الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سورة هود
على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام
هي مكية في قول ابن عباس-رضي الله عنهما، وبه قال الحسن، وعكرمة، ومجاهد، وابن زيد، وقتادة-رضي الله عنهم أجمعين-إلا آية رقم [115] وهي قوله تعالى:{وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ..} . إلخ وقيل غير ذلك.
وهي مائة وثلاث وعشرون آية، وألف وستمائة كلمة، وتسعة آلاف وخمسمائة وسبعة وستون حرفا. وعن ابن عباس قال: قال أبو بكر رضي الله عنه: يا رسول الله قد شبت، قال:«شيّبتني هود، والواقعة، والمرسلات، وعمّ يتساءلون؟ وإذا الشّمس كوّرت» . أخرجه الترمذي، وقال:
«حديث حسن غريب» وفي رواية غيره: قال: قلت: يا رسول الله عجّل إليك الشّيب، قال:
«شيّبتني هود، وأخواتها: الحاقّة، والواقعة وعمّ يتساءلون؟ وهل أتاك حديث الغاشية» .
قال بعض العلماء: سبب شيبه صلى الله عليه وسلم من هذه السور المذكورة في الحديث؛ لما فيها من ذكر القيامة والبعث، والحساب، والجنة والنار، والله أعلم بمراد رسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى. خازن. وانظر شرح الاستعاذة والبسملة، وإعرابهما في أول سورة (يوسف) على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام.
تنبيه: قال أبو جعفر النحاس: يقال: هذه هود بغير تنوين على أنه اسم للسورة؛ لأنك لو سميت امرأة بزيد لم تصرف، وهذا قول الخليل وسيبويه، وعيسى بن عمر يقول: هذه هود بالتنوين على أنه اسم للسورة، وكذا إن سمي امرأة بزيد؛ لأنه لما سكن وسطه خفف فصرف، فإن أردت الحذف، أي: حذف لفظ السورة صرفت على قول الجميع، فقلت: هذه هود، وأنت تريد سورة (هود)، قال سيبويه-رحمه الله تعالى-والدليل على هذا أنك تقول: هذه الرحمن، فلولا أنك تريد هذه سورة الرحمن، ما قلت: هذه، يعني تأنيث اسم الإشارة. انتهى. قرطبي بتصرف.
بسم الله الرحمن الرحيم
بسم الله الرحمن الرحيم
{الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1)}
الشرح: {الر} : انظر شرح هذه اللفظ في أول سورة (يونس). {كِتابٌ} : المراد به القرآن الكريم. {أُحْكِمَتْ آياتُهُ} : نظمت نظما محكما لا يعتريه اختلال من جهة اللفظ والمعنى. أو
منعت من الفساد، والنسخ لم ينسخها كتاب، كما نسخت هي الكتب، والشرائع القديمة، أو أحكمت بالحجج، والدلائل. {ثُمَّ فُصِّلَتْ}: بالفرائد من العقائد، والأحكام، والمواعظ والإخبار عن المغيبات، والقصص. {مِنْ لَدُنْ}: من عند. {حَكِيمٍ} أي: محكم للأمور.
{خَبِيرٍ} : بكل كائن، وغير كائن.
تنبيه: فقد عم سبحانه الآيات هنا بالإحكام، وخص بعضها في قوله {مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ} الآية رقم [7] من سورة (آل عمران)، والمراد هنا: الإحكام العام بحيث لا يتطرق إلى آياته التناقض والفساد، والمراد بالخاص: أن بعض آياته منسوخة بآيات منه أيضا لم ينسخها غيره، وذكر سبحانه في الآية رقم [7] -من سورة (آل عمران) -أن منه آيات متشابهات، والمراد بها الحروف المقطعة في أوائل السور، ومنه قوله تعالى:{الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى (5)} و {يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ،} وغير ذلك، وانظر ما ذكرته في الآية المذكورة، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.
هذا؛ و (كتاب) في اللغة: الضم، والجمع، وسميت الجماعة من الجيش كتيبة لاجتماعهم، كما سمي الكاتب كاتبا؛ لأنه يضم الكلام بعضه إلى بعض ويجمعه ويرتبه، وفي الاصطلاح:
اسم لجملة مختصة من العلم، مشتملة على أبواب وفصول، ومسائل غالبا، والآيات جمع: آية، وهي تطلق على معان كثيرة الدلالة، ومنه قوله تعالى:{إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ،} وتطلق على المعجزة، مثل انشقاق القمر ونحوه، وتطلق على الموعظة، ومنه قوله تعالى:{إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} كما تطلق على جملتين، أو أكثر من كلام الله تعالى.
{ثُمَّ} حرف عطف يقتضي ثلاثة أمور: التشريك في الحكم، والترتيب، والمهلة، وفي كل منها خلاف مذكور في «مغني اللبيب» وقد تلحقها تاء التأنيث الساكنة، كما تلحق (رب) و (لا) العاملة عمل ليس، فيقال: ثمّت، وربّت، ولات، والأكثر تحريك التاء معهن بالفتح، هذا؛ و (ثمّ) هذه غير (ثمّ) بفتح الثاء، فإنها اسم يشار به إلى المكان البعيد، نحو قوله تعالى:{وَأَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ} وهي ظرف لا يتصرف، ولا يتقدمه حرف التنبيه، ولا يتصل به كاف الخطاب، وقد تتصل به التاء المربوطة، فيقال: ثمّة.
من لدن: بمعنى من عند، وفيها إحدى عشرة لغة. أفصحها إثبات النون ساكنة، وهي لغة القرآن الكريم، وهي بجميع لغاتها معناها: أول غاية زمان أو مكان، وقلما يفارقها (من) الجارة لها، فإذا أضيفت إلى الجملة تمحضت للزمان؛ لأن ظروف المكان لا يضاف منها إلى الجملة إلا (حيث)، ويجوز تصدير الجملة بحرف مصدري لما لم يتمحض (لدن) في الأصل للزمان، وإذا أضيفت للضمير وجب إثبات النون؛ لأنه لا يقال: لده ولا لدك.
الإعراب: {الر} : انظر إعراب هذا اللفظ في الآية رقم [1] -من سورة (يونس) - {كِتابٌ} :
خبر لمبتدإ محذوف، التقدير: هذا كتاب، أو هو خبر المبتدأ:{الر} على بعض الوجوه
المعتبرة فيه هناك. {أُحْكِمَتْ} : ماض مبني للمجهول، والتاء للتأنيث. {آياتُهُ}: نائب فاعله، والهاء في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية في محل رفع صفة:{كِتابٌ} . {ثُمَّ} : حرف عطف. {فُصِّلَتْ} : ماض مبني للمجهول، والتاء للتأنيث، ونائب الفاعل يعود إلى آياته، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، فهي في محل رفع مثلها. {مِنْ}: حرف جر. {لَدُنْ} : اسم مبني على السكون في محل جر ب {مِنْ،} والجار والمجرور متعلقان بمحذوف صفة ثانية ل {كِتابٌ،} أو بمحذوف خبر ثان للمبتدإ المحذوف، أو هما متعلقان بأحد الفعلين السابقين على التنازع. انتهى. جمل. نقلا عن السمين.
-أقول: ويجوز اعتبارهما متعلقين بمحذوف حال من كتاب بعد وصفه بما تقدم، أو بمحذوف حال من نائب فاعل أحد الفعلين السابقين، و {لَدُنْ}: مضاف، و {حَكِيمٍ}: مضاف إليه. {خَبِيرٍ} : بدل من {حَكِيمٍ،} ولا يجوز اعتباره صفة له؛ لأنه اسم من أسماء الله الحسنى.
تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم.
{أَلاّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (2)}
الشرح: {أَلاّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللهَ} أي: أحكمت آيات القرآن، وفصلت؛ لتعبدوا الله، ولا تضلوا بعبادة غيره. {إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ} أي: قل يا محمد لقومك: إنني لكم مرسل من الله. {نَذِيرٌ} :
أنذركم وأخوفكم عقاب الله إن ثبتم على الكفر، ولم ترجعوا عنه. {وَبَشِيرٌ}: أبشركم بالثواب الجزيل والخير العميم؛ إن أطعتم الله، وامتثلتم أوامره، واهتديتم بهدي رسوله، وأخذتم بتعاليم كتابه. هذا؛ وانظر العبادة في الآية رقم [113] -من سورة (التوبة).
الإعراب: {أَلاّ} : (أن): حرف مصدري ونصب واستقبال. (لا): نافية. {تَعْبُدُوا} : مضارع منصوب ب (أن)، وعلامة نصبه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والألف للتفريق. {أَلاّ}: حرف حصر. {اللهَ} : منصوب على التعظيم، و (أن) والمضارع في تأويل مصدر في محل جر بحرف جر محذوف، قال الكسائي والفراء: بأن (لا
…
) إلخ، أي: بعدم، وقال الزجاج: التقدير: لئلا.. إلخ، والجار والمجرور على الاعتبارين متعلقان بأحد الفعلين السابقين على التنازع، هذا؛ وجوز اعتبار (أن) مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن محذوف، و (لا) ناهية جازمة للفعل بعدها، والجملة الفعلية في محل رفع خبرها، وتؤول مع اسمها المحذوف وخبرها المذكور بمصدر في محل جر بحرف جر محذوف على نحو ما رأيت آنفا، هذا؛ وجوز اعتبار المصدر المؤول على الوجهين في (أن) أن يكون في محل رفع خبر لمبتدإ محذوف، التقدير: هو أن لا تعبدوا.. إلخ، أو هو مبتدأ خبره محذوف، التقدير: في الكتاب أن لا تعبدوا، كما جوز اعتباره بدلا من آياته، وأقول: جوز اعتبار (أن) مفسرة؛ لأن في
تفصيل الآيات وإحكامها معنى القول، وعليه ف (لا) ناهية، والفعل مجزوم بها، والجملة الفعلية مفسرة للإحكام والتفصيل لا محل لها عند الجمهور، وقال الشلوبين: بحسب ما تفسره، وهو المعتبر عندي، والتفسير أظهر الأقوال عند السمين؛ لأنه لا يحوج إلى إضمار. انتهى. جمل بتصرف كبير مني. {إِنَّنِي}: حرف مشبه بالفعل، والنون للوقاية، وياء المتكلم ضمير متصل في محل نصب اسمها. {لَكُمْ مِنْهُ}: كلاهما جار ومجرور متعلقان ب {نَذِيرٌ} أو ب (بشير)، أو هما متعلقان بمحذوف حال من أحدهما، كان صفة له، فلما قدم عليه صار حالا على القاعدة:«نعت النكرة إذا تقدم عليها صار حالا» . {نَذِيرٌ} : خبر (إن). {وَبَشِيرٌ} : معطوف عليه، وقدم الإنذار لأن التخويف أهم؛ إذ يحصل به الانزجار، والجملة الاسمية:{إِنَّنِي..} . إلخ في محل نصب مقول لقول محذوف، انظر تقديره في الشرح. والقول ومقوله كلام مستأنف لا محل له.
الشرح: {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ} : لقد اختلف في بيان الفرق بين الاستغفار والتوبة، فقيل: معناه اطلبوا من ربكم المغفرة لذنوبكم، ثم ارجعوا إليه؛ لأن الاستغفار: هو طلب الغفر، وهو الستر، والتوبة: الرجوع عما كان فيه من شرك ومعصية إلى خلاف ذلك، فلهذا قدم الاستغفار على التوبة، وقيل: معناه: استغفروا ربكم لسالف ذنوبكم، ثم توبوا إليه في المستقبل، وقيل: اطلبوا مغفرة الله بالإيمان. {ثُمَّ} توسلوا إليه بالتوبة، وأيضا التبرؤ من الغير إنما يكون بعد الإيمان بالله والرغبة فيما عنده، وقال الفرّاء: ثم هنا بمعنى الواو؛ لأن الاستغفار، والتوبة بمعنى واحد، فذكرهما للتأكيد، انتهى. خازن. وقد ذكرت لك شروط التوبة النصوح في الآية رقم [17] -من سورة (النساء) -. {يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً}: قال القرطبي: هذه ثمرة الاستغفار، والتوبة؛ أي: يمتعكم بالمنافع من سعة الرزق ورغد العيش، ولا يستأصلكم بالعذاب، كما فعل بمن أهلك قبلكم. انتهى. وانظر الآية رقم [70] -من سورة (يونس)، لشرح المتاع، وانظر الآية رقم [52] -الآتية. {إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى} أي: إلى الموت ووقت انقضاء آجالكم، وانظر إعلال (هدى) في الآية رقم [91] -من سورة (الأنعام) -فهو مثله. {وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ} أي: ويعط كل ذي عمل صالح في الدنيا أجره، وثوابه في الآخرة.
قال أبو العالية: من كثرت طاعاته في الدنيا؛ زادته حسناته درجات في الآخرة؛ لأن الدرجات تكون على قدر الأعمال. انتهى. وعليه فالمراد بقوله: {فَضْلَهُ} عفوه، وغفرانه، وجنته. {وَإِنْ تَوَلَّوْا}: يحتمل أن يكونوا ماضيا بمعنى: أعرضوا، وأن يكون مضارعا حذف منه إحدى التاءين، بمعنى: تعرضوا، هذا؛ والإعراض، والتولي، والإدبار عن الشيء يكون بالجسم،
ويستعمل في الإعراض عن الأمور والاعتقادات، والطاعات اتساعا، ومجازا. {فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ} عذاب يوم القيامة، وهو يوم الأهوال والشدائد.
بعد هذا انظر (استغفر) و (أمر) في الآية رقم [106] سورة (التوبة) وإعلال {تَوَلَّوْا} كما يلي، أصله: تولّيوا، استثقلت الضمة على الياء فحذفت فالتقى ساكنان: الياء والواو، فحذفت الياء لالتقاء الساكنين، وبقيت الفتحة على اللام، ويقال في إعلاله أيضا: تحركت الياء وانفتح ما قبلها، فقلبت ألفا، فصار:(تولّاوا) فحذفت الألف لالتقاء الساكنين، وبقيت الفتحة على اللام لتدل على ذلك المحذوف، وقل مثل ذلك في إعلال كل فعل معتل الآخر بالألف أسند لواو الجماعة سواء أكان مضارعا أم ماضيا؟ مثل سعى، يسعى، ونحوه.
{رَبَّكُمْ} : المراد به هنا: خالقكم، ورازقكم، ومحييكم، ومميتكم.. إلخ، هذا؛ و (الرب) يطلق ويراد به: السيد والمالك، ومنه قوله تعالى حكاية عن قول يوسف عليه السلام:{اِرْجِعْ إِلى رَبِّكَ..} . إلخ، وأيضا قوله:{أَمّا أَحَدُكُما فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً..} . إلخ وانظر الآية رقم [50] من سورة (يوسف) على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام. كما يقال: رب الدار، ورب الأسرة، أي:
مالكها، ومتولي شئونها، كما يراد به: المربي، والمصلح، يقال: ربّ فلان الضيعة يربّها: إذا أصلحها، والله سبحانه وتعالى مالك العالمين، ومربيهم، وموصلهم إلى كمالهم شيئا فشيئا، يجعل النطفة علقة، ثم يجعل العلقة مضغة، ثم يجعل المضغة عظما، ثم يكسو العظام لحما، ثم يصوره ويجعل في الروح، ثم يخرجه خلقا آخر، وهو صغير ضعيف، فلا يزال ينميه، وينشيه حتى يجعله رجلا، أو امرأة كاملين، ولا يطلق الرب على غير الله تعالى إلا مقيدا بالإضافة، مثل قولك: رب الدار، ورب الناقة ونحو ذلك، والرب: المعبود بحق، وهو المراد منه تعالى عند الإطلاق، ولا يجمع إذا كان بهذا المعنى، ويجمع إذا كان معبودا بالباطل، قال تعالى حكاية عن قول يوسف عليه الصلاة والسلام-لصاحبي السجن:{أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْواحِدُ الْقَهّارُ} كما يجمع إذا كان بأحد المعاني السابقة، قال الشاعر:[الطويل]
هنيئا لأرباب البيوت بيوتهم
…
وللآكلين التّمر مخمس مخمسا
وهو اسم فاعل بجميع معانيه، أصله رابب، ثم خفف بحذف الألف، وإدغام أحد المثلين في الآخر.
{عَذابَ} : انظر الآية رقم [39] من سورة (التوبة). {يَوْمٍ كَبِيرٍ} : المراد به هنا يوم القيامة، وما فيه من الأهوال، والحساب، والجزاء.. إلخ، هذا؛ واليوم في الدنيا هو الوقت من طلوع الشمس إلى غروبها، وهذا في العرف، وأما اليوم الشرعي، فهو من طلوع الفجر، إلى غروب الشمس، كما يطلق اليوم على الليل والنهار معا، كما رأيت في الآية رقم [67] -من سورة (يونس) -وقد يراد به الوقت مطلقا، تقول: ذخرتك لهذا اليوم، أي: لهذا الوقت، والجمع: أيام، وأصله:
أيوام، فقلبت الواو ياء، وأدغمت الياء في الياء، وجمع الجمع أياويم، وأيام العرب: وقائعها، وحروبها، وأيام الله: نعمه ونقمه، كما في الآية رقم [102] -من سورة (يونس) -ويقال: فلان ابن الأيام، أي: العارف بأحوالها، ويقال: أنا ابن اليوم، أي: أعتبر حالي فيما أنا فيه.
الإعراب: {وَأَنِ} : (أن): معطوفة على مثلها في الآية السابقة على جميع الاعتبارات فيها.
{اِسْتَغْفِرُوا} : أمر، والواو فاعله، والألف للتفريق، وقل في (أن) والفعل ما رأيته في الآية السابقة. {رَبَّكُمْ}: مفعول به، والكاف في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله ضمير مستتر فيه. {تُوبُوا}: أمر مبني على حذف النون لاتصاله بواو الجماعة، والواو فاعله، والألف للتفريق، هذا هو الإعراب المتعارف عليه في مثل هذه الكلمة، والإعراب الحقيقي أن تقول: مبني على السكون المقدر على آخره، منع من ظهوره اشتغال المحل بالضم الذي جيء به لمناسبة الواو، ويقال: منع من ظهوره إرادة التخلص من التقاء الساكنين، وحرك بالضم لمناسبة واو الجماعة، وقل مثله في قولك:(توبا) والمانع من ظهور السكون الفتح الذي جيء به لمناسبة ألف الاثنين، وأيضا قولك:(توبي) والمانع من ظهور السكون الكسر الذي جيء به لمناسبة ياء المؤنثة المخاطبة. {إِلَيْهِ} : متعلقان بالفعل قبلهما، وجملة:{تُوبُوا إِلَيْهِ} معطوفة على ما قبلها على جميع الوجوه المعتبرة فيها، وفي سابقتها. {يُمَتِّعْكُمْ}: مضارع مجزوم لوقوعه جوابا للأمر، وهو عند الجمهور مجزوم بشرط محذوف، التقدير: إن تستغفروا وتتوبوا
…
يمتعكم، والفاعل يعود إلى {رَبَّكُمْ،} والكاف مفعول به، والجملة الفعلية لا محل لها من الإعراب. {مَتاعاً}: مفعول مطلق. {حَسَناً} : صفته. {إِلى أَجَلٍ} : متعلقان بالفعل، أو بالمصدر الميمي. {مُسَمًّى}: صفة {أَجَلٍ} مجرور مثله، وعلامة جره كسرة مقدرة على الألف المحذوفة، والثابتة دليل عليها، وليست عينها. {وَيُؤْتِ}: معطوف على يمتعكم مجزوم مثله، وعلامة جزمه حذف حرف العلة من آخره، وهو الياء، والكسرة قبلها دليل عليها، والفاعل يعود إلى ربكم تقديره:«هو» . {كُلَّ} : مفعول به أول، وهو مضاف، و {ذِي}: مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الياء نيابة عن الكسرة؛ لأنه من الأسماء الخمسة، و {ذِي}: مضاف، و {فَضْلٍ}:
مضاف إليه. {فَضْلَهُ} : مفعول به ثان، والهاء في محل جر بالإضافة، وجملة:{وَيُؤْتِ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها لا محل لها مثلها. {وَأَنِ} : الواو: حرف استئناف (إن): حرف شرط جازم. {تَوَلَّوْا} : ماض مبني على فتح مقدر على الألف المحذوفة لالتقاء الساكنين في محل جزم فعل الشرط، وإن كان مضارعا فهو مجزوم، وعلامة جزمه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال:
لأنها جملة شرط غير ظرفي. {فَإِنِّي} : الفاء: واقعة في جواب الشرط. (إني): حرف مشبه بالفعل، وياء المتكلم اسمها. {أَخافُ}: مضارع، والفاعل مستتر تقديره:«أنا» . {عَلَيْكُمْ} :
متعلقان ب {أَخافُ} . {عَذابَ} : مفعول به، وهو مضاف، و {يَوْمٍ}: مضاف إليه. {كَبِيرٍ} :
صفة: {يَوْمٍ} كذا قيل، والصواب: أنه صفة: {عَذابَ،} فهو منصوب، وجر على الجوار، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على آخره منع من ظهورها اشتغال المحل بالكسرة التي جلبها حركة الجوار قبله، وانظر الجر على الجوار في الآية رقم [7] -من سورة (المائدة) -وجملة:
{أَخافُ..} . إلخ في محل رفع خبر (إن)، والجملة الاسمية:{فَإِنِّي أَخافُ..} . إلخ في محل جزم جواب الشرط عند الجمهور، والدسوقي يقول: لا محل لها؛ لأنها لم تحل محل المفرد، وإن ومدخولها كلام مستأنف لا محل له.
{إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (4)}
الشرح: {إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ} أي: يوم القيامة، فيثيب المحسن على إحسانه، ويعاقب المسيء على إساءته. {وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}: مقتدر لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، لا في الدنيا، ولا في الآخرة، فهو يعذب الكافرين أشد العذاب.
هذا؛ و (شيء) في اللغة عبارة عن كل شيء موجود، إما حسّا كالأجسام، وإما حكما كالأقوال، نحو: قلت شيئا، وجمع الشيء: أشياء غير منصرف، واختلف في علته اختلافا كبيرا، والأقرب ما حكي عن الخليل-رحمه الله تعالى-: إن وزنه: شياء وزان حمراء، فاستثقل وجود همزتين في تقدير الاجتماع، فنقلت الأولى إلى أول الكلمة، فبقيت وزان: لفعاء، كما قلبوا أدؤر، فقالوا: آدر وشبهه، وجمع أشياء: أشايا.
الإعراب: {إِلَى اللهِ} : متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {مَرْجِعُكُمْ} : مبتدأ مؤخر، والكاف: في محل جر بالإضافة من إضافة المصدر الميمي لفاعله، والجملة الاسمية مستأنفة لا محل لها.
{وَهُوَ} : الواو: حرف عطف. (هو): ضمير منفصل مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ. {عَلى كُلِّ} : متعلقان ب {قَدِيرٌ} بعدهما، و {كُلِّ}: مضاف، و {شَيْءٍ}: مضاف إليه. {قَدِيرٌ} : خبر المبتدأ، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها لا محل لها مثلها.
الشرح: {أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ} أي: يطوون صدورهم على عداوة الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمين، ويقرأ:{يَثْنُونَ} بقراءات متعددة، وقال ابن عباس-رضي الله عنهما: يخفون ما في صدورهم من الشحناء، والعداوة، ويظهرون خلافه، والضمير في:
{مِنْهُ} يعود إلى الله، أو إلى الرسول صلى الله عليه وسلم. {أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ} أي: يغطون رءوسهم بثيابهم، ظنّا منهم بأن الله لا يراهم. {يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ} أي: لا يخفى على الله شيء من أمرهم، سواء أسروه، أم جهروا به. {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ} أي: بأسرار ذات الصدور، أو بالقلوب وأحوالها، وانظر {بِذاتِ} في الآية رقم [1] -من سورة (الأنفال).
تنبيه: قال ابن عباس-رضي الله عنهما: نزلت في الأخنس بن شريق، وكان رجلا حلو الكلام حلو المنظر، وكان يلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم بما يحب، وينطوي بقلبه على ما يكره. انتهى.
وانظر ما ذكرته في الأخنس في الآية رقم [204] من سورة (البقرة)، وقيل: نزلت في المنافقين، وهو بعيد؛ لأن السورة مكية كما رأيت، والمنافقون كانوا في المدينة، وقيل: كان الرجل من الكفار يدخل بيته، ويرخى ستره، ويحني ظهره، ويتغشى بثوبه، ويقول: هل يعلم الله ما في قلبي. انتهى. خازن بتصرف.
الإعراب: {أَلا} : حرف تنبيه واستفتاح يسترعي انتباه المخاطب لما يأتي بعده من كلام.
{إِنَّهُمْ} : حرف مشبه بالفعل، والهاء اسمها. {يَثْنُونَ}: مضارع مرفوع
…
إلخ، والواو فاعله.
{صُدُورَهُمْ} : مفعول به، والهاء في محل جر بالإضافة، وجملة:{يَثْنُونَ} في محل رفع خبر (إن) والجملة الاسمية: {إِنَّهُمْ..} . إلخ ابتدائية لا محل لها. {لِيَسْتَخْفُوا} : مضارع منصوب ب «أن» مضمرة بعد لام التعليل، وعلامة نصبه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والألف للتفريق، و «أن» المضمرة والمضارع في تأويل مصدر في محل جر باللام، والجار والمجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {مِنْهُ}: متعلقان بالفعل قبلهما، وقيل: متعلقان بالفعل {يَثْنُونَ} . {أَلا} : مثل سابقتها. {حِينَ} : ظرف زمان منصوب متعلق بفعل محذوف دل عليه ما قبله، التقدير: ألا يستخفون حين، أو هو متعلق بالفعل:{يَعْلَمُ} بعده، {يَسْتَغْشُونَ}: مضارع مرفوع
…
إلخ، والواو فاعله. {ثِيابَهُمْ}: مفعول به، والهاء في محل جر بالإضافة، وجملة:
{يَسْتَغْشُونَ..} . إلخ في محل جر بإضافة {حِينَ} إليها. {يَعْلَمُ} : مضارع بمعنى يعرف. {ما} :
تحتمل الموصولة، والموصوفة، والمصدرية، فعلى الأولين مبنية على السكون في محل نصب مفعول به، والجملة الفعلية بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط: محذوف، التقدير:
يعلم الذي أو شيئا يسرونه، وعلى الثالث تؤول (ما) مع الفعل بمصدر في محل نصب مفعول به، التقدير: يعلم سرهم، والجملة الفعلية مستأنفة لا محل لها. وإعراب:{وَما يُعْلِنُونَ} مثل سابقه.
{إِنَّهُ} : حرف مشبه بالفعل، والهاء ضمير متصل اسمها. {عَلِيمٌ}: خبرها. {بِذاتِ} :
متعلقان ب {عَلِيمٌ؛} لأنه مبالغة اسم الفاعل لذا فاعله مستتر فيه، و (ذات) مضاف، و {الصُّدُورِ}: مضاف إليه، والجملة الاسمية:{إِنَّهُ..} . إلخ تعليلية، أو مستأنفة، لا محل لها على الوجهين. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم.
الشرح: {وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ} : الدابة: اسم لكل حيوان يدب على وجه الأرض، من إنسان، وحيوان، ووحش، وهوام، وغير ذلك؛ فلذا يطلق لفظ «دابة» على الذكر والأنثى مما ذكر، وفي العرف يطلق لفظ الدابة على ذوات الأربع من الحيوان، وانظر الآية [56] الآتية.
{إِلاّ عَلَى اللهِ رِزْقُها} : غذاؤها، ومعاشها؛ لتكفله إياها تفضلا ورحمة، فهو إلى مشيئته إن شاء رزق، وإن شاء لم يرزق. {وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها}: أماكنها في الحياة والممات، أو الأصلاب والأرحام، أو مساكنها من الأرض حين وجدت بالفعل، وقيل: مستقرها في الجنة، أو في النار، ومستودعها في القبر، يدل عليه قوله تعالى في وصف أهل الجنة وأهل النار:
{حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً} و {ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً،} {كُلٌّ} : كل واحد من الدواب وأحوالها.
{كِتابٍ مُبِينٍ} أي: مذكور في اللوح المحفوظ.
قال البيضاوي-رحمه الله تعالى-: وكأنه أريد بالآية بيان كونه عالما بالمعلومات كلها، وبما بعدها بيان كونه قادرا على الممكنات بأسرها، تقريرا للتوحيد، وبيانا لما سبق من الوعد والوعيد.
بعد هذا {مُبِينٍ} : اسم فاعل من أبان الرباعي، أصله مبين، بسكون الباء، وكسر الياء، فنقلت كسرة الياء إلى الباء بعد سلب سكونها؛ لأن الحرف الصحيح أولى بالحركة من حرف العلة، ولا تنس: أن اسم الفاعل من «بان» الثلاثي بائن أصله باين، وإعلاله مثل إعلال (قائم) في الآية رقم [12] -من سورة (يونس) -وهذا؛ و {وَيَعْلَمُ} بمعنى يعرف، وانظر الآية رقم [61] - من سورة (الأنفال)، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.
الإعراب: {وَما} : الواو: حرف استئناف. (ما): نافية. {مِنْ} : حرف جر صلة. {دَابَّةٍ} :
مبتدأ مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على آخره، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة الجر الزائد. {فِي الْأَرْضِ}: متعلقان بمحذوف صفة دابة. {إِلاّ} : حرف حصر. {عَلَى اللهِ} : متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {رِزْقُها} : مبتدأ مؤخر، وها: في محل جر بالإضافة، والجملة الاسمية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية:{وَما مِنْ دَابَّةٍ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها.
{وَيَعْلَمُ} : مضارع، والفاعل يعود إلى {اللهِ}. {مُسْتَقَرَّها}: مفعول به، و (ها): في محل جر بالإضافة، من إضافة المصدر الميمي لفاعله، وقل مثله في الذي بعده. {وَمُسْتَوْدَعَها}: معطوف على ما قبله، وجملة:{وَيَعْلَمُ..} . إلخ: معطوفة على جملة: {عَلَى اللهِ رِزْقُها} فهي في محل رفع
مثلها. {كُلٌّ} : مبتدأ والمضاف إليه محذوف، انظر الشرح. {فِي كِتابٍ}: متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ. {مُبِينٍ} : صفة كتاب، والجملة الاسمية:{كُلٌّ..} . إلخ مستأنفة، أو تعليلية لا محل لها على الاعتبارين.
الشرح: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيّامٍ} : انظر الآية رقم [54] -من سورة (الأعراف) -ففيها الكفاية لذوي الدراية. {وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ} أي: قبل خلق السموات والأرض، ولم يكن حائل بينهما، لا أنه كان موضوعا على سطح الماء، قال كعب: خلق الله ياقوتة خضراء، فنظر إليها بالهيبة، فصارت ماء يرتعد من مخافة الله تعالى، ثم خلق الريح، فجعل الماء على متنها، ثم وضع العرش على الماء، وانظر شرح العرش في الآية رقم [54] من سورة (الأعراف)، أو رقم [2] من سورة (الرعد).
قال بعض العلماء: وفي خلق جميع الأشياء، وجعلها على الماء ما يدل على كمال القدرة؛ لان البناء الضعيف إذا لم يكن له أساس على أرض صلبة لم يثبت، فكيف بهذا الخلق العظيم، وهو العرش والسموات والأرض على الماء، فهذا يدل على كمال قدرة الله تعالى، وعن عبد الله بن عمرو-رضي الله عنهما، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «كتب الله مقادير الخلق قبل أن يخلق السّماوات والأرض بخمسين ألف سنة وكان عرشه على الماء» . أخرجه مسلم.
{لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} أي: ليعاملكم معاملة المختبر لأحوالكم كيف تعملون، فإن ما خلقه الله في السموات والأرض أسباب، ومواد لوجودكم ومعاشكم، وما تحتاج إليه أعمالكم، ودلائل، وأمارات تستدلون بها، وتستنبطون منها معرفة الواحد الأحد، فيبعثكم ذلك على الإيمان به، وإخلاص العبادة له.
هذا؛ وقرئ: «(أنكم)» بفتح الهمزة على تضمين {قُلْتَ} معنى: ذكرت، أو أن يكون (أنّ) بمعنى (علّ)، أي:{وَلَئِنْ قُلْتَ} : علكم مبعوثون، بمعنى توقعوا بعثكم، ولا تبتوا بإنكاره؛ لعدّوه من قبيل ما لا حقيقة له مبالغة في إنكاره. انتهى. بيضاوي.
-أقول: ومجيء «أن» بمعنى: «علّ» وارد في الكلام العربي، كقول بعض العرب: ائت السوق أنّك تشتري لنا شيئا، حكاه الخليل رحمه الله تعالى، وانظر ما ذكرته في الآية رقم [109] -من سورة (الأنعام).
فعن عبد الله بن عمر-رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا: {أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً،} قال:
«أيكم أحسن عقلا، وأورع عن محارم الله، وأسرع في طاعة الله» .
{وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ} أي: ولئن قلت يا محمد لهؤلاء الكفار من قومك: لتبعثن بعد الموت من قبوركم للحساب والجزاء؛ {لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاّ سِحْرٌ مُبِينٌ} : يعنون القرآن الكريم، أي: ما هو إلا كالسحر في الخديعة والبطلان، وقرئ:«(إلا ساحر)» يعنون الرسول صلى الله عليه وسلم.
بعد هذا انظر شرح {السَّماواتِ وَالْأَرْضَ} في الآية رقم [1] -من سورة (يونس) - {أَيّامٍ} :
انظر الآية رقم [3]{الْماءِ} : أصله: موه، بفتح الميم والواو، تحركت الواو وانفتح ما قبلها، فقلبت ألفا، فصار (ماه) فلما اجتمعت الألف والهاء-وكلاهما خفي-قلبت الهاء همزة، ودليل ذلك: أن جمع ماء: أمواه، ومياه، وتصغيره على مويه، وأصل ياء مياه واو، لكنها قلبت ياء لانكسار ما قبلها في جمع أعلت في مفرده، كما قالوا: دار وديار، وقيمة وقيم، ومثله قولهم:
سوط وسياط، وحوض وحياض، وثوب وثياب، وثور وثيرة، ويقال في تعريف الماء: هو جسم رقيق مائع به حياة كل نام، وقيل في حده: جوهر سيال به قوام الأرواح. {الْمَوْتِ} : هو انتهاء الحياة بخمود حرارة البدن، وبطلان حركته، وموت القلب: قسوته، فلا يتأثر بالمواعظ، ولا ينتفع بالنصائح.
الإعراب: {وَهُوَ} : الواو: حرف استئناف. (هو): ضمير منفصل مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ. {الَّذِي} : اسم موصول مبني على السكون في محل رفع خبر المبتدأ. {خَلَقَ} :
ماض، والفاعل يعود إلى {الَّذِي}. {السَّماواتِ}: مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة؛ لأنه ملحق بجمع المؤنث السالم. {وَالْأَرْضَ}: معطوف على ما قبله. {فِي سِتَّةِ} :
متعلقان بالفعل {خَلَقَ،} و {سِتَّةِ} : مضاف، و {أَيّامٍ}: مضاف إليه، وجملة:{خَلَقَ..} . إلخ صلة الموصول لا محل لها، والجملة الاسمية:{وَهُوَ الَّذِي..} . إلخ مستأنفة لا محل لها.
{وَكانَ} : ماض ناقص. {عَرْشُهُ} : اسمه، والهاء في محل جر بالإضافة. {عَلَى الْماءِ}:
متعلقان بمحذوف خبر (كان)، وجملة:{وَكانَ..} . إلخ معطوفة على جملة: {خَلَقَ..} . إلخ لا محل لها مثلها. {لِيَبْلُوَكُمْ} : مضارع منصوب ب «أن» مضمرة بعد لام التعليل، والفاعل يعود إلى {الَّذِي،} والكاف مفعول به أول، {أَيُّكُمْ}: اسم استفهام معلق للفعل قبله عن العمل، مبتدأ، والكاف في محل جر بالإضافة. {أَحْسَنُ}: خبره. {عَمَلاً} : تمييز، والجملة الاسمية:
{أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} في محل نصب مفعول به ثان، و «أن» المضمرة والمضارع في تأويل مصدر في محل جر باللام، والجار والمجرور متعلقان بالفعل {خَلَقَ}. الواو: حرف استئناف (لئن) اللام:
موطئة للقسم. (إن): حرف شرط جازم. {قُلْتَ} : ماض مبني على السكون في محل جزم فعل
الشرط، والتاء فاعله. {إِنَّكُمْ}: حرف مشبه بالفعل، والكاف اسمه. {مَبْعُوثُونَ}: خبر (إن) مرفوع، وعلامة رفعه الواو
…
إلخ، ونائب فاعله مستتر فيه تقديره:«أنتم» . {مِنْ بَعْدِ} : متعلقان ب {مَبْعُوثُونَ،} و {بَعْدِ} : مضاف، و {الْمَوْتِ}: مضاف إليه، والجملة الاسمية:{إِنَّكُمْ..} . إلخ في محل نصب مقول القول، وجملة:{قُلْتَ..} . إلخ لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي. {لَيَقُولَنَّ} : اللام: واقعة في جواب القسم المقدر المدلول عليه باللام الموطئة. (يقولن): مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، التي هي حرف لا محل له. {الَّذِينَ}: اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع فاعل. {كَفَرُوا} : فعل وفاعل، والألف للتفريق، والجملة الفعلية صلة الموصول لا محل لها. {كانَ} حرف نفي بمعنى (ما).
{هذا} : اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع مبتدأ، والهاء حرف تنبيه لا محل له.
{إِلاّ} : حرف حصر. {سِحْرٌ} : خبر المبتدأ. {مُبِينٌ..} .: صفته، والجملة الاسمية:{إِنْ هذا..} . إلخ في محل نصب مقول القول، وجملة:{لَيَقُولَنَّ..} . إلخ جواب القسم المقدر المدلول عليه باللام، وجواب الشرط محذوف لدلالة جواب القسم عليه القاعدة: «إذا اجتمع شرط وقسم فالجواب للسابق منهما) قال ابن مالك رحمه الله تعالى: [الرجز]
واحذف لدى اجتماع شرط وقسم
…
جواب ما أخّرت فهو ملتزم
الشرح: {وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ} أي: إلى مدة محدودة، هذا؛ والأمة:
الجماعة، وتكون واحدا إذا كان يقتدى به، كقوله تعالى:{إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلّهِ} .
والأمة: الطريقة، والملة، والدين، كقوله تعالى حكاية عن قول المشركين:{إِنّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ} وكل جنس من الحيوان أمة، كقوله تعالى:{وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلاّ أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ} والأمة: الحين، والوقت، كقوله تعالى:{وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ} أي: بعد وقت، وحين. {لَيَقُولُنَّ ما يَحْبِسُهُ} أي: أي شيء يمنع العذاب، ويحبسه عنا؟! وقالوا: هذا إما تكذيبا للعذاب لتأخره عنهم، أو استعجالا، واستهزاء. {أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ} أي: حين ينزل بهم العذاب لا يستطيع أحد أن يدفعه عنهم، وقد حق الله ذلك فيهم في غزوة بدر. {وَحاقَ بِهِمْ} أي: ونزل بهم وأحاط، وضع الماضي موضع المستقبل تحقيقا لوقوعه، ومبالغة في التهديد والوعيد. {ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ} أي: العذاب الذي كانوا يستعجلونه، فوضع {يَسْتَهْزِؤُنَ} موضع يستعجلون؛ لأن استعجالهم كان استهزاء.
هذا؛ وقد قال ابن تيمية-رحمه الله تعالى-في كتابه: «الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح» : وقوله تعالى: {أَخَّرْنا،} {فَاكْتُبْنا،} {إِنّا،} {نَحْنُ،} {نَقْصٍ..} . إلخ لفظ يقع في جميع اللغات على من كان له شركاء وأمثال، وعلى الواحد المطاع العظيم، الذي له أعوان يطيعونه، وإن لم يكونوا له شركاء، ولا نظراء، والله تعالى خلق كل ما سواه، فيمتنع أن يكون له شريك، أو مثل، والملائكة وسائر العالمين جنوده. فإذا كان الواحد من الملوك يقول: فعلنا، وإنا، ونحن
…
إلخ، ولا يريدون أنهم ثلاثة ملوك، فمالك الملك رب العالمين، ورب كل شيء، ومليكه هو أحق أن يقول: فعلنا، وإنا، ونحن
…
إلخ، مع أنه ليس له شريك ولا مثل، بل له جنود السموات والأرض. انتهى. أقول: و (نا) هذه تسمى نون العظمة، وليست دالة على الجماعة، كما يزعم الكافرون والملحدون، فالله تعالى لا شريك له في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله، وكثيرا ما يتكلم به العبد، فيقول: أخذنا وأعطينا
…
إلخ وليس معه أحد.
الإعراب: {وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ} انظر إعراب مثل هذا الكلام في الآية السابقة. {لَيَقُولُنَّ} : اللام: واقعة في جواب القسم. (يقولن): مضارع مرفوع، وعلامة رفعه النون المحذوفة لتوالي الأمثال، والواو المحذوفة المدلول عليها بالضمة فاعله، ونون التوكيد حرف لا محل له. {ما}: اسم استفهام مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {يَحْبِسُهُ} : مضارع، والهاء مفعول به، والفاعل يعود إلى (ما)، والجملة الفعلية في محل خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول، والجملة الفعلية:{لَيَقُولُنَّ..} . إلخ جواب القسم، وانظر ما ذكرته في الآية السابقة. {أَلا}: انظر مثلها في الآية رقم [5]{يَوْمَ} : ظرف زمان متعلق ب {مَصْرُوفاً} بعده، وفيه دليل على جواز تقديم خبر {لَيْسَ} عليها؛ لأن تقديم المعمول يؤذن بصحة تقديم العامل.
{يَأْتِيهِمْ} : مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل، والفاعل يعود إلى {الْعَذابَ،} والهاء مفعول به، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة:{يَوْمَ} إليها. {لَيْسَ} :
ماض ناقص، واسمه مستتر تقديره:«هو» يعود إلى: {الْعَذابَ} أيضا. {مَصْرُوفاً} : خبر {لَيْسَ} .
{عَنْهُمُ} : متعلقان ب {مَصْرُوفاً،} ونائب فاعله مستتر فيه تقديره: «هو» يعود إلى {الْعَذابَ،} هذا؛ وأجيز تعليق: {يَوْمَ} بفعل محذوف دل عليه الكلام، أي: لا يصرف عنهم العذاب يوم يأتيهم، وليس بالقوي، والكلام {أَلا يَوْمَ..}. إلخ مستأنف لا محل له. {وَحاقَ}: ماض. {بِهِمْ} :
متعلقان بالفعل قبلهما. {ما} : تحتمل الموصولة، والموصوفة، فهي مبنية على السكون في محل رفع فاعل. {كانُوا}: ماض ناقص، والواو اسمه، والألف للتفريق. {بِهِ}: متعلقان بالفعل بعدهما. {يَسْتَهْزِؤُنَ} : مضارع مرفوع.. إلخ، والواو فاعله، والجملة الفعلية في محل نصب خبر كان، وجملة:{كانُوا..} . إلخ صلة {ما،} أو صفتها، والعائد أو الرابط: الضمير المجرور محلا بالباء، هذا؛ وإن اعتبرت:{ما} مصدرية تؤول مع ما بعدها بمصدر في محل رفع فاعل (حاق)، التقدير: وحاق بهم استهزاؤهم، وجملة:{وَحاقَ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها لا محل لها أيضا.
{وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ (9)}
الشرح: {وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنّا رَحْمَةً} أي: رخاء وسعة في الرزق والعيش، وصحة وعافية. {ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ}: سلبنا ذلك كله، وأصابته المصائب، فاجتاحته، وذهبت بنعمته.
{إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ} أي: يشتد حزنه ويقطع رجاءه، وأمله من رحمة الله، وذلك لقلة صبره، وعدم ثقته بالله.
هذا؛ وانظر {فَذُوقُوهُ} في الآية رقم [14] من سورة (الأنفال). {الْإِنْسانَ} : انظر الآية رقم [12] من سورة (يونس). {لَيَؤُسٌ} : انظر الآية رقم [87] من سورة (يوسف). {كَفُورٌ} :
جحود قنوط من رحمة الله، هذا؛ والكفر ستر الحق بالجحود، والإنكار، وكفر فلان النعمة يكفرها كفرا، وكفورا، وكفرانا. إذا جحدها وأنكرها، وكفر الشيء: غطاه، وستره، وسمي الكافر: كافرا؛ لأنه يغطي نعم الله بجحدها، وعبادته غيره، وسمي الزارع: كافرا؛ لأنه يلقي البذر في الأرض، ويغطيه، ويستره بالتراب، قال تعالى في تشبيه حال الدنيا:{كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفّارَ نَباتُهُ} وسمي الليل كافرا؛ لأنه يستر كل شيء بظلمته، قال لبيد بن ربيعة الصحابي رضي الله عنه في معلقته:[الكامل]
حتّى إذا ألقت يدا في كافر
…
وأجنّ عورات الثّغور ظلامها
الإعراب: {وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ} : انظر إعراب مثل هذا في الآية رقم [7]{مِنّا} : متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان ب {رَحْمَةً،} أو هما متعلقان بمحذوف حال من {رَحْمَةً} كان صفة له
…
إلخ، انظر الآية رقم [3] {رَحْمَةً}: مفعول به ثان. {نَزَعْناها} : فعل وفاعل ومفعول به، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها لا محل لها مثلها. {مِنْهُ}: متعلقان بالفعل قبلهما، والجملة الاسمية:{إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ} جواب القسم لا محل لها، وانظر ما ذكرته في الآية رقم [7] فهو مثله.
الشرح: {وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرّاءَ} أي: أنعمنا على الإنسان، وبسطنا عليه في الرزق، وشفيناه من مرض وسقم. {لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي} أي: يقول الذي أصابه الخير، والسعة، والصحة، والعافية: ذهبت الشدائد، والمصائب، والعسر، والضيق، والسقم، والمرض عني، وإنما يقول الإنسان الكافر ذلك غرة بالله وجراءة عليه؛ لأنه لم يضف الأشياء والأحداث إلى الله، وإنما أضافها إلى العوائد، {إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ}: إنه أشر بطر، والفرح: لذة تحصل في القلب بنيل
المراد والمشتهى، والفخر: هو التطاول على الناس بتعداد المناقب والمآثر، وذلك منهي عنه وانظر:(الفرح) في الآية رقم [58] من سورة (يونس) وانظر (نا) في الآية رقم [8].
هذا؛ والضراء ومثلها البأساء: الفقر الشديد، وعن الأزهري: البأساء في الأموال كالفقر، والضراء في الأنفس كالمرض ونحوه، والضراء لا تكون إلا ممدودة بخلاف البأساء، فإنها تقصر والنعماء تقصر، فيقال: النعمى بضم النون بوزن الرجعى-هذا؛ و (فرح) و (فخور) صيغتا مبالغة يستوي فيهما المذكر والمؤنث. {مَسَّتْهُ} : أصابته.
الإعراب: {وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ} انظر إعراب مثل هذا في الآية رقم [7]{بَعْدَ} : ظرف زمان متعلق ب {نَعْماءَ،} أو بمحذوف صفة له، و {بَعْدَ}: مضاف، و {ضَرّاءَ}: مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الفتحة نيابة عن الكسرة؛ لأنه ممنوع من الصرف لألف التأنيث الممدودة، وهي علة تقوم مقام علتين من موانع الصرف. {مَسَّتْهُ}: ماض، والتاء للتأنيث حرف لا محل له، والفاعل يعود إلى:{ضَرّاءَ،} تقديره هي، والهاء مفعول به، والجملة الفعلية في محل جر صفة:{ضَرّاءَ} . {لَيَقُولَنَّ} : انظر الآية رقم [7] للإعراب ومحل الجملة. {ذَهَبَ السَّيِّئاتُ} :
فعل وفاعل، ولم يؤنث الفعل؛ لأن السيئات مؤنث مجازي، فيجوز التذكير، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول. {عَنِّي}: متعلقان بالفعل قبلهما. {إِنَّهُ} : حرف مشبه بالفعل، والهاء اسمها. {لَفَرِحٌ}: اللام: هي المزحلقة. (فرح): خبر أول. {فَخُورٌ} : خبر ثان، والجملة الاسمية:{إِنَّهُ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها.
{إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (11)}
الشرح: {إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا} : على الضراء، إيمانا بالله تعالى، واستسلاما لقضائه. {وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ}: على اختلاف أنواعها، وتفاوت مراتبها، وذلك شكر الله على آلائه: سابقها ولاحقها. {أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ} : لذنوبهم. {وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} : وهو الجنة التي عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين، وقد وصفها بأجر كبير، لما احتوت عليه من النعيم الأبدي ودفع التكاليف فيها، والأمن من عذاب الله تعالى، والنظر إلى وجهه الكريم، والله أعلم بمراده وأسرار كتابه.
الإعراب: {إِلاَّ} : أداة استثناء. {الَّذِينَ} : اسم موصول مبني على الفتح في محل نصب على الاستثناء، قال الفراء: متصل؛ لأنه استثناء من الإنسان بمعنى الناس، والناس يشمل المؤمن والكافر، وقال الأخفش: هو استثناء منقطع؛ إذ المراد بالإنسان شخص معين، هذا؛ وجوز اعتباره مبنيا على الفتح في محل رفع مبتدأ. {صَبَرُوا}: ماض مبني على الضم، والواو فاعله، والألف للتفريق، هذا هو الإعراب المتعارف عليه في مثل هذه الكلمة، والإعراب الحقيقي أن
تقول: فعل ماض مبني على فتح مقدر على آخره، منع من ظهوره اشتغال المحل بالضم الذي جيء به لمناسبة الواو، ويقال اختصارا: فعل وفاعل، والجملة الفعلية صلة الموصول لا محل لها، وجملة (عملوا) معطوفة عليها، لا محل لها مثلها. {الصّالِحاتِ}: مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مؤنث سالم. {أُولئِكَ}: اسم إشارة مبني على الكسر في محل رفع مبتدأ، والكاف حرف خطاب لا محل له. {لَهُمْ}: متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {مَغْفِرَةٌ} : مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية في محل رفع خبر:{أُولئِكَ،} والجملة الاسمية: {أُولئِكَ..} . إلخ مستأنفة على اعتبار {الَّذِينَ} منصوبا على الاستثناء، وفي محل رفع خبره على اعتباره مبتدأ، وتكون الجملة الاسمية في محل نصب حال مستثنى من عموم الأحوال، وهو منقطع بلا ريب. (أجر): معطوف على {مَغْفِرَةٌ} . {كَبِيرٌ} : صفته.
الشرح: {فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ} : الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، والمعنى: لعلك يا محمد تترك بعض ما يوحى إليك من ربك أن تبلغه إلى الناس. {وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ} أي:
ويضيق صدرك بما يوحى إليك، فلا تبلغهم إياه، وذلك أن كفار مكة قالوا: ائت بقرآن غير هذا ليس فيه سب آلهتنا، فهمّ النبي صلى الله عليه وسلم أن يترك ذكر آلهتهم ظاهرا، فأنزل الله الآية الكريمة. وقيل:
إنهم لما قالوا: {لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ} همّ أن يدع سب آلهتهم، فنزلت الآية، {أَنْ يَقُولُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ} أي: مال كثير من ذهب. يستغني به، وينفقه على أتباعه الفقراء، وعلى غيرهم يستجلب به القلوب كما يفعل الملوك، والعظماء. {أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ} أي: من الملائكة يصدقه، ويشهد له، وقائل هذه المقالة هو عبد الله بن أبي أمية المخزومي، وإنك تجد ذلك مفصلا في سورة (الإسراء) و (الفرقان).
والمعنى: أنهم قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إن كنت صادقا في قولك بأنك رسول الله الذي تصفه بالقدرة على كل شيء، وأنت عزيز عنده مع أنك فقير؛ فهلا أنزل عليك ما تستغني به أنت وأصحابك، وهلا أنزل عليك ملكا من السماء يشهد لك بالرسالة والنبوة، فبين الله له: أنه نذير مقصور على الرسالة، وذلك بقوله:{إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ} مخوف تخوف بالعقاب، من عصى الله وخالف أوامره، وكذلك تبشر بالثواب من آمن بك، وامتثل أمر الله فيما أمر ونهى، وحذف (بشير) اكتفاء ب {نَذِيرٌ،} وكثيرا ما يذكر معه كما في الآية [2]{وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} :
حافظ يحفظ أعمالهم وأقوالهم، فيجازيهم عليها يوم القيامة، إن خيرا فخير، وإن شرّا فشر. بعد هذا إعلال (ضائق) مثل إعلال (قائم) في الآية رقم [12] من سورة (يونس) عليه السلام.
الإعراب: {فَلَعَلَّكَ} : الفاء: حرف استئناف. (لعلك): حرف مشبه بالفعل، والكاف ضمير متصل في محل نصب اسمها. {تارِكٌ}: خبر (لعلّ)، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» . {بَعْضَ} :
مفعول به ل {تارِكٌ،} و {بَعْضَ} : مضاف، و {ما} تحتمل الموصولة، والموصوفة، فهي مبنية على السكون في محل جر بالإضافة. {يُوحى}: مضارع مبني للمجهول مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر، ونائب الفاعل يعود إلى:{ما،} وهو العائد أو الرابط. {إِلَيْكَ} :
متعلقان بالفعل قبلهما، والجملة الفعلية صلة:{ما،} أو صفتها. (ضائق): معطوف على {تارِكٌ} . {بِهِ} : متعلقان ب (ضائق). {صَدْرُكَ} : فاعل ب (ضائق)، والكاف في محل جر بالإضافة. {أَنْ}: حرف مصدري ونصب. {يَقُولُوا} : مضارع منصوب ب {أَنْ..} . إلخ، والواو فاعله، والألف للتفريق، {لَوْلا}: حرف تحضيض. {أُنْزِلَ} : ماض مبني للمجهول. {عَلَيْهِ} :
متعلقان بالفعل قبلهما. {كَنْزٌ} : نائب فاعل، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول.
{أَوْ} : حرف عطف. {جاءَ} : ماض. {مَعَهُ} : ظرف مكان متعلق بالفعل قبله، والهاء في محل جر بالإضافة. {مَلَكٌ}: فاعله، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، فهي في محل نصب مقول القول مثلها، و {أَنْ يَقُولُوا}: في تأويل مصدر في محل جر بحرف جر محذوف عند الكوفيين، وهناك حرف نفي محذوف، وتقدير الكلام: لئلا يقولوا وهو عند البصريين على حذف مضاف؛ إذ التقدير: مخافة، وكراهية قولهم: لولا
…
إلخ، فعلى الأول الجار والمجرور متعلقان ب (ضائق)، وعلى الثاني «مخافة» مفعول لأجله عامله (ضائق)، ومثل الآية الكريمة قول عمرو بن كلثوم التغلبي من معلقته، وهو الشاهد رقم [48] من كتابنا:«فتح القريب المجيب» : [الوافر]
نزلتم منزل الأضياف منّا
…
فعجّلنا القرى أن تشتمونا
والجملة الاسمية: (لعلك
…
) إلخ: مستأنفة لا محل لها. {إِنَّما} : كافة ومكفوفة.
{أَنْتَ} : ضمير منفصل مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ. {نَذِيرٌ} : خبره، والجملة الاسمية مستأنفة لا محل لها. {وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} انظر إعراب هذه الجملة في الآية رقم [4]، وهي معطوفة على ما قبلها، أو مستأنفة لا محل لها على الوجهين.
الشرح: انظر شرح هذه الآية وإعرابها في الآية رقم [38] من سورة (يونس)، فلا حاجة إلى المزيد على ما ذكرته هناك، وأذكر هنا ما قاله الخازن رحمه الله تعالى، فإن قلت: قد تحداهم بأن يأتوا بسورة مثله، فلم يقدروا على ذلك وعجزوا، فكيف قال:{فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ} ومن عجز عن سورة واحدة، فهو عن العشر أعجز؟! قلت: قال بعضهم: إن سورة
(هود) نزلت قبل يونس، وإنه تحداهم أولا بعشر سور، فلما عجزوا تحداهم بسورة (يونس)، وأنكر المبرد هذا القول، وقال: إن سورة (يونس) نزلت أولا. قال: ومعنى قوله في سورة (يونس): {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ} يعني مثله في الإخبار عن الغيب، والأحكام، والوعيد، وقوله في سورة (هود):{فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ} يعني في مجرد الفصاحة والبلاغة من غير خبر عن غيب، ولا ذكر حكم، ولا وعد ولا وعيد. انتهى. بحروفه.
الشرح: قال الخازن رحمه الله تعالى: اعلم أنه لما اشتملت الآية المتقدمة على أمرين وخطابين: أحدهما: أمر، وخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، وهو قوله سبحانه وتعالى:{قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ} والثاني: أمر وخطاب للكفار، وهو قوله تعالى:{وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ} ثم أتبعه بقوله تبارك وتعالى: {فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ} احتمل أن يكون المراد أن الكفار لم يستجيبوا في المعارضة لعجزهم عنها، واحتمل أن يكون المراد: أنّ من يدعون من دون الله لم يستجيبوا للكفار في المعارضة، فلهذا اختلف المفسرون في معنى الآية على قولين:
-أحدهما: أنه خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين؛ وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين معه كانوا يتحدون الكفار بالمعارضة ليتبين عجزهم، فلما عجزوا عن المعارضة، قال الله سبحانه وتعالى لنبيه والمؤمنين. {فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ} فيما دعوتموهم إليه من المعارضة وعجزوا عنه؛ {فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللهِ} أي: اثبتوا على العلم الذي أنتم عليه، وازدادوا يقينا وثباتا؛ لأنهم كانوا عالمين بأنه منزل من عند الله، وقيل: الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وحده، وإنما ذكره بلفظ الجمع تعظيما له صلى الله عليه وسلم.
-القول الثاني أن الكلام خطاب مع الكفار، وذلك أنه سبحانه وتعالى لما قال في الآية المتقدمة:{وَادْعُوا..} . إلخ؛ قال في هذه الآية: {فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ} أيها الكفار، ولم يعينوكم؛ {فَاعْلَمُوا أَنَّما..} . إلخ. انتهى. بتصرف.
{فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} : فيه معنى الأمر، أي: أسلموا، وأخلصوا لله العبادة، وإن كان الخطاب للمؤمنين، فكان معنى قوله:{فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} الترغيب، أي: اثبتوا، ودوموا على ما أنتم عليه من الإسلام. انتهى. هذا؛ وانظر ما ذكرته في التركيب:{فَإِلَّمْ} في الآية رقم [23] من سورة (الأعراف) عن مكي؛ فإنه جيد جدا.
الإعراب: {فَإِلَّمْ} : الفاء: حرف عطف وتفريع. (إن): حرف شرط جازم. (لم): حرف نفي وقلب وجزم. {يَسْتَجِيبُوا} : مضارع مجزوم ب (لم)، وهو في محل جزم فعل الشرط، وعلامة
جزمه حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي. {لَكُمْ} : متعلقان بالفعل قبلهما. {فَاعْلَمُوا} : الفاء: واقعة في جواب الشرط. (اعلموا): أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله والألف للتفريق، {أَنَّما}: كافة ومكفوفة مفيدة للحصر، هذا؛ وأجيز اعتبار (أن) عاملة غير مكفوفة، و (ما): تحتمل الموصولة والمصدرية، فعلى الأول مبنية على السكون في محل نصب اسمها، وجملة:{أُنْزِلَ} مع نائب فاعله المستتر صلتها، والعائد: رجوع نائب الفاعل إليها، وعلى الثاني تؤول مع الفعل بمصدر في محل نصب اسم (أنّ). {بِعِلْمِ}: متعلقان بمحذوف حال من نائب فاعل {أُنْزِلَ} على اعتبار {أَنَّما} كافة ومكفوفة، واعتبار نائب الفاعل عائدا إلى {ما يُوحى إِلَيْكَ،} ومتعلقان بمحذوف خبر أن على اعتبارها عاملة، و (علم) مضاف، و {اللهِ}: مضاف إليه من إضافة المصدر لفاعله، والكلام {أَنَّما..} . إلخ على جميع الاعتبارات في تأويل مصدر في محل نصب سد مسد مفعولي (اعلموا)، والجملة الفعلية هذه في محل جزم جواب الشرط عند الجمهور، والدسوقي يقول: لا محل لها؛ لأنها لم تحل محل المفرد، والكلام {فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا..}. إلخ معطوف ومفرع عما قبله لا محل له. (أن): مخففة من الثقيلة، واسمه ضمير الشأن محذوف. {لا إِلهَ إِلاّ هُوَ} انظر إعراب هذه الجملة في الآية رقم [90] من سورة (يونس) وهي في محل رفع خبر (أن)، و (أن) المخففة، واسمها المحذوف، وخبرها في تأويل مصدر في محل نصب معطوف على ما قبله.
{فَهَلْ} : الفاء: حرف استئناف. (هل): حرف استفهام، والجملة الاسمية:{فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} مستأنفة لا محل لها. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم.
