محل لها. {ذلِكَ} : اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع مبتدأ، واللام:

ص: 210

للبعد، والكاف حرف خطاب لا محل له. {الْفَوْزُ}: خبره، {الْعَظِيمُ}: صفة، والجملة الاسمية مستأنفة لا محل لها.

{وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (90)}

الشرح: {وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ} : المراد بهؤلاء: بنو أسد، أو بنو غطفان استأذنوا الرسول صلى الله عليه وسلم في التخلف عن الخروج معه لغزوة تبوك، معتذرين بالجهد وكثرة العيال، وقيل: هم قوم عامر بن الطفيل، قالوا: إن غزونا معك؛ أغارت طيئ على أهالينا ومواشينا، والمعذرة إما من عذر في الأمر: إذا قصر فيه، موهما: أن له عذرا، ولا عذر له، أو من اعتذر: إذا مهد العذر، بإدغام التاء في الذال، ونقل حركتها إلى العين، وقرئ: المعذرون بوجوه كثيرة، هذا؛ والاعتذار في كلام العرب على قسمين، يقال: اعتذر إذا كذب في عذره، ومنه قوله تعالى:{يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ،} فرد الله عليهم بقوله {قُلْ لا تَعْتَذِرُوا} فدل ذلك على فساد عذرهم، وكذبهم فيه، ويقال: اعتذر إذا أتى بعذر صحيح، ومنه قول لبيد بن ربيعة الصحابي رضي الله عنه:[الطويل]

إلى الحول ثمّ اسم السّلام عليكما

ومن يبك حولا كاملا، فقد اعتذر

{وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللهَ وَرَسُولَهُ} أي: تخلف جماعة عن الجهاد، ولم يعتذروا، وهم يدعون الإيمان بالله ورسوله، وهم كاذبون في هذا الادعاء، والفعل يقرأ بالتخفيف والتشديد. {سَيُصِيبُ الَّذِينَ}

{عَذابٌ أَلِيمٌ} : في الدنيا بالقتل والذل والخزي والعار، وفي الآخرة في النار، وبئس القرار.

{الْأَعْرابِ} : جمع أعرابي، وهو من يسكن البادية وهو ما في القاموس، وقيل: الأعراب اسم جنس، وأعرابي نسبة إلى الأعراب. انتهى. مختار الصحاح، هذا؛ والعرب أهل الأمصار، وهو أيضا اسم جنس، والنسبة إليهم عربي، فالأعرابي على الأول مفرد الأعراب، ونسبة إليهم، والعربي على الثاني مفرد العرب، ونسبة إلى العرب. {كَذَبُوا}: من التكذيب مشددا مخففا، هذا؛ ويأتي مخففا بمعنى: وجب، وخدع، وأغرى، ويعد من الجوامد التي لا تتصرف، انظر الشاهد (28) من كتابنا فتح رب البرية تجد ما يسرك. {سَيُصِيبُ}: انظر إعلاله في الآية رقم [51].

الإعراب: {وَجاءَ} : (جاء): ماض. {الْمُعَذِّرُونَ} : فاعله مرفوع

إلخ. {مِنَ الْأَعْرابِ} : متعلقان بمحذوف حال من {الْمُعَذِّرُونَ} . {لِيُؤْذَنَ} : مضارع مبني للمجهول منصوب ب (أن) مضمرة بعد لام التعليل. {لَهُمْ} : متعلقان بمحذوف نائب فاعل، و (أن) المضمرة والفعل

ص: 211

المضارع في تأويل مصدر في محل جر باللام، والجار والمجرور متعلقان بالفعل قبلهما، وجملة:{وَجاءَ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها، وجملة:{وَقَعَدَ الَّذِينَ} : معطوفة عليها لا محل لها مثلها، وجملة:{كَذَبُوا اللهَ وَرَسُولَهُ} : صلة الموصول لا محل لها، وجملة:{سَيُصِيبُ الَّذِينَ} مستأنفة لا محل لها، وجملة:{كَفَرُوا} : صلة الموصول لا محل لها. {مِنْهُمْ} : متعلقان بمحذوف حال من واو الجماعة. {عَذابٌ} : فاعل يصيب، و {الَّذِينَ} مفعول به تقدم على الفاعل. {أَلِيمٌ}: صفة: {عَذابٌ} . تأمل، وتدبر، وربك أعلم.

{لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلّهِ وَرَسُولِهِ ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (91)}

الشرح: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ}

{حَرَجٌ} : فقد نفى الله الإثم والمؤاخذة عن هؤلاء إذا تخلفوا عن الخروج للجهاد بسبب أعذارهم، وهذا بعد أن ذكر الله المنافقين الذين تخلفوا عن الجهاد، واعتذروا بأعذار كاذبة، والمراد بالضعفاء: النساء، والصبيان، والشيوخ، ومن في جسمه نحف وهزال، وإن كان شابا. {الْمَرْضى}: جمع مريض، ويدخل فيهم أهل العمى، والعرج، وكل موصوف بمرض يمنعه من الجهاد، والسفر للغزو. {وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ}:

المراد بهم: الفقراء العاجزون عن أهبة الغزو والسفر للجهاد.

{حَرَجٌ} : إثم ومؤاخذة. {نَصَحُوا لِلّهِ وَرَسُولِهِ} : النصيحة لله: إخلاص الاعتقاد في الوحدانية، ووصفه بصفات الألوهية، وتنزيهه عن النقائص، والرغبة في محابه، والبعد من مساخطه، والنصيحة لرسوله، والتصديق بنبوته، والتزام طاعته، في أمره ونهيه، وموالاة من والاه، ومعاداة من عاداه، والتخلق بأخلاقه، وغير ذلك، هذا؛ ومن النصح لله ورسوله: أنهم إذا أقاموا في بلدهم؛ احترزوا عن إفشاء الأراجيف، وإثارة الفتن، وسعوا في إيصال الخير إلى أهل المجاهدين الذين خرجوا إلى الغزو، وقاموا بمصالح بيوتهم. وانظر الآية رقم [79] من سورة (الأعراف). {ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ}: ليس على من أحسن العمل، وأخلص النية وتخلف عن الجهاد بعذر إثم ومؤاخذة، بل يؤجر على حسن العمل، وإخلاص النية، ولو كان في بيته.

فقد روى أبو داود عن أنس رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «لقد تركتم بالمدينة أقواما، ما سرتم مسيرا، ولا أنفقتم من نفقة، ولا قطعتم من واد، إلاّ وهم معكم فيه، قالوا:

يا رسول الله، وكيف يكونون معنا وهم بالمدينة؟ قال: حسبهم العذر»؛ أي: وهم يتمنون أن يكونوا معكم. {غَفُورٌ رَحِيمٌ} : صيغتا مبالغة من غفر، ورحم. تأمل.

الإعراب: {لَيْسَ} : ماض ناقص. {عَلَى الضُّعَفاءِ} : متعلقان بمحذوف خبر {لَيْسَ} تقدم على اسمها. {وَلا} : زائدة لتأكيد النفي. {عَلَى الْمَرْضى} : جار ومجرور معطوفان على ما

ص: 212

قبلهما، ومثلها {وَلا عَلَى الَّذِينَ،} (لا): نافية، {يَجِدُونَ}: مضارع وفاعله. {ما} : تحتمل الموصولة، والموصوفة، فهي مبنية على السكون في محل نصب مفعول به، والجملة الفعلية بعدها صلتها، أو صفتها، وعائدها وعائد {الَّذِينَ} محذوف، التقدير: ولا على الذين لا يجدون الذي أو شيئا ينفقونه. {حَرَجٌ} : اسم {لَيْسَ} مؤخر. {إِذا} : ظرف زمان متعلق بمضمون الكلام السابق قبله، مبني على السكون في محل نصب، وجملة:{نَصَحُوا لِلّهِ وَرَسُولِهِ} في محل جر بإضافة {إِذا} إليها، وجملة:{لَيْسَ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها. {ما} : نافية حجازية، أو هي مهملة. {عَلَى الْمُحْسِنِينَ}: متعلقان بمحذوف خبر {ما،} تقدم اسمها على إعمالها، أو متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ على إهمالها. {مِنْ}: حرف جر صلة. {سَبِيلٍ} :

اسم {ما} مؤخر، أو هو مبتدأ مؤخر (على إهمالها) مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على آخره، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد، والجملة الاسمية مستأنفة لا محل لها، وأيضا جملة:{وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} مستأنفة لا محل لها أيضا.

{وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاّ يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ (92)}

الشرح: {وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا..} . إلخ أي: ليس عليهم حرج؛ أي: إثم ومؤاخذة. {أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ} . وهم البكاءون، وكانوا سبعة نفر من بني عمرو بن عوف أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقالوا: يا رسول الله إن الله قد ندبنا إلى الخروج معك فاحملنا على الخفاف المرقوعة، والنعال المخصوفة نغز معك، {تَوَلَّوْا}: أعرضوا. {وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً} : فحمل العباس منهم اثنين، وعثمان ثلاثة زيادة على الجيش الذي جهزه، وهو ألف، وحمل يامين بن عمرو النصري اثنين، وقيل: البكاءون ثلاثة من بني مقرن: معقل، وسويد، والنعمان، وقيل: هم الأشعريون أبو موسى وأصحابه، فلما تولوا يبكون دعاهم الرسول صلى الله عليه وسلم، وأعطاهم ذودا من الإبل، وكان قد وافق مجيئهم غضبا من الرسول العظيم، فقال:«والله لا أحملكم، ولا أجد ما أحملكم عليه» . فلما أعطاهم، قال أبو موسى: ألست حلفت يا رسول الله؟ فقال: «إنّي إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها، إلاّ أتيت الذي هو خير، وكفّرت عن يميني» . أقول: وهذا هو المشهور، وحديث الأشعريين مذكور في البخاري.

بعد هذا انظر (أتى) في الآية رقم [35](الأعراف) وإعلاله في الآية رقم [138] منها، {قُلْتَ}: انظر إعلاله في الآية [11] منها، {أَجِدُ}: انظر إعلاله في الآية رقم [17] منها، {تَوَلَّوْا}: انظر شرحه في الآية رقم [79] منها، {وَأَعْيُنُهُمْ}: انظر الآية رقم [116] منها،

ص: 213

{تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ} : انظر الآية رقم [86] المائدة، تجد ما يسرك وهو من الثلاثي هنا وفي المائدة، وانظره من الرباعي في الآية رقم [50] من سورة (الأعراف)، {ما يُنْفِقُونَ}: انظر الآية رقم [3](الأنفال).

الإعراب: {وَلا} : الواو: حرف عطف، (لا): زائدة لتأكيد النفي. {عَلَى الَّذِينَ} : معطوفان على قوله {عَلَى الضُّعَفاءِ} أو على {عَلَى الْمُحْسِنِينَ} في الآية السابقة، و «حرج» أو «سبيل» محذوف، ويجب تقديره بعد إذا ومدخولها {إِذا}: انظر الآية رقم [87]. {ما} : زائدة، {أَتَوْكَ}: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة {إِذا} إليها على القول المشهور المرجوح، {لِتَحْمِلَهُمْ}: مضارع منصوب ب (أن) مضمرة بعد لام التعليل، والفاعل مستتر تقديره:«أنت» والهاء: مفعول به، و (أن) المضمرة والفعل المضارع في تأويل مصدر في محل جر باللام، والجار والمجرور متعلقان بالفعل قبلهما، {قُلْتَ}: فعل وفاعل. {لا} :

نافية، {أَجِدُ}: مضارع مرفوع، والفاعل مستتر تقديره:«أنا» . {ما} : تحتمل الموصولة، والموصوفة فهي مبنية على السكون في محل نصب مفعول به، والجملة بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد أو الرابط: الضمير المجرور ب {عَلَى} وجملة: {لا أَجِدُ..} . إلخ في محل نصب مقول القول، وجملة:{قُلْتَ..} . إلخ في محل نصب حال من الكاف في {أَتَوْكَ} وبعضهم يعتبرها جواب {إِذا،} وعلى الحالية يجب تقدير قد قبلها، هذا؛ وقد قيل: هي معطوفة على جملة:

{أَتَوْكَ..} . إلخ بعاطف محذوف، التقدير: و {قُلْتَ،} وهذا ضعيف. {تَوَلَّوْا} : فعل وفاعل، والألف للتفريق، والجملة الفعلية جواب {إِذا} على اعتبار جملة:{قُلْتَ..} . إلخ حالا أو معطوفة، ومستأنفة على اعتبار جملة:{قُلْتَ..} . إلخ جواب: {إِذا،} و {إِذا} ومدخولها صلة الموصول كلام لا محل له. {وَأَعْيُنُهُمْ} : مبتدأ، والهاء: في محل جر بالإضافة. {تَفِيضُ} :

مضارع والفاعل مستتر تقديره: «هي» يعود إلى (أعينهم)، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية:{وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ..} . إلخ في محل نصب حال من واو الجماعة، والرابط: الواو، والضمير. {مِنَ الدَّمْعِ}: متعلقان بالفعل قبلهما، {حَزَناً}: مفعول لأجله، وقيل: هو مفعول مطلق في موضع الحال، ولا وجه له. {أَلاّ}:(أن): حرف مصدري ونصب.

(لا): نافية. {يَجِدُوا} : منصوب ب (أن)

إلخ، والواو فاعله، والألف للتفريق، {ما}:

تحتمل الموصولة، والموصوفة، فهي مبنية على السكون في محل نصب مفعول به، والجملة بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد أو الرابط: محذوف، التقدير: أن لا يجدوا الذي، أو شيئا ينفقونه، و (أن) المصدرية والفعل {يَجِدُوا} في تأويل مصدر في محل جر بحرف جر محذوف، التقدير:

من عدم وجدان الذي

إلخ، والجار والمجرور متعلقان بالفعل {تَفِيضُ،} ويجوز تعليقهما ب {حَزَناً؛} لأنه مصدر، فيكون علة للعلة. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم.

ص: 214

{إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِياءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (93)}

الشرح: {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ..} . إلخ: إنما الإثم والمؤاخذة، واستحقاق العقوبة للذين يستأذنونك يا محمد في التخلف عن الخروج للجهاد، وهم أصحاء أقوياء أغنياء، والمراد بهم المنافقون. {رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ..}. إلخ: انظر شرح هذا الكلام في الآية رقم [88] وانظر {السَّبِيلُ} في الآية رقم [142] من سورة (الأعراف).

الإعراب: {إِنَّمَا} : كافة ومكفوفة مفيدة للحصر. {السَّبِيلُ} : مبتدأ. {عَلَى الَّذِينَ} :

متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ. {يَسْتَأْذِنُونَكَ} : فعل وفاعل ومفعول به، والجملة الفعلية صلة الموصول لا محل لها، والجملة الاسمية:{وَهُمْ أَغْنِياءُ} : في محل نصب حال من واو الجماعة، والرابط: الواو، والضمير، والجملة الاسمية:{إِنَّمَا السَّبِيلُ..} . إلخ: ابتدائية أو مستأنفة لا محل لها. {رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا..} . إلخ: انظر إعراب هذا الكلام في الآية رقم [87].

وقد تكرر لزيادة التوبيخ والتشنيع على المنافقين المتخاذلين، وجملة:{رَضُوا..} . إلخ: تحتمل الاستئناف، والحال، فتكون (قد) قبلها مقدرة، وما بعدها معطوف عليها على الاعتبارين.

{يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ وَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (94)}

الشرح: {يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ} : انظر الاعتذار في الآية رقم [94] والخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فإنهم كانوا يعتذرون إليهم أيضا، لا إليه فقط، وتخصيص الخطاب في قوله {قُلْ لا تَعْتَذِرُوا} حيث لم يقل: قولوا؛ لأن الجواب وظيفته صلى الله عليه وسلم فقط، وأما الاعتذار، فكان له، وللمؤمنين. انتهى. جمل نقلا من أبي السعود، والمعتذرون كانوا بضعة وثمانين من المنافقين، فلما رجع صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك، جاءوا يعتذرون إليه بالباطل. {إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ} أي: من غزوة تبوك إلى المدينة. {لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ} أي: لن نصدقكم، أو لن نثق بكم. {قَدْ نَبَّأَنَا اللهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ}: أعلمنا الله بالوحي إلى نبيه صلى الله عليه وسلم بعض أخباركم. وهو ما في ضمائركم من الشر والفساد، وانظر الآية رقم [101]. من سورة (الأعراف). {وَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ}: أتتوبون عن الكفر، أم تثبتون عليه؟ وكأنه استتابة وإمهال للتوبة. انتهى. بيضاوي، وانظر إعلال (ترى) في الآية رقم [143] (الأعراف). {ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ} أي: الغيبة

ص: 215

والحضور، ومقتضى القياس: ثم تردون إليه، فوضع الوصف موضع الضمير للدلالة على أنه مطلع على سرهم وعلنهم، لا يعزب عن علمه شيء من ضمائرهم وأعمالهم. {فَيُنَبِّئُكُمْ بِما..} .

إلخ: فيخبركم بكل شيء عملتموه في دنياكم، ويجازيكم به.

الإعراب: {يَعْتَذِرُونَ} : فعل وفاعل. {إِلَيْكُمْ} : متعلقان بالفعل قبلهما. {إِذا} : ظرف زمان متعلق به أيضا مبني على السكون في محل نصب. {رَجَعْتُمْ} : فعل وفاعل. {إِلَيْهِمْ} :

متعلقان بما قبلهما. والجملة الفعلية في محل جر بإضافة {إِذا} إليها، وجملة:{يَعْتَذِرُونَ..} .

إلخ: مستأنفة لا محل لها. {قُلْ} : أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» . {لا تَعْتَذِرُوا} : مضارع مجزوم ب (لا) الناهية. وعلامة جزمه حذف النون.. الخ، والواو: فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول، وجملة:{قُلْ..} . إلخ: مستأنفة لا محل لها، وجملة:{لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ} : تعليل للنهي لا محل لها. {قَدْ} : حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال. {نَبَّأَنَا} : ماض، و (نا): مفعول به أول، والثاني محذوف، التقدير: قد نبأنا الله أخبارا من أخباركم. وقيل: هذا الفعل تعدى لثلاثة مفاعيل، الأول والثاني ما ذكر، والثالث محذوف، التقدير: أخبارا من أخباركم مثبتة. {اللهُ} : فاعله. {مِنْ أَخْبارِكُمْ} : متعلقان بالفعل قبلهما وقد دلا على المفعول الثاني المحذوف. وجملة: {قَدْ نَبَّأَنَا..} . إلخ: تعليل آخر للنهي، وقيل: تعليل للتعليل. {وَسَيَرَى} : الواو: حرف استئناف. السين: حرف استقبال، ومعناه التأكيد والوقوع والاستمرار، (يرى): مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر. وهو بمعنى (يعلم)، وقد نصب مفعولين، الأول:{عَمَلَكُمْ} . الثاني: محذوف، تقديره: واقعا، أو حاصلا. {اللهُ}: فاعله. {وَرَسُولُهُ} : معطوف عليه. وجملة: {وَسَيَرَى..} . إلخ: مستأنفة لا محل لها. {تُرَدُّونَ} : مضارع مبني للمجهول مرفوع

إلخ، والواو: نائب فاعله. {إِلى عالِمِ} : متعلقان بالفعل قبلهما. و {عالِمِ} : مضاف. {الْغَيْبِ} : مضاف إليه من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {وَالشَّهادَةِ}: معطوف على ما قبله، وجملة:{تُرَدُّونَ..} .

إلخ: معطوفة على ما قبلها لا محل لها مثلها. {فَيُنَبِّئُكُمْ} : مضارع، والفاعل يعود إلى (الله).

والكاف: مفعوله الأول {بِما} : متعلقان بالفعل قبلهما على أنهما مفعوله الثاني، {بِما}:

(ما): تحتمل الموصولة، والموصوفة، والمصدرية، فعلى الأولين مبنية على السكون في محل جر بالباء، والجملة بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد أو الرابط: محذوف، وتقدير الكلام؛ فينبئكم بالذي، أو بشيء كنتم تعلمونه، وعلى اعتبار (ما) مصدرية تؤول مع الفعل بعدها بمصدر في محل جر بالباء، التقدير: فينبئكم بعملكم، والجملة الفعلية هذه معطوفة على ما قبلها لا محل لها أيضا. هذا؛ و {كُنْتُمْ}: ماض ناقص مبني على السكون، والتاء اسمها، والميم: علامة جمع الذكور، وجملة:{تَعْمَلُونَ} في محل نصب خبر كان.

ص: 216

{سَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ إِذَا اِنْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (95)}

الشرح: {سَيَحْلِفُونَ بِاللهِ..} . إلخ: أي: سيحلف المنافقون بالله لكم إذا رجعتم من سفركم هذا: أنهم لم يقدروا على الخروج معكم إلى غزوة تبوك بسبب الفقر، أو المرض ونحو ذلك لتصفحوا عنهم، ولا تعاتبوهم بسبب تخلفهم عنكم. {فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ} أي: فاتركوهم وما اختاروا لأنفسهم من النفاق، ولا تكلموهم، ولا تجالسوهم؛ لأنهم رجس، بواطنهم خبيثة وأعمالهم قبيحة. {وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ}: مآلهم ومقرهم، ومنزلهم ومكانهم.

قال الجوهري: المأوى كل مكان يأوي إليه شيء ليلا، أو نهارا، وقد أوى فلان إلى منزله يأوي أويا وإواء، ومنه قوله تعالى:{سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ} وآويته أنا إيواء، وأويته إذا أنزلته بك بمعنى. {جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ} أي: الإعراض عنهم وإهانتهم في الدنيا، ومعاقبتهم في نار جهنم في الآخرة إن ذلك بسبب ما كانوا يعملونه من النفاق، والمكر والخداع، وسوء الأعمال، وانظر (جزاء) في الآية رقم [36].

الإعراب: {سَيَحْلِفُونَ} : السين: حرف استقبال. وهي تفيد تحقق الوقوع؛ لأنه من قول العليم الخبير. (يحلفون): فعل وفاعل. {بِاللهِ} : متعلقان بالفعل قبلهما. {لَكُمْ} : متعلقان به أيضا.

{إِذَا} : ظرف زمان مبني على السكون في محل نصب متعلق بالفعل قبله أيضا، وجملة:{اِنْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ} : في محل جر بإضافة {إِذَا} إليها. {لِتُعْرِضُوا} : مضارع منصوب ب «أن» مضمرة بعد لام التعليل، وعلامة نصبه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والألف للتفريق، و «أن» المضمرة والمضارع في تأويل مصدر في محل جر باللام، والجار والمجرور متعلقان بفعل محذوف التقدير: إنهم ما قدروا على الخروج، وهذا الكلام المقدر جواب القسم (يحلفون)، وقدر معطوفا على هذا الجواب: وفعلوا أو وقالوا ذلك للإعراض عنهم. وهذا لينسجم المعنى مع التعليق، وانظر ما ذكرته في الآية رقم [62] منقولا عن ابن هشام. {فَأَعْرِضُوا}: الفاء: هي الفصيحة، وانظر الآية رقم [28]، (أعرضوا): أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق. {عَنْهُمْ}: متعلقان بالفعل قبلهما، وجملة:{فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ} : لا محل لها على جميع الوجوه المعتبرة في الفاء. {إِنَّهُمْ} : حرف مشبه بالفعل. والهاء: اسمها. {رِجْسٌ} : خبرها، والجملة الاسمية تعليل للإعراض عنهم. {وَمَأْواهُمْ}: مبتدأ مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر، والهاء: في محل جر بالإضافة. {جَهَنَّمُ} : خبره، والجملة الاسمية مستأنفة لا محل لها. {جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ}: انظر إعراب هذا الكلام في الآية رقم [82] وجملة:

{سَيَحْلِفُونَ..} . إلخ بدل من جملة: {يَعْتَذِرُونَ} في الآية السابقة، أو هي مفسرة لها.

ص: 217

{يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (96)}

الشرح: {يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ} : يحلف لكم المنافقون إذا رجعتم من سفركم هذا:

إنهم ما قدروا على الخروج معكم إلى غزوة تبوك بسبب الفقر ونحوه؛ لإرضائكم. فتدوموا على مودتهم، وحسن معاملتهم. {فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ} أي: بسبب أيمانهم، وتصدقوهم.. {فَإِنَّ اللهَ لا يَرْضى..} . إلخ، والمعنى: إن رضاكم لا يستلزم رضا الله. ورضاكم وحدكم لا ينفعهم إذا كانوا بسخط الله وبصدد عقابه، أو المعنى إن أمكنهم أن يلبسوا عليكم؛ لا يمكنهم أن يلبسوا على الله.

