الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إنا مجبورون على أعمالنا، فلا فائدة من إرسالهم، فلو شاء الله أن نؤمن به ولا نشرك به شيئا ونحل ما أحله ولا نحرم شيئا مما حرمنا لكان الأمر كما أراد، لكنه لم يشأ إلا ما نحن عليه، فما يقوله الرسل إنما هو من تلقاء أنفسهم لا من عند الله.
وقد رد الله عليهم مقالهم بأنه كلام قد سبق بمثله المكذبون من الأمم السالفة، وما على الرسل إلا التبليغ وليس عليهم الهداية، ولم يترك الله أمة دون أن يرسل إليها هاديا يأمر بعبادته، وينهاهم عن الضلال والشرك، فمنهم من استجاب دعوته، ومنهم من أضله الله على علم، فحقت عليهم كلمة ربك، وأخذهم أخذ عزيز مقتدر، ثم أمرهم بالضرب فى الأرض ليروا آثار أولئك المكذبين الذين أخذوا بذنوبهم، ثم ذكّر رسوله بأن الحرص على إيمانهم لا ينفعك شيئا، فإن الله لا يخلق الهداية جبرا وقسرا فيمن يختار الضلالة لنفسه، كما لا يجد أحدا يدفع عنه بأس الله ونقمته.
الإيضاح
(وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ) أي وقال الذين أشركوا بالله فعبدوا الأصنام والأوثان من دونه تعالى معتذرين عما هم عليه من الشرك محتجين بالقدر: ما نعبد هذه الأصنام إلا لأنه قد رضى عبادتنا لها، ولا حرّمنا ما حرمنا من البحائر والسوائب والوصائل ونحو ذلك إلا لأنه قد رضى ذلك منا، ولو كان كارها لما فعلنا لهدانا إلى سواء السبيل، أو لعجّل لنا العقوبة وما مكننا من عبادتها.
وقد رد الله عليهم شبهتهم بقوله:
َذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ)
أي ومثل ذلك الفعل الشنيع فعل الذين من قبلهم من الأمم، واستن هؤلاء سنتهم وسلكوا سبيلهم فى تكذيب الرسول واتباع أفعال آبائهم الضلّال.
ثم بين خطأهم فيما يقولون ويفعلون فقال:
(فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) أي فهل على الرسل الذين أمروا بتبليغ رسالات ربهم من أمره ونهيه إلا إبلاغ الرسالة وإيضاح طريق الحق وإظهار أحكام الوحى التي منها أن مشيئته تعالى تتعلق بهداية من وجّه همته إلى تحصيل الحق كما قال «وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا» وليس من وظيفتهم إلجاء الناس إلى الإيمان شاءوا أو أبوا، فإن ذلك ليس من شأنهم، ولا من الحكمة التي عليها مدار التكليف حتى يستدل بعدم ظهور آثارها على عدم حقية الرسل أو على عدم تعلق مشيئة الله بذلك وقصارى هذا- إن الثواب والعقاب لا بد فيهما من أمرين: تعلق مشيئته تعالى بوقوع أحدهما، وتوجيه همة العبد إلى تحصيل أسبابه وصرف اختياره إلى الدأب على إيجاده، وإلا كان كل من الثواب والعقاب اضطراريا لا اختياريا، والرسل ليس من شأنهم إلا تبليغ الأوامر والنواهي، أما العمل بها إلجاء وقسرا فليس من وظيفتهم لا فى كثير ولا قليل.
ثم بين سبحانه أن بعثة الرسل أمر جرت به السنة الإلهية فى الأمم كلها وجعلت سببا لهدى من أراد الله هدايته، وزيادة ضلال من أراد ضلاله كالغذاء الصالح ينفع المزاج السرىّ ويقويّه، ويضر المزاج المنحرف ويفنيه فقال:
(وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) أي ولقد أرسلنا فى كل أمة سلفت قبلكم رسولا كما بعثنا فيكم رسولا، فقال لهم: اعبدوا الله وحده لا شريك له، واحذروا أن يغويكم الشيطان ويصدكم عن سبيل الله فتضلوا.
ونحو الآية قوله: «وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ» وقوله: «وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ؟» .
وإجمال القول- إن المشيئة الشرعية للكفر منتفية، لأنه تعالى نهاهم عن ذلك على ألسنة رسله، والمشيئة الكونية وهى تمكين عباده من الكفر وتقديره لهم
بحسب اختيارهم وصرف همتهم إلى تحصيل أسبابه، لا حجة لهم فيها، لأنه تعالى خلق النار وجعل أهلها من الشياطين وأهل الكفر، وهو لا يرضى لعباده الكفر، وله فى ذلك حجة ناصعة وحكمة بالغة.
ثم بين سبحانه أنه أنكر على عباده المكذبين كفرهم بإنزال العقوبة بهم فى الدنيا بعد إنذار الرسل فقال:
(فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ) أي فممن بعثنا فيهم رسلنا من هداه الله ووفقه لتصديقهم وقبول إرشادهم والعمل بما جاءوا به، ففازوا وأفلحوا ونجوا من عذابه، ومنهم من جاروا عن قصد السبيل، فكفروا بالله وكذبوا رسله واتبعوا الطاغوت، فأهلكهم بعقابه، وأنزل بهم شديد بأسه الذي لا يردّ عن القوم المجرمين.
(فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) أي فسيروا فى الأرض التي كان يسكنها القوم الظالمون، والبلاد التي كانوا يعمرونها كديار عاد وثمود ومن سار سيرتهم ممن حقت عليه الضلالة، وانظروا إلى آثار سخطنا عليهم، لعلكم تعتبرون بما حل بهم.
ثم خاطب سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم مسلّيا له على ما يراه من جحود قومه وشديد إعراضهم ومبالغتهم فى عنادهم، مع حدبه عليهم وعظيم رغبته فى إيمانهم، ومبينا له أن الأمر بيد الله وليس له من الأمر شىء فقال:
(إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ) أي إن تحرص أيها الرسول على هداية قومك- لا ينفعهم حرصك إذا كان الله يريد إضلالهم بسوء اختيارهم وتوجيه عزائمهم، إلى عمل المعاصي والإشراك بربهم.
ونحو الآية قوله: «إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ» وقوله حكاية عن مقالة نوح لقومه: «وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ» وقوله: «مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ» .