الشرح: لقد اختلف العلماء في تفسير هذه الآية، فقيل: نزلت في الكفار. قاله الحسن، والضحاك، وروي عن أنس بن مالك، رضي الله عنه، بدليل الآية التالية، أي: من أتى منهم بصلة رحم، أو صدقة، أو بإغاثة ملهوف، وحسن جوار، أو نحو ذلك من أعمال البر، فيعجّل الله له ثواب عمله في الدنيا، يوسع عليه في المعيشة والرزق، ويقر عينه فيما خوله، ويدفع عنه المكاره، لكن لا حسنة له في الآخرة، وانظر ما ذكرته في الآية رقم [54] من سورة (التوبة) تجد ما يسرك.
وقيل: نزلت الآية الكريمة في المسلمين الذين يراءون بأعمالهم، فمن أراد بعمله ثواب الدنيا؛ عجل له الثواب، ولم ينقص منه شيء في الدنيا، وله في الآخرة العذاب؛ لأنه جرد قصده إلى الدنيا، وهذا لا ينطبق إلا على المنافقين المرائين، فعن الفاروق عمر رضي الله عنه، قال:
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنّما الأعمال بالنّيّات، وإنّما لكلّ امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته
إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها، أو امرأة ينكحها، فهجرته إلى ما هاجر إليه». متفق عليه، والأحاديث في ذلك كثيرة مشهورة مسطورة.
-وقيل: الآية عامة في كل من ينوي بعمله غير الله تعالى، سواء أكان معه أصل إيمان، أم لم يكن، قاله مجاهد وميمون بن مهران، وقال ميمون: ليس أحد يعمل حسنة إلا وفّي ثوابها، فإن كان مسلما مخلصا وفّي في الدنيا والآخرة، وإن كان كافرا وفّي في الدّنيا، ثم هل لا بد من تنفيذ هذا الوعد، أو هو مقيد بمشيئة الله تعالى؟ فالآية هنا أطلقت، كما في الآية رقم [20] من سورة (الشورى)، وآية الإسراء رقم [18] قيدته بالمشيئة.
قال القرطبي-رحمه الله: والصحيح أنه من باب الإطلاق والتقييد، ومثله قوله تعالى:
{وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدّاعِ إِذا دَعانِ} فهذا ظاهره خبر عن إجابة كل داع دائما على كل حال، وليس كذلك، لقوله تعالى:{فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ} . انتهى.
والله أعلم بمراده وأسرار كتابه.
{نُوَفِّ} : يقرأ بالنون وبالياء مع الجزم، وبالتاء بالبناء للمجهول، ورفع {أَعْمالَهُمْ،} ويقرأ (نوفّي) بالتخفيف والرفع؛ لأن الشرط ماض، قال زهير بن أبي سلمى، وهو الشاهد (787) من كتابنا:«فتح القريب المجيب» : [البسيط]
وإن أتاه خليل يوم مسغبة
…
يقول لا غائب مالي، ولا حرم
{وَهُمْ فِيها} : في الدنيا. {لا يُبْخَسُونَ} : لا ينقصون من أجورهم شيئا، هذا؛ وقد راعى لفظ {مَنْ} في الأول، ومعناها في الآخر.
الإعراب: {مَنْ} : اسم شرط جازم مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {كانَ} : ماض ناقص مبني على الفتح في محل جزم فعل الشرط، واسمه ضمير مستتر تقديره:«هو» يعود إلى {مَنْ} . {يُرِيدُ} : مضارع، والفاعل يعود إلى {مَنْ}. {الْحَياةَ}: مفعول به. {الدُّنْيا} : صفة:
{الْحَياةَ} منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على الألف للتعذر، وقيل:{الْحَياةَ} : مضاف، و {الدُّنْيا}: مضاف إليه مجرور
…
إلخ والأول أقوى. (زينتها): معطوف على {الْحَياةَ،} و (ها) في محل جر بالإضافة، وجملة:{يُرِيدُ..} . إلخ في محل نصب خبر {كانَ} . {نُوَفِّ} :
مضارع جواب الشرط مجزوم، وعلامة جزمه حذف حرف العلة من آخره، وهو الياء، والكسرة قبلها دليل عليها، والفاعل مستتر تقديره:«نحن» ، وعلى قراءة «(توفّ)» فهو مبني للمجهول، وعلامة الجزم حذف الألف
…
إلخ، و {أَعْمالَهُمْ} بالرفع نائب فاعله، وعلى قراءة:«(يوفّ)» فالفاعل يعود إلى الله، وعلى قراءة:«(نوفي)» فهو مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء، و {أَعْمالَهُمْ} بالنصب مفعول به. {إِلَيْهِمْ}: متعلقان بالفعل قبلهما. {فِيها} : متعلقان بالفعل قبلهما، وخبر المبتدأ الذي هو {مَنْ} مختلف فيه، فقيل: هو جملة الشرط، وقيل: جملة
الجواب، وقيل: الجملتان، وهو المرجح لدى المعاصرين. {وَهُمْ}: الواو: واو الحال.
(هم): ضمير رفع منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {فِيها} : متعلقان بالفعل بعدهما. {لا} : نافية. {يُبْخَسُونَ} : مضارع مبني للمجهول مرفوع، والواو نائب فاعله، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية: (هم
…
) إلخ في محل نصب حال من الضمير المجرور محلاّ بالإضافة، والرابط: الواو، والضمير.
الشرح: {أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ النّارُ} : الإشارة إلى الذين وفوا جزاء أعمالهم في الدنيا المذكورين في الآية السابقة. {وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها} أي: ضاع ثواب أعمالهم، ولم يبق لهم ثواب في الآخرة، انظر ما ذكرته في الآية السابقة. {وَبَطَلَ..}. إلخ:
البطلان عبارة عن عدم الشيء، إما بعدم ذاته، أو بعدم فائدته ونفعه، والمراد من بطلان عملهم أنه لا يعود عليهم بنفع، ولا يدفع عنهم ضرّا؛ لأنه عمل لغير الله تعالى، فكان باطلا لا نفع فيه، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه. هذا؛ و (بطل) من باب دخل، والبطل بفتحتين الشجاع، والبطل بضم فسكون: الباطل والكذب، والبطالة: التعطل والتفرغ من العمل، هذا؛ ويجمع باطل على أباطيل شذوذا، انظر ما ذكرته في الآية رقم [6] من سورة (يوسف) على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام.
الإعراب: {أُولئِكَ} : اسم إشارة مبني على الكسر في محل رفع مبتدأ، والكاف حرف خطاب لا محل له. {الَّذِينَ}: اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع خبر المبتدأ.
{لَيْسَ} : ماض ناقص. {لَهُمْ} : متعلقان بمحذوف خبر {لَيْسَ} مقدم. {فِي الْآخِرَةِ} : متعلقان بالخبر المحذوف المقدم. {إِلاَّ} : حرف حصر. {النّارُ} : اسم {لَيْسَ} مؤخر، وجملة:
{لَيْسَ..} . إلخ صلة الموصول لا محل لها، والجملة الاسمية:{أُولئِكَ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها. (حبط): ماض. {ما} : تحتمل الموصولة، والموصوفة، والمصدرية، فعلى الأولين مبنية على السكون في محل رفع فاعل (حبط)، والجملة الفعلية بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد أو الرابط: محذوف، التقدير، حبط الذي، أو شيء صنعوه، وعلى اعتبارها مصدرية تؤول مع الفعل بعدها بمصدر في محل رفع فاعل، التقدير: وحبط صنعهم. {فِيها} : متعلقان بالفعل:
(حبط)، والضمير على هذا يعود على {الْآخِرَةِ،} ويجوز أن يتعلق {فِيها} ب {صَنَعُوا،} فالضمير على هذا يعود على الحياة الدنيا، وجملة:{وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها} معطوفة على جملة الصلة لا محل لها مثلها. (باطل): خبر مقدم. {ما} : تحتمل الموصولة، والموصوفة،
والمصدرية، فعلى الأولين مبنية على السكون في محل رفع مبتدأ مؤخر، والجملة الفعلية بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد أو الرابط: محذوف، التقدير: وباطل الذي، أو شيء كانوا يعملونه، وعلى الثالث تؤول (ما) مع الفعل بعدها بمصدر في محل رفع مبتدأ مؤخر، التقدير:
وباطل عملهم، وعليه فالجملة اسمية، وهي معطوفة على {ما} قبلها، لا محل لها مثلها، هذا، وأجيز اعتبار:(باطل) معطوفا على خبر المبتدأ عطف مفرد على مفرد، و {ما} على جميع الوجوه المعتبرة فيها فاعل ب (باطل)، ويرجح هذا ما قرأ به زيد بن علي {(وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ)} جعله فعلا ماضيا معطوفا على (حبط). انتهى. جمل نقلا عن السمين.
هذا؛ وقرئ: «(وباطلا ما كانوا يعملون)» . ف (باطلا): مفعول به مقدم، و {ما}: زائدة، والتقدير: وكانوا يعملون باطلا، وهذه الجملة معطوفة على جملة (حبط
…
) إلخ لا محل لها مثلها، وأجيز اعتبار (باطلا) مفعولا مطلقا لفعل محذوف، التقدير: وبطل باطلا، والأصل بطل بطلانا.
أقول: وأولى من ذلك اعتباره حالا معطوفا على جملة (حبط
…
) إلخ بعد تقدير (قد) قبلها، واعتبار الجملة حالا من {الَّذِينَ،} ومثل الآية الكريمة (ولا خارجا) في قول الفرزدق: [الطويل]
ألم ترني عاهدت ربّي، وإنني
…
لبين رتاج قائما ومقام
على حلفة لا أشتم الدهر مسلما
…
ولا خارجا من فيّ زور كلام
وهو الشاهد رقم [755] من كتابنا: «فتح القريب المجيب» ، وعلى اعتبار الحالية، والمصدرية في (باطلا) تكون {ما} على جميع الوجوه المعتبرة: موصولة، أو موصوفة أو مصدرية فاعلا ب (باطلا). تأمل، وتدبر.
الشرح: {أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ} : لما ذكر الله سبحانه وتعالى في الآية المتقدمة الذين يريدون بأعمالهم الحياة الدنيا، وزينتها. ذكر في هذه الآية من كان يريد بعمله وجه الله تعالى والآخرة، فقال سبحانه وتعالى:{أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ} أي: كمن يريد الحياة الدنيا وزينتها، وليس لهم في الآخرة إلا النار، انتهى، خازن، والجواب: لا يستويان، وقد صرح بهذين المحذوفين في قوله تعالى:{أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ} . {وَيَتْلُوهُ}
{شاهِدٌ مِنْهُ} : ويتبع ذلك البرهان من يشهد له بصدقه، وعاد الضمير على {بَيِّنَةٍ} مذكرا؛ لأنها بمعنى البرهان، ولقد اختلف في الشاهد، فقيل: إنه جبريل عليه السلام، أي: يتبع جبريل النبي صلى الله عليه وسلم، ويؤيده، ويسدده، ويقويه، وقيل: إنه علي كرم الله وجهه، وقيل: إنه لسان الرسول صلى الله عليه وسلم، وقيل: هو الإنجيل، وإن كان قبل القرآن، فهو يتلوه في التصديق. وقيل: غير ذلك، كما اختلف في الضمير في {مِنْهُ} فقيل: من الله، وقيل: من الرسول، وقيل: أي: من القرآن، ومن قبله: ومن قبل القرآن، وقيل: من قبل الإنجيل. {كِتابُ مُوسى} : المراد به:
التوراة، أي: أنها تشهد بصدق محمد صلى الله عليه وسلم، لما فيها من ذكر صفاته الجسدية، وشمائله الخلقية.
{إِماماً} : يرجعون إلى التوراة في أمور الدين، والأحكام، والشرائع. {وَرَحْمَةً}: لمن عمل بمقتضاها، واهتدى بما فيها، وذلك سبب حصول الرحمة.
{أُولئِكَ} : الإشارة إلى (من كان على بينة من ربّه). {يُؤْمِنُونَ بِهِ} : يصدقون بمحمد صلى الله عليه وسلم، ويعترفون بنبوته، أو يصدقون بالقرآن، وقيل: الإشارة إلى الذين أسلموا من أهل الكتاب، كعبد الله بن سلام، وأصحابه. {وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ} أي: بمحمد صلى الله عليه وسلم، أو بالقرآن. {مِنَ الْأَحْزابِ} أي: من جميع الكفار وأصحاب الأديان المختلفة، فتدخل فيه اليهود، والنصارى، والمجوس، وعبدة الأوثان، وغيرهم. {فَالنّارُ مَوْعِدُهُ} أي في الآخرة لا محالة.
وفي صحيح مسلم من حديث أبي يونس عن النبي صلى الله عليه وسلم: «والّذي نفس محمد بيده، لا يسمع بي أحد من هذه الأمّة، يهوديّ، ولا نصرانيّ، ثم يموت؛ ولم يؤمن بالّذي أرسلت به، إلاّ كان من أهل النّار» .
{فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ} : فلا تكن في شك من الدين، أو من القرآن الذي أنزل إليك، أو من الموعد الذي وعده الله للكافرين من دخول النار. {إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ} أي: ما ذكر هو الحق الذي لا ريب فيه، {وَلكِنَّ أَكْثَرَ النّاسِ لا يُؤْمِنُونَ}: لا يصدقون لقلة نظرهم، واختلال فكرهم.
{تَكُ} : انظر الآية رقم [109] الآتية، والخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم في قوله:{فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ..} .
إلخ مثله في الآية رقم [94] من سورة (يونس){أَفَمَنْ} : انظر {أَفَلا} في الآية رقم [24] الآتية.
الإعراب: {أَفَمَنْ} : الهمزة: حرف استفهام. الفاء: حرف استئناف. (من): اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل رفع مبتدأ. {كانَ}: ماض ناقص، واسمه يعود إلى (من). {عَلى بَيِّنَةٍ}: متعلقان بمحذوف خبر: {كانَ} أي: مصاحبا لها. {مِنْ رَبِّهِ} : متعلقان بمحذوف صفة: {بَيِّنَةٍ،} والهاء في محل جر بالإضافة، وجملة:{كانَ..} . إلخ صلة (من)، أو صفتها، والعائد أو الرابط رجوع اسم:{كانَ} إليها، وخبر المبتدأ محذوف، انظر تقديره في
الشرح. (يتلوه): مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الواو للثقل، والهاء في محل نصب مفعول به. {شاهِدٌ}: فاعل، والجملة الفعلية معطوفة على جملة:{كانَ..} . إلخ.
{مِنْهُ} : متعلقان ب {شاهِدٌ} . {وَمِنْ قَبْلِهِ} : متعلقان بمحذوف حال من: {كِتابُ مُوسى} قدم عليه، والهاء في محل جر بالإضافة. {كِتابُ}: معطوف على: {شاهِدٌ،} و {كِتابُ} :
مضاف، و {مُوسى}: مضاف إليه مجرور، وعلامة جره كسرة مقدرة على الألف للتعذر.
{إِماماً} : حال من: {كِتابُ مُوسى} . (رحمة): معطوف على ما قبله، وقال البيضاوي:(من قبله): متعلقان بمحذوف خبر مقدم، و {كِتابُ}: مبتدأ مؤخر، وعليه فالجملة الاسمية مستأنفة، ولكن اعتبار الحال من المبتدأ لا يجيزه كثير من النحويين، هذا؛ وقرئ بنصب:(كتاب) على اعتباره معطوفا على الضمير المنصوب بقوله: (يتلوه). {أُولئِكَ} : اسم إشارة مبني على الكسر في محل رفع مبتدأ، والكاف حرف خطاب لا محل له، وجملة:{يُؤْمِنُونَ بِهِ} في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية:{أُولئِكَ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها. {وَمِنْ} : الواو: حرف استئناف. (من): اسم شرط جازم مبتدأ. {يَكْفُرْ} : فعل الشرط، والفاعل يعود إلى (من).
{رَبِّهِ} : متعلقان بالفعل قبلهما. {مِنَ الْأَحْزابِ} : متعلقان بمحذوف حال من الفاعل المستتر، و (من) بيان لما أبهم في (من). {فَالنّارُ}: الفاء: واقعة في جواب الشرط. (النار): مبتدأ.
{مَوْعِدُهُ} : خبره، والهاء في محل جر بالإضافة، والجملة الاسمية في محل جزم جواب الشرط، وخبر المبتدأ الذي هو (من) مختلف فيه، كما رأيت في الآية رقم [15]. {فَلا} الفاء:
حرف عطف على رأي: من يجيز عطف الإنشاء على الخبر، وابن هشام يعتبرها للسببية المحضة، وأراها الفصيحة؛ لأنها تفصح عن شرط مقدر، التقدير: وإذا كان ذلك واقعا لا محالة؛ فلا
…
إلخ. (لا): ناهية جازمة. {تَكُ} : مضارع ناقص مجزوم ب (لا) الناهية، وعلامة جزمه السكون على النون المحذوفة للتخفيف، واسمه ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره:
«أنت» . {فِي مِرْيَةٍ} : متعلقان بمحذوف خبر: {تَكُ} . {مِنْهُ} : متعلقان ب {مِرْيَةٍ،} أو بمحذوف صفة لها، والجملة الفعلية:{فَلا..} . إلخ لا محل لها؛ لأنها جواب شرط غير جازم، والشرط المقدر ومدخوله كلام مستأنف لا محل له. {إِنَّهُ}: حرف مشبه بالفعل، والهاء في محل نصب اسمها. {الْحَقُّ}: خبر (إنّ). {مِنْ رَبِّكَ} : متعلقان بمحذوف حال من {الْحَقُّ،} والكاف في محل جر بالإضافة، والجملة الاسمية:{إِنَّهُ..} . إلخ تعليل للنهي لا محل لها.
{وَلكِنَّ} : الواو: حرف عطف. (لكن): حرف مشبه بالفعل. {أَكْثَرَ} : اسم (لكن)، و {أَكْثَرَ}: مضاف، و {النّاسِ}: مضاف إليه. {فَلا} : نافية. {يُؤْمِنُونَ} : مضارع مرفوع
…
إلخ، والواو فاعله، والجملة الفعلية في محل رفع خبر:(لكن)، والجملة الاسمية:
(لكن
…
) إلخ معطوفة على ما قبلها لا محل لها أيضا.
الشرح: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً} أي: لا أحد أظلم منهم لأنفسهم؛ لأنهم افتروا على الله كذبا، فأضافوا كلامه إلى غيره، وزعموا: أن له شريكا، وولدا، وقالوا للأصنام:
هؤلاء شفعاؤنا عند الله، وفي الآية دليل على أن الكذب على الله من أعظم أنواع الظلم، وقد راعى لفظ (من) في الجملة الفعلية، وراعى معناها في الجملة الاسمية. {أُولئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ} أي: المفترون على الله الكذب يعرضون على الله يوم القيامة ليحاسبهم على خبث أعمالهم. {وَيَقُولُ الْأَشْهادُ} أي: من الملائكة، والنبيين والعلماء الذي بينوا تعاليم الأنبياء، أو الأشهاد من جوارحهم، كما قال تعالى:{يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ} والأشهاد: جمع شاهد، كأصحاب جمع: صاحب، أو جمع شهيد كأشراف جمع شريف.
{هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ} أي: في الدنيا، وهذه الفضيحة تكون لكل من كذب على الله.
عن صفوان بن محرز المازني، قال: بينما ابن عمر-رضي الله عنهما-يطوف بالبيت؛ إذ عرض له رجل، فقال: يا أبا عبد الرحمن! أخبرني ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم في النجوى، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يدنو المؤمن من ربّه عز وجل، حتّى يضع عليه كنفه، فيقرّره بذنوبه: تعرف ذنب كذا وكذا؟ فيقول: أعرف ربّ أعرف-مرّتين-فيقول: سترتها عليك في الدّنيا، وأنا أغفرها لك اليوم، ثم يعطى كتاب حسناته، وأمّا الكفار، والمنافقون، فينادى بهم على رءوس الخلائق: هؤلاء الّذين كذبوا على الله» . انتهى. متفق عليه.
{أَلا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظّالِمِينَ} أي: سخطه، وإبعاده من رحمته على الذين وضعوا العبادة في غير موضعها، هذا؛ وانظر ما ذكرته في حكم اللعن في الآية رقم [161] من سورة (البقرة) أو الآية [25] من سورة (الرعد)، وانظر (الظلم) في الآية رقم [23] من سورة (يونس).
(يقول): القول يطلق على خمسة معان: أحدها: اللفظ الدال على المعنى. الثاني: حديث النفس ومنه قوله تعالى: {وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا..} . إلخ. الثالث: الحركة والإمالة، يقال:
قالت النخلة؛ أي: مالت. الرابع: ما يشهد به الحال، كما في قوله تعالى:{قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ} الخامس: الاعتقاد، كما تقول: هذا قول المعتزلة، وهذه مقالة الأشاعرة، أي: ما يعتقدونه، وانظر الكلام في الآية رقم [54] من سورة (يوسف).
الإعراب: {وَمَنْ} : الواو: حرف استئناف. (من): اسم استفهام مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {أَظْلَمُ} : خبره، والجملة الاسمية مستأنفة لا محل لها. {مِمَّنِ}: جار ومجرور
متعلقان ب {أَظْلَمُ،} و (من) تحتمل الموصولة، والموصوفة، فهي مبنية على السكون في محل جر ب (من). {اِفْتَرى}: ماض مبني على فتح مقدر على الألف للتعذر، والفاعل يعود إلى (من).
{عَلَى اللهِ} : متعلقان بالفعل قبلهما. {كَذِباً} : مفعول به، والجملة الفعلية:{اِفْتَرى..} . إلخ صلة (من)، أو صفتها، والعائد أو الرابط: رجوع الفاعل إليها. {أُولئِكَ} : اسم إشارة مبني على الكسر في محل رفع مبتدأ، والكاف حرف خطاب لا محل له. {يُعْرَضُونَ}: مضارع مبني للمجهول مرفوع
…
إلخ، والواو نائب فاعله، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ. {عَلى رَبِّهِمْ}: متعلقان بالفعل قبلهما، والهاء في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. والجملة الاسمية:{أُولئِكَ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها. (يقول): مضارع.
{الْأَشْهادُ} : فاعله. {هؤُلاءِ} : اسم إشارة مبني على الكسر في محل رفع مبتدأ، والهاء حرف تنبيه لا محل له. {الَّذِينَ}: اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع خبر المبتدأ، وجملة:
{كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ} صلة الموصول، وانظر إعراب:{صَبَرُوا} في الآية رقم [11] والجملة الاسمية: {هؤُلاءِ..} . إلخ في محل نصب مقول القول، والجملة الفعلية (يقول
…
) إلخ معطوفة على ما قبلها لا محل لها مثلها. {أَلا} : حرف تنبيه
…
إلخ، انظر الآية رقم [5]. {لَعْنَةُ}:
مبتدأ، وهو مضاف، و {اللهِ}: مضاف إليه، من إضافة المصدر لفاعله. {عَلَى الظّالِمِينَ}:
متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ، والجملة الاسمية:{أَلا لَعْنَةُ..} . إلخ في محل نصب مقول القول لقول محذوف، أي: يقول الله ذلك يوم القيامة للكافرين، أو يقول ذلك ملك من الملائكة بأمره. والجملة الفعلية هذه مستأنفة لا محل لها. تأمل، وتدبر، وربك أعلم.
الشرح: انظر شرح هذه الآية وإعرابها في الآية رقم [45] من سورة (الأعراف)، فلا حاجة إلى المزيد عما ذكرته هناك و {هُمْ} الثانية ضمير فصل لا محل له من الإعراب، وتكريره للتأكيد، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.
الشرح: {أُولئِكَ} : الإشارة إلى الظالمين المذكورين، والذين يصدون الناس عن الدخول في دين الإسلام. {لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ}: قال ابن عباس-رضي الله عنهما: يعني سابقين، وقيل: هاربين، والمعنى أنهم لا يعجزون الله إذا أرادهم بالعذاب، والانتقام منهم، ولكنه يؤخرهم إلى اليوم الذي يعرضون فيه على ربهم؛ ليكون عذابهم فيه أشد، وأدوم. {وَما}
كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِياءَ أي: من أنصار يمنعونهم من عذاب الله تعالى؛ إذا أراده بهم.
{يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ} أي: يزداد عذابهم في الآخرة فوق عذاب الكفر بسبب صدهم عن سبيل الله، وإنكارهم البعث بعد الموت، وغير ذلك. ويقرأ الفعل:«(يضعّف)» . {ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ} أي: ما كانوا يستطيعون في الدنيا أن يسمعوا سمعا ينتفعون به مع كونهم لهم آذان. {وَما كانُوا يُبْصِرُونَ} أي: لم يبصروا الحق مع كونهم لهم عيون، وذلك لشدة بغضهم النبي صلى الله عليه وسلم، وشدة عداوتهم له، فلم يكن عندهم استعداد لأن يسمعوا سماع قبول، ولا أن يبصروا تبصر اهتداء وانتفاع، وآية (الأعراف) رقم [179] أكبر دليل على ذلك، وقيل: إن المراد الأصنام، فهي لا تسمع، ولا تبصر، فلذا فهي لا تنفع من يعبدها شيئا.
الإعراب: {أُولئِكَ} : اسم إشارة مبني على الكسر في محل رفع مبتدأ، والكاف حرف خطاب لا محل له. {لَمْ}: حرف نفي وقلب وجزم. {يَكُونُوا} : مضارع ناقص مجزوم ب {لَمْ،} وعلامة جزمه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو اسمه، والألف للتفريق.
{مُعْجِزِينَ} : خبر {يَكُونُوا} منصوب، وعلامة نصبه الياء نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مذكر سالم
…
إلخ، وفاعله مستتر فيه، ومفعوله محذوف، التقدير: معجزين الله. {فِي الْأَرْضِ} :
متعلقان ب {مُعْجِزِينَ..} . وجملة: {لَمْ يَكُونُوا..} . إلخ في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية:{أُولئِكَ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها. {وَما} : الواو: حرف عطف. (ما): نافية.
{كانَ} : ماض ناقص. {لَهُمْ} : متعلقان بمحذوف خبر {كانَ} مقدم. {مِنْ دُونِ} : متعلقان بالخبر المحذوف، أو بمحذوف حال من الضمير المستتر في الخبر المحذوف، أو بمحذوف حال من {أَوْلِياءَ،} كان صفة له
…
إلخ، انظر الآية رقم [3] {مِنْ}: حرف جر صلة.
{أَوْلِياءَ} : اسم كان مؤخر مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على آخره، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد، وجملة:{وَما كانَ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، فهي في محل رفع مثلها. {يُضاعَفُ}: مضارع مبني للمجهول. {لَهُمْ} : متعلقان به. {الْعَذابُ} : نائب فاعله، والجملة الفعلية مستأنفة لا محل لها. {ما}: نافية. {كانُوا} : ماض ناقص، والواو اسمه، والألف للتفريق، {يَسْتَطِيعُونَ}: فعل وفاعل. {السَّمْعَ} : مفعول به، وجملة:{يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ} في محل نصب خبر {كانُوا،} وجملة: {ما كانُوا..} . إلخ مستأنفة لا محل لها {وَما كانُوا يُبْصِرُونَ} إعرابها واضح، والجملة معطوفة على ما قبلها، هذا؛ وأجيز اعتبار:(ما) ظرفية مصدرية، تسبك مع ما بعدها بمصدر في محل نصب على الظرفية الزمانية، متعلق بالفعل {يُضاعَفُ،} التقدير: يضاعف لهم العذاب مدة استطاعتهم السمع والأبصار؛ أي: أبدا. كما أجيز اعتبارها موصولة مجرورة بحرف جر، التقدير: بما كانوا، فلما حذف حرف الجر؛ انتصب الموصول على المفعولية، واعتباره مجرورا بالمحذوف أقوى؛ لأن الفعل:{يُضاعَفُ} لا ينصب مفعولا صريحا. تأمل، وتدبر.
{أُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (21)}
الشرح: {أُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ} أي: بسبب استبدال عبادة الله بعبادة الحجارة والأوثان، وما يتبع ذلك من صد الناس عن دين الإسلام، وفعل القبائح والمنكرات، وإنكار البعث بعد الموت، وما يتعلق به. {وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ} أي: ضاع كذبهم، وبطل إفكهم، وذهب دعاؤهم: أن الأصنام تشفع لهم، وانظر «الخسران» في الآية التالية، وشرح (النّفس) في الآية رقم [53] من سورة (يوسف) على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام.
الإعراب: {أُولئِكَ الَّذِينَ} انظر الآية رقم [16] لتفصيل الإعراب، وجملة:{خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ} صلة الموصول لا محل لها. (ضل): ماض. {عَنْهُمْ} : متعلقان به. {ما} : تحتمل الموصولة، والموصوفة، والمصدرية، فعلى الأولين مبنية على السكون في محل رفع فاعل، والجملة الفعلية بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط: محذوف، وتقدير الكلام: ضل عنهم الذي، أو شيء كانوا يفترونه، وعلى اعتبار:{ما} مصدرية تؤول مع الفعل بعدها بمصدر في محل رفع فاعل التقدير: وضل عنهم افتراؤهم، وجملة:{وَضَلَّ عَنْهُمْ..} . إلخ معطوفة على جملة الصلة لا محل لها مثلها، والجملة الاسمية:{أُولئِكَ الَّذِينَ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم.
{لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (22)}
الشرح: {لا جَرَمَ أَنَّهُمْ} : انظر الإعراب يتضح لك معناها. {الْآخِرَةِ} : انظر الآية رقم [38] من سورة (التوبة). {هُمُ الْأَخْسَرُونَ} : لا أحد أكثر خسرانا منهم، وأي: خسران أعظم من خسارة الجنة، والحرمان من نعيمها الذي لا ينقطع، هذا؛ وقد قيل في تفسير الخسران إنه جعل لكل واحد من بني آدم منزل في الجنة، ومنزل في النار، فإذا كان يوم القيامة جعل الله منازل الكفار التي في الجنة للمؤمنين، وجعل منازل المؤمنين التي في النار للكفار، فذلك هو الخسران المبين، فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«إنّ الله تعالى جعل لكلّ إنسان مسكنا في الجنّة ومسكنا في النّار، فأمّا المؤمنون فيأخذون منازلهم، ويرثون منازل الكفّار، ويجعل الكفّار في منازلهم في النّار» . أخرجه ابن ماجة، وهذا تأويل قوله تعالى في سورة (المؤمنون):
{أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ} .
تنبيه: لفظ {لا جَرَمَ} ورد في القرآن الكريم في خمسة مواضع متلوّ ب «أنّ» واسمها، ولم يجئ بعدها فعل، أحدها ما في هذه السورة، وثلاثة بسورة (النحل) برقم [23] و [62] و [109] والخامس في سورة (غافر) برقم [43].
الإعراب: {لا جَرَمَ..} . إلخ في إعراب هذا اللفظ أربعة أقوال:
-أحدها: وهو مذهب الخليل وسيبويه: أنهما مركبتان من (لا) النافية، و (جرم) وبنيتا على تركيبهما تركيب خمسة عشر وصار معناهما معنى فعل، وهو (حقّ) فعلى هذا فالمصدر المؤول من (أنّ) واسمها وخبرها، في محل رفع فاعل، فقوله تعالى:{لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النّارَ} أي: حقّ وثبت كون النار لهم، أو استقرارها لهم، هذا ما نقله السمين عن الخليل وسيبويه، ونقل مكي عنهما: أن {لا جَرَمَ} بمعنى حق في موضع رفع بالابتداء، والمصدر المؤول من أن واسمها وخبرها في محل رفع خبر، فاختلف النقل عن الخليل وسيبويه، رحم الله الجميع برحمته الواسعة ورحمنا معهم.
-الثاني: أن {لا جَرَمَ} بمنزلة: (لا رجل) في كون (لا) نافية للجنس وجرم اسمها مبني معها على الفتح، وهي واسمها في محل رفع بالابتداء، وما بعدها خبر (لا) النافية، وصار معناها:
لا محالة في أنهم في الآخرة، أي: في خسرانهم، وهذا الوجه عزاه مكي إلى الخليل أيضا.
-الوجه الثالث: أن (لا) نافية لكلام متقدم، تكلم به الكفرة، فرد الله عليهم بقوله:(لا)، كما ترد (لا) هذه قبل القسم في قوله تعالى:{فَلا أُقْسِمُ} ثم أتى بعدها بجملة فعلية، وهي: جرم أن لهم كذا، وجرم فعل ماض معناه كسب وفاعله مستتر يعود على فعلهم المدلول عليه بسياق الكلام، و (أنّ) وما في حيزها في موضع المفعول به؛ لأن (جرم) يتعدى إذا كان بمعنى:(كسب)، وعلى هذا فالوقف على قوله (لا) ثم يبتدأ بجرم بخلاف ما تقدم. انتهى. جمل، وهذا القول عزاه مكي للزجاج.
-الوجه الرابع: أن معنى {لا جَرَمَ} : لا حدّ، ولا منع، ولا صدّ، ويكون «جرم» بمعنى القطع، تقول: جرمت كذا، أي: قطعته، فيكون:{جَرَمَ} اسم (لا) مبني معها على الفتح، كما تقدم، وخبرها:(أنّ) وما في حيزها على حذف حرف الجر، أي: لا منع من خسرانهم، فيعود فيه الخلاف المشهور. انتهى. جمل، وهذا القول عزاه مكي للكسائي.
{أَنَّهُمْ} : حرف مشبه بالفعل، والهاء اسمها. {فِي الْآخِرَةِ}: متعلقان ب {الْأَخْسَرُونَ} بعدهما.
{أَنَّهُمْ} : مبتدأ. {الْأَخْسَرُونَ} : خبره، والجملة الاسمية خبر (أنّ)، هذا، وإن اعتبرت {أَنَّهُمْ} ضمير فصل لا محل له ف {الْأَخْسَرُونَ} خبر (أنّ) مرفوع
…
إلخ، وأن واسمها وخبرها في تأويل مصدر، انظر الإعراب المتقدم؛ لترى محل هذا المصدر.
الشرح: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ} : على اختلاف أنواعها، وتفاوت مراتبها ودرجاتها. {وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ}: أنابوا، وأطاعوا، وخشعوا وخضعوا. والإخبات: الخشوع
للمخافة الثابتة في القلب، من:(الخبت)، وهو الأرض المستوية الواسعة. قال تعالى في سورة (الحج) رقم [34]:{وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ.. الَّذِينَ..} . إلخ. {أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ} :
{أَصْحابُ} : جمع صاحب، ويكون بمعنى: المالك كما هنا، ويكون بمعنى الصديق، ويجمع أيضا على: صحب، وصحاب، وصحابة، وصحبة، وصحبان، ثم يجمع أصحاب على أصاحيب أيضا، ثم يخفف، فيقال: أصاحب هذا؛ وقد جعل المؤمنون المطيعون الخاشعون أصحاب الجنة بمعنى مالكيها لملازمتهم لها، وعدم انفكاكهم عنها، وقل مثله في أصحاب النار. {خالِدُونَ}: مقيمون لا يخرجون، ماكثون أبدا، لا يموتون، ولا يفنون.
تنبيه: لما ذكر الله عز وجل أحوال الكفار في الدنيا، وخسرانهم في الآخرة، أتبعه بذكر أحوال المؤمنين في الدنيا، وربحهم في الآخرة؛ إذ اقتضت سنة الله، وحكمته العالية، ورحمته الواسعة، ألا يذكر التكذيب من الكافرين، إلا ويذكر التصديق من المؤمنين، ولا يذكر الكفر، إلا ويذكر الإيمان، ولا يذكر النار إلا ويذكر الجنة، ولا يذكر الغضب والسخط إلا ويذكر الرضا والرحمة، ليكون المؤمن خائفا راجيا، وراهبا راغبا
…
إلخ، والله أعلم بمراده وأسرار كتابه.
الإعراب: {إِنَّ} : حرف مشبه بالفعل. {الَّذِينَ} : اسم موصول مبني على الفتح في محل نصب اسمها، وجملة:{آمَنُوا} مع المتعلق المحذوف صلة الموصول، وجملة:{وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ} معطوفة عليها، وجملة:{وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ} معطوفة على جملة الصلة لا محل لها أيضا، وانظر إعراب:{صَبَرُوا} في الآية رقم [11]. {أُولئِكَ} : اسم إشارة مبني على الكسر في محل رفع مبتدأ، والكاف حرف خطاب لا محل له. {أَصْحابُ}: خبر المبتدأ، و {أَصْحابُ}:
مضاف، و {الْجَنَّةِ}: مضاف إليه، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه، والجملة الاسمية:{أُولئِكَ..} . إلخ في محل رفع خبر {إِنَّ} . {رَبِّهِمْ} : ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {فِيها} : متعلقان بما بعدهما. {خالِدُونَ} : خبر المبتدأ مرفوع
…
إلخ، والجملة الاسمية في محل نصب حال من {أَصْحابُ الْجَنَّةِ،} أو من {الْجَنَّةِ} نفسها، والعامل في الحال اسم الإشارة، والرابط: الضمير على الاعتبارين، وفيها معنى التأكيد للكلام السابق، وجوز اعتبارها خبرا ثانيا ل {أُولئِكَ،} والأول أقوى، والجملة الاسمية:{إِنَّ الَّذِينَ..} . إلخ ابتدائية، أو مستأنفة لا محل لها على الاعتبارين.
الشرح: {مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ..} . إلخ: قال الخازن رحمه الله تعالى: لما ذكر الله سبحانه وتعالى أحوال الكفار، وما كانوا عليه من العمى عن طريق الهدى والحق، ومن الصمم عن سماعه،
وذكر أحوال المؤمنين، وما كانوا عليه من البصيرة وسماع الحق، والانقياد للطاعة؛ ضرب لهم مثلا، فقال الله تبارك وتعالى:{مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ،} يعني فريق المؤمنين، وفريق الكافرين.
{كَالْأَعْمى} وهو الذي لا يهتدي لرشده. {وَالْأَصَمِّ،} وهو الذي لا يسمع شيئا البتة، {وَالْبَصِيرِ} وهو الذي يبصر الأشياء على ماهيتها. {وَالسَّمِيعِ} وهو الذي يسمع الأصوات، ويجيب الداعي. انتهى. هذا؛ ولا تنس: أن وصف الكافر بصفتين، ثم وصف المؤمن بصفتين، إنما هو من باب اللف والطباق والمقابلة، وهذا من فن البديع.
{هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً} : قال الفراء: لم يقل: هل يستوون؛ لأن الأعمى، والأصم في حيز كأنهما واحد، وهما من وصف الكافر، والبصير والسميع في حيز كأنهما واحد، وهما من وصف المؤمن. {أَفَلا تَذَكَّرُونَ} أي: تتعظون بضرب الأمثال والتأمل فيها، وقد حذفت إحدى التاءين من الفعل، فإن الأصل (تتذكرون) وهذا الحذف كثير ومستعمل في القرآن الكريم، والكلام العربي.
هذا؛ و «مثل» بفتح الميم والثاء هنا بمعنى صفة الفريقين، وهو بكسر الميم وسكون الثاء، ومثله: مثيل بمعنى: شبه، وشبيه، وهو اسم متوغل في الإبهام، فلا يتعرف بإضافته إلى الضمير وغيره من المعارف؛ ولذلك نعتت به النكرة في قوله تعالى، حكاية عن قول فرعون وقومه:
{أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ} ويوصف به المفرد، والمثنى، والجمع، والمذكر والمؤنث، كما في الآية الكريمة، وتستعمل على ثلاثة أوجه: الأول: بمعنى الشبيه، كما في قوله تعالى:{سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللهُ،} والثاني: بمعنى نفس الشيء، وذاته، كما في قوله تعالى:
{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} عند بعضهم حيث قال: المعنى: ليس كذاته شيء، والثالث: زائدة، كما في قوله تعالى:{فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا} أي: بما آمنتم به.
هذا؛ وأما «المثل» في قوله تعالى: {ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً} وشبهه، انظره في الآية رقم [24] من سورة (إبراهيم) عليه السلام، هذا؛ والمثل بفتح الميم والثاء أيضا: هو القول السائر بين الناس، والذي فيه غرابة من بعض الوجوه، والممثل بمضربه، أي: هو الحالة الأصلية التي ورد الكلام فيها، وما أكثر الأمثال في اللغة العربية، علما بأن ألفاظ الأمثال لا تتغير، تذكيرا وتأنيثا، إفرادا وتثنية وجمعا، بل ينظر فيها دائما إلى مورد المثل، مثل:(الصّيف ضيّعت اللّبن) فإنه يضرب لكل من فرط في تحصيل شيء في أوانه، ثم يطلبه بعد فواته، هذا؛ ويجمع «مثل» بكل معانيه على أمثال، كما في قوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ..} . إلخ.
{أَفَلا} فالهمزة للإنكار، وهي في نية التأخير عن الفاء؛ لأنها حرف عطف، وكذا تقدم على الواو، وثم، تنبيها على أصالتها في التصدير، نحو قوله تعالى:{أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ..} .
إلخ وقوله: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ..} . إلخ وقوله: {أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ..} . إلخ وأخواتها تتأخر
عن حروف العطف، كما هو قياس أجزاء الجملة المعطوفة، نحو قوله تعالى:{وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللهِ،} وقوله: {فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ،} هذا مذهب سيبويه والجمهور، وخالف جماعة، أولهم الزمخشري، فزعموا: أن الهمزة في الآيات المتقدمة في محلها الأصلي، وأن العطف على جملة مقدرة بينها وبين العاطف، فيقولون: التقدير في {أَفَلَمْ يَسِيرُوا..} . إلخ. {أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً} . {أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ..} . إلخ: أمكثوا فلم يسيروا في الأرض؟ أنهملكم فنضرب عنكم
…
إلخ، أتؤمنون في حياته، فإن مات أو قتل
…
إلخ، ويضعف قولهم ما فيه من التكلف، وأنه غير مطرد في جميع المواضع، انتهى. مغني اللبيب بتصرف.
الإعراب: {مَثَلُ} : مبتدأ، وهو مضاف، و {الْفَرِيقَيْنِ}: مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الياء نيابة عن الكسرة؛ لأنه مثنى، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد. {كَالْأَعْمى}:
جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ، وإن اعتبرت الكاف اسما، فهي الخبر، وتكون مضافة و (الأعمى) في محل جر بالإضافة، وعلامة الجر كسرة مقدرة على الألف للتعذر.
{وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ} : هذه الأسماء معطوفة على (الأعمى)، والجملة الاسمية:{مَثَلُ..} .
إلخ مستأنفة لا محل لها. {هَلْ} : حرف استفهام. {يَسْتَوِيانِ} : مضارع مرفوع، وعلامة رفعه النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، وألف الاثنين فاعله. {مَثَلاً}: تمييز، والجملة الفعلية:{هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً} مستأنفة لا محل لها، وجواب الاستفهام محذوف، التقدير: لا يستويان. {أَفَلا} :
الهمزة: حرف استفهام وتقريع وتوبيخ. الفاء: حرف عطف. (لا): نافية. {تَذَكَّرُونَ} : مضارع، والواو فاعله، والجملة الفعلية مستأنفة مع الجملة المقدرة المعطوفة عليها على القول الثاني، ومعطوفة على ما قبلها على القول الأول في الفاء. تأمل، وتدبر، وربك أعلم.
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (25)}
الشرح: {أَرْسَلْنا} : بعثنا. {نُوحاً} : اسمه: السكن، وقيل: عبد الغفار. وسمي {نُوحاً} لكثرة نوحه على نفسه، وهو ابن لمك، بن متوشلح، بن أخنوخ، وهو إدريس النبي عليه السلام، وكان نوح نجارا، واختلفوا في سبب نوحه، فقيل: لدعوته على قومه بالهلاك، وقيل: لمراجعته ربه في شأن ابنه كنعان، وقيل: لأنه مر بكلب مجذوم، فقال له: إخسأ يا قبيح! فأوحى الله تعالى إليه: أعبتني أم عبت الكلب؟! وهو أول رسول بعث بشريعة بعد آدم، وأول نذير على الشرك، وأنزل الله عليه عشر صحائف، وكان أول من عذبته أمته لردهم دعوته، وأهلك الله أهل الأرض بدعائه، وكان أبا البشر كآدم عليهما السلام، وكان أطول الأنبياء عمرا، عمره ألفا وخمسين سنة، وقيل: أكثر، لم تنقص قوته، ولم يشب، ولم تسقط له سن، وصبر على أذى قومه طول عمره، وكان أبواه مؤمنين بدليل دعوته لهما بالمغفرة في الآية الآخرة من السورة المسماة باسمه.
وأضيف: أن نوحا عليه السلام كان من أولي العزم، وأنه لقي من العناء في دعوته قومه ما لم يلقه نبي أبدا، وإذا عرفت طول حياته، وأنه تعاقب عليه أجيال من قومه، وكل جيل يكون أفسد من سابقه؛ تبين لك ذلك واضحا؛ فلذا أمر الله نبينا محمدا في آخر قصته في هذه السورة بالتأسي به، والصبر على أذى قومه، كما صبر نوح عليه السلام.
{قَوْمِهِ} : انظر الآية رقم [28] الآتية {إِنِّي} : يقرأ بكسر الهمزة وفتحها. {نَذِيرٌ} : منذر، أي: مخوف بالعقاب من خالف أمر الله وعبد غيره، وكذلك مبشر بالثواب من آمن به، وعبده حق عبادته، وحذف مبشر اكتفاء بنذير، وكثيرا ما يذكر معه كما في الآية رقم [2].
تنبيه: الحكمة من ذكر قصص الأنبياء عليهم السلام تسلية النبي صلى الله عليه وسلم، وتنبيه له على ملازمة الصبر على أذى الكفار، كما صبر الرسل الكرام، إلى أن يكفيه الله أمرهم، وانظر ما ذكرته في الآية رقم [59] من سورة (الأعراف).
الإعراب: {وَلَقَدْ} : الواو: حرف قسم وجر، والمقسم به محذوف، تقديره: والله، والجار والمجرور متعلقان بفعل محذوف، تقديره: أقسم. اللام: واقعة في جواب القسم. (قد): حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال. {أَرْسَلْنا} : فعل ماض مبني على السكون لاتصاله ب «نا» ، التي هي ضمير متصل في محل رفع فاعل. هذا الإعراب هو المتعارف عليه في مثل هذا، والإعراب الحقيقي أن تقول: مبني على فتح مقدر على آخره، منع من ظهوره اشتغال المحل بالسكون العارض، كراهة توالي أربع متحركات فيما هو كالكلمة الواحدة، وقل مثله في إعراب كل ماض، اتصل به ضمير رفع متحرك، مثل: أرسلت، وأرسلن. {نُوحاً}: مفعول به. {إِلى قَوْمِهِ} : متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من {نُوحاً،} والهاء ضمير متصل في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية:{وَلَقَدْ أَرْسَلْنا..} . إلخ جواب القسم لا محل لها، والقسم وجوابه كلام مستأنف لا محل له. {إِنِّي}: حرف مشبه بالفعل، وياء المتكلم في محل نصب اسمها. {لَكُمْ}:
متعلقان ب {نَذِيرٌ} بعدهما. {نَذِيرٌ} : خبر (إن). {مُبِينٌ} : صفة: {نَذِيرٌ،} والجملة الاسمية:
{إِنِّي..} . إلخ في محل نصب مقول القول لقول محذوف، التقدير: قال إني
…
إلخ وهذا على كسر الهمزة، وأما على فتحها، فتؤول (أن) مع اسمها وخبرها بمصدر في محل جر بحرف جر محذوف، التقدير: بأني لكم
…
إلخ، والجار والمجرور متعلقان بالفعل:{أَرْسَلْنا} .
{أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلاَّ اللهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (26)}
الشرح: {اللهَ} : علم على الذات الواجب الوجود، المستحق لجميع المحامد، وهو اسم الله الأعظم: الذي إذا دعي به أجاب، وإذا سئل به أعطى، وإنما تخلفت الإجابة في بعض الأحيان عند الدعاء به؛ لتخلف شروط الإجابة؛ التي أعظمها أكل الحلال.
الإعراب: {أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلاَّ اللهَ} : انظر إعراب هذا الكلام في الآية رقم [2] ففيه الكفاية، وزيد هنا تجويز البديلة من:{(إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ)} على قراءة فتح الهمزة. {إِنِّي} : حرف مشبه بالفعل، وياء المتكلم في محل نصب اسم (إن). {أَخافُ}: مضارع، وفاعله مستتر تقديره:
«أنا» . {عَلَيْكُمْ} : متعلقان ب {أَخافُ} . {عَذابَ} : مفعول به، وهو مضاف، و {يَوْمٍ}: مضاف إليه. {أَلِيمٍ} : صفة: {يَوْمٍ،} وقال الجمل: المتصف بكونه مؤلما هو العذاب، لا اليوم، فنسبة الإيلام، إلى اليوم مجاز عقلي. انتهى.
وقال البيضاوي: مؤلم، وهو في الحقيقة صفة المعذب، لكن يوصف به العذاب، وزمانه على طريقة: جد جده، ونهاره صائم للمبالغة. وأرى أنه صفة:{عَذابَ،} وجر للمجاورة، فهو منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على آخره، منع من ظهورها اشتغال المحل بالكسرة التي جلبها حركة الجوار، وجملة:{أَخافُ..} . إلخ في محل رفع خبر (إن)، والجملة الاسمية:{إِنِّي..} . إلخ تعليل للنهي لا محل لها من الإعراب.
الشرح: {فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ} أي: قال السادة والعظماء الكافرون من قوم نوح له. {ما نَراكَ إِلاّ بَشَراً مِثْلَنا} : لا نراك يا نوح إلا آدميا مثلنا، لا فضل لك علينا، ولا مزية تستوجب طاعتنا لك، وانقيادنا لأوامرك، ونواهيك. {وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا}:
ولم يتبعك إلا سفلتنا وأخساؤنا وسقطنا، وخسيسو الصناعات وحقيرو المهن من حاكة وحجامين! وهذا جهل منهم؛ لأنهم عابوا نوحا عليه السلام بما لا عيب فيه؛ لأن الأنبياء-صلوات الله وسلامه عليهم-إنما عليهم أن يأتوا بالبراهين والآيات، وليس عليهم تغيير الصور والهيئات، وهم يرسلون إلى الناس جميعا، فإن تبعهم الوضيع؛ لم يلحقهم من ذلك نقصان؛ لأن عليهم أن يقبلوا إسلام كل من أسلم من الناس بدون تمييز بين عظيم وحقير، وشريف ووضيع.
{بادِيَ الرَّأْيِ} : ظاهر الرأي: وأول الأمر من غير تثبت، وتفكر في أمرك، ولو تفكروا؛ ما اتبعوك. {وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ} أي: بمال أو جاه أو شرف يؤهلكم للنبوة واستحقاق المتابعة، وهذا أيضا جهل منهم؛ لأن الفضيلة المعتبرة عند الله بالإيمان والطاعة، لا بالجاه، والشرف، والرئاسة. {بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ}: فيما تدعون من النبوة، والميزة علينا، والخطاب لنوح ومن آمن معه من قومه، أو هو لنوح وحده، وخوطب بلفظ الجمع على سبيل التعظيم.
هذا؛ والملأ الأشراف، والسادة، ولا يقال لغيرهم؛ لأنهم يملئون العيون مهابة بكبريائهم وزينتهم، وما يحاطون به من هيبة، وعظمة، والملأ: اسم جمع لا واحد له من لفظه، مثل:
رهط، ومعشر، ونحوهما. و (بشر) يطلق على الإنسان ذكرا أو أنثى، مفردا وجمعا، مثل كلمة:
الفلك تطلق على المفرد والجمع، وسمي بنو آدم بشرا لبدو بشرتهم، وهي ظاهر الجلد، بخلاف أكثر المخلوقات، فإنها مكسوة بالشعر أو بالصوف، أو الريش.
{نَرى} : مضارع ماضيه: (رأى) فالقياس نرأي، وقد تركت العرب الهمز في مضارعه لكثرته في كلامهم، وربما احتاجت إلى همزه فهمزته، كما في قول سراقة بن مرداس البارقي:[الوافر]
أري عينيّ ما لم ترأياه
…
كلانا عالم بالتّرّهات
وربما جاء ماضيه بغير همز، وبه قرأ نافع في {أَرَأَيْتَكُمْ} ، و {أَرَأَيْتَ}
…
إلخ (أرأيتكم)، وأ رأيت بدون همز، وقال الشاعر:[الخفيف]
صاح هل ريت، أو سمعت براع
…
ردّ في الضّرع ما قرى في الحلاب؟
وإذا أمرت منه على الأصل قلت: (ارء)، وعلى الحذف (ره) بهاء السكت، وقل في إعلال (نرى)، أصله: نرأي، قلبت الياء ألفا لتحركها، وانفتاح ما قبلها، وحذفت الهمزة بعد إلقاء حركتها على الراء للتخفيف. بعد هذا ف (أراذل) جمع: أرذل، وأرذل جمع رذل، فهو جمع الجمع مثل كلب، وأكلب، وأكالب، وقيل: الأراذل جمع: الأرذل، كأساود جمع الأسود من الحيات، والله أعلم بمراده وأسرار كتابه.
الإعراب: {فَقالَ الْمَلَأُ} : الفاء: حرف استئناف. (قال الملأ): ماض وفاعله. {الَّذِينَ} :
اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع صفة: {الْمَلَأُ،} أو بدل منه، وجملة:{كَفَرُوا} صلة الموصول لا محل لها. {مِنْ قَوْمِهِ} : متعلقان بمحذوف حال من واو الجماعة العائدة على الموصول، و {مِنْ} بيان لما أبهم في الموصول، والهاء في محل جر بالإضافة. {ما}: نافية.
{نَراكَ} : مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر، والفاعل ضمير مستتر تقديره:«نحن» ، والكاف مفعول به. {إِلاّ}: حرف حصر. {بَشَراً} : مفعول به ثان، إن كان {نَراكَ} قلبيا، أو حال إن كان بصريا، وهي حال موطئة؛ لأنه جامد، والمقصود الصفة، وهي {مِثْلَنا،} و (نا): في محل جر بالإضافة، وجملة:{ما نَراكَ..} . إلخ في محل نصب مقول القول، وجملة:{فَقالَ الْمَلَأُ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها. {اِتَّبَعَكَ} : ماض، والكاف مفعول به. {إِلاّ}: حرف حصر. {الَّذِينَ} : فاعل {اِتَّبَعَكَ} . {هُمْ} : مبتدأ. {أَراذِلُنا} : خبره، و (نا): في محل جر بالإضافة، والجملة الاسمية صلة الموصول لا محل لها. {بادِيَ}: ظرف زمان متعلق بالفعل {اِتَّبَعَكَ} على المعتمد، وجاز أن يعمل ما قبل {إِلاّ} فيما بعدها توسعا في
الظروف، وهذا جواب عن إشكال، وهو أن ما بعد (إلا) لا يكون معمولا لما قبلها إلا أن يكون مستثنى منه، نحو ما قام إلا زيدا القوم، أو تابعا للمستثنى منه، نحو ما جاءني أحد إلا زيدا خير من عمرو. انتهى. جمل نقلا عن كرخي، وانظر الآية رقم [102] من سورة (الإسراء).
وهو يقرأ بهمز وبدونه، و {بادِيَ}: مضاف، و {الرَّأْيِ}: مضاف إليه، وجملة:{اِتَّبَعَكَ..} .
إلخ في محل نصب مفعول به ثان، أو هي في محل نصب حال من كاف الخطاب على نحو ما رأيت في الجملة السابقة، وعلى اعتبار الجملة حالا ف «قد» قبلها مقدرة. تأمل. وجملة:{وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، فهي في محل نصب مقول القول مثلها. {لَكُمْ عَلَيْنا}: كلاهما متعلقان بالفعل قبلهما. {مِنْ} : حرف جر صلة. {فَضْلٍ} : مفعول به منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على آخره منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد، هذا؛ ويجوز في الفعل {نَرى} ما جاز في سابقيه من الاعتبارين، فعلى اعتباره قلبيا يكون {عَلَيْنا} متعلقين بالفعل على اعتبارهما مفعولا ثانيا تقدم على الأول الذي هو {مِنْ فَضْلٍ} وعلى اعتباره بصريا يجوز اعتبار {عَلَيْنا}: متعلقين بمحذوف حال من {فَضْلٍ} : كان صفة له
…
إلخ على نحو ما رأيت في الآية رقم [3]، وجملة:{وَما نَرى..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، فهي في محل نصب مقول القول. {بَلْ}: حرف عطف وإضراب. {نَظُنُّكُمْ} : مضارع، وفاعله مستتر تقديره:«نحن» ، والكاف مفعول به أول. {كاذِبِينَ}: مفعول به ثان منصوب، وعلامة نصبه الياء
…
إلخ، وجملة:{نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ} معطوفة على ما قبلها، فهي من مقول الملأ أيضا.
الشرح: {قالَ يا قَوْمِ..} . إلخ: لقد احتج المشركون على نوح-عليه السلام-في الآية السابقة بثلاث شبه: بقولهم: {ما نَراكَ إِلاّ بَشَراً مِثْلَنا
…
،} وبقولهم:{وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ..} .
إلخ، وبقولهم:{وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا..} . إلخ، وقد أجابهم عن هذه الثلاثة إجمالا بما في هذه الآية، وتفصيلا بما في الآية رقم [31] الآتية. {أَرَأَيْتُمْ}: قال سليمان الجمل رحمه الله تعالى:
استعمال (أرأيت) في الإخبار مجاز، أي: أخبروني عن حالتكم العجيبة، ووجه المجاز: أنه لما كان العلم بالشيء سببا للإخبار عنه، والأبصار به طريقا إلى الإحاطة به علما، وإلى صحة الإخبار عنه؛ استعملت الصيغة التي لطلب العلم، أو لطلب الإبصار في طلب الخبر لاشتراكهما في الطلب
…
انتهى.
{إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ} : على حجة وبرهان. {مِنْ رَبِّي} : انظر الآية رقم [3]{وَآتانِي رَحْمَةً} :
وأعطاني ومنحني رحمة من فضله، وهي النبوة والرسالة. {فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ}: فخفيت عليكم، فلم
تهدكم، كما لو عمي على القوم دليلهم في المفازة بقوا بغيرها، وقيل: هذا من باب القلب، والأصل: فعميتم أنتم عنها، وقرئ الفعل بالتخفيف، والبناء للمعلوم. {أَنُلْزِمُكُمُوها}: أنجبركم على قبولها، الهاء عائدة على الرحمة، والمعنى: أنكرهكم أيها القوم على قبول الرحمة؟! وقد اجتمع ضميران منصوبان، ضمير خطاب وضمير غيبة، والأول أعرف، فيجوز في مثل ذلك الفصل، والوصل، قال ابن مالك رحمه الله في ألفيته:[الرجز]
وصل أو افصل هاء سلنيه وما
…
أشبهه في كنته الخلف انتمى
{وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ} : لا تختارونها، ولا تتأملون فيها، وليس لي أن أضطركم إلى ذلك، قال قتادة: والله لو استطاع نبي الله؛ لألزمها قومه، ولكنه لم يملك ذلك.
(قوم): اسم جمع لا واحد له من لفظه، مثل رهط ومعشر، وهو يطلق على الرجال دون النساء، بدليل قوله تعالى:{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ} وقال زهير بن أبي سلمى المزني: [الوافر]
وما أدري وسوف إخال أدري
…
أقوم آل حصن أم نساء؟
وربما دخل فيه النساء على سبيل التبع للرجال، كما في إرسال الرسل لأقوامهم؛ إذ إن كل لفظ (قوم) في القرآن الكريم، إنما يراد به الرجال والنساء جميعا.
{كُنْتُ} : أصله كونت، فقل في إعلاله: تحركت الواو وانفتح ما قبلها، فقلبت ألفا، فصار: كانت، فالتقى ساكنان: الألف وسكون النون، فحذفت الألف، فصار:«كنت» بفتح الكاف، ثم أبدلت الفتحة ضمة لتدل على الواو المحذوفة، فصار «كنت» ، وهناك إعلال آخر، وهو أن تقول: أصل الفعل: كون، فلما اتصل بضمير رفع متحرك نقل إلى باب فعل فصار:
كونت، ثم نقلت حركة الواو إلى الكاف قبلها، فصار (كونت) فالتقى ساكنان: العين المعتلة ولام الفعل فحذفت العين، وهي الواو لالتقائهما، فصار:(كنت) وهكذا قل في إعلال كل فعل أجوف واوي مسندا إلى ضمير رفع متحرك، مثل: قام وقال وغيرهما.
