الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: جَاءَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ عَلَى أُسْلُوبِ الْقُرْآنِ الْخَاصِّ الَّذِي لَمْ يُسْبَقْ إِلَيْهِ وَلَمْ يُلْحَقْ فِيهِ، فَهُوَ فِي هَذِهِ الْقَصَصِ لَمْ يَلْتَزِمْ تَرْتِيبَ الْمُؤَرِّخِينَ، وَلَا طَرِيقَةَ الْكُتَّابِ فِي تَنْسِيقِ الْكَلَامِ وَتَرْتِيبِهِ عَلَى حَسَبِ الْوَقَائِعِ حَتَّى فِي الْقِصَّةِ الْوَاحِدَةِ، وَإِنَّمَا يُنَسِّقُ الْكَلَامَ فِيهِ بِأُسْلُوبٍ يَأْخُذُ بِمَجَامِعِ الْقُلُوبِ، وَيُحَرِّكُ الْفِكْرَ إِلَى النَّظَرِ تَحْرِيكًا، وَيَهُزُّ النَّفْسَ لِلْاعْتِبَارِ هَزًّا. وَقَدْ رَاعَى فِي قَصَصِ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْوَاعَ الْمِنَنِ الَّتِي مَنَحَهُمُ اللهُ - تَعَالَى - إِيَّاهَا، وَضُرُوبَ الْكُفْرَانِ وَالْفُسُوقِ الَّتِي قَابَلُوهَا بِهَا، وَمَا كَانَ فِي أَثَرِ كُلِّ ذَلِكَ مِنْ تَأْدِيبِهِمْ بِالْعُقُوبَاتِ، وَابْتِلَائِهِمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ، وَكَيْفَ كَانُوا يُحْدِثُونَ فِي أَثَرِ كُلِّ عُقُوبَةٍ تَوْبَةً، وَيُحْدِثُ لَهُمْ فِي أَثَرِ كُلِّ تَوْبَةٍ نِعْمَةً، ثُمَّ يَعُودُونَ إِلَى بَطَرِهِمْ، وَيَنْقَلِبُونَ إِلَى كُفْرِهِمْ.
كَانَ فِي الْآيَاتِ السَّابِقَةِ يَذْكُرُ النِّعْمَةَ، فَالْمُخَالَفَةَ، فَالْعُقُوبَةَ، فَالتَّوْبَةَ، فَالرَّحْمَةَ كَالتَّفْضِيلِ عَلَى الْعَالَمِينَ، وَأَخْذِ الْمِيثَاقِ، وَالْإِنْجَاءِ مِنْ فِرْعَوْنَ، وَمَا كَانَ فِي أَثَرِ ذَلِكَ عَلَى مَا أَشَرْنَا الْآنَ وَأَجْمَلْنَا، وَأَوْضَحْنَا مِنْ قَبْلُ وَفَصَّلْنَا، وَفِي هَذِهِ الْقِصَّةِ اخْتَلَفَ النَّسَقُ فَذَكَرَ الْمُخَالَفَةَ بَعْدُ فِي قَوْلِهِ:(وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا) (2:
72)
ثُمَّ الْمِنَّةَ فِي الْخَلَاصِ مِنْهَا فِي قَوْلِهِ: (فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا)(2: 73) . . . إِلَخْ، وَقَدَّمَ عَلَى ذَلِكَ ذِكْرَ وَسِيلَةِ الْخَلَاصِ، وَهِيَ ذَبْحُ الْبَقَرَةِ بِمَا يُعْجِبُ السَّامِعَ وَيُشَوِّقُهُ إِلَى مَعْرِفَةِ مَا وَرَاءَهَا (حَيْثُ لَمْ يَسْبِقْ فِي الْكَلَامِ عَهْدٌ لِسَبَبِ أَمْرِ مُوسَى لِقَوْمِهِ أَنْ يَذْبَحُوا بَقَرَةً، فَالْمُفَاجَأَةُ بِحِكَايَةِ مَا كَانَ مِنْ ذَلِكَ الْأَمْرِ، وَالْجِدَالِ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ يُثِيرُ الشَّوْقَ فِي الْأَنْفُسِ إِلَى مَعْرِفَةِ السَّبَبِ، فَتَتَوَجَّهُ الْفِكْرَةُ بِأَجْمَعِهَا إِلَى تَلَقِّيهِ) إِذِ الْحِكْمَةُ فِي أَمْرِ اللهِ أُمَّةً مِنَ الْأُمَمِ بِذَبْحِ بَقَرَةٍ
خَفِيَّةٌ وَجَدِيرَةٌ بِأَنْ يَعْجَبَ مِنْهَا السَّامِعُ وَيَحْرِصَ عَلَى طَلَبِهَا، لَا سِيَّمَا إِذَا لَمْ يَعْتَدْ فَهْمَ الْأَسَالِيبِ الْأَخَّاذَةِ بِالنُّفُوسِ الْهَازَّةِ لِلْقُلُوبِ. وَأَقُولُ: قَدْ جَرَى عَلَى هَذَا الْأُسْلُوبِ كُتَّابُ الْقِصَصِ الْمُخْتَرَعَةِ وَالْأَسَاطِيرِ الَّتِي يُسَمُّونَهَا الرِّوَايَاتِ فِي هَذَا الْعَصْرِ.
يَقُولُ أَهْلُ الشُّبُهَاتِ فِي الْقُرْآنِ: إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا يَعْرِفُونَ هَذِهِ الْقِصَّةَ؛ إِذْ لَا وُجُودَ لَهَا فِي التَّوْرَاةِ، فَمِنْ أَيْنَ جَاءَ بِهَا الْقُرْآنُ؟ وَنَقُولُ: إِنَّ الْقُرْآنَ جَاءَ بِهَا مِنْ عِنْدِ اللهِ الَّذِي يَقُولُ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ الْمُتَأَخِّرِينَ: إِنَّهُمْ نَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ، وَإِنَّهُمْ لَمْ يُؤْتَوْا إِلَّا نَصِيبًا مِنَ الْكُتَّابِ، عَلَى أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ مَنْصُوصٌ فِي التَّوْرَاةِ، وَهُوَ أَنَّهُ إِذَا قُتِلَ قَتِيلٌ لَمْ يُعْرَفْ قَاتِلُهُ، فَالْوَاجِبُ أَنْ تُذْبَحَ بَقَرَةٌ غَيْرُ ذَلُولٍ فِي وَادٍ دَائِمِ السَّيَلَانِ، وَيَغْسِلَ جَمِيعُ شُيُوخِ الْمَدِينَةِ الْقَرِيبَةِ مِنَ الْمَقْتَلِ أَيْدِيَهُمْ عَلَى الْعِجْلَةِ الَّتِي كُسِرَ عُنُقُهَا فِي الْوَادِي، ثُمَّ يَقُولُونَ: إِنَّ أَيْدِيَنَا لَمْ تَسْفِكْ هَذَا الدَّمَ، اغْفِرْ لِشَعْبِكَ إِسْرَائِيلَ، وَيُتِمُّونَ دَعَوَاتٍ يَبْرَأُ بِهَا مَنْ يَدْخُلُ فِي هَذَا الْعَمَلِ مِنْ دَمِ الْقَتِيلِ، وَمَنْ لَمْ يَفْعَلْ يَتَبَيَّنُ أَنَّهُ الْقَاتِلُ، وَيُرَادُ بِذَلِكَ حَقْنُ الدِّمَاءِ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْحُكْمُ هُوَ مِنْ بَقَايَا تِلْكَ الْقِصَّةِ، أَوْ كَانَتْ هِيَ السَّبَبُ فِيهِ، وَمَا هَذِهِ بِالْقِصَّةِ الْوَحِيدَةِ الَّتِي صَحَّحَهَا الْقُرْآنُ، وَلَا هَذَا الْحُكْمُ بِالْحُكْمِ الْأَوَّلِ الَّذِي حَرَّفُوهُ أَوْ أَضَاعُوهُ وَأَظْهَرَهُ اللهُ - تَعَالَى. (قَالَ الْأُسْتَاذُ) : وَقَدْ قُلْتُ لَكُمْ غَيْرَ مَرَّةٍ: إِنَّهُ يَجِبُ الِاحْتِرَاسُ فِي قِصَصِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَعَدَمِ الثِّقَةِ بِمَا زَادَ
عَلَى الْقُرْآنِ مِنْ أَقْوَالِ الْمُؤَرِّخِينَ وَالْمُفَسِّرِينَ، فَالْمُشْتَغِلُونَ بِتَحْرِيرِ التَّارِيخِ وَالْعِلْمِ الْيَوْمَ يَقُولُونَ مَعَنَا: إِنَّهُ لَا يُوثَقُ بِشَيْءٍ مِنْ تَارِيخِ تِلْكَ الْأَزْمِنَةِ الَّتِي يُسَمُّونَهَا أَزْمِنَةَ الظُّلُمَاتِ إِلَّا بَعْدَ التَّحَرِّي وَالْبَحْثِ وَاسْتِخْرَاجِ الْآثَارِ، فَنَحْنُ نَعْذُرُ الْمُفَسِّرِينَ الَّذِينَ حَشَوْا كُتُبَ التَّفْسِيرِ بِالْقِصَصِ الَّتِي لَا يُوثَقُ بِهَا لِحُسْنِ قَصْدِهِمْ، وَلَكِنَّنَا لَا نُعَوِّلُ عَلَى ذَلِكَ بَلْ نَنْهَى عَنْهُ، وَنَقِفُ عِنْدَ نُصُوصِ الْقُرْآنِ لَا نَتَعَدَّاهَا، وَإِنَّمَا نُوَضِّحُهَا بِمَا يُوَافِقُهَا إِذَا صَحَّتْ رِوَايَتُهُ.