فلا يهتك سترهم، ولا ينزل الهوان بهم، والمقصود من الآية: النهي عن الرضى عنهم، والاغترار بمعاذيرهم، بعد الأمر بالإعراض عنهم، وعدم الالتفات إليهم. انتهى. بيضاوي بتصرف.

الإعراب: {يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ..} .: انظر الإعراب، وتقدير الجواب في الآية السابقة. والجملة الفعلية:{يَحْلِفُونَ..} . إلخ بدل مما قبلها في الآية السابقة. {فَإِنْ} : الفاء:

حرف تفريع واستئناف. (إن): حرف شرط جازم. {لِتَرْضَوْا} : مضارع فعل الشرط مجزوم، وعلامة جزمه حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق. {عَنْهُمْ}: متعلقان بالفعل قبلهما، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي. {فَإِنْ} :

الفاء: واقعة في جواب الشرط. (إن): حرف مشبه بالفعل. {اللهَ} : اسمها. {لا} : نافية.

{يَرْضى} : مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر. والفاعل يعود إلى {اللهَ} والجملة الفعلية في محل رفع خبر (إن). {عَنِ الْقَوْمِ}: متعلقان بالفعل قبلهما.

{الْفاسِقِينَ} : صفة القوم مجرور، وعلامة جره الياء نيابة عن الكسرة؛ لأنه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، والجملة الاسمية:{فَإِنَّ اللهَ..} . إلخ. في محل جزم جواب الشرط، هذا هو الظاهر، وعند التأمل يتبين لك أن الجواب محذوف، التقدير: فإن ترضوا عنهم، فإن رضاكم لا ينفعهم شيئا، وعليه فالجملة الاسمية مفيدة للتعليل، وإن ومدخولها كلام مستأنف مفرع عما قبله لا محل له.

{الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً وَأَجْدَرُ أَلاّ يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (97)}

الشرح: {الْأَعْرابُ} : انظر الآية رقم [90]. {أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً} : من أهل الحضر، لتوحشهم، وقساوتهم، وعدم مخالطتهم لأهل العلم، وقلة استماعهم لآيات القرآن، وأحاديث سيد الأنام صلى الله عليه وسلم. {وَأَجْدَرُ أَلاّ يَعْلَمُوا حُدُودَ..}. إلخ: أي: هم أحق بعدم معرفة ما أنزل الله على

ص: 218

نبيه صلى الله عليه وسلم من شرائع وأحكام، وتبيين الحلال والحرام، والسبب في ذلك هو بعدهم عن مجالس أهل العلم. {عَلِيمٌ}: بحال كل واحد من أهل الحضر والبادية. {حَكِيمٌ} : يضع الأمور مواضعها، فيعاقب المسيء من أهل الحضر والمدر، ويثيب المحسن منهما، وانظر النفاق في الآية رقم [64].

تنبيه: وجود الكفر والنفاق عند سكان البادية بسبب بعدهم عن الوعظ والإرشاد، ومجالس أهل العلم، لا ينفي أن يوجد في الحضر من هو أفسق وأفسد منهم، والسبب هو بعدهم عن العلم وأهله، فقد رأينا من بلغ من العمر الستين والسبعين، وهو لا يحسن الوضوء، ولا يعرف شيئا من مبطلات الصلاة وغير ذلك، ومتجره على باب مسجد من المساجد، وذلك بسبب انصرافه إلى الدنيا وجمع حطامها الفاني حتى جعلته حمارا يسعى في مصالحها، ويجهل معرفة ما هو من ضروريات دينه، كما رأينا كثيرا من الأعراب قد سكنوا المدن وتوالدوا فيها، فزادوا كفرا ونفاقا على من لا يزال مقيما في البادية، وأضيف: أن الوعظ والإرشاد في هذه الأيام موجود، بل ومنتشر في كل مكان في البادية وغيرها، وذلك بواسطة الإذاعات الإسلامية التي يوجد فيها، ومن تتبع ذلك من إذاعة إلى إذاعة لا يكون بعيدا عن الوعظ والإرشاد، بل هو موجود في بيته أينما حل، وأينما ارتحل، ويمكنني أن أقول، إن الأثير في هذه الأيام إنما هو في خدمة الإسلام، ونشر تعاليمه، ولم تستفد ديانة من الديانات من الأثير ما استفاده الإسلام، فكيف إذا وجهت الإذاعات توجيها قويما، ونشرت سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، وسيرة صحابته، والتابعين لهم بإحسان؟

الإعراب: {الْأَعْرابُ} : مبتدأ. {أَشَدُّ} : خبره، والجملة الاسمية مستأنفة لا محل لها.

{كُفْراً} : تمييز. {وَنِفاقاً} : معطوف على ما قبله. {وَأَجْدَرُ} : معطوف على أشد {أَلاّ} :

(أن): حرف ناصب. (لا): نافية. {يَعْلَمُوا} : مضارع منصوب ب «أن» ، وعلامة نصبه حذف النون

إلخ. والواو فاعله، والألف للتفريق. {حُدُودَ}: مفعول به، واكتفى بمفعول واحد؛ لأن الفعل هنا من المعرفة، و {حُدُودَ}: مضاف، و {ما} مبنية على السكون في محل جر بالإضافة، وهي تحتمل الموصولة، والموصوفة، والجملة الفعلية بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد أو الرابط: محذوف، تقدير الكلام: حدود الذي أو الشيء أنزله الله على رسوله. والجملة الاسمية: {وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} : مستأنفة لا محل لها. وانظر الشرح لتأويل المصدر وتعليقه.

{وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ مَغْرَماً وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (98)}

الشرح: {وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ} : يعد ويحسبه. {ما يُنْفِقُ مَغْرَماً} : ما يصرفه في سبيل الله، ويتصدق به غرامة وخسرانا؛ لأنه لا يحتسبه عند الله، ولا يرجو عليه ثوابا، وإنما ينفقه رياء وتقية من غضب المسلمين. {وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ}: ينتظر ويترقب، والتربص والانتظار

ص: 219

والترقب بمعنى و {الدَّوائِرَ} جمع دائرة، والمراد: تقلب الزمان وصروفه التي تأتي مرة بالخير، ومرة بالشر، والمراد هنا الثاني، فهم يتمنون موت الرسول صلى الله عليه وسلم، أو غلبة المشركين على المسلمين. {عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ} أي: بل ينقلب عليهم الزمان. ويدور الشر والسوء، والبلاء والحزن بهم، ولا يرون في محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه ودينه إلا ما يسوؤهم. {وَاللهُ سَمِيعٌ} أي:

لأقوالهم. {عَلِيمٌ} : بما يخفون في ضمائرهم من النفاق والغش، وإرادة السوء للمؤمنين، و {سَمِيعٌ} و {عَلِيمٌ} صيغتا مبالغة، هذا؛ وقد نزلت الآية في أعراب أسد، وغطفان، وتميم.

بعد هذا انظر شرح: {الْأَعْرابِ} في الآية رقم [90] و {السَّوْءِ} يقرأ بضم السين وفتحها، فالأول: بمعنى المكروه والشر، والهزيمة والبلاء والضرر، والثاني: بمعنى الفساد والرداءة، وانظر الآية رقم [73](الأعراف). وانظر {يُنْفِقُ} في الآية [3] الأنفال.

الإعراب: {وَمِنَ الْأَعْرابِ} : متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {مِنَ} : اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل رفع مبتدأ مؤخر، وانظر ما ذكرته في الآية رقم [50]، {يَتَّخِذُ}: مضارع، وفاعله يعود إلى {مِنَ}. {ما}: تحتمل الموصولة، والموصوفة، فهي مبنية على السكون في محل نصب مفعول به أول. والجملة الفعلية بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد أو الرابط محذوف التقدير: الذي، أو شيئا ينفقه. {مَغْرَماً}: مفعول به ثان، وجملة:{يَتَّخِذُ..} .

إلخ: صلة من، أو صفتها، والعائد، أو الرابط: رجوع الفاعل إليها، وجملة:{وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ} : معطوفة عليها على الوجهين المعتبرين فيها، والجملة الاسمية:{وَمِنَ الْأَعْرابِ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، أو هي مستأنفة لا محل لها على الاعتبارين، {عَلَيْهِمْ}: متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {دائِرَةُ} : مبتدأ مؤخر، وهو مضاف، و {السَّوْءِ}: مضاف إليه، والجملة الاسمية مستأنفة لا محل لها، والجملة الاسمية:{وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} مستأنفة أيضا لا محل لها.

{وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ قُرُباتٍ عِنْدَ اللهِ وَصَلَواتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (99)}

الشرح: {وَمِنَ الْأَعْرابِ} : انظر الآية رقم [90]. {يُؤْمِنُ بِاللهِ} : يصدق ويعتقد بوجود الله تعالى، وينزهه عما لا يليق به من صفات النقصان. {وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} أي: يعتقد بوجود اليوم الذي يحاسب الله فيه العباد. انظر الآية رقم [19]. {وَيَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ قُرُباتٍ عِنْدَ اللهِ} أي: يعد ويحسب ما ينفقه في سبيل الله، ويتصدق به قربات يتقرب بها إلى رضوان الله وعفوه وإحسانه، وهذا عكس ما في الآية السابقة. {وَصَلَواتِ الرَّسُولِ} أي: دعواته للمتصدقين؛ لأنه عليه الصلاة والسلام كان يدعو لهم ويستغفر لهم، وانظر الآية رقم [6]، {أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ}

ص: 220

لَهُمْ: فهذه شهادة من العزيز الحكيم بصحة معتقدهم، وتصديق لرجائهم. {سَيُدْخِلُهُمُ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ}: فهذا وعد من الله تعالى. ولن يخلف وعده بأن يدخلهم جنته يوم القيامة، وعبر برحمته عن الجنة؛ لأنها هي الرحمة الحقيقية. وأية رحمة بعدها إذا لم يدخلها الإنسان؟! {إِنَّ اللهَ غَفُورٌ}: لأوليائه. {رَحِيمٌ} : بأهل طاعته، فهما صيغتا مبالغة، هذا؛ ويقرأ:{قُرْبَةٌ} بضم القاف مع ضم الراء وسكونها، وتجمع على قربات بضم القاف، وتثليث الراء، وانظر ما ذكرته في الآية رقم [142] الأنعام. تجد ما يسرك ويثلج صدرك.

تنبيه: نزلت الآية الكريمة في نفر من بني مقرن من قبيلة مزينة قاله مجاهد، وقال الكلبي:

هم أسلم، وغفار، وجهينة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«أسلم سالمها الله، وغفار غفر لها، أما إني لم أقلها ولكنّ الله قالها» . متفق عليه، وعنه أيضا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قريش والأنصار، وجهينة، ومزينة، وأسلم وأشجع، وغفار موالي ليس لهم مولى دون الله ورسوله» . متفق عليه.

الإعراب: {وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ} : إعراب هذا الكلام مثل ما قبله في الآية السابقة. {قُرُباتٍ} : مفعول به ثان منصوب، وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مؤنث سالم، {عِنْدَ}: ظرف مكان متعلق بمحذوف صفة:

{قُرُباتٍ،} و {عِنْدَ} : مضاف، و {بِاللهِ}: مضاف إليه. هذا؛ وقيل بتعليق الظرف بالفعل (يتخذ) كما قيل بتعليقه ب: {قُرُباتٍ} نفسه، {وَصَلَواتِ}: معطوف على {ما يُنْفِقُ} فهو منصوب.

وعلامة نصبه الكسرة

إلخ، التقدير: ويتخذ صلوات الرسول قربات. {أَلا} : حرف تنبيه واستفتاح. يسترعى به انتباه المخاطب لما يأتي بعده من كلام. {إِنَّها} : حرف مشبه بالفعل.

و (ها): اسمها. {قُرْبَةٌ} : خبرها. {لَهُمْ} : متعلقان ب {قُرْبَةٌ} . أو بمحذوف صفة لها، والجملة الاسمية:{أَلا إِنَّها..} . إلخ ابتدائية أو مستأنفة لا محل لها. {سَيُدْخِلُهُمُ} السين: حرف استقبال مفيد للتأكيد وتحقيق الوقوع. {(سَيُدْخِلُهُمُ اللهُ)} : فعل ومفعول به، وفاعله، والجملة الفعلية مستأنفة لا محل لها. {فِي رَحْمَتِهِ}: متعلقان بالفعل قبلهما، والهاء: في محل جر بالإضافة، والجملة الاسمية:{إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} تعليل أو مستأنفة لا محل لها على الاعتبارين.

{وَالسّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اِتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100)}

الشرح: {وَالسّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ} أي: الذين سبقوا إلى الإسلام، وتسابقوا في الخيرات وفي وجوه البر والإحسان. {مِنَ الْمُهاجِرِينَ} أي: الذين هاجروا من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة،

ص: 221

فرارا بدينهم، وتركوا ديارهم وأموالهم. {وَالْأَنْصارِ} أي: الذين نصروا الرسول صلى الله عليه وسلم، وبذلوا أرواحهم وأموالهم في طريقه، وفي سبيل إعزاز دينه ونشر شريعته، {وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ} أي: بالعمل الصالح، وبذل المال والروح في سبيل الله، لا فيما صدر عنهم من الهفوات والزلات؛ إذ لم يكونوا معصومين، {رضي الله عنهم}: هذا؛ والأنصار اسم إسلامي، لم يعرف من قبل، قيل لأنس بن مالك رضي الله عنه، أرأيت قول الناس لكم: الأنصار، اسم سماكم الله به، أم كنتم تدعون به في الجاهلية؟ قال: بل اسم سمانا الله به في القرآن. {رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} : انظر الآية رقم [119] المائدة.

{وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنّاتٍ}

{الْعَظِيمُ} : انظر الآية رقم [72] و [111].

تنبيه: لقد اختلف في السابقين الأولين، فقيل: هم من صلى إلى القبلتين، وقيل: هم الذين شهدوا بيعة الرضوان، وقيل: هم أهل بدر، وقيل: هم أهل غزوة أحد، واتفقوا على أن من هاجر قبل تحويل القبلة، فهو من الأولين من غير خلاف بينهم.

أما الأفضلية فأفضلهم الخلفاء الأربعة، ثم الستة الباقون إلى تمام العشرة، وهم: الزبير بن العوام، وطلحة بن عبيد الله التيمي، وسعيد بن عمرو بن زيد بن نفيل، وسعد بن أبي وقاص، وأبو عبيدة عامر بن الجراح، وعبد الرحمن بن عوف، ثم البدريون، ثم أصحاب أحد، ثم أهل بيعة الرضوان بالحديبية، رضوان الله عليهم أجمعين.

وقد اختلف في أولهم إسلاما، والمتفق عليهم، والمرضي عند الجميع أن أول من أسلم من الرجال: أبو بكر الصديق، ومن النساء: خديجة الكبرى، ومن الصبيان: علي، ومن الموالي زيد بن حارثة، ومن العبيد: بلال الحبشي رضوان الله عليهم أجمعين، هذا؛ والصحابي هو من اجتمع بالنبي صلى الله عليه وسلم مسلما، ومن آمن به، ولم يجتمع به في حياته، فهو تابعي كالنجاشي ملك الحبشة رضي الله عنه، وأما التابعي فهو من اجتمع بالصحابة، ولو واحدا منهم، وأما من اجتمع بالنبي صلى الله عليه وسلم في حياته، وهو غير مؤمن، ثم آمن بعد وفاته، فهو تابعي، لا صحابي ككعب الأحبار، وأمثاله.

الإعراب: {وَالسّابِقُونَ} : قال أبو البقاء: يجوز أن يكون معطوفا على قوله {مَنْ يُؤْمِنُ} تقديره: ومنهم السابقون، ويجوز أن يكون مبتدأ، وفي الخبر ثلاثة أوجه: أحدهما {الْأَوَّلُونَ،} والمعنى والسابقون إلى الهجرة وغيرها الأولون من أهل الملة، أو السابقون إلى الجنة الأولون إلى الهجرة، والثاني: الخبر {مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ} والمعنى فيه الإعلام بأن السابقين من هذه الأمة هم من المهاجرين والأنصار، والثالث: أن الخبر {رضي الله عنهم} والأنصار: بالجر عطفا على {الْمُهاجِرِينَ} ويقرأ بالرفع عطفا على السابقون. أو هو مبتدأ، والخبر جملة:{رضي الله عنهم} : وذلك على الوجهين الأولين في خبر السابقون. {وَالَّذِينَ} : اسم موصول مبني على

ص: 222

الفتح في محل رفع معطوف على الأنصار. {اِتَّبَعُوهُمْ} : ماض وفاعله ومفعوله، والجملة الفعلية صلة الموصول لا محل لها. {بِإِحْسانٍ}: متعلقان بمحذوف حال من واو الجماعة.

{رَضِيَ اللهُ} : فعل وفاعله. {عَنْهُمْ} : متعلقان بالفعل قبلهما. والجملة الفعلية في محل رفع خبر (السابقون)، أو في محل رفع خبر (الأنصار). على نحو ما رأيت فيما سبق. وجملة:

{وَرَضُوا عَنْهُ} : معطوفة عليها على الاعتبارين فيها، وجملة:{وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً} : معطوفة على ما قبله، وانظر الإعراب في الآية رقم [63]. فهو مثله بلا فارق. {ذلِكَ} اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع مبتدأ، واللام: للبعد، والكاف: حرف خطاب لا محل له. {الْفَوْزُ} : خبره. {الْعَظِيمُ} : صفة، والجملة الاسمية مستأنفة لا محل لها. تأمل، وتدبر، وربك أعلم.

{وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ (101)}

الشرح: {حَوْلَكُمْ} : ظرف مكان، وهو لا يتصرف، فهو ملازم للظرفية أبدا. يقال: قد قعد حوله وحواله، وحوليه، وحواليه، ولا تقل: حواليه بكسر اللام، وقعد بحياله وحياله، أي: بإزائه وإزاءه. {الْأَعْرابِ} : انظر الآية رقم [90]. {مُنافِقُونَ} : انظر الآية رقم [64]. {أَهْلِ} : انظر الآية رقم [83](الأعراف). {مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ} : تمرنوا على النفاق، وأصروا عليه، ولم يتوبوا منه، وأبوا غيره. {لا تَعْلَمُهُمْ}: لا تعرفهم، هذا خطاب لسيد الخلق، وحبيب الحق، الناطق بالصدق. {نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ} أي: نعرفهم. وانظر العلم والمعرفة في الآية رقم [60] من سورة (الأنفال). وانظر (نا) في الآية رقم [7] من سورة (الأعراف). {سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ} : الأولى:

الفضيحة وكشف الأسرار في الدنيا، والثانية بعذاب القبر، وقيل: الأولى أخذ الزكاة من أموالهم، وإجراء الحدود عليهم، والثانية عذاب القبر، {ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ}: هو الخلود في جهنم وبئس المصير. {ثُمَّ} : انظر الآية رقم [103] من سورة (الأعراف). {عَذابٍ} :

انظر الآية رقم [39] هذا؛ ومعنى {وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ} أي: يوجد منافقون من أهل المدينة، أي:

من الأوس والخزرج.

الإعراب: {وَمِمَّنْ} : (ممن): جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {حَوْلَكُمْ} : ظرف مكان متعلق بمحذوف صلة الموصول، والكاف: في محل جر بالإضافة. {مِنَ الْأَعْرابِ} :

متعلقان بمحذوف حال من الضمير المستتر في متعلق الظرف. {مُنافِقُونَ} : مبتدأ مؤخر مرفوع، وعلامة رفعه الواو نيابة عن الضمة لأنه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، والجملة الاسمية مستأنفة لا محل لها. {وَمِنْ أَهْلِ}: متعلقان بمحذوف خبر مقدم،

ص: 223

و {أَهْلِ} : مضاف، و {الْمَدِينَةِ}: مضاف إليه. {مَرَدُوا} : ماض مبني على الضم، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية في محل رفع صفة لمبتدإ مؤخر محذوف، التقدير:

ومن أهل المدينة قوم مردوا

إلخ. وقيل: الجملة الفعلية صفة {مُنافِقُونَ،} والمبتدأ المؤخر محذوف. التقدير: ومن أهل المدينة مثل ذلك، والأول أقوى، وأتم معنى. {عَلَى النِّفاقِ}:

متعلقان بالفعل قبلهما، والجملة الاسمية:{وَمِنْ أَهْلِ..} . إلخ. معطوفة على ما قبلها لا محل لها مثلها. {لا} : نافية. {تَعْلَمُهُمْ} : مضارع، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» ، والهاء: مفعول به، والجملة الفعلية في محل رفع صفة ثانية للمبتدإ المحذوف. أو هي في محل نصب حال من واو الجماعة، والرابط الضمير فقط. التقدير: غير معلومين لك. {نَحْنُ} : ضمير منفصل مبني على الضم في محل رفع مبتدأ. {نَعْلَمُهُمْ} : مضارع، وفاعله مستتر تقديره:«نحن» ، والهاء: مفعول به، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية:{نَحْنُ..} . إلخ، مستأنفة لا محل لها. {سَنُعَذِّبُهُمْ}: السين: حرف استقبال مفيد للتوكيد وتحقق الوقوع. (نعذبهم):

مضارع، وفاعله نحن، والهاء: مفعول به، والجملة الفعلية مستأنفة لا محل لها. {مَرَّتَيْنِ}:

نائب مفعول مطلق منصوب، وعلامة نصبه الياء لأنه مثنى. {ثُمَّ}: حرف عطف. {يُرَدُّونَ} :

مضارع مبني للمجهول مرفوع، والواو: نائب فاعله. {إِلى عَذابٍ} : متعلقان بالفعل قبلهما، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها لا محل لها مثلها. {عَظِيمٍ}: صفة عذاب.

{وَآخَرُونَ اِعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (102)}

الشرح: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ} : هؤلاء جماعة من أهل المدينة، تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، ثم ندموا على ذلك، واختلفوا في عددهم، فقيل: كانوا عشرة، منهم أبو لبابة، وقيل: كانوا خمسة منهم أبو لبابة، وقالوا: أنكون من الضلال، ومع النساء، ورسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه في الجهاد واللأواء؟! فلما قرب الرسول من المدينة وهو راجع من سفره، قالوا: والله لنوثقن أنفسنا بالسواري. فلا نطلقها، حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يطلقنا ويعذرنا، فربطوا أنفسهم في سواري المسجد، فمر بهم عليه الصلاة والسلام في المسجد، فرآهم، فقال:«من هؤلاء» فقالوا: هؤلاء الذين تخلفوا عنك، فعاهدوا الله أن لا يطلقوا أنفسهم، حتى تكون أنت الذي تطلقهم، وترضى عنهم، فقال:«وأنا أقسم بالله، لا أطلقهم، ولا أعذرهم، حتى أومر بإطلاقهم، رغبوا عني، وتخلفوا عن الغزو مع المسلمين» .

فأنزل الله عز وجل هذه الآية، فأرسل إليهم صلى الله عليه وسلم، فأطلقهم، وعذرهم، فلما أطلقوا، قالوا:

يا رسول الله هذه أموالنا التي خلفتنا عنك، خذها، فتصدق بها عنا، وطهرنا، واستغفر لنا،

ص: 224

فقال: «ما أمرت أن آخذ من أموالكم شيئا» ، فأنزل الله:{خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ..} . إلخ الآية التالية، وانظر قصة أبي لبابة في الآية رقم [27] من سورة (الأنفال).

{اِعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ} : أقروا بذنبهم، وفيه لطيفة، وهي أنهم لم يعتذروا عن تخلفهم بأعذار باطلة كغيرهم، من المنافقين، وهل يكون مجرد الاعتراف بالذنب توبة؟ كلا، لا يكون؛ لأن التوبة النصوح المقبولة، يجب أن تتوافر فيها ثلاثة أمور، إن كانت من حق الله تعالى: الاستغفار باللسان، والندم بالجنان، والإقلاع بالأركان، وإن كانت من حق العباد يجب رد الحقوق لأصحابها بحسب الإمكان، فإذا لم يرد المظالم لأهلها، لا تقبل توبته، وإن تاب ألف توبة.

{خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً} : العمل الصالح: هو الاعتراف بالذنب وتوبتهم منه، وقيل: هو الخروج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سائر الغزوات، والعمل السيئ: هو تخلفهم عنه في غزوة تبوك، وقيل: إن العمل الصالح يعم جميع أعمال البر والطاعة، والسيئ بضده، وعليه تكون الآية في حق جميع المسلمين، والحمل على العموم أولى؛ لأن خصوص السبب لا يمنع التعميم، فقد روى الطبراني عن أبي عثمان، قال: ما في القرآن آية أرجى عندي لهذه الأمة من قوله تعالى:

{وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ} . ولا تنس أن قوله: {خَلَطُوا..} . إلخ إنما هو استعارة تبعية بالفعل لأن الخلط يكون في المحسوسات: {عَسَى اللهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} : فعسى هنا للتأكيد لتحقيق الوقوع إن شاء الله تعالى، وهو ما يفيده قوله جل شأنه:{إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} .

الإعراب: {وَآخَرُونَ} : معطوف على منافقون، أو على (قوم) المحذوف، وتقدير الكلام:

وممن حولكم آخرون، أو ومن أهل المدينة آخرون، ويجوز أن يكون مبتدأ وخبره ما يأتي، فهو مرفوع، وعلامة رفعه الواو نيابة عن الضمة؛ لأنه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد. {اِعْتَرَفُوا}: فعل وفاعل، والألف للتفريق، {بِذُنُوبِهِمْ}: متعلقان بالفعل قبلهما، والهاء: في محل جر بالإضافة، وجملة:{اِعْتَرَفُوا..} . إلخ في محل رفع صفة (آخرون)، وجملة:{خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً} في محل رفع خبر (آخرون)، على اعتباره مبتدأ، أو هي في محل نصب حال من واو الجماعة على اعتباره معطوفا على ما قبله، والرابط: الضمير فقط، و (قد) قبلها مقدرة. {وَآخَرَ}: معطوف على {عَمَلاً} . {سَيِّئاً} : صفته. {عَسَى} : فعل ماض جامد مبني على فتح مقدر على الألف للتعذر. {اللهُ} : اسمه، والمصدر المؤول من {أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} في محل نصب خبر {عَسَى،} ويجب تأويله باسم الفاعل؛ لأن المصدر لا يخبر به عن الجثة، وجملة:{عَسَى اللهُ..} . إلخ، مستأنفة لا محل لها، أو هي في محل رفع خبر المبتدأ (آخرون):

واعتبار جملة: {خَلَطُوا..} . إلخ حالا، والجملة الاسمية:{إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} تعليل للرجاء.

تأمل، وتدبر، والله أعلم، وأجل، وأكرم.

ص: 225

{خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103)}

الشرح: {خُذْ} : أمر للنبي صلى الله عليه وسلم بأن يأخذ من أموال المذكورين في الآية السابقة صدقة، فأخذ ثلث أموالهم، وهذه الصدقة صدقة كفارة الذنب الذي صدر منهم؛ لأن الصدقة الواجبة، أي: الزكاة، لا يؤخذ فيها ثلث المال، ويؤخذ منه أن كل من أتى ذنبا يسن له بصدقة كفارة لذنبه، {تُطَهِّرُهُمْ} أي: من الذنوب، ويحتمل أنه خطاب للرسول صلى الله عليه وسلم، وأن الفاعل يعود إلى صدقة. {وَتُزَكِّيهِمْ بِها}: تنمي بها حسناتهم، وترفعهم إلى منازل المخلصين. {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ}: ادع لهم بالمغفرة، ولذا يسن في حق كل إمام يأخذ الصدقة أن يدعو للمتصدق بالبركة، فيقول:

آجرك الله فيما أعطيت، وبارك لك فيما أبقيت، كما يسن في حق كل من تصدّق عليه، أن يدعو للمتصدق بالبركة والمغفرة ونحو ذلك. {إِنَّ صَلاتَكَ}: وقرئ «(صلواتك)» . {سَكَنٌ لَهُمْ} : تسكن بها نفوسهم، وتطمئن بها قلوبهم. {وَاللهُ سَمِيعٌ}: لأقوالهم واعترافهم. {عَلِيمٌ} : بندامتهم ونياتهم. بعد هذا انظر شرح (المال) في الآية رقم [28] من سورة (الأنفال)، وانظر شرح (الصلاة) ومعناها في الآية رقم [5].

الإعراب: {خُذْ} : أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» . {مِنْ أَمْوالِهِمْ} : متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من {صَدَقَةً} كان صفة له، فلما قدم عليه صار حالا، والهاء في محل جر بالإضافة. {صَدَقَةً}: مفعول به. {تُطَهِّرُهُمْ} : مضارع والفاعل تقديره:

«أنت» ، والهاء: مفعول به. والجملة الفعلية في محل نصب حال من فاعل {خُذْ} المستتر، وعلى اعتبار الفاعل عائدا على {صَدَقَةً،} فالجملة الفعلية صفة لها، وحذف الرابط لدلالة ما بعده عليه، وجملة:{وَتُزَكِّيهِمْ بِها} في محل نصب حال من فاعل {خُذْ} المستتر، والرابط:

الواو، والضمير، وهذا على اعتبار جملة:{تُطَهِّرُهُمْ} صفة: {صَدَقَةً} وأما على اعتبارها حالا من فاعل {خُذْ} المستتر، فهي معطوفة عليها، هذا؛ وقيل بعطفها عليها على الوجهين المعتبرين فيها، كما قيل باستئنافهما. (صلّ): أمر مبني على حذف حرف العلة من آخره، وهو الياء، والكسرة قبلها دليل عليها، والفاعل مستتر تقديره:«أنت» ، والجملة الفعلية معطوفة على جملة:

{خُذْ..} . إلخ لا محل لها مثلها، الأولى بالاستئناف، والثانية بالاتباع. {عَلَيْهِمْ}: متعلقان بما قبلهما. {إِنَّ} : حرف مشبه بالفعل. {صَلاتَكَ} : اسمها، والكاف: في محل جر بالإضافة.

{سَكَنٌ} : خبرها. {أَمْوالِهِمْ} : متعلقان ب {سَكَنٌ؛} لأنه مصدر، أو بمحذوف صفة له، والجملة الاسمية:{إِنَّ صَلاتَكَ..} . إلخ تعليل للأمر، لا محل لها، والجملة الاسمية:{وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} مستأنفة لا محل لها.

ص: 226

{أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ وَأَنَّ اللهَ هُوَ التَّوّابُ الرَّحِيمُ (104)}

الشرح: {أَلَمْ يَعْلَمُوا..} . إلخ أي: الذين تابوا وقبلت توبتهم، فيكون الاستفهام للتقرير والتبشير، أو الذين لم يتوبوا من المتخلفين عن غزوة تبوك، فيكون الاستفهام للتخصيص والترغيب في التوبة، وذلك أنه لما نزلت توبة التائبين قال الذين لم يتوبوا من المتخلفين، هؤلاء كانوا بالأمس مثلنا، لا يكلمون، ولا يجالسون، فما بالهم اليوم، فأنزل الله الآية الكريمة ترغيبا لهم في التوبة، {عَنْ عِبادِهِ}: هو مثل (من عباده) لأن معنى (عن) و (من) متقاربان، هذا؛ و {عِبادِهِ} جمع عبد، هو الإنسان من بني آدم، حرا كان أو رقيقا، ويقال: للمملوك، قن، وله جموع كثيرة، وأشهرها عبيد وعباد، والإضافة في الآية ونحوها إضافة تشريف، {وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ}: يتقبلها، ويثيب عليها، وإنما ذكر لفظ الأخذ، ترغيبا في بذل الصدقة، وإعطائها للفقراء، ولما كان سبحانه هو المثيب عليها أسند الأخذ إلى نفسه، وإن كان الفقير هو الآخذ لها، وفي ذلك أذكر أحاديث شريفة لتزداد إيمانا فوق إيمانك بهذا. فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما تصدّق أحدكم بصدقة من كسب حلال طيّب-ولا يقبل الله إلا الطيّب-إلاّ أخذها الرّحمن بيمينه، وإن كانت تمرة، فتربو في كفّ الرحمن، حتّى تكون أعظم من الجبل، كما يربي أحدكم فلوه أو فصيله» . متفق عليه، وروى الترمذي، عن أبي هريرة أيضا، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ الله يقبل الصّدقة، ويأخذها بيمينه، فيربيها لأحدكم، كما يربي أحدكم مهره؛ حتى إنّ اللقمة لتصير مثل أحد» . وتصديق ذلك في كتاب الله: {هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ} و {يَمْحَقُ اللهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ} وروي: «إنّ الصّدقة لتقع في كفّ الرّحمن، قبل أن تقع في كفّ السائل، فيربيها كما يربي أحدكم فلوّه، أو فصيله، والله يضاعف لمن يشاء» .

قال العلماء رحمهم الله تعالى في تأويل هذه الأحاديث: إن هذا كناية عن القبول والجزاء عليها، كما كنى سبحانه بنفسه الكريمة المقدسة، عن المريض تعطفا عليه بقوله في الحديث القدسي: «يا ابن آدم مرضت فلم تعدني

إلخ». الحديث، وخص اليمين والكف بالذكر؛ لأن كل قابل لشيء إنما يأخذه بكفه وبيمينه، أو يوضع له فيه، فخرج على ما يوفونه، والله عز وجل منزه عن الجارحة. {التَّوّابُ}: كثير قبول التوبة من عباده، أو الرجاع على عباده بالرحمة، وتوبة العبد رجوعه عن المعصية إلى الطاعة، وقرع باب ربه بالتوبة والإنابة، {الرَّحِيمُ}: انظر (البسملة) في أول سورة (يوسف) عليه السلام.

الإعراب: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ} : انظر إعراب هذه الجملة مع سبك المصدر في الآية رقم [78]. {هُوَ} : ضمير منفصل مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ، وجملة:{يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ}

ص: 227

عِبادِهِ: في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية:{هُوَ..} . إلخ في محل رفع خبر {أَنَّ،} و {أَنَّ} واسمها وخبرها في تأويل مصدر في محل نصب سد مسد مفعول الفعل يعلم، وجملة:

{وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ} معطوفة على ما قبلها، فهي في محل رفع مثلها. {أَنَّ}: حرف مشبه بالفعل.

{اللهَ} : اسمها. {هُوَ} : مبتدأ. {التَّوّابُ} : خبره. {الرَّحِيمُ} : خبر ثان. والجملة الاسمية في محل رفع خبر {أَنَّ،} وإن اعتبرت {هُوَ} ضمير فصل لا محل له من الإعراب، فيكون {التَّوّابُ الرَّحِيمُ} . خبرين ل (أن)، و (أن) واسمها وخبرها في تأويل مصدر معطوف على ما قبله، فهو في محل نصب مثله. وجملة:{أَلَمْ يَعْلَمُوا..} . إلخ مستأنفة لا محل لها من الإعراب.

{وَقُلِ اِعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105)}

الشرح: {وَقُلِ} : خطاب لسيد الخلق وحبيب الحق صلى الله عليه وسلم، {اِعْمَلُوا}: خطاب لجميع الناس. {فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ} : فإنه لا يخفى عليه سبحانه، سواء أكان خيرا، أم شرا؟ ففيه ترغيب عظيم للمطيعين، ووعيد عظيم للعاصين المذنبين، {وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} أي: وسيرى الرسول والمؤمنون أعمالكم: أما رؤية الرسول صلى الله عليه وسلم، فباطلاع الله إياه على سرهم وعلانيتهم، وأما رؤية المؤمنين فيما يرون من أعمالهم الظاهرة، فيتسبب عن هذا محبتهم للصالحين، وبغضهم للفاسدين المفسدين، وانظر إعلال (يرى) في الآية رقم [142] من سورة (الأعراف)، {وَسَتُرَدُّونَ..} . إلخ، انظر شرح هذا الكلام في الآية رقم [94] ففيها الكفاية.

قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «لو أنّ أحدكم يعمل في صخرة صمّاء لا باب لها، ولا كوة؛ لخرج ما غيّبه للنّاس كائنا ما كان» . وكوة بفتح الكاف، وجمعها كواء، وبضم الكاف لغة، وجمعها كوى.

الإعراب: {وَقُلِ} : (قل): أمر مبني على السكون، وحرك بالكسر لالتقاء الساكنين، والفاعل مستتر تقديره:«أنت» . {اِعْمَلُوا} : أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق، والمفعول محذوف، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول، وجملة:{وَقُلِ اعْمَلُوا..} . إلخ مستأنفة لا محل لها. {فَسَيَرَى} : الفاء: حرف تعليل. السين: حرف استقبال مفيد للتأكيد وتحقق الوقوع. (يرى): مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر. {اللهُ}:

فاعله. {عَمَلَكُمْ} : مفعول به، والكاف: في محل جر بالإضافة، وقد اكتفى الفعل بمفعول واحد؛ لأنه بصري، وجملة:{فَسَيَرَى..} . إلخ تعليل للأمر، وهي داخلة في مقول القول، {وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ}: معطوفان على لفظ الجلالة {وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ..} . إلخ: انظر إعراب هذا الكلام، إفرادا وجملا في الآية رقم [94] وهو داخل في مقول القول. تأمل، وتدبر، وربك أعلم.

ص: 228

{وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ إِمّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (106)}

الشرح: {وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ} أي: وآخرون من المتخلفين عن غزوة تبوك مؤخرون وموقوف أمرهم لحكم الله تعالى فيهم، و {مُرْجَوْنَ} من: أرجيته، أي: أخرته، ويقرأ بالهمزة «مرجئون» من أرجأته، أي: أخرته أيضا، وهذا كقراءتهم في الأحزاب:«(ترجئ)» بالهمز، وبدونه، وهما لغتان، يقال: أرجأته، وأرجيته كأعطيته، ويحتمل أن يكونا أصليين بنفسهما، وأن تكون الياء بدلا من الهمزة؛ لأنه قد عهد تحقيقها إلى الياء كثيرا، كقرأت وقريت، وتوضأت وتوضيت. انتهى. جمل نقلا عن السمين. وانظر {أَرْجِهْ} في الآية رقم [111] من سورة (الأعراف). {إِمّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ}:{إِمّا} هاهنا للشك، والله سبحانه عالم بمصير الأشياء، ولكن المخاطبة للعباد على ما يعرفون، أي: ليكن أمرهم عندكم على الرجاء؛ لأنه ليس للعباد أكثر من هذا. انتهى. قرطبي. {وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} : مر معنا كثير من هذا، وقرئ:

«(والله غفور رحيم)» هذا؛ والآية نزلت في الثلاثة الذين يجيء ذكرهم في الآية رقم [118].

قال بعض المفسرين: إن الله تبارك وتعالى قسم المتخلفين عن غزوة تبوك إلى ثلاثة أقسام:

أولهم: المنافقون، وهم الذين مردوا على النفاق واستمروا عليه.

والقسم الثاني: التائبون، وهم الذين سارعوا إلى التوبة، بعد ما اعترفوا بذنوبهم، وهم أبو لبابة وأصحابه، فقبل الله توبتهم.

والقسم الثالث: موقوفون ومؤخرون إلى أن يحكم الله فيهم، وهم المراد بقوله تعالى:

{وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ} .

والفرق بين القسم الثاني والثالث، أن القسم الثاني: سارعوا إلى التوبة والندم، فقبل الله توبتهم، والقسم الثالث: توقفوا ولم يسارعوا إلى التوبة، فأخر الله أمرهم، وهذه الآية نزلت في الثلاثة الذين تخلفوا، وهم (كعب بن مالك، وهلال بن أمية، ومرارة بن الربيع)، انتهى خازن بتصرف. ويلغز فيهم، فيقال: أول أسمائهم مكة، وآخر أسمائهم عكة.

(إما) الثانية عاطفة عند أكثرهم، وزعم يونس والفارسي وابن كيسان: أنها غير عاطفة كالأولى، ووافقهم ابن مالك لملازمتها غالبا الواو العاطفة، ونقل ابن عصفور الإجماع على أن الثانية غير عاطفة كالأولى.

ول «إما» خمسة معان: أحدها: الشك، نحو:«جاءني إمّا زيد وإما عمرو» ، إذا لم تعلم الجائي منهما.

ص: 229

والثاني: الإبهام، وهو ما في الآية الكريمة.

والثالث: التخيير، نحو قوله تعالى:{إِمّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً} والآية رقم [115] من سورة (الأعراف).

والرابع: الإباحة، نحو:(تعلم إما فقها، وإما نحوا).

والخامس: التفصيل، نحو قوله تعالى:{إِمّا شاكِراً وَإِمّا كَفُوراً،} انتهى. مغني اللبيب باختصار.

أقول: والتفصيل هو المعنى الذي لا يفارقها مع كل من المعاني المذكورة.

الإعراب: {وَآخَرُونَ} : (آخرون): معطوف على مثله في الآية رقم [102]. والتقدير: ومنهم آخرون، أو هو مبتدأ خبره ما يأتي. {مُرْجَوْنَ}: صفته، وعلامة الرفع فيهما الواو نيابة عن الضمة؛ لأنهما جمعا مذكر سالمان، {لِأَمْرِ}: متعلقان ب {مُرْجَوْنَ،} و (أمر) مضاف، و {اللهِ}:

مضاف إليه، من إضافة المصدر لفاعله. {إِمّا}: أداة شرط وتفصيل، وهي هنا مفيدة للإبهام.

{يُعَذِّبُهُمْ} : مضارع، والفاعل يعود إلى (الله)، والهاء مفعول به، والجملة الفعلية في محل رفع خبر (آخرون) على اعتباره مبتدأ، أو خبر ثان على اعتبار {مُرْجَوْنَ} خبرا أول، أو هي في محل نصب حال. على اعتبار (آخرون) معطوفا على سابقه. {وَإِمّا}: الواو: حرف عطف. (إما):

حرف عطف، أو هي معطوفة على ما قبلها على نحو ما رأيت، وجملة:{يَتُوبُ عَلَيْهِمْ} معطوفة على ما قبلها على الوجهين المعتبرين فيها. فعلى الأول: التقدير: {وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ،} إما العذاب، وإما التوبة، وعلى الثاني: وممن حولكم {وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ} إما معذبين، وإما متوبا عليهم، والجملة الاسمية:{وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} مستأنفة، فيها وعد للمحسنين، ووعيد للمسيئين.

تنبيه: الإعراب المتقدم هو الظاهر، وهو منقول عن السمين، وأرى أن الفعل:{يُعَذِّبُهُمْ} مبتدأ خبره محذوف، ومثله ما بعده، التقدير: إما العذاب واقع بهم، وإما التوبة حاصلة لهم، والجملة الاسمية الأولى، يقال فيها ما تقدم ذكره، والثانية معطوفة عليها، والذي حملني على هذا؛ وقوع الاسم بعد {إِمّا} غالبا، إما صراحة كقول تأبط شرا:[الطويل]

هما خطّتا إمّا إسار ومنّة

وإمّا دم والقتل بالحرّ أجدر

أو تأويلا، كما في قوله تعالى:{قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً} وكما في الآية رقم [115] من سورة (الأعراف)، وغيرهما كثير، وبقي أن تعلم: أن المضارع {يُعَذِّبُهُمْ} حل محل المصدر لأنه على تقدير أن قبله، على حد قوله تعالى:{وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً..} . إلخ والمثل العربي: (تسمع بالمعيديّ خير من أن تراه)، خذ هذا وافهمه فإنه جيد، والله الموفق، والمعين، وبه أستعين.

ص: 230

{وَالَّذِينَ اِتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ الْحُسْنى وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (107)}

الشرح: قال أهل التفسير: إن بني عمرو بن عوف بنوا مسجد قباء، وبعثوا للنبي صلى الله عليه وسلم أن يأتيهم، فأتاهم فصلى فيه، فحسدهم إخوانهم بنو غنم بن عوف، فقالوا: نبني مسجدا، ونبعث إلى النبي صلى الله عليه وسلم، يأتينا، فيصلي لنا كما صلى في مسجد إخواننا، ويصلي فيه أبو عامر الراهب إذا قدم من الشام، فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم، وهو يتجهز إلى تبوك، فقالوا: يا رسول الله! قد بنينا مسجدا لذي الحاجة، والعلة، والليلة المطيرة، ونحب أن تصلي فيه، وتدعو لنا بالبركة، فقال صلى الله عليه وسلم:«إني على سفر، وحال شغل، فلو قدمنا لأتيناكم وصلّينا لكم فيه» . فلما رجع عليه الصلاة والسلام من تبوك، أتوه، وقد فرغوا منه، وصلوا فيه الجمعة والسبت، والأحد، فدعا بقميصه ليلبسه، ويأتيهم، فنزلت الآية الكريمة، وما بعدها، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم مالك بن الدخشم، ومعن بن عدي، وعامر بن السكن، ووحشيا قاتل حمزة، فقال:«انطلقوا إلى هذا المسجد الظّالم أهله، فاهدموه وأحرقوه» . فخرجوا مسرعين، فأحرقوا المسجد وهدموه، واتخذ مكانه كناسة، وكان الذين بنوه اثني عشر رجلا من رؤساء المنافقين، قال عكرمة رحمه الله: سأل عمر بن الخطاب رضي الله عنه رجلا منهم بماذا أعنت في هذا المسجد؟ فقال: أعنت فيه بسارية، فقال: أبشر بها، سارية في عنقك من نار جهنم.

بعد هذا انظر شرح (مسجدا) في الآية رقم [29] من سورة (الأعراف). {ضِراراً} أي:

للمؤمنين، روى الدارقطني عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

«لا ضرر، ولا ضرار، من ضارّ ضرّ الله به، ومن شاقّ شاقّ الله عليه» .

قال بعض العلماء: الضرر الذي لك به منفعة، وعلى جارك فيه مضرة، والضرار الذي ليس لك فيه منفعة، وعلى جارك فيه المضرة، وقيل: هما بمعنى واحد، تكلم بهما جميعا على جهة التأكيد، هذا؛ وقد قال العلماء: وكل مسجد بني على ضرار، أو رياء، أو سمعة، فهو في حكم مسجد الضرار، لا تجوز الصلاة فيه.

{وَكُفْراً} أي: بالله ورسوله، أو بنوه تقوية للكفر، ومكيدة للإسلام والمسلمين، {وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ} أي: بين جماعة المؤمنين في مسجد واحد، وهذا دليل على أن الحكمة من صلاة الجماعة تأليف القلوب، وجمع الكلمة على الطاعة، وتوحيد الصفوف أمام المصاعب التي تنوب المسلمين، ولكن أكثر المسلمين لا يفقهون هذا. {وَإِرْصاداً}: ترقبا، وانتظارا {لِمَنْ حارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ} أي: من قبل بناء مسجد الضرار، والمراد به أبو عامر الراهب، سمي

ص: 231

بذلك لأنه كان قد تنصر قبل الإسلام، وترهب، ولبس المسوح، فلما قدم الرسول صلى الله عليه وسلم المدينة، قال له أبو عامر: ما هذا الدين الذي جئت به، فقال:«جئت بالحنيفيّة السمحة دين إبراهيم» .

قال أبو عامر: أنا عليها، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:«إنك لست عليها» . قال: بلى ولكنك أدخلت فيها ما ليس منها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«ما فعلت، ولكن جئت بها بيضاء نقيّة» . فقال: أمات الله الكاذب منا طريدا وحيدا غريبا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«آمين» . وسماه أبا عامر الفاسق، فلما كان يوم أحد؛ قال للنبي صلى الله عليه وسلم، لا أجد قوما يقاتلونك إلا قاتلتك معهم، فلم يزل وكذلك إلى يوم حنين، فلما انهزمت هوازن خرج إلى الروم يستنصر بهم، وأرسل إلى المنافقين في المدينة، أن أعدوا ما استطعتم من قوة وسلاح، وابنوا لي مسجدا فإني ذاهب إلى قيصر، فآت بجند من الروم لأخرج محمدا من المدينة. فبنوا مسجد الضرار، إلى جانب مسجد قباء، ومات الخبيث بقنسرين كافرا، وأبو عامر هذا هو والد حنظلة غسيل الملائكة رضي الله عنه، فنعم الولد، وبئس الأب!

{وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ الْحُسْنى} أي: يحلف المنافقون بالله ما أردنا إلا الخصلة الحسنى، وهي الصلاة والذكر والتوسعة على المصلين، وانظر الآية رقم [52] والمحال عليها.

{وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ} أي: في إيمانهم وقولهم: ما أردنا إلا الحسنى، ويعلم خبثهم، وما انطووا عليه من شر وفساد، وسوء أعمال.

