الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَمِنْ مَبَاحِثِ اللُّغَةِ أَنَّ لَفْظَ الرَّحْمَنِ خَاصٌّ بِاللهِ تَعَالَى كَلَفْظِ الْجَلَالَةِ. قَالُوا: لَمْ يُسْمَعْ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَرَبِ أَنَّهُ أَطْلَقَهُ عَلَى غَيْرِ اللهِ تَعَالَى، وَكَذَلِكَ لَفْظُ " رَحْمَنٍ " غَيْرُ مُعَرَّفٍ، قَالُوا: لَمْ يُرِدْ إِطْلَاقَهُ عَلَى غَيْرِ اللهِ تَعَالَى إِلَّا فِي شِعْرٍ لِبَعْضِ الَّذِينَ فُتِنُوا بِمُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ قَالَ فِيهِ: "
وَأَنْتَ غَيْثُ الْوَرَى لَا زِلْتَ رَحْمَانًا
" وَقِيلَ: إِنَّ هَذَا تَعَنُّتٌ وَغُلُوٌّ لَا مِنَ الِاسْتِعْمَالِ الْمَعْرُوفِ عِنْدَ الْعَرَبِ، وَأَمَّا الْعَرَبُ فَكَانَتْ تُطْلِقُ لَفْظَ رَبٍّ عَلَى النَّاسِ، يَقُولُونَ: رَبُّ الدَّارِ وَرَبُّ هَذِهِ الْأَنْعَامِ مَثَلًا لَا رَبُّ الْأَنْعَامِ مُطْلَقًا. قَالَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ فِي يَوْمِ الْفِيلِ: أَمَّا الْإِبِلُ فَأَنَا رَبُّهَا، وَأَمَّا الْبَيْتُ فَإِنَّ لَهُ رَبًّا يَحْمِيهِ، وَقَالَ
تَعَالَى فِي حِكَايَةِ قَوْلِ يُوسُفَ عليه السلام فِي مَوْلَاهُ عَزِيزِ مِصْرَ: (إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ)(12: 23) وَيَرَى بَعْضُ الْعُلَمَاءِ أَنَّ هَذَا الِاسْتِعْمَالَ مَمْنُوعٌ فِي الْإِسْلَامِ، وَاسْتَدَلَّ بِالنَّهْيِ فِي الْحَدِيثِ عَنْ قَوْلِ الْمَمْلُوكِ لِسَيِّدِهِ " رَبِّي " وَالصَّوَابُ أَنْ يُمْنَعَ مَا وَرَدَ النَّصُّ بِهِ كَهَذَا الِاسْتِعْمَالِ، وَمَا مِنْ شَأْنِهِ أَلَّا يُقَالَ إِلَّا فِي الْبَارِئِ تَعَالَى كَلَفْظِ الرَّبِّ بِالتَّعْرِيفِ مُطْلَقًا، وَلَفْظِ رَبِّ النَّاسِ، رَبِّ الْمَخْلُوقَاتِ، رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ.
(مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ
قَرَأَ عَاصِمٌ وَالْكِسَائِيُّ وَيَعْقُوبُ: " مَالِكِ " وَالْبَاقُونَ " مَلِكِ " وَعَلَيْهَا أَهْلُ الْحِجَازِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْمَالِكَ ذُو الْمِلْكِ بِكَسْرِ الْمِيمِ، وَالْمَلِكَ ذُو الْمُلْكِ بِضَمِّهَا، وَالْقُرْآنُ يَشْهَدُ لِلْأَوْلَى بِمِثْلِ قَوْلِهِ:(يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا)(82: 19) وَلِلثَّانِيَةِ بِقَوْلِهِ: (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ)
(4
0: 16) قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ قِرَاءَةَ مَلِكٍ أَبْلَغُ؛ لِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ يُفْهَمُ مِنْهُ مَعْنَى السُّلْطَانِ وَالْقُوَّةِ وَالتَّدْبِيرِ. قَالَ آخَرُونَ: إِنَّ الْقِرَاءَةَ الْأُخْرَى أَبْلَغُ؛ لِأَنَّ الْمَلِكَ هُوَ الَّذِي يُدَبِّرُ أَعْمَالَ رَعِيَّتِهِ الْعَامَّةَ، وَلَا تَصَرُّفَ لَهُ بِشَيْءٍ مِنْ شُئُونِهِمُ الْخَاصَّةِ، وَالْمَالِكُ سُلْطَتُهُ أَعَمُّ، فَلَا رَيْبَ أَنَّ مَالِكَهُ هُوَ الَّذِي يَتَوَلَّى جَمِيعَ شُئُونِهِ دُونَ سُلْطَانِهِ.