(وَأَقُولُ) : إِنَّ مَا أَشَارَ إِلَيْهِ الْأُسْتَاذُ مِنْ حُكْمِ التَّوْرَاةِ الْمُتَعَلِّقِ بِقَتْلِ الْبَقَرَةِ هُوَ فِي أَوَّلِ الْفَصْلِ الْحَادِي وَالْعِشْرِينَ مِنْ سِفْرِ تَثْنِيَةِ الِاشْتِرَاعِ وَنَصُّهُ:
(1)
إِذَا وُجِدَ قَتِيلٌ فِي الْأَرْضِ الَّتِي يُعْطِيكَ الرَّبُّ إِلَهُكَ لِتَمْتَلِكَهَا وَاقِعًا فِي الْحَقْلِ لَا يُعْلَمُ مَنْ قَتَلَهُ.
(2)
يَخْرُجُ شُيُوخُكَ وَقُضَاتُكَ وَيَقِيسُونَ إِلَى الْمُدُنِ الَّتِي حَوْلَ الْقَتِيلِ.
(3)
فَالْمَدِينَةُ الْقُرْبَى مِنَ الْقَتِيلِ يَأْخُذُ شُيُوخُ تِلْكَ الْمَدِينَةِ عِجْلَةٌ مِنَ الْبَقَرِ لَمْ يُحْرَثْ عَلَيْهَا لَمْ تَجُرَّ بِالنِّيرِ.
(4)
وَيَنْحَدِرُ شُيُوخُ تِلْكَ الْمَدِينَةِ بِالْعِجْلَةِ إِلَى وَادٍ دَائِمِ السَّيَلَانِ لَمْ يُحْرَثْ فِيهِ وَلَمْ يُزْرَعْ وَيَكْسِرُونَ عُنُقَ الْعِجْلَةِ فِي الْوَادِي.
(5)
ثُمَّ يَتَقَدَّمَ الْكَهَنَةُ بَنُو لَاوَى. لِأَنَّهُ إِيَّاهُمُ اخْتَارَ الرَّبُّ إِلَهُكَ لِيَخْدِمُوهُ وَيُبَارِكُوا بِاسْمِ الرَّبِّ، وَحَسَبَ قَوْلِهِمْ تَكُونُ كُلُّ خُصُومَةٍ وَكُلُّ ضَرْبَةٍ.
(6)
وَيَغْسِلُ جَمِيعُ شُيُوخِ تِلْكَ الْمَدِينَةِ الْقَرِيبِينَ مِنَ الْقَتِيلِ أَيْدِيَهُمْ عَلَى الْعِجْلَةِ الْمَكْسُورَةِ الْعُنُقِ فِي الْوَادِي.
(7)
وَيُصَرِّحُونَ وَيَقُولُونَ: أَيْدِينَا لَمْ تَسْفِكْ هَذَا الدَّمَ وَأَعْيُنُنَا لَمْ تُبْصِرْ.
(8)
اغْفِرْ لِشَعْبِكَ إِسْرَائِيلَ الَّذِي فَدَيْتَ يَارَبُّ، وَلَا تَجْعَلْ دَمَ بَرِّيٍّ فِي وَسَطِ شَعْبِكَ إِسْرَائِيلَ. فَيُغْفَرُ لَهُمُ الدَّمُ اهـ.
فَعُلِمَ مِنْ هَذَا أَنَّ الْأَمْرَ بِذَبْحِ الْبَقَرَةِ كَانَ لِفَصْلِ النِّزَاعِ فِي وَاقِعَةِ قَتْلٍ، وَيَرْوُونَ فِي قِصَّتِهِ رِوَايَاتٍ مِنْهَا أَنَّ الْقَاتِلَ كَانَ أَخَ الْمَقْتُولِ، قَتَلَهُ لِأَجْلِ الْإِرْثِ، وَأَنَّهُ اتَّهَمَ أَهْلَ الْحَيِّ بِالدَّمِ وَطَالَبَهُمْ بِهِ، وَمِنْهَا أَنَّهُ كَانَ ابْنَ أَخِيهِ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا لَا حَاجَةَ إِلَيْهِ، وَكَانُوا طَلَبُوا مِنْ مُوسَى الْفَصْلَ فِي الْمَسْأَلَةِ وَبَيَانَ الْقَاتِلِ، وَلَمَّا أَمَرَهُمْ بِذَبْحِ الْبَقَرَةِ اسْتَغْرَبُوهُ لِمَا فِيهِ مِنَ الْمُبَايَنَةِ لِمَا يَطْلُبُونَ وَالْبُعْدِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا يُرِيدُونَ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ - تَعَالَى -:(وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بِقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا) أَيْ سُخْرِيَةً يُهْزَأُ بِنَا، وَهَذَا الْقَوْلُ مِنْ سَفَهِهِمْ وَخِفَّةِ أَحْلَامِهِمْ وَجَهْلِهِمْ بِعَظَمَةِ اللهِ - تَعَالَى - وَمَا يَجِبُ أَنْ يُقَابَلَ بِهِ أَمْرُهُ مِنَ الِاحْتِرَامِ وَالِامْتِثَالِ، وَإِنْ لَمْ تَظْهَرْ حِكْمَتُهُ
بَادِيَ الرَّأْيِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَامْتَثَلُوا وَانْتَظَرُوا النَّتِيجَةَ بَعْدَ ذَلِكَ. وَلَمَّا كَانَ فِي جَوَابِهِمْ هَذَا رَمْيٌ لِمُوسَى عليه الصلاة والسلام بِالسَّفَهِ وَالْجَهَالَةِ (قَالَ أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ) أَيْ أَلْتَجِئُ إِلَى اللهِ وَأَعْتَصِمُ بِتَأْدِيبِهِ إِيَّايَ مِنَ الْجَهَالَةِ وَالْهُزْءِ بِالنَّاسِ.
(قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ) أَيْ مَا الصِّفَاتُ الْمُمَيِّزَةُ لَهَا؟ قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّ السُّؤَالَ مِمَّا هِيَ لَيْسَ جَارِيًا هُنَا عَلَى اصْطِلَاحِ عُلَمَاءِ
الْمَنْطِقِ مِنْ جَعْلِهِ سُؤَالًا عَنْ حَقِيقَةِ الْمَاهِيَّةِ، وَإِنَّمَا هُوَ عَلَى حَسَبِ أُسْلُوبِ اللُّغَةِ، وَالْعَرَبُ يَسْأَلُونَ بِ " مَا " عَنِ الصِّفَاتِ الَّتِي تَمَيِّزُ الشَّيْءَ فِي الْجُمْلَةِ كَالَّذِي ذَكَرَهُ فِي الْجَوَابِ (قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ) أَيْ غَيْرُ مُسِنَّةٍ، انْقَطَعَتْ وِلَادَتُهَا (وَلَا بِكْرٌ) لَمْ تَلِدْ بِالْمَرَّةِ، وَالْمُرَادُ بِهَا الَّتِي لَمْ تَلِدْ كَثِيرًا (عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ) الْعَوَانُ: النَّصَفُ فِي السِّنِّ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَهَائِمِ، أَيْ هِيَ بَيْنَ مَا ذُكِرَ مِنَ السِّنَّيْنِ الْفَارِضِ وَالْبِكْرِ، فَالْمُشَارُ إِلَيْهِ بِكَلِمَةِ (ذَلِكَ) مُتَعَدِّدٌ فِي الْمَعْنَى وَإِنْ كَانَ لَفْظُهُ مُنْفَرِدًا. وَ (بَيْنَ) مِنَ الْكَلِمِ الَّتِي تَخْتَصُّ بِالْمُتَعَدِّدِ تَقُولُ: جَلَسْتُ بَيْنَهُمْ أَوْ بَيْنَهُمَا، وَلَا تَقُولُ: جَلَسْتُ بَيْنَهُ، وَاسْتِعْمَالُ الْإِشَارَةِ وَالضَّمِيرِ الْمُفْرَدَيْنِ فِيمَا هُوَ بِمَعْنَى الْجَمْعِ عَلَى تَقْدِيرِ: التَّعْبِيرُ عَنْهُ بِالْمَذْكُورِ، أَوْ " مَا ذُكِرَ " كَثِيرٌ فِي كَلَامِهِمْ وَمِنْهُ قَوْلُ رُؤْبَةَ:
فِيهَا خُطُوطٌ مِنْ سَوَادٍ وَبَلَقْ
…
كَأَنَّهُ فِي الْجِسْمِ تَوْلِيعُ الْبَهَقْ
ذَكَرَ هَذَا الْوَصْفَ الْمُمَيِّزَ لِلْبَقَرَةِ فِي الْجُمْلَةِ وَقَالَ: (فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ) وَكَانَ يَجِبُ عَلَيْهِمُ الِاكْتِفَاءُ بِهِ وَالْمُبَادَرَةُ بَعْدَهُ لِلْامْتِثَالِ، وَلَكِنَّهُمْ أَبَوْا إِلَّا تَنَطُّعًا وَاسْتِقْصَاءً فِي السُّؤَالِ (قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ) الْفَاقِعُ: الشَّدِيدُ الصُّفْرَةِ فِي صَفَاءٍ بِحَيْثُ لَا يُخَالِطُهُ لَوْنٌ آخَرُ، وَبَعْضُ أَهْلِ اللُّغَةِ لَا يَخُصُّهُ بِالْأَصْفَرِ، بَلْ يَجْعَلُهُ وَصْفًا لِكُلِّ لَوْنٍ صَافٍ.
وَكَانَ يَجِبُ أَنْ يَكْتَفُوا بِهَذِهِ الْمُمَيِّزَاتِ وَلَكِنَّهُمْ زَادُوا تَنَطُّعًا إِذْ (قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللهُ لَمُهْتَدُونَ) وَقَدْ أَرَادُوا بِهَذَا السُّؤَالِ زِيَادَةَ التَّمْيِيزِ كَكَوْنِهَا عَامِلَةً أَوْ سَائِمَةً (قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ) سَائِمَةٌ (لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ) أَيْ غَيْرُ مُذَلَّلَةٍ بِالْعَمَلِ فِي الْحِرَاثَةِ وَلَا فِي السَّقْيِ (مُسَلَّمَةٌ) مِنَ الْعُيُوبِ، أَوْ مِنْ سَائِرِ الْأَعْمَالِ (لَا شِيَةَ فِيهَا) أَيْ لَيْسَ فِيهَا لَوْنٌ آخَرُ غَيْرَ الصُّفْرَةِ الْفَاقِعَةِ. وَالشِّيَةُ: مَصْدَرٌ كَالْعِدَةِ مِنْ وَشَى الثَّوْبَ يَشِيهُ إِذَا جَعَلَ فِيهِ خُطُوطًا مِنْ غَيْرِ لَوْنِهِ بِنَحْوِ تَطْرِيزٍ. وَلَمَّا اسْتَوْفَى جَمِيعَ الْمُمَيِّزَاتِ وَالْمُشَخِّصَاتِ وَلَمْ يَرَوْا سَبِيلًا إِلَى سُؤَالٍ آخَرَ (قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ) أَيْ وَمَا قَارَبُوا أَنْ يَذْبَحُوهَا إِلَّا بَعْدَ أَنِ انْتَهَتْ أَسْئِلَتُهُمْ، وَانْقَطَعَ مَا كَانَ مِنْ تَنَطُّعِهِمْ وَتَعَنُّتِهِمْ.
رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ فِي التَّفْسِيرِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَوْقُوفًا ((لَوْ ذَبَحُوا
أَيَّ بَقَرَةٍ أَرَادُوا لَأَجْزَأَتْهُمْ، وَلَكِنْ شَدَّدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ فَشَدَّدَ اللهُ عَلَيْهِمْ)) وَأَخْرَجَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ فِي سُنَنِهِ عَنْ عِكْرِمَةَ مَرْفُوعًا مُرْسَلًا.
وَهَاهُنَا يَذْكُرُ الْمُفَسِّرُونَ قِصَّةً فِي حِكْمَةِ هَذَا التَّشْدِيدِ، وَهُوَ الْمَصِيرُ إِلَى بَقَرَةٍ مُعَيَّنَةٍ لِشَخْصٍ مُعَيَّنٍ كَانَ بَارًّا بِوَالِدَتِهِ، وَقَدْ يَكُونُ هَذَا صَحِيحًا، غَيْرَ أَنَّهُ لَا دَاعِيَ إِلَيْهِ فِي التَّفْسِيرِ وَبَيَانِ الْمَعْنَى. وَقَدْ يَشْتَبِهُ بَعْضُ النَّاسِ فِيمَا ذُكِرَ بِأَنَّ أَحْكَامَ اللهِ - تَعَالَى - لَا تَكُونُ تَابِعَةً لِأَفْعَالِ النَّاسِ الْعَارِضَةِ، وَيَرُدُّ هَذِهِ الشُّبْهَةَ أَنَّ التَّكْلِيفَ كَثِيرًا مَا يَكُونُ عُقُوبَةً؛ لِأَنَّهُ تَرْبِيَةٌ لِلنَّاسِ، وَقَدْ وَرَدَتِ الْأَسْئِلَةُ وَالْأَجْوِبَةُ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ مَفْصُولَةً غَيْرَ مَوْصُولَةٍ بِالْفَاءِ، وَذَلِكَ مَا يَقْتَضِيهِ الْأُسْلُوبُ الْبَلِيغُ، فَقَدْ تَقَرَّرَ فِي الْبَلَاغَةِ أَنَّ الْقَوْلَ إِذَا أَشْعَرَ بِسُؤَالٍ، كَانَ مَا يَأْتِي بَعْدَهُ مِمَّا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ جَوَابًا لِلسُّؤَالِ الْمُقَدَّرِ مَفْصُولًا عَمَّا قَبْلَهُ، وَقَوْلُهُ:(وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً) يُشْعِرُ بِسُؤَالٍ، كَأَنَّهُ قِيلَ: مَاذَا كَانَ مِنْهُمْ بَعْدَ الْأَمْرِ؟ فَأُجِيبَ عَنْهُ بِقَوْلِهِ (قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا) وَهَذَا يُشْعِرُ بِسُؤَالٍ أَيْضًا، كَأَنَّهُ قِيلَ: مَاذَا قَالَ مُوسَى إِذْ قَالُوا ذَلِكَ؟ فَأَجَابَ: (قَالَ أَعُوذُ بِاللهِ) . . . إِلَخْ. وَهَكَذَا وَرَدَ غَيْرُهَا مِنَ الْمُرَاجَعَاتِ فِي التَّنْزِيلِ، كَمَا تَرَى فِي قِصَّةِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ.
(وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ)
هَذَا هُوَ أَوَّلُ الْقِصَّةِ الْمُحْتَوِيَةِ عَلَى الْمُخَالَفَةِ عَلَى مَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ وَهِيَ الْقَتْلُ، ثُمَّ التَّنَازُعُ فِي الْقَاتِلِ ثُمَّ تَشْرِيعُ الْحُكْمِ لِكَشْفِ الْحَقِيقَةِ بِذَبْحِ الْبَقَرَةِ وَمَا كَانَ مِنْ إِلْحَاحِهِمْ فِي السُّؤَالِ عَلَى مَا سَبَقَ.
فَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: (وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا) أُسْنِدَ فِيهِ الْقَتْلُ إِلَى الْأُمَّةِ، وَإِنْ كَانَ الْقَاتِلُ وَاحِدًا بِاعْتِبَارِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ كَوْنِهَا فِي مَجْمُوعِهَا وَتَكَافُلِهَا كَالشَّخْصِ الْوَاحِدِ. وَالتَّدَارُؤُ: تَفَاعُلٌ مِنَ الدَّرْءِ وَهُوَ الدَّفْعُ، فَمَعْنَاهُ: التَّدَافُعُ، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ خِصَامٌ وَاتِّهَامٌ، وَكَانَ كُلٌّ يَدْرَأُ عَنْ نَفْسِهِ وَيَدَّعِي الْبَرَاءَةَ وَيَتَّهِمُ غَيْرَهُ، وَكَانَ لِلْقَاتِلِينَ وَالْعَارِفِينَ بِهِمْ حُظُوظٌ وَأَهْوَاءٌ كَتَمُوا فِيهَا
الْحَقِيقَةَ، وَلِذَلِكَ قَالَ - تَعَالَى - بَعْدَ التَّذْكِيرِ بِالْجَرِيمَةِ:(وَاللهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) مِنَ الْإِيقَاعِ بِقَوْمٍ بُرَآءُ تَتَّهِمُونَهُمْ بِالْقَتْلِ لِإِخْفَاءِ الْقَاتِلِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مَكْرُكُمْ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: (فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللهُ الْمَوْتَى) فَهُوَ بَيَانٌ لِإِخْرَاجِ مَا يَكْتُمُونَ.
وَيَرْوُونَ فِي هَذَا الضَّرْبِ رِوَايَاتٍ كَثِيرَةً. قِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ اضْرِبُوا الْمَقْتُولَ بِلِسَانِهَا، وَقِيلَ: بِفَخِذِهَا
وَقِيلَ: بِذَنَبِهَا. وَقَالُوا: إِنَّهُمْ ضَرَبُوهُ فَعَادَتْ إِلَيْهِ الْحَيَاةُ وَقَالَ: قَتَلَنِي أَخِي أَوِ ابْنُ أَخِي فُلَانٍ إِلَى آخِرِ مَا قَالُوهُ، وَالْآيَةُ لَيْسَتْ نَصًّا فِي مُجْمَلِهِ فَكَيْفَ بِتَفْصِيلِهِ؟ وَالظَّاهِرُ مِمَّا قَدَّمْنَا أَنَّ ذَلِكَ الْعَمَلَ كَانَ وَسِيلَةً عِنْدَهُمْ لِلْفَصْلِ فِي الدِّمَاءِ عِنْدَ التَّنَازُعِ فِي الْقَاتِلِ إِذَا وُجِدَ الْقَتِيلُ قُرْبَ بَلَدٍ وَلَمْ يُعْرَفْ قَاتِلُهُ؛ لِيُعْرَفَ الْجَانِي مِنْ غَيْرِهِ، فَمَنْ غَسَلَ يَدَهُ وَفَعَلَ مَا رُسِمَ لِذَلِكَ فِي الشَّرِيعَةِ بَرِيءٌ مِنَ الدَّمِ، وَمَنْ لَمْ يَفْعَلْ ثَبَتَتْ عَلَيْهِ الْجِنَايَةُ. وَمَعْنَى إِحْيَاءِ الْمَوْتَى - عَلَى هَذَا - حِفْظُ الدِّمَاءِ الَّتِي كَانَتْ عُرْضَةً لِأَنْ تُسْفَكَ، بِسَبَبِ الْخِلَافِ فِي قَتْلِ تِلْكَ النَّفْسِ، أَيْ يُحْيِيهَا بِمِثْلِ هَذِهِ الْأَحْكَامِ، وَهَذَا الْإِحْيَاءِ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ - تَعَالَى -:(وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا)(5: 32) وَقَوْلِهِ: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ)(2: 179) فَالْإِحْيَاءُ هُنَا مَعْنَاهُ الِاسْتِبْقَاءُ كَمَا هُوَ الْمَعْنَى فِي الْآيَتَيْنِ. ثُمَّ قَالَ: (وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ) بِمَا يَفْصِلُ فِي الْخُصُومَاتِ، وَيُزِيلُ مِنْ أَسْبَابِ الْفِتَنِ وَالْعَدَاوَاتِ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -:(إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ)(4: 105) ، وَأَكْثَرُ مَا يُسْتَعْمَلُ مِثْلُ هَذَا التَّعْبِيرِ فِي آيَاتِ اللهِ فِي خَلْقِهِ الدَّالَّةِ عَلَى صِدْقِ رُسُلِهِ، وَلَيْسَ عِنْدِي شَيْءٌ عَنْ شَيْخِنَا فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ، وَلَكِنَّهُ قَالَ فِي تَعْلِيلِهَا مَا يُرَجِّحُ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ وَهُوَ (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) أَيْ تَفْقَهُونَ أَسْرَارَ الْأَحْكَامِ، وَفَائِدَةَ الْخُضُوعِ لِلشَّرِيعَةِ، فَلَا تَتَوَهَّمُونَ أَنَّ مَا وَقَعَ مُخْتَصٌّ بِهَذِهِ الْوَاقِعَةِ فِي هَذَا الْوَقْتِ، بَلْ يَجِبُ أَنْ تَتَلَقَّوْا أَمْرَ اللهِ فِي كُلِّ وَقْتٍ بِالْقَبُولِ مِنْ غَيْرِ تَعَنُّتٍ.