الإعراب: {قالَ} : ماض، وفاعله مستتر تقديره:«هو» ، يعود إلى نوح. {يا قَوْمِ} يا: حرف نداء ينوب مناب: أدعو، أو أنادي. (قوم): منادى منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم المحذوفة للتخفيف، والياء المحذوفة ضمير متصل في محل جر بالإضافة، وحذف الياء هذه، إنما هو بالنداء خاصة؛ لأنه لا لبس فيه، ومنهم من يثبت الياء ساكنة، فيقول: يا قومي، ومنهم من يثبتها، ويحركها بالفتحة، فيقول: يا قومي، ومنهم من يقلبها ألفا بعد فتح ما قبلها، فيقول: يا قوما، ومنهم من يقول: يا قوم بضم الميم، ففيه خمس لغات، ويزاد سادسة، وهي حذف الياء بعد قلبها ألفا، وإبقاء الفتحة على الميم دليلا عليها، فتقول: يا قوم، والجملة الندائية في محل نصب مقول القول. {أَرَأَيْتُمْ} الهمزة: حرف استفهام، وتوبيخ وتقريع. رأيتم: فعل
وفاعل، {إِنْ}: حرف شرط جازم. {كُنْتُ} : ماض ناقص مبني على السكون في محل جزم فعل الشرط، والتاء اسمه. {عَلى بَيِّنَةٍ}: متعلقان بمحذوف خبر (كان). {مِنْ رَبِّي} : متعلقان ب {بَيِّنَةٍ،} أو بمحذوف صفة لها، وعلامة الجر كسرة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم، منع من ظهورها، اشتغال المحل بالحركة المناسبة، والياء في محل جر بالإضافة، وجملة:{كُنْتُ..} . إلخ لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي، وجملة:{وَآتانِي رَحْمَةً} معطوفة على جملة: {كُنْتُ..} . إلخ لا محل لها مثلها، {مِنْ عِنْدِهِ}: متعلقان بالفعل: (أتى)، أو هما متعلقان ب {رَحْمَةً،} أو بمحذوف صفة لها، والهاء في محل جر بالإضافة، وجواب الشرط محذوف، دل عليه الجملة الاستفهامية الآتية. (عميت): ماض مبني للمجهول على قراءته بتشديد الميم، وضم العين، ومبني للمعلوم على التخفيف وفتح العين، ونائب الفاعل، أو والفاعل يعود إلى الرحمة، والتاء للتأنيث. {عَلَيْكُمْ}: متعلقان به، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها لا محل لها أيضا. {أَنُلْزِمُكُمُوها}: الهمزة: حرف استفهام. (نلزمكموها): مضارع، والكاف مفعول به أول، والميم علامة جمع الذكور، وحركت بالضم، فتولدت واو الإشباع، و (ها): مفعول به ثان، والفاعل مستتر تقديره:«نحن» ، والجملة الفعلية في محل نصب مفعول به ثان ل {أَرَأَيْتُمْ،} وما بينهما كلام معترض لا محل له، والمفعول الأول محذوف، وانظر الآية رقم [50] من سورة (يونس) إن أردت الزيادة. {وَأَنْتُمْ}: الواو: واو الحال. (أنتم): ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {لَها} : متعلقان بما بعدهما. {يَكْرَهُونَ} : خبر المبتدأ مرفوع، وعلامة رفعه الواو
…
إلخ، وفاعله مستتر فيه، والجملة الاسمية: (أنتم
…
) إلخ في محل نصب حال من كاف الخطاب، والرابط: الواو، والضمير.
الشرح: {وَيا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ} : على تبليغ الرسالة، فهو مدلول قوله:{إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ} .
{مالاً} : جعلا، وانظر شرح المال في الآية رقم [28] من سورة (الأنفال). {إِنْ أَجرِيَ إِلاّ عَلَى اللهِ}: لا أطلب منكم أجرا، وإنما أطلب ثوابي من الله تعالى، {وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا}:
وذلك: أنهم طلبوا من نوح عليه السلام أن يطرد الذين آمنوا، وهم الأرذلون في زعمهم، وهذا كما طلبت قريش من النبي صلى الله عليه وسلم أن يطرد الفقراء من مجلسه، انظر الآية رقم [52] من سورة (الأنعام).
{إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ} أي: يوم القيامة، فيخاصمون طاردهم عنده، أو إنهم يلاقونه يوم القيامة، فيفوزون بقربه، وجوده، وإحسانه، فكيف أطردهم؟! {وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ} أي: عظمة الله وقدرته ووحدانيته، وقيل: المعنى: إنكم تجهلون: أن هؤلاء الضعفاء خير منكم عند الله تعالى.
هذا؛ والجهل: هو السفه، والطيش، والحمق. والجاهل: هو الذي يجهل ما يتعلق به من المكروه، والمضرة. وعن بعض السلف: كل من عصى الله فهو جاهل، ومن حق الحكيم العاقل أن لا يقدم على شيء؛ حتى يعلم كيفيته وحاله، ولا يشتري الحلم بالجهل، ولا الأناة بالطيش، ولا الرفق بالخرق، كما قال أبو ذؤيب الهذلي:[الطويل]
فإن تزعميني كنت أجهل فيكمو
…
فإنّي شريت الحلم بعدك بالجهل
وإن لم يكن كذلك؛ يصدق عليه: أنه من أكبر الجهال، والحمار أفضل منه، كما قال الشاعر:[الكامل]
فضل الحمار على الجهول بخلّة
…
معروفة عند الّذي يدريها
إنّ الحمار إذا توهّم لم يسر
…
وتعاود الجهّال ما يؤذيها
هذا؛ «وآمن» أصله: أأمن بهمزتين، قلبت الثانية مدّا مجانسا لحركة الأولى، كما قلبت في مصدره إيمان، فإن أصله إئمان، فقلبت الثانية مدا مجانسا لحركة الأولى، وهي الكسرة، وكما قلبت في مضارعه (أومن)، فإن أصله أؤمن، فقلبت الثانية مدا مجانسا لحركة الأولى، وهي الضمة.
الإعراب: {وَيا قَوْمِ} : انظر الآية السابقة. {لا} : نافية. {أَسْئَلُكُمْ} : مضارع، والفاعل مستتر تقديره:«أنا» ، والكاف مفعول به أول. {عَلَيْهِ}: متعلقان بالفعل قبلهما. {مالاً} : مفعول به ثان. {إِنْ} : حرف نفي. {أَجرِيَ} : مبتدأ مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم
…
إلخ، والياء في محل جر بالإضافة. {مالاً}: حرف حصر. {عَلَى اللهِ} : متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ، والجملة الاسمية تعليل للنفي. {وَما}: الواو: حرف عطف. (ما):
نافية حجازية تعمل عمل «ليس» . {أَنَا} : ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع اسم (ما). {بِطارِدِ} : الباء: حرف جر صلة. (طارد): خبر ما منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على آخره، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد، هذا؛ وإن اعتبرت (ما) مهملة، فتكون الباء زائدة في خبر المبتدأ {أَنَا،} و (طارد) مضاف، و {الَّذِينَ} مبني على الفتح في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه، وجملة:{آمَنُوا} مع المتعلق المحذوف صلة الموصول، وجملة:{وَما أَنَا..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، فهي تعليل للنفي مثلها. {إِنَّهُمْ}: حرف مشبه بالفعل، والهاء اسمها. {مُلاقُوا}: خبر (إن) مرفوع، وعلامة رفعه الواو، نيابة عن الضمة؛ لأنه جمع مذكر سالم، وحذفت النون للإضافة، و {مُلاقُوا}: مضاف، و {رَبِّهِمْ}: مضاف إليه، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه والجملة الاسمية:{إِنَّهُمْ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها. {وَلكِنِّي} : الواو: حرف عطف.
(لكني): حرف مشبه بالفعل، وياء المتكلم اسمه. {أَراكُمْ}: مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة
مقدرة على الألف للتعذر، وفاعله مستتر تقديره:«أنا» ، والكاف مفعول به أول. {قَوْماً}:
مفعول به ثان، وجملة:{تَجْهَلُونَ} في محل نصب صفة: {قَوْماً،} وجملة: {أَراكُمْ..} . إلخ في محل رفع خبر (لكن)، والجملة الاسمية (لكني
…
) إلخ معطوفة على ما قبلها، ولعلك تدرك معي: أن الآية برمتها معطوفة على ما قبلها، وهي في محل نصب مقول القول أيضا.
{وَيا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (30)}
الشرح: {مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللهِ} أي: من عقابه، ومن انتقامه. {إِنْ طَرَدْتُهُمْ} أي: استجابة لطلبكم، وهم مؤمنون بربهم معترفون بربوبيته. {أَفَلا تَذَكَّرُونَ} انظر الآية رقم [24].
الإعراب: {وَيا قَوْمِ} : انظر الآية رقم [28]{مَنْ} : اسم استفهام مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {يَنْصُرُنِي} : مضارع، والفاعل يعود إلى {مَنْ،} تقديره: «هو» ، والنون للوقاية، وياء المتكلم مفعول به. {مِنَ اللهِ}: متعلقان بالفعل قبلهما، وجملة:{يَنْصُرُنِي مِنَ اللهِ} في محل رفع خبر المبتدأ. {إِنْ} : حرف شرط جازم. {طَرَدْتُهُمْ} : فعل وفاعل ومفعول به، وانظر إعراب:{أَرْسَلْنا} في الآية رقم [25]، والجملة الفعلية لا محل لها مثل جملة:{كُنْتُ..} .
إلخ في الآية رقم [28] وجواب الشرط محذوف لدلالة ما قبله عليه، التقدير: إن طردتهم؛ فمن ينصرني {أَفَلا تَذَكَّرُونَ} انظر إعراب هذه الجملة في الآية رقم [24]، والآية برمتها معطوفة على ما قبلها، وهي من مقول نوح، عليه الصلاة، والسّلام.
الشرح: {وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ} أي: خزائن رزقه، وإنعامه، وإفضاله، وهذا رد لقولهم:{وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ} في الآية رقم [27]{وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ} أي: لا أدعي علم ما يغيب عني مما يسرون في نفوسهم؛ لأنه لا يعلم ذلك إلا الله تعالى. {وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ} :
وهذا رد لقولهم: {ما نَراكَ إِلاّ بَشَراً مِثْلَنا} . {وَلا أَقُولُ..} . إلخ: ولا أقول في شأن الذين احتقرتموهم لفقرهم وضعفهم: لا يؤتيكم الله أجرا وثوابا، بل إني أقول: إن ما أعده الله لهم في الآخرة خير مما آتاكموه في الدنيا. {اللهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ} أي: من الخير والشر، فيجازيهم عليه ما يستحقون. {إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظّالِمِينَ} أي: إن طردتهم مكذبا لظاهرهم، ومبطلا لإيمانهم؛ فأكون ظالما لهم، ومعاذ الله أن أفعله!.
{تَزْدَرِي} : تحتقر، والازدراء: التحقير، وانظر شرح الظلم في الآية رقم [23] من سورة (يونس) هذا؛ و {أَعْيُنُكُمْ} جمع: عين، وتجمع على عيون، وأعيان أيضا، وأعيان غير مشهور، وقليل الاستعمال، و (أعين) جمع قلة، وغيره جمع كثرة، والمراد بها هنا: العين الباصرة، وتطلق على الجاسوس، كما في قولك: بث الأمير عيونه في المدينة، أي: جواسيسه، كما تطلق على ذات الشخص، كما في قولك: جاء محمود عينه، وعين الشيء: خياره، وتطلق على النقد من ذهب وغيره، وإليك قول الشاعر:[البسيط]
واستخدموا العين منّي، وهي جارية
…
وقد سمحت بها أيّام وصلهمو
فالمراد بالعين ذاته، والمراد بجارية عينه التي تجري بالدمع، والمراد بقوله:(بها) نقد الذهب، وهذا يسمى استخداما في فن البديع، كما تطلق على الماء الجاري النابع من الأرض، وتطلق على المطر الهاطل من السحاب، قال عنترة:[الكامل]
جادت عليه كلّ عين ثرّة
…
فتركن كلّ حديقة كالدّرهم
هذا؛ وأعيان القوم أشرافهم، وبنو الأعيان: الإخوة من الأبوين، وانظر شرح (النفس) في الآية رقم [53] من سورة (يوسف) عليه السلام، ففيها بحث طويل، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.
الإعراب: {وَلا} : الواو: حرف عطف. (لا): نافية. {أَقُولُ} : مضارع، وفاعله مستتر فيه وجوبا تقديره:«أنا» . {لَكُمْ} : متعلقان بالفعل قبلهما. {عِنْدِي} : ظرف مكان منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم
…
إلخ، متعلق بمحذوف خبر مقدم، والياء في محل جر بالإضافة. {خَزائِنُ}: مبتدأ مؤخر، وهو مضاف، و {اللهِ}: مضاف إليه، والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول. {وَلا}: الواو: حرف عطف. (لا): نافية، وجملة:{وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ} معطوفة على ما قبلها، والجملة الاسمية:{إِنِّي مَلَكٌ} في محل نصب مقول القول، وجملة:{وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ} معطوفة على ما قبلها. {لِلَّذِينَ} :
متعلقان بالفعل: {أَقُولُ} . {تَزْدَرِي} : مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل. {أَعْيُنُكُمْ}: فاعل، والكاف في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية صلة الموصول لا محل لها، والعائد محذوف؛ إذ التقدير: تزدريه أعينكم. {لَنْ} : حرف نفي ونصب واستقبال. {يُؤْتِيَهُمُ} : مضارع منصوب ب {لَنْ،} والهاء مفعول به أول. {اللهِ} : فاعله.
{خَيْراً} : مفعول به ثان، وجملة:{لَنْ يُؤْتِيَهُمُ..} . إلخ في محل نصب مقول القول. {اللهُ أَعْلَمُ} : مبتدأ وخبر. {بِما} : متعلقان ب {أَعْلَمُ؛} لأنه أفعل تفضيل أو هو بمعنى: (عالم)، ولا يكون التفضيل مرادا. {فِي أَنْفُسِهِمْ}: متعلقان بمحذوف صلة الموصول (ما) والهاء في محل جر بالإضافة، والجملة الاسمية مستأنفة. {إِنِّي}: حرف مشبه بالفعل، والياء اسمها.
{إِذاً} : حرف جواب وجزاء. {لَمِنَ} : اللام: هي المزحلقة. {لَمِنَ الظّالِمِينَ} : جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر (إنّ). والجملة الاسمية: {إِنِّي..} . إلخ مستأنفة أيضا، هذا؛ وإن الآية بكاملها معطوفة على ما قبلها، وعند التأمل يتبين لك أنها في محل نصب مقول القول؛ إذ هي من مقول نوح على نبينا، وعليه ألف صلاة وأزكى سلام.
الشرح: {قالُوا} أي: قال قوم نوح لنوح عليه السلام. {قَدْ جادَلْتَنا} : خاصمتنا.
{فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا} أي: أكثرت خصومتنا وبالغت فيها، والجدل: المبالغة في الخصومة، مشتق من الجدل، وهو الفتل، ويقال للصقر: أجدل لشدته في الطير، وقرئ:«(جدلنا)» والجدل في الدين محمود؛ ولهذا جادل نوح والأنبياء أقوامهم حتى يظهر الحق، فمن قبله؛ نجح وأفلح، ومن رده؛ خاب وخسر، وأما الجدال لغير الحق حتى يظهر الباطل في صورة الحق فمذموم، وصاحبه في الدارين ملوم، وقد يسمى الجدال: مماراة كما في الآية رقم [22] من سورة (الكهف). {فَأْتِنا بِما تَعِدُنا} : به من العذاب. {إِنْ كُنْتَ مِنَ الصّادِقِينَ} أي: في دعواك أنك رسول من الله إلينا، وفي وعيدك لنا بالعذاب أيضا، فإن جدالك لا يؤثر فينا.
هذا؛ و (تعد)، أصله (توعد) فحذفت الواو؛ لوقوعها بين عدوتيها، وهما الياء والكسرة في مضارع الغائب (يعد) وتحذف من مضارع المتكلم والمخاطب قياسا عليه، والمصدر:(وعدا)، وماضيه:(وعد)، وقد تحذف الواو من المصدر، ويعوض عنها تاء في الآخر، فيصير (عدة).
الإعراب: {قالُوا} : فعل وفاعل، والألف للتفريق، وانظر إعراب:{صَبَرُوا} في الآية رقم [11](يا): حرف نداء ينوب منا أدعو. (نوح): منادى مفرد علم مبني على الضم في محل نصب ب (يا). {قَدْ} : حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال. {جادَلْتَنا} : فعل وفاعل ومفعول به، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول كالجملة الندائية قبلها. (أكثرت): فعل وفاعل.
{جِدالَنا} : مفعول به، و (نا): في محل جر بالإضافة، من إضافة المصدر لمفعوله، وفاعله محذوف، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، فهي مثلها في محل نصب مقول القول.
{فَأْتِنا} : الفاء: هي الفصيحة، وانظر الآية رقم [17] (آتنا): أمر مبني على حذف حرف العلة، من آخره، وهو الياء، والكسرة قبلها دليل عليها، والفاعل مستتر تقديره:«أنت» ، ونا: في محل نصب مفعول به. {بِما} : متعلقان بالفعل قبلهما، و (ما): تحتمل الموصولة، والموصوفة، فهي مبنية على السكون في محل جر بالباء. {تَعِدُنا}: مضارع، والفاعل مستتر تقديره:«أنت» ، و (نا): مفعول به، والجملة الفعلية صلة (ما)، أو صفتها، والعائد أو الرابط: محذوف؛ إذ
التقدير: بالذي، أو بشيء تعدنا به، وأجيز اعتبار (ما) مصدرية فيكون التقدير: بوعدك إيانا، وجملة: (ائتنا
…
) إلخ لا محل لها؛ لأنها جواب شرط غير جازم، التقدير: وإذا كان ذلك لا يفيدك شيئا، {فَأْتِنا..} . إلخ، والشرط ومدخوله في محل نصب مقول القول أيضا. {إِنْ كُنْتَ مِنَ الصّادِقِينَ} انظر إعراب مثل هذه الجملة في الآية رقم [28] وجواب الشرط محذوف لدلالة ما قبله عليه، التقدير: إن كنت
…
فائتنا بما تعدنا، وهذا الكلام في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالُوا..} . إلخ مستأنفة لا محل لها.
{قالَ إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللهُ إِنْ شاءَ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (33)}
الشرح: {قالَ} أي: نوح. {إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللهُ} أي: بالعذاب، فإن أمره إلى الله، لا إليّ.
{إِنْ شاءَ} أي: شاء إهلاككم؛ عذبكم عاجلا، أو آجلا. {وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} أي: بفائتين من العذاب، أو بهاربين منه، أو ما أنتم بمعجزين الله تعالى بأن لا يقدر على تعذيبكم.
هذا؛ و {شاءَ} مضارعه يشاء، فلم يرد له أمر، ولا ل «أراد» فيما أعلم، فهما ناقصا التصرف، وأصل (شاء):(شيء) على فعل بكسر العين، بدليل قولك: شئت شيئا، وقد قلبت الياء ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها، وقد كثر حذف مفعوله، وحذف مفعول:(أراد) حتى لا يكاد ينطق به إلا في الشيء المستغرب، مثل قوله تعالى:{لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنّا} وقال الشاعر الخريمي: [الطويل]
فلو شئت أن أبكي دما لبكيته
…
عليه، ولكن ساحة الصّبر أوسع
وقيد بعضهم حذف مفعول هذين الفعلين بعد (لو)، وليس كذلك، وانظر الإرادة في الآية رقم [118] الآتية.
الإعراب: {قالَ} : ماض، والفاعل يعود إلى (نوح). {إِنَّما}: كافة ومكفوفة. {يَأْتِيكُمْ} :
مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل، والكاف مفعول به. {بِهِ}: متعلقان بالفعل قبلهما. {اللهُ} : فاعله، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالَ..} .
إلخ مستأنفة لا محل لها. {إِنْ} : حرف شرط جازم. {شاءَ} : ماض مبني على الفتح في محل جزم فعل الشرط، والفاعل يعود إلى {اللهُ،} والمفعول محذوف، انظر الشرح، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية وجواب الشرط محذوف، التقدير: إن شاء إهلاككم؛ فهو يأتيكم بالعذاب {وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} انظر إعراب هذه الجملة في الآية رقم [53] من سورة (يونس) وهي هنا في محل نصب حال من كاف الخطاب، والرابط: الواو، والضمير، و {إِنْ} ومدخولها كلام معترض بين الحال وصاحبه. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم.
الشرح: {وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ} أي: ولا ينفعكم إنذاري، وتخويفي إياكم عقوبته، ونزول العذاب بكم؛ لأنكم لا تقبلون نصحا. {إِنْ كانَ اللهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ} أي:
أن يضلكم. قال القرطبي-رحمه الله تعالى-وهذا مما يدل على بطلان مذهب المعتزلة والقدرية ومن وافقهما؛ إذ زعموا أن الله تعالى لا يريد أن يعصي العاصي، ولا يكفر الكافر، ولا يغوي الغاوي، وأنه يفعل ذلك، والله لا يريد ذلك، وأضاف نوح عليه السلام إغواءهم إلى الله سبحانه وتعالى؛ إذ هو المضل الهادي، سبحانه وتعالى عما يقول الجاحدون، والظالمون علوا كبيرا. انتهى. بتصرف كبير. هذا؛ وقد تقدم في الآية رقم [88] من سورة (النساء) وغيرها أن ذلك مبني على علم الله الأزلي: أنهم لو تركوا وشأنهم؛ لما اختاروا غير الكفر، ولذا قدره الله عليهم، وأراده لهم، وانظر الآية رقم [29] من سورة (الرعد)، وانظر الآية رقم [17] من سورة (الفرقان)؛ تجد ما يسرك.. {هُوَ رَبُّكُمْ}: خالقكم، والمتصرف فيكم وفق إرادته ومشيئته.
{وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} : فيجازيكم على أعمالكم يوم القيامة، ففيه تهديد، ووعيد، وانظر (رجع) في الآية رقم [83] من سورة (التوبة)، و {أَنْصَحَ} مثل (أشكر) في الآية رقم [60] من سورة (يونس).
تنبيه: في الآية الكريمة شرطان، وجواب واحد، وفي ذلك قولان: أحدهما: أن جواب الأول سبقه ما هو جواب في المعنى، فإن التقدير: إن أردت أن أنصح لكم؛ فلا ينفعكم نصحي، والثاني: أن الشرط الثاني وجوابه جواب للأول، وخذ ما قاله أبو البقاء رحمه الله تعالى: حكم الشرط إذا دخل على الشرط أن يكون الشرط الثاني، والجواب جوابا للشرط الأول، كقولك: إن أتيتني، إن كلمتني أكرمتك، فقولك: إن كلمتني أكرمتك جواب: إن أتيتني، وإذا كان كذلك صار الشرط الأول في الذكر مؤخرا في المعنى، حتى لو أتاه، ثم كلمه؛ لم يجب الإكرام، ولكن إن كلمه، ثم أتاه؛ وجب إكرامه، وعلة ذلك: أن الجواب صار معوقا بالشرط الثاني، وقد جاء في القرآن منه قوله تعالى:{إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها..} . إلخ الآية رقم [50] من سورة (الأحزاب). انتهى. هذا؛ ومثل الآية الكريمة قول الشاعر، وهو الشاهد [1041] من كتابنا:«فتح القريب المجيب» : [البسيط]
إن تستغيثوا بنا إن تذعروا تجدوا
…
منّا معاقل عزّ زانها كرم
وأضيف ما قاله سليمان الجمل-رحمه الله تعالى-وإن زاد على شرطين (أي: حكمه حكم الشرطين) وعلى هذا يترتب الحكم، مثاله: أن يقول لعبده: إن كلمت زيدا، إن دخلت الدار، إن أكلت الخبز، فأنت حرّ، فجواب الشرط الثالث أنت حر، والثالث وجوابه جواب للثاني،
والثاني وجوابه جواب للأول، فإن كلم، ثم دخل، ثم أكل؛ لم يعتق، لكن إن أكل، ثم دخل، ثم كلم عتق؛ لما ذكر. انتهى.
الإعراب: {وَلا} : الواو: حرف عطف. (لا): نافية. {يَنْفَعُكُمْ} : مضارع، والكاف مفعول به. {نُصْحِي}: فاعل مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم
…
إلخ، والياء في محل جر بالإضافة، من إضافة المصدر لفاعله. {إِنْ}: حرف شرط جازم. {أَرَدْتُ} : فعل وفاعل، والمصدر المؤول من {أَنْ أَنْصَحَ} في محل نصب مفعول به. {لَكُمْ}: متعلقان بالفعل قبلهما، وجملة:{أَرَدْتُ..} . إلخ لا محل لها؛ لأنها ابتدائية
…
إلخ، {إِنْ}: حرف شرط جازم. {كانَ} : ماض مبني على الفتح في محل جزم فعل الشرط. {اللهُ} : اسمها. {يُرِيدُ} :
مضارع، والفاعل يعود إلى {اللهُ،} والمصدر المؤول من {أَنْ يُغْوِيَكُمْ} في محل نصب مفعول به، وجملة:{يُرِيدُ..} . إلخ في محل نصب خبر {كانَ،} وجملة: {كانَ..} . إلخ لا محل لها مثل سابقتها، وانظر ما ذكرته في التنبيه عن الجواب، وفحواه أن جملة:{وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي} سبقت الشرطين، وهي تدل على جواب أحدهما، بخلاف البيت الذي ذكرته، فإن تجدوا مذكور بعد الشرطين، وكذلك الأمثلة التي ذكرتها قد ذكر جواب بعد الشرطين، فإن اعتبرت الجملة الفعلية دلت على جواب الأول؛ فجواب الثاني محذوف اكتفاء بما دل عليه جواب الأول، وهو توجيه القول الأول، وإن اعتبرت الجملة الفعلية دالة على جواب الثاني؛ فجواب الأول محذوف اكتفاء بما دل عليه جواب الثاني، وهو توجيه القول الثاني. تأمل، وتدبر. {هُوَ رَبُّكُمْ}: مبتدأ وخبر، والكاف في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه، والجملة الاسمية مستأنفة، أو هي تعليلية لا محل لها على الاعتبارين. (إليه): متعلقان بالفعل بعدهما. {تُرْجَعُونَ} : مضارع مبني للمجهول مرفوع، والواو نائب فاعله، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها عطف جملة فعلية على جملة اسمية، هذا؛ والآية الكريمة كلها في محل نصب مقول القول؛ إذ هي من مقول نوح عليه السلام. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم.
الشرح: {أَمْ يَقُولُونَ} أي: كفار مكة؛ فعلى هذا تكون هذه الآية معترضة في أثناء قصة نوح عليه السلام؛ لأجل تنشيط السامع لسماع بقية القصة. انتهى. جلال وجمل معلقا عليه. وقال مقاتل: أي: يقول كفار قريش: اختلق محمد صلى الله عليه وسلم القرآن من قبل نفسه، وما أخبر به عن نوح وقومه. انتهى. قرطبي بتصرف كبير. وقال ابن عباس-رضي الله عنهما: هو من محاورة نوح لقومه، وهو أظهر؛ لأنه ليس قبله ولا بعده إلا ذكر نوح وقومه، فالخطاب منهم
ولهم. {قُلْ} : الخطاب للنبي، أو لنوح عليهما، وعلى جميع الأنبياء والمرسلين ألف صلاة وأزكى سلام. {إِنِ افْتَرَيْتُهُ} أي: اختلقته وافتعلته؛ يعني: الوحي والرسالة. {فَعَلَيَّ إِجْرامِي} أي: عقاب إجرامي وإثمه، وإن كنت محقّا فيما أقوله، فعليكم عقاب تكذيبي، والإجرام:
مصدر أجرم، وهو اقتراف السيئة، يقال: أجرم وجرم بمعنى أنه اكتسب الذنب، وافتعله، قال الهيردان أجد لصوص بني سعد:[الوافر]
طريد عشيرة، ورهين جرم
…
بما جرمت يدي، وجنى لساني
ومن قرأ: «(أجرامي)» بفتح الهمزة ذهب إلى أنه جمع جرم. {وَأَنَا بَرِيءٌ مِمّا تُجْرِمُونَ} أي:
بريء من كفركم وتكذيبكم، ومعنى الآية: فأنتم لا تسألون عن عملي، وأنتم بريئون منه، وأنا بريء من عملكم، ولا أسأل عما تعملون، وما أشبه معنى هذه الآية بالآية رقم [41] من سورة (يونس)، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.
الإعراب: {أَمْ} : حرف عطف بمعنى (بل). {يَقُولُونَ} : مضارع مرفوع
…
إلخ، والواو فاعله. {اِفْتَراهُ}: ماض مبني على فتح مقدر على الألف للتعذر، والفاعل مستتر تقديره:«هو» يعود إلى النبي صلى الله عليه وسلم، أو إلى نوح عليه السلام، والهاء مفعوله، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول، وجملة:{يَقُولُونَ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، أو هي معترضة كما رأيت، ولا محل لها على الاعتبارين. {قُلْ}: أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» . {إِنِ} : حرف شرط جازم. {اِفْتَرَيْتُهُ} : فعل وفاعل ومفعول به، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي. {فَعَلَيَّ} : الفاء: واقعة في جواب الشرط. (عليّ): جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {إِجْرامِي} : مبتدأ مؤخر مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم، منع من ظهورها اشتغال المحل بالحركة المناسبة، والياء في محل جر بالإضافة، من إضافة المصدر لفاعله على اعتباره مصدرا، والجملة الاسمية في محل جزم جواب الشرط عند الجمهور، والدسوقي يقول: لا محل لها؛ لأنها لم تحل محل المفرد، و (إن) ومدخولها في محل نصب مقول القول، وجملة:{قُلْ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها. (أنا):
ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {بَرِيءٌ} : خبره. {مِمّا} : متعلقان ب {بَرِيءٌ؛} لأنه صفة مشبهة، وما: تحتمل الموصولة، والموصوفة، والمصدرية، فعلى الأولين مبنية على السكون في محل جر ب (من)، والجملة الفعلية بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد أو الرابط: محذوف؛ إذ التقدير: من الذي أو من شيء تجرمونه، وعلى اعتبار (ما) مصدرية تؤول مع الفعل بعدها بمصدر في محل جر ب (من)، التقدير: من إجرامكم، والجار والمجرور متعلقان ب {بَرِيءٌ،} والجملة الاسمية: {وَأَنَا بَرِيءٌ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، فهي في محل جزم مثلها.
الشرح: {وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ} : وهذا بعد أن عذبوه بأنواع العذاب، واضطهدوه، يروى: أن رجلا من قومه حمل ابنه على كتفه، فلما رأى الصبي نوحا عليه السلام، قال لأبيه: أعطني حجرا، فأعطاه حجرا، ورمى به نوحا، فأدماه، فأوحى الله تعالى إليه:{أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ..} . إلخ وكان كلما تمادوا في المعصية، واشتد عليه منهم البلاء؛ صبر على إيذائهم، وكان ينتظر الجيل من قومه بعد الجيل، فلا يأتي قرن إلا كان أنحس من الذي قبله، ولقد كان القرن الآخر منهم يأتي، فيقول: قد كان هذا الشيخ مع آبائنا وأجدادنا هكذا مجنونا، فلا يقبلون منه شيئا، فشكا نوح عليه السلام إلى الله، فقال:{رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهاراً..} . إلخ الآيات من سورة نوح هذا؛ والوحي: الإشارة، والكتابة، والرسالة، والإلهام، والكلام الخفي، وكل ما ألقيته إلى غيرك، والوحي الكتاب المنزل على الرسول المرسل لقومه، مثل: موسى، وعيسى، ومحمد صلى الله عليه وسلم أجمعين وسلم تسليما كثيرا. {فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ} أي: فلا تغتمّ بسوء صنيعهم، فإنهم هالكون. والبؤس: الحزن، ومنه قول الشاعر:[الطويل]
وكم من خليل، أو حميم رزئته
…
فلم أبتئس، والرّزء فيه جليل
يقال: ابتأس الرجل: إذا بلغه شيء يكرهه، والابتئاس حزن في استكانة.
الإعراب: {وَأُوحِيَ} : الواو: حرف عطف. (أوحي): ماض مبني للمجهول. {إِلى نُوحٍ} :
متعلقان بالفعل قبلهما. {أَنَّهُ} : حرف مشبه بالفعل، والهاء اسمه. {لَنْ}: حرف ناصب.
{يُؤْمِنَ} : مضارع منصوب ب {لَنْ} . {مِنْ قَوْمِكَ} : متعلقان بالفعل قبلهما، والكاف في محل جر بالإضافة. {إِلاّ}: حرف حصر. {يُؤْمِنَ} : اسم موصول مبني على السكون في محل رفع فاعل:
{يُؤْمِنَ،} وجملة: {قَدْ آمَنَ} صلة الموصول لا محل لها، والعائد رجوع الفاعل إليه، و (أنّ) واسمها وخبرها في تأويل مصدر في محل رفع نائب فاعل (أوحي)، هذا؛ وقرئ بكسر همزة «(إنه)» وفيه وجهان: أحدهما: وهو قول البصريين: أنه على إضمار القول، والثاني وهو قول الكوفيين أنه على إجراء الإيحاء مجرى القول. انتهى. سمين. وعليه فنائب الفاعل هو متعلق {إِلى نُوحٍ} كما قرئ «(أَوْحَى)» بالبناء للمعلوم، فيكون الفاعل عائدا، إلى الله، والمصدر المؤول من {أَنَّهُ..} . إلخ في محل جر بحرف جر محذوف، التقدير: بأنه، وعلى قراءة «(إنه)» بالكسر يجري فيه الوجهان المذكوران عن البصريين، والكوفيين، وجملة (أوحي
…
) إلخ معطوفة على ما قبلها، أو مستأنفة لا محل لها. {فَلا} الفاء: هي الفصيحة، وانظر الآية رقم [17] (لا): ناهية. {تَبْتَئِسْ} : مضارع مجزوم ب (لا) الناهية، والفاعل مستتر تقديره:«أنت» ، هذا؛ وإعراب:{بِما كانُوا يَفْعَلُونَ} مثل
إعراب: {بِما تَعِدُنا} في الآية رقم [32] وقد مر معنا كثير مثلها، وجملة:{فَلا تَبْتَئِسْ..} . إلخ لا محل لها؛ لأنها جواب شرط غير جازم، التقدير: وإذا علمت: أنه لن يؤمن من قومك
فلا تبتئس
…
إلخ، و (إذا) المقدرة ومدخولها كلام مستأنف لا محل له.
الشرح: {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا} : والخطاب لنوح عليه السلام، أي: اعمل السفينة التي ستنجو فيها أنت، ومن آمن معك، وإنك بحفظنا، ورعايتنا، وحراستنا، وبمرأى منا وحيث نراك، فعبر عن الرؤية بالأعين؛ لأن الرؤية تكون بها، كما عبر عن القدرة باليد في قوله تعالى:
{يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} لأنها آلة القدرة، وهذا؛ ونحوه من الألفاظ التي يجب تأويلها بما يتناسب معها، فإنها من المتشابهات التي توهم خلاف ما ينبغي بحقه تعالى من حدوث وغيره، وجمع «الأعين» للتعظيم لا للتكثير، وانظر (نا) في الآية رقم [8] {وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا}:
ولا تراجعني فيهم، ولا تدعني باستدفاع العذاب عنهم. {إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ} أي: محكوم عليهم بالغرق في قديم الأزل، فلا سبيل إلى دفعه عنهم.
هذا؛ و {الْفُلْكَ} بضم الفاء وسكون اللام: هي السفينة التي استقلها نوح عليه السلام بمن آمن معه، وهي أول سفينة وجدت في الدنيا، ومن تصميمها وشكلها أخذت البشرية تصنع السفن، وتتطور جيلا بعد جيل، حتى وصلت إلى ما وصلت إليه في العصر الحاضر، هذا؛ والفلك يطلق على المفرد والجمع، وعلى المؤنث والمذكر، قال تعالى:{فَأَنْجَيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} فأفرد وذكر، وقال تعالى:{وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النّاسَ} فأنث، ويحتمل الإفراد والجمع، وقال جل شأنه:{حَتّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ} فجمع، وكأنه يذهب بها إذا كانت واحدة إلى المركب، فتذكّر وإلى السفينة فتؤنث، وقد ألغز الشاعر فيها فقال:[الطويل]
مكسّحة تجري، ومكفوفة ترى
…
وفي بطنها حمل على ظهرها يعلو
فإن عطشت عاشت، وعاش جنينها
…
وإن شربت ماتت، وفارقها الحمل
هذا؛ و (الفلك) بفتحتين: مدار النجوم، ويجمع على «فلك» بضم الفاء وسكون اللام وضمها أيضا وعلى «أفلاك» ، والفلك من كل شيء مستداره ومعظمه، والفلكي منسوب إلى علم الفلك، وانظر شرح (العين) في الآية رقم [31] و {ظَلَمُوا} أي: أنفسهم بالكفر، ومخالفة الواحد القهار، وانظر الظلم في الآية رقم [23] من سورة (يونس).
الإعراب: {وَاصْنَعِ} : (اصنع): أمر، وفاعله تقديره:«أنت» . {الْفُلْكَ} : مفعول به.
{بِأَعْيُنِنا} : متعلقان بمحذوف حال من {الْفُلْكَ} أي: مصنوعا بأعيننا، أو من الفاعل المستتر، التقدير: محفوظا برعايتنا
…
إلخ، و (نا): في محل جر بالإضافة. (وحينا): معطوف على ما
قبله، و (نا): في محل جر بالإضافة. من إضافة المصدر لفاعله، والجملة الفعلية (اصنع
…
) إلخ معطوفة على جملة: {فَلا تَبْتَئِسْ..} . إلخ لا محل لها مثلها. (لا): ناهية. {تُخاطِبْنِي} :
مضارع مجزوم ب (لا) الناهية والفاعل تقديره: «أنت» ، والنون للوقاية، وياء المتكلم مفعول به، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها. {فِي الَّذِينَ}: متعلقان بالفعل قبلهما، وجملة:{ظَلَمُوا} مع المفعول المحذوف صلة الموصول. {إِنَّهُمْ} : حرف مشبه بالفعل، والهاء اسمها. {مُغْرَقُونَ}: خبرها مرفوع، وعلامة رفعه الواو؛ لأنه جمع مذكر سالم
…
إلخ، ونائب فاعله مستتر تقديره:«أنتم» ، والجملة الاسمية:{إِنَّهُمْ..} . إلخ تعليل للنهي لا محل لها. هذا؛ وأكدت الجملة الاسمية بإن؛ لأن الكلام يشير إلى أن سائلا يسأل عن سبب النهي المتقدم، فجيء بإن المؤكدة، وهذا النوع من أنواع الخبر يسمى طلبيا، وهو من مباحث علم المعاني.
الشرح: {وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ} : حكاية حال ماضية، فالمضارع بمعنى الماضي، أي: وصنع نوح-عليه السلام-سفينته كما أمره ربه. قال أهل السير، والأخبار: لما أمر الله نوحا بصنع السفينة، فقال: كيف أصنعها، ولست نجارا، فأوحى إليه أن اصنعها، فإنك بأعيننا، فأخذ القدوم، وجعل ينجر، ولا يخطئ، فصنعها مثل جؤجؤ الطير، ولا ريب أن جبريل عليه السلام هو المهندس لهذا الصنع، فجعل يقطع الأخشاب من البرية، ولهى عن قومه، ويضرب الحديد، ويهيئ القار، وكل ما يحتاج إليه في عمل السفينة، فصار قومه يمرون به، وهو في عمله، فيسخرون منه، ويقولون: يا نوح! قد صرت نجارا بعد النبوة؟! وأعقم الله أرحام النساء، قبل الغرق بأربعين سنة، فلم يولد لهن ولد.
وقد اختلفوا في المدة التي تم بها صنع السفينة، فعن ابن عباس-رضي الله عنهما، قال:
اتخذ نوح السفينة في سنتين. وقال كعب: بناها في ثلاثين سنة، وقيل: غير ذلك، والله أعلم.
كما اختلفوا في طولها وعرضها، فعن ابن عباس-رضي الله عنهما: كان طولها ثلاثمائة ذراع، وعرضها خمسين، وسمكها ثلاثين ذراعا، وكانت من خشب الساج، وقيل: غير ذلك، وجعل لها ثلاثة بطون، فجعل في البطن الأسفل الوحوش، والسباع، والهوام، وفي البطن الأوسط الدواب، والأنعام، وركب هو ومن معه في البطن الأعلى، وجعل معه ما يحتاج إليه من الزاد وغيره. انتهى. خازن وقرطبي.
روي عن عمرو بن الحارث قال: عمل نوح السفينة ببقاع دمشق، وقطع خشبها من جبل لبنان، وقيل: جاءت الحية، والعقرب لدخول السفينة، فقال نوح عليه السلام: لا أحملكما؛
لأنكما سبب البلاء والضرر، فقالتا: احملنا فنحن نضمن لك أن لا نضر أحدا ذكرك، فمن قرأ حين يخاف مضرتهما:{سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ} لم تضراه. ذكره القشيري وغيره، وذكر الحافظ ابن عساكر في التاريخ له مرفوعا من حديث أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قال حين يمسي: صلّى الله على نوح، وعلى نوح السّلام؛ لم تلدغه عقرب تلك الليلة» انتهى.
قرطبي. وذكر الخازن حكايات، هي من نوع الخرافات.
{وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ} أي: استهزءوا به لعمله السفينة، إما لأنهم كانوا لا يعرفونها، ولا كيفية استعمالها، والانتفاع بها، فتعجبوا من ذلك وسخروا منه، وإما لأنه كان يصنعها في برية في أبعد موضع من الماء، وكلما سألوه: يا نوح ما تصنع؟ قال: أبني بيتا يمشي على الماء، أو هو قولهم السابق: يا نوح قد صرت نجارا بعد النبوة؟!.
{قالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنّا فَإِنّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ..} . إلخ: المعنى: إن تستجهلونا في صنعنا، فإنا نستجهلكم لتعرضكم لما يوجب سخط الله وعذابه، وقوله {نَسْخَرُ مِنْكُمْ} سمى هذا الفعل سخرية على سبيل الازدواج في مشاكلة الكلام، وقد مر معنا مثل ذلك كثير، انظر الآية رقم [67] التوبة و [30] الأنفال وغيرهما، وانظر الكلام على الاستهزاء في الآية رقم [64] من سورة (التوبة).
الإعراب: {وَيَصْنَعُ} : الواو: حرف استئناف. (يصنع): مضارع، والفاعل يعود إلى نوح عليه السلام. {الْفُلْكَ}: مفعول به، والجملة الفعلية مستأنفة لا محل لها. {وَكُلَّما}: الواو:
واو الحال. (كلما): ظرفية متعلقة بجوابها، وكذلك كل موضع كان لها جواب، وهذا يعني:
أنها متضمنة معنى الشرط، وهذا هو المشهور؛ إذ هي تحتاج إلى جملتين مرتبطتين ببعضهما ارتباط فعل الشرط بجوابه، وتفصيل الإعراب:(كل): ظرف زمان. (ما): مصدرية توقيتية.
{مَرَّ} : ماض. {عَلَيْهِ} : متعلقان به. {مَلَأٌ} : فاعله. {مِنْ قَوْمِهِ} : متعلقان بمحذوف صفة:
{مَلَأٌ،} والهاء في محل جر بالإضافة، و (ما) والفعل {مَرَّ} في تأويل مصدر في محل جر بإضافة (كل) إليه، التقدير: كل وقت مرور الملأ عليه، وهذا التقدير، وهذه الإضافة هما اللذان سببا الظرفية ل (كل)، انظر مبحث (كلما) في كتابنا:«فتح القريب المجيب» ، وقيل:(ما) نكرة موصوفة، والجملة الفعلية بعدها صفة لها، وهي بمعنى وقت أيضا. {سَخِرُوا}: ماض، والواو فاعله، والألف للتفريق. {مِنْهُ}: متعلقان بالفعل قبلهما، وجملة:{سَخِرُوا مِنْهُ} جواب (كلما) لا محل لها، وقيل: الجواب جملة: {قالَ إِنْ..} . إلخ وجملة: {سَخِرُوا مِنْهُ} صفة:
{مَلَأٌ
…
،} أو هي بدل من جملة:{مَرَّ..} . إلخ وهو بعيد جدا؛ إذ ليس سخر نوعا من المرور، ولا هو هو، فكيف يبدل منه، وعليه فالمعتمد الأول، ومثله ما قيل في الآية رقم [37] من سورة (آل عمران)، و (كلما) ومدخولها في محل نصب حال من فاعل (يصنع) المستتر والرابط: الواو، والضمير المجرور بحرف الجر. {إِنْ}: حرف شرط جازم. {تَسْخَرُوا} : مضارع فعل الشرط
مجزوم، وعلامة جزمه حذف النون
…
إلخ، والواو فاعله، والألف للتفريق. {مِنّا}: متعلقان بالفعل قبلهما، وجملة:{تَسْخَرُوا مِنّا} لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي. {فَإِنّا} : الفاء واقعة في جواب الشرط. (إنا): حرف مشبه بالفعل، و «نا»: اسمه، وحذفت نونها، وبقيت ألفها، وجملة:{نَسْخَرُ مِنْكُمْ} في محل رفع خبر (إنّ)، والجملة الاسمية: (إنا
…
) إلخ في محل جزم جواب الشرط عند الجمهور، والدسوقي يقول: لا محل لها؛ لأنها لم تحل محل المفرد، و (إن) ومدخولها في محل نصب مقول القول، وجملة:
{قالَ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها على المعتمد. {كَما} الكاف: حرف تشبيه وجر. و (ما):
مصدرية. {تَسْخَرُونَ} : فعل وفاعل، والمتعلق محذوف، التقدير: كما تسخرون منا، و (ما) المصدرية والفعل بعدها في تأويل مصدر في محل جر بالكاف، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف صفة لمصدر محذوف، واقع مفعولا مطلقا، التقدير: فإنا نسخر منكم سخرية كائنة مثل سخريتكم بنا. تأمل، وتدبر، وربك أعلم.
{فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ (39)}
الشرح: {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} : تهديد ووعيد، والفعل يحتمل أن يكون من «العلم» ، وأن يكون من المعرفة. {مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ}: يذله، ويهينه، والمراد به: عذاب الدنيا. {وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ} : المراد به عذاب الآخرة؛ الذي لا ينقطع، وهو عذاب النار.
الإعراب: {فَسَوْفَ} : الفاء: حرف استئناف. (سوف): حرف استقبال. {تَعْلَمُونَ} :
مضارع مرفوع
…
إلخ، والواو: فاعله. {مَنْ} : اسم موصول مبني على السكون في محل نصب مفعول به أول إن كان الفعل من العلم، والثاني محذوف، واعتباره من المعرفة هنا أولى.
تأمل. و {مَنْ} تحتمل أن تكون استفهامية مبتدأ، التقدير: أينا يأتيه العذاب؟ وجملة: {يَأْتِيهِ عَذابٌ} صلة {مَنْ} على اعتبارها موصولة، وفي محل رفع خبرها على اعتبارها استفهامية مبتدأ؛ وعليه يكون الفعل {تَعْلَمُونَ} معلقا عن العمل، والجملة الاسمية في محل نصب سدت مسد مفعوله، أو مفعوليه حسب ما رأيت، وجملة:{يُخْزِيهِ} في محل رفع صفة عذاب، وجملة:
{وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ} معطوفة على ما قبلها، فهي في محل رفع مثلها. تأمل.
الشرح: {جاءَ أَمْرُنا} أي: بإهلاكهم وعذابهم. {وَفارَ التَّنُّورُ} : نبع الماء فيه وارتفع كالقدر تفور، والتنور: تنور الخبز، ابتدع منه الينبوع على خرق العادة، وكان في الكوفة في موضع
مسجدها، أو في الهند، وهو قول ضعيف، أو بعين وردة بأرض الجزيرة، وقيل: التنور: وجه الأرض جميعها، وقيل: أعاليها، وقيل: غير ذلك، والمعتمد الأول هذا؛ وما يقال: إنه عين التنور الموجودة قرب حمص؛ لم يقل به أحد من المفسرين، وكان فوران الماء منه إيذانا لنوح عليه السلام، ودليلا على هلاك قومه، قال أمية بن أبي الصلت:[الخفيف]
فار تنورهم، وجاش بماء
…
صار فوق الجبال حتّى علاها
قال القرطبي: والتنور أعجمي عربته العرب؛ لأن أصله: تنر، وليس في كلام العرب نون قبل راء، وانظر ما ذكرته في الآية رقم [2] و [23] من سورة (يوسف) تجد ما يسرك ويثلج صدرك. {قُلْنَا احْمِلْ فِيها} أي: في السفينة. {مِنْ كُلٍّ} أي: من كل نوع من الحيوانات المنتفع بها احمل اثنين. {زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ} : ذكر وأنثى، وذلك لبقاء أصل النسل بعد الطوفان، هذا؛ والزوج يطلق على الزوجة وحدها، وعلى الزوج وحده، وهو المراد هنا؛ أي: احمل من كل فردين متزاوجين اثنين لا يستغني أحدهما عن الآخر.
قال ابن عباس-رضي الله عنهما: أول ما حمل نوح الدّرّة، وآخر ما حمل الحمار. قال البغوي: وروى بعضهم أن الحية والعقرب أتيا نوحا عليه السلام، وقالا: احملنا معك، فقال:
إنكما سبب البلاء فلا أحملكما. فقالا: احملنا ونحن نضمن لك أن لا نضر أحدا ذكرك، فمن قرأ حين خاف مضرتهما:{سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ} لم يضراه، وهناك أقوال وروايات كثيرة ضربت عنها صفحا. هذا؛ ويذكر أن الله حشر لنوح السباع والطير وغيرهما. فجعل يضرب بيديه في كل نوع، فتقع يده اليمنى على الذكر، ويده اليسرى على الأنثى، فيحملهما في السفينة.
{وَأَهْلَكَ إِلاّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ} : المراد بأهلك: زوجته المؤمنة وأولاده المؤمنون، وهم:
سام، وحام، ويافث، وزوجاتهم. ومن سبق عليه القول في قديم الأزل بالهلاك وعدم الإيمان:
ابنه كنعان وأمه واعلة فإنها كانت كافرة كامرأة لوط. {وَمَنْ آمَنَ} أي: احمل المؤمنين من غير أهلك. {وَما آمَنَ مَعَهُ إِلاّ قَلِيلٌ} : قيل: كان المؤمنون معه تسعة وسبعين وزوجته وأولاده الثلاثة وزوجاتهم، واثنان وسبعون رجلا وامرأة من غيرهم، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.
هذا؛ وقال الحسن رحمه الله تعالى: لم يحمل نوح-على نبينا، وحبيبنا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام-في السفينة إلا ما يلد ويبيض، فأما البق، والذباب، والدود، فلم يحمل شيئا منها، وإنما خرج من الطين، هذا؛ وإنما جيء ب (علي) لأن السابق ضار، كما جيء باللام حيث كان نافعا في قوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى} الآية رقم [101] من سورة (الأنبياء).
والمراد بالقول هنا ما عبر عنه في قوله تعالى: {وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنّاسِ أَجْمَعِينَ} .
الإعراب: {حَتّى} : حرف ابتداء، ويعتبرها الأخفش جارة ل {إِذا،} وقد ردّه ابن هشام في المغني، وعلى قول الأخفش تحتمل أن تكون متعلقة بالفعل:(يصنع)، وهو ظاهر قول الزمخشري، وأن تكون متعلقة بمحذوف دل عليه السياق، التقدير: دام ذلك إلى مجيء أمرنا، أو وقت مجيئه بالعذاب والإهلاك. {إِذا}: ظرف مجرور ب {حَتّى} على قول الأخفش، وظرف لما يستقبل من الزمان، خافض لشرطه، منصوب بجوابه، صالح لغير ذلك مبني على السكون في محل نصب، وجملة:{جاءَ أَمْرُنا} في محل جر بإضافة {إِذا} إليها على القول المشهور المرجوح، وجملة:{وَفارَ التَّنُّورُ} معطوفة عليها. {قُلْنَا} : فعل وفاعل. {اِحْمِلْ} : أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» . {فِيها} : متعلقان بما قبلهما. {مِنْ كُلٍّ} : هنا قراءتان: يقرأ {كُلٍّ} بإضافة وبدون تنوين، وفيه وجهان: أحدهما: أن {اِثْنَيْنِ} مفعول به، وعليه فالجار والمجرور {مِنْ كُلٍّ} متعلقان بمحذوف حال من {اِثْنَيْنِ} كان صفة له، فلما قدم عليه صار حالا، والثاني أن {مِنْ} زائدة، و {كُلٍّ} مفعول به مجرور لفظا منصوب محلاّ، وعليه ف {اِثْنَيْنِ} توكيد، وهذا على قول الأخفش، والقراءة الثانية بتنوين {كُلٍّ،} ولا إضافة، وعليه فمفعول {اِحْمِلْ،} هو زوجين، و {اِثْنَيْنِ} توكيد له، والجار والمجرور:{مِنْ كُلٍّ} يحتمل تعليقهما ب {اِحْمِلْ،} ويحتمل بمحذوف حال من {زَوْجَيْنِ،} كان صفة له
…
إلخ، التقدير: احمل زوجين اثنين حالة كونهما من كل صنف من أصناف الحيوانات، ولا تنس أن القراءتين ترجعان إلى معنى واحد، معه آخر لا يستغنى عنه، وجملة:{اِحْمِلْ فِيها..} . إلخ في محل نصب مقول القول، والجملة الفعلية:{قُلْنَا..} . إلخ جواب {إِذا} لا محل لها هذا؛ وقال الكوفيون: جواب {إِذا} جملة: {وَفارَ التَّنُّورُ} والواو زائدة، وله نظائر كثيرة في كتاب الله تعالى وعليه فجملة:{قُلْنَا..} .
إلخ مستأنفة لا محل لها، والأول أقوى هنا؛ وإن كان الثاني يرجح في الآية رقم [103] من سورة (الصافات)، والآية رقم [73] من سورة (الزمر)، و {إِذا} ومدخولها كلام مستأنف لا محل له على اعتبار {حَتّى} ابتدائية. (أهلك): معطوف على مفعول {اِحْمِلْ} على القراءتين، والكاف في محل جر بالإضافة. {إِلاّ}: أداة استثناء. {مِنْ} : اسم موصول أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل نصب على الاستثناء. وجملة: {سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ} صلة: {مِنْ،} أو صفتها، والعائد أو الرابط: الضمير المجرور ب (على). (من): مثل سابقتها، فهي في محل نصب معطوفة على مفعول {اِحْمِلْ؛} إذ التقدير: واحمل الذي أو شخصا، وجملة:{آمَنَ} صلة (من)، أو صفتها والعائد أو الرابط رجوع الفاعل إليها. {وَما}: الواو: حرف استئناف. (ما): نافية.
{آمَنَ} : فعل ماض. {مَعَهُ} : ظرف مكان متعلق بالفعل قبله، والهاء في محل جر بالإضافة.
{إِلاّ} : حرف حصر. {قَلِيلٌ} : فاعل، وجملة:{وَما آمَنَ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها، واعتبارها حالا لا يجوز؛ لأنه لا يوجد صاحب حال.
{وَقالَ اِرْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللهِ مَجْراها وَمُرْساها إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (41)}
الشرح: {وَقالَ} أي: الله، أو نوح عليه السلام. {اِرْكَبُوا فِيها} أي: ادخلوها، وجعل ذلك ركوبا؛ لأنها في الماء كالمركوب في الأرض، والركوب: العلو على ظهر الشيء، ويقال:
(ركبه الدين) على طريق الاستعارة التصريحية. {مَجْراها وَمُرْساها} : يقرءان بفتح الميم على أنهما اسما زمان، أو مكان، أو هما مصدران، ويقرءان بالفتح الخالص وبالإمالة كما يقرءان بضم الميم والكسر الخالص على أنهما اسما فاعل. {إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ} أي: لمن أذنب، و {رَحِيمٌ} بعباده التائبين، فهما صيغتا مبالغة.
بعد هذا فاسم: قد اختلف العلماء في اشتقاقه؛ انظر البسملة في أول سورة (يوسف)، عليه وعلى نبينا، ألف صلاة، وألف سلام.
ولعلك تدرك معي أيها القارئ الكريم: أن نوحا عليه السلام لم ينطق بالرحمن الرحيم لتفهم: أن البسملة بكاملها إنما هي من خصائص أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وهناك أحاديث شريفة كثيرة تحث على ابتداء كل عمل بالبسملة الشريفة، وتبين فضلها وشرفها وما لقائلها من ثواب عظيم وأجر كبير، وقد ذكرت بعضها في شرح البسملة المذكور.
تنبيه: قال عكرمة: ركب نوح عليه السلام في الفلك لعشر خلون من رجب، واستوت على الجودي لعشر خلون من المحرم، فذلك ستة أشهر، وقال قتادة وزاد: وهو يوم عاشوراء، فقال لمن كان معه:«من كان صائما فليتم صومه، ومن لم يكن صائما فليصمه» ، وذكر الطبري في هذا حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم:«أن نوحا ركب في السفينة أول يوم في رجب، وصام الشهر أجمع، وجرت بهم السفينة، إلى يوم عاشوراء، ففيه أرست على الجودي، فصامه نوح ومن معه» . انتهى. قرطبي. وأضيف أن السفينة مرت بالبيت الحرام، وقد رفعه الله من الغرق، وبقي موضعه، فطافت السفينة به سبعا، وأودع الحجر الأسود جبل أبي قبيس وبقي فيه حتى بنى إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام الكعبة، فأخذ إبراهيم الحجر من أبي قبيس، ووضعه مكانه.
الإعراب: {وَقالَ} : الواو: حرف استئناف. (قال): ماض، وفاعله يعود إلى الله، أو إلى نوح. {اِرْكَبُوا}: أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق. {فِيها}:
متعلقان بالفعل قبلهما، وقيل:(في) زائدة، والضمير (ها) مفعول به، والتقدير: اركبوها، فهو على حد قوله تعالى:{إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ} . {بِسْمِ} : جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال من واو الجماعة، التقدير: اركبوا مسمين الله، أو قائلين: باسم الله. {مَجْراها} : على اعتباره ظرف زمان أو مكان هو متعلق بالحال المحذوفة، أي: وقت إجرائها، أو مكان إجرائها على حد (أتيتك مقدم الحاج) أو (آتيك خفوق النجم)، وعلى اعتباره مصدرا فهو فاعل بمتعلق
الجار والمجرور، هذا؛ وجه للإعراب، والوجه الثاني الجار والمجرور {بِسْمِ} متعلقان بمحذوف خبر مقدم، و {مَجْراها} مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية في محل نصب حال مقدرة من واو الجماعة، أو من الضمير في:{فِيها} وهي حال مقدرة أيضا، وعلى هذين الاعتبارين فالفتحة، أو الضمة مقدرة على الألف، والوجه الثالث: اعتبار {مَجْراها} صفة لله، وهذا على القراءة بضم الميم والكسر الخالص، كما جوز اعتباره خبرا لمبتدإ محذوف، التقدير: هو مجراها، وعليه فالجملة الاسمية في محل نصب حال من لفظ الجلالة، والرابط: الضمير المقدر مبتدأ، والجملة الفعلية:{اِرْكَبُوا فِيها..} . إلخ في محل نصب مقول القول، والجملة الفعلية:
(قال
…
) إلخ مستأنفة لا محل لها. {إِنَّ} : حرف مشبه بالفعل. {رَبِّي} : اسم {إِنَّ} منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم، منع من ظهورها اشتغال المحل بالحركة المناسبة، والياء في محل جر بالإضافة. {لَغَفُورٌ}: اللام: هي المزحلقة. (غفور): خبر إن. {رَحِيمٌ} : خبر ثان، والجملة الاسمية:{إِنَّ رَبِّي..} . إلخ تعليل للأمر لا محل لها على اعتبار القائل نوحا، ومستأنفة على اعتبار القائل (الله) جل اسمه، وتعالى شأنه.
الشرح: {وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ} : فتقدير الكلام فركب نوح عليه السلام ومن معه في السفينة ذاكرين اسم الله، وهي تسير بهم، وهم في داخلها. {فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ} أي: في موج من الطوفان، وهو ما يرتفع من الماء عند اضطرابه، كل موجة منه كجبل في تراكمها وارتفاعها، ف {مَوْجٍ} جمع: موجة، مثل تمر وتمرة، وما قيل من أن الماء طبق ما بين السماء والأرض، وكانت السفينة تجري في جوفه ليس بثابت، والمشهور: أنه علا شوامخ الجبال خمسة عشر ذراعا، وإن صح فلعل ذاك قبل التطبيق. انتهى. بيضاوي. {وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ}: كنعان. وقيل:
اسمه (يام) والمشهور الأول، هذا؛ ويقرأ {اِبْنَهُ} بضم الهاء وفتحها بألف وبدونه، وأوّل على أنه كان ابن زوجته، والمعتمد: أنه ابنه من صلبه، كما يقرأ بسكون الهاء، وبألف الندبة، وإلحاق هاء السكت قراءات كثيرة، {وَكانَ فِي مَعْزِلٍ} أي: عزل نفسه عن أبيه مع أمه، أو عزل نفسه عن دين أبيه، و {مَعْزِلٍ} بكسر الزاي، وفتحها.
{يا بُنَيَّ} : تصغير ابن، وأصله الأصيل:(بنو)، فلما صغر صار (بنيو)، فلما اجتمعت الواو والياء، وسبقت إحداهما بالسكون قلبت الواو ياء، وأدغمت الياء في الياء، ثم ألحقت به ياء المتكلم، فاجتمع ثلاث ياءات، فحذفت الثانية منهن؛ التي هي لام الكلمة، ولم تحذف الأولى؛ لأنها ياء التصغير، وقد أتي بها لغرض خاص، ولم تحذف الثالثة التي هي ياء المتكلم؛ لأنها
كلمة برأسها، هذا؛ ويقرأ (بنيّ) بفتح الياء وكسرها. {وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ} أي: فتهلك معهم، وانظر الكفور في الآية رقم [9].