الإعراب: {وَالَّذِينَ} : اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع معطوف على {وَآخَرُونَ} في الآية السابقة، التقدير: ومنهم الذين

إلخ، فهو عطف جملة اسمية على مثلها، هذا؛ ويجوز أن يكون مبتدأ خبره محذوف، التقدير: يعذبون ونحوه، هذا؛ ويقرأ بدون واو، فهو مبتدأ، ويكون خبره جملة:{لا تَقُمْ} وقال النحاس: يكون خبره {لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ..} . إلخ، وقال أبو البقاء: الخبر {أَفَمَنْ أَسَّسَ..} . إلخ، وفيه بعد شديد، هذا؛ وقال الزمخشري: منصوب على الاختصاص بفعل محذوف، أي: فيكون على الذم، وجملة:

{اِتَّخَذُوا مَسْجِداً} صلة الموصول لا محل لها. {ضِراراً} : مفعول لأجله، وقيل: مفعول ثان للفعل قبله، وقيل: حال، وقيل: مفعول مطلق لفعل محذوف، ومتعلقه محذوف، التقدير:

ضرارا لإخوانهم. {وَكُفْراً} : معطوف عليه على جميع الوجوه المعتبرة فيه، ومتعلقه محذوف التقدير: كفرا بالله وبرسوله. {وَتَفْرِيقاً} : معطوف على ما قبله. {بَيْنَ} : ظرف مكان متعلق بما قبله، أو بمحذوف صفة، و {بَيْنَ}: مضاف، و {الْمُؤْمِنِينَ}: مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الياء نيابة عن الكسرة؛ لأنه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد.

{وَإِرْصاداً} : معطوف على ما قبله على جميع الوجوه المعتبرة فيهن. {لِمَنْ} : متعلقان بالمصدر قبلهما، و (من) تحتمل الموصولة، والموصوفة، فهي مبنية على السكون في محل جر باللام، وجملة:{حارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ} : صلة (من)، أو صفتها، والعائد أو الرابط: رجوع الفاعل إليها.

ص: 232

{مِنْ قَبْلُ} : متعلقان بالفعل {حارَبَ} . و {قَبْلُ} : مبني على الضم لقطعه عن الإضافة لفظا لا معنى، أي: من قبل بناء مسجد الضرار. {وَلَيَحْلِفُنَّ} : الواو: حرف استئناف. اللام: لام الابتداء، مفيدة للتوكيد. (يحلفن): مضارع مرفوع، وعلامة رفعه النون المحذوفة لتوالي الأمثال، وواو الجماعة المحذوفة المدلول عليها بالضمة فاعله. {إِنْ}: حرف نفي. {أَرَدْنا} :

فعل وفاعل. {إِلاَّ} : حرف حصر. {الْحُسْنى} : مفعول به منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على الألف للتعذر، والجملة الفعلية:{إِنْ أَرَدْنا..} . إلخ: جواب (يحلفنّ) لا محل لها من الإعراب. والقسم وجوابه كلام مستأنف لا محل له. {وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ} : انظر إعراب مثل هذه الجملة في الآية رقم [42]، وما ذكرته من التعليق، وكسر همزة (إنّ) فيها.

{لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108)}

الشرح: {لا تَقُمْ} : الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم. فيه: في مسجد الضرار المذكور في الآية السابقة، والمعنى: لا تصل فيه. {أَبَداً} : انظر الآية رقم [22]، {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى}:

المراد به مسجد قباء، أسسه النبي صلى الله عليه وسلم وصلى فيه أيام مقامه بقباء من الاثنين إلى الجمعة؛ لأنه الأوفق لما ذكر في الآية السابقة، أو هو مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة، لقول أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه، فقال:«هو مسجدكم هذا مسجد المدينة» .

{مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ} أي: من أيام وجوده وبنائه، هذا؛ وقيل:(من) هنا بمعنى (منذ) على حد قول زهير بن أبي سلمى: [الكامل]

لمن الدّيار بقنّة الحجر

أقوين من حجج، ومن دهر

أي: منذ حجج، ومنذ دهر، وقد دعا إلى هذا أن من أصول النحويين أن {مِنْ} لا يجر بها الأزمان، وإنما تجر الأزمان بمنذ، وانظر شرح {أَوَّلِ} في الآية رقم [143] من سورة (الأعراف)، {أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ}: أولى وأجدر بأن تقوم فيه للصلاة، والضمير يعود إلى المسجد المذكور، {فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا} أي: من المعاصي والخصال المذمومة، طلبا لمرضاة الله تعالى، وقيل: من الجنابة، فلا ينامون عليها، والضمير يعود إلى مسجد قباء، {وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ}: يرضى عنهم، ويدنيهم من جنابه تعالى، إدناء المحب حبيبه.

قيل: لما نزلت الآية الكريمة مشى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعه المهاجرون، حتى وقف على باب مسجد قباء، فإذا الأنصار جلوس، فقال عليه الصلاة والسلام:«أمؤمنون أنتم؟» . فسكتوا، فأعادها، فقال عمر رضي الله عنه: إنهم مؤمنون، وأنا معهم، فقال عليه الصلاة والسلام:«أترضون بالقضاء؟» . قالوا: نعم، قال:«أتصبرون على البلاء؟» . قالوا: نعم، قال: «أتشكرون في

ص: 233

الرّخاء؟». قالوا: نعم، قال:«مؤمنون وربّ الكعبة» . فجلس، ثم قال:«يا معشر الأنصار، إن الله عز وجل قد أثنى عليكم، فما الذي تصنعون عند الوضوء، وعند الغائط؟» . فقالوا: يا رسول الله! نتبع الغائط الأحجار الثلاثة، ثم نتبع الأحجار الماء، فتلا عليهم {فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا} .

عن سهل بن حنيف رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من خرج حتّى يأتي هذا المسجد، مسجد قباء، فيصلّي، كان له كعدل عمرة» . أخرجه النسائي، وعن أسد بن ظهير رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الصلاة في مسجد قباء كعمرة» . أخرجه الترمذي.

الإعراب: {لا} : ناهية. {تَقُمْ} : مضارع مجزوم ب {لا} الناهية، والفاعل مستتر، تقديره «أنت» ، {فِيهِ}: متعلقان بالفعل قبلهما. {أَبَداً} : ظرف زمان متعلق بالفعل قبله أيضا والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ (الذين): على وجه مر ذكره، أو هي مستأنفة لا محل لها {لَمَسْجِدٌ}: اللام: لام الابتداء، أو هي واقعة في جواب قسم محذوف، مسجد: مبتدأ.

{أُسِّسَ} : ماض مبني للمجهول، ونائب الفاعل يعود إلى مسجد، والجملة الفعلية في محل رفع صفة (مسجد)، {عَلَى التَّقْوى}: متعلقان بالفعل قبلهما، {مِنْ أَوَّلِ}: متعلقان به أيضا، و {أَوَّلِ}:

مضاف، و {يَوْمٍ}: مضاف إليه. {أَحَقُّ} : خبر المبتدأ، والمصدر المؤول من {أَنْ تَقُومَ فِيهِ} في محل جر بحرف جر محذوف، والجار والمجرور متعلقان ب {أَحَقُّ،} التقدير: أحق بالقيام فيه، والجملة الاسمية:{لَمَسْجِدٌ..} . إلخ ابتدائية، أو هي جواب للقسم المحذوف، ولا محل لها على الاعتبارين، {فِيهِ}: متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {رِجالٌ} : مبتدأ مؤخر. {يُحِبُّونَ} : مضارع مرفوع، والواو فاعله، والمصدر المؤول من {أَنْ يَتَطَهَّرُوا..} . في محل نصب مفعول به، وجملة:

{يُحِبُّونَ..} . إلخ في محل رفع صفة: {رِجالٌ} . والجملة الاسمية: {فِيهِ رِجالٌ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها، وجوز اعتبارها صفة ثانية ل:(مسجد)، واعتبارها حالا من الهاء في {فِيهِ} والأول أقوى. {وَاللهُ}: مبتدأ. {يُحِبُّ} : مضارع، والفاعل يعود إلى (الله). {الْمُطَّهِّرِينَ}: مفعول به منصوب

إلخ، وجملة:{يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} : في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية:

{وَاللهُ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها. تأمل، وتدبر، والله أعلم، وأجل، وأكرم.

{أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللهِ وَرِضْوانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظّالِمِينَ (109)}

الشرح: {أَفَمَنْ} : في مثل هذا كلام كثير ذكرته عند {أَفَلا} في الآية رقم [65] من سورة (الأعراف)، {أَسَّسَ بُنْيانَهُ}: يقرأ الفعل بالبناء للفاعل، وبالبناء للمجهول، ورفع بنيانه، وقرئ «(أسَسُ، وأساس، وأسّ، وآساسُ)» كلها بالرفع، وخفض ما بعده على الإضافة. {عَلى تَقْوى مِنَ اللهِ}: على طاعة الله، والخوف منه، ومن عقابه، ويقرأ {تَقْوى} بالتنوين وعدمه، وانظر

ص: 234

الآية رقم [1] من سورة (الأنفال)، {وَرِضْوانٍ} أي: وابتغاء رضوانه تعالى. {خَيْرٌ} : انظر الآية رقم [12] من سورة (الأعراف)، {عَلى شَفا}: طرف وحرف، أصله شفو بدليل تثنيته: شفوان، فيقال في إعلاله: تحركت الواو وانفتح ما قبلها فقلبت ألفا، {جُرُفٍ}: بضم الجيم مع ضم الراء وتسكينها، انظر ما ذكرته في {رُسُلٌ} في الآية رقم [35] من سورة (الأعراف)، وال {جُرُفٍ} ما ينجرف بالسيول من الأودية، وهو جوانبه التي تنحفر بالماء. {هارٍ}: ساقط متداع منهار، وفي أصله وإعلاله ثلاثة أقوال:

أحدها وهو المشهور: أنه مقلوب بتقديم لامه على عينه، وذلك: أن أصله: هاور، أو هاير، فقدمت اللام، وهي الراء على العين، وهي الواو أو الياء، فصار كغاز ورام، فأعلّ إعلال الاسم المنقوص.

القول الثاني: أن عينه حذفت اعتباطا، أي: لغير موجب؛ وعليه فتجري وجوه الإعراب على لامه، فيقال: هذا هار، ورأيت هارا، ومررت بهار.

القول الثالث: أنه لا قلب فيه، ولا حذف، وأن أصله هور، أو هير بوزن كتف، فتحرك حرف العلة، وانفتح ما قبله، فقلب ألفا، وعلى هذا فتجري وجوه الإعراب أيضا كالذي قبله، وهذا أعدل الوجوه لاستراحته من ادعاء القلب والحذف، اللذين هما على خلاف الأصل. انتهى. جمل نقلا عن السمين بتصرف كبير مني.

{فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ} أي: فسقط الجرف بمعنى أوقع الجرف البنيان في نار جهنم، {وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظّالِمِينَ}: انظر معنى هذه الجملة، وما يتعلق بها في الآية رقم [24] وانظر ما ذكرته في الآية رقم [80] تجد ما يسرك.

تنبيه: هذه الآية ضرب مثل لهم، أي: من أسس بنيانه، أي: دينه وطاعته وتقواه على الإسلام خير أم من أسس بنيانه على الشرك والنفاق، وبين أن بناء الكافر والمنافق كبناء على جرف جهنم يتهور بأهله فيها. انتهى.

تنبيه: في الآية الكريمة دليل على أن كل شيء ابتدئ بنية تقوى الله تعالى، والقصد لوجهه الكريم، فهو الذي يبقى، ويسعد به صاحبه، ويصعد إلى الله، ويقبله، ويرفع صاحبه درجات في عليين. انتهى.

تنبيه: لقد اختلف العلماء في قوله تعالى: {فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ} هل هو حقيقة أو مجاز على قولين:

الأول: أن ذلك حقيقة، وأن النبي صلى الله عليه وسلم حين أرسل إلى مسجد الضرار، فهدم، رؤي الدخان يخرج منه، وقال بعضهم: كان الرجل يدخل فيه سعفة من سعف النخل، فيخرجها سوداء

ص: 235

محترقة، وذكر أنه كان يحفر ذلك الموضع الذي انهار، فيخرج منه دخان، وعن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: جهنم في الأرض، ثم تلا:{فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ،} وقال جابر بن عبد الله-رضي الله عنهما: أنا رأيت الدخان يخرج منه على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

أقول: وفي الآية دليل على وجود جهنم في الدنيا، انتهى.

والثاني أن ذلك مجاز، والمعنى: صار البناء في نار جهنم، فكأنه انهار إليه، وهوى فيه، وهذا كقوله تعالى:{فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ} والظاهر الأول؛ إذ لا إحالة في ذلك، والله أعلم.

انتهى. قرطبي بتصرف كبير مني.

أقول: وعلى القول الثاني، فالكلام جار على الاستعارة المكنية، شبهت التقوى والرضوان بما يعتمد عليه البناء تشبيها مضمرا في النفس، وأسس بنيانه تخييل، فهو مستعمل في معناه الحقيقي، أو هو استعارة تمثيلية لحال من أخلص لله وعمل الأعمال الصالحة بحال من بنى شيئا محكما مؤسسا يستوطنه، ويتحصن فيه، وقيل: غير ذلك.

الإعراب: {أَفَمَنْ} : الهمزة: حرف استفهام تقريري. الفاء: حرف استئناف، أو هي حرف عطف على محذوف، كما رأيت في الآية رقم [65] (الأعراف). (من): اسم موصول مبني على السكون في محل رفع مبتدأ، {أَسَّسَ بُنْيانَهُ}: ماض، وفاعله مستتر ومفعوله، أو هو ماض مبني للمجهول، ونائب فاعله، والجملة الفعلية صلة الموصول لا محل لها. وإن اعتبرت (من) نكرة موصوفة فهي صفتها، وعلى القراءات الأخر. ف (أسّ

) إلخ. مبتدأ، وهو مضاف، و {بُنْيانَهُ}: مضاف إليه، والهاء: في محل جر بالإضافة، {عَلى تَقْوى}: متعلقان بالفعل {أَسَّسَ،} على اعتبارها فعلا، ومتعلقان بمحذوف خبره على القراءات الأخر، وعليه فالجملة الاسمية صلة (من) أو صفتها، وعلى جميع الاعتبارات فالعائد، أو الرابط: الضمير المجرور محلا بالإضافة. {مِنَ اللهِ} : متعلقان بمحذوف صفة. {تَقْوى} . أو هما متعلقان به. وهو أولى. {وَرِضْوانٍ} : معطوف على {تَقْوى،} {خَيْرٌ} : خبر المبتدأ (من) والجملة الاسمية مستأنفة، أو هي معطوفة على محذوف، لا محل لها على الوجهين. {أَمْ}: حرف عطف.

{أَسَّسَ بُنْيانَهُ} : فهذه الجملة مثل سابقتها على جميع الاعتبارات التابعة للقراءات. {عَلى شَفا} : متعلقان بالفعل {أَسَّسَ} . أو هما متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ، على القراءات الأخر، والجملة الفعلية أو الاسمية صلة {فَمَنْ} أو صفتها، والرابط أو العائد الضمير المجرور محلاّ بالإضافة، وخبر المبتدأ الذي هو (من) محذوف. تقديره: خير. والجملة الاسمية معطوفة على سابقتها لا محل لها مثلها، و {شَفا}: مضاف، و {جُرُفٍ}: مضاف إليه. {هارٍ} : صفة:

{جُرُفٍ} . وانظر ما ذكرته في الشرح. {فَانْهارَ} : الفاء: حرف عطف. (انهار): ماض، وفاعله ضمير يعود إلى {جُرُفٍ}. أو إلى «البنيان». أو إلى «الأساس» اعتبارات. {بِهِ}: متعلقان

ص: 236

بالفعل قبلهما. وقيل: متعلقان بمحذوف حال، والهاء تعود إلى (من) الباني، أو إلى «البنيان» ، أو إلى «الأساس» اعتبارات أيضا. والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها على الاعتبارين، {فِي نارِ}: متعلقان بالفعل قبلهما، و {نارِ}: مضاف، و {جَهَنَّمَ}: مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الفتحة نيابة عن الكسرة؛ لأنه ممنوع من الصرف للعلمية والعجمية {وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظّالِمِينَ}: انظر إعراب هذه الجملة ومحلها في الآية رقم [19].

{لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاّ أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (110)}

الشرح: {لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ} : والمعنى: أن ذلك المسجد الذي بناه المنافقون-وهو مسجد الضرار-صار سببا لحصول الشك والريبة في قلوب المنافقين؛ لأنهم فرحوا ببنائه يوم بنوه، فلما أمر رسول الله بهدمه شق ذلك عليهم، وازدادوا غما وحزنا، وبغضا له صلى الله عليه وسلم، وقيل: إنهم كانوا يظنون أنهم محسنون في بنائه، كما حبب العجل إلى بني إسرائيل، فلما أمر عليه الصلاة والسلام بهدمه وتحريقه بقوا شاكين، وقيل:

معنى {رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ} شكا ونفاقا، وقيل: معناه: حسرة وندامة، وقيل: معناه: حزازة وغيظا، {إِلاّ}: وقرئ: «(إلى)» {تَقَطَّعَ} : قرئ بالبناء للمعلوم والمجهول، مع تشديد الطاء وتخفيفها، كما قرئ:«(نقطع)» : بالتشديد والتخفيف أيضا، وقرئ:«(يقطع)» بالتشديد والتخفيف أيضا، و (تقطّع) بالبناء للمعلوم محذوف منه إحدى التاءين على حد قوله تعالى:{فَأَنْتَ لَهُ تَصَدّى} وقد اختلف في تقطيع قلوبهم.

فقال ابن عباس-رضي الله عنهما: أي: تنصدع قلوبهم فيموتوا، وقاله قتادة، والضحاك، ومجاهد أيضا، وقال سفيان: إلا أن يتوبوا، وقال عكرمة: إلا أن تقطع قلوبهم في قبورهم، والمعنى إن هذه الريبة باقية في قلوبهم إلى أن يموتوا، وتتقطع قلوبهم في قبورهم قطعا قطعا، {وَاللهُ عَلِيمٌ}: بأحوالهم وأعمالهم، وأعمال جميع عباده، {حَكِيمٌ}: فيما حكم به عليهم.

الإعراب: {لا} : نافية. {يَزالُ} : مضارع ناقص. {بُنْيانُهُمُ} : اسمه، والهاء: في محل جر بالإضافة. {الَّذِي} : اسم موصول مبني على السكون في محل رفع صفة: {بُنْيانُهُمُ} .

{بَنَوْا} : ماض مبني على فتح مقدر على الألف المحذوفة لالتقائها ساكنة مع واو الجماعة، التي هي فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية صلة الموصول، والعائد محذوف؛ إذ التقدير:

(بنوه)، {رِيبَةً}: خبر {لا يَزالُ} . {فِي قُلُوبِهِمْ} : متعلقان بمحذوف صفة: {رِيبَةً} . {إِلاّ} :

حرف استثناء، والمصدر المؤول من {أَنْ تَقَطَّعَ} في محل نصب على الاستثناء من عموم الأزمنة، والتقدير: لا يزال بنيانهم الذي بنوه ريبة في وقت من الأوقات، إلا وقت تقطيع

ص: 237

قلوبهم، أو من عموم الأحوال، أي: في كل حال إلا حال تقطيعها، وينبغي أن تعلم أن الفاعل تقديره: أنت، أو نحن، أو هو، وأن {قُلُوبِهِمْ} نائب فاعل، أو هو مفعول به وذلك على حسب القراءات التي رأيتها، وجملة:{لا يَزالُ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها، وقد رأيت فيما سبق اعتبارها خبرا في بعض الحالات، والجملة الاسمية:{وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} . مستأنفة لا محل لها. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم.

{إِنَّ اللهَ اِشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111)}

الشرح: {إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ..} . إلخ: هذا تمثيل لإثابة الله إياهم الجنة على بدل أنفسهم وأموالهم في سبيله على طريقة الاستعارة التبعية، ثم جعل المبيع الذي هو العمدة والمقصد في العقد أنفس المؤمنين، وأموالهم، وجعل الثمن، الذي هو الوسيلة في الصفقة الجنة، {الْجَنَّةَ}: انظر الآية رقم [73]، {يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ}: هذا بيان لتلك المبايعة، ولذلك الشراء. {فَيَقْتُلُونَ}: أعداء الله. {وَيُقْتَلُونَ} : في سبيل الله، ولإعلاء كلمته، ويقرأ الفعلان عكسا، والمعنى لا يتغير. {وَعْداً عَلَيْهِ} أي: تفضلا منه تعالى وليس بواجب عليه، وإن أوهم اللفظ ذلك. {وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ} أي: لا أحد أوفى بوعده منه تعالى؛ لأن إخلاف الوعد قبيح لا يقدم عليه الكريم منا، فكيف بأكرم الأكرمين، ولا ترى ترغيبا في الجهاد أحسن منه وأبلغ. انتهى. نسفي. وانظر الوعد في الآية رقم [44] من سورة (الأعراف)، والعهد في الآية رقم [102]، منها. {فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ..}. إلخ: أي: افرحوا بذلك البيع، وأظهروا السرور به حتى يظهر على بشرة وجوهكم ذلك. {وَذلِكَ} أي: البيع. {هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} :

لأنه رابح، ولا فوز أعظم منه، وقد حقق لكم أعظم المطالب.

{وَالْإِنْجِيلِ} : هو الكتاب الذي أنزله الله على عيسى على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسّلام، يذكر ويؤنث فمن أنث أراد الصحيفة، ومن ذكر أراد الكتاب، وهو مشتق من النجل، وهو الأصل، كأنه أصل الدين، يرجع إليه، ويؤتم به، والتوراة مشتقة من ورى الزند، وهو ما يخرج منه من الضياء من ناره، فكأنها ضياء، يستضاء بها في الدين، والقرآن مشتق من قريت الماء في الحوض، إذا جمعته، فكأنه قد جمع فيه الحكم، والمواعظ، والآداب، والقصص، والفروض، وجميع الأحكام، وكملت فيه جميع الفوائد الهادية إلى طرق الرشاد مكي، هذا؛ وهو في اللغة

ص: 238

مصدر بمعنى الجمع، يقال: قرأت الشيء، قرآنا، أي: جمعته، وبمعنى القراءة يقال: قرأت الكتاب قراءة وقرآنا، ثم نقل إلى هذا المجموع المقروء المنزل على الرسول صلى الله عليه وسلم، المنقول عنه بالتواتر فيما بين الدفتين، وهو المراد هنا.

تنبيه: نزلت الآية الكريمة في البيعة الثانية، وهي بيعة العقبة الكبرى، والتي أناف فيها رجال الأنصار على السبعين، وكان أصغرهم سنا عقبة بن عمرو، وذلك حين اجتمعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عند العقبة، فقال عبد الله بن رواحة-رضي الله عنه: يا رسول الله! اشترط لربك ولنفسك ما شئت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«أشترط لربّي أن تعبدوه، ولا تشركوا به شيئا، وأشترط لنفسي أن تمنعوني ممّا تمنعون منه أنفسكم وأموالكم» . قالوا: فإذا فعلنا ذلك فما لنا؟ قال:

«الجنّة» . قالوا: ربح البيع، لا نقيل ولا نستقيل، فنزلت الآية، ثم هي بعد ذلك عامة في كل مجاهد في سبيل الله من أمة سيد الخلق، وحبيب الحق، صلى الله عليه وسلم، إلى يوم القيامة، وما اشترطه الرسول صلى الله عليه وسلم لنفسه إنما هو من باب التعليم، كيف لا؟ وهو يعلم أنه ممنوع من الكفار، وهو منصور، ودينه يعلو على جميع الأديان.