قَالَ - تَعَالَى -: (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ
فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ)
(أَقُولُ) : وَصَفَهُمُ اللهُ - تَعَالَى - بِأَنَّهُ قَدْ طَرَأَ عَلَيْهِمْ بَعْدَ رُؤْيَةِ تِلْكَ الْآيَاتِ مَا أَزَالَ أَثَرَهَا مِنْ قُلُوبِهِمْ، وَذَهَبَ بِعِبْرَتِهَا مِنْ عُقُولِهِمْ، فَقَالَ:(ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً) فَالْعَطْفُ بِ (ثُمَّ) يُفِيدُ أَنَّ الْأَوَّلِينَ مِنْهُمْ قَدْ خَشَعَتْ قُلُوبُهُمْ لِمَا رَأَوْا فِي زَمَنِ مُوسَى عليه السلام مَا رَأَوْا، ثُمَّ خَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ كَانَ أَمْرُ قَسْوَتِهَا مَا وَصَفَهُ عز وجل. وَالْقَسْوَةُ الصَّلَابَةُ وَهِيَ مِنْ صِفَاتِ الْأَجْسَامِ، وَوَصْفُ الْقُلُوبِ بِالْقَسْوَةِ مَجَازُ تَشْبِيهٍ مِمَّا يُسَمُّونَهُ الِاسْتِعَارَةَ بِالْكِنَايَةِ، وَيَصِحُّ فِي (أَوْ) التَّرْدِيدُ وَالتَّشْكِيكُ، وَهُوَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُخَاطَبِينَ لَا إِلَى الْمُتَكَلِّمِ
بِاعْتِبَارِ مَا يُعْهَدُ فِي التَّخَاطُبِ الْعَرَبِيِّ، كَأَنَّ عَرَبِيًّا يُحَدِّثُ آخَرَ وَيَقُولُ لَهُ: إِنَّ هَذِهِ الْقُلُوبَ فِي قَسْوَتِهَا تُشْبِهُ الْحِجَارَةَ أَوْ تَزِيدُ عَلَيْهَا. وَيَصِحُّ فِيهَا التَّقْسِيمُ، أَيْ أَنَّ الْقَسْوَةَ عَمَّتْ قُلُوبَكُمْ، فَأَقَلُّهَا قَسْوَةً تُشْبِهُ الْحَجَرَ الصَّلْدَ، وَمِنْهَا مَا هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قَسْوَةً، وَأَظْهَرُ مِنْهُمَا أَنْ تَكُونَ لِلْإِضْرَابِ عَلَى طَرِيقَةِ الْمُبَالَغَةِ، أَيْ بَلْ هِيَ أَشَدُّ قَسْوَةً مِنَ الْحِجَارَةِ؛ إِذْ لَا شُعُورَ فِيهَا يَأْتِي بِخَيْرٍ، وَلَا عَاطِفَةَ تَفِيضُ مِنْهَا بِعِبْرَةٍ، وَالْحِجَارَةُ لَيْسَتْ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ مِنْهَا مَا يَفِيضُ بِالْخَيْرَاتِ، وَمِنْهَا مَا يَكُونُ مَوْضِعَ ظُهُورِ آثَارِ الْقُدْرَةِ الْإِلَهِيَّةِ فِي الْجَمَادَاتِ.
وَصَفَ الْحِجَارَةَ بِالصِّفَاتِ الثَّلَاثَةِ الْآتِيَةِ بَعْدَ أَنْ شَبَّهَ الْقُلُوبَ بِهَا فِي الصَّلَابَةِ الْمُطْلَقَةِ، وَفَرَّقَ بَيْنَ الْقُلُوبِ وَبَيْنَهَا بِالْإِضْرَابِ، وَالِانْتِقَالِ إِلَى أَنَّ الْقُلُوبَ أَشَدُّ صَلَابَةً، وَأَرَادَ أَنْ يُبَيِّنَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ وَجْهَ ضَعْفِ الصَّلَابَةِ فِي الْحِجَارَةِ وَشِدَّتِهَا فِي الْقُلُوبِ، فَكَأَنَّ الْكَلَامَ يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ عُذْرًا عَنِ الْحِجَارَةِ دُونَ الْقُلُوبِ، وَالْمُرَادُ بِالْقُلُوبِ مَا اعْتُبِرَتْ عُنْوَانًا لَهُ وَهُوَ الْوِجْدَانُ وَالْعَقْلُ، وَأَكْثَرُ مَا اسْتُعْمِلَ فِي الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ سَائِقُ الْإِقْنَاعِ وَالْإِذْعَانِ، وَيُطْلَقُ لَفْظُ الْقَلْبِ عَلَى النَّفْسِ النَّاطِقَةِ؛ لِأَنَّ مِنْ شَأْنِ الْقَلْبِ أَنْ يَتَأَثَّرَ مِمَّا يَتَأَثَّرُ مِنْهُ الْوِجْدَانُ أَوِ الْعَقْلُ أَوِ الرُّوحُ مُطْلَقًا، وَفِي الْكَلَامِ مِنَ الْمُبَالَغَةِ أَنَّ هَذِهِ الْقُلُوبَ فَقَدَتْ خَاصِّيَّةَ التَّأَثُّرِ وَالِانْفِعَالِ بِمَا يَرِدُ عَلَيْهَا مِنَ الْمَوَاعِظِ وَالْآيَاتِ الَّتِي هِيَ مِنْ خَوَاصِّ الرُّوحِ الْإِنْسَانِيِّ، حَتَّى كَأَنَّ أَصْحَابَهَا هَبَطُوا مِنْ دَرَجَةِ الْحَيَوَانِ
إِلَى دَرَكَةِ الْجَمَادِ كَالْحِجَارَةِ، بَلْ نَزَلُوا عَنْ دَرَكَةِ الْحِجَارَةِ أَيْضًا، وَذَلِكَ مَا أَفَادَهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى -:(وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ) التَّفَجُّرُ: تَفَعُّلُ مِنَ الْفَجْرِ وَهُوَ الشِّقُّ الْوَاسِعُ يَكُونُ لِلْمُطَاوَعَةِ، كَفَجَّرْتُهُ فَتَفَجَّرَ (بِالتَّشْدِيدِ فِيهِمَا) وَيَكُونُ لِتَكَرُّرِ الْفِعْلِ وَحُصُولِهِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى، وَمِثْلُهُ التَّشَقُّقُ إِلَّا أَنَّهُ أَعَمُّ، وَلِمَا فِي التَّفَجُّرِ مِنْ مَعْنَى السَّعَةِ عَبَّرَ بِهِ عَنْ خُرُوجِ الْأَنْهَارِ مِنَ الصُّخُورِ الْكِبَارِ وَهُوَ مَعْهُودٌ فِي الْجِبَالِ، وَعَبَّرَ بِالتَّشَقُّقِ لِخُرُوجِ الْمَاءِ الَّذِي يُصَدَّقُ بِالْقَلِيلِ مِنْهُ.
وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْحِجَارَةَ عَلَى صَلَابَتِهَا وَقَسْوَتِهَا تَتَأَثَّرُ بِالْمَاءِ الرَّقِيقِ اللَّطِيفِ فَيَشُقُّهَا وَيَنْفُذُ مِنْهَا بِقِلَّةٍ أَوْ كَثْرَةٍ، فَيُحْيِي الْأَرْضَ وَيَنْفَعُ النَّبَاتَ وَالْحَيَوَانَ. وَأَمَّا هَذِهِ الْقُلُوبُ فَلَمْ تَعُدْ تَتَأَثَّرُ بِالْحِكَمِ وَالنُّذُرِ وَلَا بِالْعِظَاتِ وَالْعِبَرِ، فَالْحِكَمُ لَا تَقْوَى عَلَى شَقِّهَا وَالنُّفُوذِ مِنْهَا إِلَى أَعْمَاقِ الْوِجْدَانِ، وَأَنْوَارُ الْفِطْرَةِ قَدِ انْطَفَأَتْ فِيهَا فَلَا يَظْهَرُ شُعَاعُهَا عَلَى إِنْسَانٍ، وَمِنَ الْحِجَارَةِ مَا يَشُقُّهُ الْمَاءُ الْقَلِيلُ كَمَاءِ الْعُيُونِ وَالْيَنَابِيعِ الْحَجَرِيَّةِ، وَمِنْهَا مَا لَا يُفَجِّرُهُ إِلَّا الْمَاءُ الْقَوِيُّ الْغَمْرُ الَّذِي يُسَمَّى نَهْرًا. (وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ) وَهُوَ مَا يَنْحَطُّ مِنْ أَعْلَى الْجَبَلِ، وَمِنْ أَثْنَائِهِ بِسَبَبِ أَثَرٍ مِنْ آثَارِ الْقَهْرِ الْإِلَهِيِّ كَالْبَرَاكِينَ وَالصَّوَاعِقِ الَّتِي تَهْبِطُ بِهَا الصُّخُورُ وَتَنْدَكُّ الْجِبَالُ، وَقَدْ جُعِلَ هَذَا شَبَهًا لِلْآيَاتِ الْإِلَهِيَّةِ الَّتِي أَظْهَرَهَا عَلَى يَدِ عَبْدِهِ وَنَبِيِّهِ مُوسَى عليه السلام، فَهِيَ حَوَادِثُ عَظِيمَةٌ فِي الْكَوْنِ تَفْزَعُ بِهَا نُفُوسُ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى اللهِ، وَتَخْشَعُ لِأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ لِعَظَمَتِهَا وَخَفَاءِ سِرِّ إِيجَادِهَا،
كَمَا تَفْزَعُ النُّفُوسُ مِنْ حَوَادِثِ الْبَرَاكِينِ وَالصَّوَاعِقِ الَّتِي تَدُكُّ الصُّخُورَ وَتُدَمِّرُ الْحُصُونَ، وَقَدْ أَصْبَحَتْ تِلْكَ الْقُلُوبُ بَعْدَ مُشَاهَدَةِ الْآيَاتِ لَا تَتَأَثَّرُ بِهَا وَلَا تَزْدَادُ إِيمَانًا.