الإعراب: {وَهِيَ} : (هي): ضمير منفصل مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ. {تَجْرِي} :
مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل، والفاعل مستتر تقديره:«هي» .
{بِهِمْ} : متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من الفاعل المستتر. {فِي مَوْجٍ}:
متعلقان بالفعل قبلهما. {كَالْجِبالِ} : متعلقان بمحذوف صفة {مَوْجٍ،} وإن اعتبرت الكاف اسما بمعنى: «مثل» فهي الصفة، وتكون مضافة و (الجبال) في محل جر بالإضافة، وجملة:{تَجْرِي..} .
إلخ في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية: (هي
…
) إلخ مستأنفة لا محل لها إن أردت الإعراض عن الكلام السابق، أو هي في محل نصب حال من الضمير المستتر في:{بِسْمِ اللهِ} إن أردت اتصال الكلام بسابقه، والرابط: الواو، والضمير. (نادى): ماض. {نُوحٌ} : فاعله.
{اِبْنَهُ} : مفعول به، والهاء في محل جر بالإضافة، وجملة: (نادى
…
) إلخ معطوفة على الجملة السابقة قبلها على الاعتبارين فيها، والرابط على الحالية الرابط في الجملة السابقة؛ لأن الجملتين المتعاطفتين الجملة الواحدة. (كان): ماض ناقص، واسمه يعود إلى {اِبْنَهُ}. {فِي مَعْزِلٍ}:
متعلقان بمحذوف خبر: (كان)، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، وإن اعتبرتها في محل نصب حال من {اِبْنَهُ} فتكون حالا متداخلة من وجه واحد، والرابط: الواو، والضمير. (يا):
حرف نداء ينوب مناب أدعو. (بني): منادى منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم
…
إلخ، والياء في محل جر بالإضافة. {اِرْكَبْ}: أمر، وفاعله مستتر فيه. {مَعَنا}:
ظرف مكان متعلق بالفعل قبله، و (نا): في محل جر بالإضافة، الجملتان {يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا} تفسير لقوله:(نادى) وهي عند البصريين في محل نصب مقول القول لقول محذوف، وقال الكوفيون: في محل نصب مفعول به للفعل: (نادى). الواو: حرف عطف. (لا): نافية. {تَكُنْ} :
مضارع ناقص مجزوم ب (لا) الناهية، واسمه ضمير مستتر تقديره:«أنت» . {مَعَ} : ظرف مكان متعلق بمحذوف خبر {تَكُنْ} و {مَعَ} : مضاف، و {الْكافِرِينَ}: مضاف إليه مجرور
…
إلخ، وجملة:{وَلا تَكُنْ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، فهي من جملة التفسير.
الشرح: {قالَ} أي: كنعان. {سَآوِي} : سألتجئ، تقول: أوى إليه: إذا التجأ واطمأن إليه، وانظر الآية [69] من سورة (يوسف)، وأصله سأأوي بهمزتين، قلبت الثانية مدا مجانسا لحركة الأولى. {إِلى جَبَلٍ} أي: مرتفع، قيل: هو طور سيناء وليس بشيء، {يَعْصِمُنِي مِنَ}
الْماءِ أي: يحفظني أن أغرق بالماء. {قالَ} أي: نوح. {لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ} أي:
لا حافظ ولا مانع من عذاب الله في هذا اليوم. {إِلاّ مَنْ رَحِمَ} أي: لكن من رحمه الله فهو يعصمه ويحفظه، ولا يحفظ إلا المؤمنين. {وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ} أي: بين نوح وابنه، أو بين ابنه والجبل، {فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ} أي: الهالكين في الماء.
تنبيه: قال العلماء بالسير: أرسل الله المطر أربعين يوما وليلة، وخرج من الأرض، فذلك قوله تعالى:{فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ (11) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ} يعني صار الماء نصفين، نصفا من السماء، ونصفا من الأرض، وارتفع الماء على أعلى جبل وأطوله أربعين ذراعا، وقيل: خمسة عشر ذراعا حتى أغرق كل شيء، وهذا يعني: أنه عم جميع الأرض، وأضيف؛ أنه ذكر في الأثر: أن الله تعالى لا يخلي الأرض من مطر في عام أو عامين، وأنه ما نزل من السماء ماء قط إلا بحفظ ملك موكل به إلا ما كان من ماء الطوفان، فإنه نزل منه ما لا يحفظه الملك، وذلك قوله تعالى:{إِنّا لَمّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ} .
قال عبد الوهاب النجار: ويقول بعض علماء الجيولوجيا: إننا كلما بحثنا في أعالي الجبال وجدنا بقايا حيوانية من الأحياء التي لا تعيش إلا في الماء، وهذا يشير إلى أن الطوفان عم جميع الأرض، ويستأنس لذلك بقوله تعالى:{وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ} ويميل فريق إلى أن الطوفان لم يكن عاما بل طغيان الماء لما كان على الجهة التي كان يسكنها نوح وقومه. انتهى.
بتصرف، ومال إلى ترجيح الثاني، وأرجّح الأول، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.
تنبيه: قد يرد سؤال: كيف اقتضت الحكمة الإلهية إغراق من لم يبلغوا الحلم من الأطفال، ولم يدخلوا تحت التكليف بذنوب غيرهم، وكذلك إغراق البهائم والهوام والطير وغير ذلك من الحيوان، وإهلاك أطفال الأمم الكافرة مع آبائهم غير قوم نوح؟ والجواب الشافي عن هذا كله:
أن الله سبحانه وتعالى متصرف بخلقه، وهو المالك المطلق يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون. انتهى. خازن بتصرف كبير.
الإعراب: {قالَ} : ماض، والفاعل مستتر تقديره:«هو» . {سَآوِي} : السين: حرف استقبال. (آوي): مضارع مرفوع، والفاعل تقديره:«أنا» . {إِلى جَبَلٍ} : متعلقان به.
{يَعْصِمُنِي} : مضارع، والنون للوقاية، وياء المتكلم مفعول به، والفاعل يعود إلى {جَبَلٍ،} والجملة الفعلية في محل جر صفة له. {مِنَ الْماءِ} : متعلقان بالفعل قبلهما، وجملة:
{سَآوِي..} . إلخ في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالَ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها.
{قالَ} : ماض وفاعله يعود إلى نوح. {لا} : نافية للجنس تعمل عمل (إن). {عاصِمَ} : اسم {لا} مبني على الفتح في محل نصب. {الْيَوْمَ} : ظرف زمان متعلق بالمصدر بعده. {مِنْ أَمْرِ} :
متعلقان بمحذوف خبر {لا،} و {أَمْرِ} : مضاف، و {اللهِ}: مضاف إليه من إضافة المصدر
لفاعله، والجملة الاسمية:{لا عاصِمَ..} . إلخ في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالَ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها؛ لأنها وسابقتها بمنزلة جواب سؤال مقدر. {إِلاّ} : أداة استثناء منقطع، وهي بمعنى:(لكن). {مِنَ} : اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل نصب على الاستثناء المنقطع. {رَحِمَ}: فعل ماض، والفاعل يعود إلى:{اللهِ،} والجملة الفعلية صلة:
{مِنَ،} أو صفتها، والعائد أو الرابط: محذوف؛ إذ التقدير: إلا الذي أو شخصا رحمه الله تعالى، وقيل:{مِنَ} في موضع رفع بدل من موضع: {عاصِمَ} وذلك على تقديرين: أحدهما: أن يكون {عاصِمَ} على بابه فيكون التقدير: لا يعصم اليوم من أمر الله إلا الله، وقيل: إلا الراحم، والراحم هو الله جل ذكره، والتقدير الثاني على أن يكون {عاصِمَ} بمعنى معصوم، فيكون التقدير:
لا معصوم من أمر الله اليوم إلا المرحوم، فيكون عاصم مثل ماء دافق، أي: مدفوق. انتهى.
مكي. وشبيه به العكبري، وهناك وجه آخر: وهو اعتبار {مِنَ} مبتدأ، خبره محذوف، التقدير:
فهو المعصوم، أو المرحوم، وعليه فالجملة الاسمية:(من رحمه الله فهو المعصوم) في محل نصب على الاستثناء من عموم الأحوال. {وَحالَ} : الواو: حرف استئناف. (حال): ماض.
{بَيْنَهُمَا} : ظرف مكان متعلق بالفعل قبله، والهاء في محل جر بالإضافة، والميم والألف حرفان دالان على التثنية. {الْمَوْجُ}: فاعل، وجملة (حال
…
) إلخ مستأنفة لا محل لها، وجملة:
{فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ} معطوفة عليها، لا محل لها مثلها.
الشرح: {وَقِيلَ} أي: بعد ما تناهى الطوفان، وأغرق الله قوم نوح. {يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ} أي: اشربيه في جوفك. {وَيا سَماءُ أَقْلِعِي} أي: أمسكي الماء.
قال البيضاوي-رحمه الله تعالى-نوديا بما ينادى به أولو العلم، وأمرا بما يؤمرون تمثيلا لكمال قدرته، وانقيادهما لما يشاء تكوينه فيهما بالأمر المطاع الذي يأمر المنقاد لحكمه، المبادر إلى امتثال أمره، مهابة من عظمته، وخشية من أليم عقابه. انتهى.
{وَغِيضَ الْماءُ} أي: نقص، يقال: غاض الشيء وغضته أنا، كما يقال: نقص بنفسه، ونقصه غيره، وانظر الآية [8] من سورة (الرعد)، ويقرأ الفعل بالكسر الخالص والإشمام، وبالضم أيضا. {وَقُضِيَ الْأَمْرُ} أي: أحكم، وفرغ منه، وذلك بإنجاء المؤمنين، وإهلاك الكافرين. {وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ} أي: استقرت السفينة على الجودي: وهو جبل في نواحي ديار بكر من بلاد الجزيرة، وهو يتصل بجبال أرمينية، وهو ما في القاموس.
{بُعْداً لِلْقَوْمِ الظّالِمِينَ} أي: هلاكا لهم، يقال: بعد بكسر العين بعدا بضم فسكون، وبعدا بفتحتين: إذ بعد بعدا بعيدا بحيث لا يرجى عوده، ثم استعير للهلاك وخص بدعاء السوء. انتهى.
بيضاوي.
وقال القرطبي: والبعد: الهلاك، والبعد: التباعد من الخير، يقال: بعد يبعد بعدا: إذا تأخر وتباعد، وبعد يبعد بعدا: إذا هلك، قالت خرنق أخت طرفة بن العبد البكري لأمه:[السريع]
لا يبعدن قومي الذين همو
…
سمّ العداة وآفة الجزر
وقال النابغة: [الطويل]
فلا تبعدن إنّ المنيّة منهل
…
وكلّ امرئ يوما به الحال زائل
وخذ قول فاطمة بنت الأخرم الخزاعية تبكي إخوتها: [المديد]
إخوتي لا تبعدوا أبدا
…
وبلى والله قد بعدوا
كلّ ما حيّ وإن أمروا
…
واردو الحوض الذي وردوا
تنبيه: قال بعضهم: هذه الآية أبلغ آية في القرآن، وقد احتوت من أنواع البديع على أحد وعشرين نوعا، فيها تسع عشرة كلمة، وخوطبت الأرض أولا بالبلع؛ لأن الماء نبع منها أولا قبل أن تمطر السماء. انتهى. جمل. وقال البيضاوي: هذه الآية في غاية الفصاحة لفخامة لفظها، وحسن نظمها، والدلالة على كنه الحال، مع الإيجاز الخالي من الإخلال، وإيراد الأخبار على البناء للمفعول للدلالة على تعظيم الفاعل، وأنه متعين في نفسه مستغنى عن ذكره؛ إذ لا يذهب الوهم إلى غيره، للعلم بأن مثل هذه الأفعال، لا يقدر عليها سوى الواحد القهار. انتهى.
أقول: يروى: أن عبد الله بن المقفع رام معارضة القرآن، وكتب في ذلك وريقات فمر بسوق البصرة بقارئ يقرأ القرآن، وسمع منه هذه الآية، فقال: أشهد أن هذا لا يعارض، ولا يقدر على مثله البشر، وعاد إلى بيته، وأتلف ما كتبه.
فائدة: أكرم الله ثلاثة جبال بثلاثة نفر: الجودي بنوح، وطور سيناء بموسى، وحراء بمحمد صلّى الله عليه وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وسلم تسليما كثيرا.
بعد هذا انظر إعلال (ماء) في الآية رقم [7]، وإعلال (سماء) في الآية رقم [31] يونس، وشرح {وَقُضِيَ} في الآية [44] الأنفال، وشرح القوم في الآية [28] و (البغي) في الآية [23] يونس، وإعلال {وَقِيلَ} في الآية [38] سورة (التوبة).
الإعراب: {وَقِيلَ} : (قيل): ماض مبني للمجهول. (يا): حرف نداء ينوب مناب أدعو.
(أرض): منادى نكرة مقصودة مبني على الضم في محل نصب ب (يا). {اِبْلَعِي} : أمر مبني
على حذف النون، وياء المؤنثة المخاطبة فاعله، وانظر إعراب:{تُوبُوا} في الآية [3] والجملتان الندائية والطلبية في محل رفع نائب فاعل، وهذا جاز على القاعدة في بناء الفعل للمجهول:(يحذف الفاعل ويقام المفعول مقامه) وهذا لا غبار عليه، وقيل: نائب الفاعل ضمير مستتر تقديره: قيل القول: وعليه فالجملتان في محل نصب مقول القول، وجملة:
(قيل
…
) إلخ مستأنفة لا محل لها. {ماءَكِ} : مفعول به، والكاف في محل جر بالإضافة.
{وَيا سَماءُ أَقْلِعِي} هذه الجملة معطوفة على ما قبلها، وإعرابها مثلها. {وَغِيضَ الْماءُ}: ماض مبني للمجهول ونائب فاعله، والجملة الفعلية معطوفة على جملة: (قيل
…
) إلخ لا محل لها مثلها، وجملة:{وَقُضِيَ الْأَمْرُ} معطوفة عليها، وإعرابها مثلها. (استوت): ماض مبني على فتح مقدر على الألف المحذوفة لالتقائها ساكنة مع تاء التأنيث الساكنة التي هي حرف لا محل له، والفاعل ضمير مستتر تقديره هي يعود إلى السفينة المفهومة من المقام، وهو مثل قوله تعالى:
{كَلاّ إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ (26) وَقِيلَ مَنْ راقٍ} . {فَلَوْلا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ..} . إلخ فإن الفاعل يعود إلى الروح، ولم يتقدم لها ذكر، وهذا؛ وارد في الشعر العربي والكلام العربي. {عَلَى الْجُودِيِّ}:
متعلقان بالفعل قبلهما، وجملة: (استوت
…
) إلخ معطوفة على جملة: (قيل
…
) إلخ لا محل لها مثلها. {بُعْداً} : مفعول مطلق بفعل محذوف، والجملة نائب فاعل (قيل)، أو في محل نصب مقول القول. {لِلْقَوْمِ}: متعلقان بالمصدر. {الظّالِمِينَ} : صفة (القوم) مجرور
إلخ، وجملة: (قيل
…
) إلخ معطوفة على مثيلتها لا محل لها مثلها.
الشرح: {وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ} أي: دعاه، وسأله. {فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي} أي: وقد وعدتني أن تنجيني وأهلي، فما حاله وما حصل له؟! هذا؛ وقد قيل: إن نوحا عليه السلام سأل ربه نجاة ابنه؛ لأنه لم يعلم كفره، ولو علم منه الكفر؛ لما سأل الله له النجاة؛ إذ محال أن يسأل الله تعالى هلاك الكفار، ثم يطلب منه إنجاء بعضهم، وقيل: كان ابنه يسر الكفر، ويظهر الإيمان، فأخبره الله في الآية التالية بما هو منفرد به من علم الغيب. {وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ} أي:
وإن كل وعد تعده حق لا يتطرق إليه الخلف. {وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ} : لأنك أعلمهم، وأعدلهم، حيث حكمت على قوم بالنجاة، وعلى قوم بالهلاك.
تنبيه: قال مكي: ونداء الرب قد كثر حذف (يا) النداء منه في القرآن، وعلة ذلك: أن في حذفها من نداء الرب فيه معنى التعظيم له والتنزيه، وذلك أن النداء فيه ضرب من معنى الأمر؛ لأنك إذا قلت: يا زيد، فمعناه: تعال يا زيد، أدعوك يا زيد، فحذفت (يا) من نداء الرب؛
ليزول معنى الأمر وينقص؛ لأن (يا) تؤكده، وتظهر معناه، فكان في حذف (يا) التعظيم والإجلال والتنزيه للرب تعالى، فكثر حذفها في القرآن والكلام في نداء الرب لذلك المعنى.
الإعراب: {وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ} : ماض وفاعله ومفعوله، والهاء في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية معطوفة، أو مستأنفة لا محل لها. {فَقالَ}: الفاء: زائدة، أو هي حرف تفسير هنا. (قال):
ماض، والفاعل يعود إلى {نُوحٌ}. {رَبِّ}: منادى حذف منه أداة النداء منصوب
…
إلخ، انظر إعراب:{يا قَوْمِ} في الآية رقم [28] فهو مثله، والجملة الندائية في محل نصب مقول القول.
{إِنَّ} : حرف مشبه بالفعل. {اِبْنِي} : اسمها منصوب. {مِنْ أَهْلِي} : متعلقان بمحذوف خبر {إِنَّ،} والفتحة في الأول، والكسرة في الثاني مقدرتان على ما قبل ياء المتكلم، منع من ظهورهما اشتغال المحل بالحركة المناسبة، والياء في محل جر بالإضافة، والجملة الاسمية:
{إِنَّ..} . إلخ في محل نصب مقول القول، وجملة:{فَقالَ رَبِّ..} . إلخ مفسرة لقوله تعالى:
{وَنادى نُوحٌ..} . إلخ لا محل لها مثلها. {وَإِنَّ} : الواو: واو الحال. (إن): حرف مشبه بالفعل.
{وَعْدَكَ} : اسمها، والكاف في محل جر بالإضافة، من إضافة المصدر لفاعله. {الْحَقُّ}: خبر (إن)، والجملة الاسمية:{وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ} في محل نصب حال من {رَبِّ} والرابط: الواو، والضمير، ومجيء الحال من المنادى مستعمل لغة، قال الشاعر:[البسيط]
يا أيّها الرّبع مبكيّا بساحته
(أنت): ضمير منفصل مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ. {أَحْكَمُ} : خبره، وهو مضاف، و {الْحاكِمِينَ}: مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الياء
…
إلخ، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها، فهي في محل نصب حال مثلها.
الشرح: {قالَ} أي: الله. {يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} : وذلك لقطع الولاية بين المؤمن والكافر، وهذا يدل على أن حكم الاتفاق في الدين أقوى من النسب. {إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ}:
فهذا تعليل لنفي كونه من أهله، وأصله: إنه ذو عمل فاسد، فجعل ذاته ذات العمل للمبالغة كقول الخنساء تصف ناقة ترتع وقد ذهب عنها ولدها:[البسيط]
ترتع ما رتعت حتّى إذا ادّكرت
…
فإنّما هي إقبال وإدبار
أي: ذات إقبال وإدبار، هذا؛ ويجوز أن يكون الضمير للسؤال، أي: إن سؤالك إياي أن أنجيه عمل غير صالح، هذا؛ وقرأ الكسائي ويعقوب:{(إِنَّهُ عَمَلٌ)} أي: ابنك عمل عملا غير
صالح. {فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} أي: فلا تسأل الذي لم تعلم: أهو صواب أم ليس بصواب؟ وإنما سأل نوح عليه السلام ذلك؛ لشدة شفقته على ولده، وهو لا يعلم أن ذلك محظور لإصراره على الكفر، فنهاه الله عن مثل هذه المسألة، هذا؛ وقد قرئ:{تَسْئَلْنِ} بفتح اللام وتشديد النون مفتوحة ومكسورة بياء المتكلم وبدونها، وقراءة حفص بسكون اللام وكسر النون، وبدون ياء المتكلم. {إِنِّي أَعِظُكَ} أي: أنهاك عن هذا السؤال. {أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ} أي: أرفع مقامك عن مقام الجاهلين، وأجعلك في مقام العلماء والعارفين، وانظر شرح الجهل في الآية رقم [29].
تنبيه: قد استدل بعضهم بهذه الآية على أن كنعان لم يكن ابن نوح من صلبه، وإنما هو ربيبه ابن امرأته، وبعضهم يقول: إنه ابن زنى؛ لأنه لم يقل: إنه مني؛ وقد رأيت كثرة القراءات في قوله {اِبْنَهُ} في الآية رقم [42] وهذان القولان لا يعول عليهما، والصحيح إنه ابنه من صلبه، وقد سبق القول في حقه أنه من الكافرين، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.
{غَيْرُ} اسم شديد الإبهام، لا يتعرف بالإضافة لمعرفة أو غيرها، وهو ملازم للإضافة، ويجوز أن يقطع عنها، إن فهم المعنى، أو تقدمت كلمة ليس عليها، يقال: قبضت عشرة ليس غير، وهو مبني على الضم أو الفتح خلاف.
الإعراب: {قالَ} : ماض، وفاعله مستتر تقديره:«هو» يعود إلى الله. (يا): أداة نداء تنوب مناب أدعو. (نوح): مفرد علم مبني على الضم في محل نصب ب (يا). {إِنَّهُ} : حرف مشبه بالفعل، والهاء اسمها. {لَيْسَ}: ماض ناقص، واسمه ضمير مستتر تقديره:«هو» يعود إلى كنعان. {مِنْ أَهْلِكَ} : متعلقان بمحذوف خبر: {لَيْسَ،} والكاف في محل جر بالإضافة، وجملة:{لَيْسَ..} . إلخ في محل رفع خبر (إن)، والجملة الاسمية:{إِنَّهُ..} . إلخ مع الجملة الندائية في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالَ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها. {إِنَّهُ} :
حرف مشبه بالفعل، والهاء اسمها. {عَمَلٌ}: خبر مرفوع. {غَيْرُ} : صفة: {عَمَلٌ،} و {غَيْرُ} :
مضاف، و {صالِحٍ}: مضاف إليه، وعلى القراءة الثانية ف (عمل) ماض، وفاعله يعود إلى كنعان و (غير) مفعول به، والجملة الفعلية في محل رفع خبر إن، وعلى الوجهين فالجملة اسمية، وهي تعليل للنفي، وهي بدورها من مقول نوح. {فَلا}: الفاء: هي الفصيحة، وانظر ما ذكرته في الآية [17]. (لا): ناهية. {تَسْئَلْنِ} : مضارع مجزوم ب (لا) الناهية والنون للوقاية، وياء المتكلم المحذوفة مفعول به أول، وعلى القراءة بتشديد النون فهو مبني على الفتح في محل جزم ب (لا) الناهية، وعلى كسر النون وتشديدها، وهي نون التوكيد حرف لا محل له؛ فالياء مفعول به، حذفت، أو ذكرت ورسمت، وعلى جميع القراءات فالفاعل مستتر تقديره:«أنت» . {ما} موصولة أو موصوفة فهي مبنية على السكون في محل نصب مفعول به ثان. {لَيْسَ} : ماض ناقص. {أَهْلِكَ} : متعلقان بمحذوف خبر: {لَيْسَ} تقدم على اسمها. {بِهِ} : متعلقان بالخبر
المحذوف، أو هما متعلقان ب {عِلْمٌ} بعدهما؛ لأنه مصدر. {عِلْمٌ}: اسم: {لَيْسَ} مؤخر، وجملة:{لَيْسَ..} . إلخ صلة {ما،} أو صفتها، والعائد أو الرابط: هو الضمير المجرور محلاّ بالباء، والجملة الفعلية:{فَلا تَسْئَلْنِ..} . إلخ لا محل لها؛ لأنها جواب شرط غير جازم، التقدير:
(وإذا كان ذلك واقعا فلا
…
) إلخ وهذا الكلام في محل نصب مقول القول أيضا. {إِنِّي} :
حرف مشبه بالفعل، والياء اسمها، وجملة:{أَعِظُكَ..} . إلخ في محل رفع خبر (إنّ)، والجملة الاسمية من مقول نوح. {أَنْ}: حرف ناصب. {تَكُونَ} : مضارع ناقص منصوب ب {أَنْ،} واسمه مستتر تقديره: «أنت» . {مِنَ الْجاهِلِينَ} : متعلقان بمحذوف خبره، و {أَنْ تَكُونَ} في تأويل مصدر في محل جر بحرف جر محذوف على مذهب الكوفيين، التقدير: لئلا تكون، أو هو في محل جر بإضافة مفعول لأجله محذوف، التقدير: كراهة كونك من الجاهلين، ومثل الآية الكريمة قول عمرو بن كلثوم التغلبي من معلقته المشهورة. [الوافر]
نزلتم منزل الأضياف منّا
…
فعجّلنا القرى أن تشتمونا
الشرح: {قالَ} أي: نوح. {إِنِّي أَعُوذُ بِكَ} : أستجير، وأتحصن بك. {أَنْ أَسْئَلَكَ} أي: بعد ذلك شيئا لا علم لي بصحته. {وَإِلاّ تَغْفِرْ لِي} أي: جهلي وإقدامي على سؤال ما ليس لي به علم. {وَتَرْحَمْنِي} : برحمتك؛ التي وسعت كل شيء. {أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ} أي: الذين خسروا دنياهم وآخرتهم، وانظر ما ذكرته في الآية [22].
تنبيه: لقد استدل بهذه الآية من لا يرى عصمة الأنبياء من الذنوب. وملخص الجواب: أن نوحا عليه السلام، كان قد وعده ربه بأن ينجيه وأهله، فأخذ بظاهر اللفظ، ولم يعلم ما غاب عنه، ولم يشك في وعد الله سبحانه وتعالى، فأقدم على سؤال ربه أن ينجي ابنه لهذا السبب ولأنه من أهله، فعاتبه ربه على سؤاله ما ليس له به علم، وبيّن له السبب الذي من أجله أهلك ابنه مع الهالكين، فخاف نوح-عليه السلام-من عاقبة هذا السؤال، فلجأ إلى الله، وسأله المغفرة والرحمة؛ لأن حسنات الأبرار سيئات المقربين. وانظر ما ذكرته في الآية [43] التوبة، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.
الإعراب: {قالَ} : ماض، وفاعله يعود إلى نوح. {رَبِّ}: منادى حذف منه أداة النداء، وانظر إعراب:{يا قَوْمِ} في الآية رقم [28] فهو مثله. {إِنِّي} : حرف مشبه بالفعل، وياء المتكلم اسمها. {أَعُوذُ}: فعل مضارع، وفاعله مستتر تقديره:«أنا» . {بِكَ} : جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {أَنْ} : حرف ناصب. {أَسْئَلَكَ} : مضارع منصوب ب {أَنْ،}
والفاعل تقديره: «أنا» ، والكاف مفعول به أول {ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ} انظر إعراب هذه الكلمات في الآية السابقة، والمصدر المؤول من:(أن أسأل) في محل جر بحرف جر محذوف، التقدير: أعوذ بك من سؤالي إياك الذي، أو شيئا
…
إلخ، والجملة الفعلية هذه في محل رفع خبر (إن)، والجملة الاسمية:{إِنِّي..} . إلخ مع الجملة الندائية قبلها في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالَ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها. {وَإِلاّ} : الواو: حرف عطف، أو حرف استئناف. (إلا): هي (إن) الشرطية مدغمة في (لا) النافية. {تَغْفِرْ} : مضارع فعل الشرط، والفاعل مستتر تقديره:«أنت» . {لِي} : متعلقان بما قبلهما، والمفعول محذوف لوضوحه، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي.
(ترحمني): مضارع معطوف على فعل الشرط مجزوم مثله، والفاعل تقديره:«أنت» ، والنون للوقاية، وياء المتكلم مفعول به. {أَكُنْ}: مضارع ناقص جواب الشرط، واسمه مستتر تقديره:«أنا» . {مِنَ الْخاسِرِينَ} : متعلقان بمحذوف خبر: {أَكُنْ،} والشرط ومدخوله في محل نصب مقول القول. وجملة: {أَكُنْ..} . إلخ لا محل لها؛ لأنها جملة جواب الشرط، ولم تقترن بالفاء، ولا ب «إذا» الفجائية.
الشرح: {قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنّا} أي: قالت الملائكة، أو قال الله تعالى له: انزل من السفينة، أو من الجبل إلى الأرض بسلامة، وأمن منا. {وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ}: البركة: ثبوت الخير وزيادته، وقيل: المراد بالبركة هنا: أن الله جعل ذريته هم الباقين إلى يوم القيامة، فكل العالم من ذرية أولاده الثلاثة. {وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ} أي: وبركات عليك؛ وعلى قرون، وأجيال تجيء من بعدك من ذرية أولادك، وهم المؤمنون، قيل: دخل في هذا كل مؤمن إلى يوم القيامة، وإنما سموا أمما؛ لأنهم أمم متحزبة، وجماعات متفرقة. أو لأن جميع الأمم قد تشعبت منهم.
أو التقدير: وعلى أمم ناشئة ممن معك. {وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ} أي: وأمم كافرة يحدثون بعدك سنمتعهم في الأموال والبنين في هذه الدنيا إلى انتهاء آجالهم. {ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنّا عَذابٌ أَلِيمٌ} أي:
ثم يصيبهم عذاب مؤلم في الآخرة جزاء كفرهم، وعنادهم.
الإعراب: {قِيلَ} : ماض مبني للمجهول. {يا نُوحُ} : منادى مفرد علم مبني على الضم في محل نصب ب «يا» النائبة مناب أدعو. {اِهْبِطْ} : أمر وفاعله مستتر تقديره: «أنت» . {بِسَلامٍ} :
متعلقان بمحذوف حال من الفاعل المستتر، التقدير: اهبط مصحوبا بسلام. {مِنّا} : متعلقان ب (سلام) لأنه اسم مصدر، أو بمحذوف صفة له. (بركات): معطوف على (سلام).
{عَلَيْكَ..} .: متعلقان ب (بركات)، أو بمحذوف صفة له، ويقرأ:«(بركة)» بالإفراد، والكلام {يا نُوحُ اهْبِطْ..} . إلخ في محل رفع نائب فاعل، وقيل: نائب الفاعل ضمير مستتر، تقديره: قيل القول، وعليه فالكلام المذكور في محل نصب مقول القول، وجملة:{قِيلَ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها. {وَعَلى أُمَمٍ} : معطوفان على ما قبلهما، وانظر الشرح. {مِمَّنْ}: جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة: {أُمَمٍ،} و (من) تحتمل الموصولة، والموصوفة. {مَعَكَ}: ظرف مكان متعلق بمحذوف صلة الموصول، أو هو متعلق بمحذوف صفة (من) إن كانت نكرة، والكاف في محل جر بالإضافة. (أمم): قال أبو البقاء: معطوف على فاعل {اِهْبِطْ} المستتر، تقديره: اهبط أنت وأمم، وكان الفصل بينهما مغنيا عن التوكيد، ولا أعتمده؛ لأن الكلام مستأنف وعليه ف (أمم) مبتدأ، وجملة:{سَنُمَتِّعُهُمْ} في محل رفع خبره. قاله الجمل. وقال الزمخشري: الجملة صفة: (أمم)، والخبر محذوف، وبه قال النسفي، والتقدير: وممن معك أمم ممتعون، وإنما حذف؛ لأن {مِمَّنْ مَعَكَ} يدل عليه، والجملة الاسمية مستأنفة؛ إن كان القائل الملائكة، وداخلة في مقول القول؛ إن كان القائل هو الله تعالى. {ثُمَّ}: حرف عطف. {يَمَسُّهُمْ} :
مضارع، والهاء مفعول به. {مِنّا}: متعلقان بما قبلهما. {عَذابٌ} : فاعل. {أَلِيمٌ} : صفته، وجملة:{يَمَسُّهُمْ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها على الاعتبارين فيها.
الشرح: {تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ} : الإشارة إلى قصة نوح التي مر ذكرها وإنما أدخل اللام على اسم الإشارة وهي للبعد، والقصة في متناول اليد، وذلك للإيذان بشأنها، والاهتمام بها، وأنها جديرة بأن يستفيد منها كل إنسان؛ ليتعود على تحمل الأذى، والصبر على ما ينوب من متاعب هذه الدنيا، ومصاعبها، فهي من أخبار الغيب. {نُوحِيها إِلَيْكَ}: الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، والمعنى نخبرك بها، أو نلقي إليك خبرها. {ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا}: لم يكن عندك علم بقصة نوح-عليه السلام-قبل نزول القرآن عليك، وأيضا قومك قريش لم يكونوا يعلمونها تفصيلا، وإن كانوا يسمعون بها إجمالا؛ لأنها كانت معروفة ومشهورة عند جميع الأجيال والقرون. {فَاصْبِرْ}: يا محمد على أذى قومك، كما صبر نوح على أذى قومه. {إِنَّ الْعاقِبَةَ}: المحمودة بالنصر والظفر على الأعداء والفوز بالسعادة الأبدية، إنما هي {لِلْمُتَّقِينَ} الشرك والمعاصي.
بعد هذا انظر: (الوحي) في الآية [36]، وإعلال {كُنْتَ}: في الآية [28]، وشرح (قوم) في الآية [28] وانظر (التقوى) في الآية رقم [1] الأنفال، و {الْغَيْبِ} كل ما غاب عنا، ولم نشاهده
ولم نسمع به، و {أَنْباءِ} جمع: نبأ، وهو الخبر، وانظر الآية رقم [120] الآتية، وانظر (الصبر) في الآية رقم [115] الآتية، وانظر (نا) في الآية [8].
تنبيه: الآية الكريمة تذكر النبي صلى الله عليه وسلم بما أنعم الله عليه من نعم، ومثلها كثير في القرآن الكريم، وفيه منّ على الرسول العظيم، وهذا المنّ من الله على نبيه مقبول؛ لأن الله يمن بما يملك حقيقة، فهو المتفضل والمنعم. بخلاف منّ العبد على العبد بما يسديه إليه من معروف، فهو مذموم، ومحبط للأعمال، وقد بينت ذلك آية البقرة [262].
الإعراب: {تِلْكَ} : اسم إشارة مبني على الكسر في محل رفع مبتدأ، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب لا محل له. {مِنْ أَنْباءِ}: متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ، و {أَنْباءِ}:
مضاف، و {الْغَيْبِ}: مضاف إليه. {نُوحِيها} : مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء، والفاعل مستتر تقديره:«نحن» ، و (ها): مفعول به. {إِلَيْكَ} : متعلقان بما قبلهما، وجملة:{نُوحِيها إِلَيْكَ} في محل رفع خبر ثان للمبتدإ. {ما} : نافية. {كُنْتَ} : ماض ناقص مبني على السكون، والتاء اسمه. {تَعْلَمُها}: مضارع، والفاعل تقديره:«أنت» ، و (ها): مفعول به، واكتفى به؛ لأنه من المعرفة لا من العلم واليقين، والجملة الفعلية في محل نصب خبر (كان). {أَنْتَ}: ضمير منفصل مبني على الفتح في محل رفع توكيد للضمير المستتر. {وَلا} :
الواو: حرف عطف. (لا): زائدة لتأكيد النفي. {قَوْمُكَ} : معطوف على الضمير المستتر في الفعل. {مِنْ قَبْلِ} : متعلقان بالفعل {تَعْلَمُها،} و {قَبْلِ} : مضاف، و {هذا}: اسم إشارة مبني على السكون في محل جر بالإضافة، والهاء حرف تنبيه لا محل له، وجملة:{تَعْلَمُها..} . إلخ في محل نصب خبر كان، وجملة:{ما كُنْتَ..} . إلخ في محل رفع خبر ثالث للمبتدإ، هذا؛ وأجيز اعتبار جملة:{نُوحِيها إِلَيْكَ} في محل نصب حال من أنباء الغيب والعامل في الحال اسم الإشارة، كما أجيز اعتبار جملة:{ما كُنْتَ تَعْلَمُها..} . إلخ في محل نصب حال من الضمير المنصوب، فتكون حالا متداخلة، والرابط في الجملتين: الضمير فقط، كما أجيز تعليق:{مِنْ أَنْباءِ} بالفعل بعدهما، أو بمحذوف حال من الضمير المنصوب، فتكون جملة:{نُوحِيها..} . إلخ هي الخبر وهذه الآية مثل الآية رقم [44] من آل عمران، ومثلهما الآية رقم [100] الآتية، كما أجيز اعتبار جملة:{ما كُنْتَ..} . إلخ مستأنفة والأول هو المعتمد من كل هذه الاعتبارات.
الفاء: هي الفصيحة. (اصبر): أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» ، ومتعلقه محذوف، والجمل الفعلية لا محل لها؛ لأنها جواب شرط غير جازم؛ إذ التقدير: وإذا كان ما ذكر واقعا؛ فتأسّ، واصبر، هذا؛ وإن اعتبرت جملة:(اصبر) مستأنفة؛ فلست مفندا. {إِنَّ} : حرف مشبه بالفعل.
{الْعاقِبَةَ} : اسمها. {لِلْمُتَّقِينَ} : متعلقان بمحذوف خبر: {إِنَّ،} والجملة الاسمية: {إِنَّ..} .
إلخ تعليل للأمر لا محل لها. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم.
الشرح: {وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً} : انظر شرح هذه الكلمات في الآية رقم [65] من سورة (الأعراف). {قالَ} أي: هود عليه السلام. {يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ} : وحدوه ولا تشركوا به شيئا.
{ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ} : ليس لكم إله يستحق العبادة، غير الله؛ لأنه سبحانه هو المنعم، والمتفضل بالإيجاد والإعدام، وكل شيء في هذا الكون تحت تصرفه، وقهره، وجبروته. {إِنْ أَنْتُمْ إِلاّ مُفْتَرُونَ}: تفترون على الله الكذب باتخاذكم الأوثان آلهة تعبدونها من دونه سبحانه وتعالى.
الإعراب: {وَإِلى عادٍ} : متعلقان بفعل محذوف، التقدير: وأرسلنا، والواو عطفت قصة هود بكاملها على قصة نوح، على نبينا، وعليهم ألف صلاة، وألف سلام. {أَخاهُمْ}: مفعول به للفعل المقدر منصوب، وعلامة نصبه الألف نيابة عن الفتحة؛ لأنه من الأسماء الخمسة، والهاء في محل جر بالإضافة. {هُوداً}: بدل مطابق من: {أَخاهُمْ} أو عطف بيان عليه. {قالَ} :
ماض، وفاعله مستتر تقديره:«هو» . {يا قَوْمِ} : منادى، وانظر تفصيله في الآية [28]، {اُعْبُدُوا}: أمر، والواو فاعله، وانظر {تُوبُوا} في الآية رقم [3]، {اللهَ}: منصوب على التعظيم، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول مع الجملة الندائية قبلها. {ما}: نافية.
{لَكُمْ} : متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {مِنْ} : حرف جر صلة. {إِلهٍ} : مبتدأ مؤخر مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على آخره، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد. {غَيْرُهُ}: يقرأ بالرفع على أنه صفة إله أو بدل منه على المحل، ويقرأ بالجر تبعا للفظ، ويقرأ بالنصب على الاستثناء، والهاء في محل جر بالإضافة، والجملة الاسمية:{ما لَكُمْ..} .
إلخ تعليل للأمر، وهي في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالَ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها. {إِنْ} : حرف نفي. {أَنْتُمْ} : مبتدأ. {إِلاّ} : حرف حصر. {مُفْتَرُونَ} : خبر المبتدأ مرفوع
…
إلخ، والجملة الاسمية من مقول هود. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم.
الشرح: {يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً} : لا أطلب منكم ثوابا، ولا مكافأة على تبليغ رسالة ربي، والدعاء إليه والإيمان به، فيثقل عليكم. {إِنْ أَجْرِيَ إِلاّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي}: ما أجري وثوابي إلا على الذي خلقني. {أَفَلا تَعْقِلُونَ} : استفهام توبيخي، أي: أفلا تستعملون عقولكم، وتميزون بها المحق من المبطل، والحسن من القبيح؟! أو أفلا تتدبرون ما جرى على قوم نوح لما كذبوه، وأنتم من نسلهم وسلالتهم؟! وانظر العقل في الآية [2] من سورة (يوسف)؛ فإنه جيد.
قال البيضاوي: خاطب كل رسول قومه به، إزاحة للتهمة، وتمحيصا للنصيحة، فإنها لا تنجع ما دامت مشوبة بالمطامع.
الإعراب: {يا قَوْمِ} : منادى انظر تفصيله في الآية [28]{لا} : نافية. {أَسْئَلُكُمْ} : مضارع، والفاعل مستتر تقديره:«أنا» ، والكاف مفعول به أول. {عَلَيْهِ}: متعلقان بما قبلهما. {أَجْراً} :
مفعول به ثان. {إِنْ} : حرف نفي. {أَجْرِيَ} : مبتدأ مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم. {إِلاّ}: حرف حصر. {عَلَى الَّذِي} : متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ.
{فَطَرَنِي} : ماض، وفاعله يعود إلى {الَّذِي،} والنون للوقاية، وياء المتكلم مفعول به، والجملة الفعلية صلة الموصول لا محل لها. {أَفَلا}: الهمزة: حرف استفهام وتقريع وتوبيخ. الفاء:
حرف عطف. (لا): نافية. {تَعْقِلُونَ} : مضارع مرفوع
…
إلخ، والواو فاعله، والجملة الفعلية مستأنفة مع الجملة المقدرة المعطوفة عليها على القول الثاني، ومعطوفة على ما قبلها على القول الأول في الفاء. انظر الآية رقم [24] ولعلك تدرك معي بعد ذلك أن الآية برمتها في محل نصب مقول القول، أي: إنها من مقول هود على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام.
الشرح: {وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ} : انظر الآية رقم [3] ففيها الكفاية. {يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً} : كثيرة الأمطار. {وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ} أي: شدة مع شدتكم، ويضاعف قوتكم، وإنما رغبهم بكثرة الأمطار وزيادة القوة؛ لأنهم كانوا أصحاب زروع وعمارات، وقيل: حبس الله عنهم المطر، وأعقم أرحام نسائهم ثلاث سنين فوعدهم هود عليه السلام إن هم آمنوا وتابوا أن يرسل الله عليهم المطر، ويعيد أرحام النساء إلى ما كانت عليه، فيزدادون قوة بالأموال والأولاد. {وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ} أي: لا تعرضوا عما أدعوكم إليه، وتقيموا على الكفر، هذا؛ والإعراض والتولي والإدبار عن الشيء يكون بالجسم، ويستعمل في الإعراض عن الأمور والاعتقادات اتساعا ومجازا.
و (مدرار) مفعال يستوي فيه المذكر والمؤنث، هذا؛ و (زاد) ضد نقص، يكون لازما كقولك: زاد المال، ويكون متعديا لمفعولين، كما في الآية الكريمة، وقولك: زاد الله خالدا خيرا؛ بمعنى جزاه الله خيرا، وأما قولك: زاد المال درهما، والبر مدّا، فدرهما ومدّا تمييز، ومثله قل في «نقص» ، ومن المتعدي لمفعولين قوله تعالى:{ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً} .
فائدة: جاء رجل إلى الحسن البصري، وشكا إليه الجدب، فقال: استغفر الله، وشكا إليه آخر الفقر، فقال: استغفر الله، وشكا إليه آخر جفاف بساتينه، فقال: استغفر الله، وشكا إليه آخر
عدم الولد، فقال: استغفر الله، ثم تلا عليهم جميعا قوله تعالى حكاية عن قول نوح عليه السلام لقومه:{اِسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفّاراً} {يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً} .
الإعراب: {وَيا قَوْمِ} : منادى انظر تفصيله في الآية رقم [28]. {اِسْتَغْفِرُوا} : أمر، والواو فاعله، والألف للتفريق، وانظر إعراب:{تُوبُوا} في الآية رقم [3]{رَبَّكُمْ} : مفعول به، والكاف في محل جر بالإضافة من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {ثُمَّ}:
حرف عطف. {إِلَيْهِ} : جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {يُرْسِلِ} : مضارع مجزوم لوقوعه جوابا للأمر، وجزمه عند الجمهور بشرط مقدر، التقدير: إن تستغفروا؛ يرسل، والفاعل يعود إلى {رَبَّكُمْ}. {السَّماءَ}: مفعول به. {عَلَيْكُمْ} : متعلقان بالفعل {يُرْسِلِ} . {مِدْراراً} :
حال من {السَّماءَ} . (يزدكم): معطوف على {يُرْسِلِ،} والفاعل يعود إلى: {رَبَّكُمْ،} والكاف مفعول به أول. {قُوَّةً} : مفعول به ثان. {إِلى قُوَّتِكُمْ} : متعلقان بمحذوف صفة: {قُوَّةً،} و {إِلى} بمعنى (مع) هنا، كما في آية الوضوء، والكاف في محل جر بالإضافة. {وَلا}: الواو:
حرف عطف. (لا): ناهية. {تَتَوَلَّوْا} : مضارع مجزوم ب (لا) الناهية، وعلامة جزمه حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق. {مُجْرِمِينَ}: حال من واو الجماعة منصوب، وعلامة نصبه الياء نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، ولعلك تدرك معي: أن الآية بكاملها من مقول هود عليه السلام، أي: فهي في محل نصب مقول القول. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم.
الشرح: {قالُوا يا هُودُ} أي: قالوا ذلك استهزاء وتكبرا وعنادا. {ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ} :
بمعجزة أو بحجة، وبرهان على صحة دعواك، وصدق قولك، قال الجمل: وكانت معجزته ما يأتي في قوله: {فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ} حيث عصمه الله منهم مع قدرتهم على ما هددوه به، وقيل: هي الريح الصرصر المذكورة في سورة الحاقة. انتهى.
أقول: الريح ليست بمعجزة؛ لأنها أهلكتهم، وقد ذكرت في سورة (الأعراف): أن القرآن الكريم لم يذكر لهود معجزة كما ذكر لصالح، وموسى، وعيسى، ومحمد صلى الله عليه وسلم. {وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ} أي: لا نترك عبادة الأوثان من أجل قولك، ودعوتك، وهذا تيئيس منهم لهود عليه السلام. {وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ} أي: بمصدقين ما تقول، وتدعيه، وهذا تأكيد لإقامتهم على الكفر، وإقناط لهود من الإجابة.
الإعراب: {قالُوا} : ماض وفاعله، والألف للتفريق، {يا هُودُ}: منادى مفرد علم، مبني على الضم في محل نصب ب «يا» النائبة مناب أدعو. {ما}: نافية. {جِئْتَنا} : فعل وفاعل ومفعول به، والجملة الفعلية مع الجملة الندائية في محل نصب مقول القول. {بِبَيِّنَةٍ}: متعلقان بالفعل قبلهما، وجوز تعليقهما بمحذوف حال من تاء الفاعل، أي: ملتبسا ببينة. {وَما} :
الواو: حرف عطف. (ما): نافية حجازية. {نَحْنُ} : اسمها. {بِتارِكِي} : الباء: حرف جر صلة. (تاركي): خبر (ما) مجرور لفظا منصوب محلاّ، وفاعله مستتر فيه، وحذفت نونه للإضافة، و (تاركي) مضاف، و {آلِهَتِنا}: مضاف إليه، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه، و (نا): في محل جر بالإضافة. {عَنْ قَوْلِكَ} : متعلقان ب (تاركي)، أو هما متعلقان بمحذوف حال من الضمير المستتر ب (تاركي)، التقدير: صادرين عن قولك، ورجحه الجمل، ورجح ابن عطية الأول، والكاف في محل جر بالإضافة من إضافة المصدر لفاعله، والجملة الاسمية:{وَما نَحْنُ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، فهي في محل نصب مقول القول مثلها، وإعراب ما بعدها مثلها، وهي معطوفة عليها مع ملاحظة: أن الجار والمجرور {قَوْلِكَ} متعلقان بما بعدهما، وجملة:{قالُوا..} . إلخ مستأنفة لا محل لها.
الشرح: {إِنْ نَقُولُ} : ما نقول في شأنك. {إِلاَّ اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ} : إلا أصابك بعض آلهتنا التي نعبدها بجنون لسبك إياها، وصدك عنها، ومن ذلك تهذي، وتتكلم بالخرافات، هذا؛ و (اعتراه) و (عراه) بمعنى واحد، قال أبو صخر الهذلي:[الطويل]
وإنّي لتعروني لذكراك هزّة
…
كما انتفض العصفور بلّله القطر
{قالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللهَ وَاشْهَدُوا..} . إلخ: أجاب به عن مقالتهم الحمقاء بأن أشهد الله على براءته من آلهتهم، وفراغه من إضرارهم، تأكيدا لذلك، وتثبيتا له، وأمرهم بأن يشهدوا عليه، استهانة لهم، وتحقيرا لشأنهم، وأن يجتمعوا على الكيد في إهلاكه من غير إمهال وإنظار له، حتى إذا اجتهدوا فيه، ورأوا أنهم قد عجزوا عن آخرهم-وهم الأقوياء الأشداء-أن يضروه؛ لم يبق لهم شبهة أن آلهتهم التي هي جماد لا تضر ولا تنفع، لا تتمكن من إضراره انتقاما منه، وهذا من جملة معجزاته، فإن مواجهة الواحد الجمع الجم الغفير من الجبابرة الفتاك العطاش إلى إراقة دمه بهذا الكلام، ليس إلا لثقته بالله، وتثبطهم عن إضراره ليس إلا بعصمته إياه. انتهى. بيضاوي.
(السوء): ما يسوء الإنسان من مرض وفقر ونحوهما، هذا؛ والسوء؛ ما يعم أعمال الشر والفساد. {لا تُنْظِرُونِ}: لا تمهلوني، ولا تؤخروا كيدكم لي، وما أشبه هذا القول بقول نوح عليه السلام في الآية [71] يونس {فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ..} . إلخ.
تنبيه: قال الزمخشري في كشافه: فإن قلت: هلا قيل: إني أشهد الله، وأشهدكم، قلت:
لأن إشهاد الله على البراءة من الشرك إشهاد صحيح ثابت في معنى تثبيت التوحيد وشد معاقده، وأما إشهادهم فما هو إلا تهاون بدينهم، ودلالة على قلة المبالاة بهم فحسب، فعدل به عن لفظ الأول لاختلاف ما بينهما، وجيء به على لفظ الأمر بالشهادة، كما يقول الرجل لمن يبس الثرى بينه وبينه: اشهد على أني لا أحبك؛ تهكما به، واستهانة بحاله. انتهى. بحروفه، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.
الإعراب: {إِنْ} : نافية. {نَقُولُ} : مضارع، والفاعل مستتر تقديره:«نحن» . {إِلاَّ} : حرف حصر. {اِعْتَراكَ} ماض مبني على فتح مقدر على الألف للتعذر، والكاف مفعول به. {بَعْضُ}:
فاعله، و {بَعْضُ}: مضاف، و {آلِهَتِنا}: مضاف إليه، و (نا) في محل جر بالإضافة. {بِسُوءٍ}:
متعلقان بالفعل قبلهما، وجملة:{اِعْتَراكَ..} . إلخ في محل نصب مقول القول، وقول أبي البقاء:
الجملة مفسرة لمصدر محذوف، تقديره: إن نقول إلا قولا هو اعتراك، لا وجه له البتة، والجملة الفعلية:{إِنْ نَقُولُ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها، وهي عند التأمل من مقول قوم هود. {قالَ}:
ماض، والفاعل يعود إلى (هود). {إِنِّي}: حرف مشبه بالفعل، وياء المتكلم اسمها. {أُشْهِدُ}:
مضارع، وفاعله مستتر تقديره:«أنا» . {اللهَ} : منصوب على التعظيم، والجملة الفعلية في محل رفع خبر (إن)، والجملة الاسمية:{إِنِّي..} . إلخ في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالَ..} .
إلخ مستأنفة لا محل لها؛ إذ هي بمنزلة جواب لسؤال مقدر. (اشهدوا): أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية معطوفة على الجملة الاسمية، فهي في محل نصب مقول القول مثلها. {إِنِّي}: حرف مشبه بالفعل، وياء المتكلم اسمها. {بَرِيءٌ}:
خبر إن. {مِمّا} : متعلقان ب {بَرِيءٌ؛} لأنه صفة مشبهة، و (ما): تحتمل الموصولة، والموصوفة، والمصدرية، فعلى الأولين مبنية على السكون في محل جر ب (من)، والجملة الفعلية بعدها صلتها أو صفتها، والعائد أو الرابط: محذوف؛ إذ التقدير: بريء من الذي، أو من شيء تشركونه مع الله، وعلى اعتبار (ما) مصدرية تؤول مع الفعل بعدها بمصدر في محل جر ب (من)، والجار والمجرور متعلقان ب {بَرِيءٌ،} التقدير: بريء من شرككم أحدا مع الله، {مِنْ دُونِهِ}:
متعلقان بمحذوف حال من المفعول المحذوف، و {مِنْ} بيان لما أبهم في (ما)، والهاء في محل جر بالإضافة، و (أنّ) واسمها وخبرها في تأويل مصدر في محل نصب سد مسد مفعول {أُشْهِدُ} الثاني؛ لأنه من الرباعي، أو مفعول (اشهدوا)، وهو من الثلاثي يكتفي بمفعول واحد، فأنت
ترى: أن الفعلين تنازعاه، والثاني أولى عند البصريين لقربه، والأول أولى عند الكوفيين لسبقه، وعلى المذهبين يقدر لأحدهما مثل المذكور، ولا تنس: أن المصدر المؤول من: {أَنِّي بَرِيءٌ..} . إلخ في الأصل مجرور بحرف جر، فلما حذف الجار انتصب كما رأيت. {فَكِيدُونِي}:
الفاء: هي الفصيحة، وانظر الآية رقم [17]، (كيدوني): أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والنون للوقاية، وياء المتكلم مفعول به، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها جواب لشرط غير جازم، التقدير: وإذا كان ذلك حاصلا مني؛ فكيدوني، وهو أولى من العطف على جملة:(اشهدوا). {جَمِيعاً} : حال مؤكدة لواو الجماعة. {ثُمَّ} : حرف عطف. {لا} : ناهية.
{تُنْظِرُونِ} : مضارع مجزوم ب {لا} الناهية، وعلامة جزمه حذف النون
…
إلخ، والواو فاعله، والنون للوقاية، وياء المتكلم المحذوفة مفعول به، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، و (إذا) المقدرة ومدخولها في محل نصب مقول القول. تأمل، وتدبر، وربك أعلم.
الشرح: {إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ..} . إلخ: هذا تقرير لما ذكره في الآية السابقة، والمعنى:
إنكم، وإن بذلتم غاية وسعكم لم تضروني؛ لأني متوكل على الله، واثق بحفظه ورعايته، وهو مالكي ومالككم لا يحيق بي ما لم يرده، ولا تقدرون على ما لم يقدّره. {ما مِنْ دَابَّةٍ إِلاّ هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها} أي: إلا وهو مالك لها، وقادر عليها، يصرفها على حسب ما يريد ويشاء، والأخذ بالنواصي تمثيل لذلك، والناصية: مقدم الرأس، وإنما خص الناصية بالذكر؛ لأن العرب تستعمل ذلك كثيرا في كلامهم، فإذا وصفوا إنسانا بالذلة مع غيره؛ يقولون: ناصية فلان بيد فلان، وكانوا إذا أسروا أسيرا، وأرادوا إطلاقه؛ جزوا ناصيته ليمنوا عليه، ويعتدّوا بذلك فخرا عليه، فخاطبهم الله بما يعرفون من كلامهم. {إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ} أي: إنه على الحق والعدل لا يضيع عنده معتصم به، ولا يعجزه ظالم، ولا يعمل إلا بالإحسان والإنصاف، فيجازي المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته.
الإعراب: {إِنِّي} : حرف مشبه بالفعل، وياء المتكلم اسمها. {تَوَكَّلْتُ}: فعل وفاعل. {عَلَى اللهِ} : متعلقان بما قبلهما. {رَبِّي} : بدل من لفظ الجلالة، أو عطف بيان عليه مجرور مثله، وعلامة جره كسرة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم
…
إلخ، والياء في محل جر بالإضافة.
(ربكم): معطوف عليه، والكاف في محل جر بالإضافة من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه، وجملة:{تَوَكَّلْتُ..} . إلخ في محل رفع خبر (إن)، والجملة الاسمية:{إِنِّي..} . إلخ تعليل لما قبلها لا محل لها. {ما} : نافية. {مِنْ} : حرف جر صلة. {دَابَّةٍ} : مبتدأ مرفوع،
وعلامة رفعه ضمة مقدرة على آخره، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد، {إِلاّ}: حرف حصر. {هُوَ} : ضمير مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ. {آخِذٌ} : خبره، وفاعله مستتر فيه. {بِناصِيَتِها}: متعلقان ب {آخِذٌ،} و (ها): في محل جر بالإضافة، والجملة الاسمية:{هُوَ..} . إلخ في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية:{ما مِنْ دَابَّةٍ..} . إلخ تعليل، أو مستأنفة لا محل لها، والجملة الاسمية:{إِنَّ رَبِّي..} . إلخ مثلها تعليل، أو مستأنفة.
تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم.
الشرح: {فَإِنْ تَوَلَّوْا} أي: فإن تتولوا بمعنى تعرضوا عن الإيمان بما أرسلت به إليكم، فقد حذفت من الفعل إحدى التاءين، وهذا الحذف كثير في القرآن الكريم والكلام العربي. {فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ} أي: فقد أديت ما كلفت به من التبليغ وإلزام الحجة، فلم أقصر بشيء من ذلك، وإنما التقصير حاصل منكم في قبول ذلك. {وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ} أي:
يهلككم ويخلق من هو أطوع منكم يوحدونه ويعبدونه، ففيه تهديد ووعيد لهم. {وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً} أي: بإعراضكم، وإنما تضرون أنفسكم بذلك، وقيل: المعنى لا تنقصونه شيئا إذا أهلككم؛ لأن وجودكم وعدمكم عنده سواء. {إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ} : رقيب، فلا يخفي عليه شيء من أعمالكم، فيجازيكم بها، الإحسان بالإحسان، والإساءة بالإساءة.
الإعراب: {فَإِنْ} : الفاء: حرف استئناف. (إن): حرف شرط جازم. {تَوَلَّوْا} : مضارع فعل الشرط مجزوم، وعلامة جزمه حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق، ومتعلقه محذوف، التقدير: فإن تتولوا عن الإيمان بالله، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي. {فَقَدْ} : الفاء: واقعة في جواب الشرط. (قد): حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال. {أَبْلَغْتُكُمْ} : فعل وفاعل ومفعول به أول، {ما}: موصولة، أو موصوفة مبنية على السكون في محل نصب مفعول به ثان. {أُرْسِلْتُ}: ماض، ونائب فاعله. {بِهِ}:
متعلقان بما قبلهما. {إِلَيْكُمْ} : متعلقان بالفعل قبلهما، وجملة:{أُرْسِلْتُ..} . إلخ صلة {ما..} .
أو صفتها، والعائد أو الرابط: الضمير المجرور محلاّ بالباء، وجملة:{فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ..} . إلخ في محل جزم جواب الشرط، هذا هو الظاهر، وعند التأمل يظهر لك أن الجواب محذوف، وأن الجملة الفعلية تعليل لهذا المحذوف، وتقدير الكلام: فإن تتولوا عن الإيمان بالله فلا أبالي، ولا علي مؤاخذة في شأنكم لأني قد
…
إلخ. و (إن) ومدخولها كلام مستأنف لا محل له.
(يستخلف): مضارع مرفوع. {رَبِّي} : فاعل مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على ما قبل ياء
المتكلم، والياء في محل جر بالإضافة. {قَوْماً}: مفعول به. {غَيْرَكُمْ} : صفة: {قَوْماً،} والكاف في محل جر بالإضافة، وهذه الإضافة لم تفده تعريفا ولا تخصيصا، ولذا وصفت به النكرة، وجملة: (يستخلف
…
) إلخ مستأنفة لا محل لها، هذا؛ ويقرأ الفعل بالجزم على اعتباره معطوفا على محل جواب الشرط. {وَلا}: الواو: حرف عطف. (لا): نافية. {تَضُرُّونَهُ} : فعل وفاعل ومفعول به، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، هذا؛ ويقرأ الفعل بحذف النون، أي: بجزمه بسبب العطف على جواب الشرط. {شَيْئاً} : مفعول به ثان، وقيل: هو نائب مفعول مطلق.
{فَإِنْ} : حرف مشبه بالفعل. {رَبِّي} : اسمها منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم
…
إلخ، والياء في محل جر بالإضافة من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {عَلى كُلِّ}: متعلقان ب {حَفِيظٌ} بعدهما، و {كُلِّ}: مضاف، و {شَيْءٍ}: مضاف إليه.
{حَفِيظٌ} : خبر {فَإِنْ،} والجملة الاسمية: {إِنَّ رَبِّي..} . إلخ تعليل لما قبلها، وعند التأمل يتبين لك أن الآية بكاملها، وأيضا الآية السابقة في محل نصب مقول القول؛ إذ كل ذلك من قول هود، عليه الصلاة، والسّلام.