الإعراب: {إِنَّ} : حرف مشبه بالفعل. {اللهَ} : اسمها. {اِشْتَرى} : ماض مبني على فتح مقدر على الألف للتعذر، وفاعله مستتر تقديره:«هو» يعود إلى {اللهَ} . {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} : متعلقان بالفعل قبلهما. {أَنْفُسَهُمْ} : مفعول به. {وَأَمْوالَهُمْ} : معطوف على ما قبله. والهاء: في محل جر بالإضافة. {بِأَنَّ} : الباء: حرف جر. (أن): حرف مشبه بالفعل. {أَمْوالَهُمْ} : متعلقان بمحذوف خبر (أن) مقدم. {الْجَنَّةَ} : اسمها وخبرها في تأويل مصدر في محل جر بالباء، التقدير: باستحقاقهم الجنة. والجار والمجرور متعلقان بالفعل:

{اِشْتَرى،} وجملة: {اِشْتَرى..} . إلخ: في محل رفع خبر {إِنَّ،} والجملة الاسمية: {إِنَّ اللهَ..} . إلخ ابتدائية، أو مستأنفة لا محل لها، {فَيَقْتُلُونَ}: مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو: فاعله، ومفعوله محذوف، والجملة الفعلية مستأنفة لا محل لها. {فِي سَبِيلِ}: متعلقان به، و {سَبِيلِ}: مضاف، و {اللهَ}: مضاف إليه. {فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ} : إعرابهما مثل سابقهما، والواو؛ فاعل أحدهما، ونائب فاعل الآخر، وحذف مفعول المبني للمعلوم للعلم به مثل السابق، والجملتان معطوفتان على ما قبلهما لا محل لهما مثلها. {وَعْداً}: مفعول مطلق، لفعل محذوف. {عَلَيْهِ}: متعلقان ب {وَعْداً} . أو بمحذوف صفة له. {حَقًّا} : مفعول مطلق، عامله محذوف مثل سابقه. فهما مؤكدان لمعنى الكلام السابق، وتقدير الكلام: وعدهم الله ذلك وعدا، وحق ذلك {حَقًّا،} وقال أبو البقاء: {حَقًّا} صفة: {وَعْداً،} والأول أقوى وآكد، والكلام كله مستأنف لا محل له، {فِي التَّوْراةِ}: متعلقان بالفعل {اِشْتَرى} . وعلى هذا فتكون كل أمة قد أمرت بالجهاد،

ص: 239

ووعدت عليه الجنة، أو هما متعلقان بمحذوف صفة:{وَعْداً} أي: مذكورا وكائنا في التوراة، وعليه يكون الوعد بالجنة لهذه الأمة مذكورا في جميع كتب الله المنزلة، انتهى. جمل نقلا عن السمين بتصرف مني. {وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ}: معطوفان على {التَّوْراةِ} . {وَمَنْ} : الواو:

حرف استئناف. (من): اسم استفهام معناه النفي، كما رأيت في الشرح، فهو مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {أَوْفى}: خبر المبتدأ مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف، والجملة الاسمية مستأنفة لا محل لها. {بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ}: متعلقان ب {أَوْفى} .

الفاء: هي الفصيحة، انظر الآية رقم [28]. (استبشروا): أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية لا محل لها على جميع الوجوه المعتبرة في الفاء.

{بِبَيْعِكُمُ} : متعلقان بالفعل قبلهما، والكاف: في محل جر بالإضافة، من إضافة المصدر لفاعله. {الَّذِي}: اسم موصول مبني على السكون في محل جر صفة: (بيعكم)، وجملة:

{بايَعْتُمْ بِهِ} صلة الموصول، والعائد: الضمير المجرور بالباء. {وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} :

انظر إعراب مثلها في الآية رقم [10] مع فارق بسيط، والجملة الاسمية مستأنفة لا محل لها.

{التّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ السّائِحُونَ الرّاكِعُونَ السّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (112)}

الشرح: {التّائِبُونَ} : من ذنوبهم صغائر كانت أم كبائر، وانظر شروط التوبة في الآية رقم [102]. {الْعابِدُونَ}: الذين عبدوا الله مخلصين له الدين، هذا؛ والعبادة غاية التذلل، ولا يستحقها إلا من له غاية الإفضال، وهو الله تعالى. ولذا يحرم السجود لغير الله تعالى، وقيل:

العبودية أربعة: الوفاء بالعهود، والرضا بالموجود، والحفظ للحدود، والصبر على المفقود.

{الْحامِدُونَ} : لنعماء الله، أو لما نابهم من السراء والضراء، هذا؛ والحمد في اللغة: الثناء بالكلام على الجميل الاختياري، على وجه التبجيل والتعظيم، سواء أكان في مقابله نعمة أم لا؟ فالأول:

كمن يحسن إليك، والثاني: كمن يجيد صلاته، وهو في اصطلاح علماء التوحيد: فعل ينبئ عن تعظيم المنعم، من حيث كونه منعما على الحامد، أو غيره، سواء أكان ذلك قولا باللسان، أو اعتقادا بالجنان، أو عملا بالأركان، التي هي الأعضاء، كما قال القائل:[الطويل]

أفادتكم النّعماء مني ثلاثة

يدي ولساني، والضّمير المحجّبا

ومما هو جدير بالذكر أن معنى الشكر في اللغة هو معنى الحمد في الاصطلاح، وأما معنى الشكر في الاصطلاح فهو صرف العبد جميع ما أنعم الله به عليه فيما خلق لأجله. {السّائِحُونَ}:

الصائمون، أي: الذين يديمون الصيام في جميع الشهور والفصول.

ص: 240

روى الطبري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «سياحة أمّتي الصّيام» .

شبه الصيام بالسياحة من حيث إنه يعوق عن الشهوات، أو لأنه رياضة نفسانية، يتوصل بها إلى الاطلاع على خفايا الملك والملكوت، أو {السّائِحُونَ} للجهاد، أو لطلب العلم. {الرّاكِعُونَ السّاجِدُونَ} أي: يديمونها في صلاة الفرض والنوافل على اختلاف أنواعها ومراتبها. {الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ} أي: بفعل الخير من إيمان بالله وامتثال أوامره. {وَالنّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ} : من كفر بالله، ومخالفة أوامره، وانظر ما ذكرته في الآية رقم [71]، {وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ} أي:

القائمون بأداء جميع ما أمر الله به، المنتهون والمبتعدون عن كل ما نهى الله عنه، {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} أي: القائمين بما ذكر، أو الموصوفين بتلك الصفات العظيمة، ووضع الظاهر موضع الضمير للتنبيه على أن إيمانهم دعاهم إلى ذلك، وأن المؤمن الكامل من كان كذلك، وحذف المبشر به للتعظيم، فكأنه قال: وبشرهم بما يجل عن إحاطة الأفهام، وتعبير الكلام. انتهى.

بيضاوي.

تنبيه: اختلف أهل التأويل في هذه الآية، هل هي متصلة بما قبلها، أو منفصلة عنها، فقال الفراء: استؤنف لفظ التائبون بالرفع لتمام الآية الأولى، وانقطاع الكلام، وقال الزجاج:

{التّائِبُونَ} رفع بالابتداء وخبره مضمر، والمعنى: التائبون إلى الله العابدون

إلخ لهم الجنة أيضا، وإن لم يجاهدوا، غير معاندين، ولا قاصدين بترك الجهاد، وهذا؛ وجه حسن، فكأنه وعد بالجنة جميع المؤمنين، كما قال تعالى:{وَكُلاًّ وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى،} وانظر ما ذكرته في الآية رقم [95] من سورة (النساء)، ومن جعله تابعا للأول كان الوعد بالجنة خاصا بالمجاهدين الموصوفين بهذه الصفات، فيكون رفع {التّائِبُونَ} على المدح، يعني المؤمنين المذكورين في قوله {إِنَّ اللهَ اشْتَرى..} . إلخ، انتهى. خازن.

أقول: ويؤيد هذا قراءة «(التائبين، العابدين

)» إلخ بالياء نصبا على المدح بفعل محذوف، أو جرا صفة للمؤمنين.

تنبيه: واختلف العلماء في الواو في قوله {وَالنّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ،} فقيل: دخلت في صفة الناهين، كما دخلت في قوله تعالى:{حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2) غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ} . فذكر بعضها بالواو، والبعض بدونها، وهذا سائغ معتاد في الكلام، ولا يطلب لمثله حكمة ولا علة، وقيل: دخلت لمصاحبة الناهي عن المنكر الآمر بالمعروف، فلا يكاد يذكر واحدا منهما مفردا، وكذلك قوله تعالى:{ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً} من سورة التحريم، ودخلت في {وَالْحافِظُونَ} لقربه من المعطوف، وقد قيل: إنها زائدة، وهذا ضعيف لا معنى له، وقيل: هي واو الثمانية؛ لأن السبعة عند العرب عدد كامل صحيح، وانظر ما ذكرته في الآية رقم [80] وكذلك قالوا في آية التحريم، وآية الزمر:{وَفُتِحَتْ أَبْوابُها،} وفي آية الكهف: {وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ}

ص: 241

وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ، وقد ذكرها ابن خالويه في مناظرته لأبي علي الفارسي في معنى قوله تعالى:

{وَفُتِحَتْ أَبْوابُها} وأنكرها أبو علي. انتهى. قرطبي بتصرف بسيط.

أقول: وممن أشبع الكلام في هذه الواو ابن هشام-طيب الله ثراه-في مغنيه، وسأنقل لك كلامه عند شرح وإعراب آية الكهف إن شاء السميع العليم، العلي القدير، رقم [22].

خاتمة: قال الجمل: حاصل ما ذكر أوصاف تسعة، الستة الأولى تتعلق بمعاملة الخالق، والسابع والثامن يتعلقان بمعاملة المخلوق، والتاسع يعم القبيلين، انتهى. وانظر (بشر) في الآية رقم [3].

الإعراب: {التّائِبُونَ..} . إلخ: هذه الأسماء أخبار متعددة لمبتدإ محذوف، التقدير: هم التائبون، وهذا عند من يرى: أن الآية متعلقة بما قبلها، ومرتبطة بها تمام الارتباط، أو هي مبتدءات متعددة، والخبر محذوف، التقدير:{التّائِبُونَ..} . إلخ، من أهل الجنة، وهذا عند من يرى أن هذه الآية منقطعة عما قبلها، وليست شرطا في المجاهد، هذا؛ وجوز اعتبار {الْآمِرُونَ} خبرا لما ذكر، وهو ضعيف، كما نقل عن السمين اعتبار {التّائِبُونَ..} . إلخ بدلا من الواو في {فَيَقْتُلُونَ} وهو ضعيف أيضا، كما نقل عنه أيضا اعتبار {التّائِبُونَ} مبتدأ، والعابدون خبرا عنه، وما بعده أوصاف له، وهو ضعيف أيضا، هذا؛ ولا يجوز اعتبار ما بعد {التّائِبُونَ} أوصافا له؛ لأنه هو نفسه صفة، والصفة لا توصف، وانظر ما ذكرته في الشرح عن القراءة بالياء، ولا تنس أن في كل واحد من هذه الأسماء ضميرا مستترا، هو فاعله، {وَالنّاهُونَ}: معطوف على {التّائِبُونَ} عطف مفرد على مفرد، أو هو عطف جملة على جملة، إن قدرت له مبتدأ، أو خبرا محذوفين. {عَنِ الْمُنْكَرِ}: متعلقان ب (الناهون). {وَالْحافِظُونَ} : معطوف على ما قبله على جميع الاعتبارات. {لِحُدُودِ} : متعلقان ب (الحافظون)، و (حدود) مضاف، و {اللهِ}:

مضاف إليه، وجملة:{وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} : مستأنفة لا محل لها.

{ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (113)}

الشرح: {ما كانَ لِلنَّبِيِّ} أي: لا يصح، ولا ينبغي ولا يجوز، وقال أهل المعاني:{ما كانَ} : في القرآن يأتي على وجهين: على النفي، نحو قوله تعالى:{ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها} وقوله: {وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاّ بِإِذْنِ اللهِ} والآخر على النهي كقوله تعالى:

{وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ} وقوله: {ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ..} . إلخ. انتهى.

قرطبي. {لِلنَّبِيِّ} : انظر الآية رقم [73]، {أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} أي: الذين ماتوا على الشرك،

ص: 242

وانظر (استغفروا) في الآية رقم [80]، {وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى}: أصحاب قرابات، آباء، أو أمهات

إلخ، وانظر شرح {أُولِي} في الآية رقم [75]، من سورة (الأنفال)، {مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ}: ظهر لهم واتضح، وانظر الآية رقم [43]، {الْجَحِيمِ}: النار الشديدة.

روى مسلم عن سعيد بن المسيب عن أبيه-رضي الله عنهما، قال: لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد عنده أبا جهل، وعبد الله بن أبي أمية بن المغيرة، فقال رسول الله:«يا عمّ، قل: لا إله إلاّ الله كلمة أشهد لك بها عند الله» . فقال أبو جهل وعبد الله بن المغيرة: أترغب يا أبا طالب عن ملة عبد المطلب؟ فلم يزل الرسول العظيم يعرضها عليه، ويعيد له تلك المقالة حتى قال لهم أبو طالب آخر ما كلمهم به: هو على ملة عبد المطلب، وأبى أن يقول: لا إله إلا الله، فقال صلى الله عليه وسلم:«أما والله لأستغفرنّ لك ما لم أنه عنه» . فأنزل الله الآية الكريمة، وأنزل في شدة حرصه صلى الله عليه وسلم على إسلام أبي طالب:{إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ} .

هذا؛ وقد استبعد بعضهم نزول هذه الآية في شأن أبي طالب، وذلك لأن وفاته كانت في مكة أول الإسلام، وهذه السورة آخر ما نزل من القرآن في المدينة المنورة، وأجيب بأنه لما نزلت الآية {إِنَّكَ لا تَهْدِي..} . إلخ في مكة، وفي حياة أبي طالب، فقال عليه الصلاة والسلام ما تقدم في الحديث، فيحتمل أنه صلى الله عليه وسلم كان يستغفر له في بعض الأوقات إلى أن نزلت هذه الآية، فمنع من الاستغفار، والله أعلم بمراده وأسرار كتابه. انتهى. خازن بتصرف كبير.

وهناك أحاديث كثيرة تبين أن أبا طالب خالد في النار، ولكن يخفف عنه العذاب بسبب ما صنع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذبّ عنه، وحماية له، فخذ هذا الحديث عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه سمع النبي عليه الصلاة والسلام، وذكر عنده عمه أبو طالب، فقال:«لعلّه تنفعه شفاعتي يوم القيامة، فيجعل في ضحضاح من نار يبلغ كعبيه، تغلي منه أمّ دماغه» ، وفي رواية «يغلي منه دماغه من حرارة نعليه» . متفق عليه.

تنبيه: وقيل: لما فتح الرسول صلى الله عليه وسلم مكة المكرمة، خرج إلى الأبواء، فزار قبر أمه، ثم قام مستعبرا، فقال:«إنّي استأذنت ربّي، في زيارة قبر أمّي، فأذن لي، واستأذنته في الاستغفار لها، فلم يأذن لي، وأنزل عليّ الآيتين» . رواه أبو هريرة وغيره مع اختلاف في بعض الألفاظ.

وقال قتادة: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لأستغفرنّ لأبي، كما استغفر إبراهيم لأبيه» . فأنزل الله الآية، وروى الطبراني بسنده عنه، قال: ذكر لنا أن رجالا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: يا نبي الله! إن من آبائنا من كان يحسن الجوار، ويصل الأرحام، ويفك العاني، ويوفي بالذمم، أفلا نستغفر لهم؟ فقال عليه الصلاة والسلام:«بلى والله لأستغفرنّ لأبي، كما استغفر إبراهيم لأبيه» .

فأنزل الله عز وجل الآية.

ص: 243

بعد ذلك أقول: إن المعتمد أن أبويه صلى الله عليه وسلم، قد ماتا قبل البعثة، وهما من أهل الفترة، وهما داخلان تحت قوله تعالى:{وَما كُنّا مُعَذِّبِينَ حَتّى نَبْعَثَ رَسُولاً،} فهما ناجيان إن شاء الله تعالى.

الإعراب: {ما} : نافية. {كانَ} : ماض ناقص. {لِلنَّبِيِّ} : متعلقان بمحذوف خبر {كانَ} تقدم على اسمها. (الذين): اسم موصول مبني على الفتح في محل جر معطوف على ما قبله، وجملة:{آمَنُوا} : مع المتعلق المحذوف صلة الموصول لا محل لها، والمصدر المؤول من {أَنْ يَسْتَغْفِرُوا}: في محل رفع اسم كان مؤخر. {لِلْمُشْرِكِينَ} : متعلقان بالفعل قبلهما، وجملة:{ما كانَ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها. {وَلَوْ} : الواو: واو الحال.

(لو): وصلية. {كانُوا} : ماض ناقص مبني على الضم، والواو اسمه، والألف للتفريق.

{أُولِي} : خبر (كان) منصوب، وعلامة نصبه الياء؛ لأنه ملحق بجمع المذكر السّالم و {أُولِي}:

مضاف، و {قُرْبى}: مضاف إليه مجرور، وعلامة جره كسرة مقدرة على الألف للتعذر، وجملة:{وَلَوْ كانُوا..} . إلخ، في محل نصب حال من واو الجماعة، والرابط: الواو، والضمير، وهو أولى، وأقوى من اعتبار (لو) امتناعية، جوابها محذوف لدلالة ما قبله عليه، {مِنْ بَعْدِ}: متعلقان بالفعل {يَسْتَغْفِرُوا،} {ما} : تحتمل الموصولة، والموصوفة، فهي مبنية على السكون في محل جر بإضافة {بَعْدِ} إليها. {تَبَيَّنَ}: ماض، {لَهُمْ}: متعلقان بالفعل قبلهما، و (أن) واسمها وخبرها في تأويل مصدر في محل رفع فاعل {تَبَيَّنَ،} وجملة:

{تَبَيَّنَ..} . إلخ صلة {ما} أو صفتها، وإن اعتبرت {ما} مصدرية تؤول مع الفعل بعدها بمصدر في محل جر بإضافة {بَعْدِ} إليه، هذا؛ وإن اعتبرت الفاعل عائدا على {ما} فالمصدر المؤول في محل جر بحرف جر محذوف والمعنى عليه أقوى.

{وَما كانَ اِسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيّاهُ فَلَمّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوّاهٌ حَلِيمٌ (114)}

الشرح: روى النسائي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، قال: سمعت رجلا يستغفر لأبويه، وهما مشركان، فقلت: أتستغفر لهما، وهما مشركان؟ فقال: أو لم يستغفر إبراهيم عليه السلام لأبويه، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فذكرت ذلك له فنزلت {وَما كانَ اسْتِغْفارُ..}. إلخ والمعنى:

لا حجة لكم أيها المؤمنون في استغفار إبراهيم الخليل عليه السلام لأبيه، فإن ذلك لم يكن إلا عن عدة وعدها إياه.

قال ابن عباس-رضي الله عنهما: كان أبو إبراهيم وعد إبراهيم الخليل أن يؤمن بالله، ويخلع الأنداد، فلما مات على كفر علم أنه عدو الله، فترك الدعاء له، وهذا يفيد: أن الواعد أبوه، والموعود إبراهيم عليه السلام، وقيل: الواعد إبراهيم، أي: وعد أباه بأن يستغفر له، فلما

ص: 244

مات مشركا تبرأ منه، ودل على هذا الوعد قوله تعالى:{قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي} .

انتهى. قرطبي.

تنبيه: مما تقدم يؤخذ منه جواز الاستغفار للأحياء، وطلب التوفيق لهم، بالإيمان، كما يستدل به على أن حالة المرء يحكم عليها عند الموت، فإن مات على الإيمان حكم له به، وإن مات على الكفر حكم له به، وربك أعلم بباطن حاله. انتهى.

بعد هذا فإبراهيم معناه في السريانية: أب رحيم، وفيه سبع لغات انظرها في التفاسير.

{مَوْعِدَةٍ} : مصدر ميمي من (وعد)، وكسرت عينه؛ لأنه مثال واوي، وتكسر عينه في المضارع.

{تَبَيَّنَ} : انظر الآية رقم [43]، {عَدُوٌّ}: انظر الآية رقم [22](الأعراف)، {لَأَوّاهٌ}: خاشع متضرع، وقيل: كثير الدعاء، وقيل: تواب، وقيل: رحيم بعباد الله، وقيل: موقن، وقيل: كثير التأوه، وكان عليه الصلاة والسلام يكثر أن يقول: أوه من النار، قبل أن ينفع أوه، وقيل: كثير الذكر لله، وقيل: معلم الخير للناس، وقيل: غير ذلك، {حَلِيمٌ}: كثير الحلم، وهو الذي يصفح عن الذنوب، ويصبر على الأذى، وقيل: الذي لم يعاقب أحدا قط إلا في الله، ولم ينتصر لأحد إلا الله، وكان إبراهيم عليه الصلاة والسلام كذلك، هذا؛ ومن أسماء الله تعالى (الحليم)، وفسر بحقه تعالى بالذي لا يعجل بالعقوبة على من عصاه، والله أعلم بمراده وأسرار كتابه.

الإعراب: {وَما} : الواو: حرف استئناف. (ما): نافية. {كانَ} : ماض ناقص.

{اِسْتِغْفارُ} : اسم {كانَ،} وهو مضاف، و {إِبْراهِيمَ}: مضاف إليه من إضافة المصدر لفاعله، فهو مجرور، وعلامة جره الفتحة نيابة عن الكسرة؛ لأنه ممنوع من الصرف للعلمية والعجمة. {لِأَبِيهِ}: جار ومجرور متعلقان بالمصدر {اِسْتِغْفارُ،} وعلامة الجر الياء نيابة عن الكسرة؛ لأنه من الأسماء الخمسة، والهاء: في محل جر بالإضافة، {إِلاّ}: حرف حصر.

{عَنْ مَوْعِدَةٍ} : متعلقان بمحذوف خبر {كانَ} . {وَعَدَها} : ماض، والفاعل يعود إلى إبراهيم، أو إلى أبيه، انظر الشرح، والهاء: مفعول به أول، {إِيّاهُ}: ضمير نصب منفصل مبني على الضم في محل نصب مفعول به ثان، وجملة:{وَعَدَها إِيّاهُ} في محل جر صفة:

{مَوْعِدَةٍ} . وإن اعتبرتها في محل نصب حال من {إِبْراهِيمَ،} أو من (أبيه) فالمعنى لا يأباه، والرابط: الضمير على الاعتبارين. {فَلَمّا} : الفاء: حرف استئناف. (لما): انظر الآية رقم [77]، {تَبَيَّنَ}: ماض. {لَهُ} : متعلقان به. {أَنَّهُ} : حرف مشبه بالفعل، والهاء: ضمير متصل في محل نصب اسمها. {عَدُوٌّ} : خبر أن. {لِلّهِ} : متعلقان ب {عَدُوٌّ} . أو بمحذوف صفة له، وأن واسمها وخبرها في تأويل مصدر في محل رفع فاعل {تَبَيَّنَ} . والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية على القول بحرفية (لما)، وفي محل جر بإضافة (لما) إليها على القول بظرفيتها، {تَبَرَّأَ}: ماض، والفاعل يعود إلى {إِبْراهِيمَ}. {مِنْهُ}: متعلقان به، والجملة الفعلية جواب

ص: 245

(لما)، لا محل لها، و (لما) ومدخولها كلام مستأنف لا محل له. {كانَ}: حرف مشبه بالفعل.

{إِبْراهِيمَ} : اسمها. {لَأَوّاهٌ} خبر {كانَ،} واللام هي المزحلقة. {حَلِيمٌ} : خبر ثان، والجملة الاسمية:{كانَ..} . إلخ تعليل أو مستأنفة لا محل لها.

{وَما كانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (115)}

الشرح: {وَما كانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ} أي: ما كان الله ليوقع الضلالة في قلوب قوم بعد الهدى، {حَتّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ} فلا يمتثلون أوامره، فعند ذلك يستحقون الضلالة. {إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}: فلا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء.

تنبيه: لقد اختلف في سبب نزول الآية الكريمة على ثلاثة أقوال:

الأول: أنها نزلت في جماعة من المسلمين، كانوا قد ماتوا قبل النهي عن الاستغفار للمشركين، فلما منعوا من ذلك، وقع في قلوب المؤمنين خوف على من مات على ذلك.

الثاني أنها نزلت فيمن شرب الخمر قبل علمه بالتحريم.

الثالث: أنها نزلت فيمن صلى إلى بيت المقدس زمنا، ولم يعلم بتحويل القبلة إلى الكعبة، وذلك أن قوما قدموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأسلموا قبل تحريم الخمر، وصرف القبلة إلى الكعبة، ورجعوا إلى قومهم، وهم على ذلك، ثم حرمت الخمر، وصرفت القبلة إلى الكعبة، ولا علم لهم بذلك، ثم قدموا بعد ذلك إلى المدينة، فوجدوا الخمر قد حرمت، والقبلة قد صرفت إلى الكعبة، فقالوا: يا رسول الله! قد كنت على دين، ونحن على غيره، ونحن على ضلال، فأنزل الله الآية الكريمة، والمعنى: ما كان الله ليبطل عمل قوم قد عملوا بالمنسوخ حتى يبين الناسخ.

انتهى. خازن بتصرف.