فَمُلَخَّصُ التَّشْبِيهِ: أَنَّ قُلُوبَكُمْ تُشْبِهُ الْحِجَارَةَ فِي الْقَسْوَةِ، بَلْ قَدْ تَزِيدُ فِي الْقَسَاوَةِ عَنْهَا، فَإِنَّ الْحِجَارَةَ الصُّمَّ تَتَأَثَّرُ فِي بَاطِنِهَا بِالْمَاءِ اللَّطِيفِ النَّافِعِ، بَعْضُهَا بِالْقَوِيِّ مِنْهُ وَبَعْضُهَا بِالضَّعِيفِ، وَلَكِنَّ قُلُوبَكُمْ لَا تَتَأَثَّرُ بِالْحِكَمِ وَالْمَوَاعِظِ الَّتِي مِنْ شَأْنِهَا التَّأْثِيرُ فِي الْوِجْدَانِ وَالنُّفُوذُ إِلَى الْجَنَانِ، وَالْحِجَارَةُ تَتَأَثَّرُ بِالْحَوَادِثِ الْهَائِلَةِ الَّتِي يُحْدِثُهَا اللهُ فِي الْكَوْنِ كَالصَّوَاعِقِ وَالزَّلَازِلِ، وَلَكِنَّ قُلُوبَكُمْ لَمْ تَتَأَثَّرْ بِتِلْكَ الْآيَاتِ الْإِلَهِيَّةِ
الَّتِي تُشْبِهُهَا، فَلَا أَفَادَتْ فِيهَا الْمُؤَثِّرَاتُ الدَّاخِلِيَّةُ، وَلَا الْمُؤَثِّرَاتُ الْخَارِجِيَّةُ كَمَا أَفَادَتْ فِي الْأَحْجَارِ، فَبِذَلِكَ كَانَتْ قُلُوبُكُمْ أَشَدُّ قَسْوَةً. ثُمَّ هَدَّدَهُمْ بِقَوْلِهِ:(وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) أَيْ فَهُوَ سَيُرَبِّيكُمْ بِضُرُوبِ النِّقَمِ، إِذَا لَمْ تَتَرَبَّوْا بِصُنُوفِ النِّعَمِ.
(أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ)
كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابُهُ رضي الله عنهم يَرَوْنَ أَنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِالْإِيمَانِ وَأَقْرَبَهُمْ مِنْهُ الْيَهُودُ؛ لِأَنَّهُمْ مُوَحِّدُونَ وَمُصَدِّقُونَ بِالْوَحْيِ وَالْبَعْثِ فِي الْجُمْلَةِ؛ وَلِذَلِكَ كَانُوا يَطْمَعُونَ بِدُخُولِهِمْ فِي الْإِسْلَامِ أَفْوَاجًا؛ لِأَنَّهُ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ فِي الْجُمْلَةِ، وَمُجْلٍ لِجَمِيعِ شُبُهَاتِ الدِّينِ، وَحَالٌّ لِجَمِيعِ إِشْكَالَاتِهِ بِالتَّفْصِيلِ، وَوَاضِعٌ لَهُ عَلَى قَوَاعِدَ لَا تُرْهِقُ النَّاسَ عُسْرًا (وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ) (7: 157) .
كَانَ هَذَا الطَّمَعُ فِي إِيمَانِهِمْ مَبْنِيًّا عَلَى وَجْهٍ نَظَرِيٍّ مَعْقُولٍ، لَوْلَا أَنَّهُمُ اكْتَفَوْا بِجَعْلِ الدِّينِ
رَابِطَةً جِنْسِيَّةً، وَلَمْ يَجْعَلُوهُ هِدَايَةً رُوحِيَّةً؛ وَلِذَلِكَ كَانُوا يَتَصَرَّفُونَ فِيهِ بِاخْتِلَافِ الْمَذَاهِبِ وَالْآرَاءِ، وَيُحَرِّفُونَ كَلِمَهُ عَنْ مَوَاضِعِهَا بِحَسَبِ الْأَهْوَاءِ، وَمَا أَعْذَرَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ فِي طَمَعِهِمْ هَذَا إِلَّا بَعْدَ مَا قَصَّ عَلَيْهِمْ مِنْ نَبَأِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، الَّذِينَ كَانُوا عَلَى عَهْدِ التَّشْرِيعِ، وَشَاهَدُوا مِنَ الْآيَاتِ مَا عُلِمَ بِهِ أَنَّهُمْ فِي الْمُجَاحَدَةِ وَالْمُعَانَدَةِ عَلَى عِرْقٍ رَاسِخٍ وَنَحِيزَةٍ مَوْرُوثَةٍ لَا يَكْفِي فِي زِلْزَالِهَا كَوْنُ الْقُرْآنِ مُبِينًا فِي نَفْسِهِ لَا يَتَطَرَّقُ إِلَيْهِ رَيْبٌ، وَلَا يَتَسَرَّبُ إِلَيْهِ شَكٌّ؛ وَلِذَلِكَ بَدَأَ السُّورَةَ بِوَصْفِ الْكِتَابِ بِهَذَا وَكَوْنِهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَغَيْرِهِمْ، وَثَنَّى بِبَيَانِ أَنَّ مِنَ النَّاسِ
مَنْ يُعَانِدُهُ وَيُبَاهِتُهُ، وَمِنْهُمُ الْمُذَبْذَبُ الَّذِي يَمِيلُ مَعَ الرِّيحَيْنِ فَلَا يَثْبُتُ مَعَ أَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ، ثُمَّ أَفَاضَ فِي شَرْحِ حَالِ بَنِي إِسْرَائِيلَ الَّذِينَ لَمْ يُؤْمِنُ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالتَّقْوَى، وَكَانَ الْأَكْثَرُونَ أَشَدَّ النَّاسِ اسْتِكْبَارًا عَنِ الْإِيمَانِ وَإِيذَاءً لِلرَّسُولِ وَلِمَنِ اتَّبَعَهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. وَبَعْدَ هَذَا كُلِّهِ أَنْكَرَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ذَلِكَ الطَّمَعَ بِدُخُولِ الْيَهُودِ فِي دِينِ اللهِ أَفْوَاجًا، وَوَصَلَ الْإِنْكَارَ بِحُجَّةٍ وَاقِعَةٍ نَاهِضَةٍ، تَجْعَلُ تِلْكَ الْحُجَّةَ النَّظَرِيَّةَ دَاحِضَةً، فَعُلِمَ بِهَذَا أَنَّ الْكَلَامَ لَا يَزَالُ مُتَّصِلًا فِي مَوْضُوعِ الْكِتَابِ وَأَصْنَافِ النَّاسِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْإِيمَانِ بِهِ وَعَدَمِ الْإِيمَانِ، كُلَّمَا بَعُدَ الْعَهْدُ جَاءَ مَا يُذَكِّرُ بِهِ تَذْكِيرًا.
