الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يقال أعتبنى فلان: أي أرضانى بعد إسخاطه إياى، قال الخليل: تقول استعتبته فأعتبنى:
أي استرضيته فأرضانى، قال النابغة في اعتذار يأته للنعمان بن المنذر:
فإن أك مظلوما فعبد ظلمته
…
وإن يك ذا عتبى فمثلك يعتب
المعنى الجملي
بعد أن بين كيف عاقب أولئك الجاحدين في الدنيا وأذاقهم عذاب الهون بما كانوا يكسبون- أردف ذلك ذكر عقابهم في الآخرة، ليكون ذلك أتمّ للزجر، وأكثر فى الاعتبار لمن اعتبر.
الإيضاح
(وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ) أي واذكر أيها الرسول لقريش المعاندين لك حال الكفار يوم القيامة، لعلهم يرتدعون ويزدجرون حين يساقون إلى النار، فيحبس أولهم على آخرهم ليتلاحقوا ويجتمعوا قاله السدى وقتادة وغيرهما.
وفي هذا إيماء إلى كثرة عددهم وشدة سوقهم ودفعهم.
(حَتَّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي حتى إذا وقفوا على النار شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجوارحهم بما كانوا يعملون فى الدنيا من المعاصي، بعلامات متمايزة تدل على الأخلاق المختلفة، لكل خلق منها علامة خاصة نحن لا نعرف الآن كنهها، وربما كانت سوائل روحية، كل سائل يدل على خلق من الأخلاق كما يكون في أنواع النبات والشجر روائح مختلفة، فالعلم والحلم والنشاط وجب الناس لها سوائل جميلة، والجهل والطيش والكسل وبغض الناس لها سوائل رديئة، وتلك السوائل تلازمهم فتكون مشقية لهم ومضايقة، أو مفرحة لهم ومنعمة، وهكذا الأجسام بعد الموت لا تشبه نفس نفسا أخرى في أوصافها، فهذه هى الشهادة التي تشهد بها أسماعهم وأبصارهم وجلودهم.
ثم ذكر سبحانه أنهم لاموا جوارحهم على أداء الشهادة التي تلزمهم الحجة، فحكى عنهم قولهم لها.
(وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا؟) أي وقالوا على جهة اللوم والمؤاخذة لجلودهم حين شهدوا عليهم، لم شهدتم علينا؟ وقد كانوا في الدنيا مساعدين لهم على المعاصي، فكيف يشهدون عليهم الآن؟.
فأجابوهم حينئذ معتذرين:
(قالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ) أي قالوا: إن الله جعل فينا من الدلالات الفعلية ما يقوم مقام النطق، بل ما هو أفصح منها، فشهدنا عليكم بما فعلتم من القبائح.
(وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) فهو لا يخالف ولا يمانع، وقد جعل فيكم دلائل واضحة كخطوط اليد والإبهام والأصوات وألوان الوجوه وأشكالها، ولكنّ قليلا من الناس من يفطن إلى ذلك.
فمن قدر على خلقكم وإنشائكم ابتداء قدر على إعادتكم ورجعكم إليه، ومن ثم قال:
(وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) أي وإليه مصيركم بعد مماتكم، فيجازى كل نفس بما كسبت.
لا معقّب لحكمه، وهو سريع الحساب.
ثم وبختهم جلودهم على ما كانوا يفعلون في الدنيا فقالت لهم:
(وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ) أي وما كنتم تستخفون حين تفعلون قبيح الأعمال، وترتكبون عظيم الفواحش- بالحيطان والحجب حذرا من شهادة الجوارح عليكم، بل كنتم تجاهرون بالكفر والمعاصي، وتجحدون البعث والجزاء.
قال عبد الأعلى بن عبد الله الشامي فأحسن:
العمر ينقص والذنوب تزيد
…
وتقال عثرات الفتى فيزيد
هل يستطيع جحود ذنب واحد
…
رجل جوارحه عليه شهود؟
والمرء يسأل عن سنيه فيشتهى
…
تقليلها وعن الممات يحيد
(وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ) أي ولكن ظننتم عند استتاركم من الناس مع عدم استتاركم من أعضائكم أن الله لا يعلم كثيرا مما كنتم تعملون من المعاصي فاجترأتم على فعلها.
والخلاصة- إنكم كنتم في الدنيا تستترون عن الناس خوف الفضيحة والعار حين ارتكاب الذنوب، وما ظننتم أن أعضاءكم وجسمكم الأثيرى الذي هو على صورة الجسم الظاهري قد سطرت فيه جميع أعمالكم، كأنه لوح محفوظ لها، فلذلك ما كنتم تستترون عنها بترك الذنوب.
وفي الآية إيماء إلى أنه لا ينبغى للمؤمن أن تمر عليه حال إلا وهو يفكر في أن الله رقيب عليه، كما قال أبو نواس:
إذا ما خلوت الدهر يوما فلا تقل
…
خلوت ولكن قل علىّ رقيب
ولا تحسبنّ الله يغفل ساعة
…
ولا أنّ ما يخفى عليه يغيب
أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن مسعود قال: «كنت مستترا بأستار الكعبة فجاء ثلاثة نفر قرشى وثقفيان، أو ثقفى وقرشيان، قليل فقه قلوبهم، كثير شحم
بطونهم، فتكلموا بكلام لم أسمعه، فقال أحدهم: أترون أن الله يسمع كلامنا هذا؟
فقال الآخر: إنا إذا رفعنا أصواتنا سمعه، وإذا لم نرفعه لم يسمعه، فقال الآخر: إن سمع منه شيئا سمع كله، قال: فذكرت ذلك للنبى صلى الله عليه وسلم فأنزل الله عز وجل:
(وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ) أي وهذا الظن الفاسد الذي قد كان منكم في الدنيا وهو أن الله لا يعلم كثيرا من قبائح أعمالكم ومساويها هو الذي أوقعكم في مواقع التلف والردى، فصرتم اليوم من الهالكين، إذ صرفتم ما منحتم من أسباب السعادة إلى الشقاء، فكفرتم نعم الخالق والرازق، وانهمكتم فى الشهوات والمعاصي.
أخرج أحمد وأبو داود والطيالسي وعبد ابن حميد ومسلم، وأبو داود وابن ماجه وابن مردويه عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يموتنّ أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله تعالى، فإن قوما قد أرادهم سوء ظنهم بالله فقال الله: «وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ» .
قال العلماء: الظن قسمان:
(1)
حسن وهو أن يظن بالله عز وجل الرحمة والفضل والإحسان، قال صلى الله عليه وسلم حكاية عن الله عز وجل «أنا عند ظن عبدى بي» .
(2)
قبيح وهو أن يظن أن الله يعزب عن علمه بعض الأفعال.
وقال قتادة، الظن نوعان: منج ومرد.
(1)
فالمنجى قوله: «إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ» وقوله: «الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ» .
(2)
والمردي هو قوله: «وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ» .