الإعراب: {وَما} : الواو: حرف عطف، أو استئناف، (ما): نافية. {كانَ} : ماض ناقص. {اللهُ} : اسمها. {لِيُضِلَّ} : مضارع منصوب ب «أن» مضمرة بعد لام الجحود. والفاعل يعود إلى الله، {قَوْماً}: مفعول به. {بَعْدَ} : ظرف زمان متعلق بالفعل قبله. {إِذْ} : ظرف لما مضى من الزمان مبني على السكون في محل جر بإضافة {بَعْدَ} إليه. وقيل: هي بمعنى «أن» المصدرية. {هَداهُمْ} : ماض مبني على فتح مقدر على الألف. والفاعل يعود إلى {اللهُ} .

والهاء: مفعول به، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة {إِذْ} إليها على اعتبارها ظرفا، وعلى الوجه الثاني فيها تؤول مع الفعل بمصدر في محل جر بإضافة {بَعْدَ} إليه. التقدير: بعد هداية الله لهم، و «أن» المضمرة والفعل (يضل) في تأويل مصدر في محل جر بلام الجحود،

ص: 246

والجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر {كانَ،} التقدير: ما كان الله مريدا لإضلال قوم، والجملة الفعلية هذه معطوفة على ما قبلها، أو هي مستأنفة لا محل لها على الاعتبارين.

{يُبَيِّنَ} : مضارع منصوب ب «أن» مضمرة بعد {حَتّى} . والفاعل يعود إلى الله. {لَهُمْ} :

متعلقان بالفعل قبلهما. {ما} : تحتمل الموصولة، والموصوفة. فهي مبنية على السكون في محل نصب مفعول به، والجملة بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف، التقدير: حتى يبين لهم الذي أو شيئا يتقونه، و «أن» المضمرة والفعل:{يُبَيِّنَ} في تأويل مصدر في محل جر ب {حَتّى،} والجار والمجرور متعلقان بالفعل (يضل). {كانَ} : حرف مشبه بالفعل. {اللهُ} :

اسمها. {بِكُلِّ} : متعلقان ب {عَلِيمٌ} بعدها، و {بِكُلِّ}: مضاف، و {شَيْءٍ}: مضاف إليه.

{عَلِيمٌ} : خبر {كانَ} والجملة الاسمية: {كانَ اللهُ..} . إلخ تعليل، أو مستأنفة لا محل لها على الاعتبارين.

{إِنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (116)}

الشرح: {لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ} : فهو يتصرف فيهما كيف يشاء. {يُحْيِي وَيُمِيتُ} :

الإحياء. يكون بالخلق والإيجاد الظاهرين، ويكون الإحياء بالإيمان على سبيل الاستعارة التبعية، وقل مثله في الإماتة، وانظر الآية رقم [122] من سورة (الأنعام). تجد ما يسرك. {مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ}: انظر الآية رقم [74].

قال البيضاوي: لما منعهم عن الاستغفار للمشركين، وإن كانوا أولي قربى، وتضمن ذلك وجوب التبري منهم رأسا، بين لهم أن الله مالك كل موجود، ومتولي أمره، والغالب عليه، ولا يتأتى لهم ولاية، ولا نصرة إلا منه، ليتوجهوا بقلوبهم إليه، ويتبرءوا مما عداه، حتى لا يبقى لهم مقصود فيما يأتون ويتركون سواه. انتهى. بتصرف بسيط.

الإعراب: {إِنَّ} : حرف مشبه بالفعل. {اللهَ} : اسمها، {اللهَ}: متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {مُلْكُ} : مبتدأ مؤخر، وهو مضاف، و {السَّماواتِ}: مضاف إليه. و {وَالْأَرْضِ} : معطوف على ما قبله، والجملة الاسمية:{لَهُ مُلْكُ..} . إلخ في محل رفع خبر {إِنَّ،} والجملة الاسمية:

{إِنَّ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها. {يُحْيِي} : مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء والفاعل يعود إلى {اللهَ} . والجملة الفعلية في محل رفع خبر ثان ل {إِنَّ،} أو هي في محل نصب حال من الضمير المجرور في {اللهَ} . وجملة: {وَيُمِيتُ} معطوفة على الوجهين المعتبرين فيها {وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} : انظر إعراب مثل هذا الكلام في الآية رقم [74] والجملة الاسمية مستأنفة لا محل لها.

ص: 247

{لَقَدْ تابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اِتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (117)}

الشرح: {لَقَدْ تابَ} : لقد تجاوز وعفا وصفح. {النَّبِيِّ} : انظر الآية رقم [73]، {وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ}: انظر الآية رقم [100]، {الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ}: المراد بها وقت غزوة تبوك، حيث كانوا في عسرة وضيق، حتى كان العشرة من الرجال يتعاقبون ظهر البعير الواحد، وكان الرجلان يقتسمان تمرة واحدة، واشتد بهم العطش في سفرهم حتى شربوا ما في فرث الحيوانات من الماء، {مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ}: ويقرأ: «(من بعد ما كادت تزيغ قلوب فريق منهم)» ، واختلف في معنى «(تزيغ)» ، فقيل: تتلف بالجهد، والمشقة والشدة، وقال ابن عباس-رضي الله عنهما: أي: تميل عن الحق في الممانعة والنصرة، وقيل: من بعد ما هم فريق منهم بالتخلف والعصيان، ثم لحقوا به: وقيل: همّوا بالقفول، فتاب الله عليهم، وأمرهم به، وثبتهم على الحق والإيمان. انتهى. قرطبي بتصرف. وانظر ما ذكرته بشأن غزوة تبوك في الآية رقم [39] ففيه الكفاية. {ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ}: تكرير للتأكيد، وتنبيه على أنه تاب عليهم من أجل ما كابدوا من العسرة. {رَؤُفٌ} أي: بالعباد؛ حيث فتح لهم باب التوبة. والاعتذار، وكلفهم بالعبادات والجهاد، فعرضهم لثواب الغزاة والشهداء، هذا؛ والرأفة أشد الرحمة، و {رَؤُفٌ} صيغة مبالغة، فالله أرأف بعباده من الوالدة بولدها، ومن رأفته: أنه جعل النعيم الدائم جزاء على العمل القليل المتقطع، ومن رأفته أنه لا يكلف نفسا إلا وسعها، ومن رأفته أشياء كثيرة يعسر حصرها وعدها. وهي معلومة عند ذوي الألباب، {رَحِيمٌ}: صيغة مبالغة من الرحمة.

تنبيه: لقد اختلف في هذه التوبة التي تابها الله على النبي والمهاجرين والأنصار على أقوال كثيرة، أعتمد منها ما قاله ابن عباس-رضي الله عنهما: أنها كانت على النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأجل إذنه للمنافقين في القعود عن الجهاد، ودليله الآية رقم [43].

تنبيه،، وفائدة:«كاد» و «يكاد» : فعل يدل على مقاربة وقوع الفعل بعدها، ولذا لم تدخل عليه «أن» ؛ لأنه يخلص الفعل للاستقبال، وإذا دخل عليها حرف النفي؛ دل على أن الفعل بعدها وقع، كما في الآية رقم [71] من سورة (البقرة)، وإذا لم يدخل عليها حرف نفي لم يكن الفعل بعدها واقعا، ولكنه قارب الوقوع، والفعل منهما واوي العين، فيكاد وزنه: يكود ك «يعلم» ، نقلت فتحة الواو إلى الساكن قبلها؛ لأن الحرف الصحيح أولى بالحركة من حرف العلة، ثم قال: تحركت الواو بحسب الأصل، وانفتح ما قبلها الآن، فقبلت ألفا، فصار:«يكاد» ، بوزن يخاف، وكاد أصله كود بكسر الواو كخوف، ومصدره الكود كالخوف، وهذا في «كاد» الناقصة، وأما «كاد»

ص: 248

التامة، فهي يائية العين المفتوحة في الماضي ك «باع» ، ومصدره الكيد كالبيع، ولذا جاء المضارع في القرآن مختلفا، فمن الأول قوله تعالى:{يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ..} . ومن الثاني قوله تعالى:

{فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً،} ومعنى الأول المقاربة، ومعنى الثاني المكر، والأول ناقص التصرف، ويحتاج إلى مرفوع ومنصوب، والثاني تام التصرف، ويكتفي بالفاعل، وينصب المفعول به.

فائدة: قد تأتي (كاد) بمعنى أراد، قاله محب الدين الخطيب شارح شواهد الكاشف، وجعل منه قول الأفواه الأودي:[البسيط]

والبيت لا يبتنى إلا بأعمدة

ولا عماد إذا لم ترس أوتاد

فإن تجمّع أسباب وأعمدة

وساكن بلغوا الأمر الّذي كادوا

أي: الذي أرادوا، ومنه قول الآخر:[الكامل]

كدنا وكدت وتلك خير إرادة

لو عاد من زمن الصّبابة ما مضى

أي: أردنا وأردت، دليله (تلك خير إرادة).

تنبيه: شاع على الألسن أن نفي «كاد» إثبات، وإثباتها نفي، ولذا ألغز المعري بقوله:[الطويل]

أنحويّ هذا العصر، ما هي لفظة

جرت في لساني جرهم وثمود

إذا استعملت في صورة الجحد أثبتت

وإن أثبتت قامت مقام جحود

فأجابه الشيخ جمال الدين بن مالك، صاحب الألفية بقوله:[الطويل]

نعم هي كاد المرء أن يرد الحمى

فتأتي لإثبات بنفي ورود

وفي عكسها ما كاد أن يرد الحمى

فخذ نظمها فالعلم غير بعيد

وقد اتفقت كلمة النحاة على أن (كاد) كسائر الأفعال، وكلامهم متقارب المعنى في هذا الشأن، ومتشابه، انظر الشاهد [1127]، من كتابنا:«فتح القريب المجيب» والأشموني وغيرهما، وها أنا ذا أسوق لك ما ذكره السيوطي رحمه الله تعالى في كتابه:(همع الهوامع) لتكون على بصيرة من أمرك.

قال رحمه الله تعالى. والتحقيق: أنها كسائر الأفعال، نفيها نفي، وإثباتها إثبات، إلا أن معناها المقاربة، لا وقوع الفعل، فنفيها نفي لمقاربة الفعل، ويلزم منه نفي الفعل ضرورة أن من لم يقارب الفعل، لم يقع منه الفعل، وإثباتها إثبات لمقاربة الفعل، ولا يلزم من مقاربته وقوعه، فقولك:«كاد زيد يقوم» معناه: قارب القيام، ولم يقم، ومنه قال تعالى:{يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ} أي: يقارب الإضاءة، إلا أنه لا يضيء. وقولك:«لم يكد زيد يقوم» معناه لم يقارب القيام، فضلا عن أن يصدر منه، ومنه قوله تعالى:{إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها} أي: لم يقارب أن يراها، فضلا عن أن يرى، وقوله تعالى:{وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ} أي: لا يقارب

ص: 249

إساغته، فضلا عن أن يسيغه، وعلى هذا الزجاجي وغيره، وذهب قوم، منهم ابن جني، إلى أن نفيها يدل على وقوع الفعل ببطء، لآية {وَما كادُوا يَفْعَلُونَ} رقم [71]. البقرة، فإنهم فعلوا بعد بطء، والجواب أنها محمولة على وقتين، أي: فذبحوها بعد تكرار الأمر عليهم بذبحها، وما كادوا يذبحونها قبل ذلك، ولا قاربوا الذبح، بل أنكروا أشد الإنكار بدليل قولهم:{أَتَتَّخِذُنا هُزُواً،} انتهى.

وقال ابن هشام في مغنية: فالجواب: أنه إخبار عن حالهم في أول الأمر، فإنهم كانوا أولا بعداء عن ذبحها، بدليل ما يتلى علينا من تعنتهم، وتكرار سؤالهم. انتهى.

الإعراب: {لَقَدْ} : اللام: هي لام الابتداء، أو هي واقعة في جواب قسم محذوف. (قد):

حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال، وجملة:{لَقَدْ تابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ} :

ابتدائية، أو هي جواب قسم محذوف، لا محل لها على الوجهين. {الَّذِينَ}: اسم موصول مبني على الفتح في محل جر صفة للاسمين قبله، أو هو بدل منهما، ويجوز نصبه على القطع والمدح بفعل محذوف، وجملة:{اِتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ} : صلة الموصول، لا محل لها، {مِنْ بَعْدِ}: متعلقان بالفعل اتبعوه. {ما} : نافية. {كادَ} : فعل ماض ناقص. {يَزِيغُ} :

مضارع. {قُلُوبُ} : تنازعه الفعلان قبله. فالأول يطلبه اسما له، والثاني يطلبه فاعلا له، ولا بد من الإضمار في أحدهما على اختلاف بين البصريين والكوفيين، وقيل: اسم (كاد) ضمير الشأن. وقيل: اسمها مضمر، التقدير: من بعد ما كاد القوم، وعلى جميع الوجوه فجملة {يَزِيغُ} أو (تزيغ){قُلُوبُ فَرِيقٍ} في محل نصب خبر كاد وانظر الآية رقم [137](الأعراف).

و {ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ،} وجملة: {ما كادَ..} . إلخ، في محل جر بإضافة {بَعْدِ} إليها. {مِنْهُمْ}: متعلقان ب {فَرِيقٍ} . أو بمحذوف صفة له، وجملة:{تابَ عَلَيْهِمْ} : معطوفة على جملة: {لَقَدْ تابَ..} . إلخ لا محل لها مثلها على الوجهين المعتبرين فيها، {إِنَّهُ}: حرف مشبه بالفعل، والهاء اسمها. {بِهِمْ}: متعلقان بما بعدهما على التنازع، {رَؤُفٌ}: خبر إن. {رَحِيمٌ} : خبر ثان، والجملة الاسمية:{إِنَّهُ بِهِمْ..} . إلخ تعليل لما قبلها، أو هي مستأنفة لا محل لها على الاعتبارين. تأمل، وتدبر، والله أعلم.

{وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إِلاّ إِلَيْهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللهَ هُوَ التَّوّابُ الرَّحِيمُ (118)}

الشرح: {وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} أي: وتاب الله على الثلاثة، وهم المذكورون في الآية رقم [106]، و {خُلِّفُوا} أي: تخلفوا عن غزوة تبوك، وقيل: تخلفوا عن التوبة، أي: أخر

ص: 250

أمرهم، وهم المرجون لأمر الله، وقيل: المعنى تركوا أو أخروا عن المنافقين، فلم يحكم فيهم بشيء. {حَتّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ} أي: بما اتسعت؛ لأنهم كانوا مهجورين، لا يعاملون، ولا يكلمون، وفي هذا دليل على هجران أهل المعاصي حتى يتوبوا. {وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ} أي: ضاقت صدورهم بالهم والوحشة، وبما لقوه من الصحابة من الجفوة.

{وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إِلاّ إِلَيْهِ} أي: تيقنوا أن لا ملجأ يلجئون إليه في الصفح عنهم، وقبول التوبة منهم إلا إلى الله، {ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا..} . إلخ فبدأ بالتوبة منه، أي: قبولها، ترغيبا لهم ولأهل المعاصي في الرجوع إليه، وانظر الآية رقم [104] لشرح {التَّوّابُ،} وفيه دليل على أن قبول التوبة بمحض الرحمة والفضل والإحسان، وأنه لا يجب عليه سبحانه شيء.

قال أبو زيد رحمه الله تعالى: غلطت في أربعة أشياء، في الابتداء مع الله تعالى، ظننت أني أحبه، فإذا هو أحبني، قال تعالى:{يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} وظننت أني أرضى عنه، فإذا هو رضي عني، قال تعالى:{رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} وظننت أني أذكره، فإذا هو يذكرني، قال تعالى:{وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ} . وظننت أني أتوب، فإذا هو قد تاب علي، قال تعالى:{ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا..} ..

بعد هذا فإني أذكر لك ما حدّث به كعب بن مالك رضي الله عنه عن نفسه، وعن صاحبيه، وقد روى حديثه البخاري، ومسلم، وغيرهما.

قال: رضي الله عنه-وهذا الحديث رواه عنه ابنه عبد الله-رضي الله عنهم أجمعين-: لم أتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة غزاها قط، إلا في غزوة تبوك، غير أني تخلفت في غزوة بدر، ولم يعاتب أحدا تخلف عنه، إنما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم. والمسلمون يريدون عير قريش حتى جمع الله بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد، ولقد شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة حين تواثقنا على الإسلام، وما أحب أن لي بها مشهد بدر، وإن كانت بدر أذكر في الناس منها، وكان من خبري حين تخلفت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك: أني لم أكن قط أقوى، ولا أيسر مني حين تخلفت عنه في تلك الغزوة.

والله، ما جمعت قبلها راحلتين قط، حتى جمعتهما في تلك الغزوة، ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد غزوة إلا ورى بغيرها، حتى كانت تلك الغزوة، فغزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حر شديد، واستقبل سفرا بعيدا ومفاوز، واستقبل عدوا كثيرا، فجلى للمسلمين أمرهم، ليتأهبوا أهبة غزوهم، وأخبرهم بوجههم الذي يريد، والمسلمون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كثير، لا يجمعهم كتاب حافظ، -يريد بذلك الديوان-قال كعب. فقلّ رجل يريد أن يتغيب إلا ظن أن ذلك سيخفى ما لم ينزل فيه وحي من الله عز وجل، وغزا رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الغزوة حين طابت الثمار، والظلال، فأنا إليها أصعر-أميل-ليجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه، وطفقت أغدو لكي

ص: 251

أتجهز معهم، فأرجع ولم أقض شيئا، وأقول في نفسي: أنا قادر على ذلك إذا أردت، ولم يزل ذلك يتمادى بي حتى استمر بالناس الجد، وأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم غاديا والمسلمون معه. ولم أقض من جهازي شيئا، ثم غدوت فرجعت، ولم أقض شيئا.

فلم يزل ذلك يتمادى بي حتى أسرعوا، وتفارط الغزو، فهممت أن أرتحل فأدركهم، فيا ليتني فعلت، ثم لم يقدّر لي ذلك، وطفقت إذا خرجت في الناس بعد خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم يحزنني أني لا أرى لي أسوة، إلا رجلا مغموضا عليه في النفاق أو رجلا ممن عذر الله من الضعفاء، ولم يذكرني رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغ تبوك، فقال، وهو جالس في القوم في تبوك:«ما فعل كعب بن مالك؟» . فقال رجل من بني سلمة: يا رسول الله! حبسه برداه والنظر في عطفيه.

فقال له معاذ بن جبل: بئس ما قلت! والله يا رسول الله ما علمنا عليه إلا خيرا، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبينما هو على ذلك، فرأى رجلا مبيضا يزول به السراب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

«كن أبا خيثمة» . فإذا هو أبو خيثمة الأنصاري، وهو الذي تصدق بصاع التمر حين لمزه المنافقون، الآية رقم [79] قال كعب: فلما بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد توجه قافلا من تبوك حضرني بثّي، فطفقت أتذكر الكذب، وأقول: بم أخرج من سخطه غدا؟ وأستعين على ذلك بكل ذي رأي من أهلي، فلما قيل: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ظل قادما راح عني الباطل حتى عرفت أني لن أنجو منه بشيء أبدا، فأجمعت صدقه، وصبّح رسول الله صلى الله عليه وسلم قادما».

وكان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد، فركع فيه ركعتين، ثم جلس للناس، فلما فعل ذلك جاءه المخلفون، فطفقوا يعتذرون إليه، ويحلفون له، وكانوا بضعة وثمانين رجلا، فقبل منهم علانيتهم، وبايعهم، واستغفر لهم، ووكل سرائرهم إلى الله عز وجل، حتى جئت، فلما سلمت تبسم تبسم المغضب، ثم قال:(تعال) فجئت أمشي حتى جلست بين يديه، فقال لي:(ما خلفك؟ ألم تكن قد ابتعت ظهرك؟) قلت: يا رسول الله، إني والله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا، لرأيت أني سأخرج من سخطه بعذر، ولقد أعطيت جدلا، ولكني والله لقد علمت لئن حدثتك اليوم حديث كذب ترضى به عني ليوشكن الله أن يسخطك علي، ولئن حدثتك حديث صدق تجد عليّ فيه، إني لأرجو فيه عقبى الله عز وجل، والله ما كان لي من عذر، ما كنت قط أقوى، ولا أيسر مني حين تخلفت عنك.

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أما هذا فقد صدق، فقم حتى يقضي الله فيك!» .، فقمت، وثار رجال من بني سلمة، فاتبعوني، فقالوا: والله ما علمناك أذنبت ذنبا قبل هذا، لقد عجزت في أن لا تكون اعتذرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، بما اعتذر إليه المخلفون، فقد كان كافيك ذنبك استغفار رسول الله صلى الله عليه وسلم لك، قال: فو الله ما زالوا يؤنبونني حتى أردت أن أرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأكذب نفسي، قال:

ثم قلت لهم: هل لقي هذا معي أحد؟ قالوا: نعم لقيه معك رجلان، قالا مثل ما قلت، وقيل لهما ما قيل لك، قال، قلت: من هما؟ قالوا: مرارة بن ربيعة العامري، وهلال بن أمية الواقفي.

ص: 252

قال: فذكروا لي رجلين صالحين، قد شهدا بدرا فيهما أسوة، قال: فمضيت حتى ذكروهما لي، قال: ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين عن كلامنا أيها الثلاثة من بين من تخلف عنه، قال:

فاجتنبنا الناس، أو قال: تغيّروا لنا حتى تنكرت لي في نفسي الأرض، فما هي بالأرض التي أعرف، فلبثنا على ذلك خمسين ليلة، فأما صاحباي، فاستكانا، وقعدا في بيوتهما يبكيان، وأما أنا فكنت أشب القوم، وأجلدهم، فكنت أخرج، فأشهد الصلاة، وأطوف في الأسواق، فلا يكلمني أحد، وآتي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في مجلسه بعد الصلاة، فأسلم، فأقول في نفسي، هل حرك شفتيه بردّ السّلام، أم لا؟

ثم أصلي قريبا منه، وأسارقه النظر، فإذا أقبلت على صلاتي؛ نظر إليّ، فإذا التفت نحوه؛ أعرض عني، حتى إذا طال عليّ ذلك من جفوة المسلمين، مشيت، حتى تسورت جدار حائط أبي قتادة، وهو ابن عمي، وأحب الناس إليّ، فسلمت عليه، فو الله ما ردّ علي السّلام!.

فقلت له: يا أبا قتادة، أنشدك بالله، هل تعلمن أني أحب الله ورسوله؟ قال: فسكت، فعدت، فناشدته، فقال: الله ورسوله أعلم! ففاضت عيناي، وتوليت حتى تسورت الجدار، فبينما أن أمشي في سوق المدينة إذا نبطي من أنباط أهل الشام، ممن قدم بطعام يبيعه بالمدينة يقول:

من يدل على كعب بن مالك؟ قال: فطفق الناس يشيرون له إليّ حتى جاءني، فدفع إلي كتابا من ملك غسان، وكنت كاتبا، فقرأته، فإذا فيه، أما بعد، فإنه قد بلغنا أن صاحبك قد جفاك، ولم يجعلك الله بدار هوان، ولا مضيعة، فالحق بنا نواسك.

قال: فقلت حين قرأتها، وهذه أيضا من البلاء، فتيمّمت بها التنور فسجرتها، حتى إذا مضت أربعون من الخمسين، واستلبث الوحي، وإذا رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتيني، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن تعتزل امرأتك، قال: فقلت: أطلّقها أم ماذا أفعل؟ قال: بل اعتزلها فلا تقربها، وأرسل إلى صاحبيّ بمثل ذلك، قال: فقلت لامرأتي الحقي بأهلك، فكوني عندهم حتى يقضي الله في هذا الأمر، قال: فجاءت امرأة هلال بن أمية رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فقالت: يا رسول الله! إن هلال بن أمية شيخ ضائع، ليس له خادم، فهل تكره أن أخدمه؟ قال: لا، ولكن لا يقربنك، قالت: والله إنه ما به حركة إلى شيء، وو الله ما زال يبكي منذ كان من أمره ما كان إلى يومه هذا، قال: فقال لي بعض أهلي: لو استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد أذن لامرأة هلال بن أمية أن تخدمه، قال: فقلت: والله لا استأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما يدريني ما يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استأذنته فيها؟ وأنا رجل شاب.