قَالَ - تَعَالَى -: (أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) كَانَ الظَّاهِرُ أَنْ يَكُونَ الْخُطَّابُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم خَاصَّةً، وَلَكِنْ خَاطَبَ الْمُؤْمِنِينَ مَعَهُ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُشَارِكُونَهُ فِي الْأَلَمِ مِنْ إِيذَائِهِمْ وَالطَّمَعِ بِهِدَايَتِهِمْ فَأَشْرَكَهُمْ بِالتَّسْلِيَةِ كَمَا سَبَقَ؛ وَلِأَنَّ طَمَعَ الْمُؤْمِنِينَ بِإِيمَانِهِمْ كَانَ يَحْمِلُهُمْ عَلَى الِانْبِسَاطِ مَعَهُمْ فِي الْمُعَاشَرَةِ إِلَى حَدِّ الْإِفْضَاءِ إِلَيْهِمْ بِبَعْضِ الشُّئُونِ الْمَلِيَّةِ الْمَحْضَةِ وَاتِّخَاذِهِمْ بِطَانَةً، وَكَانَ يَعْقُبُ ذَلِكَ مِنَ الضَّرَرِ مَا يَعْقُبُ حَتَّى نَهَاهُمُ اللهُ - تَعَالَى - عَنِ اتِّخَاذِ الْبِطَانَةِ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا كَانُوا مَوْصُوفِينَ بِأَوْصَافِ هَؤُلَاءِ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ - تَعَالَى -:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ)(3: 118) وَالْآيَةُ التَّالِيَةُ تَدُلُّ عَلَى هَذَا الْإِفْضَاءِ أَيْضًا.
أَمَّا الْحُجَّةُ الَّتِي وَصَلَهَا بِإِنْكَارِ الطَّمَعِ بِإِيمَانِهِمْ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُ طَمَعٌ فِي غَيْرِ مَطْمَعٍ؛ فَهِيَ تَعْمُدُ تَحْرِيفِ كَلَامِ اللهِ مِمَّنْ سَمِعَهُ مِنْهُمْ. وَذَلِكَ أَنَّ مُوسَى اخْتَارَ بِأَمْرِ اللهِ سَبْعِينَ رَجُلًا مِنْ قَوْمِهِ لِسَمَاعِ الْوَحْيِ وَمُشَاهَدَةِ الْحَالِ الَّتِي يُكَلِّمُهُ اللهُ - تَعَالَى - بِهَا، وَقَدْ سَمِعُوا كَلَامَ اللهِ - تَعَالَى -
عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي لَا نَعْرِفُهُ، وَإِنَّمَا نَعْرِفُ أَنَّهُمْ صَحِبُوهُ إِلَى حَيْثُ كَانَ يُنَاجِي اللهَ - تَعَالَى -، وَكَانَ مِنْ شَأْنِ اللهِ - تَعَالَى - مَعَهُمْ أَنْ صَدَّقُوا بِأَنَّ مَا جَاءَ بِهِ مُوسَى عليه السلام هُوَ وَحْيٌ مِنَ اللهِ - تَعَالَى -، وَالتَّصْدِيقُ بِذَلِكَ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى مَعْرِفَةِ كَيْفِيَّتِهِ وَكُنْهِهِ، فَإِنَّ أَكْثَرَ مَا نُصَدِّقُ بِهِ تَصْدِيقَ يَقِينٍ لَا نَعْرِفُ حَقِيقَتَهُ وَكُنْهَهُ وَلَا كَيْفِيَّةَ تَكْوِينِهِ وَإِيجَادِهِ. وَقَدْ كَانَ مِنْ أُولَئِكَ الْمُخْتَارِينَ أَنَّهُمْ لَمَّا رَجَعُوا إِلَى
قَوْمِهِمْ، حَرَّفُوا كَلَامَ اللهِ الَّذِي حَضَرُوا وَحْيَهُ وَأَذْعَنُوا لَهُ، بِأَنْ صَرَفُوهُ عَنْ وَجْهِهِ بِالتَّأْوِيلِ - كَمَا حَقَّقَهُ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ وَغَيْرُهُ - وَهَذَا التَّحْرِيفُ ثَابِتٌ عِنْدَهُمْ، مَنْصُوصٌ فِي التَّوْرَاةِ وَالتَّارِيخِ الدِّينِيِّ الَّذِي يُسَمَّى التَّارِيخَ الْمُقَدَّسَ.
فَدَلَّ هَذَا مَا سَبَقَهُ عَلَى أَنَّ الْقَسْوَةَ الْمَانِعَةَ مِنَ التَّأَثُّرِ وَالتَّدَبُّرِ وَمُكَابَرَةَ الْحَقِّ وَالتَّفَصِّيَ مِنْ عِقَالِ الشَّرِيعَةِ، كَانَ شَنْشَنَةً قَدِيمَةً فِيهِمْ، ثُمَّ تَأَصَّلَ فَصَارَ غَرِيزَةً مَطْبُوعَةً، فَإِعْرَاضُهُمْ عَنِ الْقُرْآنِ لَا يَسْتَلْزِمُ الطَّعْنَ عَلَيْهِ، وَلَا الْقَوْلَ بِجَوَازِ تَسَلُّقِ شَيْءٍ مِنَ الرَّيْبِ إِلَيْهِ، فَإِنَّهُمْ قَدْ حَرَّفُوا وَبَدَّلُوا وَعَانَدُوا وَجَاحَدُوا وَهُمْ يُشَاهِدُونَ الْآيَاتِ الْحِسِّيَّةَ، وَيُؤْخَذُونَ بِالْعُقُوبَاتِ الْمَعَاشِيَّةِ، فَكَيْفَ يُسْتَنْكَرُ بَعْدَ هَذَا أَنْ يُعْرِضُوا عَنْ دِينٍ دَلَائِلُهُ عَقْلِيَّةٌ، وَآيَتُهُ الْكُبْرَى مَعْنَوِيَّةٌ! وَهِيَ الْقُرْآنُ الْمُعْجِزُ بِمَا فِيهِ مِنْ عُلُومِ الْهِدَايَةِ، وَدَقَائِقِ الْبَلَاغَةِ، وَأَنْبَاءِ الْغَيْبِ، عَلَى أَنَّهُ مِنْ أُمِّيٍّ عَاشَ أَرْبَعِينَ سَنَةً لَمْ يُؤْثَرْ عَنْهُ فِيهَا شَيْءٌ مِنَ الْعِلْمِ، وَلَمْ يُزَاحِمْ فُحُولَ الْبَلَاغَةِ فِي نَثْرٍ وَلَا نَظْمٍ، وَفَهْمُ تِلْكَ الدَّلَائِلِ إِنَّمَا يَكُونُ مِنْ ذَوِي الْعُقُولِ الْحُرَّةِ وَالْقُلُوبِ السَّلِيمَةِ، الَّذِينَ لَطُفَ شُعُورُهُمْ وَرَقَّ وِجْدَانُهُمْ، وَصَحَّتْ أَذْوَاقُهُمْ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: لَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِمَا هُنَا تَحْرِيفَ كَلَامِ التَّوْرَاةِ الْمَكْتُوبِ لَمَا قَالَ: (يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ) ، فَزِيَادَةُ (يَسْمَعُونَ) هُنَا لَا بُدَّ لَهَا مِنْ حِكْمَةٍ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَجَاءَ الْكَلَامُ عَلَى نَسَقِ الْآيَاتِ الْأُخْرَى الَّتِي ذَكَرَ فِيهَا التَّحْرِيفَ، كَأَنْ يَقُولَ: وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يُحَرِّفُ كَلَامَ اللهِ. وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: (مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ) نَصٌّ فِي التَّعَمُّدِ وَسُوءِ الْقَصْدِ، وَإِبْطَالٌ لِمَا عَسَاهُ يُعْتَذَرُ لَهُمْ بِهِ مِنْ سُوءِ الْفَهْمِ. ثُمَّ قَالَ:(وَهُمْ يَعْلَمُونَ) أَيْ كَانُوا يَفْعَلُونَ فِعْلَتَهُمُ الشَّنْعَاءَ فِي حَالِ الْعِلْمِ بِالصَّوَابِ وَاسْتِحْضَارِهِ، لَا أَنَّهُمْ كَانُوا عَلَى نِسْيَانٍ أَوْ ذُهُولٍ، وَفِي هَذَيْنَ الْقَيْدَيْنِ مِنَ النَّعْيِ وَالتَّشْنِيعِ عَلَيْهِمْ مَا لَا مَزِيدَ عَلَيْهِ، وَكَيْفَ وَقَدْ بَطَلَ بِهِمَا عُذْرُ الْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ وَسَجَّلَ عَلَيْهِمْ تَعَمُّدَ الْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ!