وَأَقُولُ الْآنَ: الظَّاهِرُ أَنَّ قِرَاءَةَ " مَلِكٍ " أَبْلَغُ؛ لِأَنَّ مَعْنَاهَا الْمُتَصَرِّفُ فِي أُمُورِ الْعُقَلَاءِ الْمُخْتَارِينَ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْجَزَاءِ، وَلِهَذَا يُقَالُ:(مَلِكُ النَّاسِ) وَلَا يُقَالُ مَلِكُ الْأَشْيَاءِ. قَالَهُ الرَّاغِبُ. وَقَالَ فِي (مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ) تَقْدِيرُهُ الْمَلِكُ فِي يَوْمِ الدِّينِ؛ لِقَوْلِهِ: (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ) اهـ. وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا أَبْلَغَ؛ لِأَنَّ السِّيَاقَ يَدُلُّنَا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْآيَةِ تَذْكِيرُ الْمُكَلَّفِينَ بِمَا يَنْتَظِرُهُمْ مِنَ الْجَزَاءِ عَلَى أَعْمَالِهِمْ رَجَاءَ أَنْ تَسْتَقِيمَ أَحْوَالُهُمْ، وَمَعْنَى (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) قَدْ يُسْتَفَادُ مِنْ قَوْلِهِ " (رَبِّ الْعَالَمِينَ " عَلَى أَنَّ مَجْمُوعَ الْقِرَاءَتَيْنِ يَدُلُّ عَلَى الْمَعْنَيَيْنِ فَكِلَاهُمَا ثَابِتٌ، وَلَكِنَّ الْقِرَاءَةَ فِي الصَّلَاةِ بِمَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ تُثِيرُ مِنَ الْخُشُوعِ مَا لَا تُثِيرُهُ الْقِرَاءَةُ الْأُخْرَى الَّتِي يُفَضِّلُهَا بَعْضُهُمْ؛ لِأَنَّهَا تَزِيدُ حَرْفًا فِي النُّطْقِ. وَوَرَدَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ لِلْقَارِئِ بِكُلِّ
حَرْفٍ كَذَا حَسَنَةٍ، وَلَكِنْ فَاتَهُمْ أَنَّ حَسَنَةً وَاحِدَةً تَكُونُ أَكْبَرَ تَأْثِيرًا فِي الْقَلْبِ خَيْرٌ مِنْ مِائَةِ حَسَنَةٍ يَكُنَّ دُونَهَا فِي التَّأْثِيرِ.
وَ (الدِّينُ) يُطْلَقُ فِي اللُّغَةِ عَلَى الْحِسَابِ وَعَلَى الْمُكَافَأَةِ، وَوَرَدَ " كَمَا تَدِينُ تُدَانُ " وَقَالَ الشَّاعِرُ:
وَلَمْ يَبْقَ سِوَى الْعُدْوَا
…
نِ دِنَّاهُمْ كَمَا دَانُوا
وَعَلَى الْجَزَاءِ وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ مَعْنَى الْمُكَافَأَةِ، وَعَلَى الطَّاعَةِ، وَعَلَى الْإِخْضَاعِ، وَعَلَى السِّيَاسَةِ؛ يُقَالُ: دِنْتُهُ، وَدَيَّنْتُهُ فُلَانًا (بِالتَّشْدِيدِ) أَيْ وَلَّيْتُهُ سِيَاسَتَهُ، وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ مَعْنَى الْإِخْضَاعِ، وَعَلَى الشَّرِيعَةِ: مَا يُؤْخَذُ الْعِبَادُ بِهِ مِنَ التَّكَالِيفِ. وَالْمُنَاسِبُ هُنَا مِنْ هَذِهِ الْمَعَانِي الْجَزَاءُ وَالْخُضُوعُ وَإِنَّمَا قَالَ " يَوْمِ الدِّينِ " وَلَمْ يَقُلِ " الدِّينِ " لِتَعْرِيفِنَا بِأَنَّ لِلدِّينِ يَوْمًا مُمْتَازًا عَنْ سَائِرِ الْأَيَّامِ، وَهُوَ الْيَوْمُ الَّذِي يَلْقَى فِيهِ كُلُّ عَامِلٍ عَمَلَهُ وَيُوَفَّى جَزَاءَهُ.
وَلِسَائِلٍ أَنْ يَسْأَلَ: أَلَيْسَتْ كُلُّ الْأَيَّامِ أَيَّامَ جَزَاءٍ. وَكُلُّ مَا يُلَاقِيهِ النَّاسُ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ مِنَ الْبُؤْسِ هُوَ جَزَاءٌ عَلَى تَفْرِيطِهِمْ فِي أَدَاءِ الْحُقُوقِ وَالْقِيَامِ بِالْوَاجِبَاتِ الَّتِي عَلَيْهِمْ؟ وَالْجَوَابُ: بَلَى إِنَّ أَيَّامَنَا الَّتِي نَحْنُ فِيهَا قَدْ يَقَعُ فِيهَا الْجَزَاءُ عَلَى أَعْمَالِنَا، وَلَكِنْ رُبَّمَا لَا يَظْهَرُ لِأَرْبَابِهِ إِلَّا عَلَى بَعْضِهَا دُونَ جَمِيعِهَا. وَالْجَزَاءُ عَلَى التَّفْرِيطِ فِي الْعَمَلِ الْوَاجِبِ إِنَّمَا يَظْهَرُ فِي الدُّنْيَا ظُهُورًا تَامًّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَجْمُوعِ الْأُمَّةِ لَا إِلَى كُلِّ فَرْدٍ مِنَ الْأَفْرَادِ، فَمَا مِنْ أُمَّةٍ انْحَرَفَتْ عَنْ صِرَاطِ اللهِ الْمُسْتَقِيمِ وَلَمْ تُرَاعِ سُنَنَهُ فِي خَلِيقَتِهِ إِلَّا وَأَحَلَّ بِهَا الْعَدْلُ الْإِلَهِيُّ مَا تَسْتَحِقُّ مِنَ الْجَزَاءِ كَالْفَقْرِ وَالذُّلِّ وَفَقْدِ الْعِزَّةِ وَالسُّلْطَةِ. وَأَمَّا الْأَفْرَادُ فَإِنَّنَا نَرَى كَثِيرًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ الظَّالِمِينَ يَقْضُونَ أَعْمَارَهُمْ مُنْغَمِسِينَ فِي الشَّهَوَاتِ وَاللَّذَّاتِ، نَعَمْ إِنَّ ضَمَائِرَهُمْ تُوَبِّخُهُمْ أَحْيَانًا وَإِنَّهُمْ لَا يَسْلَمُونَ مِنَ الْمُنَغِّصَاتِ،