قال: فلبثت عشر ليال، فكمل لنا خمسون ليلة من حين نهى عن كلامنا، قال: ثم صليت صلاة الصبح خمسين ليلة على ظهر بيت من بيوتنا، فبينما أنا جالس على الحالة التي ذكر الله عز وجل منا، قد ضاقت عليّ نفسي، وضاقت عليّ الأرض بما رحبت، سمعت صوت صارخ أوفى

ص: 253

على سلع، يقول بأعلى صوته: يا كعب بن مالك أبشر! قال: فخررت ساجدا، وعلمت أن قد جاء فرج، قال: وأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتوبة الله علينا حين صلى صلاة الفجر، فذهب الناس يبشروننا، فذهب قبل صاحبيّ مبشرون، وركض رجل إليّ فرسا، وسعى ساع من أسلم قبلي، وأوفى على الجبل، فكان الصوت أسرع من الفرس، فلما جاءني الذي سمعت صوته يبشرني نزعت له ثوبي، فكسوتهما إياه ببشارته.

والله ما أملك غيرهما يومئذ، واستعرت ثوبين فلبستهما، وانطلقت أيمم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتلقاني الناس فوجا فوجا يهنئونني بالتوبة، ويقولون: لتهنئك توبة الله عليك حتى دخلنا المسجد، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم حوله الناس، فقام طلحة بن عبيد الله يهرول حتى صافحني وهنأني، والله ما قام رجل من المهاجرين غيره، قال: فكان كعب لا ينساها لطلحة، قال كعب: فلما سلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال، وهو يبرق وجهه من السرور، قال:«أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك» .

قال: فقلت: أمن عندك يا رسول الله! أم من عند الله؟ قال: «بل من عند الله» . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سرّ استنار وجهه حتى كأن وجهه قطعة قمر، قال: وكنا نعرف ذلك، قال:

فلما جلست بين يديه؛ قلت: يا رسول الله! إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله ورسوله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«أمسك عليك بعض مالك، فهو خير لك» . فقلت: فإني أمسك سهمي الذي لي بخيبر، قال: وقلت: يا رسول الله إنما أنجاني الله بالصدق، وإن من توبتي أن لا أحدث إلا صدقا ما بقيت، قال: فو الله ما علمت أحدا من المسلمين أبلاه الله في صدق الحديث منذ ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومي هذا أحسن مما أبلاني به، والله ما تعمدت كذبة منذ قلت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومي هذا، وإني لأرجو الله أن يحفظني فيما بقي، قال:

فأنزل الله عز وجل: {لَقَدْ تابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ..} . إلخ الآيات.

قال كعب: والله ما أنعم الله علي من نعمة قط بعد إذ هداني للإسلام أعظم في نفسي من صدقي لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا أكون كذبته، فأهلك كما هلك الذين كذبوا، إن الله عز وجل قال للذين كذبوا حين نزل الوحي شرّ ما قال لأحد، فقال:{سَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ..} . إلخ الآية رقم [95 و 96]، قال كعب: كنا خلّفنا أيّها الثلاثة عن أمر أولئك الذين قبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حلفوا له فبايعهم، واستغفر لهم، وأرجأ رسول الله أمرنا حتى قضى الله تعالى فيه بذلك، قال الله تعالى:{وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} . وليس الذي ذكره ما خلفنا تخلفنا عن الغزو، وإنما هو تخليفه، إيانا، وإرجاؤه أمرنا عمن خلف له، واعتذر إليه، وقبل منه. انتهى. قرطبي، وخازن، والترغيب والترهيب للحافظ المنذري بحروفه.

ص: 254

تنبيه: رويت لك الحديث بتمامه لما فيه من العبر والعظات التي تؤخذ منه، وما يتذكر إلا أولو الألباب، وليتضح معنى الآية الكريمة وتفسيرها تمام الإيضاح، فإن هناك من يفسرها على غير وجهها الصحيح، فيضل عن طريق الحق والصواب، ولعلك تدرك معي فضل الصدق في الحديث، وما يؤول إليه أمره من النجاة في الدنيا والآخرة، وانظر الكذب وما يؤول إليه أمره من الهلاك في الدنيا والآخرة في الآية رقم [105] من سورة (النحل).

الإعراب: {وَعَلَى الثَّلاثَةِ} : معطوفان على قوله: {عَلَى النَّبِيِّ..} . إلخ فإن التقدير: وتاب الله على الثلاثة. {الَّذِينَ} : يجوز فيه ما جاز بسابقه. {خُلِّفُوا} : ماض مبني للمجهول، والواو نائب فاعله، والألف للتفريق. والجملة الفعلية صلة الموصول لا محل لها. {حَتّى}: حرف ابتداء. {إِذا} : انظر الآية رقم [86]. {ضاقَتْ} : ماض، والتاء للتأنيث، {عَلَيْهِمُ}: متعلقان بالفعل قبلهما. {الْأَرْضُ} : فاعل، وجملة:{ضاقَتْ..} . إلخ في محل جر بإضافة {إِذا} إليها على القول المشهور المرجوح. {بِما} : الباء: حرف جر، و (ما) المصدرية والفعل {رَحُبَتْ}:

في تأويل مصدر في محل جر بالباء التقدير: برحبها، والجار والمجرور متعلقان بالفعل قبلهما، وجملة:{وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ} : معطوفة على سابقتها، فهي في محل جر مثلها. {أَنْ}:

حرف مشبه بالفعل مخفف من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن محذوف، التقدير: أنه. {لا} :

نافية للجنس تعمل عمل (إن). {مَلْجَأَ} : اسمها مبني على الفتح في محل نصب. {مِنَ اللهِ} :

متعلقان بمحذوف خبر {لا،} أو هما متعلقان بمحذوف صفة: {مَلْجَأَ،} وعليه فخبر {لا} محذوف، التقدير: موجود، ونحوه، والأول: على لغة الحجازيين الذين يجيزون ذكر خبر {لا،} والثاني: على لغة بني تميم الذين يوجبون حذفه. {إِلاّ} : حرف حصر. {إِلَيْهِ} : بدل من قوله {مِنَ اللهِ} وقيل: استثناء من مقدر، أي: لا ملجأ لأحد، ولا اعتماد على أحد إلا إليه تعالى انتهى. سمين. و {أَنْ} واسمها المحذوف، وخبرها في تأويل مصدر في محل نصب سد مسد مفعولي (ظنوا)، وجملة:{وَظَنُّوا..} . إلخ، معطوفة على جملة:{ضاقَتْ..} . إلخ فهي في محل جر مثلها، وجواب {إِذا} محذوف، تقديره: رحمهم الله تعالى، و {إِذا} ومدخولها كلام مستأنف بعد {حَتّى} لا محل له، بعد هذا ينبغي أن تعلم أن أبا الحسن الأخفش يعتبر {إِذا} في مثل هذه الآية مجرورة ب {حَتّى،} وهو رأي: لا يوافقه عليه أحد من النحويين، وجملة:{تابَ عَلَيْهِمْ} معطوفة على جواب {إِذا} المحذوف، {لِيَتُوبُوا}: مضارع منصوب ب (أن) مضمرة بعد لام التعليل، وعلامة نصبه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والألف للتفريق، و «أن» المضمرة والمضارع في تأويل مصدر في محل جر باللام، والجار والمجرور متعلقان بالفعل قبلهما، {إِنَّ اللهَ هُوَ التَّوّابُ الرَّحِيمُ}: انظر إعراب هذه الجملة في الآية رقم [104] وهي مفيدة للتعليل، أو هي مستأنفة لا محل لها على الوجهين.

ص: 255

{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اِتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصّادِقِينَ (119)}

الشرح: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ} : خافوه فيما لا يرضاه، وانظر (الإيمان) في الآية رقم [1] من سورة (الأعراف)، وزيادته في الآية رقم [2] من سورة (الأنفال) وانظر {اِتَّقُوا} في الآية رقم [1] منها. {مَعَ الصّادِقِينَ} أي: في إيمانهم وعهودهم، أو في دين الله، نية وقولا وعملا، وقرئ:«(من الصادقين)» أي: في توبتهم وإنابتهم، فيكون المراد به الثلاثة المذكورون في الآية السابقة، ومن نهج نهجهم وسار على طريقهم، وقيل: غيرهم على أقوال كثيرة.

تنبيه: روي: أن أبا بكر رضي الله عنه احتج بهذه الآية على الأنصار في يوم السقيفة، وذلك أن الأنصار قالوا: منا أمير، ومنكم أمير، فقال رضي الله عنه، يا معشر الأنصار! إن الله سبحانه وتعالى يقول في كتابه {لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ.} . إلى قوله {أُولئِكَ هُمُ الصّادِقُونَ} الآية رقم [8] من سورة (الحشر)، من هم، قالت الأنصار: أنتم هم، فقال: إن الله تعالى يقول: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا..} . إلخ الآية، فأمركم أن تكونوا معنا، ولم يأمرنا أن نكون معكم، نحن الأمراء، وأنتم الوزراء. انتهى. خازن.

وقال القرطبي-رحمه الله تعالى: حق من فهم عن الله، وعقل عنه أن يلازم الصدق في الأقوال، والإخلاص في الأعمال، والصفاء في الأحوال، فمن كان كذلك لحق بالأبرار، ووصل إلى رضا الغفار، قال صلى الله عليه وسلم:«عليكم بالصّدق، فإن الصّدق يهدي إلى البرّ، وإنّ البرّ يهدي إلى الجنّة، وما يزال الرجل يصدق ويتحرّى الصدق حتى يكتب عند الله صدّيقا» . والكذب على الضد من ذلك، قال صلى الله عليه وسلم:«إيّاكم والكذب، فإنّ الكذب يهدي إلى الفجور، وإنّ الفجور يهدي إلى النار، وما يزال الرجل يكذب، ويتحرّى الكذب حتّى يكتب عند الله كذّابا» . رواه البخاري ومسلم وغيرهما عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.

الإعراب: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} : انظر إعراب هذه الجملة في الآية رقم [23] وجملة:

{اِتَّقُوا اللهَ} لا محل لها؛ لأنها ابتدائية كالجملة الندائية قبلها، {وَكُونُوا}: أمر ناقص مبني على حذف النون، والواو اسمه، والألف للتفريق، وانظر إعراب:{اُسْجُدُوا،} في الآية رقم [11] من سورة (الأعراف). {مَعَ} : ظرف مكان متعلق بمحذوف خبر (كانوا)، و {مَعَ}:

مضاف، و {الصّادِقِينَ}: مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الياء نيابة عن الكسرة؛ لأنه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، وجملة:{وَكُونُوا..} . إلخ معطوفة على ما قبلها لا محل لها أيضا.

ص: 256

{ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفّارَ وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ إِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120)}

الشرح: {ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ..} . إلخ: أي: ما صح، أو: لا يصح، ولا ينبغي، وهذا خبر، ومعناه أمر، انظر الآية رقم [113] -وانظر {حَوْلَهُمْ} في الآية رقم [101]، {الْأَعْرابِ}:

انظر الآية رقم [90]. {وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ} أي: لا يصونوا أنفسهم عما لم يصن نفسه عنه، ويكابدوا معه ما يكابده من الأهوال والمشقات والمصاعب، وانظر الفعل (يرغب) في الآية رقم [127] من سورة (النساء)، {ذلِكَ}: إشارة إلى ما دل عليه قوله: {ما كانَ..} . إلخ من النهي عن التخلف. {لا يُصِيبُهُمْ} أي: في سفرهم وغزواتهم، وانظر إعلاله في الآية رقم [51] {ظَمَأٌ}: عطش. {نَصَبٌ} : تعب. {مَخْمَصَةٌ} : جوع شديد. {فِي سَبِيلِ اللهِ} أي: في طاعته، ومن أجل إعلاء كلمته. {وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفّارَ} أي: لا يضعون قدما على الأرض يكون ذلك القدم سببا لغيظ الكفار وغمهم وحزنهم. {وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً} أي:

أسرا أو قتلا، أو هزيمة، أو غنيمة منهم، أو نحو ذلك قليلا كان أو كثيرا، {إِلاّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ} أي: إلا كتب وسجل لهم بذلك ثواب عمل صالح قد ارتضاه لهم، وقبله منهم.

{إِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} : انظر الآية رقم [91].

قال الخازن: وفي الآية دليل على أن من قصد طاعة الله كان قيامه وقعوده ومشيه، وحركته وسكونه كلها حسنات مكتوبة عند الله، ومن قصد معصية الله كان قيامه وقعوده، ومشيه وحركته وسكونه كلها سيئات إلا أن يغفرها الله بفضله وكرمه. انتهى.

قال البيضاوي: روي: أن أبا خيثمة رضي الله عنه ذهب إلى بستانه، بعد ذهاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسفره إلى تبوك، وكانت له امرأة حسناء، فرشت له في الظل، وبسطت له الحصير، وقربت إليه الرطب، والماء البارد، فنظر، فقال: ظل ظليل، ورطب يانع، وماء بارد، وامرأة حسناء، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الضج والريح، ما هذا بخير، فقام، فرحل ناقته، وأخذ سيفه ورمحه، ومر كالريح، فمد رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفه إلى الطريق، فإذا براكب يزهاه السراب، فقال:

كن أبا خيثمة، فكان هو، ففرح به رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستغفر له. انتهى.

الإعراب: {ما} : نافية. {كانَ} : ماض ناقص. {لِأَهْلِ} : متعلقان بمحذوف خبر {كانَ} تقدم على اسمها، و {لِأَهْلِ}: مضاف، و {الْمَدِينَةِ}: مضاف إليه. {وَمَنْ} : اسم

ص: 257

موصول، أو نكرة موصولة بمعنى أناس مبنية على السكون في محل جر معطوفة على (أهل).

{حَوْلَهُمْ} : ظرف مكان متعلق بمحذوف صلة (من) أو صفتها، والهاء في محل جر بالإضافة.

{مِنَ الْأَعْرابِ} : متعلقان بمحذوف حال من الضمير المستتر في متعلق الظرف، والمصدر المؤول من {أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللهِ} في محل رفع اسم {كانَ} مؤخر. {وَلا}: الواو: حرف عطف.. (لا): نافية، أو ناهية. {يَرْغَبُوا}: منصوب. إذا اعتبرته معطوفا على ما قبله. ومجزوم إذا اعتبرت (لا) ناهية، وعلامة النصب، أو الجزم حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والألف للتفريق. {بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ}: كلاهما متعلقان بالفعل: {يَرْغَبُوا،} والهاء في محل جر بالإضافة. {ذلِكَ} : اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع مبتدأ، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب لا محل له. {بِأَنَّهُمْ}: الباء: حرف جر. (أنهم): حرف مشبه بالفعل، والهاء اسمها، وجملة:{لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ} في محل رفع خبر (أن)، و (أن) واسمها وخبرها في تأويل مصدر في محل جر بالباء، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ، والجملة الاسمية:{ذلِكَ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها. {نَصَبٌ} و {مَخْمَصَةٌ} :

معطوفان على {ظَمَأٌ،} و (لا) زائدة لتأكيد النفي. {فِي سَبِيلِ} : متعلقان بأحد الأسماء الثلاثة، على التنازع، أو بمحذوف صفة له، و {سَبِيلِ}: مضاف، و {اللهِ}: مضاف إليه. {وَلا} :

الواو: حرف عطف. (لا): زائدة لتأكيد النفي. {يَطَؤُنَ} : فعل وفاعل. {مَوْطِئاً} : مفعول به إن كان اسم مكان، ومفعول مطلق إن كان مصدرا ميميا بمعنى وطأ، وجملة:{يَغِيظُ الْكُفّارَ} : في محل نصب صفة له، وجملة:{وَلا يَطَؤُنَ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها فهي في محل رفع مثلها، وجملة:{وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً} معطوفة على ما قبلها، فهي في محل رفع أيضا، و {نَيْلاً} مفعول مطلق. {إِلاّ}: حرف حصر. {كُتِبَ} : ماض مبني للمجهول.

{لَهُمْ بِهِ} : كلاهما متعلقان بالفعل قبلهما. {عَمَلٌ} : نائب فاعل. {صالِحٌ} : صفته، وجملة:{كُتِبَ..} . إلخ في محل نصب حال مستثنى من عموم الأحوال. {إِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} : انظر إعراب: {فَإِنَّ اللهَ لا يَرْضى..} . إلخ في الآية رقم [96] فهي مثلها، والجملة الاسمية هنا تعليلية، أو مستأنفة لا محل لها على الاعتبارين.

{وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً إِلاّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (121)}

الشرح: {وَلا يُنْفِقُونَ} : واو الجماعة عائدة على الذين نهوا عن التخلف من أهل المدينة والأعراب والذين رغبوا في الجهاد بما ذكر لهم من الأجر العظيم والثواب العميم، وانظر (نفق) في الآية رقم [3]، من سورة (الأنفال)، {نَفَقَةً صَغِيرَةً}: ولو ثمرة. {كَبِيرَةً} : كنفقة عثمان

ص: 258

وعبد الرحمن بن عوف، وغيرهما في غزوة تبوك. {وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً} أي: في مسيرهم مقبلين، أو مدبرين فيه، {إِلاّ كُتِبَ لَهُمْ} أي: كتب الله لهم آثارهم وخطاهم، وثواب نفقاتهم. {لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ} أي: ليثيبهم، ويكافئهم مكافأة أعظم بكثير مما كانوا يفعلونه في هذه الدنيا، وهذه المكافأة تكون في الآخرة، وانظر جزى في الآية رقم [27].

هذا؛ والوادي: هو المنفرج بين جبلين يجري فيه السبيل، ويجمع على: أودية وأوديات، وأوادية وأوداء وأوداة قال جرير:[الوافر]

عرفت ببرقة الأوداه رسما

محيلا طال عهدك من رسوم

ولم أعثر على وديان مع أنه كثير مستعمل، هذا؛ وقد قال أبو البقاء في جمع (واد) على (أودية): وجمع فاعل على أفعلة، شاذ، ولم نسمعه في غير هذا الحرف، ووجهه أن فاعلا قد جاء بمعنى: فعيل، وكما جاء فعيل وأفعلة: كجريب وأجربة كذلك فاعل. انتهى.

تنبيه: الآية الكريمة وسابقتها تحثان على الجهاد وتبينان أنه أفضل الأعمال بعد الإيمان بالله، والنبي صلى الله عليه وسلم قد بين ذلك في أحاديثه الشريفة أحسن بيان، فعن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها، وموضع سوط أحدكم من الجنة خير من الدنيا وما عليها، والرّوحة يروحها العبد في سبيل الله، أو الغدوة خير من الدنيا وما عليها» . وفي رواية: «وما فيها» . متفق عليه.

وعن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تضمّن الله لمن خرج في سبيله، لا يخرج إلا جهادا في سبيلي، وإيمانا بي، وتصديقا برسلي، فهو عليّ ضامن أن أدخله الجنة، أو أرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه نائلا ما نال من أجر أو غنيمة، والّذي نفس محمد بيده ما من كلم يكلم في سبيل الله، إلا جاء يوم القيامة كهيئته يوم كلم، لونه لون الدم، وريحه ريح المسك، والذي نفس محمد بيده، لولا أن أشقّ على المسلمين ما قعدت خلاف سريّة تغزو في سبيل الله أبدا، ولكن لا أجد سعة فأحملهم، ولا يجدون سعة، ويشقّ عليهم أن يتخلفوا عني، والذي نفس محمد بيده لوددت أن أغزو في سبيل الله فأقتل، ثم أغزو فأقتل، ثمّ أغزو فأقتل» .

متفق عليه، واللفظ هنا لمسلم، وللبخاري بمعناه، وانظر ما ذكرته في الآية رقم [96] -النساء، وانظر رباط الخيل في الآية رقم [60] من سورة (الأنفال).

الإعراب: {وَلا} : الواو: حرف عطف. (لا): نافية، أو زائدة لتأكيد النفي. {يُنْفِقُونَ}:

مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو: فاعله، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها في الآية السابقة، فهي في محل رفع مثلهن. {نَفَقَةً}: مفعول به.

{صَغِيرَةً} : صفة: {نَفَقَةً} . {وَلا} : مثل سابقتها. {كَبِيرَةً} : معطوف على {صَغِيرَةً} .

وجملة: {وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً} : معطوفة على ما قبلها، فهي في محل رفع أيضا {إِلاّ كُتِبَ}

ص: 259

{لَهُمْ} : انظر مثل هذه الجملة ومحلها في الآية السابقة ونائب الفاعل ضمير مستتر تقديره: «هو» يعود إلى ما يفهم من الإنفاق وقطع الوادي، ويقدره المفسرون (إلا كتب لهم ذلك) أي: ثواب ما ذكر من الأمرين. تأمل. {لِيَجْزِيَهُمُ} : مضارع منصوب ب «أن» مضمرة بعد لام التعليل، والهاء مفعول به أول. {اللهُ}: فاعله. {أَحْسَنَ} : مفعول به ثان، وهو مضاف، و (ما) تحتمل الموصولة، والموصوفة، فهي مبنية على السكون في محل جر بالإضافة. {كانُوا}: ماض ناقص، مبني على الضم، والواو اسمه، والألف للتفريق، وجملة:{يَعْمَلُونَ} : في محل نصب خبر (كان)، وجملة:{كانُوا..} . إلخ صلة {ما،} أو صفتها، والعائد أو الرابط: محذوف؛ إذ التقدير: أحسن الذي، أو شيء كانوا يعملونه، و «أن» المضمرة والمضارع في تأويل مصدر في محل جر بلام التعليل، والجار والمجرور متعلقان بالفعل {كُتِبَ} .

{وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122)}

الشرح: {وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً} أي: ما صح ولا ينبغي أن يخرج جميع المؤمنين للجهاد في كل غزوة، أو سرية، وانظر انفروا و (النفير) في الآية رقم [39]، {كَافَّةً} و (عامة) وجميعا الكل بمعنى واحد، وكافة وعامة لا تضافان، ولا تدخلهما ال، ولا تكونان إلا منصوبتين على الحال نصبا لازما. وانظر الآية رقم [36]. {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ}: فهلا خرج للجهاد من كل قبيلة، أو أهل قرية طائفة، والفرقة أقل من الفريق، وانظر {طائِفَةٌ} في الآية رقم [67]، {لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ}: ليتعلموا أحكام الدين وشرائعه، وانظر (فقه) في الآية رقم [179] (الأعراف). {وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ}: ليعلموا قومهم ما تعلموه من أحكام الدين وشرائعه إذا رجعوا إليهم من غزوهم وجهادهم. {لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} :

لعلهم يخافون عقاب الله بامتثال أمره واجتناب نهيه، والترجي في هذه الآية وأمثالها، إنما هو بحسب عقول البشر؛ لأن الله لا يحصل منه ترج ورجاء لعباده، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا!.

تنبيه: في هذه الآية عدة أمور:

-الأول: إن هذه الآية نسخت الآية السابقة، والآية رقم [39] وقال ابن عباس-رضي الله عنهما: هذه الآية مخصوصة بالسرايا، والتي قبلها بالنهي عن تخلف واحد فيما إذا خرج النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه للجهاد.

-الثاني: لقد اختلف في الضمير في {لِيَتَفَقَّهُوا،} و {وَلِيُنْذِرُوا} فقال مجاهد وقتادة: هو للمقيمين مع النبي صلى الله عليه وسلم؛ وعليه فهناك محذوف، كما تقف عليه في الإعراب، وقال الحسن: هما

ص: 260

للفرقة النافرة للجهاد، ويكون المعنى: ليتبصروا، ويتيقنوا بما يريهم الله من الظهور على الأعداء ونصرة الدين. {وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ} من الكفار. {إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ} من الجهاد فيخبرونهم بنصرة الله تعالى نبيه والمؤمنين، ويوشك أن ينزل بهم، ما نزل بأصحابهم الكفار، قال القرطبي: قول مجاهد وقتادة أبين. انتهى بتصرف.

-الثالث: الآية الكريمة تحث على طلب العلم، والتفقه في الدين، وطلب العلم ينقسم على قسمين: فرض عين، وذلك كتعلم أحكام الصلاة والصيام، والحج والزكاة؛ إذ كل مكلف من ذكر، أو أنثى بأداء هذه العبادات يجب عليه وجوبا عينيا أن يعرف أحكام العبادة التي يقوم بأدائها، وإذا قصر في ذلك يكون آثما قطعا، وهذا ما أفاده قول الرسول صلى الله عليه وسلم:«طلب العلم فريضة على كلّ مسلم» . رواه أنس بن مالك رضي الله عنه، والثاني: فرض كفاية، وذلك كعلم المواريث، والنكاح، والأقضية والشاهدات، وإقامة الحدود، والفصل في الخصومات؛ إذ لا يجب أن يتعلمه جميع الناس، فتضيع أحوالهم، وتبطل معايشهم، فإذا قام به البعض سقط عن الباقين من غير تعيين، ويرجع إليهم الباقون في حال ما يعرض لهم من قضايا دينهم ودنياهم.