الشرح: {وَلَمّا جاءَ أَمْرُنا} أي: بإهلاكهم وعذابهم. {نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنّا} : وكانوا أربعة آلاف، وذكر الرحمة يشير إلى أن أحدا لا ينجو إلا برحمته وفضله-سبحانه! - وإن كانت له أعمال صالحة، وسواء في الدنيا أو في الآخرة، وفي الصحيحين وغيرهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«لن ينجي أحدا منكم عمله. قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟، قال: ولا أنا إلاّ أن يتغمّدني الله برحمته» .
{وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ} : قال البيضاوي: هذا تكرير لبيان ما نجاهم منه، وهو السموم، كانت تدخل أنوف الكفرة، وتخرج من أدبارهم، فتقطع أمعاءهم، أو المراد به تنجيهم من عذاب الآخرة أيضا، والتعريض بأن المهلكين كما عذبوا في الدنيا بالسموم، فهم معذبون في الآخرة بالعذاب الغليظ. انتهى. قال الخازن: وهو الصحيح ليحصل الفرق بين العذابين، هذا؛ وقد أهلك الله قوم هود بالرياح العاتية، كما ذكر في سورة الذاريات، والقمر، والحاقة، وغير ذلك، وانظر تفصيل ذلك في الآية [71](الأعراف) وانظر (نا) في الآية [8].
الإعراب: {وَلَمّا} : الواو: حرف استئناف. (لما): حرف وجود لوجود عند سيبويه، وبعضهم يقول: حرف وجوب لوجوب، وهي ظرف بمعنى:«حين» عند ابن السراج والفارسي وابن جني وجماعة، تتطلب جملتين مرتبطتين ببعضهما ارتباط فعل الشرط بجوابه، وصوب ابن
هشام الأول، والمشهور الثاني، وجملة:{جاءَ أَمْرُنا} لا محل لها؛ لأنها ابتدائية على القول بحرفية: (لما) وهي في محل جر بإضافة: (لمّا) إليها على القول بظرفيتها، واعتبارها متعلقة بالجواب، وجملة:{نَجَّيْنا هُوداً} جواب لما لا محل لها، (الذين): اسم موصول مبني على الفتح في محل نصب معطوف على {هُوداً} . {آمَنُوا} : فعل وفاعل، والألف للتفريق، والجملة الفعلية صلة الموصول لا محل لها. {مَعَهُ}: ظرف مكان متعلق بالفعل قبله، والهاء في محل جر بالإضافة. {بِرَحْمَةٍ}: متعلقان بالفعل: {نَجَّيْنا} . {مِنّا} : متعلقان ب (رحمة) أو بمحذوف صفة لها. (نجيناهم): فعل وفاعل ومفعول به، والجملة الفعلية معطوفة على جواب:(لما)، لا محل لها مثله. {مِنْ عَذابٍ}: متعلقان بما قبلهما. {غَلِيظٍ} : صفة: {عَذابٍ} .
الشرح: {وَتِلْكَ عادٌ جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ} : لما قص الله سبحانه قصة قوم عاد، خاطب محمدا صلى الله عليه وسلم وأمته، فقال:{وَتِلْكَ عادٌ} رده إلى القبيلة، وفيه إشارة إلى قبورهم، وآثارهم، فكأنه قال: سيروا في الأرض، فانظروا إليها، واعتبروا، وقد صرح سبحانه بذلك في كثير من الآيات، وانظر (الإشارة) في الآية [49] ومعنى:{جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ} : كذبوها، وكفروا بها. {وَعَصَوْا رُسُلَهُ}: خالفوا وعاندوا رسول الله هودا عليه السلام، وإنما جمعه للتعظيم، أو لأن من كذب برسول فقد كذب كل الرسل. {وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبّارٍ عَنِيدٍ} أي: اتبعوا أمر كبرائهم الطاغين المعاندين، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.
بعد هذا انظر شرح {عادٌ} في الآية [65](الأعراف)، وصرف هنا لإرادة الأب، ولو أريد به القبيلة لمنع من الصرف، وجحد الشيء: أنكره، وكذبه، وكفر به. {رُسُلَهُ}: يجوز ضم السين وإسكانها، هذا؛ والعنيد. الطاغي الذي لا يقبل الحق ولا يذعن له. قال أبو عبيد: العنيد والعنود، والعاند، والمعاند: المعارض بالخلاف، وعند يعند من الباب الأول، والثاني، وعند يعند من الباب الرابع، وعند يعند من الباب الخامس، والمصدر: عندا، وعنودا، وعندا.
الإعراب: {وَتِلْكَ} : (تلك): اسم إشارة مبني على الكسر في محل رفع مبتدأ، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب لا محل له. {عادٌ}: خبره. {جَحَدُوا} : فعل وفاعل، والألف للتفريق، {بِآياتِ}: متعلقان بالفعل قبلهما، و (آيات) مضاف، و {رَبِّهِمْ}: مضاف إليه، والهاء ضمير متصل في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه، وجملة:
{جَحَدُوا..} . إلخ في محل رفع صفة: {عادٌ،} وإن اعتبرته معرفة؛ فالجملة في محل نصب حال منه، والرابط: واو الجماعة، وهي عائدة على أفراد القبيلة، ومثلها الهاء، والجملة على تقدير:
«قد» قبلها، والعامل في الحال اسم الإشارة، (عصوا): ماض مبني على فتح مقدر على الألف المحذوفة لالتقائها ساكنة مع واو الجماعة. {رُسُلَهُ} : مفعول به، والهاء في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها على الاعتبارين فيها، وجملة:{وَاتَّبَعُوا أَمْرَ..} .
إلخ معطوفة أيضا، وإعرابها واضح إن شاء الله تعالى.
الشرح: {وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ} أي: جعلت اللعنة تابعة لهم في الدارين:
الدنيا والآخرة، تكبهم في العذاب، واللعن: الطرد من رحمة الله تعالى، وانظر التوسع فيه في الآية [43] (الأعراف). {أَلا إِنَّ عاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ}: جحدوا ربهم، والفعل (كفر) يتعدى بنفسه وبحرف الجر، كما تقول: شكرته، وشكرت له، ونصحته، ونصحت له، والواو والهاء عائدتان على عاد كما في الآية السابقة. {أَلا بُعْداً لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ} أي: لا زالوا مطرودين، ومبعدين من رحمة الله، وإنما كرر {أَلا} وأعاد ذكرهم تفظيعا لأمرهم، وحثّا على الاعتبار بحالهم، هذا؛ وأعاد الإبعاد-وهو مفهوم معنى اللعنة-بعبارتين مختلفتين ليدل على التأكيد وكونهم مستحقين له، وقيد عاد ب {قَوْمِ هُودٍ} احترازا من عاد الثانية وهي عاد إرم ذات العماد، وهم العماليق، قوم شداد بن عاد الذين سيأتي ذكرهم في سورة الفجر إن شاء الله تعالى.
الإعراب: {وَأُتْبِعُوا} : الواو: حرف عطف. (أتبعوا): ماض مبني للمجهول، والواو نائب فاعله، وهو المفعول الأول، والألف للتفريق، والجملة الفعلية معطوفة على الجمل في الآية السابقة. {فِي هذِهِ}: متعلقان بالفعل قبلهما، والهاء حرف تنبيه لا محل له. {الدُّنْيا}: بدل من اسم الإشارة، أو عطف بيان عليه مجرور مثله، وعلامة جره كسرة مقدرة على الألف للتعذر.
{لَعْنَةً} : مفعول به ثان. (يوم): ظرف زمان معطوف على الجار والمجرور: {فِي هذِهِ} فهو متعلق بالفعل: (أتبعوا) بسبب العطف، و (يوم) مضاف، و {الْقِيامَةِ}: مضاف إليه. {أَلا} :
حرف تنبيه واستفتاح يسترعي انتباه المخاطب لما يأتي بعده من كلام. {إِنَّ} : حرف مشبه بالفعل. {عاداً} : اسمها، وجملة:{كَفَرُوا رَبَّهُمْ} في محل رفع خبر: {إِنَّ،} والجملة الاسمية: {أَلا إِنَّ..} . إلخ ابتدائية، أو مستأنفة لا محل لها. {أَلا}: مثل سابقتها. {بُعْداً} :
مفعول مطلق لفعل محذوف، جملته مؤكدة لما قبلها. {لِعادٍ}: متعلقان بالمصدر قبلهما.
{قَوْمِ} : بدل مما قبله، أو عطف بيان عليه، و {قَوْمِ}: مضاف، و {هُودٍ}: مضاف إليه.
الشرح: {وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً} انظر شرح هذه الكلمات في الآية رقم [73] من سورة (الأعراف) ففيها الكفاية. {قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ} انظر هذا الكلام في الآية رقم [50] فهو مثله بلا فارق. {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} أي: ابتدأ خلقكم من الأرض، وذلك أن آدم عليه السلام خلق من الأرض، وهذا خلق غير مباشر للمخاطبين، ويكون مباشرا لهم إذا رجعنا إلى تحليل النطفة التي يتكون منها الإنسان، فإنها من الدم، ومصدر الدم في الإنسان الطعام والشراب على اختلاف أنواعهما وألوانهما، فإنهما من الأرض بلا ريب. {وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها} أي: جعلكم عمارها، وسكانها، وقال الضحاك: أطال أعماركم فيها حتى كان الواحد منهم يعيش ثلاثمائة سنة إلى ألف، وكذلك كان قوم عاد، وقال مجاهد: أعمركم من العمري، أي: جعلها لكم ما عشتم. انتهى. خازن. أقول: والمعتمد الأول بدليل قوله لهم في سورة (الأعراف): {وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتاً} .
{فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ} : الكلام الشافي على هاتين الجملتين انظره في الآية رقم [3]{إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ} أي: قريب الإجابة لمن دعاه وسأله، وقد توسعت في ذلك في سورة (البقرة) الآية [186] والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.
الإعراب: {وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ} : انظر إعراب هذا الكلام في الآية رقم [50] فهو مثله بلا فارق، علما بأن:{ثَمُودَ} يقرأ بالصرف وعدمه.
{هُوَ} : ضمير منفصل مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ. {أَنْشَأَكُمْ} : ماض، والفاعل يعود إلى {اللهَ،} والكاف مفعول به. {مِنَ الْأَرْضِ} : متعلقان بالفعل قبلهما، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة لا محل لها وهي من مقول (صالح)، وجملة:
{وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها} معطوفة على ما قبلها، فهي في محل رفع مثلها. {فَاسْتَغْفِرُوهُ}: الفاء: هي الفصيحة. (استغفروه): أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والهاء مفعول به، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها جواب لشرط غير جازم؛ إذ التقدير: وإذا كان ما ذكر حاصلا وواقعا؛ فاستغفروه، والكلام في الحقيقة من مقول صالح عليه السلام، وجملة:{تُوبُوا إِلَيْهِ} معطوفة على ما قبلها. {إِنَّ} : حرف مشبه بالفعل. {رَبِّي} : اسم إن منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم
…
إلخ، والياء في محل جر بالإضافة من إضافة اسم
الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {قَرِيبٌ مُجِيبٌ}: خبران ل {إِنَّ،} والجملة الاسمية لا محل لها باعتبارها تعليلا للأمر، أو مستأنفة، وهي في محل نصب مقول القول باعتبارها من مقول صالح على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام.
الشرح: {قالُوا يا صالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هذا} أي: كنا نرجو أن تكون فينا سيدا قبل ادعائك النبوة؛ وذلك لما نرى فيك من مخايل الرشد، والسداد، وأن تكون لنا مستشارا في الأمور، وأن تؤيدنا في الدين، فلما سمعنا هذا القول منك؛ انقطع رجاؤنا فيك. {مَرْجُوًّا} أصله:(مرجووا)، فأدغمت الواو في الواو، وشددت. {أَتَنْهانا أَنْ نَعْبُدَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا} أي: من الأوثان والأصنام. {وَإِنَّنا لَفِي شَكٍّ مِمّا تَدْعُونا إِلَيْهِ} : من التوحيد، وعبادة إله واحد، ونبذ عبادة الأصنام. {مُرِيبٍ}: موقع في الريبة، هذا؛ وفي سورة (إبراهيم) عليه السلام {وَإِنَّنا لَفِي شَكٍّ مِمّا تَدْعُونا إِلَيْهِ مُرِيبٍ} بحذف نون (نا) للتخفيف، وبالخطاب لجماعة الرسل، كما ستقف عليه إن شاء الله تعالى، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.
هذا؛ والعبادة غاية التذلل، ولا يستحقها إلا من له غاية الإفضال، وهو الله تعالى، ولذا يحرم السجود لغير الله تعالى، وقيل: العبودية أربعة: الوفاء بالعهود، والرضا بالموجود، والحفظ للحدود، والصبر على المفقود، والشك في اللغة: خلاف اليقين، وهو اعتدال النقيضين عند الإنسان لوجود أمارتين، أو لعدم الأمارة، والشك ضرب من الجهل، والريب: الشك أيضا، تقول: رابني هذا الأمر، أي: أوقعني في شك، وحقيقة الريبة قلق النفس، واضطرابها، قال الرسول صلى الله عليه وسلم:«دع ما يريبك إلى ما لا يريبك» . رواه النسائي والترمذي عن الحسن بن علي رضي الله عنهما.
الإعراب: {قالُوا} : ماض والواو فاعله، والألف للتفريق. {يا صالِحُ}: منادى مفرد علم مبني على الضم في محل نصب ب (يا) القائمة مقام (أدعو). {قَدْ} : حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال. {كُنْتَ} : ماض ناقص مبني على السكون، والتاء اسمه. {فِينا}:
متعلقان ب {مَرْجُوًّا} الذي هو خبر (كان). {قَبْلَ} : ظرف زمان متعلق ب {مَرْجُوًّا} أيضا؛ لأنه صيغة مفعول، كما رأيت، وقبل مضاف، و {هذا} اسم إشارة مبني على السكون في محل جر بالإضافة، والهاء حرف تنبيه لا محل له. {أَتَنْهانا}: الهمزة: حرف استفهام إنكاري.
(تنهانا): مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر، والفاعل مستتر تقديره:
«أنت» ، و (نا): مفعول به، والمصدر المؤول من {أَنْ نَعْبُدَ} في محل جر بحرف جر محذوف،
التقدير: عن عبادة
…
إلخ، والجار والمجرور متعلقان بالفعل (تنهى). {ما}: اسم موصول، أو نكرة موصولة مبنية على السكون في محل نصب مفعول به، والجملة الفعلية بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد أو الرابط محذوف؛ إذ التقدير: أن نعبد الذي، أو شيئا يعبده آباؤنا.
{وَإِنَّنا} : الواو: واو الحال. (إننا): حرف مشبه بالفعل، و (نا): اسمها. {لَفِي} : اللام: هي المزحلقة. (في شكّ): متعلقان بمحذوف خبر (إن). {مِمّا} : جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة: {شَكٍّ،} و (ما) تحتمل الموصولة، والموصوفة. {تَدْعُونا}: مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الواو للثقل، والفاعل تقديره:«أنت» ، و (نا): مفعول به. {إِلَيْهِ} :
متعلقان بالفعل قبلهما، وجملة:{تَدْعُونا إِلَيْهِ} صلة (ما)، أو صفتها، والعائد أو الرابط:
الضمير المجرور ب (إلى). {مُرِيبٍ} : صفة ثانية ل {شَكٍّ،} والجملة الاسمية: (إننا
…
) إلخ في محل نصب حال من فاعل {نَعْبُدَ} المستتر، والرابط: الواو والضمير، ولعلك تدرك معي:
أن الآية بكاملها في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالُوا..} . إلخ مستأنفة لا محل لها.
الشرح: {قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي مِنْهُ رَحْمَةً} : انظر شرح هذا الكلام في الآية رقم [28]{فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللهِ إِنْ عَصَيْتُهُ} أي: فمن يمنعني من عذاب الله تعالى إن خالفت أوامره، أو قصرت في تبليغ ما كلفني به من الرسالة؟! {فَما تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ} أي: إن خالفت أوامره، واتبعت قولكم، فما أزداد بذلك إلا خسارة في ديني، ودنياي، وآخرتي، وإبعادا من الخير، وقيل: المعنى فما تزيدونني بما تقولون لي غير أني أنسبكم إلى الخسران، وقال ابن عباس-رضي الله عنهما: معناه غير بصارة في خسارتكم، وهو كما ترى غير ملائم للنص، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.
الإعراب: {قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي مِنْهُ رَحْمَةً} : انظر إعراب هذا الكلام في الآية رقم [28]. {فَمَنْ} : الفاء: واقعة في جواب الشرط. (من): اسم استفهام مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {يَنْصُرُنِي} : مضارع، والنون للوقاية، وياء المتكلم مفعول به، والفاعل ضمير مستتر يعود إلى (من)، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية:{فَمَنْ يَنْصُرُنِي..} . إلخ في محل جزم جواب الشرط. {مِنَ اللهِ} : متعلقان بالفعل قبلهما. {إِنْ} : حرف شرط جازم. {عَصَيْتُهُ} : فعل وفاعل ومفعول به، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي، وجواب الشرط دل عليه جواب الشرط السابق. {فَما}: الفاء: حرف استئناف. (ما): نافية. {تَزِيدُونَنِي} : مضارع مرفوع،
وعلامة رفعه ثبوت النون
…
إلخ، والواو فاعله، والنون للوقاية، وياء المتكلم مفعول به أول.
{غَيْرَ} : مفعول به ثان، ومعناه الاستثناء، وقيل: صفة لمفعول ثان محذوف، التقدير: شيئا غير و {تَخْسِيرٍ} : مضاف إليه، والجملة الفعلية:{فَما تَزِيدُونَنِي..} . إلخ مستأنفة لا محل لها.
تنبيه: بقي أن تعرف: أن الفعل {أَرَأَيْتُمْ} يتعدى إلى مفعولين، وأن الثاني أكثر ما يكون جملة استفهامية ينعقد منها مع ما قبلها مبتدأ، وخبر، كقول العرب: أرأيت زيدا ما صنع؟ والمعنى: أخبرني عن زيد ما صنع، إذا تقرر هذا فالمفعول الأول هنا محذوف، ولا يصح أن تقع جملة الشرط موقعه، والجملة الاستفهامية:{فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللهِ} هي المفعول الثاني، ولكن اقترانها بالفاء الرابطة لجواب الشرط عينها جوابا للشرط، وعليه فالمفعول الثاني محذوف وجواب الشرط يدل عليه، ويقدر مؤخرا عن الشرط وجوابه ليكون الشرط وجوابه كلاما معترضا بين المفعولين المقدرين كما يلي: قال: يا قوم أخبروني من ينصرني من الله إن عصيته، وانظر الآية رقم [40] من سورة (الأنعام)، والآية رقم [50] من سورة (يونس)، إن أردت الزيادة.
الشرح: {وَيا قَوْمِ هذِهِ ناقَةُ اللهِ} : قيل لها: {ناقَةُ اللهِ؛} لأنه تعالى أخرجها من صخرة صماء منفردة في ناحية الحجر، يقال لها: الكاثية، فلما خرجت على حسب ما طلبوا ثم ولدت فصيلا يشبهها، قال لهم صالح عليه السلام {هذِهِ ناقَةُ اللهِ}. {لَكُمْ آيَةً}: معجزة تدل على صدقي فيما أدعيه من النبوة. {فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللهِ} : تأكل نباتها، وتشرب ماءها، وليس عليكم مئونتها. {وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ}: هذا نهي عن المس الذي هو مقدمة الإصابة بالسوء الجامع لأنواع الأذى مبالغة في الأمر، وإزاحة للعذر، {فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ قَرِيبٌ}: عاجل، لا يتراخى عن مسكم لها بالسوء، وفي (الأعراف):{عَذابٌ أَلِيمٌ} .
هذا؛ وعذاب اسم مصدر لا مصدر؛ لأن المصدر تعذيب؛ لأنه من عذّب يعذّب بتشديد الذال فيها، وقيل: هو مصدر على حذف الزوائد، مثل عطاء ونبات لأعطى، وأنبت، هذا؛ وانظر شرح (ذر) في الآية [69] من سورة (الأعراف).
الإعراب: {وَيا قَوْمِ} منادى، انظر تفصيله في الآية رقم [28]. {هذِهِ}: الهاء: حرف تنبيه لا محل له. ذه: اسم إشارة مبني على الكسر في محل رفع مبتدأ. {ناقَةُ} : خبر المبتدأ، و {ناقَةُ}: مضاف، و {اللهِ}: مضاف إليه، وهذه الإضافة للتشريف. {لَكُمْ}: متعلقان بمحذوف حال من {آيَةً،} كان صفة له، فلما قدم عليه صار حالا على القاعدة:«نعت النكرة إذا تقدم عليها صار حالا» . {آيَةً} : حال من {ناقَةُ اللهِ،} والعامل فيها التنبيه أو الإشارة.
{فَذَرُوها} : الفاء: هي الفصيحة، وانظر ما ذكرته في الآية [17] (ذروها): أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، و (ها): مفعول به، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها جواب شرط غير جازم، التقدير: وإذا كان ذلك حاصلا وواقعا؛ فذروها. {تَأْكُلْ} : مضارع مجزوم جوابا للطلب وجزمه عند الجمهور بشرط محذوف، والفاعل مستتر تقديره:«هي» ، وقال أبو إسحاق الزجاج: ويجوز رفع (تأكل) على الحال أو الاستئناف، ولم أجد من قرأ به. {فِي أَرْضِ}:
متعلقان بما قبلهما، و {أَرْضِ}: مضاف، و {اللهِ}: مضاف إليه. {وَلا تَمَسُّوها} : مضارع مجزوم ب (لا) الناهية، وعلامة جزمه حذف النون
…
إلخ، والواو فاعله، و (ها): مفعول به، والجملة الفعلية معطوفة على جملة:(ذروها) لا محل لها مثلها. {بِسُوءٍ} : متعلقان بالفعل قبلهما.
{فَيَأْخُذَكُمْ} : مضارع منصوب ب «أن» مضمرة بعد الفاء السببية، والكاف مفعول به. {عَذابٌ}:
فاعله. {قَرِيبٌ} : صفة، و «أن» المضمرة والمضارع في تأويل مصدر معطوف بالفاء على مصدر متصيد من الفعل السابق، التقدير: لا يكن منكم مس للناقة بسوء؛ فأخذ لكم، بعد هذا لعلك تدرك معي أن الآية بكاملها في محل نصب مقول القول؛ لأنها من مقول صالح عليه السلام، وينبغي أن تعلم: أن الآية مذكورة بحروفها في (الأعراف) برقم [73].
{فَعَقَرُوها فَقالَ تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيّامٍ ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (65)}
الشرح: {فَعَقَرُوها} : عقرها رجل منهم اسمه قدار، ضربها في رجليها، فأوقعها، فذبحوها، واقتسموا لحمها، و (قدار) هذا من أشقى الأشقياء الأولين، وأشقى الآخرين عبد الرحمن بن ملجم قاتل علي بن أبي طالب كرم الله وجهه. قال النبي صلى الله عليه وسلم:«يا عليّ! أشقى الأوّلين عاقر ناقة صالح، وأشقى الآخرين قاتلك» . هذا؛ وأضيف عقر الناقة إلى كل القوم؛ لأنه كان برضاهم. {فَقالَ} أي: صالح عليه السلام. {تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ} : عيشوا في دياركم. {ثَلاثَةَ أَيّامٍ} : هي يوم الخميس، والجمعة، والسبت، وأتاهم العذاب يوم الأحد، والعقر كان يوم الأربعاء. {ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ} أي: غير مكذوب فيه، فاتسع في الظرف بحذف حرف الجر، وإجرائه مجرى المفعول به، قال الشاعر:[الطويل]
ويوما شهدناه سليما وعامرا
…
قليلا سوى الطّعن النّهال نوافله
أي: شهدنا فيه، فحذف حرف الجر، وانتصب الضمير، واتصل بالفعل، أو هو مصدر كالمجلود والمعقول، فيكون التقدير: وعد غير كذب، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.
هذا؛ ولقد ذكرت لك في الآية رقم [73] من سورة (الأعراف): أن الجمل نقل عن كتاب «التحبير» أن صالحا عليه الصلاة والسلام قد عاش مائتين وثمانين سنة، وذكرت في الآية رقم [78] منها أن الخازن نقلا عن أهل العلم: أنه قد عاش ثمانية وخمسين عاما، وأقام في قومه عشرين
عاما، ولدى مراجعة قصص الأنبياء للثعلبي وجدت: أن ما قاله الخازن موافق لما قاله الثعلبي، والله أعلم بحقيقة ذلك، ولم يذكر النجار شيئا من ذلك.
روي أن صالحا-عليه السلام-قال لهم: يأتيكم العذاب بعد ثلاثة أيام، فتصبحون في اليوم الأول، ووجوهكم مصفرة، وفي اليوم الثاني محمرة، وفي اليوم الثالث مسودة، فكان كما قال، وأتاهم العذاب في اليوم الرابع.
الإعراب: {فَعَقَرُوها} : ماض وفاعله ومفعوله، والجملة الفعلية مستأنفة لا محل لها.
(قال): ماض، وفاعله يعود إلى صالح عليه السلام. {تَمَتَّعُوا}: أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق. {فِي دارِكُمْ}: متعلقان بالفعل قبلهما، والكاف في محل جر بالإضافة، {ثَلاثَةَ}: ظرف زمان متعلق بالفعل قبله، و {ثَلاثَةَ}: مضاف، و {أَيّامٍ}: مضاف إليه، وجملة:{تَمَتَّعُوا..} . إلخ في محل نصب مقول القول، وجملة: (قال
…
) إلخ معطوفة على ما قبلها، أو مستأنفة لا محل لها على الوجهين. {ذلِكَ}: اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع مبتدأ، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب لا محل له. {وَعْدٌ}: خبر المبتدأ.
{غَيْرُ} : صفة له، و {غَيْرُ}: مضاف، و {مَكْذُوبٍ}: مضاف إليه، والجملة الاسمية:
{ذلِكَ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم.
الشرح: {فَلَمّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا صالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنّا} : انظر مثل هذا في الآية رقم [58]{وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ} أي: ونجيناهم من خزي يومئذ، هذا؛ والخزي الذل، والفضيحة، والمراد به ما لحق قوم صالح-عليه السلام-من العذاب الدنيوي، وانظر الآية [78] الآتية، هذا؛ ويقرأ {يَوْمِئِذٍ} بكسر الميم على الإعراب، ويقرأ بفتح الميم على البناء لاكتساب المضاف البناء من المضاف إليه، ومثل الآية الكريمة قول النابغة الذبياني:[الطويل]
على حين عاتبت المشيب على الصّبا
…
فقلت: ألمّا أصح، والشّيب وازع؟
هذا؛ وتنوين (إذ) عوض عن جملة محذوفة تضاف (إذ) إليها في الأصل، فإن الأصل:(يوم إذ نزل بهم العذاب الأليم والعقاب الشديد)، فحذفت الجملة الفعلية، وعوض عنها التنوين، وكسرت (إذ) لالتقاء الساكنين، كما كسرت (صه) و (مه) عند تنوينهما، وقل مثل ذلك في حينئذ وساعتئذ ونحوهما. {إِنَّ رَبَّكَ}: خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، ويعم كل عاقل إلى يوم القيامة.
{الْقَوِيُّ} : القادر على إنجاء المؤمنين، وإهلاك الكافرين والمعاندين في كل وقت وحين.
{الْعَزِيزُ} : الغالب القاهر فوق عباده، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.
الإعراب: {فَلَمّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا صالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنّا} : انظر الإعراب في الآية رقم [58] فهو مثله بلا فارق. {وَمِنْ خِزْيِ} : متعلقان بفعل محذوف انظر الشرح بدليل:
{وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ} في الآية [58] وقيل: الواو زائدة، وليس بشيء، و {خِزْيِ}: مضاف، و (يوم) مضاف إليه مجرور، أو مبني على الفتح في محل جر، و (يوم) مضاف، و (إذ) ظرف لما مضى من الزمان مبني على السكون في محل جر بالإضافة، وحرك بالكسر لالتقاء الساكنين، وانظر الشرح. {إِنَّ}: حرف مشبه بالفعل. {رَبَّكَ} : اسمها، والكاف في محل جر بالإضافة من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {هُوَ}: فيه ثلاثة أوجه: الأول: أن يكون توكيدا لاسم: {إِنَّ} على المحل، والثاني: أن يكون ضمير فصل لا محل له من الإعراب، وعلى هذين الوجهين ف {الْقَوِيُّ} خبر {إِنَّ،} والثالث: أن يكون مبتدأ و {الْقَوِيُّ} خبره، والجملة الاسمية في محل رفع خبر:{إِنَّ،} والجملة الاسمية مستأنفة، أو تعليل للكلام السابق لا محل لها على الاعتبارين. {الْعَزِيزُ}: خبر ثان، و (لمّا) ومدخولها كلام مستأنف لا محل له.
{وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ (67)}
الشرح: {وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ} أي: في اليوم الرابع من عقر الناقة كما رأيت، صاح بهم جبريل صيحة، فأهلكتهم، فتقطعت قلوبهم وماتوا، ولم يصب صالحا، والمؤمنين معه أيّ أذى، وقال جل ذكره في الآية [78] (الأعراف):{فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ،} وهي الزلزلة، وقد ذكرت بيانه هناك. {فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ}: خامدين ميتين، وقال في (الأعراف){فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ} انظر الشرح هناك، و {جاثِمِينَ} مستعار من قولهم: جثم الطير إذا قعد، ولطأ بالأرض.
قال القرطبي: وفي التفسير لمّا أيقنوا بالعذاب، قال بعضهم لبعض: ما مقامكم أن يأتيكم العذاب بغتة؟! قالوا: فما نصنع؟ فأخذوا سيوفهم ورماحهم وعددهم، وكانوا فيما يقال: اثني عشر ألف قبيلة، في كل قبيلة اثنا عشر ألف مقاتل، فوقفوا على الطرق والفجاج، زعموا: أنهم يلاقون العذاب، فأوحى الله إلى الملك الموكل بالشمس أن يعذبهم بحرها، فأدناها من رءوسهم، فاشتوت أيديهم، وتدلت ألسنتهم على صدورهم من العطش، ومات كل ما كان معهم من البهائم، وجعل الماء يفور من تلك العيون من غليانه حتى يبلغ السماء، لا يسقط على شيء، إلا أهلكه من شدة حره، فما زالوا كذلك، وأوحى الله إلى ملك الموت ألا يقبض أرواحهم تعذيبا لهم، إلى أن غربت الشمس، فصيح بهم، فأهلكوا. انتهى. بحروفه.
الإعراب: {وَأَخَذَ} : ماض. {الَّذِينَ} : اسم موصول مبني على الفتح في محل نصب مفعول به. {ظَلَمُوا} : فعل وفاعل، والألف للتفريق، والمفعول محذوف، أي: ظلموا أنفسهم، والجملة الفعلية صلة الموصول لا محل لها. {الصَّيْحَةُ}: فاعل، ولم يؤنث الفعل للفصل بين الفعل والفاعل، أو لأن الصيحة مؤنث مجازي، والجملة الفعلية مستأنفة لا محل لها.
(أصبحوا): ماض ناقص، والواو اسمه، والألف للتفريق. {فِي دِيارِهِمْ}: متعلقان بما بعدهما، والهاء في محل جر بالإضافة. {جاثِمِينَ}: خبر (أصبح) منصوب، وعلامة نصبه الياء نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، وجملة:
(أصبحوا
…
) إلخ معطوفة على ما قبلها لا محل لها مثلها.
{كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِثَمُودَ (68)}
الشرح: {كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها} أي: هلكوا عن بكرة أبيهم، كأنهم لم يقيموا في تلك البلاد، ولم يسكنوها، من غني بالمكان: إذا قام فيه وعمره، و (المغاني) في اللغة المنازل التي يسكنها الإنسان، قال أبو الطيب المتنبي في شعب بوان:[الوافر]
مغاني الشّعب طيبا في المغاني
…
بمنزلة الرّبيع من الزمان
{أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِثَمُودَ} : انظر مثل هذا الكلام في الآية رقم [60] فهو مثله بلا فارق، والله الموفق، والمعين، وبه أستعين، وقال الخازن: وهذه القصص قد تقدمت مستوفاة في تفسير سورة (الأعراف)، فلذا لم يطل الكلام فيها.
الإعراب: {كَأَنْ} : حرف مشبه بالفعل مخفف من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن محذوف، التقدير: كأنهم. {لَمْ} : حرف نفي وقلب وجزم. {يَغْنَوْا} : مضارع مجزوم ب {لَمْ،} وعلامة جزمه حذف النون
…
إلخ، والواو فاعله، والألف للتفريق. {فِيها}: متعلقان بما قبلهما، والجملة الفعلية في محل رفع خبر:{كَأَنْ،} والجملة الاسمية: {كَأَنْ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها، وإن اعتبرتها في محل نصب حال من واو الجماعة، فالمعنى لا يأباه، والرابط: الضمير فقط، وباقي الإعراب انظره في الآية رقم [60] والكلام مبتدأ، أو مستأنف لا محل له. والله أعلم، وأجل، وأكرم.
الشرح: قال القرطبي: هذه قصة لوط عليه السلام، وهو ابن عم إبراهيم عليه السلام لحّا، أي: لازق النسب منه، (والمعروف والمشهور: أنه ابن أخيه هاران، نص على ذلك عبد الوهاب
النجار وغيره) وكانت قرى لوط بنواحي الشام، قال النجار: اسمها سادوم، وعامورة، وكانتا في مكان البحر الميت المعروف اليوم ببحر لوط، ويقال: إنه ظهرت بشاطئه بعض آثارها، وكان إبراهيم عليه السلام ببلاد فلسطين، فلما أنزل الله الملائكة بعذاب قوم لوط مروا بإبراهيم، ونزلوا عنده، وكان يحسن قرى من ينزل عنده، وقد مروا به ليبشروه بالولد، أو بإهلاك قوم لوط، فظنهم أضيافا، وهم جبريل، وميكائيل، وإسرافيل عليهم السلام، قاله ابن عباس، وهو المعتمد على صورة الغلمان الحسان الوجوه، ذوو جمال بارع، ووضاءة فائقة.
بعد هذا ف {رُسُلُنا} المراد بهم: الملائكة كما رأيت، ويجوز تسكين السين، وضمها.
{بِالْبُشْرى} : بالبشارة، وقد رأيتها. {فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ}: فما أبطأ، وما تأخر، و {حَنِيذٍ} مشوي، والمحنوذ هو المشوي على الحجارة المحماة في حفرة من الأرض، وهو من فعل أهل البادية، وكان سمينا يسيل منه الودك، وفي آية أخرى:{فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ} .
قال قتادة: كان عامة مال إبراهيم عليه السلام البقر، أي: فلهذا ذبح عجلا لأضيافه، وقيل: مكث إبراهيم عليه السلام خمس عشرة ليلة لم يأته ضيف، فاغتم لذلك، وكان يحب الضيف، ولا يأكل إلا معه، فلما جاءت الملائكة فرح بمقدمهم، وعجّل قراهم، فجاءهم بعجل سمين مشوي.
الإعراب: {وَلَقَدْ} : الواو: حرف قسم وجر، والمقسم به محذوف، التقدير: والله، والجار والمجرور متعلقان بفعل محذوف، تقديره: أقسم. اللام: واقعة في جواب القسم. (قد): حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال. {جاءَتْ} : ماض، والتاء للتأنيث، وقد نصب المفعول به هنا، ويجيء لازما، وهو كثير. {رُسُلُنا}: فاعل، و (نا): في محل جر بالإضافة. {إِبْراهِيمَ} : مفعول به وجملة: (لقد
…
) إلخ جواب القسم لا محل لها، والقسم وجوابه كلام مستأنف لا محل له.
{بِالْبُشْرى} : متعلقان بالفعل قبلهما، وعلقهما العكبري بمحذوف حال من:{رُسُلُنا،} وعلامة الجر كسرة مقدرة على الألف. {قالُوا} : فعل وفاعل، والألف للتفريق، {سَلاماً}: مفعول مطلق لفعل محذوف، التقدير: سلمنا، أو نسلم سلاما، وهو اسم مصدر لا مصدر كما ترى، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول، هذا؛ وجوز اعتبار {سَلاماً} مفعولا به ل {قالُوا؛} لأنه يتضمن معنى (كلاما كثيرا)، أو على معنى (ذكروا سلاما) وجملة:{قالُوا سَلاماً} في محل نصب حال من {رُسُلُنا،} والرابط: الضمير فقط، وهي على تقدير (قد) قبلها. {قالَ}: ماض، وفاعله يعود إلى إبراهيم عليه السلام. {سَلامٌ}: خبر مبتدأ محذوف، التقدير: أمري، أو جوابي سلام، أو هو مبتدأ خبره محذوف، التقدير: سلام عليكم، وساغ الابتداء بالنكرة؛ لأن فيها معنى الدعاء، هذا؛ وقرأ حمزة والكسائي:«(سلم)» بكسر السين، وهو بمعنى الأول مثل الحل والحلال، والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالَ سَلامٌ} مستأنفة؛ لأنها بمنزلة جواب لسؤال
مقدر. {فَما} : الفاء: حرف استئناف. (ما): نافية. {لَبِثَ} : ماض، والفاعل يعود إلى إبراهيم عليه السلام. {أَنْ}: حرف مصدر، ونصب. {جاءَ}: ماض، والفاعل يعود إلى إبراهيم، {بِعِجْلٍ}: متعلقان بالفعل قبلهما، وهما مفعول به له. {حَنِيذٍ}: صفة: (عجل)، وهو بمعنى المفعول، أي: محنوذ، و {أَنْ} والفعل {جاءَ} في تأويل مصدر في محل جر بحرف جر محذوف، التقدير: في مجيء، أو بمجيء، أو عن مجيء، وجوز اعتباره مفعولا على المعنى؛ أي: لم يترك الإتيان بعجل، هذا؛ وجوز اعتبار المصدر المؤول فاعلا بالفعل:{لَبِثَ،} التقدير: فما تأخر مجيئه بعجل حنيذ، هذا؛ وجوز اعتبار المصدر المؤول مرفوعا على الخبرية من وجهين آخرين:
أحدهما: اعتبار (ما) موصولة اسمية مبتدأ، والمصدر المؤول خبره، التقدير: والذي لبثه إبراهيم قدر مجيئه، والثاني اعتبار (ما) مصدرية تؤول مع الفعل بعدها بمصدر مبتدأ، والمصدر المؤول خبره، التقدير: لبثه مقدر مجيئه، وإني أعتمد الأول من كل هذه الوجوه، والجملة:{فَما لَبِثَ..} .
إلخ سواء أكانت فعلية، وهو المعتمد، أو اسمية: مستأنفة لا محل لها.
الشرح: {فَلَمّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ} أي: لا تصل إلى العجل المشوي، ولا يأخذون من لحمه. {نَكِرَهُمْ}: أنكر ذلك منهم، وخاف أن يريدوا به مكروها، هذا؛ و (نكر) و (أنكر) و (استنكر) بمعنى واحد، قال الأعشى:[البسيط]
وأنكرتني، وما كان الذي نكرت
…
من الحوادث إلاّ الشّيب والصّلعا
فجمع بين لغتين، ويقال:(نكرت) لما تراه بعينك، و (أنكرت) لما تراه بقلبك. {وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً} أي: أضمر، وقيل: أحس من الملائكة خوفا، وفزعا، قال الشاعر:[البسيط]
جاء البريد بقرطاس يخبّ به
…
فأوجس القلب من قرطاسه جزعا
{قالُوا لا تَخَفْ إِنّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ} أي: قالت الملائكة لإبراهيم: لا تخف، إنا ملائكة، لا نأكل، ولا نشرب، وإنا مرسلون لإهلاك قوم لوط.
الإعراب: {فَلَمّا} : الفاء: حرف استئناف. (لما): انظر الآية [58]{رَأى} : ماض مبني على فتح مقدر على الألف للتعذر، والفاعل يعود إلى إبراهيم عليه السلام. {أَيْدِيَهُمْ}: مفعول به، والهاء في محل جر بالإضافة. {لا}: نافية. {تَصِلُ} : مضارع، والفاعل يعود إلى:{أَيْدِيَهُمْ} . {إِلَيْهِ} :
متعلقان بالفعل قبلهما، والجملة الفعلية في محل نصب حال من:{أَيْدِيَهُمْ،} والرابط: الضمير فقط، وجملة:{رَأى..} . إلخ ابتدائية لا محل لها على القول بحرفية: (لمّا)، وفي محل جر بإضافة
(لمّا) إليها على القول بظرفيتها. {نَكِرَهُمْ} : ماض، والفاعل يعود إلى إبراهيم أيضا، والهاء مفعول به، والجملة الفعلية جواب (لمّا) لا محل لها، وجملة {وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً} معطوفة على:
(لمّا) لا محل لها مثله، و (لمّا) ومدخولها كلام مستأنف لا محل له. {قالُوا}: فعل وفاعل، والألف للتفريق. {لا تَخَفْ}: مضارع مجزوم ب {لا} الناهية، والفاعل مستتر تقديره:«أنت» ، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول. {إِنّا}: حرف مشبه بالفعل، و (نا): اسمها.
{أُرْسِلْنا} : ماض، ونائب فاعله. {إِلى قَوْمِ}: متعلقان بما قبلهما، و {قَوْمِ}: مضاف، و {لُوطٍ}:
مضاف إليه، وجملة:{أُرْسِلْنا..} . إلخ في محل رفع خبر (إنّ)، والجملة الاسمية:{إِنّا..} . إلخ تعليل للنهي، وهي في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالُوا..} . إلخ مستأنفة لا محل لها.
{وَاِمْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ (71)}
الشرح: {وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ} : وامرأته (سارة) واقفة وراء الستر تسمع محاورتهم، أو هي قائمة بخدمتهم وهي بنت عمه، أبوها اسمه هاران بن ناحور، بن شاروع، بن أرغو، بن فالغ. انتهى.
قرطبي، والمشهور: أن هاران أخوه، وهو أبو لوط كما رأيت في الآية رقم [69] وانظر إعلال (قائم) في الآية [12] يونس.
{فَضَحِكَتْ} : قال الخازن: أصل الضحك انبساط الوجه من سرور يحصل للنفس؛ ولظهور الأسنان عنده سميت مقدمات الأسنان الضواحك، ويستعمل في السرور المجرد، وفي التعجب المجرد أيضا، وللعلماء في تفسير هذا الضحك قولان:
أحدهما: أنه الضحك المعروف، وعليه أكثر المفسرين، ثم اختلفوا في سبب هذا الضحك، فقال السدي: لمّا قرب إبراهيم عليه السلام الطعام إلى أضيافه، فلم يأكلوا؛ خاف إبراهيم منهم، فقال: ألا تأكلون؟ فقالوا: إنا لا نأكل طعاما إلا بثمن، قال: فإن له ثمنا، قالوا:
وما ثمنه؟ قال: تذكرون اسم الله على أوله، وتحمدونه على آخره، فنظر جبريل إلى ميكائيل، وقال: حق لهذا أن يتخذه ربه خليلا، فلما رأى إبراهيم وسارة أيديهم لا تصل إليه ضحكت سارة، وقالت: عجبا لأضيافنا نخدمهم بأنفسنا تكرمة لهم، وهم لا يأكلون طعامنا.
وقال قتادة: ضحكت من غفلة قوم لوط وقرب العذاب منهم، وقال مقاتل، والكلبي:
ضحكت من خوف إبراهيم عليه السلام من ثلاثة، وهو فيما بين خدمه، وحشمه، وخواصه، وقيل: ضحكت من زوال الخوف عنها، وعن إبراهيم عليه السلام، وذلك: أنها خافت لخوفه، فحين قالوا: لا تخف ضحكت سرورا، وقيل: ضحكت سرورا بالبشارة.
وقال ابن عباس ووهب: ضحكت تعجبا من أن يكون لها ولد على كبر سنها وسن زوجها، فعلى هذا القول يكون في الآية تقديم وتأخير، تقديره: فبشرناها بإسحاق فضحكت، يعني: تعجبا
من ذلك، وقيل: إنها قالت لإبراهيم عليه السلام: اضمم إليك ابن أخيك لوطا، فإن العذاب نازل بقومه، فلما جاءت الرسل، وبشرت بعذابهم سرت سارة بذلك وضحكت لموافقة ما ظنت.
القول الثاني في معنى قوله: {فَضَحِكَتْ} قال عكرمة ومجاهد: أي: حاضت في الوقت، وأنكر بعض أهل اللغة ذلك، قال الراغب: وقول من قال: حاضت ليس ذلك تفسيرا لقوله:
{فَضَحِكَتْ} كما تصوره بعض المفسرين، فقال: ضحكت بمعنى: حاضت، وإنما ذكر ذلك تنصيصا لحالها، فإن جعل ذلك أمارة لها بما بشرت به، فحيضها في الوقت لتعلم أنّ حملها ليس بمنكر؛ لأن المرأة ما دامت تحيض، فإنها تحمل، وقال الفراء: ضحكت بمعنى: حاضت لم نسمعه من ثقة، وقال الزجاج: ليس بشيء ضحكت بمعنى حاضت، وقال ابن الأنباري: قد أنكر الفراء وأبو عبيدة أن يكون ضحكت بمعنى حاضت، وقد عرفه غيرهم:[المديد]
تضحك الضبع لقتلى هذيل
…
وترى الذئب بها يستهلّ
قال: أراد أنها تحيض فرحا، وقال الأخطل فيه بمعنى الحيض:[الخفيف]
تضحك الضبع من دماء سليم
…
إذ رأتها على الحراب تمور
وقال في المحكم: ضحكت المرأة حاضت، وبه فسر بعضهم قوله سبحانه وتعالى:
{فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها..} . إلخ وضحكت الأرنب ضحكا يعني: حاضت حيضا، قال:[المتقارب]
وضحك الأرانب فوق الصّفا
…
كمثل دم الجوف يوم اللّقا
وقال البيضاوي: وقيل: (فضحكت) فحاضت، قال:[الطويل]
وعهدي بسلمى ضاحكا في لبابة
…
ولم تعد حقّا ثديها أن تحلّما
ومنه ضحكت السّمرة إذا سال صمغها، وأنشد على ذلك اللغويون:[الطويل]
وإنّي لآتي العرس عند ظهورها
…
وأهجرها يوما إذا تك ضاحكا
انتهى. خازن وبيضاوي وقرطبي بتصرف، ثم قال الخازن-رحمه الله تعالى-: فإن قلت: أي:
القولين أصح، قلت: إن الله عز وجل حكى عنها: أنها ضحكت، وكلا القولين محتمل في معنى الضحك، فالله أعلم أي ذلك كان، وانظر تفسير {أَكْبَرْنَهُ} في الآية رقم [31] من سورة (يوسف) على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام، {فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ} أي: ومن بعد إسحاق يعقوب، وهو ولد الوالد، فبشرت سارة بأنها تعيش حتى ترى ولد ولدها، وكانت قد أيست من الولد لكبر سنها، فلما بشرت بالولد؛ صحكت وجهها، أي: ضربت وجهها، وقد صرحت بذلك آية الذاريات، وهو من صنيع النساء وعادتهن، وإنما فعلت ذلك تعجبا، وإنما خصت بالبشارة؛ لأن النساء أعظم سرورا بالولد من الرجال؛ ولأنه لم يكن لها ولد، وكان لإبراهيم ولد، وهو: إسماعيل.
هذا؛ ويقرأ: {يَعْقُوبَ} بالرفع والنصب، وانظر (نا) في الآية رقم [8] هذا؛ و {وَراءِ} يأتي بمعنى ما خلف الأول، وبمعنى ما خلف الظهر، وقد يأتي بمعنى أمام، وقدام، قال تعالى:
{وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً} أي: أمامهم، وقال جل شأنه:{وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} وهو كثير في القرآن الكريم، وفي الشعر العربي، فمن مجيئه بمعنى (بعد) كما في الآية قول النابغة:[الطويل]
حلفت فلم أترك لنفسك ريبة
…
وليس وراء الله للمرء مذهب
أي: وليس بعد الله جل جلاله، وكذلك قوله تعالى:{وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ} أي: من بعده، ومن مجيئه بمعنى أمام وقدام قول لبيد-رضي الله عنه:[الطويل]
أليس ورائي إن تراخت منيّتي
…
لزوم العصا تحنى عليها الأصابع
وأيضا قول سوّار بن المضرب السعدي، وكان قد هرب من الحجاج حين فرض البعث مع المهلب بن أبي صفرة لقتال الخوارج:[الطويل]
أيرجو بنو مروان سمعي وطاعتي
…
وقومي تميم، والفلاة ورائيا؟
فائدة: عاش إبراهيم من العمر مائة وخمسا وسبعين سنة، وبينه وبين نوح ألف سنة وستمائة وأربعون سنة، وابنه إسحاق عاش مائة وثمانين سنة، ويعقوب عاش مائة وخمسا وأربعين سنة وعاش يوسف مائة وعشرين سنة، وعاش إسماعيل مائة وسبعا وثلاثين سنة، وتزوج إبراهيم عليه السلام غير سارة وهاجر امرأة اسمها قطورة، فولدت له: زمران، ويقشان، ومدان، ومديان، ويشباق، وشوما، فيكون جملة أولاده من صلبه ثمانية، وانظر الآية رقم [35] من سورة (إبراهيم) على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام.
الإعراب: {وَامْرَأَتُهُ} : مبتدأ، والهاء في محل جر بالإضافة، {قائِمَةٌ}: خبره، والجملة الاسمية مستأنفة لا محل لها، وجوز اعتبارها حالا من واو الجماعة في:{قالُوا} أي: قالوا ذلك في حال قيام امرأته، وعليه فالرابط: الواو فقط، وقال العكبري من (نا)، والأول أولى.
(ضحكت): ماض، والفاعل يعود إلى امرأته، والتاء للتأنيث حرف لا محل له، والجملة الفعلية معطوفة على الجملة الاسمية على الوجهين المعتبرين فيها. (بشرناها): فعل وفاعل ومفعول به، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها. {بِإِسْحاقَ}: متعلقان بالفعل قبلهما، وعلامة الجر الفتحة نيابة عن الكسرة؛ لأنه ممنوع من الصرف للعلمية والعجمة. {وَمِنْ وَراءِ}: متعلقان بفعل محذوف، التقدير: ووهبنا من وراء
…
إلخ، و (وراء) مضاف، و {بِإِسْحاقَ}: مضاف إليه
إلخ. {يَعْقُوبَ} : مفعول به للفعل المحذوف، هذا؛ وجوز اعتباره معطوفا على محل:
{بِإِسْحاقَ} فهو منصوب أيضا، كما جوز اعتباره معطوفا على لفظ:{بِإِسْحاقَ،} فيكون مجرورا،
وفي هذين الاعتبارين فصل بين يعقوب وبين الواو العاطفة بالظرف، وهذا لا يجيزه كثيرون، هذا؛ وعلى قراءة:«(يعقوبُ)» بالرفع فهو مبتدأ مؤخر، والجار والمجرور:{وَمِنْ وَراءِ} متعلقان بمحذوف خبر مقدم، والجملة الاسمية هذه مستأنفة لا محل لها.
{قالَتْ يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (72)}
الشرح: {يا وَيْلَتى} : قال الزجاج: أصلها: يا ويلتي، فأبدل من الياء ألف؛ لأنها أخف من الياء، والكسرة. هذا؛ وقد قرئ بالياء على الأصل، قال القرطبي: ولم ترد الدعاء على نفسها بالويل، ولكنها كلمة تخف على أفواه النساء إذا طرأ عليهن ما يعجبن منه، وعجبت من ولادتها، وكون بعلها شيخا لخروجه عن العادة، وما خرج عن العادة مستغرب ومستنكر. انتهى. وانظر شرح (الويل) في الآية رقم [2] من سورة (إبراهيم) عليه السلام.
قال البيضاوي: أصله في الشر، فأطلق في كل أمر فظيع، أقول: وهي كلمة تحسر وتلهف، تستعمل عند الداهية العظيمة، وما قول قابيل في المائدة رقم [31] منك ببعيد. {أَأَلِدُ}: أصله أولد، حذفت الواو لوقوعها بين عدوتيها، وهما: الياء، والكسرة في مضارع الغائب (يلد) وتحذف من مضارع المتكلم والمخاطب قياسا عليه. {عَجُوزٌ} أي: طاعنة في السن، ويقال:
شهلة، وشهبرة، وشهربة، وشمطاء، وشيخة لكل امرأة طاعنة في السن، قال صاحب مختار الصحاح: ولا تقل عجوزة، والعامة تقوله، والجمع عجائز وعجز، وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم:«إنّ الجنة لا يدخلها العجز» . {وَهذا بَعْلِي شَيْخاً} : وهذا زوجي رجل كبير، قيل: كان عمر إبراهيم عليه السلام مائة وعشرين سنة وعمرها تسعا وتسعين سنة، والبعل: الزوج، وفي الخازن:
والبعل: هو المستعلي على غيره، ولما كان الزوج مستعليا على المرأة، قائمة بأمرها سمي بعلا. انتهى. ويقال للمرأة أيضا: بعل وبعلة، كما يقال لها: زوج وزوجة.
هذا؛ والشيخ: هو الذي استبانت فيه السن، وظهر عليه الشيب، وفي اللغة: هو من تجاوز الأربعين من عمره، وهو السن الذي يكمل فيه العقل، ويغلب فيها صلاح الرجل على فساده، ومن لم يكمل بعد الأربعين، ولم يرجع إلى صوابه فهو من الخاسرين.
قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «من بلغ من العمر أربعين سنة، ولم يغلب خيره على شرّه، فليتجهّز إلى النار» . وأصبح الأمل في صلاحه بعيدا، قال الشاعر:[الطويل]
وإنّ سفاه الشيخ لا حلم بعده
…
وإنّ الفتى بعد السّفاهة يحلم
ويجمع على شيوخ، وشيوخ، وأشياخ، ومشيخة، وشيخان، وشيخة، وجمع الجمع:
مشايخ، وأشاييخ، ويطلق الشيخ على الأستاذ، والعالم، وكبير القوم، ورئيس الصناعة، وعلى من كان كبيرا في أعين الناس، علما أو فضيلة أو مقاما ونحو ذلك، وشيخ النار كناية عن إبليس
اللعين. {لَشَيْءٌ} : انظر الآية رقم [4]{عَجِيبٌ} : يعني: ولادة الولد من أبوين هرمين شيء غريب، وعجيب من حيث العادة لا من حيث القدرة الإلهية، فهو مثل قول زكريا عليه السلام:
{أَنّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عاقِرٌ} .
الإعراب: {قالَتْ} : ماض، والتاء للتأنيث، والفاعل يعود إلى سارة عليها السلام. (يا):
حرف نداء ينوب مناب أدعو. (ويلتى): منادى منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم
…
إلخ، وقد قلبت ألفا في إحدى القراءتين كما رأيت، والياء في محل جر بالإضافة، وانظر إعراب:{يا قَوْمِ} في الآية [28] وأصل النداء أن يكون لمن يعقل، وقد ينادى ما لا يعقل مجازا، مثل: يا أسفى ونحوه، والمعنى هنا: أيها الويل احضر، فهذا أوان حضورك، وانظر الشرح. {أَأَلِدُ}: الهمزة: حرف استفهام وتعجب. (ألد): مضارع، والفاعل مستتر تقديره:«أنا» ، ومفعوله محذوف، تقديره: ولدا، والجملة الاسمية:{وَأَنَا عَجُوزٌ} : في محل نصب حال من الفاعل المستتر، والرابط: الواو، والضمير. (هذا): اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع مبتدأ، والهاء حرف تنبيه لا محل له. {بَعْلِي}: خبر مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم
…
إلخ، والياء في محل جر بالإضافة. {شَيْخاً}: حال من {بَعْلِي،} والعامل الهاء، أو الإشارة لما فيهما من معنى: أنبه، وأشير، وقرئ «(شيخ)» بالرفع على أنه خبر لمبتدإ محذوف، التقدير: هو شيخ، أو هو خبر ثان للمبتدإ، أو هو خبر المبتدأ و {بَعْلِي} بدل من اسم الإشارة، وأجاز أبو البقاء: اعتبار {بَعْلِي} مبتدأ و {شَيْخاً} خبره، والجملة الاسمية خبر المبتدأ، والجملة الاسمية (هذا
…
) إلخ في محل نصب حال من فاعل (ألد) المستتر، والرابط: الواو، والضمير، فتكون الحال قد تعددت، وهي جملة اسمية، والكلام {يا وَيْلَتى..} . إلخ كله في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالَتْ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها. {إِنَّ} : حرف مشبه بالفعل. {هذا} : اسم {إِنَّ} . {لَشَيْءٌ} : خبر {إِنَّ،} واللام هي المزحلقة. {عَجِيبٌ} : صفة (شيء)، والجملة الاسمية من مقول (سارة) أيضا.
الشرح: {قالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللهِ} : قالت الملائكة لسارة منكرين عليها تعجبها؛ لأن خوارق العادات باعتبار أهل بيت النبوة، ومهبط المعجزات، وتخصيصهم بمزيد النعم والكرامات ليس ببدع، ولا حقيق بأن يستغربه عاقل، فضلا عمن نشأت وشابت في ملاحظة الآيات. {رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ}: البركة: النمو، والزيادة، ومن تلك البركات: أن جميع الأنبياء والمرسلين كانوا في ولد إبراهيم، وسارة عليهما السلام. {إِنَّهُ حَمِيدٌ} أي: محمود على أفعاله
كلها، ومستحق لأن يحمد في السراء، والضراء، والشدة، والرخاء. {مَجِيدٌ}: ومعناه: المنيع الذي لا يرام، وقال الخطابي: المجيد الواسع الكرم.
فائدة: تفيد الآية الكريمة أن زوجة الرجل من أهل بيته، وأن أزواج الأنبياء من أهل البيت، ولذا صح استثناؤها في الآية رقم [81] الآتية من أهل بيت لوط عليه السلام.
هذا؛ و «العجب» بفتح العين والجيم انفعال نفساني يعتري الإنسان عند استعظامه أو استطرافه، أو إنكاره ما يرد عليه. وقال الراغب: العجب: حيرة تعرض للإنسان بسبب الشيء، وليس هو شيئا له في ذاته حالة حقيقية، بل هو بحسب الإضافات إلى من يعرف السبب، ومن لا يعرفه، وحقيقة أعجبني كذا: ظهر لي ظهورا لم أعرف سببه، هذا؛ و «العجب» بضم العين، وسكون الجيم: رؤية النفس، وحقيقته: أن يرى الإنسان نفسه فوق غيره علما أو ورعا، أو أدبا وغير ذلك، ويعتقد أن له منزلة لا يدانيه فيها سواه، وهذا هو الكبر الذي يدخل صاحبه جهنم وبئس المصير.
الإعراب: {قالُوا} : ماض وفاعله، والألف للتفريق. {أَتَعْجَبِينَ}: الهمزة: حرف استفهام وإنكار. (تعجبين): مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، وياء المؤنثة المخاطبة فاعله. {مِنْ أَمْرِ}: متعلقان بالفعل قبلهما، و {أَمْرِ}: مضاف، و {اللهِ}:
مضاف إليه، من إضافة المصدر لفاعله. {رَحْمَتُ}: مبتدأ، وهو مضاف، و {اللهِ}: مضاف إليه، من إضافة المصدر لفاعله. (بركاته): معطوف على ما قبله، والهاء في محل جر بالإضافة.
{عَلَيْكُمْ} : متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ. {أَهْلَ} : منادى حذفت منه أداة النداء، أو هو منصوب على المدح بفعل محذوف، وقول المفسرين: منصوب على الاختصاص ضعيف؛ لأن النصب على الاختصاص يكون بعد ضمير المتكلم، ويقل بعد المخاطب، وأقل منه بعد ضمير الغيبة، و {أَهْلَ}: مضاف، و {الْبَيْتِ}: مضاف إليه. {إِنَّهُ} : حرف مشبه بالفعل، والهاء اسمه. {حَمِيدٌ مَجِيدٌ}: خبران ل (إنّ)، والكلام كله في محل نصب مقول القول، وجملة:
{قالُوا..} . إلخ مستأنفة لا محل لها.
الشرح: {فَلَمّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ} أي: الخوف، والفزع؛ الذي حصل له عند امتناع الملائكة من الأكل وهو بفتح الراء المشددة وسكون الواو، و (يوم الروع): يوم الحرب من باب إطلاق المسبب، وإرادة السبب؛ لأنه قلما يخلو عن فزع، قال أبو ذؤيب الهذلي:[الطويل]
وتبلي الألى يستلئمون على الألى
…
تراهنّ يوم الرّوع كالحدإ القبل
وقال خلف بن حازم: [الطويل]
إلى النّفر البيض الألاء كأنّهم
…
صفائح يوم الرّوع أخلصها الصّقل
وغير ذلك كثير، هذا؛ والروع بضم الراء: القلب، أو العقل، فعن ابن مسعود رضي الله عنه:
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ليس من عمل يقرب من الجنّة، إلاّ وقد أمرتكم به، ولا عمل يقرّب من النّار، إلاّ وقد نهيتكم عنه، فلا يستبطئنّ أحد منكم رزقه، فإنّ جبريل ألقى في روعي أنّ أحدا منكم لن يخرج من الدّنيا حتّى يستكمل رزقه، فاتقوا الله أيّها الناس، وأجملوا في الطّلب، فإن استبطأ أحد منكم رزقه، فلا يطلبه بمعصية الله، فإنّ الله لا ينال فضله بمعصيته» . رواه الحاكم. {وَجاءَتْهُ الْبُشْرى} أي: البشارة بالولد من سارة، وقال قتادة: بشروه بإهلاك قوم لوط. {يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ} أي: يجادل رسلنا، وأضاف سبحانه المجادلة، إلى نفسه؛ لأنهم نزلوا بأمره.
