الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذلك بأمر المؤمنين بأكلهم من الحلال الطيب وشكرهم لنعمة الله عليهم وطاعتهم للرسول فيما به أمر وعنه نهى كيلا يحل بهم مثل ما حل بمن قبلهم، ثم ببيان ما حرمه من المآكل، وأن التحليل والتحريم لا يكونان إلا بنص من الدين لا بالهوى والتشهي، لأن ذلك افتراء على الله، ومن يفتر عليه لا يفلح. وأن ما حرّم على اليهود قد ذكره فيما نزل عليه من قبل فى سورة الأنعام، وأن من يعمل السوء لعدم تدبره فى العواقب كغلبة الشهوة عليه ثم يتوب من بعد ذلك ويصلح أعماله، فإن الله غفور لزلاته، رحيم له، فيثيبه على طاعته.
الإيضاح
(فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّباً وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) أي فكلوا يا معشر المؤمنين مما رزقكم الله من بهائم الأنعام التي أحلها لكم، وذروا الخبائث وهى الميتة والدم، واشكروه على ما أنعم به عليكم، بتحليله ما أحل لكم، وبسائر نعمه المتظاهرة عليكم، إن كنتم تعبدونه، فتطيعونه فيما يأمركم به، وتنتهون عما ينهاكم عنه، والمراد بذلك الحث على اتباع أوامره والمداومة عليها.
وبعد أن أمرهم بالأكل من الطيبات بين لهم ما حرّم عليهم فقال:
(إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ) أي إنما حرم عليكم ربكم أكل الميتة والدم ولحم الخنزير وما ذبح للأنصاب فسمى عليه بغير اسمه تعالى، فإن ذلك من ذبائح من لا يحل أكل ذبيحته.
والخلاصة- إن ما سمى عليه غير الله عند الذبح سواء كان صنما أو وثنا أو روحا خبيثا من جن أو روحا طيبا من إنس كالنبى والولي حيا أو ميتا، فأكله حرام لما
جاء فى الحديث «ملعون من ذبح لغير الله»
سواء سمى الله عند ذبحه أو لم يسم، لأن هذا الحيوان قد انتسب إلى غيره تعالى، فمن ذبح للسيد البدوي أو لإبراهيم الدسوقى أو للسيدة زينب لا يجوز أكل هذا الذبيح.
ثم ذكر الحال التي يسوغ فيها تناول شىء من هذه المحرمات فقال:
(فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي فمن اضطر إلى تناول شىء من هذه المحرمات لمجاعة حلت به، وضرورة دعته إلى أخذ شىء منها، غير باغ على مضطر آخر ولا متعدّ قدر الضرورة وسد الرمق- فالله لا يؤاخذه على ذلك وهو الذي يستر ما يصدر منهم من الهفوات، وهو الرحيم بهم أن يعاقبهم على مثل ذلك، أما ما حرموه غير ذلك من البحائر والسوائب والوصائل ونحوها مما تقدم فى سورة الأنعام فهو محض افتراء على الله، وقد تقدم مثل هذه الآية فى سور البقرة والمائدة والأنعام وفيها حصر المحرمات فى هذه الأربع فحسب.
ثم أكد حصر المحرمات فى هذه الأربع ونهى عن التحريم والتحليل بالأهواء فقال:
(وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ) أي ولا تقولوا هذا حلال وهذا حرام بالرأى والهوى، فلا تقولوا ما فى بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا، ولا تحللوا الميتة والدم ولحم الخنزير إلخ.
وخلاصة ذلك- لا تحللوا ولا تحرموا لمجرد وصف ألسنتكم الكذب وتصويرها له دون استناد إلى دليل، وكأنّ ألسنتكم لأنها منشأ الكذب وينبوعه شخص عالم بحقيقته، ومحيط بكنهه، يصفه للناس ويوضحه لهم أتم إيضاح.
(لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ) أي لتكون عاقبة أمركم إسناد التحريم والتحليل إلى الله كذبا من غير أن يكون ذلك منه، فالله لم يحرم من ذلك ما تحرمون ولا أحل كثيرا مما تحللون.