-الأمر الرابع: طلب العلم فضيلة عظيمة، ومرتبة شريفة لا يوازيها أي: عمل، والأحاديث الشريفة المرغبة في طلب العلم كثيرة مشهورة مسطورة، يعرفها من يريد الاطلاع عليها.

-الأمر الخامس: نزلت الآية الكريمة لما نزل في المتخلفين ما نزل من التوبيخ والتقريع، كما رأيت فيما مضى، وتسابق المؤمنون إلى الغزو، وانقطعوا عن النفقة في أمور الدين، فأمروا أن ينفر من كل فرقة طائفة إلى الجهاد، ويبقى أعقابهم يتفقهون حتى لا ينقطع التفقه الذي هو الجهاد الأكبر.

الإعراب: {وَما} : الواو: حرف استئناف. (ما): نافية. {كانَ} : ماض ناقص.

{الْمُؤْمِنُونَ} : اسم {كانَ} مرفوع، وعلامة رفعه الواو نيابة عن الضمة؛ لأنه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد. {لِيَنْفِرُوا}: مضارع منصوب ب «أن» مضمرة بعد لام الجحود، وعلامة نصبه حذف النون لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، و «أن» المضمرة والمضارع في تأويل مصدر في محل جر باللام، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر {كانَ}. {كَافَّةً}: حال من واو الجماعة، وجملة:{وَما كانَ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها. {فَلَوْلا} : الفاء: حرف استئناف. (لولا): حرف تحضيض. {نَفَرَ} : ماض. {مِنْ كُلِّ} : متعلقان بالفعل قبلهما. و {كُلِّ} : مضاف، و {فِرْقَةٍ}: مضاف إليه. {مِنْهُمْ} : متعلقان بمحذوف حال من {طائِفَةٌ} . كان صفة لها، فلما قدم عليها صار حالا. {طائِفَةٌ}: فاعل {نَفَرَ} . والجملة الفعلية مستأنفة لا محل لها. {لِيَتَفَقَّهُوا} : مضارع منصوب ب «أن» مضمرة بعد لام التعليل

إلخ. و «أن» المضمرة والمضارع في تأويل مصدر في محل جر بلام التعليل،

ص: 261

والجار والمجرور متعلقان بفعل محذوف، التقدير: وبقي باقي الفرقة للتفقه في الدين، وهذا على قول قتادة ومجاهد. وهما متعلقان بالفعل {نَفَرَ} على قول الحسن؛ والأول أحق بالاعتبار كما رأيت في الشرح. {فِي الدِّينِ}: متعلقان بالفعل قبلهما. {وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ} : معطوف على ما قبله، وهو مثله في الإعراب والتأويل. {إِذا}: ظرف زمان متعلق بالفعل قبله، فهو مبني على السكون في محل نصب، وجملة:{رَجَعُوا إِلَيْهِمْ} : في محل جر بإضافة {إِذا} إليها.

{لَعَلَّهُمْ} : حرف مشبه بالفعل، والهاء اسمها، وجملة:{يَحْذَرُونَ} في محل رفع خبر (لعلّ)، والجملة الاسمية:{لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} مفيدة للتعليل لا محل لها.

{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاِعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (123)}

الشرح: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا..} . إلخ: هذا النداء للمؤمنين، فقد أمروا بقتال الكفار الأقرب فالأقرب في الدار والنسب، كما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أولا بإنذار عشيرته الأقربين، فإن الأقرب أحق بالشفقة والاستصلاح، وقيل: هم يهود المدينة، كقريظة، والنضير، وخيبر، وإذا عرفت أنه قد قضي على قبائل اليهود في غزوة خيبر، وغزوة الخندق، وقد كانتا قبل نزول هذه السورة بعامين، أو أكثر عرفت: أنه لا اعتبار لهذا القول، وقيل: المراد بهؤلاء الروم؛ لأنهم كانوا في الشام، وهي أقرب إلى المدينة من العراق بلاد الفرس، وانظر الآية رقم [29].

{وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً} أي: شدة، وقوة، وحمية، وصبرا في القتال، وقرئ بتثليث الغين وسكون اللام. {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ}: بالنصر والتأييد، والمعونة على أعدائهم، لا المعية الحسية، فإنها مستحيلة قطعا، وخابت الوثنية.

الإعراب: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا} : انظر إعراب مثل هذه الكلمات في الآية رقم [23].

{الَّذِينَ} : اسم موصول مبني على الفتح في محل نصب مفعول به، وجملة:{يَلُونَكُمْ} : صلة الموصول لا محل لها. {مِنَ الْكُفّارِ} : متعلقان بمحذوف حال من واو الجماعة.

{وَلْيَجِدُوا} : مضارع مجزوم بلام الأمر، وعلامة جزمه حذف النون

إلخ. والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية معطوفة على جملة:{قاتِلُوا..} . إلخ لا محل لها مثلها، {فِيكُمْ}: متعلقان بالفعل قبلهما على أنهما مفعوله الأول، أو هما متعلقان بمحذوف حال من {غِلْظَةً،} كان صفة له، فلما قدم عليه صار حالا، {غِلْظَةً}: مفعول به، {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ}: انظر إعراب هذه الجملة في الآية رقم [36] وهي معطوفة على ما قبلها لا محل لها أيضا.

ص: 262

{وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124)}

الشرح: {وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ} أي: من سور القرآن، وانظر شرح {سُورَةٌ} في الآية رقم [64]، {فَمِنْهُمْ}: من المنافقين، ولم يتقدم لهم ذكر، وإنما فهم من المقام. {مَنْ يَقُولُ}:

يقول ذلك استهزاء وسخرية. {أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً} أي: يقول بعض المنافقين لبعض هذا الكلام، أو يقوله للمؤمنين. {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً}: انظر زيادة الإيمان في الآية رقم [2] من سورة (الأنفال). تجد ما يسرك. {وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} أي: يفرحون بنزول السورة؛ لأنه سبب لزيادة كمالهم وارتفاع درجاتهم عند ربهم.

الإعراب: الواو: حرف استئناف. (إذا): انظر الآية رقم [86]. {ما} : زائدة للتوكيد.

{أُنْزِلَتْ} : ماض مبني للمجهول، والتاء للتأنيث. {سُورَةٌ}: نائب فاعل، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة (إذا) إليها

إلخ. {فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ} : انظر إعراب مثل هذه الجملة في الآية رقم [49]، والجملة الاسمية جواب (إذا) لا محل لها، و (إذا) ومدخولها كلام مستأنف لا محل له. {أَيُّكُمْ}: اسم استفهام مبتدأ، والكاف في محل جر بالإضافة. {زادَتْهُ}: ماض، والتاء للتأنيث، والهاء مفعول به أول. {هذِهِ}: اسم إشارة مبني على الكسر في محل رفع فاعل، والهاء حرف تنبيه لا محل له. {إِيماناً}: مفعول به ثان، وجملة:{زادَتْهُ..} . إلخ في محل رفع خبر المبتدأ، هذا؛ ويقرأ بنصب {أَيُّكُمْ} على أنه منصوب بفعل محذوف، يقدر مؤخرا، فتكون الجملة:{زادَتْهُ..} . إلخ مفسرة للمحذوفة، والكلام كله على القراءتين في محل نصب مقول القول. {فَأَمَّا}: الفاء: حرف استئناف. (أما): أداة شرط وتفصيل وتوكيد.

أما كونها أداة شرط؛ لأنها قائمة مقام أداة الشرط وفعله، بدليل لزوم الفاء بعدها؛ إذ الأصل: مهما يك من شيء فالذين آمنوا

إلخ، فأنيبت (أمّا) مناب (مهما) و (يك) من شيء، فصار أما الذين آمنوا فزادتهم.

وأما كونها أداة تفصيل؛ فلأنها في الغالب تكون مسبوقة بكلام مجمل، وهي تفصله، ويعلم ذلك من تتبع مواقعها.

وأما كونها أداة توكيد، فلأنها تحقق الجواب، وتفيد: أنه واقع لا محالة لكونها علقته على أمر متيقن. {الَّذِينَ} : اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ، وجملة:{آمَنُوا} :

مع المتعلق المحذوف صلة الموصول لا محل لها. {فَزادَتْهُمْ} : الفاء: واقعة في جواب أما، وجملة:{فَزادَتْهُمْ إِيماناً} في محل رفع خبر المبتدأ، وهي في الوقت نفسه جواب (أما)، والجملة الاسمية:{فَأَمَّا الَّذِينَ..} . إلخ لا محل لها؛ لأنها مفرعة عما قبلها ومستأنفة. {وَهُمْ} : الواو:

ص: 263

واو الحال. (هم): ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ، وجملة:{يَسْتَبْشِرُونَ} :

في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية:{وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} في محل نصب حال من الضمير المنصوب، والرابط: الواو، والضمير. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم.

{وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ (125)}

الشرح: {مَرَضٌ} : كفر. وانظر مرض القلب في الآية [49] من سورة (الأنفال).

{فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ} أي: كفرا إلى كفرهم، وذلك أنهم كلما جحدوا نزول سورة، أو استهزءوا، ازدادوا كفرا مع كفرهم الأول، وسمي الكفر رجسا؛ لأنه أقبح الأشياء، وأصل الرجس في اللغة: الشيء المستقذر. {وَماتُوا} أي: المنافقون. {وَهُمْ كافِرُونَ} أي: جاحدون لما أنزل الله عز وجل.

تنبيه: الآية السابقة ذكرت: أن الإيمان يزيد بنزول الآيات والتصديق بها وهذه الآية ذكرت: أن الكفر والنفاق يزيد أيضا بجحود الآيات، وعدم التصديق بها، فهذا من باب المقابلة، وقد رأيت فيما سبق: أن الله جلت قدرته يقارن بين الإيمان والكفر، وبين الجنة والنار، وبين الحسنات والسيئات.

قال الإمام علي رضي الله عنه، وكرم الله وجهه: إن الإيمان يبدو لمعة بيضاء في القلب، وكلما ازداد الإيمان عظما، ازداد ذلك البياض حتى يبيض القلب كله، وإن النفاق يبدو لمعة سوداء في القلب، وكلما ازداد النفاق ازداد السواد حتى يسود القلب كله، وايم الله لو شققتم عن قلب مؤمن لوجدتموه أبيض، ولو شققتم عن قلب منافق لوجدتموه أسود. انتهى خازن.

الإعراب: {وَأَمَّا الَّذِينَ} : انظر الآية السابقة. {فِي قُلُوبِهِمْ} : متعلقان بمحذوف خبر مقدم.

والهاء في محل جر بالإضافة. {مَرَضٌ} : مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية صلة الموصول لا محل لها. {فَزادَتْهُمْ رِجْساً}: انظر إعراب هذه الجملة ومحلها في الآية السابقة. {إِلَى رِجْسِهِمْ} :

متعلقان بمحذوف صفة {رِجْساً} والجملة الاسمية: {وَأَمَّا الَّذِينَ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها لا محل لها مثلها، وجملة:{وَماتُوا} معطوفة على ما قبلها، فهي في محل رفع مثلها، والجملة الاسمية {وَهُمْ كافِرُونَ} في محل نصب حال من واو الجماعة، والرابط: الواو، والضمير.

{أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (126)}

الشرح: {أَوَلا يَرَوْنَ} أي: المنافقون، وقرئ:«(أو لا ترون)» خطابا للمؤمنين، وقرئ:«(أو لم يروا)» كما قرئ: «(أو لا ترى)» خطابا للرسول صلى الله عليه وسلم. {يُفْتَنُونَ} : يبتلون. {فِي كُلِّ عامٍ}

ص: 264

مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ أي: بالأمراض والشدائد، وقيل: بالغزو والجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيعاينون ما يظهر على يديه من الآيات، والمعجزات، وقيل: إنهم يفتضحون بإظهار نفاقهم في كل عام مرة أو مرتين، هذا؛ والعام والسنة والحول بمعنى واحد. {ثُمَّ لا يَتُوبُونَ} أي: من نفاقهم، بل هم مصرون عليه، {وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ}: يتعظون ويعتبرون بما يرون ويشاهدون من صدق وعد الله بالنصر، والظفر للمسلمين على أعدائهم.

الإعراب: {أَوَلا} : الهمزة: حرف استفهام وتوبيخ وتقريع. الواو: حرف عطف، (لا): نافية.

{يَرَوْنَ} : مضارع مرفوع

إلخ. والواو فاعله. {أَنَّهُمْ} : حرف مشبه بالفعل، والهاء اسمها.

{يُفْتَنُونَ} : مضارع مبني للمجهول مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو نائب فاعله. {فِي كُلِّ}: متعلقان بالفعل قبلهما، و {كُلِّ}: مضاف، و {عامٍ}:

مضاف إليه. {مَرَّةً} : ظرف زمان متعلق بالفعل قبله. هذا؛ وبعضهم يعتبره نائب مفعول مطلق بمعنى فتنة أو فتنتين. {مَرَّتَيْنِ} : معطوف على ما قبله منصوب مثله، وعلامة نصبه الياء نيابة عن الفتحة؛ لأنه مثنى، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، وجملة:{يُفْتَنُونَ..} . إلخ في محل رفع خبر (أن)، و (أن) واسمها وخبرها في تأويل مصدر في محل نصب سد مسد مفعولي (يرون)، أو مفعوله إن كان بصريا، وجملة:{أَوَلا يَرَوْنَ..} . إلخ مستأنفة، أو معطوفة على كلام محذوف، كما رأيت في الآية رقم [64] من سورة (الأعراف)، وجملة:{لا يَتُوبُونَ} معطوفة على جملة: {يُفْتَنُونَ..} . إلخ فهي في محل رفع مثلها. {وَلا} : نافية، أو هي زائدة لتأكيد النفي.

{أَنَّهُمْ} : مبتدأ، وجملة:{يَذَّكَّرُونَ} : في محل رفع خبره، والجملة الاسمية:{هُمْ يَذَّكَّرُونَ} معطوفة على ما قبلها، فهي في محل رفع أيضا. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم.

{وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ اِنْصَرَفُوا صَرَفَ اللهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (127)}

الشرح: {وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ} : انظر الآية رقم [124]. {نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ} : تغامزوا بالعيون إنكارا لإنزال السورة التي فيها فضيحتهم، وكشف سرائرهم، أو سخرية، واستهزاء، أو غيظا لما فيها من عيوبهم. {هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ} أي: يقول بعضهم لبعض: هل يبصركم أحد إذا قمتم وخرجتم من عند محمد صلى الله عليه وسلم، فإن لم يرهم أحد؛ ذهبوا، وإن رآهم أحد؛ قعدوا، وذكر سبحانه وتعالى في سورة (النور): أنهم يتسللون لواذا. {ثُمَّ انْصَرَفُوا} : ثم خرجوا من مجالسهم التي يسمعون فيها ما يكرهون. {صَرَفَ اللهُ قُلُوبَهُمْ} : عن الإيمان والهدى، وهذه الجملة تحتمل الإخبار والدعاء عليهم. {بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ} أي: صرفهم الله عن الإيمان بسبب عدم فهمهم، وعدم تدبرهم لآيات الله، فلم ينتفعوا بها.

ص: 265

تنبيه: أفادت الآية الكريمة: أن الله هو مصرف القلوب، وقالبها ومقلبها، وفيها رد على القدرية في اعتقادهم أن قلوب الخلق بأيديهم، وجوارحهم بحكمهم، يتصرفون بمشيئتهم، ويحكمون بإرادتهم واختيارهم. انتهى. قرطبي بتصرف كبير.

الإعراب: {وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ} انظر إعراب مثل هذا الكلام في الآية رقم [124]. {هَلْ} : حرف استفهام. {يَراكُمْ} : مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر، والكاف مفعول به. {مِنْ}: حرف جر وصلة. {أَحَدٍ} : فاعله مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على آخره، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد، وجملة:{هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ} : في محل نصب مقول القول، التقدير: وقالوا هل

إلخ، وهذه الجملة معطوفة على جواب إذا لا محل لها مثله، وجملة:{اِنْصَرَفُوا} معطوفة أيضا على جواب إذا لا محل لها أيضا. {صَرَفَ اللهُ قُلُوبَهُمْ} : فعل وفاعل ومفعول به، والجملة الفعلية مستأنفة لا محل لها. {بِأَنَّهُمْ}: الباء: حرف جر. (أنهم): حرف مشبه بالفعل، والهاء اسمها، {قَوْمٌ}: خبرها، وجملة:{لا يَفْقَهُونَ} : في محل رفع صفة: {قَوْمٌ،} وأن واسمها وخبرها في تأويل مصدر في محل جر بالباء، والجار والمجرور متعلقان بالفعل:{صَرَفَ} .

{لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (128)}

الشرح: {لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ} : هذا الخطاب للعرب الذين امتن الله عليهم برسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وقال الزجاج: خطاب لجميع العالم. {مِنْ أَنْفُسِكُمْ} : من جنسكم عربي تعرفون حسبه ونسبه، أو من جنسكم بشر، والأول أولى بالاعتبار، هذا؛ وقرئ:«(من أنفَسكم)» بفتح الفاء، أي: من أشرفكم، وانظر شرح {رَسُولٌ} في الآية رقم [74] وشرح «النّفس» في الآية [9] من سورة (الأعراف). {عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ} أي: يشق عليه عنتكم، ولقاؤكم المكروه، والعنت المشقة والعناء. {حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ} أي: على إيمانكم، وصلاح أحوالكم في الدنيا والآخرة، والحرص: المحافظة الشديدة على الشيء، والخوف عليه أن يضيع أو يتلف. {بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ}: انظر {رَؤُفٌ} في الآية رقم [117] وقد قدم الأبلغ منهما مع كونهما صيغتي مبالغة؛ لأن الرأفة شدة الرحمة.

قال الحسن بن الفضل: لم يجمع الله لأحد من أنبيائه اسمين من أسمائه، إلا للنبي صلى الله عليه وسلم، فإنه قال:{بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ،} وقال: {إِنَّ اللهَ بِالنّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ} .

أقول: وينبغي الانتباه للاتصاف بالاسمين بين الخالق والمخلوق، فرأفته ورحمته سبحانه وتعالى عامة لجميع الناس، لذا فقد أكدت الجملة الاسمية ب (إنّ) ولام التوكيد، بينما رحمته صلى الله عليه وسلم، ورأفته خاصة بالمؤمنين، وهي خالية من أدوات التوكيد.

ص: 266

وقال عبد العزيز بن يحيى: نظم الآية، لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز، حريص بالمؤمنين رءوف رحيم، {عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ} لا يهمه إلا شأنكم، وهو قائم بالشفاعة لكم، فلا تهتموا بما عنتم ما أقمتم على سنته، فإنه لا يرضيه إلا دخولكم الجنة. انتهى.

الإعراب: {لَقَدْ} : اللام: لام الابتداء، أو هي واقعة في جواب قسم محذوف. (قد):

حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال. {جاءَكُمْ} : ماض والكاف مفعول به. {رَسُولٌ} :

فاعل. {مِنْ أَنْفُسِكُمْ} : متعلقان بمحذوف صفة: {رَسُولٌ} . والكاف في محل جر بالإضافة، وجملة:{لَقَدْ جاءَكُمْ..} . إلخ ابتدائية، أو هي واقعة في جواب قسم محذوف، لا محل لها على الاعتبارين. {عَزِيزٌ} صفة:{رَسُولٌ} . {ما} : مصدرية. {عَنِتُّمْ} : فعل وفاعل، و {ما} والفعل في تأويل مصدر في محل رفع فاعل ب {عَزِيزٌ،} هذا؛ وجوز اعتبار {ما} موصولة فاعلا ب {عَزِيزٌ،} والجملة الفعلية صلتها، والعائد محذوف، التقدير: عزيز عليه الذي عنتموه، والأول أقوى. {عَلَيْهِ}: متعلقان ب {عَزِيزٌ،} هذا؛ وجوز اعتبار: {عَزِيزٌ عَلَيْهِ} خبرا مقدما، و {ما عَنِتُّمْ} على الوجهين مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية في محل رفع صفة:

{رَسُولٌ،} وأجاز مكي اعتبار {عَزِيزٌ} مبتدأ، و {ما عَنِتُّمْ} فاعلا ب {عَزِيزٌ} سد مسد خبره، والجملة صفة:{رَسُولٌ،} ولا وجه له البتة؛ لأن {عَزِيزٌ} لم يعتمد على نفي أو شبهة، {حَرِيصٌ}: صفة ل {رَسُولٌ،} {عَلَيْكُمْ} : متعلقان ب {حَرِيصٌ} .

{بِالْمُؤْمِنِينَ} : متعلقان ب {رَؤُفٌ،} وقيل: متعلقان بأحد الاسمين على التنازع، {رَؤُفٌ رَحِيمٌ}: صفتان ل {رَسُولٌ،} وفيهما وفي {حَرِيصٌ} ضمير مستتر هو الفاعل بهن.

{فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللهُ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (129)}

الشرح: {فَإِنْ تَوَلَّوْا} : أعرض الكفار والمنافقون عن تصديقك، والإيمان بك، يا محمد! {حَسْبِيَ اللهُ}: كافي الله، فهو يكفيني شركم، وينصرني عليكم. {لا إِلهَ إِلاّ هُوَ} أي:

لا موجود سواه، ولا معبود غيره. {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} أي: اعتمدت، وإليه فوضت أموري، واستسلمت لحكمه وقضائه وقدره. {الْعَرْشِ}: إنما خصه سبحانه بالذكر؛ لأنه أعظم المخلوقات، فيدخل ما دونه في الذكر، أو خصه بالذكر تشريفا له، كما قال: بيت الله، وانظر ما ذكرته في آية الكرسي والآية [54] من سورة (الأعراف). هذا؛ وقد قرئ بجر (العظيم) ورفعه.

روي عن أبي بن كعب رضي الله عنه أنه قال: هاتان الآيتان {لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ..} .

إلخ آخر القرآن نزولا، وفي رواية عنه، قال: أحدث القرآن عهدا بالله هاتان الآيتان {لَقَدْ جاءَكُمْ..} . إلخ.

ص: 267

الإعراب: {فَإِنْ} : الفاء: حرف استئناف. (إن): حرف شرط جازم. {تَوَلَّوْا} : ماض مبني على فتح مقدر على الألف المحذوفة لالتقائها ساكنة مع واو الجماعة، وهو في محل جزم فعل الشرط، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال:

لأنها جملة شرط غير ظرفي. {فَقُلْ} : الفاء: واقعة في جواب الشرط. (قل): أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» . {حَسْبِيَ} : مبتدأ مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم، منع من ظهورها اشتغال المحل بالحركة المناسبة، والياء في محل جر بالإضافة {اللهُ}: خبره، والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول، وجملة (قل

) إلخ في محل جزم جواب الشرط عند الجمهور، والدسوقي يقول: لا محل لها؛ لأنها لم تحل محل المفرد.

{لا إِلهَ إِلاّ هُوَ} . {لا} : نافية للجنس تعمل عمل (إن). {إِلهَ} : اسم {لا} مبني على الفتح في محل نصب، والخبر محذوف، تقديره: موجود. {إِلاّ} : حرف حصر لا محل له. {هُوَ} :

فيه ثلاثة أوجه. أحدها: كونه بدلا من اسم {لا} على المحل؛ إذ محله الرفع على الابتداء، وثانيها: كونه بدلا من {لا} وما عملت فيه؛ لأنها وما بعدها في محل رفع بالابتداء، وثالثها:

كونه بدلا من الضمير المستكن في الخبر المحذوف، وهو الأقوى، والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول. أو هي في محل نصب حال من لفظ الجلالة، والرابط: الضمير فقط، وتكون من جملة مقول القول. تأمل.

{عَلَيْهِ} : متعلقان بالفعل بعدهما. {تَوَكَّلْتُ} : فعل وفاعل، والجملة الفعلية مستأنفة لا محل لها، وهو أقوى من الحالية. {وَهُوَ}: ضمير منفصل مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ. {رَبُّ} : خبر المبتدأ، و {وَهُوَ}: مضاف، و {الْعَرْشِ}: مضاف إليه. {الْعَظِيمِ} :

صفة: {الْعَرْشِ} على جره، وصفة:{رَبُّ} على رفعه، والجملة الاسمية:{وَهُوَ رَبُّ..} . إلخ في محل نصب حال من الضمير المجرور بعلى، والرابط: الواو، والضمير، وإن ومدخولها كلام مستأنف لا محل له. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم.

انتهت سورة (التوبة) بعون الله وتوفيقه، والله أعلم بمراده وأسرار كتابه.

ص: 268