وهذه المجادلة رواها حميد بن هلال، عن جندب، عن حذيفة-رضي الله عنهم أجمعين-، وذلك أنهم لما قالوا:{إِنّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ،} قال لهم إبراهيم عليه السلام: أرأيتم إن كان فيها خمسون من المسلمين أتهلكونهم؟ قالوا: لا، قال: فأربعون؟ قالوا: لا، قال:
فثلاثون؟ قالوا: لا، قال: فعشرون؟ قالوا: لا، قال: فإن كان فيها عشرة أو خمسة-شك حميد؟ -قالوا: لا، قال: فقال إبراهيم: قوم ليس فيهم عشرة من المسلمين لا خير فيهم، فقال إبراهيم عند ذلك:{إِنَّ فِيها لُوطاً قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ} . {إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوّاهٌ} : ما أجدرك أن تنظر شرح هذا في التوبة الآية [115]{مُنِيبٌ} : راجع، يقال: أناب إذا رجع، وإبراهيم صلّى الله على نبينا، وعليه وسلم كان كثير الرجوع إلى الله تعالى في أموره كلها، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.
الإعراب: {فَلَمّا} : انظر الآية [58]{ذَهَبَ} : ماض. {عَنْ إِبْراهِيمَ} : متعلقان به، وعلامة الجر الفتحة نيابة عن الكسرة؛ لأنه ممنوع من الصرف للعلمية والعجمة. {الرَّوْعُ}: فاعل، والجملة الفعلية ابتدائية لا محل لها على اعتبار (لما) حرفا، وفي محل جر بإضافة (لمّا) إليها على اعتبارها ظرفا. (جاءته): ماض، والتاء للتأنيث، والهاء مفعول به. {الْبُشْرى}: فاعل مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها على الوجهين المعتبرين فيها. {يُجادِلُنا}: مضارع، والفاعل يعود إلى إبراهيم، و (نا): مفعول به.
{فِي قَوْمِ} : متعلقان بما قبلهما، و {قَوْمِ}: مضاف، و {لُوطٍ}: مضاف إليه، وجملة:
{يُجادِلُنا..} . إلخ في محل نصب خبر ل (أخذ) محذوفا، وهو من أفعال الشروع، أو هو في محل نصب حال عامله محذوف، التقدير: (أقبل يجادلنا
…
) إلخ وعلى هذين التقديرين فالجملة الفعلية جواب: (لمّا) لا محل لها، هذا؛ وقيل: إن الجواب هو جملة: {يُجادِلُنا..} . إلخ على تأويل المضارع بالماضي و (لما) ومدخولها كلام مستأنف لا محل له. {إِنَّ} : حرف مشبه
بالفعل. {إِبْراهِيمَ} : اسمها. {لَحَلِيمٌ أَوّاهٌ مُنِيبٌ} : أخبار ل {إِنَّ} متعددة، واللام هي المزحلقة، والجملة الاسمية:{إِنَّ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها.
الشرح: {يا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذا} الجدال في شأن قوم لوط، وهو من قول الملائكة. {إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ} أي: أمر الله وقدره بمقتضى قضائه الأزلي بعذابهم، وهو أعلم بحالهم {وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ}: غير مدفوع، ولا مصروف عنهم بجدال، ولا بدعاء، ولا غير ذلك، قال عبد الرحمن بن سمرة: كانوا أربعمائة ألف، وقال ابن جريج: كانوا أربعة آلاف، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.
الإعراب: {يا إِبْراهِيمُ} : منادى مفرد علم، مبني على الضم في محل نصب ب (يا) النائبة مناب أدعو. {أَعْرِضْ}: أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» . {عَنْ هذا} : متعلقان بالفعل قبلهما، والهاء حرف تنبيه لا محل له. {إِنَّهُ}: حرف مشبه بالفعل، والهاء في محل نصب اسمها، وجملة:{قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ} في محل رفع خبر (إن)، والجملة الاسمية:{إِنَّهُ..} . إلخ تعليل للأمر، لا محل لها. (إنهم): مثل سابقتها. {آتِيهِمْ} : خبر (إن) مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل، والهاء في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله.
{عَذابٌ} : فاعل باسم الفاعل، وقيل:{عَذابٌ} مبتدأ مؤخر، و {آتِيهِمْ} خبر مقدم، وجوز ذلك لأن {عَذابٌ} موصوف بما بعده، والجملة الاسمية في محل رفع خبر (إن) والمعتمد الأول.
{غَيْرُ} : صفة: {عَذابٌ،} و {غَيْرُ} : مضاف، و {مَرْدُودٍ}: مضاف إليه، ونائب فاعله مستتر فيه، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها لا محل لها مثلها، هذا؛ والآية بكاملها في محل نصب مقول القول لقول محذوف؛ إذ التقدير: قالت الملائكة: يا إبراهيم أعرض
…
إلخ.
{وَلَمّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالَ هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ (77)}
الشرح: {وَلَمّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً} : المراد بهم الملائكة الذين كانوا عند إبراهيم، عليه السلام، وبشروه وامرأته بالبشارة التي رأيتها. {سِيءَ بِهِمْ}: ساءه مجيئهم؛ لأنهم كانوا في صورة غلمان مرد، حسان الوجوه، فظن أنهم أناس، فخاف أن يقصدهم قومه، فيعجز عن مدافعتهم؛ لأن قوم لوط كانوا مولعين بالفاحشة، وهي إتيان الذكور في أدبارهم، هذا؛ والفعل {سِيءَ} من ساء، يسوء؛ يكون لازما، ويكون متعديا، كما في قولك: ساءني فلان، وكما هنا، وهذا غير (ساء) المستعمل في الذم.
{وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً} أي: ضاق صدره بمجيئهم، وقيل: ضاق وسعه وطاقته، وهو كناية عن شدة الانقباض للعجز عن مدافعة المكروه، والاحتيال فيه. قال عمر بن أبي ربيعة المخزومي:[الخفيف]
من رسولي إلى الثّريّا بأنّي
…
ضقت ذرعا بهجرها والكتاب؟
وأصله أن يذرع البعير بيديه في سيره ذرعا على قدر سعة خطوه، فإذا حمل على أكثر من طوقه ضاق عن ذلك، وضعف ومد عنقه، فضيق الذرع عبارة عن ضيق الوسع، هذا؛ ويقال:
ضاق ذراع فلان عن هذا الأمر؛ لأن الذراع موضع قوة الإنسان وشهرته، قال هدبة بن خشرم، يخاطب به معاوية بن أبي سفيان، ويعترف فيها بأنه قتل ابن عمه زيادة:[الطويل]
إن العقل في أموالنا لا نضق بها
…
ذراعا، وإن صبرا، فنصبر للصّبر
وقال: هذا يوم عصيب: أي: صعب، وشديد في الشر، قال الشاعر:[الطويل]
وإنّك إلاّ ترض بكر بن وائل
…
يكن لك يوم بالعراق عصيب
تنبيه: روي: أن الله تعالى قال للملائكة: لا تهلكوهم حتى يشهد لوط عليهم أربع شهادات، فأتوه نصف النهار وهو يعمل في أرض له، فاستضافوه، وانطلق بهم يمشي إلى منزله، وقال لهم: أما بلغكم أمر هذه القرية، قالوا: وما أمرهم؟ قال: أشهد بالله، إنها لشر قرية في الأرض عملا، قال ذلك أربع مرات، فدخلوا معه منزله، ولم يعلم بذلك أحد، فخرجت امرأته، فأخبرت بهم قومها، وقالت: إن في بيت لوط رجالا مردا ما رأيت أحسن منهم، ولا أجمل!.
الإعراب: {وَلَمّا} : الواو: حرف استئناف. (لما): حرف وجود لوجود عند سيبويه، وبعضهم يقول: حرف وجوب لوجوب، وهي ظرف بمعنى (حين) عند ابن السراج والفارسي وابن جني وجماعة، تتطلب جملتين مرتبطتين ببعضهما ارتباط فعل الشرط بجوابه، وصوب ابن هشام الأول، والمشهور الثاني. {جاءَتْ}: ماض، والتاء للتأنيث. {رُسُلُنا}: فاعله، و (نا):
في محل جر بالإضافة. {لُوطاً} : مفعول به، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية على القول بحرفية (لما) وهي في محل جر بإضافة (لما) إليها على اعتبارها ظرفا. {سِيءَ}: ماض مبني للمجهول، ونائب الفاعل يعود إلى لوط. {بِهِمْ}: متعلقان بالفعل {سِيءَ،} والجملة الفعلية جواب (لما) لا محل لها، و (لما) ومدخولها كلام مستأنف لا محل له، وجملة:{وَضاقَ بِهِمْ} معطوفة على جواب (لما) لا محل لها مثله. {ذَرْعاً} : تمييز محول عن الفاعل، مثل:
(طاب محمد نفسا). {هذا يَوْمٌ} : مبتدأ وخبر، والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول.
{عَصِيبٌ} : صفة: {يَوْمٌ،} وجملة: (قال
…
) إلخ معطوفة على جواب (لما) أيضا.
الشرح: {وَجاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ} أي: لما أخبرت امرأة لوط قومها بأضياف لوط جاء قومه يركضون ويسرعون، وقيل: يسوق بعضهم بعضا؛ لأن الفعل بمعنى: (يساقون)، فقيل: هذا الفعل ملازم للبناء للمفعول، مثل أولع، يولع، والصواب: أنه يأتي بصيغة المبني للفاعل، وبه قرأ جماعة ويكون من الباب الثالث، مثل فتح يفتح، ولكن الأول أكثر، وأشهر، قال مهلهل:[الوافر]
فجاءوا يهرعون، وهم أسارى
…
نقودهم على رغم الأنوف
{وَمِنْ قَبْلُ كانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ} أي: من قبل مجيء الرسل، وقيل: أي: من قبل مجيء لوط إليهم كانوا يعملون الأعمال الخبيثة، والفاحشة القبيحة، وهي إتيان الرجال في أدبارهم.
{قالَ يا قَوْمِ هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ} أي: قال لوط عليه السلام لقومه
…
إلخ: فدى أضيافه ببناته كرما وحمية، والمعنى هؤلاء بناتي فتزوجوهن، وكانوا يطلبونهن منه فلا يجيبهم لخبثهم، وعدم كفاءتهم لهن، لا لحرمة المسلمات على الكفار، فإنه شرع طارئ.
وقال مجاهد وسعيد بن جبير-رضي الله عنهما: أراد بنات نساء قومه، وأضافهن إلى نفسه؛ لأن كل نبي أبو أمته، وهو كالوالد لهم حيث الشفقة والتربية، وهذا القول أولى؛ لأن إقدام الإنسان على عرض بناته على الأوباش، والفجار مستبعد، لا يليق بأهل المروءة؛ فكيف بالأنبياء! وأيضا فبناته لا تكفي الجمع العظيم، أما بنات أمته ففيهن كفاية للكل.
هذا؛ وأطهر ليس على بابه من التفضيل، وإنما هو كلام خرج مخرج المقابلة كقوله تعالى:
{أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ} ومعلوم أن شجرة الزقوم لا خير فيها، وكقوله صلى الله عليه وسلم حين قال كفار قريش يوم أحد: اعل هبل، فقال:«الله أعلى وأجلّ» ؛ إذ لا مماثلة بين الله تعالى والصنم.
{فَاتَّقُوا اللهَ} : خافوه وراقبوه واتركوا ما أنتم عليه من الكفر، وفعل الفواحش، والقبائح؛ التي لم يفعلها غيركم. {وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي} أي: لا تهينوني ولا تذلوني، ومنه قول حسان رضي الله عنه:[الطويل]
فأخزاك ربّي يا عتيب بن مالك
…
ولقّاك قبل الموت إحدى الصواعق
مددت يمينا للنّبيّ تعمدا
…
ودمّيت فاه قطّعت بالبوارق
ويجوز أن يكون من الخزاية، وهو الحياء، والخجل، قال ذو الرمة:[البسيط]
خزاية أدركته بعد جولته
…
من جانب الحبل مخلوطا بها الغضب
و (الضيف) يقع للاثنين والجمع بلفظ الواحد، كما في الآية الكريمة؛ لأنه في الأصل مصدر، قال الشاعر:[الرجز]
لا تعدمي الدّهر شفار الجازر
…
للضّيف، والضّيف أحقّ زائر
وقد يثنى، فيقال: ضيفان، وقد يجمع على أضياف وضيوف وضيفان، وضياف، والأول أكثر استعمالا، كقولك: رجال صوم، وفطر، وزور، وأصل الضيف: الميل، يقال: ضفت إلى كذا: إذا ملت إليه، والضيف من مال إليك نزولا بك. {أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ} أي: يهتدي إلى الحق، ويرعوي عن القبيح، أو يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، وقيل: رشيد، أي: ذو رشد، أو بمعنى راشد، أو مرشد، أي: صالح أو مصلح. انتهى. قرطبي.
الإعراب: {وَجاءَهُ} : (جاءه): ماض، والهاء مفعول به. {قَوْمُهُ}: فاعل، والهاء في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية معطوفة على جواب (لما)، أو مستأنفة لا محل لها. {يُهْرَعُونَ}:
مضارع ونائب فاعله، والجملة الفعلية في محل نصب حال من {قَوْمُهُ}. {إِلَيْهِ}: متعلقان بالفعل قبلهما. {وَمِنْ} : الواو: واو الحال. {وَمِنْ قَبْلُ} : متعلقان بالفعل {يَعْمَلُونَ} بعدهما، وبني {قَبْلُ} على الضم لقطعه عن الإضافة لفظا، لا معنى. {كانُوا}: ماض ناقص، والواو اسمه، والألف للتفريق. {يَعْمَلُونَ}: مضارع مرفوع وفاعله. {السَّيِّئاتِ} : مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مؤنث سالم، وجملة:{يَعْمَلُونَ..} . إلخ في محل نصب خبر كان، وجملة:{كانُوا..} . إلخ في محل نصب حال من واو الجماعة، والرابط:
الواو، والضمير، وهي حال متداخلة و (قد) قبلها مقدرة، {قالَ}: ماض وفاعله يعود إلى لوط.
{يا قَوْمِ} : منادى انظر تفصيله في الآية رقم [28]{هؤُلاءِ} : اسم إشارة مبني على الكسر في محل رفع مبتدأ، والهاء حرف تنبيه لا محل له. {بَناتِي}: خبر مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم
…
إلخ، والياء في محل جر بالإضافة. {هُنَّ}: ضمير منفصل مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ، و {أَطْهَرُ} خبره، والجملة الاسمية في محل رفع خبر ثان للمبتدإ، هذا؛ وجوز اعتبار:{بَناتِي} عطف بيان أو بدلا من اسم الإشارة، و {هُنَّ} ضمير فصل، لا محل له، و {أَطْهَرُ} خبر المبتدأ، والأول أقوى. هذا؛ وقرئ «(أطهر)» بالنصب على الحال، فيكون {بَناتِي} مبتدأ ثانيا، خبره {هُنَّ،} والجملة الاسمية خبر المبتدأ: {هؤُلاءِ} .
وجوز أبو البقاء اعتبار {هُنَّ} ضمير فصل، ولا وجه له؛ لأن الفصل لا يقع بين الحال وصاحبها، وجوز وجها آخر، وهو أن يكون {هُنَّ} مبتدأ، و {لَكُمْ} خبره، و {أَطْهَرُ} حالا، والعامل فيه ما في {هُنَّ} من معنى التوكيد بتكرير، وهو تعسف، والصواب الإعراب الأول، والجار والمجرور:{لَكُمْ} متعلقان ب {أَطْهَرُ..} . على جميع وجوه الإعراب التي قد رأيتها، والكلام:{يا قَوْمِ..} . إلخ كله في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالَ..} . إلخ مستأنفة
لا محل لها. {فَاتَّقُوا} : الفاء: هي الفصيحة. {فَاتَّقُوا اللهَ} : أمر، وفاعله ومفعوله، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها جواب شرط غير جازم؛ إذ التقدير: وإذا كان ما ذكرته واقعا فاتقوا الله، وهذا الكلام في محل نصب مقول القول. {وَلا}: الواو: حرف عطف. (لا):
ناهية. {تُخْزُونِ} : مضارع مجزوم ب (لا) الناهية، وعلامة جزمه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والنون للوقاية، وياء المتكلم المحذوفة مفعول به، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، فلا محل لها، ولها محل باعتبارين. تأملهما. {فِي ضَيْفِي}: جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، وعلامة الجر كسرة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم
…
إلخ، والياء في محل جر بالإضافة. {أَلَيْسَ}: الهمزة: حرف استفهام وإنكار وتوبيخ. (ليس): ماض ناقص. {مِنْكُمْ} : متعلقان بمحذوف خبر: (ليس) مقدم. {رَجُلٌ} : اسمها مؤخر. {رَشِيدٌ} :
صفة: {رَجُلٌ،} والجملة الفعلية: {أَلَيْسَ..} . إلخ لا محل لها باعتبارها مستأنفة، وهي في محل نصب مقول القول؛ لأنها من مقول لوط، على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام.
{قالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ ما نُرِيدُ (79)}
الشرح: {قالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ ما لَنا} أي: قال قوم لوط له: لقد عرفت ليس لنا ببناتك حاجة، ولا لنا فيهن شهوة؛ لأنك دعوتنا إلى نكاحهن بشرط الإيمان، ولا نريد ذلك. فسقط حقنا في نكاحهن. {وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ ما نُرِيدُ}: فهم يعنون أضيافه، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.
الإعراب: {قالُوا} : ماض مبني على الضم، والواو فاعله، والألف للتفريق. {لَقَدْ}:
اللام: لام الابتداء، أو هي واقعة في جواب قسم محذوف. (قد): حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال. {عَلِمْتَ} : فعل وفاعل. {ما} : نافية. {لَنا} : متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {فِي بَناتِكَ} : متعلقان بمحذوف خبر ثان، أو هما متعلقان بالخبر المحذوف مثل {لَنا} وقيل: متعلقان بمحذوف حال من: {حَقٍّ} كان صفة له، فلما قدم عليه صار حالا، وكثير من النحاة لا يجيز مجيء الحال من المبتدأ. {مِنْ}: حرف جر صلة. {حَقٍّ} : مبتدأ مؤخر مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على آخره، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد، هذا؛ وجوز اعتباره فاعلا بالجار والمجرور:{لَنا} لاعتماده على نفي، أقول:
وهذا يحوج إلى تقدير فعل ليكون فاعلا بالفعل، أي: ما ثبت، أو ما يثبت لنا حق في بناتك، والجملة سواء أكانت اسمية، أم فعلية فهي في محل نصب سدت مسد مفعولي الفعل (علم)، والجملة الفعلية جواب قسم مقدر، والقسم وجوابه في محل نصب مقول القول، وجملة:
{قالُوا..} . إلخ مستأنفة لا محل لها. {وَإِنَّكَ} : الواو: واو الحال. (إنك): حرف مشبه بالفعل، والكاف اسمها. {لَتَعْلَمُ}: مضارع، والفاعل تقديره:«أنت» ، واللام هي المزحلقة.
{ما} : موصولة مبنية على السكون في محل نصب مفعول به، والجملة الفعلية بعده صلته، والعائد: محذوف، التقدير: لتعلم الذي نريده، هذا؛ وجوز اعتبار {ما} مصدرية تؤول مع ما بعدها بمصدر في محل نصب مفعول به، التقدير: لتعلم إرادتنا، وأضيف: أنه سوغ اعتبار {ما} استفهامية مفعولا به مقدما، معلقة للفعل (تعلم) عن العمل، والجملة الفعلية في محل نصب مفعوله، وجملة:{لَتَعْلَمُ..} . إلخ في محل رفع خبر (إن)، والجملة الاسمية (إنك
…
) إلخ في محل نصب حال من ضمير المخاطب، والرابط: الواو، والضمير.
{قالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ (80)}
الشرح: {قالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً} : قاله لوط لما رأى استمرار قومه في غيهم، ولم يقدر على دفعهم؛ قال ذلك على جهة التحسر، والتلهف متمنيا أن يكون له أنصار، وأعوان يدفعون عنه شر هؤلاء الفجرة الكفرة. {أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ}: أو ألجأ وأنضوي إلى عشيرة تمنعني منكم، فقد شبه العشيرة القوية التي تذود عن حمى أفرادها بالركن الشديد، وهو ناحية الجبل.
هذا؛ ويقرأ بنصب {آوِي} ورفعه، وانظر الآية رقم [43].
تنبيه: يروى: أن الملائكة وجدت على لوط عليه السلام حين قال هذه الكلمات، وقالوا:
إن ركنك لشديد، وفي البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يرحم الله أخي لوطا كان يأوي إلى ركن شديد» . ولما قال لوط هذه المقالة لم يبعث الله بعده نبيا إلا وقواه بالركن الشديد، أي: جعل له عشيرة تحميه.
وإنما قال لوط عليه السلام هذه المقالة؛ لأنه لم يكن من قومه نسبا، بل كان غريبا فيهم؛ لأنه كان أولا بالعراق مع إبراهيم عليهما السلام، فلما هاجرا إلى الشام أرسله إلى أهل سدوم وعامورة، وأما قوله تعالى في سورة (الشعراء):{إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ..} . إلخ إنما أراد بذلك أخوة البلد والإقامة لا في الدين ولا في النسب؛ لأنه أقام بينهم مدة مديدة وسنين عديدة، وتزوج منهم، وأنجب أولادا من نسائهم، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.
الإعراب: {قالَ} : ماض، وفاعله مستتر يعود إلى لوط. {لَوْ}: حرف لما كان سيقع لوقوع غيره. {أَنَّ} : حرف مشبه بالفعل. {لِي} : جار ومجرور متعلقان بمحذوف رفع خبر {أَنَّ} تقدم على اسمها. {بِكُمْ} : متعلقان بالخبر المحذوف، أو بمحذوف حال من الضمير المستتر في متعلق {لِي} وجوز اعتبارهما متعلقين بمحذوف حال من {قُوَّةً،} كان صفة له
…
إلخ.
{قُوَّةً} : اسم {أَنَّ} مؤخر. {أَوْ} : حرف عطف. {آوِي} : مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء، والفاعل مستتر تقديره:«أنا» ، والجملة الفعلية معطوفة على خبر:{أَنَّ} في المعنى، التقدير: أو أني آوي!، هذا؛ ويجوز أن يكون معطوفا على {قُوَّةً} نفسها؛ لأنه
منصوب في الأصل بإضمار (أن)، فلما حذفت (أن) رفع الفعل على حد قوله تعالى:{وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ} .. ويؤيد ذلك ويقويه قراءة الفعل بالنصب ب «أن» مضمرة بعد {أَوْ،} ويكون التقدير: لو أن لي بكم قوة، أو إيواء. {إِلى رُكْنٍ}: متعلقان بالفعل قبلهما. {شَدِيدٍ} :
صفة: {رُكْنٍ،} و {أَنَّ} واسمها وخبرها في تأويل مصدر في محل رفع فاعل لفعل محذوف، هو شرط (لو) عند المبرد، التقدير: لو ثبت وجود قوة لي ونحوه، وقال سيبويه رحمه الله تعالى: هو في محل رفع مبتدأ، والخبر محذوف، التقدير: لو وجود قوة لي حاصل أو ثابت، ونحوهما، وقول المبرد رحمه الله تعالى هو المرجح؛ لأن {لَوْ} لا يليها إلا فعل ظاهر، أو مقدر، والفعل المقدر على قول المبرد وفاعله المؤول جملة فعلية لا محل لها من الإعراب؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي، وجواب {لَوْ} محذوف، التقدير: لدفعتكم، أو لبطشت بكم، وأرى جواز اعتبار:{لَوْ} للتمني، وهي لا تحتاج إلى جواب على هذا الاعتبار، ويكون التقدير: أتمنى وجود قوة تمنعني منكم، أو إيواء إلى ركن شديد يحفظني من طغيانكم، وفسادكم، وهو تقدير لا غبار عليه، والكلام في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالَ..} .
إلخ مستأنفة لا محل لها. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم.
الشرح: {قالُوا يا لُوطُ إِنّا رُسُلُ رَبِّكَ..} . إلخ: قال ابن عباس، وأهل التفسير: أغلق لوط بابه في وجه قومه، والملائكة معه في الدار، وجعل يناظر قومه، ويناشدهم من وراء الباب، فلم يكفّوا بل هموا بكسر الباب، وهو يمسكه، فلما رأت الملائكة ما لقي لوط من الجهد، قالوا له:
{يا لُوطُ إِنّا رُسُلُ رَبِّكَ} تنحّ عن الباب، فتنحى وانفتح الباب، فضربهم جبريل عليه السلام بجناحه فطمس أعينهم، وعموا وانصرفوا على أعقابهم، فلم يعرفوا طريقا، ولا اهتدوا إلى بيوتهم، وجعلوا يقولون: النجاء النجاء، فإن في بيت لوط قوما هم أسحر من على وجه الأرض، وقد سحرونا، فأعموا أبصارنا، وجعلوا يقولون: يا لوط! كما أنت حتى تصبح، وسترى ما تلقى منا غدا يتوعدونه. قال تعالى في سورة القمر:{وَلَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ} . {لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ} : بمكروه بسبب إيذائهم إيانا. {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ} : فاخرج من هذه القرية بأهلك في آخر الليل، وقيل: بعد مضي طائفة من الليل، أي:
بعد هدأة منه، وقيل غير ذلك، انظر الآية رقم [27] من سورة (يونس). {وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ} أي: لا يتخلف عن الخروج منكم أحد، وقيل: لا ينظر وراءه منكم أحد. {إِلاَّ امْرَأَتَكَ}
أي: فإنها تلتفت فتهلك مع من يهلك من قومها، وهو قوله تعالى:{إِنَّهُ مُصِيبُها ما أَصابَهُمْ} فقد قيل: إن لوطا خرج بها، ونهى من معه ممن أسرى بهم أن يلتفت. فلم يلتفت منهم أحد سوى زوجته، فإنها لما سمعت هدة العذاب التفتت، وقالت: وا قوماه! فأدركها حجر، فقتلها، فلما قالت الملائكة:{إِنّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ} فقال لوط: متى يكون هذا العذاب؟ قالوا: {إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ} قال: إنه بعيد، أريد أسرع من ذلك، فقالوا له:{أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ} .
يروى: أن لوطا عليه السلام خرج بابنتيه ليس معه غيرهما عند طلوع الفجر، وأن الملائكة قالت له: إن الله وكل بهذه القرية ملائكة معهم صوت رعد، وخطف برق، وصواعق عظيمة، وقد ذكرنا لهم: أن لوطا سيخرج فلا تؤذوه، وأمارته: أنه لا يلتفت، ولا تلتفت ابنتاه، فلا يهولنك ما ترى، فخرج لوط عليه السلام، وطوى الله له الأرض في وقته حتى نجا ووصل إلى إبراهيم.
بعد هذا انظر القول في الآية [18]{رُسُلُ} : جمع رسول يجوز ضم سينه وتسكينها، قال عيسى بن عمر: كل اسم على ثلاثة أحرف أوله مضموم وأوسطه ساكن، فمن العرب من يخففه ومنهم من يثقله، وذلك مثل رسل وعسر ويسر وأسد ورحم
…
إلخ. وانظر شرح (الرسول) في الآية [1] من سورة (الأنفال). {رَبِّكَ} : انظر الآية رقم [3]، {فَأَسْرِ}: فعل أمر يقرأ بوصل الهمزة وقطعها، وسرى وأسرى بمعنى واحد وهو قول أبي عبيد والثانية لغة أهل الحجاز، وهما بمعنى سار الليل عامته، وقيل: سرى لأول الليل، وأسرى لآخره، وهو قول الليث. وأما سار فهو مختص بالنهار، وليس مقلوبا من سرى، فهو بمعنى مشى، والسرى والإسراء: السير في الليل، يقال: سرى يسري سرى ومسرى وسرية وسراية، هذا؛ والسرى يذكر ويؤنث، ولم يحك اللحياني فيه إلا التأنيث كأنهم جعلوه جمع سرية.
{بِأَهْلِكَ} : الأهل اسم جمع لا واحد له من لفظه، مثل: معشر، ورهط، والأهل:
العشيرة وذوو القربى، ويطلق على الزوجة، وعلى الأتباع بدليل الآية الكريمة والآية رقم [40] والجمع أهلون، وأهال، وآهال، وأهلات، وأهلات، وبالأولين قرئ قوله تعالى:{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النّاسُ وَالْحِجارَةُ} .
{أَحَدٌ} : أصله: وحد لأنه من الوحدة، فأبدلت الواو همزة، وهذا قليل في المفتوحة، إنما يحسن في المضمومة والمكسورة، مثل قولهم: وجوه، وأجوه، ووسادة، وإسادة، وهو مرادف للواحد في موضعين: أحدهما وصف الباري جل علاه، فيقال: هو الواحد، وهو الأحد، والثاني أسماء العدد، فيقال: أحد وعشرون، وواحد وعشرون، وفي غير هذين الموضعين يفرق بينهما في الاستعمال، فلا يستعمل (أحد) إلا في النفي، وهو كثير في الكلام، أو في الإثبات مضافا، كما في قوله تعالى:{يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ} بخلاف الواحد، وقولهم: ما في
الدار أحد؛ هو اسم لمن يعقل، ويستوي فيه الواحد، والجمع والمذكر والمؤنث، قال تعالى:
{يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ} وقال جل ذكره: {فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ} .
{اِمْرَأَتَكَ} : المرأة جمعها من غير لفظها نساء، ونسوة، ونسون، وهي مشتقة من المرء، وهو الرجل. {مُصِيبُها}: انظر إعلال (يصيب) في الآية [51] من سورة (التوبة).
الإعراب: {قالُوا} : فعل وفاعل، والألف للتفريق. {يا لُوطُ}: منادى مفرد علم مبني على الضم في محل نصب ب (يا) النائبة مناب (أدعو). {إِنّا} : حرف مشبه بالفعل، و (نا): اسمها، وحذفت نونها، والألف دليل عليها. {رُسُلُ}: خبر (إن)، وهو مضاف، و {رَبِّكَ}: مضاف إليه، والكاف في محل جر بالإضافة من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {لَنْ}: حرف نفي ونصب واستقبال. {يَصِلُوا} : مضارع منصوب ب {لَنْ،} وعلامة نصبه حذف النون.. إلخ، والواو فاعله، والألف للتفريق. {إِلَيْكَ}: متعلقان بالفعل قبلهما. {فَأَسْرِ} : الفاء: هي الفصيحة وانظر الآية [17](أسر): أمر مبني على حذف حرف العلة من آخره، وهو الياء، والكسرة قبلها دليل عليها، والفاعل مستتر تقديره:«أنت» . {بِأَهْلِكَ} : متعلقان بالفعل قبلهما، وقيل: متعلقان بمحذوف حال، أي: مصاحبا لهم، والكاف في محل جر بالإضافة، {بِقِطْعٍ}: متعلقان بالفعل قبلهما، والباء بمعنى (في). {مِنَ اللَّيْلِ}: متعلقان بمحذوف صفة قطع، وجملة: (أسر
…
) إلخ لا محل لها؛ لأنها جواب شرط غير جازم، التقدير: وإذا كان ذلك حاصلا وواقعا فأسر
إلخ. الواو: حرف عطف. (لا): ناهية. {يَلْتَفِتْ} : مضارع مجزوم ب (لا) الناهية. {مِنْكُمْ} :
متعلقان بمحذوف حال من {أَحَدٌ،} كان صفة له، فلما قدم عليه صار حالا على القاعدة:«نعت النكرة إذا تقدم عليها صار حالا» . {إِلاَّ} : أداة استثناء. {اِمْرَأَتَكَ} : مستثنى من الأهل، أي:
فلا تسر بها، وبالرفع بدل من {أَحَدٌ،} والكاف في محل جر بالإضافة، وجملة:{وَلا يَلْتَفِتْ..} .
إلخ معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها. {إِنَّهُ}: حرف مشبه بالفعل، والهاء ضمير الشأن اسمها. {مُصِيبُها}: خبر مقدم، والهاء في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {ما}: اسم موصول مبني على السكون في محل رفع مبتدأ مؤخر.
{أَصابَهُمْ} : ماض، والهاء مفعول به، والفاعل يعود إلى {ما} وهو العائد، والجملة صلة الموصول، والجملة الاسمية في حل رفع خبر (إن)، وإنما أعربتها على هذا الوجه؛ لأن ضمير الشأن لا يفسر إلا بجملة، وهو المعتمد، وعلى القول الضعيف يجوز اعتبار {مُصِيبُها} خبرا ل (إنّ)، و {ما} تكون فاعلا باسم الفاعل، والجملة الاسمية:{إِنَّهُ..} . إلخ تعليل للأمر، لا محل لها، وجملة:{إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ} مستأنفة لا محل لها، والهاء في محل جر بالإضافة وإن اعتبرته مصدرا ميميا، فالإضافة تكون من إضافة المصدر الميمي لمفعوله. {أَلَيْسَ}: الهمزة:
حرف استفهام وتقرير. (ليس): ماض ناقص. {الصُّبْحُ} : اسمها. الباء: حرف جر صلة.
{بِقَرِيبٍ} : خبر (ليس) منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على آخره، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد، والجملة الفعلية:{أَلَيْسَ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها، ولعلك تدرك معي أن الآية بكاملها في محل نصب مقول القول؛ لأنها من مقول الملائكة للوط عليه السلام، وجملة:{قالُوا..} . إلخ مستأنفة لا محل لها.
الشرح: {فَلَمّا جاءَ أَمْرُنا} أي: بإهلاكهم وعذابهم. {جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها} : وذلك أن جبريل-عليه السلام-أدخل جناحه تحت قرى قوم لوط، وهي خمس، وأكبرها سدوم، وهي المؤتفكات المذكورة في الآية [71] التوبة، فرفعها من تخوم الأرض حتى أدناها من السماء بما فيها، حتى سمع أهل السماء نهيق حمرهم، وصياح ديكتهم، لم تنكفئ لهم جرة، ولم ينكسر لهم إناء، ولم ينتبه لهم نائم، ثم قلبها فجعل عاليها سافلها. {وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً} أي: على من كان خارجا عنها من مسافريها قيل: إن الحجارة اتبعت شذاذ قوم لوط، حتى إن واحدا منهم دخل الحرم، فبقي الحجر معلقا في السماء أربعين يوما حتى خرج ذلك الرجل من الحرم، فسقط عليه الحجر، فأهلكه، وقيل: بعد ما قلبها أمطر عليهم، والمعتمد الأول.
{مِنْ سِجِّيلٍ} : قالت طائفة، منهم ابن عباس، وسعيد بن جبير، وابن إسحاق: إن «سجيلا» لفظة غير عربية، عربت، أصلها «سنج» و «جيل» ، ويقال:«سنك» و «كيل» ، وهما بالفارسية حجر وطين، عربتهما العرب، فجعلتهما اسما واحدا؛ لأن العرب إذا تكلمت بشيء من الفارسي، صار لغة للعرب، ولا يضاف إلى الفارسية، مثل سندس، واستبرق، ونحو ذلك، فكل هذه الألفاظ فارسية، تكلمت بها العرب، واستعملتها، فصارت عربية، وقيل في شرح:{سِجِّيلٍ} غير ذلك أقوال كثيرة، وانظر الآية رقم [2] من سورة (يوسف) على نبينا، وعليه ألف صلاة وسلام، هذا؛ وأمطرت السماء ومطرت بمعنى واحد، وقيل: أمطر في العذاب، ومطر في الرحمة.
{مَنْضُودٍ} : قال ابن عباس-رضي الله عنهما: متتابع يتبع بعضها بعضا، وقال الربيع:
نضد بعضه على بعض حتى صار جسدا واحدا، وقال عكرمة: مصفوف، وقال بعضهم:
مرصوص والمعنى متقارب. {مُسَوَّمَةً} : معلمة، من السيما، وهي العلامة، وقيل: مكتوب على كل حجر اسم من رمي به، وكانت لا تشاكل حجارة الأرض. {عِنْدَ رَبِّكَ} أي: هي من عند الله، وليست من حجارة الأرض.
{وَما هِيَ مِنَ الظّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} : قال قتادة وعكرمة: يعني ظالمي هذه الأمة، والله ما أجار منها ظالما بعده، روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «سيكون في آخر أمّتي قوم يكتفي رجالهم
بالرجال، ونساؤهم بالنّساء، فإذا كان ذلك، فارتقبوا عذاب قوم لوط أن يرسل الله عليهم حجارة من سجّيل»، ثم تلا {وَما هِيَ مِنَ الظّالِمِينَ بِبَعِيدٍ}. وفي رواية عنه عليه الصلاة والسلام:
«لا تذهب الليالي والأيّام حتى تستحلّ هذه الأمّة أدبار الرجال، كما استحلوا أدبار النّساء، فتصيب طوائف هذه الأمّة حجارة من ربّك» . وقيل: المعنى ما هذه القرى ببعيد من الظالمين يعني مشركي مكة، فإنها قريبة من بلاد الحجاز، وفي طريقهم إلى بلاد الشام في ذهابهم وإيابهم منها، ولم يؤنث بعيد؛ لأنه على إرادة الحجر أو المكان، أو على إرادة العقاب، ولا يبعد أن يسوى في أمثاله بين المذكر والمؤنث؛ لأنها على زنة المصادر كالصهيل، والشهيق.
الإعراب: {فَلَمّا جاءَ أَمْرُنا} : انظر الآية رقم [77] لإعراب هذه الكلمات. {جَعَلْنا} : فعل وفاعل. {عَلَيْها} : مفعول به أول. {سافِلَها} : مفعول به ثان، و (ها): في محل جر بالإضافة وهي عائدة على القرى، ولم يتقدم لها ذكر، ولكنها مفهومة من المقام، انظر ما ذكرته في الآية [44] والجملة الفعلية جواب (لمّا) لا حل لها، و (لمّا) ومدخولها كلام مستأنف لا محل له، وجملة:{وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً} معطوفة على جواب (لمّا) لا محل لها مثله. {مِنْ سِجِّيلٍ} : متعلقان بمحذوف صفة: {حِجارَةً} . {مَنْضُودٍ} : صفة: {سِجِّيلٍ} . {مُسَوَّمَةً} :
صفة: {حِجارَةً،} أو هي حال منها بعد وصفها بما تقدم، وهي اسم مفعول فنائب فاعله يعود إلى {حِجارَةً}. {عِنْدَ}: ظرف مكان متعلق ب {مُسَوَّمَةً،} و {عِنْدَ} : مضاف، و {رَبِّكَ}:
مضاف إليه، والكاف في محل جر بالإضافة. {وَما}: الواو: حرف استئناف. (ما): نافية حجازية. {هِيَ} : ضمير منفصل مبني على الفتح في محل رفع اسم (ما). {مِنَ الظّالِمِينَ} :
متعلقان ب (بعيد) بعدهما. {بِبَعِيدٍ} : الباء: حرف جر صلة. (بعيد): خبر (ما) منصوب. مثل (قريب) في الآية السابقة، هذا؛ وإن اعتبرت (ما) تميمية فالضمير مبتدأ، وتكون الباء زائدة في خبره، والجملة الاسمية:{وَما هِيَ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها، وإن اعتبرت الجملة في محل نصب حال من الضمير العائد على القرى فلست مفندا، والرابط: الواو، والضمير.
الشرح: {وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً} أي: وأرسلنا إلى مدين أخاهم شعيبا، فهو مثل الآية رقم [50] و [60] {قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ}: انظر مثل هذا الكلام في الآية رقم [50]، {وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ}: أمرهم بالتوحيد أولا، فإنه ملاك الأمر، ثم نهاهم عما اعتادوه من البخس المنافي للعدل المخل بحكمة التعاوض، فقد كانوا مع كفرهم أهل بخس
وتطفيف، كانوا إذا جاءهم البائع بالطعام؛ أخذوا بكيل زائد، واستوفوا بغاية ما يقدرون، وظلموا، وإن جاءهم مشتر للطعام باعوه بكيل ناقص، وشححوا له بغاية ما يقدرون، فأمروا بالإيمان إقلاعا عن الشرك، وبالوفاء نهيا عن التطفيف. {إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ} أي: في سعة من الرزق وكثرة النعم، فلا تزيلوا هذه النعم عنكم بكفركم، وظلمكم غيركم. {وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ} أي: يحيط بكم، فيهلككم جميعا وهو عذاب الاستئصال في الدنيا، أو هو عذاب الآخرة، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.
بعد هذا ف {مَدْيَنَ} هو اسم ابن إبراهيم الخليل، عليه السلام، ثم صار اسما للقبيلة من أولاده، وهو المراد هنا، وانظر الآية [35] من سورة (إبراهيم) عليه السلام، وقيل: هو في الأصل اسم مدينة بناها مدين المذكور، فعلى هذا يكون التقدير: وأرسلنا إلى أهل مدين، فحذف المضاف لدلالة الكلام، وكان شعيب عليه السلام يقال له: خطيب الأنبياء لحسن مراجعته قومه، وهو ابن ميكائيل بن يشجر بن مدين بن إبراهيم، فهو أخوهم في النسب، والإقامة معهم في البلد. وقد أثبت عبد الوهاب النجار-رحمه الله تعالى-: أن زمن شعيب كان قبل زمن موسى عليه السلام، وإذا عرفت أن موسى تزوج بنت شعيب، كما ستعرفه في سورة (القصص) -إن شاء الله تعالى-ظهر لك: أنهما كانا في عصر واحد، وإن كان شعيب أسنّ من موسى بكثير عليهم جميعا صلوات الله وسلامه. {وَلا تَنْقُصُوا}: انظر ما ذكرته في هذا الفعل في الآية رقم [52]، {وَالْمِيزانَ}: أصله: الموزان، قلبت الواو ياء لسكونها وانكسار ما قبلها، و {مُحِيطٍ} أصله:(محوط) لأنه من حاط يحوط، فقل في إعلاله: اجتمع معنا حرف صحيح ساكن، وحرف علة متحرك، والحرف الصحيح أولى بالحركة من حرف العلة، فنقلت حركة الواو إلى الحاء، فصار (محوط) ثم قلبت الواو ياء لمناسبة الكسرة.
الإعراب: {وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ} إعراب هذا الكلام مثل الآية رقم [50] بلا فارق. {وَلا} : الواو: حرف عطف. (لا): ناهية.
{تَنْقُصُوا} : مضارع مجزوم ب (لا) الناهية، وعلامة جزمه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والألف للتفريق، وهو ينصب مفعولين، الأول محذوف، التقدير:
ولا تنقصوا الناس. {الْمِكْيالَ} : مفعول به ثان، وهو في الأصل مجرور بحرف جر، التقدير: ولا تنقصوا من المكيال، وقدّر النسفي المكيل بالمكيال، ولا بأس به، ويجوز أن يكون المكيال المفعول الأول، والثاني محذوف، وفي ذلك مبالغة، والتقدير: ولا تنقصوا المكيال والميزان حقهما الذي وجب لهما، وهو أبلغ في الأمر بوفائهما. انتهى. جمل نقلا عن السمين. وجملة:{وَلا تَنْقُصُوا..} . إلخ معطوفة على جملة: {اُعْبُدُوا..} . إلخ فهي في محل نصب مقول القول مثلها. {إِنِّي} : حرف مشبه بالفعل، وياء المتكلم اسمها.
{أَراكُمْ} : مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر، والفاعل مستتر تقديره:«أنا» ، والكاف مفعول به. {بِخَيْرٍ}: متعلقان بالفعل قبلهما، وجملة:{أَراكُمْ بِخَيْرٍ} في محل رفع خبر (إن)، والجملة الاسمية:{إِنِّي..} . إلخ تعليل للنهي لا محل لها، والجملة بعدها معطوفة عليها لا محل لها مثلها. {مُحِيطٍ}: قال البيضاوي وغيره: هو صفة:
{يَوْمٍ،} ووصف اليوم بالإحاطة، وهي صفة:{عَذابَ} لاشتماله عليه، وأرى: أنه صفة:
{عَذابَ،} فهو منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على آخره، منع من ظهورها اشتغال المحل بالكسرة التي جلبها حركة الجوار قبله، وهو لفظ {يَوْمٍ} والجملتان الاسميتان بعد اعتبارهما تعليلا للنهي، فهما في محل نصب مقول القول، لا محل لهما باعتبار، ولهما محل باعتبار آخر، ومثله كثير. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم.
الشرح: {وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ} : قال البيضاوي رحمه الله تعالى: صرح بالأمر بالإيفاء بعد النهي عن ضده مبالغة، وتنبيها على أنه لا يكفيهم الكف عن تعمد التطفيف، بل يلزمهم السعي في الإيفاء، ولو بزيادة لا يتأتى دونها. {بِالْقِسْطِ}: بالعدل، والتسوية من غير زيادة ولا نقصان. {وَلا تَبْخَسُوا النّاسَ أَشْياءَهُمْ} أي: ولا تنقصوا الناس أموالهم، ولا تأكلوها بالباطل والعدوان. {وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ}: ولا تفسدوا في الأرض من: عثى، يعثى، أو من: عثا، يعثو، من بابي تعب، ونصر، ومصدر الأول: عثي، ومصدر الثاني: عثو، هذا؛ والعثو يعم تنقيص الحقوق وغيره من أنواع المعاملات، وكذلك يشمل جميع أنواع الفساد.
تنبيه: فقد وقع التكرار في الآية وسابقتها من ثلاثة أوجه؛ لأن الأمر بإيفاء الكيل والميزان هو مفهوم النهي عن نقصهما، وهو أيضا مفهوم النهي عن بخس الناس أشياءهم، فما الفائدة من هذا التكرار، والجواب: أن القوم لما كانوا مصرين على ذلك العمل القبيح، وهو ما أفادته الجمل الثلاث؛ احتيج في المنع منه، إلى المبالغة في التأكيد، والتكرير يفيد شدة الاهتمام والعناية بالتأكيد، فلهذا كرر ذلك ليقوي الزجر، والمنع من ذلك الفعل.
الإعراب: {وَيا قَوْمِ} : منادى منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم المحذوفة، وانظر بقية الإعراب في الآية رقم [28]. {أَوْفُوا}: فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق. {الْمِكْيالَ}: مفعول به. {وَالْمِيزانَ} : معطوف على ما قبله.
{بِالْقِسْطِ} : متعلقان بالفعل {أَوْفُوا،} أو هما متعلقان بمحذوف حال من: {الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ،} التقدير: تامّين بالقسط. {وَلا تَبْخَسُوا} : مضارع مجزوم ب (لا) الناهية.. إلخ، والواو فاعله،
والألف للتفريق. {النّاسَ} : مفعول به أول. {أَشْياءَهُمْ} : مفعول به ثان، والهاء في محل جر بالإضافة. {وَلا تَعْثَوْا}: مثل سابقه. {فِي الْأَرْضِ} : متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بما بعدهما. {مُفْسِدِينَ}: حال مؤكدة لمعنى الفعل منصوب، وعلامة نصبه الياء نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مذكر سالم، هذا؛ والجمل في الآية معطوفة على بعضها، والآية بكاملها في محل نصب مقول القول لأنها من مقول شعيب على نبينا، وعليه ألف صلاة وسلام.
{بَقِيَّتُ اللهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (86)}
الشرح: {بَقِيَّتُ اللهِ خَيْرٌ لَكُمْ} : قال ابن عباس-رضي الله عنهما: يعني ما أبقى الله لكم من الحلال بعد إيفاء الكيل والوزن، خير لكم، مما تأخذونه من التطفيف، وقال مجاهد: طاعة الله خير لكم، وقيل: بقية الله: ما أبقاه لكم من الثواب في الآخرة خير لكم مما يحصل لكم في الدنيا من المال الحرام. {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} أي: إن ما ذكر من الخيرية مشروط بوجود الإيمان، وهذا الشرط منصوص عليه في شريعة محمد صلى الله عليه وسلم لقبول العمل الصالح، كما في قوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً،} وغيرها كثير. {وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ} :
أحفظكم وأمنعكم من القبائح، أو أحفظ عليكم أعمالكم، فأجازيكم عليها، وإنما أنا ناصح مبلّغ، وقد أعذرت حين أنذرت. أو لست بحافظ عليكم نعم الله لو لم تتركوا سوء صنيعكم، وانظر مثلها في سورة (يونس) رقم [108]، هذا؛ وقرئ «(تقاة الله)» بمعنى: تقوى الله والخوف منه؛ التي تكف، وتردع عن المعاصي، وانظر شرح {خَيْرٌ} في الآية رقم [39] من سورة (يوسف) عليه السلام.
الإعراب: {بَقِيَّتُ} : مبتدأ، و {اللهِ}: مضاف إليه. {خَيْرٌ} : خبر المبتدأ. {لَكُمْ} :
متعلقان ب {خَيْرٌ} . والجملة الاسمية مستأنفة لا محل لها. {إِنْ} : حرف شرط جازم.
{كُنْتُمْ} : ماض ناقص مبني على السكون في محل جزم فعل الشرط، والتاء اسمه.
{مُؤْمِنِينَ} : خبر (كان) منصوب وعلامة نصبه الياء نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مذكر سالم، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي، وجواب الشرط محذوف لدلالة ما قبله عليه، والجملة الشرطية قيد للخيرية كما رأيت لا محل لها أيضا.
{وَما} : الواو: واو الحال. (ما): نافية حجازية تعمل عمل ليس. {أَنَا} : ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع اسم (ما). {عَلَيْكُمْ} : متعلقان بما بعدهما. {بِحَفِيظٍ} : الباء:
حرف جر صلة. (حفيظ): خبر (ما) منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على آخره، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد، هذا؛ وإن اعتبرت (ما) تميمية مهملة فالضمير مبتدأ، وتكون الباء زائدة في خبره، وعلى الاعتبارين فالجملة الاسمية في محل نصب حال من كاف الخطاب، والرابط: الواو، والضمير، وهو أولى من اعتبارها مستأنفة.
الشرح: {قالُوا} أي: قوم شعيب له. {أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا} أي: من الأصنام أجابوا بذلك بعد أن أمرهم بالتوحيد، وإيفاء الكيل والميزان للناس، قالوا ذلك تهكّما واستهزاء بصلاته، فقد روي أنه عليه الصلاة والسلام كان كثير الصلاة، مواظبا على العبادة فرضها، ونفلها، ويقول: إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، فلما أمرهم، ونهاهم؛ عيروه بكثرة الصلاة.
قال الحسن رحمه الله: لم يبعث الله نبيا إلا فرض عليه الصلاة والزكاة. أقول: وتختلف الكيفية والكمية من رسول إلى رسول، هذا؛ وقد قرئ بجمع الصلاة.
{أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا} فالمصدر المؤول معطوف على {ما،} والتقدير:
أصلاتك تأمرك أن نترك فعلنا في أموالنا، والمعنى: أتريد أن تسلبنا حريتنا في أموالنا؟! هذا؛ ويقرأ الفعلان بتاء المضارعة، والإعراب يوضح هذا.
{إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} : قال ابن عباس-رضي الله عنهما: أرادوا: السفيه الغاوي؛ لأن العرب قد تصف الشيء بضده، فيقولون للديغ: سليم، وللفلاة المهلكة: مفازة، وقيل: هو على حقيقته، وإنما قالوا ذلك على سبيل الاستهزاء والسخرية، وقيل: معناه: لأنت الحليم الرشيد في زعمك، وقيل: هو على بابه من الصحة، ومعناه: إنك يا شعيب فينا حليم رشيد، فلا يحسن بك شق عصا قومك، ومخالفتهم في دينهم.
الإعراب: {قالُوا} : ماض وفاعله، والألف للتفريق. {يا شُعَيْبُ}: منادى مفرد علم مبني على الضم في محل نصب ب (يا) النائبة مناب (أدعو). {أَصَلاتُكَ} : الهمزة: حرف استفهام وإنكار وتوبيخ. (صلاتك): مبتدأ، والكاف في محل جر بالإضافة. {تَأْمُرُكَ}: مضارع، والفاعل يعود إلى (صلاتك)، والكاف مفعول به أول، والمصدر المؤول من {أَنْ نَتْرُكَ} في محل نصب مفعول به ثان ل (تأمر)، أو هو في محل جر بحرف جر محذوف، التقدير: بترك، والجار والمجرور متعلقان به على أنهما مفعوله الثاني. {ما}: اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل نصب مفعول به، والجملة الفعلية بعدها صلتها أو صفتها، والعائد أو الرابط محذوف، التقدير: أن نترك الذي، أو شيئا يعبده آباؤنا، هذا؛ وإن اعتبرت {ما} مصدرية تؤول مع الفعل بعدها بمصدر في محل نصب مفعول به، التقدير: أن نترك عبادة آبائنا، هذا؛ والمصدر المؤول من {أَنْ نَفْعَلَ} معطوف ب {أَوْ} على {ما،} هذا؛ وعلى قراءة الفعل بالتاء، فالمصدر المؤول من (أن تفعل) معطوف على {أَنْ نَتْرُكَ}. {فِي أَمْوالِنا}: متعلقان بالفعل
قبلهما، و (نا): في محل جر بالإضافة. {ما} : تحتمل الموصولة، والموصوفة، والمصدرية، فعلى قراءة الفعل بالنون، يكون التقدير: نفعل في أموالنا الذي، أو شيئا نشاؤه، أو نفعل مشيئتنا، وعلى قراءة الفعل بالتاء، يكون التقدير: تفعل في أموالنا الذي، أو شيئا تشاؤه، أو تفعل مشيئتك، وجملة:{تَأْمُرُكَ..} . إلخ في محل رفع خبر المبتدأ. {إِنَّكَ} : حرف مشبه بالفعل، والكاف اسمها. {لَأَنْتَ}: اللام: هي المزحلقة. (أنت): ضمير منفصل مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ. {الْحَلِيمُ} : خبر أول. {الرَّشِيدُ} : خبر ثان، والجملة الاسمية في محل رفع خبر إن، هذا؛ ويجوز اعتبار الضمير فصلا لا محل له من الإعراب، و {الْحَلِيمُ} و {الرَّشِيدُ} يكونان خبرين ل (إنّ)، ودخلت اللام على ضمير الفصل؛ لأنه إذا جاز أن تدخل على الخبر، فدخولها على الفصل أولى؛ لأنه أقرب إلى المبتدأ من الخبر، وأصلها أن تدخل على المبتدأ، بعد هذا لعلك تدرك معي: أن الآية بكاملها في محل نصب مقول القول، وجملة:
{قالُوا..} . إلخ مستأنفة لا محل لها.
الشرح: {قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي} : ما أحراك أن تنظر شرح هذا الكلام إفرادا وجملا في الآية رقم [28]{وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً} أي: رزقا حلالا، قيل: كان شعيب على نبينا، وعليه أزكى تحية وأفضل سلام كثير المال الحلال والنعمة، وقيل:(الرزق الحسن):
ما آتاه الله من العلم، والهداية، والنبوة، والمعرفة، ولا بأس به؛ لأن قوله {عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي} يشير إلى العلم، والنبوة.. ، وجواب {إِنْ} الشرطية محذوف؛ إذ التقدير: أرأيتم إن كنت على علم، ومعرفة من ربي، ورزقني المال الحلال الكثير، فهل يسعني مع هذه النعم العظيمة أن أخون في وحيه، أو أن أخالف أمره، أو أتبع الضلال، أو أبخس الناس أشياءهم، وهذا الجواب شديد المطابقة لما تقدم، وذلك لأنهم قالوا له:{إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ،} والمعنى: فكيف يليق بالحليم الرشيد أن يخالف أوامر ربه، وله عليه هذه النعم العظيمة؟! انتهى. خازن بتصرف.
{وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ} أي: ما أريد أن آتي ما أنهاكم عنه؛ لأستبدّ به دونكم، فلو كان صوابا لآثرته، ولم أعرض عنه، فضلا عن أن أنهى عنه، يقال: خالفت زيدا إلى كذا: إذا قصدته وهو مولّ عنه، وخالفته عنه إذا كان الأمر بالعكس. {إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ} أي: ما أريد إلا إصلاحكم بأمري بالمعروف ونهيي عن المنكر ما دمت أستطيع الإصلاح، فلو وجدت الصلاح فيما أنتم عليه؛ لما نهيتكم عنه. {وَما تَوْفِيقِي إِلاّ بِاللهِ}: وما توفيقي
لإصابة الحق والصواب إلا بهدايته ومعونته؛ لأن التوفيق تسهيل سبيل الخير، والطاعة على العبد، ولا يقدر على ذلك إلا الله تعالى. {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} أي: اعتمدت على الله في جميع أموري. {وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} : ارجع إليه تعالى فيما ينزل من النوائب، أو أرجع إليه تعالى في معادي بعد الموت.
الإعراب: {قالَ} : ماض، وفاعله مستتر يعود إلى شعيب. {يا قَوْمِ}: منادى منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم المحذوفة للتخفيف، والياء المحذوفة ضمير في محل جر بالإضافة، وحذف الياء هذه، إنما هو بالنداء خاصة؛ لأنه لا لبس فيه، ومنهم من يثبت الياء ساكنة، فيقول:(يا قومي) ومنهم من يثبتها، ويحركها بالفتحة، فيقول:(يا قومي) ومنهم من يقلبها ألفا بعد فتح ما قبلها، فيقول:«يا قوما» ، ومنهم من يقول:{(يا قَوْمِ)} بضم الميم، ففيه خمس لغات، ويزاد سادسة، وهي حذف الياء بعد قلبها ألفا، وإبقاء الفتحة على الميم دليلا عليها، فتقول، {(يا قَوْمِ)}. {أَرَأَيْتُمْ}: الهمزة: حرف استفهام، وتوبيخ، وتقريع. (رأيتم): فعل وفاعل، والميم علامة جمع الذكور. {إِنْ}: حرف شرط جازم. {كُنْتُ} : ماض ناقص مبني على السكون في محل جزم فعل الشرط، والتاء اسمه. {عَلى بَيِّنَةٍ}: متعلقان بمحذوف خبر (كان). {مِنْ رَبِّي} : متعلقان ب {بَيِّنَةٍ،} أو بمحذوف صفة لها، وعلامة الجر كسرة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم
…
إلخ، والياء في محل جر بالإضافة، وجملة:{كُنْتُ..} . إلخ لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي. (رزقني): ماض، والنون للوقاية، وياء المتكلم مفعول به أول. {مِنْهُ}: متعلقان بالفعل قبلهما. {رِزْقاً} : مفعول به ثان. {حَسَناً} :
صفته، وجملة: (رزقني
…
) إلخ معطوفة على جملة: {كُنْتُ..} . إلخ لا محل لها مثلها، وجواب الشرط محذوف انظر تقديره في الشرح. {وَما}: الواو: حرف عطف. (ما): نافية.
{أُرِيدُ} : مضارع، والفاعل مستتر تقديره:«أنا» ، والمصدر المؤول من {أَنْ أُخالِفَكُمْ} في محل نصب مفعول به، والكاف مفعول به. {إِلى}: حرف جر. {ما} : موصولة أو موصوفة مبنية على السكون في محل جر ب {إِلى،} والجار والمجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {أَنْهاكُمْ} : مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر، والفاعل مستتر تقديره:«أنا» ، والكاف مفعول به. {عَنْهُ}: متعلقان بالفعل قبلهما، والجملة الفعلية صلة {ما} أو صفتها، والعائد أو الرابط: الضمير المجرور محلاّ ب (عن). {إِنْ} : حرف نفي بمعنى (ما). {أُرِيدُ} : مضارع، والفاعل (أنا). {إِلاَّ}: حرف حصر. {الْإِصْلاحَ} : مفعول به. {ما} : مصدرية ظرفية، تؤول مع الفعل بعدها بمصدر في محل نصب على الظرفية الزمانية متعلق بالفعل {أُرِيدُ،} التقدير: مدة استطاعتي. وقال البيضاوي: وقيل: {ما} خبرية بدل من {الْإِصْلاحَ،} وهو يعني: أنها اسم موصول، أو مصدرية تؤول مع الفعل بعدها بمصدر، والتقدير على الأول، ما أريد، إلا الإصلاح الذي استطعته، وعلى الثاني: ما أريد، إلا الإصلاح استطاعتي. {وَما}: الواو: حرف
استئناف. (ما): نافية. {تَوْفِيقِي} : مبتدأ مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم
…
إلخ، والياء في محل جر بالإضافة، من إضافة المصدر لفاعله. {إِلاَّ}: حرف حصر. {بِاللهِ} : متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة لا محل لها.
{عَلَيْهِ} : متعلقان بالفعل بعدهما، وتقديمهما أفاد التخصيص. {تَوَكَّلْتُ}: فعل وفاعل، والجملة الفعلية مستأنفة لا محل لها، وما بعدها معطوفة عليها، وينبغي أن تعلم أن الآية بكاملها في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالَ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها.