وإجمال ذلك- لا تسموا ما لم يأتكم حله ولا حرمته عن الله ورسوله حلالا وحراما فتكونوا كاذبين عليه، لأن مدار الحل والحرمة عليه ليس إلا حكمة تعالى.
عن أبى نضرة قال: قرأت هذه الآية فى سورة النحل فلم أزل أخاف الفتيا إلى
يومى هذا- وقد صدق فكل من أفتى بخلاف ما فى كتاب الله وسنة رسوله لجهله بما فيهما فقد ضل وأضل من يفتيهم، ولله در القائل:
كبهيمة عمياء قاد زمامها
…
أعمى على عوج الطريق الحائر
أخرج الطبراني عن ابن مسعود قال: «عسى رجل يقول إن الله أمر بكذا أو نهى عن كذا فيقول الله عز وجل كذبت، أو يقول إن الله حرم كذا أو أحل كذا فيقول الله له كذبت» .
ثم أوعد المفترين وهددهم أشد التهديد فقال:
(إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ) أي إن الذين يتخرّصون الكذب على الله فى أمورهم صغيرها وكبيرها لا يفوزون بخير فى المطالب التي لأجلها كذبوا على ربهم، إذ هم متى عرفوا بالكذب مجّهم الناس وانصرفوا عنهم وعاشوا أذلة بينهم ممقوتين، ويكونون مضرب الأمثال فى الهوان والصغار- إلى ما يصيبهم من الخزي والوبال يوم القيامة.
ثم بين أن ما يحصل لهم من المنافع بالافتراء على الله ليس شيئا مذكورا إذا قيس بالمضارّ التي تنجم منه فقال:
(مَتاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي إن المنافع التي قد تحصل لهم على ذلك فى الدنيا لا يعتدّ بها فى نظر العقلاء إذا ووزن بينها وبين المضارّ التي فى الآخرة، فما متاع الدنيا إلا ظل زائل ثم يفنى ويبقى لهم العذاب الأليم حين مصيرهم إلى ربهم بما اجترحوا من السيئات، ودنّسوا به أنفسهم من أو ضار الإثم والفجور والكذب على بارئهم الذي خلقهم وصوّرهم فأحسن صورهم.
ونحو الآية قوله: «نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ» .
وبعد أن بين ما يحل وما يحرم لأهل الإسلام أتبعه ببيان ما خص به اليهود من المحرمات فقال:
(وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا ما قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ) أي وحرمنا من قبلك
أيها الرسول على اليهود ما أنبأناك به من قبل فى سورة الأنعام: «وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ» .
ثم بين السبب فى ذلك التحريم عليهم فقال:
(وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) أي وما ظلمناهم بتحريم ذلك عليهم، ولكن ظلموا أنفسهم بمعصيتهم لربهم وتجاوزهم حدوده التي حدها لهم وانتهاك حرماته، فعوقبوا بهذا التحريم كما قال فى آية أخرى:«فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ» الآية.
وفى هذا إيماء لى أن ذلك التحريم إنما كان للظلم والبغي عقوبة وتشديدا، وبه يعلم الفرق فى التحريم بينهم وبين غيرهم، فإنه لهم عقوبة، ولنا للمضرّة فحسب.
ثم بيّن أن الافتراء على الله وانتهاك حرماته لا يمنع من التوبة التي يتقبّلها الله منهم، ويغفر لهم زلاتهم رحمة منه وفضلا فقال:
(ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) أي إن ربك للذين افتروا عليه وأشركوا به سواه وركبوا مالا يليق من المعاصي بسبب الجهالة التي تحملهم على انتهاك حرمات الدين كالقتل للغيرة أو للعصبية كما
جاء فى الخبر «اللهم إنى أعوذ بك من أن أجهل أو يجهل علىّ» .
وقال عمرو بن كلثوم:
ألا لا يجهلن أحد علينا
…
فنجهل فوق جهل الجاهلينا
إنه لغفور رحيم لهم إذ هم تابوا وندموا على ما فرط منهم، وأصلحوا أعمالهم ففعلوا ما يحب الله ورسوله.
وفى قوله: بجهالة، إيماء إلى أن من يأتى الذنوب قلّما يفكر فى العاقبة، لغلبة الشهوة عليه أو لجهالة الشباب والطيش.