تنبيه: بقي أن تعلم أن الفعل: {أَرَأَيْتُمْ} يتعدى إلى مفعولين، وأن الثاني أكثر ما يكون جملة استفهامية ينعقد منها مع ما قبلها مبتدأ وخبر، كقول العرب: أرأيت زيدا ما صنع؟ والمعنى أخبرني عن زيد ما صنع؟ إذا تقرر هذا؛ فالمفعول الأول هنا محذوف، ولا يصح أن تقع جملة الشرط موقعه، والجملة الفعلية الاستفهامية المحذوفة التي رأيت تقديرها في الشرح، والمعتبرة جوابا للشرط هي دليل على المفعول الثاني المحذوف أيضا، ويقدر مؤخرا عن الشرط؛ ليكون الشرط وجوابه كلاما معترضا بين المفعولين المقدرين كما يلي: قال: يا قوم أخبروني هل يسعني مع هذه النعم العظيمة
…
إلخ، إن كنت على بينة من ربي
…
فهل يسعني
…
إلخ، وقدره الجلال ووافقه الجمل كما يلي: أفأشوبه بالحرام من البخس والتطفيف. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم.
الشرح: {وَيا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ} : لا يكسبنكم شقاقي إصابة العذاب لكم كما أصاب من كان قبلكم، قاله الزجاج، وقال الحسن وقتادة: لا يحملنكم معاداتي على ترك الإيمان، فيصيبكم ما أصاب الكفار، ويقرأ الفعل بضم الياء، وهو يؤيد التفسير الأول. {ما أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ}: يعني الغرق. {أَوْ قَوْمَ هُودٍ} أي: الريح التي أهلكتهم. {أَوْ قَوْمَ صالِحٍ} : يعني ما أصابهم من الصيحة حتى هلكوا جميعا. {وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ} : وذلك أنهم كانوا حديثي عهد بهلاكهم، وقيل: معناه: وما ديار قوم لوط منكم ببعيد، وذلك أنهم كانوا جيران قوم لوط، وبلادهم قريبة من بلادهم. انتهى. خازن. أو ليسوا ببعيد منكم في الكفر، والمساوئ.
أقول: انظر ما أصاب هذه الأقوام من أنواع العذاب في هذه السورة، وفي سورة (الأعراف) أيضا مع التعريف بكل رسول، وانظر شرح {قَوْمِ} في الآية [28]، وإعلال (يصيب) في الآية [51] التوبة، شرح مثل في الآية [24]، ويقرأ بفتح اللام على البناء، وانظر ما ذكرته في {بِبَعِيدٍ} في الآية رقم [82]. وللشقاق ثلاثة معان: أحدها: العداوة كما في هذه الآية، والثاني: الضلال،
كما في قوله تعالى: {وَإِنَّ الظّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ} والثالث: الخلاف، كما في قوله تعالى:
{وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما..} . إلخ؛ لأن كل واحد من المتشاقين يكون في شق غير شق صاحبه، أي: في ناحية، وجهة.
الإعراب: {وَيا قَوْمِ} : انظر الآية السابقة. {لا} : ناهية. {يَجْرِمَنَّكُمْ} : مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة التي هي حرف لا محل له، وهو في محل جزم ب {لا} الناهية، والكاف مفعول به أول. {شِقاقِي}: فاعل مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم
…
إلخ، وياء المتكلم في محل جر بالإضافة، من إضافة المصدر لفاعله، والمصدر المؤول من {أَنْ يُصِيبَكُمْ} في محل نصب مفعول به ثان أو هو في محل نصب بنزع الخافض.
{مِثْلُ} : فاعل (يصيب) مرفوع، أو هو مبني على الفتح في محل رفع فاعل، و {مِثْلُ}: مضاف، و {ما} مبنية على السكون في محل جر بالإضافة، وهي تحتمل الموصولة، والموصوفة.
{أَصابَ} : ماض، وفاعله يعود إلى {ما}. {قَوْمِ}: مفعول به، و {قَوْمِ}: مضاف، و {نُوحٍ}:
مضاف إليه، وجملة:{أَصابَ..} . إلخ صلة: {ما،} أو صفتها، والعائد أو الرابط: رجوع الفاعل إليها. {قَوْمَ هُودٍ} : معطوف على ما قبله، وكذا {قَوْمَ صالِحٍ} معطوف أيضا. {وَما}:
الواو: واو الحال. (ما): نافية حجازية. {قَوْمِ} : اسمها، وهو مضاف، و {لُوطٍ}: مضاف إليه. {يَجْرِمَنَّكُمْ} : متعلقان بما بعدهما. {بِبَعِيدٍ} : الباء: حرف جر صلة. (بعيد): خبر (ما) منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على آخره، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد، هذا؛ وإن اعتبرت (ما) تميمية مهملة ف {قَوْمِ} مبتدأ، والباء زيدت في خبره، والجملة الاسمية في محل نصب حال من ضمير الخطاب، والرابط: الواو، والضمير، بعد هذا فالآية بكاملها معطوفة على ما قبلها، وهي في محل نصب مقول القول مثلها.
{وَاِسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (90)}
الشرح: {وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ} أي: من عبادة الأصنام. {ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ} أي: من البخس، والنقصان في الكيل والميزان، وانظر الآية رقم [3] تجد ما يسرك. {رَحِيمٌ}: عظيم الرحمة لعباده إذا استغفروا، وتابوا. {وَدُودٌ}: فاعل بهم من اللطف، والإحسان ما يفعل البليغ من المودة بمن يوده، وهو وعد على التوبة بعد الوعيد على الإصرار. انتهى. بيضاوي.
وقال ابن عباس-رضي الله عنهما: الودود المحب لعباده المؤمنين؛ أي: فهو من قولهم:
وددت الرجل أوده: إذا أحببته، الود: المودة والمحبة، وهو بتثليث الواو.
الإعراب: {وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ} : انظر الآية [3] ففيها الكفاية. {إِنَّ} : حرف مشبه بالفعل. {رَبِّي} : اسمها منصوب. وعلامة نصبه فتحة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم
إلخ، والياء في محل جر بالإضافة. {رَحِيمٌ وَدُودٌ}: خبر بعد خبر، والجملة الاسمية تعليل للأمر لا محل لها، والآية معطوفة بكاملها على ما قبلها، فهي من مقول شعيب على نبينا، وعليه الصلاة، والسّلام.
الشرح: {قالُوا يا شُعَيْبُ ما نَفْقَهُ كَثِيراً مِمّا تَقُولُ} : يعني ما نفهم كثيرا من قولك كوجوب التوحيد، وحرمة التطفيف والتبخيس في الكيل والميزان، وذلك لقصور عقولهم، وعدم تفكرهم، وقيل: ما قالوا ذلك استهانة بكلامه واحتقارا له، وقيل: ما نفهم لأنك تحملنا على أمور غائبة من البعث والحساب
…
إلخ. {وَإِنّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً} : قال ابن عباس، وقتادة-رضي الله عنهما: كان أعمى، قال الزجاج: ويقال: إنّ حمير كانوا يسمون المكفوف: ضعيفا.
وقال أبو الحسن، وأبو روق، ومقاتل: يعني ذليلا، قال أبو روق: إن الله سبحانه وتعالى لم يبعث نبيّا أعمى، ولا نبيّا به زمانة، وقال السدي: وحيدا، ليس لك جند وأعوان تقدر بها على مخالفتنا. أقول: ويؤيده قولهم: {وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ} أي: بالحجارة حتى تموت، وقيل:
لشتمناك، والأول أقوى، وكان رهطه من أهل ملتهم؛ أي: على دينهم. {وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ} :
يعني: بكريم، وقيل: بغالب ولا قاهر ولا ممتنع منا، وهذا يفيد: أنه لم يكن له عندهم حرمة ولا مهابة في صدورهم، وأنهم لم يقتلوه، ولم يسمعوه الكلام الغليظ الفاحش؛ لأجل احترامهم أهله وعشيرته، لا لقوتهم، بل لموافقتهم لهم في الدين، بعد هذا فالفقه: الفهم، وفقه يفقه من باب علم، يعلم: صار فقيها، والفقه العلم بالشيء، ثم صار علما على العلم في الدين لشرفه على غيره من العلوم يقال: فقه الرجل، يفقه، فهو فقيه: إذا فهم، والفعل من باب فهم الذي هو بمعناه، وفقه من باب ظرف، وكرم: صار فقيها. والرهط: اسم جمع لا واحد له من لفظه مثل معشر ونفر، والرهط: العشيرة، وهو يطلق على العدد من الثلاثة إلى العشرة، وجمعه: أراهط، وأرهط، ولا يطلق الرهط إلا على الرجال.
الإعراب: {قالُوا} : فعل وفاعل، والألف للتفريق. {يا شُعَيْبُ}: منادى مفرد علم مبني على الضم في محل نصب ب (يا) النائبة مناب «أدعو» . {ما} : نافية. {نَفْقَهُ} : مضارع، والفاعل مستتر تقديره:«نحن» . {كَثِيراً} : مفعول به. {مِمّا} : متعلقان بالفعل قبلهما، و (ما) تحتمل الموصولة، والموصوفة، والمصدرية، فعلى الأولين مبنية على السكون في محل جر ب «من» ، والجملة بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد أو الرابط: محذوف؛ إذ التقدير: من الذي، أو من شيء تقوله، وعلى الثالث تؤول (ما) مع الفعل بمصدر في محل جر ب «من» ، التقدير: من
قولك. {وَإِنّا} : الواو: واو الحال. (إنا): حرف مشبه بالفعل. و (نا): اسمها. {لَنَراكَ} :
اللام: هي المزحلقة. (نراك): مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف، والفاعل مستتر تقديره:«نحن» ، والكاف مفعول به. {فِينا}: متعلقان بما بعدهما، وهو أقوى من تعليقهما بالفعل قبلهما. {ضَعِيفاً}: حال من الكاف، وجملة:{لَنَراكَ..} . إلخ في محل رفع خبر (إن)، والجملة الاسمية (إنا
…
) إلخ في محل نصب حال من فاعل {نَفْقَهُ} المستتر، والرابط: الواو، والضمير. {وَلَوْلا}: الواو: حرف استئناف. (لولا): حرف امتناع لوجود متضمن معنى الشرط. {رَهْطُكَ} : مبتدأ، والكاف في محل جر بالإضافة، والخبر محذوف، تقديره: موجود، والجملة الاسمية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية. {لَرَجَمْناكَ}: فعل وفاعل ومفعول به، واللام واقعة في جواب (لولا)، والجملة الفعلية جواب (لولا) لا محل لها. {وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ}: انظر إعراب مثل هذه الجملة في الآية [88]{وَما قَوْمُ لُوطٍ..} . إلخ والجملة الاسمية في محل نصب حال من كاف الخطاب، والرابط: الواو، والضمير، هذا؛ والآية بكاملها في محل نصب مقول القول، والجملة الفعلية:{قالُوا..} . إلخ مستأنفة لا محل لها.
الشرح: {قالَ يا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللهِ} : يعني أكرم عندكم، وأهيب في صدوركم من الله حتى تركتم قتلي، أو شتمي ومنقصتي لمكان عشيرتي عندكم، فالأولى أن تجلوني وتكرموني لأجل الله، لا لرهطي؛ لأنه تعالى أعز، وأعظم. {وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا} أي: جعلتم أمر الله وراء ظهوركم كالشيء المنبوذ المنسي الذي لا يؤبه له. {إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} أي: عالم بأحوالكم جميعا لا يخفى عليه منها شيء، فيجازيكم بها يوم القيامة.
هذا؛ و (الظهري) بكسر الظاء منسوب إلى الظهر بفتحها، وهو من تغييرات النسب، كما قالوا في أمس: إمسي بكسر الهمزة، وفي الدهر دهري بضم الدال، وقيل: الضمير المنصوب يعود على العصيان: أي: اتخذتم العصيان عونا على عداوتي، فالظّهري على هذا بمعنى:
المعين المقوي. انتهى. جمل.
الإعراب: {قالَ} : ماض، والفاعل يعود إلى شعيب عليه السلام. {يا قَوْمِ}: انظر الآية رقم [87]. {أَرَهْطِي} : الهمزة: حرف استفهام إنكاري توبيخي. (رهطي): مبتدأ مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم
…
إلخ، والياء في محل جر بالإضافة. {أَعَزُّ}:
خبر المبتدأ، وفاعله مستتر فيه وجوبا تقديره:«هو» . {عَلَيْكُمْ مِنَ اللهِ} : كلاهما متعلقان ب {أَعَزُّ} . {وَاتَّخَذْتُمُوهُ} : الواو: حرف عطف. (اتخذتموه): ماض مبني على السكون، والتاء
فاعله، والميم علامة جمع الذكور، وحركت بالضم، فتولدت واو الإشباع، والهاء مفعول به أول. {وَراءَكُمْ}: ظرف متعلق بالفعل قبله، أو هو متعلق بما بعده، والكاف في محل جر بالإضافة. {ظِهْرِيًّا}: مفعول به ثان، هذا؛ وجوز اعتبار الظرف المفعول الثاني، و {ظِهْرِيًّا} حال من الضمير المنصوب، كما جوز اعتبار الفعل متعديا لمفعول واحد، و {ظِهْرِيًّا} حالا، والظرف متعلق به أو بالفعل. {إِنَّ}: حرف مشبه بالفعل، {رَبِّي}: اسم {إِنَّ} منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم
…
إلخ، والياء في محل جر بالإضافة من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {بِما}: متعلقان ب {مُحِيطٌ} بعدهما، و (ما) تحتمل الموصولة، والموصوفة، والمصدرية، فعلى الأولين مبنية على السكون في محل جر بالباء والجملة الفعلية بعدها صلتها أو صفتها، والعائد أو الرابط محذوف؛ إذ التقدير: بالذي أو بشيء تعملونه وعلى اعتبار (ما) مصدرية تؤول مع الفعل بعدها بمصدر في محل جر بالباء، التقدير:
بعملكم. {مُحِيطٌ} : خبر {إِنَّ،} بعد هذا ينبغي أن تعلم: أنّ الآية الكريمة كلها في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالَ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها.
{وَيا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ..} .
الشرح: {وَيا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ} أي: على غاية تمكنكم، واستطاعتكم، يقال: مكن مكانة: إذا تمكن أبلغ التمكن، أو المعنى: على ناحيتكم وجهتكم وحالتكم التي أنتم عليها، من قولهم: مكان ومكانة كمقام ومقامة، ويقرأ «مكاناتكم» بالجمع في كل القرآن، وهو أمر تهديد ووعيد، أي: اثبتوا على كفركم وعداوتكم، فهو كقوله تعالى:{اِعْمَلُوا ما شِئْتُمْ} . {إِنِّي عامِلٌ} أي: ثابت على ما كنت عليه من المصابرة، والتوحيد والإيمان. {سَوْفَ تَعْلَمُونَ}: فهو تهديد ووعيد بصيغة المضارع الذي هو للمستقبل بعد التهديد والوعيد بصيغة الأمر.
تنبيه: ذكرت الآية الكريمة بحروفها في سورة (الأنعام) برقم [135] وقد اقترنت هناك {سَوْفَ} بالفاء، ولم تقرن ولم تسبق بها هنا، والسبب في ذلك: أن الفاء هناك للتصريح بأن الإصرار والتمكن فيما هم عليه سبب لذلك، وحذفها هاهنا لأنه جواب سائل، قال: فماذا يكون بعد ذلك فهو أبلغ في التهويل. انتهى. بيضاوي.
وقال النسفي: وإدخال الفاء في {سَوْفَ} وصل ظاهر بحرف وضع للوصل، ونزعها وصل تقديري بالاستئناف الذي هو جواب لسؤال مقدر، كأنهم قالوا: فماذا يكون إذا عملنا على مكانتنا، وعملت أنت؟ فقال:{سَوْفَ تَعْلَمُونَ،} والإتيان بالوجهين للتفنن في البلاغة، وأبلغهما الاستئناف. انتهى. وهذا الاستئناف يسمى في علم البيان بالاستئناف البياني.
الإعراب: {وَيا قَوْمِ} : انظر إعراب هذه الجملة في الآية [87]. {اِعْمَلُوا} : أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق. {عَلى مَكانَتِكُمْ}: متعلقان بمحذوف حال من واو
الجماعة، التقدير: اعملوا حال كونكم موصوفين بغاية المكنة، والقدرة، والجملة الاسمية:{إِنِّي عامِلٌ} تعليل للأمر لا محل لها. {سَوْفَ} : حرف تسويف واستقبال. {تَعْلَمُونَ} : مضارع وفاعله، ومفعوله في الآية التالية، والجملة الفعلية مستأنفة لا محل لها، ولعلك تدرك معي أن الآية بكاملها معطوفة على ما قبلها، فهي في محل نصب مقول القول مثلها.
{
…
مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ} الشرح: {مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ} : يذله ويهينه والمراد به عذاب الدنيا، ولعذاب الآخرة أخزى، وانظر {تُخْزُونِ} في الآية [78]. {وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ} أي: سوف تعلمون من الكاذب مني أو منكم. {وَارْتَقِبُوا} أي: انتظروا العاقبة، وما يؤول إليه أمري، وأمركم. {إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ} أي: منتظر. أو المعنى: انتظروا العذاب والسخطة، فإني منتظر النصر والرحمة، والرقيب: بمعنى المراقب.
الإعراب: {مَنْ} : اسم موصول مبني على السكون في محل نصب مفعول به للفعل:
{تَعْلَمُونَ،} وتحتمل أن تكون استفهامية مبتدأ، التقدير: أينا يأتيه العذاب، وجملة:{يَأْتِيهِ عَذابٌ} صلة {مَنْ} على اعتبارها موصولة، وفي محل رفع خبرها على اعتبارها استفهامية مبتدأ، وعليه يكون الفعل {تَعْلَمُونَ} معلقا عن العمل، والجملة الاسمية في محل نصب سدت مسد مفعوله، وانظر الآية رقم [39]. {يُخْزِيهِ}: مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء، والفاعل يعود إلى {عَذابٌ،} والهاء مفعول به، والجملة الفعلية في محل رفع صفة:
{عَذابٌ} . (من): اسم موصول معطوف على سابقه، والجملة الاسمية:{هُوَ كاذِبٌ} صلته، وعلى اعتبار (من) اسم استفهام مبتدأ فالضمير يكون فصلا لا محل له، و {كاذِبٌ} خبره، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها، فهي في محل نصب مثلها. (ارتقبوا): فعل أمر وفاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية معطوفة على جملة:{اِعْمَلُوا} . {إِنِّي} : حرف مشبه بالفعل، والياء اسمها. {مَعَكُمْ}: ظرف مكان متعلق ب {رَقِيبٌ} بعده، والكاف في محل جر بالإضافة. {رَقِيبٌ}: خبر (إن)، والجملة الاسمية تعليل للأمر لا محل لها، وهي بدورها من مقول شعيب عليه السلام. تأمل، وتدبر.
الشرح: {وَلَمّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنّا} : انظر شرح هذا الكلام في الآية رقم [58] فهو مثله بلا فارق، مع لفت النظر إلى ما يلي:
قال البيضاوي رحمه الله تعالى: إنما ذكره بالواو كما في قصة عاد؛ إذ لم يسبقه ذكر وعد، يجري مجرى السبب له، بخلاف قصتي صالح، ولوط، فإنه بعد ذكر الوعد، وذلك في قوله:
{وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ} وقوله: {إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ} فلذلك جاء بفاء السببية. {وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ..} . إلخ: هذا الكلام مثل الآية رقم [67] مع ملاحظة تأنيث الفعل هنا على لفظ {الصَّيْحَةُ،} وتذكيره هناك على تأويل: {الصَّيْحَةُ} بالصياح، أو قل: يجوز تأنيث الفعل، وتذكيره لسببين: الأول الفصل بين الفعل والفاعل بالمفعول الثاني، كون {الصَّيْحَةُ..} . مؤنثا مجازيا، وما كان من هذا يجوز تأنيث الفعل وتذكيره معه.
قال ابن عباس-رضي الله عنهما: ما أهلك الله أمتين بعذاب واحد إلا قوم صالح وقوم شعيب، أهلكم الله بالصيحة؛ غير أن قوم صالح أخذتهم الصيحة من تحتهم، وقوم شعيب أخذتهم الصيحة من فوقهم، هذا؛ وقد ذكر الله في الآية رقم [73] من سورة (الحجر) أنه أخذ قوم لوط بالصيحة أيضا، انظر الكلام هناك.
الإعراب: أرجو أن تنظر إعراب (لما) ومدخولها في الآية رقم [58] وإعراب ما يشبه هذا الكلام أيضا في الآية رقم [7] وفي الآية [82]، أما إعراب:{وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا..} . إلخ فانظره في الآية رقم [67] ففيه الكفاية، وذلك بغية الاختصار.
{كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ (95)}
الشرح: {كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها} : انظر الآية رقم [68]، وانظر {بُعْداً} في الآية رقم [44].
الإعراب: {كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها} : انظر إعراب هذه الجملة ومحلها في الآية [68]. {أَلا} :
حرف تنبيه واستفتاح يسترعي انتباه المخاطب لما يأتي بعده من كلام. {بُعْداً} : مفعول مطلق لفعل محذوف. {لِمَدْيَنَ} : متعلقان ب {بُعْداً،} أو بمحذوف صلة له، وعلامة الجر الفتحة نيابة عن الكسرة؛ لأنه ممنوع من الصرف للعلمية والعجمة. {كَما}: متعلقان بمحذوف صفة:
{بُعْداً} . و (ما): تحتمل الموصولة والمصدرية، فعلى الأول الجملة الفعلية بعدها صلتها، والعائد: محذوف، التقدير: بعدا كائنا كالذي بعدته ثمود، وعلى الثاني تؤول (ما) مع الفعل بعدها بمصدر في محل جر بالكاف، التقدير: بعدا كائنا كإبعاد ثمود عن رحمة الله تعالى.
تنبيه: وبعد أن أهلك الله أهل مدين بالصيحة المعبر عنها في آية أخرى بالرجفة، وهي الزلزلة، ونجّى شعيبا والذين آمنوا معه أرسله إلى أصحاب الأيكة، وهي غيضة تنبت ناعم الشجر، كانت بقرب مدين، تسكنها طائفة من عباد الله، قيل: كانوا بادية مدين، وكان شعيب عليه السلام أجنبيا منهم، وكانوا على مثل طريقة أهل مدين، من كفر وبخس للكيل، والميزان، فلما نهاهم عما هم فيه، قالوا:{إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (185) وَما أَنْتَ إِلاّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ}
{الْكاذِبِينَ} ظنا منهم أن الله تعالى، لا يرسل إلى البشر هداة منهم، جهلا منهم بأن الله أعلم حيث يجعل رسالته.
وكان من شدة حماقتهم أن يطلبوا من شعيب أن يسقط عليهم كسفا من السماء-أي: قطعة منها-إن كان من الصادقين، ولشدة جهلهم لم يطلبوا الهداية إلى الحق، ولم يتعظوا بما حصل لأهل مدين من الهلاك، فأخذهم عذاب يوم الظلة، بأن سلط الله عليهم الحر سبعة أيام حتى غلت مياههم، ثم ساق إليهم غمامة فاجتمعوا للاستظلال بها من وهج الشمس، فأمطرت عليهم نارا فاحترقوا. انتهى. قصص الأنبياء للنجار بتصرف.
أقول: قد أشار الله إلى هؤلاء القوم في سورة (الحجر) بآيتين فقط، وفصّلها في سورة (الشعراء) تفصيلا وافيا من آية رقم [176] إلى آية رقم [191].
الشرح: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا} : هذه قصة سابعة ذكرت في هذه السورة الكريمة بعد ذكر قصة نوح، وهود، وصالح، وإبراهيم، ولوط، وشعيب، وقد ذكرت هذه القصص في سورة (الأعراف) على هذا الترتيب، من غير تعرض لقصة إبراهيم عليه السلام هناك، وقصة موسى مع فرعون ذكرت هنا بإيجاز هو شبيه بالإشارة إليها، بينما ذكرت في سورة (الأعراف) بالتفصيل الوافي الكافي، والمراد بالآيات المعجزات التي ذكرها ربنا جل علاه في سورة (الأعراف) منها ثمانية في (الأعراف)، والتاسعة في سورة (يونس)، وهي الطمس على الأموال والشدة على القلوب، الآية رقم [88]. {وَسُلْطانٍ مُبِينٍ}: هو المعجزات الباهرة منها، أو هي العصا خاصة، والإفراد بالذكر لإظهار شرفها؛ لكونها أكبرها، وأعظمها، أو المراد بالآيات ما عداها، أو هما عبارة عن شيء، أي: أرسلناه بالبرهان الجامع بين كونه آياتنا، وبين كونه سلطانا له على نبوته، واضحا في نفسه، أو موضحا إياها. {إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ} أي: اتبعوا طريقة فرعون المعوجة، وأعرضوا عن طريقة موسى الرشيدة الداعية إلى الخير والهدى، والإحسان، والإيمان. {وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ} أي: بسديد يؤدي إلى صواب، أو بمرشد إلى خير، بل هو غي محض وضلال خالص؛ لأنه منهمك في الكفر والطغيان الداعي إلى ما لا يخفى فساده.
بعد هذا {مُوسى} : أصله: موشى بالشين مركب من اسمين: الماء والشجر، فالماء يقال له في العبرانية:(مو)، والشجر يقال له:(شا) فعربته العرب، وقالوا: موسى بالسين، وسبب تسميته بذلك: أن امرأة فرعون التقطته من نهر النيل بين الماء والشجر، لما رمته أمه فيه، كما هو مذكور في سورة (طه) والقصص هذا؛ و {مُوسى} هو ابن عمران، بن قاهت، بن لاوي، بن يعقوب، بن إسحاق، بن إبراهيم، على نبينا، وعليهم ألف ألف صلاة، وألف ألف سلام.
{وَسُلْطانٍ} : حجة، قال بعض المفسرين المحققين: سميت الحجة سلطانا؛ لأن صاحب الحجة يقهر من لا حجة معه، كالسلطان يقهر غيره، وقال الزجاج: السلطان هو الحجة، وسمي السلطان سلطانا؛ لأنه حجة الله في الأرض. انتهى. خازن. هذا؛ وجمع السلطان بمعنى الحاكم والمالك: سلاطين؛ ولا يجمع إذا كان بمعنى الحجة.
{فِرْعَوْنَ} : قال الجمل: قال المسعودي: ولا يعرف لفرعون تفسير في العربية، وظاهر كلام الجوهري أنه مشتق من معنى العتو، فإنه قال: والفراعنة العتاة، وقد تفرعن، وهو ذو فرعنة، أي: دهاء ومكر، وفرعون لقب لمن ملك العمالقة في مصر، كقيصر، وكسرى لملكي الروم والفرس، وكان فرعون موسى عليه السلام مصعب بن الريان، وقيل: ابنه الوليد من بقايا عاد، وفرعون يوسف عليه السلام، ريان بن الوليد، وبينهما أكثر من أربعمائة سنة. {وَمَلائِهِ}: انظر الآية رقم [27] وانظر إعلال {مُبِينٍ} ومعناه في الآية رقم [6]، وانظر (نا) في الآية [8].
الإعراب: {وَلَقَدْ} : الواو: حرف قسم وجر، والمقسم به محذوف، تقديره: والله، والجار والمجرور متعلقان بفعل محذوف، تقديره: أقسم. اللام: واقعة في جواب القسم. (قد): حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال. {أَرْسَلْنا} : فعل وفاعل، وانظر إعراب مثله في الآية [25] {مُوسى}: مفعول به منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على الألف للتعذر. {بِآياتِنا}: متعلقان بمحذوف حال من {مُوسى} أي: حال كونه ملتبسا بآياتنا، و (نا) في محل جر بالإضافة.
(سلطان): معطوف على ما قبله. {مُبِينٍ} : صفته. {إِلى فِرْعَوْنَ} : متعلقان بالفعل {أَرْسَلْنا،} وهما في محل نصب مفعوله الثاني، وعلامة الجر الفتحة نيابة عن الكسرة؛ لأنه ممنوع من الصرف للعلمية والعجمة. (ملئه): معطوف على فرعون، والهاء في محل جر بالإضافة، وجملة:
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنا..} . إلخ جواب القسم لا محل لها، والقسم وجوابه كلام مستأنف لا محل له.
(اتبعوا): ماض وفاعله، والألف للتفريق. {أَمْرَ}: مفعول به، وهو مضاف، و {فِرْعَوْنَ}:
مضاف إليه مجرور
…
إلخ من إضافة المصدر لفاعله. والجملة الفعلية معطوفة على مقدر، أي:
فكفر بها فرعون وأمرهم بالكفر {فَاتَّبَعُوا..} . إلخ والكلام كله معطوف على جواب القسم لا محل له مثله {وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ} إعراب هذه الجملة مثل إعراب: {وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ} في الآية [88]، والجملة الاسمية في محل نصب حال من:{فِرْعَوْنَ،} والرابط: الواو، وإعادة اللفظ بعينه، للتحقير، والتقبيح، والاستئناف ممكن.
{يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (98)}
الشرح: {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ} : يتقدم قومه إلى النار؛ إذ هو رئيسهم، كما كان يتقدمهم في الدنيا إلى الضلال، يقال: قدمهم، يقدمهم، قدما، وقدوما، إذا تقدمهم. {فَأَوْرَدَهُمُ}
النّارَ: أدخلهم فيها، ذكره بلفظ الماضي لتحقيق وقوعه، وقيل: بل هو ماض على حقيقته، وهذا قد وقع وانفصل، وذلك: أنه أوردهم في الدنيا النار، قال تعالى:{النّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ،} ونزل النار منزلة الماء، فسمى إتيانها موردا على سبيل الاستعارة التصريحية، وقيل: استعارة مكنية تهكمية للضد، وهو الماء، وإثبات الورد لها تخييل، ومثل الآية الكريمة قول الشاعر:[الطويل]
تعزّ فلا إلفين بالعيش متّعا
…
ولكن لورّاد المنون تتابع
{وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ} أي: المورد الذي وردوه، فإن المورد يراد لتبريد الأكباد وتسكين العطش، والنار بالضد، هذا؛ والمورد: المنهل من الماء، والمورود الماء الذي يورد والموضع الذي يورد، وهو بمعنى المفعول، والأول بمعنى المصدر، فاستعير للنار كما في الذي قبله، ومن يرد على الماء يقال له: وارد، وجمعه واردون ووراد، قال الشاعر:[البسيط]
ردوا فو الله لازدناكمو أبدا
…
ما دام في مائنا ورد لورّاد
{الْقِيامَةِ} : أصلها: القوامة؛ لأنها من قام يقوم، قلبت الواو ياء لمناسبة الكسرة، سميت القيامة بذلك لقيام الناس في ذلك اليوم من قبورهم، وانظر شرح {وَبِئْسَ} في الآية رقم [41] من سورة (الأنفال)؛ فإنه جيد، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.
الإعراب: {يَقْدُمُ} : مضارع، وفاعله يعود إلى فرعون. {قَوْمَهُ}: مفعول به، والهاء في محل جر بالإضافة. {يَوْمَ}: ظرف زمان متعلق بالفعل قبله، و {يَوْمَ}: مضاف، و {الْقِيامَةِ}:
مضاف إليه، وجملة:{يَقْدُمُ..} . إلخ تعليل للنفي المذكور في الآية السابقة. (أوردهم): ماض ومفعوله، وفاعله يعود إلى فرعون، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها. {النّارَ}: تنازعه كل من الفعلين السابقين، فأعمل الثاني على مذهب البصريين، ولو أعمل الأول على مذهب الكوفيين، لكان الكلام كما يلي: (يقدم قومه إلى النار
…
فأوردهم إياها) فأعمل الثاني، وحذف من الأول اكتفاء به، وصح عطف الجملة الثانية؛ لأنها بمعنى المستقبل كما رأيت.
(بئس): ماض جامد لإنشاء الذم. {الْوِرْدُ} : فاعل: (بئس). {الْمَوْرُودُ} : صفته، وحذف المخصوص بالذم؛ إذ تقدير الكلام: بئس الورد المورود المذمومة النار.
{وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (99)}
الشرح: {وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ} أي: الدنيا. {لَعْنَةً} : بعدا وطردا من رحمة الله، وانظر الآية رقم [44] من سورة (الأعراف). {وَيَوْمَ الْقِيامَةِ} أي: ولعنة في يوم القيامة، فحذف لدلالة الأول عليه. {الرِّفْدُ}: بكسر الراء العطاء والجود، وهو بفتح الراء: القدح الضخم الذي يقدم فيه الشراب، قال الأعشى:[الخفيف]
ربّ رفد هرقته ذلك اليو
…
م وأسرى من معشر أقتال
والمراد ب {الرِّفْدُ} في الآية الكريمة العون و {الْمَرْفُودُ} المعان، والمراد بالأول: اللعنة الأولى، وبالثاني: اللعنة الثانية، وهذا استعارة كما في الآية السابقة، وهو تهكم به واستهزاء، وإلا فاللعنة إذلال لهم، وإنزال بهم إلى الحضيض الأسفل من النار، وأردفت الأولى بالثانية ليكونا هاديين لهم إلى طريق الجحيم، بل إلى سواء الجحيم.
الإعراب: {وَأُتْبِعُوا} : الواو: حرف استئناف. (أتبعوا): ماض مبني للمجهول، والواو نائب فاعله، وهو المفعول الأول، والألف للتفريق. {فِي هذِهِ}: متعلقان بالفعل قبلهما، والهاء حرف تنبيه لا محل له. {لَعْنَةً}: مفعول به ثان. (يوم): ظرف زمان معطوف على محل: {فِي هذِهِ} فهو متعلق ضمنا بالفعل: (أتبعوا)، و (يوم) مضاف، و {الْقِيامَةِ}: مضاف إليه، وجملة:
{وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها، ومثلها جملة:{بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ} وإعرابها مثل إعراب ما قبلها بلا فارق.
{ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ (100)}
الشرح: {ذلِكَ} : الإشارة إلى ما تقدم ذكره من أخبار الأمم المذكورة في هذه السورة.
{مِنْ أَنْباءِ الْقُرى} : من أخبار القرى التي أهلكها الله تعالى، هذا؛ والقرى: جمع قرية، وهي في الأصل اسم للمكان الذي يجتمع فيه القوم، وهو يطلق على المدينة الكبيرة وغيرها، كيف لا؟ وقد جعل الله مكة المكرمة أم القرى، قال:{وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها} . {نَقُصُّهُ عَلَيْكَ} :
نخبرك به؛ لتخبر قومك أخبار الأمم السابقة، لعلهم يعتبرون به، فيهتدون إلى الإيمان، هذا؛ والقصص: تتبع الأثر، يقال: قص فلان أثر فلان، أي: تتبعه؛ ليعرف أين ذهب، ومنه قوله تعالى حكاية عن قول أم موسى:{وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ} أي: اتبعي أثره، وإنما سميت الحكاية قصة؛ لأن الذي يقص الحديث، يذكر تلك القصة شيئا فشيئا. {مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ}: قال قتادة: القائم ما كان خاويا على عروشه، والحصيد ما لا أثر له، وقال ابن عباس-رضي الله عنهما: القائم العامر، والحصيد الخراب، أي: محصود كالزرع، قال الشاعر في المعنى، والإعراب مثل الآية الكريمة:[الكامل]
والنّاس في قسم المنيّة بينهم
…
كالزّرع منه قائم وحصيد
وفي: {قائِمٌ وَحَصِيدٌ} استعارة تبعية؛ لأن المستعار اسم مشتق، اسم فاعل واسم مفعول.
وجمع حصيد: حصدى، وحصاد، مثل مرضى، ومراض، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه، وانظر ما ذكرته في الآية [49].
الإعراب: {ذلِكَ} : اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع مبتدأ، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب لا محل له. {مِنْ أَنْباءِ}: متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ و {أَنْباءِ} :
مضاف، و {الْقُرى}: مضاف إليه مجرور
…
إلخ. {نَقُصُّهُ} : مضارع، وفاعله مستتر فيه وجوبا تقديره:«نحن» ، والهاء مفعول به. {عَلَيْكَ}: متعلقان بالفعل قبلهما، والجملة الفعلية في محل رفع خبر ثان للمبتدإ، أو هي في محل نصب حال من {أَنْباءِ الْقُرى،} والعامل في الحال اسم الإشارة، وهناك أقوال أخر ذكرتها في الآية رقم [49] والجملة الاسمية:{ذلِكَ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها. {مِنْها} : جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {قائِمٌ} : مبتدأ مؤخر، وفاعله مستتر فيه، والجملة الاسمية مستأنفة لا محل لها. (حصيد): معطوف على ما قبله عطف مفرد على مفرد، أو هو مبتدأ خبره محذوف لدلالة ما قبله عليه، فيكون العطف عطف جملة اسمية على مثلها، ونائب فاعل (حصيد) مستتر فيه، هذا هو الإعراب الظاهر، ولا أعتمده، وإنما أعتمد ما ذكرته في الآية رقم [105] الآتية.
الشرح: {وَما ظَلَمْناهُمْ} أي: بالهلاك والتدمير، والضمير المنصوب يعود إلى أهل القرى.
{وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} : بأن عرضوها للهلاك بارتكاب ما يوجبه من الكفر، والمعاصي. {فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ}: فما نفعتهم، ولا قدرت أن تدفع عنهم العذاب، {آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ..}. إلخ:
أي: أصنامهم التي كانوا يقدسونها، ويعظمونها من دون الله. {لَمّا جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ} أي: جاء أمره سبحانه وتعالى بإهلاكهم للملائكة الذين تولوا ذلك. {وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ} أي: ما زادتهم أصنامهم غير الهلاك، والخسار، فالتباب، والتتبيب: مصدران، والفعل:(تب)، ومنه قوله تعالى:{تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} أي: خسرت يداه وهلكت، قال لبيد بن ربيعة الصحابي رضي الله عنه:[الكامل]
فلقد بليت، وكلّ صاحب جدّة
…
لبلى يعود، وذاكم التّتبيب
الإعراب: {وَما} : الواو: حرف استئناف. (ما): نافية. {ظَلَمْناهُمْ} : فعل وفاعل ومفعول به، والميم علامة جمع الذكور، والجملة الفعلية في محل نصب حال من أهل القرى، والرابط:
الواو، والضمير، والاستئناف ممكن. {وَلكِنْ}: الواو: حرف عطف. (لكن): حرف استدراك مهمل لا عمل له. {ظَلَمُوا} : ماض وفاعله، والألف للتفريق. {أَنْفُسَهُمْ}: مفعول به، والهاء في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها على الوجهين المعتبرين فيها.
{فَما} : الفاء: حرف عطف. (ما): نافية. {أَغْنَتْ} : ماض مبني على فتح مقدر على الألف
المحذوفة لالتقائها ساكنة مع تاء التأنيث الساكنة التي هي حرف لا محل له. {عَنْهُمْ} : متعلقان بالفعل قبلهما، {آلِهَتُهُمُ}: فاعل: {أَغْنَتْ،} والهاء في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها. {الَّتِي}: اسم موصول مبني على السكون في محل رفع صفة:
{آلِهَتُهُمُ} . {يَدْعُونَ} : مضارع مرفوع
…
إلخ، والواو فاعله. {مِنْ دُونِ}: متعلقان بالفعل قبلهما، و {دُونِ}: مضاف، و {اللهِ}: مضاف إليه، والجملة الفعلية:{يَدْعُونَ..} . إلخ في محل نصب خبر ل «كان» المحذوفة مع اسمها، و (كان) واسمها وخبرها صلة الموصول لا محل لها، والعائد محذوف، التقدير: التي كانوا يدعونها من دون الله. وتقدير (كان) يتطلبها المعنى، وإن كان حذفها يقع بعد (إن) و (لو) الشرطيتين غالبا، {مِنْ}: حرف صلة. {شَيْءٍ} : مفعول {أَغْنَتْ} منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على آخره، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد. {لَمّا}: ظرف زمان بمعنى (حين) مبنية على السكون في محل نصب متعلقة بالفعل: {أَغْنَتْ،} وجملة: {جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ} في محل جر بإضافة {لَمّا} إليها. {وَما} : الواو:
واو الحال. (ما): نافية. {زادُوهُمْ} : ماض وفاعله، ومفعوله الأول. {غَيْرَ}: مفعول به ثان، و {غَيْرَ}: مضاف، و {تَتْبِيبٍ}: مضاف إليه، والجملة الفعلية في محل نصب حال من:
{آلِهَتُهُمُ،} أو من الضمير العائد على الكفار، والرابط: الواو، والضمير على الاعتبارين، هذا؛ والاستئناف ممكن.
{وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102)}
الشرح: {وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ} أي: ومثل الأخذ المذكور فيما تقدم إهلاك أهل القرى فيما يستقبل من الحياة، وهذا على قراءة {إِذا} التي هي للمستقبل، هذا؛ وقرئ:{(أَخْذُ رَبِّكَ)} بالفعل الماضي، و (إذ) التي للماضي أيضا، فيكون المعنى: وكذلك أخذ ربك من أخذهم من الأمم المهلكة وقت أخذهم. {وَهِيَ ظالِمَةٌ} أي: وأهل القرى ملتبسون بالكفر، والمعاصي، ومعاندة الواحد القهار. {إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} أي: إن انتقام الله من الظالمين مؤلم موجع غير مرجو الخلاص منه، وهو مبالغة في التهديد والوعيد، والتحذير والنذير.
فعن أبي موسى الأشعري-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ الله ليملي للظّالم حتّى إذا أخذه لم يفلته» . ثم قرأ الآية الكريمة.
قال الخازن: فالآية الكريمة والحديث الشريف دليل على أن من أقدم على ظلم فإنه يجب عليه أن يتدارك ذلك بالتوبة والإنابة، ورد الحقوق إلى أهلها، إن كان الظلم للغير؛ لئلا يقع في هذا الوعيد العظيم، والعذاب الشديد، ولا يظن أن هذه الآية حكمها مختص بظالمي الأمم الماضية، بل هو عام في كل ظالم، ويعضده الحديث، والله أعلم. انتهى. وما أحراك أن تنظر
ما ذكرته في الآية رقم [180] من سورة (الأعراف)، والآية رقم [23] من سورة (يونس) على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام.
الإعراب: {وَكَذلِكَ} : جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب لا محل له. {أَخْذُ}: مبتدأ مؤخر، وهو مضاف، و {رَبِّكَ}: مضاف إليه من إضافة المصدر لفاعله، والكاف في محل جر بالإضافة، وهذا على اعتبار:{أَخْذُ} مصدرا، وأما على اعتباره فعلا، فالجار والمجرور (كذلك) متعلقان بمحذوف صفة لمفعول مطلق محذوف، التقدير: أخذ ربّك القرى أخذا كائنا مثل الأخذ المذكور، ويكون {رَبِّكَ} مرفوعا على أنه فاعله، والجملة الاسمية أو الفعلية على الاعتبارين مستأنفة لا محل لها. {إِذا}: ظرف لما يستقبل، أو لما مضى من الزمان مبني على السكون في محل نصب متعلق بالمصدر، أو بالفعل على القراءتين، {أَخْذُ}: ماض، وفاعله يعود إلى:{رَبِّكَ} . {الْقُرى} : تنازعه كلّ من (أخذ) و (أخذ)، فأعمل الثاني على مذهب البصريين، وحذف الضمير من الأول؛ لأنه فضلة على حد قول ابن مالك-رحمه الله-في ألفيته:[الرجز]
ولا تجئ مع أوّل قد أهملا
…
بمضمر لغير رفع أوهلا
ولا تنس: أن {الْقُرى} في الأصل مضاف إليه، فلما حذف المضاف حل محله، وجملة:
{أَخَذَ الْقُرى} في محل جر بإضافة {إِذا،} أو إذ إليها، والجملة الاسمية:{وَهِيَ ظالِمَةٌ} في محل نصب حال من: {الْقُرى،} والرابط: الواو، والضمير. {إِنَّ}: حرف مشبه بالفعل.
{أَخْذَهُ} : اسم {إِنَّ،} والهاء في محل جر بالإضافة، من إضافة المصدر لفاعله، ومفعوله محذوف؛ إذ التقدير: أخذه الظالمين. {أَلِيمٌ} : خبر: {إِنَّ} . {شَدِيدٌ} : خبر ثان، والجملة الاسمية:{إِنَّ أَخْذَهُ..} . إلخ مستأنفة، أو تعليلية لا محل لها على الوجهين.
الشرح: {إِنَّ فِي ذلِكَ} أي: فيما نزل بالأمم الهالكة، أو فيما قصة الله علينا من قصصهم.
{لَآيَةً} : لعبرة وعظة. {لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ} أي: يتعظ بالآية من كان يخشى الله، ويخاف عذابه في الآخرة؛ لأن ما نزل بالكافرين الأولين من أنواع العذاب إنما هو كالأنموذج مما أعد لهم في الآخرة، فيعتبر به العاقل، فيكون سببا في زيادة خوفه، وخشيته من الله، ولا يلتفت لمن أنكر الآخرة، وأحال فناء الأمم السابقة لأسباب فلكية، اتفقت في تلك الأيام، لا لذنوب المهلكين بها. {ذلِكَ}: إشارة إلى يوم القيامة وعذاب الآخرة. {يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النّاسُ} أي: إن يوم القيامة تجمع فيه الخلائق من الأولين والآخرين للحساب، والوقوف بين يدي رب العالمين. {وَذلِكَ يَوْمٌ}
مَشْهُودٌ أي: يشهده أهل السموات والأرض، والأصل: مشهود فيه أهل السموات والأرض، فاتسع فيه بإجراء الظرف مجرى المفعول به، قال في الحماسة:[البسيط]
ومشهد قد كفيت الغائبين به
…
في محفل من نواصي النّاس مشهود
إذ المراد: مشهود فيه، لا مشهود في نفسه؛ لأن سائر الأيام مشهودة كلها لجميع الناس، ومنه قولهم: لفلان مجلس مشهود، وطعام محضور، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.
الإعراب: {إِنَّ} : حرف مشبه بالفعل. {فِي ذلِكَ} : متعلقان بمحذوف خبر {إِنَّ} تقدم على اسمها. {لَآيَةً} : اللام: لام الابتداء. (آية): اسم {إِنَّ} مؤخر. {لِمَنْ} : جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة (آية)، و (من) تحتمل الموصولة، والموصوفة، فهي مبنية على السكون في محل جر باللام، وجملة:{خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ} صلة (من)، أو صفتها، والعائد أو الرابط رجوع الفاعل إليها، والجملة الاسمية:{إِنَّ..} . إلخ ابتدائية، أو مستأنفة لا محل لها. {ذلِكَ}: اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع مبتدأ، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب لا محل له.
{يَوْمٌ} : خبر المبتدأ. {مَجْمُوعٌ} : صفة: {يَوْمٌ} . {لَهُ} : متعلقان ب {مَجْمُوعٌ} . {النّاسُ} :
نائب فاعله، والجملة الاسمية:{ذلِكَ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها، وما بعدها معطوفة عليها لا محل لها مثلها، ونائب الفاعل محذوف، أي: فيه؛ إذ الجار والمجرور متعلقان بمحذوف بنائب فاعل.
الشرح: {وَما نُؤَخِّرُهُ إِلاّ لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ} أي: ما نؤخر ذلك اليوم، وهو اليوم المشهود إلا إلى وقت معلوم محدود، لا يعلمه إلا الله تعالى. {يَوْمَ يَأْتِ} أي: ذلك اليوم، أو الله، بدليل قوله تعالى:{هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ..} . إلخ. {لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ} أي:
لا تتكلم بما ينفع من جواب أو شفاعة. {إِلاّ بِإِذْنِهِ} أي: إلا بإذن الله، وهو كقوله تعالى:{لا يَتَكَلَّمُونَ إِلاّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً،} هذا؛ وقد حذفت إحدى التاءين من الفعل:
{تَكَلَّمُ} وهذا الحذف كثير في القرآن، والكلام العربي. {فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ}: وجبت له النار بمقتضى الوعيد المترتب على الكفر والمعاصي. {وَسَعِيدٌ} : وجبت له الجنة بمقتضى الوعد المترتب على الإيمان، والعمل الصالح.
بعد هذا فقد قرأ أبو عمرو والكسائي ونافع الفعل {يَأْتِ} بإثبات الياء وصلا، وحذفها وقفا، وقرأ ابن كثير بإثباتها وصلا ووقفا، وباقي السبعة قرءوا بحذفها وصلا ووقفا، وقد وردت المصاحف بإثباتها، وحذفها، ففي مصحف أبي إثباتها، وفي مصحف عثمان حذفها، وإثباتها هو
الوجه؛ لأنها لام الكلمة، وإنما حذفوها في القوافي والفواصل؛ لأنها محل الوقوف. انتهى.
جمل. هذا؛ ومثلها: (نبغ) في الآية [64] من سورة (الكهف).
تنبيه: فإن قيل: كيف يمنع التكلم في ذلك اليوم العظيم الهول مع قوله تعالى: {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها} وقوله إخبارا عن حجاج الكفار: {وَاللهِ رَبِّنا ما كُنّا مُشْرِكِينَ} فالجواب أن يوم القيامة طويل وفيه أحوال مختلفة، ففي بعض الأحوال لا يقدرون على الكلام، لشدة الأهوال، وفي بعض يؤذن لهم في الكلام، فيتكلمون، وفي بعضها تخف عنهم تلك الأهوال، فيحاجون ويجادلون وينكرون.
-عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، قال: كنا في جنازة في بقيع الغرقد، فأتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقعد وقعدنا حوله، ومعه مخصرة، فنكّس رأسه، وجعل ينكت بمخصرته، ثمّ قال:«ما منكم من أحد إلاّ وقد كتب مقعده من الجنّة، ومقعده من النار، فقالوا: يا رسول الله! أفلا نتّكل على كتابنا؟ فقال: اعملوا فكلّ ميسّر لما خلق له، أما من كان من أهل السعادة؛ فسيصير لعمل أهل السعادة، وأما من كان من أهل الشّقاوة فسيصير لعمل أهل الشقاوة» . ثمّ قرأ: {فَأَمّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى..} . إلخ.
الإعراب: {وَما} : الواو: واو الحال، أو هي حرف استئناف. (ما): نافية. {نُؤَخِّرُهُ} :
مضارع، والفاعل مستتر تقديره:«نحن» ، والهاء في محل نصب مفعول به. {إِلاّ}: حرف حصر. {لِأَجَلٍ} : متعلقان بالفعل قبلهما. {مَعْدُودٍ} : صفة: (أجل): متعلقان بالفعل قبلهما، ونائب فاعله مستتر فيه، وجملة:{وَما نُؤَخِّرُهُ..} . إلخ في محل نصب حال من {يَوْمٌ مَشْهُودٌ،} والرابط: الواو، والضمير، أو هي مستأنفة لا محل لها، وذلك بالإعراض عما قبلها. {يَوْمَ}: ظرف زمان وفي ناصبه أوجه: أحدها: أنه الفعل بعده، والتقدير: لا تكلم نفس يوم يأتي ذلك اليوم. الثاني: أنه منصوب ب «اذكر» مقدرا، والثالث: أن ينتصب بالانتهاء المحذوف في قوله {إِلاّ لِأَجَلٍ،} أي: ينتهي الأجل يوم يأتي. والرابع: أنه منصوب ب «لا تكلم» مقدرا، ولا حاجة إليه
…
انتهى. جمل نقلا عن السمين، وأقواها أولها، وأضعفها آخرها. {يَأْتِ}: مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء المحذوفة، أو الثابتة حسبما رأيت، والفاعل ضمير مستتر يعود إلى {يَوْمَ،} أو إلى الله، أو إلى الجزاء.
والجملة الفعلية في محل جر بإضافة: {يَوْمَ} إليها. {لا} : نافية. {تَكَلَّمُ} : مضارع.
{نَفْسٌ} : فاعله. {إِلاّ} : حرف حصر. {بِإِذْنِهِ} : متعلقان بمحذوف حال مستثنى من عموم الأحوال، وإن اعتبرتهما متعلقين بمحذوف صفة لمفعول مطلق محذوف؛ فلست مفندا، والتقدير: لا تتكلم نفس تكليما كائنا إلا بإذنه، والهاء في محل جر بالإضافة، وجملة:{لا تَكَلَّمُ..} . إلخ في محل نصب حال من الضمير المنصوب، والرابط محذوف؛ إذ التقدير:
لا تكلم فيه
…
إلخ، أو هي في محل نصب صفة:{يَوْمَ،} والرابط محذوف؛ أيضا أو هي مفسرة لا محل لها، وذلك بحسب اختلاف الناصب ل {يَوْمَ،} {فَمِنْهُمْ} : الفاء: حرف تفريع واستئناف. (منهم): متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {شَقِيٌّ} : مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية مستأنفة لا محل لها. (سعيد): مبتدأ، حذف خبره لدلالة ما قبله عليه، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها، هذا هو الإعراب الظاهر، والأصح: أن مضمون (منهم) مبتدأ، و {شَقِيٌّ} هو الخبر؛ لأن من الجارة دالة على التبعيض، أي: وبعض الناس شقي، وبعضهم سعيد، ولا استبعاد في وقوع الجار والمجرور مبتدأ بتأويل معناه، يرشدك إلى ذلك قوله تعالى:{مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ} فعطف (أكثرهم) على {مِنْهُمُ} يؤيد أن معناه: بعضهم، وخذ قول الحماسي:[الكامل]
منهم ليوث لا ترام وبعضهم
…
ممّا قمشت وضمّ حبل الحاطب
حيث قابل لفظ: (منهم) بما هو مبتدأ، أعني لفظة:(بعضهم) وهذا مما يدل على أن مضمون (منهم) مبتدأ، هذا؛ وليوث: جمع ليث، وهو الأسد. لا ترام: لا تقصد بشر. قمشت:
جمعت من هنا وهناك، والمراد: رذالة الناس، والقماش الرديء من كل شيء، ومثل الآية الكريمة معنى وإعرابا قول لبيد رضي الله عنه:[الطويل]
فمنهم سعيد آخذ بنصيبه
…
ومنهم شقيّ بالمعيشة قانع
{فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106)}
الشرح: {شَقُوا} أي: وجبت لهم النار بمقتضى الوعيد المترتب على الكفر، والمعاصي، هذا؛ وأصل:{شَقُوا} : (شَقِيُوا) فقل في إعلاله: استثقلت الضمة على الياء فحذفت، ثم حذفت الياء لالتقائها ساكنة مع واو الجماعة، فصار:(شقوا) ثم قلبت كسرة القاف ضمة لمناسبة الواو، وقل مثله في إعلال: (نسوا، رضوا
…
) إلخ، هذا؛ وقد قرئ:
«(شُقُوا)» . {زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ} : الزفير: إخراج النفس، والشهيق رده، واستعمالهما في أول النهيق وآخره، فالمراد بهما الدلالة على شدة كربهم، وغمهم، وتشبيه حالهم بمن استولت الحرارة على قلبه، وانحصرت فيه روحه، أو تشبيه صراخهم بأصوات الحمير. انتهى. بيضاوي. وقال الخازن: أصل الزفير: ترديد النفس في الصدر حتى تنتفخ منه الضلوع، والشهيق رد النفس إلى الصدر، أو الزفير: مده، وإخراجه من الصدر، وفي كتب اللغة: الزفير إدخال النفس، والشهيق إخراجه، قال الشماخ:[الطويل]
بعيد مدى التّطريب أوّل صوته
…
زفير، ويتلوه شهيق محشرج
تنبيه: في الآيات الثلاث ثلاثة أنواع من البديع: الجمع في قوله: {لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاّ بِإِذْنِهِ،} والتفريق في قوله: {فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ،} والتقسيم في قوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا..} . إلخ. انتهى. جمل نقلا عن شيخه.
الإعراب: {فَأَمَّا} : الفاء: حرف تفريع واستئناف. (أما): أداة شرط وتوكيد وتفصيل، أما كونها أداة شرط؛ لأنها قائمة مقام أداة الشرط وفعله، بدليل لزوم الفاء بعدها؛ إذ الأصل: مهما يكن من شيء؛ فالذين شقوا ففي النار، فأنيبت (أما) مناب (مهما) و «يكن من شيء» ، فصار {فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا،} وأما كونها أداة توكيد؛ لأنها تحقق الجواب وتفيد أنه واقع لا محالة، لكونها علقته على أمر متيقن، وأما كونها أداة تفصيل؛ لأنها في الغالب تكون مسبوقة بكلام مجمل، وهي تفصله، ويعلم ذلك من تتبع مواقعها. {الَّذِينَ}: اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ.
{شَقُوا} : ماض وفاعله، أو ونائب فاعله على حسب القراءتين، والألف للتفريق، والجملة الفعلية صلة الموصول لا محل لها. {فَفِي}: الفاء: واقعة في جواب أما. (في النار): متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ. {لَهُمْ} : متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {فِيها} : متعلقان بالخبر المحذوف، أو بمحذوف خبر ثان، أو هما متعلقان بمحذوف حال من الضمير المستتر في الخبر المحذوف.
{زَفِيرٌ} : مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية في محل رفع خبر ثان للمبتدإ، وفي السمين: في هذه الجملة احتمالان: أحدهما: أنها مستأنفة، كأنّ سائلا سأل حين أخبر أنهم في النار: ماذا يكون لهم؟ فقيل: لهم كذا، والثاني: أنها منصوبة على الحال، وفي صاحبها وجهان: أحدهما أنه الضمير في الجار والمجرور، وهو قوله {فَفِي النّارِ،} والثاني أنها حال من: {النّارِ} . (شهيق):
معطوف على {زَفِيرٌ،} والجملة الاسمية: {الَّذِينَ شَقُوا..} . إلخ مستأنفة لا محل لها.
الشرح: {خالِدِينَ فِيها} : لابثين مقيمين في النار أبدا. {ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ} : قال الضحاك: يعني ما دامت سماوات الجنة والنار، وأرضهما، ولا بد لأهل الجنة، وأهل النار من سماء تظلهم، وأرض تقلهم، فكل ما علاك، فأظلك فهو سماء، وكل ما استقر عليه قدمك فهو أرض، وقال أهل المعاني: هذه عبارة عن التأبيد، وذلك على عادة العرب، فإنهم يقولون:
ألا آتيك ما دامت السموات والأرض، وما اختلف الليل والنهار، أو ما جن ليل، أو سال سيل، أو ما ناح حمام، يريدون بذلك التأبيد.
{إِلاّ ما شاءَ رَبُّكَ} : اختلف العلماء في معنى هذين الاستثناءين، فقال ابن عباس، والضحاك-رضي الله عنهما: الاستثناء الأول المذكور في أهل الشقاء، يرجع إلى قوم من
المؤمنين، يدخلهم الله النار بذنوب اقترفوها، ثم يخرجهم منها، فيكون استثناء من غير الجنس؛ لأن الذين أخرجوا من النار سعداء في الحقيقة استثناهم الله من الأشقياء، ويدل على صحة هذا التأويل ما روي عن جابر بن عبد الله-رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ الله سبحانه وتعالى يخرج قوما من النّار بالشّفاعة فيدخلهم الجنّة» . أخرجه البخاري ومسلم. وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ليصيبنّ أقواما سفع من النّار بذنوب أصابوها عقوبة لهم، ثمّ يدخلهم الله الجنّة بفضله ورحمته، فيقال لهم: الجهنّميّون» .
وأما الاستثناء الثاني المذكور في أهل السعادة، فيرجع إلى مدة لبث هؤلاء في النار قبل دخولهم الجنة، فعلى هذا القول يكون معنى الآية: فأما الذين شقوا ففي النار لهم زفير وشهيق، خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك أن يخرجهم منها، فيدخلهم الجنة.
فحاصل هذا القول: أن الاستثناءين يرجع كل منهما إلى قوم مخصوصين، هم في الحقيقة سعداء أصابوا ذنوبا استوجبوا عقوبة يسيرة في النار، ثم يخرجون منها، فيدخلون الجنة؛ لأن إجماع الأمة على أن من يدخل الجنة لا يخرج منها أبدا.
وقيل: إن الاستثناءين يرجعان إلى الفريقين: السعداء والأشقياء، وهو مدة تعميرهم في الدنيا، واحتباسهم في البرزخ، وهو ما بين الموت والبعث، ومدة وقوفهم للحساب، ثم يدخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، فيكون المعنى خالدين في الجنة والنار إلا هذا المقدار، وقيل غير ذلك، والصحيح الأول. انتهى. خازن.
{إِنَّ رَبَّكَ فَعّالٌ لِما يُرِيدُ} أي: من إخراج من أراد من النار، وإدخالهم الجنة، فهذا على الإجمال في حال الفريقين، فأما على التفصيل، فقوله تعالى:{إِلاّ ما شاءَ رَبُّكَ} في جانب الأشقياء يرجع إلى الزفير والشهيق، وتقريره أنه يفيد حصول الزفير والشهيق مع خلود؛ لأنه إذا دخل الاستثناء عليه وجب أن يحصل فيه هذا المجموع، والاستثناء في جانب السعداء يكون بمعنى الزيادة، يعني:{إِلاّ ما شاءَ رَبُّكَ} من الزيادة لهم من النعيم بعد الخلود، وقيل غير ذلك، ويدل على خلود أهل الجنة في الجنة: أن الأمة مجتمعة على أن من دخل الجنة لا يخرج منها، بل هو خالد فيها. انتهى. خازن.
الإعراب: {خالِدِينَ} : حال من الضمير في: {لَهُمْ} أو في: {فِيها} والعامل في الحال متعلق: {لَهُمْ} فهو منصوب، وعلامة نصبه الياء نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد. {فِيها}: متعلقان ب {خالِدِينَ} . {ما} : ظرفية مصدرية.
{دامَتِ} : ماض تام، والتاء للتأنيث حرف لا محل له. {السَّماواتُ}: فاعل (دام). (الأرض):
معطوف على ما قبله، و {ما} والفعل (دام) في تأويل مصدر في محل نصب على الظرفية الزمانية متعلق ب {خالِدِينَ} أيضا، التقدير: مدة دوام السموات والأرض. {إِلاّ} : أداة استثناء.
{ما} : اسم موصول مبني على السكون في محل نصب على الاستثناء، وهل هو متصل، أو منقطع خلاف، انظر الشرح، والجملة الفعلية بعدها صلتها، والعائد محذوف؛ إذ التقدير:
إلا الذي شاءه ربك، هذا؛ وقيل: إن {إِلاّ} حرف عطف بمعنى الواو، وهو غريب، كما قيل:
إنها بمعنى (غير) على حد قول عمرو بن معدي كرب: [الوافر]
وكلّ أخ مفارقه أخوه
…
لعمر أبيك إلاّ الفرقدان
{إِنَّ رَبَّكَ فَعّالٌ} : {إِنَّ} واسمها وخبرها. {لِما} : جار ومجرور متعلقان ب {فَعّالٌ،} ف (ما):
اسم موصول مبني على السكون في محل جر باللام، هذا؛ وقد اعتبر ابن هشام اللام في مغنيه زائدة، وسماها لام التقوية، فإذا (ما) مجرورة لفظا منصوبة محلاّ مثل قوله تعالى:{لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ،} {إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ،} {مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ،} {نَزّاعَةً لِلشَّوى،} {وَكُنّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ،} وأورد قول حاتم الطائي، وقيل: قول قيس بن عاصم المنقري، رضي الله عنه:[الطويل]
إذا ما صنعت الزّاد فالتمسي له
…
أكيلا فإنّي لست آكله وحدي
وهذا هو الشاهد رقم [398] من كتابنا: «فتح القريب المجيب» .
والجملة الفعلية بعد (ما) صلتها، والعائد محذوف؛ إذ التقدير: فعال للذي يريده، والجملة الاسمية:{إِنَّ رَبَّكَ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها.
الشرح: {وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا} أي: وجبت لهم الجنة بمقتضى الوعد المترتب على الإيمان والطاعة، وانظر شرح باقي الكلام في الآية السابقة، هذا؛ وقد قرئ {سُعِدُوا} بالمعلوم والمجهول. {عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} أي: غير مقطوع، من جذه، يجذه؛ أي: قطعه، وهو تصريح بأن الثواب لا ينقطع، وتنبيه على أن المراد من الاستثناء في الثواب ليس الانقطاع، ولأجله فرق بين الثواب والعقاب في التأبيد.
تنبيه: قال الإمام الرازي رحمه الله تعالى: قال قوم: إن عذاب الله للكافرين منقطع، وله نهاية، واستدلوا بآية:{لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً} وبأن معصية الظالم متناهية، فالعقاب عليها بما لا يتناهى ظلم، والجواب أن قوله:{أَحْقاباً} لا يقتضي أن له نهاية؛ لأن العرب يعبرون به، وبنحوه عن الدوام، ولا ظلم في ذلك؛ لأن الكافر كان عازما على الكفر ما دام حيا، فعوقب دائما، ولم يعاقب بالدائم، إلا على دائم، فلم يكن عذابه، إلا جزاء وفاقا. انتهى. جمل. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.
الإعراب: {وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا..} . إلخ: انظر إعراب مثل هذا الكلام في الآيتين السابقتين.
{عَطاءً} : اسم مصدر، فهو مفعول مطلق مؤكد لمعنى الجملة قبله؛ لأن قوله تعالى:{فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها} يقتضي إعطاء وإنعاما، فكأنه قيل: يعطيهم عطاء. {غَيْرَ} : صفة: {عَطاءً،} و {غَيْرَ} : مضاف، و {مَجْذُوذٍ}: مضاف إليه، ونائب فاعله مستتر فيه.
الشرح: {فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ} أي: في شك بعد ما أنزل عليك من ربك الحق، والخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم، وقال القرطبي: وأحسن من هذا، أي: قل يا محمد لكل من شك. {مِمّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ} أي: من عبادة هؤلاء المشركين الأصنام، فإنها ضلال مؤد إلى مثل ما حل بمن قبلهم ممن قصصت عليك سوء عاقبتهم، أو: فلا تكن في شك من حال الأصنام، فإنها لا تضر ولا تنفع. {ما يَعْبُدُونَ إِلاّ كَما يَعْبُدُ آباؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ} أي: إنه ليس لهم في عبادة هذه الأصنام مستند؛ إلا أنهم رأوا آباءهم يعبدونها، فعبدوها مثلهم. {وَإِنّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ..}. إلخ في هذا النصيب ثلاثة أقوال: أحدها: نصيبهم من الرزق، قاله أبو العالية. الثاني: نصيبهم من العذاب، قاله ابن زيد-الثالث ما وعدوا به من خير أو شر، قاله ابن عباس-رضي الله عنهما.
بعد هذا فأصل: {تَكُ} تكون، فلما دخل الجازم عليه، صار لا تكون، فحذفت الواو لالتقاء الساكنين، فصار (لا تكن) ثم حذفت النون للتخفيف، ولكثرة الاستعمال، وهذا الحذف جائز وغير لازم، وله شروط: أن يكون مضارعا ناقصا من كان، وأن يكون مجزوما بالسكون، وأن لا يكون بعده ساكن، ولا يتصل به ضمير متحرك، كما في الآية الكريمة، وغيرها كثير، وهو وارد في الكلام العربي شعرا ونثرا، ولا تحذف النون عند فقد أحد الشروط إلا في ضرورة الشعر، كما في قول الخنجر بن صخر الأسدي:[الطويل]
فإن لم تك المرأة أبدت وسامة
…
فقد أبدت المرآة جبهة ضيغم
وقول الآخر: [الطويل]
إذا لم تك الحاجات من همّة الفتى
…
فليس بمغن عنك عقد الرّتائم
هذا؛ وقد قرئ شاذا قوله تعالى: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ..} . إلخ ولم تحذف النون في قول أبي الأسود الدؤلي لجريانه على القاعدة: [الطويل]
دع الخمر تشربها الغواة فإنّني
…
رأيت أخاها مجزئا بمكانها
فإلاّ يكنها أو تكنه فإنّه
…
أخوها غذته أمّه بلبانها
الإعراب: {فَلا} : الفاء: حرف استئناف. (لا): ناهية. {تَكُ} : مضارع ناقص مجزوم ب (لا) الناهية، والجزم ظاهر على النون المحذوفة كما رأيت، واسمه ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره:«أنت» . {فِي مِرْيَةٍ} : متعلقان بمحذوف خبر (تكن)، والجملة الفعلية مستأنفة لا محل لها، وعلى تقدير القرطبي، فهي في محل نصب مقول القول. {مِمّا}: متعلقان بمحذوف صفة:
{مِرْيَةٍ،} و (ما) تحتمل الموصولة والمصدرية، فعلى الأول مبنية على السكون في محل جر ب (من). {يَعْبُدُ}: مضارع. {هؤُلاءِ} : اسم إشارة مبني على الكسر في محل رفع فاعل، والهاء حرف تنبيه لا محل له، والجملة الفعلية صلة الموصول لا محل لها، والعائد محذوف، التقدير:
في مرية كائنة من الذي يعبده هؤلاء، وعلى اعتبار:(ما) مصدرية تؤول مع الفعل بعدها بمصدر في محل جر بمن، التقدير:{فِي مِرْيَةٍ} كائنة من عبادة هؤلاء الأصنام. {مِمّا} : نافية.
{يَعْبُدُونَ} : مضارع وفاعله. {إِلاّ} : حرف حصر. {كَما} : جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لمفعول مطلق محذوف، و {مِمّا}: تحتمل الموصولة والمصدرية، فعلى الأول الجملة الفعلية بعدها صلتها، والعائد محذوف؛ إذ التقدير: إلا عبادة كائنة مثل الذي يعبده آباؤهم، وعلى الثاني تؤول {مِمّا} مع الفعل بمصدر في محل جر بالكاف، التقدير: إلا عبادة كائنة مثل عبادة آبائهم. {مِنْ قَبْلُ} : متعلقان بمحذوف حال من {آباؤُهُمْ} . التقدير: كائنين من قبل، و {قَبْلُ} مبني على الضم في محل جر ب {مِنْ} لقطعه عن الإضافة لفظا لا معنى، وجملة:{ما يَعْبُدُونَ..} . إلخ تعليل للنهي لا محل له. {وَإِنّا} : الواو: حرف استئناف. (إنا): حرف مشبه بالفعل، و (نا): اسمها، وحذفت نونها، وبقيت الألف دليلا عليها. {لَمُوَفُّوهُمْ}: اللام: هي المزحلقة. (موفوهم): خبر (إن) مرفوع، وعلامة رفعه الواو نيابة عن الضمة؛ لأنه جمع مذكر سالم، وحذفت النون للإضافة، والهاء في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله الأول، وفاعله مستتر. {نَصِيبَهُمْ}: مفعول به ثان، والهاء في محل جر بالإضافة. {غَيْرَ}: حال من: {نَصِيبَهُمْ،} والعامل اسم الفاعل، و {غَيْرَ}: مضاف، و {مَنْقُوصٍ}: مضاف إليه، وهو اسم مفعول، فنائب فاعله مستتر يعود إلى:{نَصِيبَهُمْ،} والجملة الاسمية: (إنا
…
) إلخ مستأنفة لا محل لها، والحالية ضعيفة فيها.
الشرح: {وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ} أي: التوراة. {فَاخْتُلِفَ فِيهِ} : فآمن به قوم، وعملوا بتعاليمه، وكفر به قوم، حيث حرفوا فيه وبدلوا وغيروا، ولم يعملوا بتعاليمه، كما اختلف قومك يا محمد في هذا القرآن بين مصدق ومكذب. {وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ}: وهي كلمة الإنظار
والإمهال بتأخير تعذيب المجرمين إلى يوم القيامة، فإنه يوم الفصل والجزاء. {لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} أي:
بإنزال ما يستحقه المجرم والمكذب من العذاب؛ ليتميز به عن المحق، {وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ} أي: وإن قومك لفي شك من القرآن موقع في الريبة.
الإعراب: {وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ} : انظر إعراب مثل هذه الجملة في الآية رقم [97].
(اختلف): ماض مبني للمجهول. {فِيهِ} : متعلقان بنائب فاعل، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها لا محل لها مثلها. {وَلَوْلا}: الواو: حرف استئناف. (لولا): حرف امتناع لوجود.
{كَلِمَةٌ} : مبتدأ. {سَبَقَتْ} : ماض، والتاء للتأنيث، والفاعل يعود إلى {كَلِمَةٌ}. {مِنْ رَبِّكَ}: متعلقان بالفعل قبلهما، والكاف في محل جر بالإضافة، وجملة:{سَبَقَتْ..} . إلخ في محل رفع صفة: {كَلِمَةٌ،} وخبر المبتدأ محذوف، التقدير: موجودة. {لَقُضِيَ} : اللام: واقعة في جواب (لولا). (قضي): ماض مبني للمجهول. {بَيْنَهُمْ} : ظرف مكان متعلق بمحذوف نائب فاعل، والهاء في محل جر بالإضافة، وجملة:{لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} جواب (لولا)، لا محل لها، و (لولا) ومدخولها كلام مستأنف لا محل له. {وَإِنَّهُمْ}: الواو: واو الحال. (إنهم): حرف مشبه بالفعل، والهاء اسمها. {لَفِي شَكٍّ}: متعلقان بمحذوف خبر: (إن)، واللام هي المزحلقة.
{مِنْهُ} : متعلقان ب {شَكٍّ} لأنه مصدر، أو هما متعلقان بمحذوف صفته. {مُرِيبٍ}: صفة شك، والجملة الاسمية:{وَإِنَّهُمْ..} . إلخ في محل نصب حال من الضمير المجرور محلاّ بالإضافة، والرابط: الواو، والضمير، والاستئناف ممكن. تأمل.
الشرح والإعراب: {وَإِنَّ كُلاًّ لَمّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ} قال سليمان الجمل-رحمه الله تعالى-وفي السمين ما نصه: هذه الآية الكريمة مما تكلم الناس فيها قديما وحديثا، وعسرت على أكثرهم قراءة وتخريجا، وقد سهل الله ذلك، فذكرت أقاويلهم، وما هو الراجح منها، فأقول: قرأ بعضهم «(إن)» و «(لما)» مخففتين، وبعضهم خفف «(إن)» وثقل {لَمّا} وبعضهم شددهما، وبعضهم شدد (إنّ) وخفف (لما) فهذه أربع قراءات في هذين الحرفين، وكلها متواترة.
فأما القراءة الأولى، ففيها إعمال (إن) المخففة، وهي لغة ثابتة عن العرب، وأما (لما) في هذه القراءة، فاللام فيها لام الابتداء الداخلة على خبر (إن)، و (ما) يجوز أن تكون موصولة بمعنى (الذين) واقعة على من يعقل كقوله تعالى:{فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ،} واللام في {لَيُوَفِّيَنَّهُمْ} جواب قسم مضمر، والجملة من القسم وجوابه صلة الموصول، والتقدير: وإن كلاّ للذين والله ليوفينهم، ويجوز أن تكون (ما) نكرة موصوفة، والجملة القسمية وجوابها صفة:(ما) والتقدير:
وإن كلاّ لخلق، أو لفريق والله ليوفينهم، والموصول وصلته، أو الموصوفة وصفتها خبر ل (إن).
وقال بعضهم: اللام الأولى هي الموطئة للقسم، ولما اجتمع اللامان، واتفقا في اللفظ، فصل بينهما ب (ما)، وظاهر هذه العبارة أن (ما) زائدة جيء بها للفصل إصلاحا للفظ، وقال أبو شامة: واللام في (لما) هي الفارقة بين المخففة والنافية، وفيه نظر؛ لأن الفارقة إنما يؤتي بها عند التباسها بالنافية، والالتباس إنما يكون عند إهمالها، نحو (إن زيد لقائم). وهي في الآية الكريمة عاملة، فلا تلتبس بالنافية، فلا يقال: إنها فارقة، فتلخص أن في اللام أربعة أوجه:
أحدها: أنها لام الابتداء الداخلة على خبر إن. الثاني: أنها موطئة للقسم. الثالث: أنها جواب القسم كررت تأكيدا، الرابع: أنها الفارقة بين المخففة والنافية، وأن في (ما) ثلاثة أوجه:
أحدها: أنها موصولة، والثاني: أنها نكرة موصوفة، والثالث: أنها مزيدة للفصل بين اللامين.
وأما القراءة الثانية، وهي تخفيف (إن) وتشديد {لَمّا} فالكلام في (إن) كما تقدم، وأما {لَمّا} ففيها أوجه:
أحدها: أن الأصل (لمن ما) بكسر الميم على أنها (من) الجارة، دخلت على (ما) الموصولة، أو الموصوفة، أي: لمن الذين والله ليوفينهم، أو لمن خلق والله ليوفينهم، فلما اجتمعت النون ساكنة قبل ميم (ما) وجب إدغامها فيها، فقلبت ميما، وأدغمت، فصار في اللفظ ثلاثة أمثال، فخففت الكلمة بحذف إحداهما، فصار اللفظ كما ترى {لَمّا} .
الثاني: ما ذهب إليه المهدوي ومكي، وهو أن يكون الأصل (لمن ما) بفتح ميم (من) على أنها موصولة، أو موصوفة و (ما) بعدها مزيدة، قال: فقلبت النون ميما، وأدغمت في الميم التي بعدها، فاجتمع ثلاث ميمات، فحذفت الوسطى منهن، وهي المبدلة من النون، فقيل:{لَمّا} .
الثالث: أن (إن) نافية بمنزلة (ما)، و (لمّا) بمعنى (إلا) فهي كقوله تعالى:{إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمّا عَلَيْها حافِظٌ،} و {وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا،} أي: ما كل ذلك إلا متاع الحياة الدنيا، واعترض على هذا الوجه بأن (إن) النافية لا ينصب الاسم بعدها، وهذا الاسم منصوب بعدها، وأجاب بعضهم عن ذلك بأن {كُلاًّ} منصوب بإضمار فعل، فقدره بعضهم:(وإن أرى كلا لما) أي: وما أرى كلاّ إلا، وبعضهم:(وإن أعلم كلاّ لمّا) ونحوه.
وأما القراءة الثالثة: وهي تشديدهما، ف (إنّ) على حالها، فلذلك نصب ما بعدها على أنه اسمها، وأما {لَمّا} في التشديد ففيها الأوجه الثلاثة المتقدمة، وهذا؛ وقد قال ابن هشام في المغني:{لَمّا} جازمة، ومجزومها محذوف لدلالة ما بعده عليه، التقدير: لمّا يوفّوا، وهو قول المرادي في الجنى الداني، وقول ابن الحاجب، لكنه قدر:(لمّا يهملوا)، (أو لمّا يتركوا).
وأما القراءة الرابعة، وهي تشديد (إنّ) وتخفيف (لما) فواضحة جدا ف (إنّ) هي المشددة عملت عملها، والكلام في اللام و (ما) مثل ما تقدم من الوجوه الأربعة في اللام، والثالثة في
(ما). وقد عرفت أن القراءات الأربع سبعية، وقرئ شاذّا «(وإن كل)» بتخفيف (إن) ورفع (كلّ) ولمّا بالتشديد، وهي قراءة الحسن البصري، وعليها ف {لَمّا} بمعنى «إلا» ، وقرئ أيضا شاذا قراءات أخر فلتراجع في السمين وغيره. انتهى. ملخصا منه، أقول: وقرئ {(وَإِنَّ كُلاًّ لَمّا)} أي:
جميعا، كقوله تعالى:{أَكْلاً لَمًّا} .
(يوفينهم): مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة التي هي حرف لا محل له، والهاء مفعول به أول. {رَبُّكَ} فاعله، والكاف في محل جر بالإضافة. {أَعْمالَهُمْ}: مفعول به ثان، والهاء في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها جواب قسم محذوف، والجملة القسمية لقد رأيت الأقوال المختلفة في محلها، وانظر باقي الإعراب في الآية التالية.
تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم.
{فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَمَنْ تابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112)}
الشرح: {فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ} : لما بين الله أمر المختلفين في التوحيد والنبوة، وأطنب في شرح الوعد، والوعيد، أمر رسوله صلى الله عليه وسلم بالاستقامة مثل ما أمر بها، بلا إفراط ولا تفريط، وهي تشمل العقائد والأعمال والأخلاق، فإنها في العقائد اجتناب التشبيه والتعطيل، وفي الأعمال الاحتراز عن الزيادة والنقصان، والتغيير والتبديل، وفي الأخلاق التباعد عن طرفي الإفراط والتفريط، وهذا في غاية العسر، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم:«شيّبتني سورة هود» . انتهى. بيضاوي وجمل بتصرف.
{وَمَنْ تابَ مَعَكَ} أي: ومن تاب من الشرك والكفر، واتبع طريقتك السوية ونهجك المستقيم. {وَلا تَطْغَوْا}: ولا تخرجوا عما حد لكم، فتجاوزوا بل وتعتدوا على حقوق الله وحقوق العباد، ومنه قوله:{إِنّا لَمّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ} . {إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} : فيه تهديد، ووعيد للذين يتكبرون في الأرض، ويطغون على الناس.
عن سفيان بن عبد الله الثقفي، قال: قلت: يا رسول الله! قل لي في الإسلام قولا، لا أسأل عنه أحدا بعدك، قال:«قل آمنت بالله ثمّ استقم» . رواه مسلم، وقال عمر بن الخطاب-رضي الله عنه-الاستقامة أن تستقيم على الأمر والنهي، ولا تروغ منه روغان الثعلب. وعن عثمان بن حاضر الأزدي، قال: دخلت على ابن عباس-رضي الله عنهما، فقلت: أوصني، فقال: نعم، عليك بتقوى الله والاستقامة، اتبع، ولا تبتدع. انتهى. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.
الإعراب: {فَاسْتَقِمْ} : الفاء: حرف استئناف، أو هي الفصيحة أفصحت عن شرط مقدر، التقدير: وإذا كان جزاء كل من الفريقين المؤمن، والصالح واقعا لا محالة؛ فأعرض عنهم، واستقم
…
إلخ. (استقم): أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» . {كَما} الكاف: حرف تشبيه
وجر. (ما): مصدرية. {أُمِرْتَ} : ماض مبني للمجهول مبني على السكون، والتاء نائب فاعله، و (ما) والفعل في تأويل مصدر في محل جر بالكاف، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف صفة لمصدر محذوف واقع مفعولا مطلقا، والتقدير: استقم استقامة كائنة مثل أمر الله لك بها، أو التقدير: مثل التي أمرت بها، فتكون (ما) موصولة اسمية، وهذا ليس مذهب سيبويه، وإنما مذهبه في مثل هذا التركيب، أن يكون منصوبا على الحال من المصدر المضمر المفهوم من الفعل المتقدم، وإنما أحوج سيبويه إلى هذا؛ لأن حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه، لا يجوز إلا في مواضع محصورة، وليس هذا منها. (من): فيها أوجه: أحدها: عطفه على الضمير المستتر في الفعل، وجاز ذلك للفصل بما قبله، الثاني اعتباره فاعلا لفعل محذوف، التقدير:
وليستقم من تاب
…
إلخ، فيكون العطف من عطف جملة فعلية على جملة فعلية، الثالث:
اعتباره مفعولا معه، فتكون الواو للمعية. {تابَ}: ماض، وفاعله يعود إلى (من)، وهو العائد.
{مَعَكَ} : ظرف مكان متعلق بما قبله، والكاف في محل جر بالإضافة، وجملة:{تابَ مَعَكَ} صلة (من) لا محل لها، وجملة: (استقم
…
) إلخ لا محل لها على الوجهين المعتبرين في الفاء. {وَلا} : الواو: حرف عطف. (لا): ناهية جازمة. {تَطْغَوْا} : مضارع مجزوم ب (لا)، وعلامة جزمه حذف النون
…
إلخ، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها لا محل لها أيضا. {إِنَّهُ}: حرف مشبه بالفعل، والهاء اسمها. {بِما}: متعلقان ب {بَصِيرٌ} بعدهما، و (ما) تحتمل الموصولة، والموصوفة، والمصدرية، فعلى الأولين مبنية على السكون في محل جر بالباء، والجملة الفعلية بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف، التقدير: إنه بصير بالذي، أو بشيء تعملونه، وعلى اعتبار (ما) مصدرية تؤول مع ما بعدها بمصدر في محل جر بالباء، وتقدير الكلام: إنه بصير بعملكم. {بَصِيرٌ} : خبر (إن)، والجملة الاسمية:{إِنَّهُ..} . إلخ تعليل للنهي، أو هي مستأنفة لا محل لها على الاعتبارين.
الشرح: {وَلا تَرْكَنُوا} : الركون: الاستناد والاعتماد، والسكون إلى الشيء، والرضا به، قال قتادة: لا تودوهم، ولا تطيعوهم. {إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} أي: أنفسهم بالكفر، والشرك، ويشمل العصاة، والفاسقين من الذين يدّعون الإسلام. وهذا هو الصحيح في معنى الآية الكريمة، فإنها تدل على وجوب هجران أهل الكفر والمعاصي من أهل البدع وغيرهم؛ لأن الصحبة لا تكون إلا عن مودة ومحبة، قال طرفة بن العبد:[الطويل]
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه
…
فكلّ قرين بالمقارن يقتدي
فإن كانت الصحبة عن ضرورة وتقية فقد مضى القول فيها في الآية رقم [28] من سورة (آل عمران)، وانظر الآية رقم [51] من سورة (المائدة). {فَتَمَسَّكُمُ النّارُ} أي: تحرقكم بسبب مخالطتهم ومصاحبتهم، وممالأتهم على إعراضهم، وموافقتهم في أمورهم. {وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِياءَ} أي: من أنصار يمنعون العذاب عنكم. {ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ} أي: ثم لا ينصركم الله؛ إذ سبق في حكمه أن يعذبكم، ولا يبقي عليكم، ففيه وعيد شديد لمن ركن إلى الظلمة، أو أحبهم، أو رضي بأعمالهم، فكيف حال الظلمة في أنفسهم؟! نعوذ بالله من الظلم!.
هذا؛ وقد قرئ «(تركنوا)» بكسر التاء على لغة تميم، كما قرئ بضمها للبناء للمفعول، وبفتحها للبناء للفاعل، وفيه لغات: إحداها من باب: (تعب)، وثانيها: من باب (قعد)، قال الأزهري: وليست بالفصيحة، وثالثها: من باب: فتح، وليست بالأصل، بل من باب تداخل اللغتين؛ لأن باب (فتح يفتح) شرطه أن يكون حلقي العين أو اللام. انتهى. جمل.
وفي السمين وقال الراغب: والصحيح أنه يقال: ركن يركن بالفتح فيهما، وركن يركن بالكسر في الماضي والفتح في المضارع وبالفتح في الماضي والضم في المضارع. انتهى. جمل.
{أَوْلِياءَ} : جمع ولي، وهو الذي يتولى شئون غيره، والنصير المعين والمساعد، والفرق بينهما أن الولي قد يضعف عن النصرة والمعاونة، والنصير قد يكون أجنبيا من المنصور، فبينهما عموم وخصوص من وجه.
الإعراب: {وَلا} : الواو: حرف عطف. (لا): ناهية جازمة. {تَرْكَنُوا} : مضارع مجزوم ب (لا) الناهية، وعلامة جزمه حذف النون
…
إلخ، والواو فاعله، والألف للتفريق، أو هو مبني للمجهول، والواو نائب فاعله، والجملة الفعلية معطوفة على جملة:{وَلا تَطْغَوْا} لا محل لها مثلها. {إِلَى الَّذِينَ} : متعلقان بالفعل قبلهما، وجملة:{ظَلَمُوا} . مع المفعول والمتعلق المحذوفين صلة الموصول لا محل لها. {فَتَمَسَّكُمُ} : مضارع منصوب ب «أن» مضمرة بعد الفاء السببية، والكاف مفعول به. {النّارُ}: فاعله، و «أن» المضمرة والمضارع في تأويل مصدر معطوف بالفاء على مصدر متصيد من الفعل السابق، التقدير: لا يكن منكم ركون إلى الظالمين فمس من النار. {وَما} : الواو: واو الحال. (ما): نافية. {لَكُمْ} : متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {مِنْ دُونِ} : متعلقان بالخبر المحذوف، أو بمحذوف خبر ثان، أو بمحذوف حال من الضمير المستتر بالخبر المحذوف، و {دُونِ}: مضاف، و {اللهِ}: مضاف إليه. {مِنْ} : حرف جر صلة. {أَوْلِياءَ} : مبتدأ مؤخر، مجرور لفظا مرفوع محلاّ، والجر اللفظي لم يظهر على آخره؛ لأنه ممنوع من الصرف، والجملة الاسمية في محل نصب حال من الضمير المنصوب، والرابط: الواو، والضمير. {ثُمَّ}: حرف عطف. {لا} : نافية. {تُنْصَرُونَ} : مضارع مبني للمجهول مرفوع
…
إلخ، والواو نائب فاعله، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، فهي في محل نصب حال مثلها.
الشرح: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ} : هذا أمر للنبي صلى الله عليه وسلم، ولكل مؤمن إلى قيام الساعة، والمعنى: أدّ الصلاة كاملة في أوقاتها، وحافظ على طهارتها وركوعها، وسجودها، وخشوعها، ومن لم يؤدها على الوجه الأكمل، يقال عنه: صلى، ولا يقال: أقام الصلاة، هذا؛ والصلاة في اللغة:
الدعاء، والتضرع، وهي في الشرع: أقوال، وأفعال مخصوصة، مبتدأة بالتكبير، مختتمة بالتسليم، ولها شروط وأركان، ومبطلات ومكروهات مذكورة في الفقه الإسلامي، والصلاة من العبد معناها التضرع والدعاء، ومن الملائكة على العبد معناها: الاستغفار، ومن الله على عباده:
الرحمة وإنزال البركات، وقد جمعت الأنواع الثلاثة في قوله تعالى:{إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} .
{طَرَفَيِ النَّهارِ} أي: أول النهار وآخره، وقد اتفق على أن المراد بالطرف الأول صلاة الفجر، وقد اختلف في آخره، فقيل: صلاة المغرب، وقيل: صلاة الظهر، والعصر، وقيل:
صلاة العصر، وهذا الذي أعتمده، وتؤيده أحاديث شريفة كثيرة. {طَرَفَيِ}: تثنية (طرف) بفتح الطاء والراء، وهو في الأصل: حرف الشيء، ومنتهاه، وجمعه أطراف، وانظره بفتح الطاء وسكون الراء في الآية رقم [43] من سورة (إبراهيم) على نبينا، وحبيبنا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام. {وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ} أي: أقم الصلاة في زلف من الليل، وهي ساعاته، والمراد بها:
صلاة المغرب، والعشاء، وعليه أكثر المفسرين، هذا؛ ويقرأ (زلفا) بضم الزاي وتثليث اللام، وقرئ:«(زلفى)» مثل قربى، والأول جمع (زلفة) مثل قربة، واقرأ الآية رقم [130] من سورة (طه) والآية رقم [17] و [18] من سورة (الروم)، إن كنت من أهل القرآن، وانظر شرح النهار والليل في الآية رقم [67] من سورة (يونس) على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام.
{إِنَّ الْحَسَناتِ} : جمع حسنة: وهي فعل كل طاعة وخير، والمراد بها: الصلاة خاصة.
{يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ} : تمحوهن، جمع سيئة، وهي فعل الشر مطلقا، والمراد بها صغائر الذنوب.
{ذلِكَ} : إشارة إلى ما تقدم من قوله: {فَاسْتَقِمْ} إلى هنا. {ذِكْرى} : عظة. {لِلذّاكِرِينَ} : الله خصهم بالذكر لأنهم هم المنتفعون بالموعظة، والعاملون بها.
تنبيه: عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: أنّ رجلا أصاب من امرأة قبلة، فأتى النّبيّ صلى الله عليه وسلم، فذكر ذلك له، فنزلت:{وَأَقِمِ الصَّلاةَ..} . إلخ فقال الرجل: يا رسول الله ألي هذه الآية؟ قال:
«لمن عمل بها من أمّتي» . وفي رواية، فقال رجل من القوم يا نبيّ الله! هذه له خاصة، قال:«بل للناس كافة» . متفق عليه. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الصّلوات
الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان مكفّرات لما بينهنّ إذا اجتنبت الكبائر».
رواه مسلم، وقال عليه الصلاة والسلام لمعاذ بن جبل رضي الله عنه، حين بعثه إلى اليمن:«اتّق الله حيثما كنت، وأتبع السّيّئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن» . وقال صلى الله عليه وسلم في حديث آخر:
«وإذا عملت سيّئة؛ فاعمل بجنبها حسنة تمحها، السّرّ بالسّرّ، والعلانية بالعلانية» .
هذا؛ وقد قال العلماء: الصغائر من الذنوب تكفرها الأعمال الصالحات، مثل الصلاة والصدقة والصوم، والذكر والاستغفار، ونحو ذلك من أعمال البر، وأما الكبائر من الذنوب، فلا يكفرها إلا التوبة النصوح، ولها ثلاثة شرائط: الشرط الأول: الإقلاع عن الذنب بالكلية، والثاني: الندم على فعله. الثالث: العزم التام أن لا يعود إليه في المستقبل، ورد الحقوق لأصحابها بحسب الإمكان، فإذا حصلت هذه الشرائط صحت التوبة، وكانت مقبولة إن شاء الله تعالى. انتهى. خازن بتصرف مني.
الإعراب: {وَأَقِمِ} : (أقم): أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» . {الصَّلاةَ} : مفعول به.
{طَرَفَيِ} : ظرف زمان متعلق بالفعل قبله منصوب، وعلامة نصبه الياء نيابة عن الفتحة؛ لأنه مثنى، وحذفت النون للإضافة، و {طَرَفَيِ}: مضاف، و {النَّهارِ}: مضاف إليه. (زلفا): معطوف على ما قبله، فهو ظرف زمان مثله. {مِنَ اللَّيْلِ}: متعلقان ب (زلفا)، أو بمحذوف صفة له، وجملة:{وَأَقِمِ الصَّلاةَ..} . إلخ معطوفة على جملة: (استقم
…
) إلخ. {إِنَّ} : حرف مشبه بالفعل. {الْحَسَناتِ} : اسم {إِنَّ} منصوب، وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مؤنث سالم. {يُذْهِبْنَ}: فعل وفاعل. {السَّيِّئاتِ..} .: مفعول به منصوب.. إلخ، وجملة:
{يُذْهِبْنَ..} . إلخ في محل رفع خبر: {إِنَّ،} والجملة الاسمية: {إِنَّ..} . إلخ مفيدة للتعليل لا محل لها. {ذلِكَ} : اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع مبتدأ، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب لا محل له. {ذِكْرى}: خبر المبتدأ مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر. {لِلذّاكِرِينَ}: متعلقان ب {ذِكْرى} لأنه مصدر، أو متعلقان بمحذوف صفة له، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها.
{وَاِصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (115)}
الشرح: {وَاصْبِرْ} : الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، أي: واصبر يا محمد! على أذى قومك، وما تلقاه منهم، وقيل: معناه: واصبر على الصلاة، والطاعات، وعن المعاصي، وهو كقوله تعالى:
{وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها،} {فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} أي: الذين أحسنوا العمل من صلاة وغيرها، وكذلك أحسنوا إلى غيرهم بالعفو عنهم، والتجاوز عن سيئاتهم.
هذا؛ والصبر: حبس النفس من الجزع عند المصيبة، وحبس اللسان عن الشكوى، وحبس الجوارح عن التشويش، وهو مر المذاق، يكاد لا يطاق، إلا أنه حلو العواقب، يفوز صاحبه بأسنى المطالب، كما قال قائل:[البسيط]
الصّبر مثل اسمه مرّ مذاقته
…
لكن عواقبه أحلى من العسل
وبالجملة فنفع الصبر مشهور، والحض عليه في الكتاب، والسنّة مقرر مسطور، وهو على ثلاثة أنواع: صبر على الطاعة، وصبر عن المعصية، وصبر على البلاء، ولا تنس: أن من أسماء الله الصبور، وفسر بالذي لا يعجل بالعقوبة على من عصاه، ثم اعلم: أن الصبر قد ذكر في القرآن العظيم في خمسة وتسعين موضعا، ومن أجمعها آية البقرة، ومن أرفعها قوله تعالى في حق أيوب عليه السلام:{إِنّا وَجَدْناهُ صابِراً} حيث قرن هاء الصبر بنون العظمة، ومن أبهجها قوله تعالى:{وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ} .
فائدة: قال الله تعالى: {فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً،} وقال: {فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ،} وقال:
{وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً،} قالوا: الصبر الجميل هو الذي لا شكاية معه، والصفح الجميل هو الذي لا عتاب معه، والهجر الجميل هو الذي لا أذية معه، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه، وانظر الآية رقم [24] من سورة (الرعد) ففيها كبير فائدة.
الإعراب: {وَاصْبِرْ} : (اصبر): أمر، وفاعله أنت، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها لا محل لها أيضا. {فَإِنَّ}: الفاء: حرف تعليل. (إن): حرف مشبه بالفعل. {اللهَ} : اسمها.
{لا} : نافية. {يُضِيعُ} : مضارع، والفاعل يعود إلى {اللهَ}. {أَجْرَ}: مفعول به، وهو مضاف، و {الْمُحْسِنِينَ}: مضاف إليه مجرور
…
إلخ، وجملة:{لا يُضِيعُ..} . إلخ في محل رفع خبر: (إن)، والجملة الاسمية: (إن
…
) إلخ تعليل للأمر لا محل لها.
الشرح: {فَلَوْلا كانَ} : فهلا كان. {مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ} أي: من الأمم التي قبلكم يا أمة محمد، فأهلكناهم، انظر شرح القرون في الآية رقم [13] من سورة (يونس). {أُولُوا بَقِيَّةٍ} أي:
أصحاب عقل، ورأي، وتمييز، وطاعة، وخير، يقال: فلان ذو بقية إذا كان فيه خير، وقيل:
معناه أولو بقية من خير، يقال: فلان على بقية من الخير، إذا كان على خصلة محمودة، وتقرأ {بَقِيَّةٍ} بقراءات كثيرة، ولا يتغير المعنى ولا الإعراب. {يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ}: وذلك لما منحهم الله من العقول النيرة، وأراهم من الآيات الباهرة، وهذا توبيخ وتقريع للكفار؛ إذ
المعنى لم يكن فيهم من فيه خير ينهى عن الفساد في الأرض، فلذلك أهلكناهم. {إِلاّ قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ}: يعني من آمن من الأمم الماضية، وهم أتباع الأنبياء كانوا ينهون عن الفساد في الأرض. {وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا} أي: أشركوا، وعصوا الله. وقرئ (اتبع) بالبناء المعلوم، وبالبناء للمجهول.. {ما أُتْرِفُوا فِيهِ} أي: ما تنعموا فيه، والترف: النعيم، والمعنى: أنهم اتبعوا ما تعودوا به من النعم، وإيثار اللذات على الآخرة ونعيمها. {وَكانُوا مُجْرِمِينَ}: كافرين معاندين، وانظر ما ذكرته في الآية رقم [13] من سورة (يونس)، وانظر الظلم في الآية رقم [23] منها أيضا، وانظر (نا) في الآية رقم [8]. هذا؛ و {أُولُوا}: أصحاب، ولا واحد له من لفظه، وإنما واحده (ذي) المضاف، إن كان مجرورا، و (ذا) المضاف إن كان منصوبا، و (ذو) المضاف إن كان مرفوعا.
الإعراب: {فَلَوْلا} : الفاء: حرف استئناف. (لولا): حرف تحضيض، مفيد للتقريع، والتوبيخ والنفي. {كانَ}: ماض تام. {مِنَ الْقُرُونِ} : متعلقان به. {مِنْ قَبْلِكُمْ} : متعلقان بمحذوف صفة القرون، أفاده الجلال، والجمل، وهذا على اعتبار (ال) للجنس، والأولى اعتبارها للتعريف، فيكون الجار والمجرور متعلقين بمحذوف حال من القرون، والكاف في محل جر بالإضافة. {أُولُوا}: فاعل {كانَ} مرفوع، وعلامه رفعه الواو نيابة عن الضمة؛ لأنه ملحق بجمع المذكر السالم، و {أُولُوا}: مضاف، و {بَقِيَّةٍ}: مضاف إليه. {يَنْهَوْنَ} مضارع مرفوع
…
إلخ، والواو فاعله. {عَنِ الْفَسادِ}: متعلقان بما قبلهما. {فِي الْأَرْضِ} : متعلقان بالفساد نفسه؛ لأنه مصدر، وجوز تعليقهما بمحذوف حال منه، وجملة:{يَنْهَوْنَ..} . إلخ في محل نصب حال من {أُولُوا بَقِيَّةٍ} أو في محل رفع صفة له. {إِلاّ} : أداة استثناء. {قَلِيلاً} :
مستثنى ب {إِلاّ} من القرون، وهل الاستثناء متصل أو منقطع؟ فيه خلاف ناشئ من اعتبار التحضيض على حقيقته، أو هو بمعنى النفي. {مِمَّنْ}: جار ومجرور متعلقان ب {قَلِيلاً،} و (من) تحتمل الموصولة، والموصوفة، فهي مبنية على السكون في محل جر ب (من). {أَنْجَيْنا}:
فعل وفاعل، والجملة الفعلية صلة (من) أو صفتها، والعائد أو الرابط محذوف؛ إذ التقدير: من الذين، أو من ناس أنجيناهم. {مِنْهُمْ}: متعلقان بمحذوف حال من الضمير المنصوب المحذوف، و (من) بيان لما أبهم في «من». {وَاتَّبَعَ}: ماض. {الَّذِينَ} : اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع فاعل. {ظَلَمُوا} : فعل وفاعل، والألف للتفريق. {ما}: اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل نصب مفعول به. {أُتْرِفُوا}: ماض مبني للمجهول، والواو نائب فاعله. {فِيهِ}: متعلقان بالفعل قبلهما، وجملة:{أُتْرِفُوا فِيهِ..} . صلة {ما،} أو صفتها، والعائد أو الرابط: الضمير المجرور محلاّ ب (في). وجملة: {ظَلَمُوا..} .
إلخ صلة الموصول لا محل لها، وجملة:{وَاتَّبَعَ..} . إلخ معطوفة على جملة: {فَلَوْلا كانَ..} .
إلخ لا محل لها مثلها، الأولى بالاستئناف، والثانية بالاتباع. وقال البيضاوي: واتبع عطف على مضمر دل عليه الكلام، وإذ المعنى: فلم ينهوا عن الفساد، واتبع الذين
…
إلخ. {وَكانُوا} :
ماض ناقص، والواو اسمه، والألف للتفريق. {مُجْرِمِينَ}: خبر كان منصوب
…
إلخ، وجملة:
{وَكانُوا مُجْرِمِينَ} معطوفة على ما قبلها لا محل لها أيضا.
{وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ (117)}
الشرح: {وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى} أي: أهل القرى. {بِظُلْمٍ} أي: بشرك وكفر.
{وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ} أي: فيما بينهم في تعاطي الحقوق، أي: لم يكن ليهلكهم بالكفر وحده حتى ينضاف إليه الفساد، كما أهلك قوم شعيب بالكفر وبخس المكيال والميزان، وقوم لوط بالكفر واللواط، ودل هذا على أن المعاصي أقرب إلى عذاب الاستئصال في الدنيا من الشرك، وإن كان عذاب الشرك في الآخرة أصعب. انتهى. قرطبي.
-ولهذا قال بعض الفقهاء: إن حقوق الله مبنية على المسامحة والمساهلة، وحقوق العباد مبنية على المشاحة والتضييق والتشديد، وقيل: المعنى: لا يهلكهم بظلم منه، وهذا هو المتبادر إلى الأفهام، وقيل: المعنى: ما كان ربك ليهلك أحدا وهو يظلمه، وإن كان على نهاية الصلاح؛ لأنه تصرف في ملكه، {لا يُسْئَلُ عَمّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ} .
هذا؛ ويؤخذ من التفسير الأول: أن الملك والعزة والسيادة تدوم مع الكفر، ولا تدوم مع المعاصي، ولا سيما مع الذين يعتقدون بوحدانية الله تعالى، فإن الله يسلبهم ذلك بشؤم أعمالهم، وما أكثر الأحاديث الشريفة في هذا الصدد، وما نزل بالمسلمين في هذا الأيام من البلاء إنما هو بشؤم أعمالهم.
الإعراب: {وَما} : الواو: حرف استئناف. (ما): نافية: {كانَ} : ماض ناقص.
{رَبُّكَ} : اسم كان، والكاف في محل جر بالإضافة. {لِيُهْلِكَ}: مضارع منصوب ب «أن» مضمرة وجوبا بعد لام الجحود، والفاعل مستتر تقديره:«هو» ، يعود إلى {رَبُّكَ،} و «أن» المضمرة والمضارع في تأويل مصدر في محل جر باللام، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر {كانَ،} التقدير: وما كان ربك مريدا إهلاك. {الْقُرى} : مفعول به منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على الألف للتعذر. {بِظُلْمٍ}: متعلقان بالفعل قبلهما، وجوز تعليقهما بمحذوف حال من الفاعل. {وَأَهْلُها}: الواو: واو الحال. (أهلها): مبتدأ. و (ها): في محل جر بالإضافة. {مُصْلِحُونَ} : خبر المبتدأ مرفوع
…
إلخ، والجملة الاسمية في محل نصب حال من القرى، والرابط: الواو، والضمير.
{وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118)}
الشرح: {وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النّاسَ أُمَّةً واحِدَةً} : يعني كلهم على دين واحد، وشريعة واحدة. {وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ} أي: على أديان متعددة ما بين يهودي، ونصراني، ومجوسي، ومشرك، ومسلم، فكل أهل دين من هذه الأديان قد اختلفوا في دينهم أيضا اختلافا كثيرا لا ينضبط، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«ألا إنّ من قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على اثنتين وسبعين فرقة، وإنّ هذه الأمّة ستفترق على ثلاث وسبعين، اثنتان وسبعون في النّار، وواحدة في الجنّة، وهي الجماعة» . أخرجه أبو داود، وزاد في رواية أخرى:
قال بعض العلماء: المراد بهذه الفرق: أهل البدع، والأهواء الذين تفرقوا، واختلفوا، وظهروا بعده كالخوارج، والقدرية، والمعتزلة، والرافضة، وغيرهم، من أهل البدع والأهواء، والمراد بالواحدة هي فرقة السنة والجماعة الذين اتبعوا الرسول صلى الله عليه وسلم في أقواله وأفعاله، وقيل:
مختلفين في الرزق، فهذا غني، وهذا فقير. ولا وجه له هنا.
وفي الآية دليل ظاهر على أن الأمر غير الإرادة، وأنه تعالى لم يرد الإيمان من كل أحد، وأن ما أراده يجب وقوعه، وإذا علمت أن الإرادة نزوع النفس، وميلها إلى الفعل بحيث يحملها عليه، ويقال للقوة التي مبدأ النزوع، والأول مع الفعل، والثاني قبله، وكلا المعنيين غير متصور اتصاف الباري تعالى به، ولذا اختلف في معنى إرادته، فقيل: إرادته لأفعاله أنه غير ساه، ولا مكره، ولأفعال غيره أمره بها، فعلى هذا لم تكن المعاصي بإرادته، وقيل: علمه باشتمال الأمر على النظام الأكمل، والوجه الأصلح، وهذا الأخير هو المقبول؛ لأن الله لا يأمر بالفحشاء، ولا يرضى لعباده الكفر، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.
الإعراب: {وَلَوْ} : الواو: حرف استئناف. (لو): حرف لما كان سيقع لوقوع غيره. {شاءَ} :
ماض. {رَبُّكَ} : فاعله، والكاف في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله ضمير مستتر فيه، والمفعول محذوف، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي. {لَجَعَلَ} : اللام: واقعة في جواب (لو). (جعل): ماض، وفاعله يعود إلى {رَبُّكَ}. {النّاسَ}: مفعول به أول. {أُمَّةً} : مفعول به ثان. {واحِدَةً} : صفة: {أُمَّةً،} وجملة:
{لَجَعَلَ..} . إلخ جواب (لو)، لا محل لها، و {وَلَوْ} ومدخولها كلام مستأنف لا محل له. {وَلا}:
الواو: واو الحال. (لا): نافية. {يَزالُونَ} : مضارع ناقص مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو اسمه. {مُخْتَلِفِينَ}: خبره منصوب، وعلامة نصبه الياء نيابة عن
الفتحة؛ لأنه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، وجملة:{وَلا يَزالُونَ..} . إلخ في محل نصب حال من {النّاسَ،} والرابط: الواو، والضمير.
الشرح: {إِلاّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ} : يعني لكن من رحمه الله فمنّ عليه بالهداية والتوفيق إلى الحق، وهداه إلى الدين القويم، والصراط المستقيم، فهم لا يختلفون في ذلك. {وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ}: ولقد اختلف في المشار إليه اختلافا كبيرا، وحاصل الأقوال وملخصها: أن الله خلق أهل الباطل، وجعلهم مختلفين، وخلق أهل الحق وجعلهم متفقين، فحكم على بعضهم بالاختلاف، ومصيرهم إلى النار، وحكم على بعضهم بالرحمة-وهم أهل الاتفاق-ومصيرهم إلى الجنة، ويدل على صحة هذا القول سياق الآية. انتهى. خازن.
{وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ} أي: ثبت ذلك كما أخبر وقدّر في أزله، وتمام الكلمة: امتناعها عن قبول التغيير والتبديل. {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ..} . إلخ: وهذا صريح بأن الله سبحانه وتعالى خلق أقواما للجنة، وللرحمة، فهداهم، ووفقهم لأعمال أهل الجنة، وخلق أقواما للنار، فخذلهم ومنعهم من الهداية، وآية السجدة رقم [13] تصريح بهذا أتم تصريح.
-فعن أبي سعيد الخدري-رضي الله عنه-عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «احتجّت الجنّة والنار، فقالت النّار: فيّ الجبّارون والمتكبّرون، وقالت الجنّة: فيّ ضعفاء المسلمين، ومساكينهم، فقضى الله بينهما: إنّك الجنّة رحمتي أرحم بك من أشاء، وإنّك النّار عذابي أعذّب بك من أشاء، ولكليكما عليّ ملؤها» . رواه مسلم.
تنبيه: كلمة فيها ثلاث لغات: الأولى كلمة على وزن نبقة، وهي الفصحى، ولغة أهل الحجاز، وبها نطق القرآن الكريم في آيات كثيرة، وجمعها: كلم كنبق، والثانية: كلمة على وزن سدرة، والثالثة: كلمة على وزن: تمرة، وهما لغتا تميم، وجمع الأولى: كلم كسدر، والثانية:
كلم كتمر، وكذلك كل ما كان على وزن فعل، نحو كبد وكتف، فإنه يجوز فيه اللغات الثلاث، فإن كان الوسط حرف حلق، جاز فيه لغة رابعة، وهي اتباع الأول للثاني في الكسر، نحو فخذ وشهد، وهي في الأصل: قول مفرد، مثل محمد، وقام وقعد
…
إلخ، وقد تطلق على الجمل المفيدة، كما في هذه الآية، وقوله تعالى:{كَلاّ إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها} إشارة إلى قوله: {رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ} وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد» : [الطويل]
ألا كلّ شيء ما خلا الله باطل
…
وكلّ نعيم-لا محالة زائل
المراد «بكلمة» الشطر الأول بكامله، وتقول: قال فلان كلمة، والمراد بها كلام كثير، وهو شائع، ومستعمل عربية في القديم والحديث. هذا؛ و {الْجِنَّةِ}: الجن بكسر الجيم فيهما، والتاء في الأول للمبالغة، وكلاهما جمع جني، والجن: خلق كثير لا يعلمهم إلا الله تعالى، سموا جنّا لاستتارهم عن أعين الناظرين، كما قال تعالى:{إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ} المراد:
إبليس، وجنوده، وانظر ما ذكرته في الآية رقم [50] من سورة (الكهف) تجد ما يسرك ويثلج صدرك.
الإعراب: {إِلاّ} : استثناء منقطع بمعنى: (لكن). {مَنْ} : اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل نصب على الاستثناء، والجملة الفعلية بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف؛ إذ التقدير: لكن الذين، أو ناسا رحمهم ربك. {وَلِذلِكَ}: الواو:
حرف عطف. (لذلك): جار ومجرور متعلقان بما بعدهما، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب لا محل له. {خَلَقَهُمْ}: ماض، والهاء مفعول به، والفاعل يعود إلى:{رَبُّكَ،} والميم حرف دال على جماعة الذكور، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، أو هي مستأنفة لا محل لها؛ إن اعتبرت الضمير عائدا على الفريقين المختلفين، وعلى الأول فالضمير يكون عائدا على المرحومين فقط. {وَتَمَّتْ}: الواو: حرف استئناف. (تمت): ماض، والتاء للتأنيث. {كَلِمَةُ}:
فاعل، وهو مضاف، و {رَبُّكَ}: مضاف إليه، والكاف في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه، والجملة الفعلية (تمت
…
) إلخ مستأنفة لا محل لها.
{لَأَمْلَأَنَّ} : اللام: واقعة في جواب قسم محذوف. (أملأن): مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة التي هي حرف لا محل له، والفاعل مستتر تقديره:«أنا» .
{جَهَنَّمَ} : مفعول به. {مِنَ الْجِنَّةِ} : متعلقان بالفعل قبلهما. (الناس): معطوف على {الْجِنَّةِ} .
{أَجْمَعِينَ} : تأكيد ل {الْجِنَّةِ وَالنّاسِ} فهو مجرور مثلهما وعلامة جره الياء
…
إلخ، والجملة:
{لَأَمْلَأَنَّ..} . إلخ لا محل لها جواب القسم المحذوف، والقسم وجوابه كلام مفسر ل {كَلِمَةُ} .
تأمل، وتدبر، وربك أعلم.
الشرح: {وَكُلاًّ نَقُصُّ عَلَيْكَ} أي: وكل الذين يحتاج إليه من أنباء الرسل نقصه عليك، وانظر شرح (نقصه) في الآية رقم [100]. {مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ} أي: من أخبار الرسل الذين سبقوك، وكيف صبروا على أذى قومهم وتحملوا ذلك منهم. {ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ} أي: ما نقوي به قلبك لتصبر على أذى قومك، وتتأسى بالرسل الذين خلوا من قبلك. {وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ} أي: في هذه السورة، وخص هذه السورة بالذكر؛ لأن فيها أخبار الأنبياء، وما لقوامع أقوامهم من
صنوف الأذى، وقال قتادة والحسن: المعنى في هذه الدنيا، يريد النبوة، وهو أقوى، وهو منقول عن ابن عباس، وأبي موسى الأشعري وغيرهما، هذا؛ وسور القرآن كلها حقّ وصدق، وإنما خص هذه السورة بالذكر تعظيما لها وتشريفا. {وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ}: الموعظة: ما يتعظ به من إهلاك الأمم الماضية، والقرون الخالية المكذبة، وهذا أيضا تشريف لهذه السورة؛ لأن غيرها من السور قد جاء فيها الحق والموعظة والذكرى، ولم يقل فيها كما قال في هذه على التخصيص، وخص المؤمنين بالذكر؛ لأنهم هم الذين يتعظون؛ إذا سمعوا قصص الأنبياء.
بعد هذا انظر شرح {الرُّسُلِ} في الآية رقم [81] و (نا) في الآية رقم [8]. والنبأ: الخبر وزنا ومعنى، ويقال: النبأ أخص من الخبر؛ لأن النبأ لا يطلق إلا على كل ما له شأن، وخطر من الأخبار، وقال الراغب: النبأ: خبر ذو فائدة، يحصل به علم، أو غلبة ظن، ولا يقال للخبر في الأصل نبأ حتى يتضمن هذه الأشياء الثلاثة، وحقه أن يتعرى عن الكذب كالمتواتر وخبر الله تعالى، وخبر الرسول صلى الله عليه وسلم، هذا؛ وفعله يتعدى في الأصل لثلاثة مفاعيل، وقد يجيء الفعل من (نبأ) غير مضمن معنى أعلم، فلذلك يعدى لواحد بنفسه، وللآخر بحرف الجر، وهو كثير في كتاب الله تعالى.
{الْحَقُّ} : ضد الباطل، قال الراغب: أصل الحق المطابقة والموافقة، كمطابقة رجل الباب في حقّه لدورانه على الاستقامة، و {الْحَقُّ} يقال لموجد الشيء بحسب ما تقتضيه الحكمة، ولذلك قيل في الله تعالى: هو الحق، وللموجود بحسب مقتضى الحكمة، ولذلك يقال: فعل الله كله حق، نحو الموت والحساب
…
إلخ، وللاعتقاد في الشيء المطابق لما عليه ذلك الشيء في نفسه، نحو اعتقاد زيد في الجنة حقّ. وللفعل، والقول الواقعين بحسب ما يجب، وقدر ما يجب، في الوقت الذي يجب، نحو: قولك حق، وفعلك حق، ويقال: أحققت ذا، أي: أثبته حقا، أو حكمت بكونه حقا. انتهى. بغدادي.
الإعراب: {وَكُلاًّ} : الواو: حرف استئناف. (كلا): مفعول به مقدم، والتنوين عوض عن المضاف إليه، انظر الشرح. {نَقُصُّ}: مضارع، والفاعل مستتر فيه، وجوبا تقديره:«نحن» .
{عَلَيْكَ} : متعلقان بالفعل قبلهما. {مِنْ أَنْباءِ} : متعلقان بمحذوف صفة (كلا)، و {أَنْباءِ}:
مضاف، و {الرُّسُلِ}: مضاف إليه. {ما} : اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل نصب بدلا من (كلاّ)، أو هي في محل رفع خبر لمبتدإ محذوف، ويجوز أن تكون مفعول {نَقُصُّ،} ويكون (كلاّ) حالا من {ما} أو من الهاء على مذهب من أجاز تقديم حال المجرور عليه، أو من {أَنْباءِ} على هذا المذهب أيضا. انتهى. عكبري. والمعتمد الأول.
{نُثَبِّتُ} : مضارع، والفاعل تقديره:«نحن» . {بِهِ} : متعلقان بالفعل قبلهما. {فُؤادَكَ} :
مفعول به والكاف في محل جر بالإضافة، وجملة:{نُثَبِّتُ..} . إلخ صلة {ما،} أو صفتها، والعائد أو الرابط الضمير المجرور محلاّ بالباء، وجملة:{وَكُلاًّ نَقُصُّ..} . إلخ مستأنفة لا محل
لها. {وَجاءَكَ} : الواو: واو الحال. (جاءك): ماض ومفعوله. {فِي هذِهِ} : متعلقان بالفعل قبلهما. {الْحَقُّ} : فاعل. {وَمَوْعِظَةٌ} : معطوف على {الْحَقُّ} . {وَذِكْرى} : معطوف عليه أيضا، فهو مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر. {لِلْمُؤْمِنِينَ}: متعلقان ب (ذكرى) لأنه مصدر، وجملة: (جاءك
…
) إلخ في محل نصب حال من كاف الخطاب، والرابط: الواو، والضمير، و (قد) مقدرة قبلها، هذا؛ واعتبارها مستأنفة ممكن.
الشرح: {وَلِلّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ} أي: يعلم سبحانه ما غاب عن العباد فيهما، والمعنى:
أن علمه سبحانه نافذ في جميع الأشياء خفيها، وجليها، حاضرها ومعدومها، لا يخفى عليه شيء
في الأرض، ولا في السماء، وقال ابن عباس-رضي الله عنهما: غيب السموات والأرض خزائنهما. {وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ} أي: يوم القيامة؛ إذ ليس لمخلوق أمر إلا بإذنه، هذا؛ ويقرأ {يُرْجَعُ} بالبناء للمعلوم، فيكون لازما، ويقرأ بالبناء للمجهول، فيكون متعديا. {فَاعْبُدْهُ}: انظر العبادة في الآية رقم [62]. {وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} : اعتمد عليه في جميع شئونك، وفوض أمرك إليه.
{وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمّا تَعْمَلُونَ} : فيه وعيد وتهديد، والمعنى: أن الله بالمرصاد لهؤلاء الكافرين، وحافظ لأعمالهم، حتى يجازيهم بها في الآخرة، هذا؛ ويقرأ الفعل بالياء، والتاء.
الإعراب: {وَلِلّهِ} : الواو: حرف استئناف. (لله): متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {غَيْبُ} :
مبتدأ مؤخر، وهو مضاف، و {السَّماواتِ}: مضاف إليه. (الأرض): معطوف على ما قبله، والجملة الاسمية:{وَلِلّهِ غَيْبُ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها. (إليه): متعلقان بالفعل بعدهما.
{يُرْجَعُ} : مضارع. {الْأَمْرُ} : فاعل، أو نائب فاعل، انظر الشرح. {كُلُّهُ}: توكيد لما قبله، على اعتباره متعددا، والهاء في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية:{وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها لا محل لها مثلها. {فَاعْبُدْهُ} : الفاء: حرف عطف على رأي: من يرى جواز عطف الإنشاء على الخبر، وابن هشام يعتبرها للسببية المحضة، وأراها الفاء الفصيحة لأنها أفصحت عن شرط مقدر، التقدير: وإذا كان ذلك حاصلا وواقعا؛ فاعبده. (اعبده): أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» ، والهاء مفعول به، والجملة الفعلية لا محل لها على جميع الوجوه المعتبرة في الفاء. {وَما}: الواو: حرف استئناف. (ما): نافية حجازية تعمل عمل (ليس).
{رَبُّكَ} : اسم (ما) مرفوع، والكاف في محل جر بالإضافة من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. الباء: حرف جر صلة. (غافل): خبر (ما) منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على آخره، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد، وإن اعتبرت (ما) مهملة، فيكون {رَبُّكَ} مبتدأ، والباء زائدة في خبره. {عَمّا}: جار ومجرور متعلقان ب (غافل)، و (ما) تحتمل الموصولة، والموصوفة، والمصدرية فعلى الأولين مبنية على السكون في محل جر ب (عن) والجملة الفعلية بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد أو الرابط محذوف، وتقدير الكلام (وما ربك بغافل عن الذي، أو عن شيء يعملونه)، وعلى اعتبار (ما) مصدرية تؤول مع الفعل بعدها بمصدر في محل جر ب (عن)، التقدير: عن عملهم، والجار والمجرور متعلقان ب (غافل)، والجملة الاسمية:{وَما رَبُّكَ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم، وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.