ثُمَّ بَعْدَ هَذَا الِاحْتِجَاجِ انْتَقَلَ إِلَى بَيَانِ بَعْضِ أَحْوَالِ الَّذِينَ كَانُوا فِي زَمَنِ التَّنْزِيلِ وَقَدْ غَيَّرَ الْأُسْلُوبَ هُنَا، فَإِنَّهُ كَانَ يَحْكِي سَيِّئَاتِهِمْ مُبْتَدِئًا بِكَلِمَةِ (وَإِذْ) لِأَنَّهُ تَذْكِيرٌ بِمَا كَانَ فِي الزَّمَانِ الْمَاضِي، وَالِابْتِدَاءُ بِكَلِمَةِ (إِذَا) هُنَا هُوَ الْمُنَاسِبُ فِي الْحِكَايَةِ عَنْ حَالٍ وَاقِعَةٍ فِي الْحَالِ مُسْتَمِرَّةٍ فِي الِاسْتِقْبَالِ، وَالْمُرَادُ مِنْ حِكَايَةِ
أَحْوَالِ الْحَاضِرِينَ بَيَانُ أَنَّهَا مُسَاوِيَةٌ لِأَحْوَالِ سَلَفِهِمُ الْغَابِرِينَ، وَأَنَّهُ لَا يُرْجَى مِنْ هَؤُلَاءِ أَفْضَلُ مِمَّا كَانَ مِنْ أُولَئِكَ، قَالَ:(وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ) ؟ .
تُرْشِدُ هَذِهِ الْآيَةُ إِلَى طَوْرٍ مِنْ أَطْوَارِ الْبَشَرِ فِي زَمَنِ الْإِصْلَاحِ، وَهِيَ أَنَّ جَمَاهِيرَ النَّاسِ يَقَعُونَ فِي الْحَيْرَةِ بَيْنَ الْهِدَايَةِ الْجَدِيدَةِ وَالتَّقَالِيدِ الْقَدِيمَةِ، لَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْحَقِّ فَيَتَحَرَّوُا اتِّبَاعَهُ أَيْنَ كَانَ، وَلَكِنَّهُمْ يُفَكِّرُونَ فِي مَنْفَعَتِهِمُ الْخَاصَّةِ، يَقُولُونَ: نَخْشَى أَنْ نَجْهَرَ بِالْجَدِيدِ فَيُخْذَلَ حِزْبُهُ وَيَتَفَرَّقَ شَمْلُهُ فَنَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ، وَلَا نَأْمَنُ إِنْ بَقِينَا عَلَى الْقَدِيمِ أَنْ يَتَقَلَّصَ ظِلُّهُ، وَيُذَلَّ أَهْلُهُ فَنَكُونَ مَعَ الضَّالِّينَ. فَالْحَزْمُ أَنْ نُوَافِقَ كُلَّ حِزْبٍ نَخْلُو بِهِ، وَنَعْتَذِرَ إِلَى الْآخَرِ إِذَا هُوَ عَلِمَ بِمَا كَانَ مِنَّا إِلَى أَنْ نَتَبَيَّنَ الْفَوْزَ فِي أَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ، فَيَكُونُونَ هَكَذَا مُذَبْذَبِينَ، كَمَا قَالَ اللهُ - تَعَالَى -:(وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ) . . . إِلَخْ.
الضَّمِيرُ فِي (قَالُوا) الثَّانِيَةِ غَيْرُ الضَّمِيرِ فِي (قَالُوا) الْأُولَى كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ مِنَ السِّيَاقِ وَلَا لَبْسَ فِيهِ وَلَا اشْتِبَاهَ، وَمِثْلُهُ مُسْتَفِيضٌ فِي كَلَامِ الْبُلَغَاءِ، وَفِي التَّنْزِيلِ أَيْضًا كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -:(وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ)(2: 232) فَإِنَّ الْمَنْهِيَّ عَنِ الْعَضَلِ الْأَوْلِيَاءُ لَا الْمُطَلِّقُونَ. وَالْكَلَامُ فِي الْقُرْآنِ لِلْمُكَلَّفِينَ كَافَّةً، فَيُوَجِّهُ كُلَّ كَلَامٍ إِلَى صَاحِبِهِ الَّذِي يَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ لَهُ بِقَرِينَةِ الْحَالِ أَوِ الْمَقَالِ. فَإِذَا وَجَّهَ الْخِطَابَ بِالطَّلَاقِ إِلَى الْأَزْوَاجِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنْهُمْ، فَكَذَلِكَ يُوَجِّهُ الْخِطَابَ بِالنَّهْيِ عَنِ الْعَضَلِ - وَهُوَ مَنْعُ الْمَرْأَةِ مِنَ التَّزَوُّجِ - إِلَى الْأَوْلِيَاءِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنْهُمْ. وَعَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ يَتَخَرَّجُ قَوْلُهُ:(قَالُوا آمَنَّا) وَقَوْلُهُ: (قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ) فَالْكَلَامُ فِي مَجْمُوعِ الْيَهُودِ، وَيُوَجِّهُ الْأَوَّلَ إِلَى الَّذِينَ يُلَاقُونَ الْمُؤْمِنِينَ (وَالثَّانِي) إِلَى الَّذِينَ يُلَاقِيهِمْ هَؤُلَاءِ مِنْ قَوْمِهِمْ وَيَعْذِلُونَهُمْ عَلَى الْإِفْضَاءِ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ بِمَا فَتَحَ اللهُ عَلَيْهِمْ.
الْمُرَادُ بِالْفَتْحِ هُنَا: الْإِنْعَامُ بِالشَّرِيعَةِ وَالْأَحْكَامِ، وَالْبِشَارَةُ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، شَبَّهَ الَّذِي يُعْطَى الشَّرِيعَةَ بِالْمَحْصُورِ يُفْتَحُ عَلَيْهِ فَيَخْرُجُ مِنَ الضِّيقِ، أَوْ مَعْنَى (بِمَا فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ) بِمَا حَكَمَ بِهِ وَأَخَذَ بِهِ الْمِيثَاقَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْإِيمَانِ بِالنَّبِيِّ
الَّذِي يَجِيئُكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَنَصْرِهِ، وَقَوْلُهُ:(لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ) مَعْنَاهُ يُقِيمُونَ بِهِ عَلَيْكُمُ الْحُجَّةَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكُمْ وَهُوَ التَّوْرَاةُ مِنْ حَيْثُ أَنَّ مَا تُحَدِّثُونَهُمْ بِهِ مُوَافِقٌ لِمَا فِي الْقُرْآنِ، فَلَهُمْ أَنْ يَقُولُوا: لَوْلَا أَنَّ مُحَمَّدًا نَبِيٌّ لَمَا عَلِمَ بِهَذَا الَّذِي حَكَاهُ عَنْكُمْ، وَقَدْ كَانَ مِثْلُنَا لَا يَعْرِفُ مِنْ أَمْرِ الْكِتَابِ شَيْئًا. هَذَا مَا جَرَى عَلَيْهِ الْمُحَقِّقُونَ فِي تَفْسِيرِ (عِنْدَ رَبِّكُمْ) وَهُوَ أَنَّهُ بِمَعْنَى فِي كِتَابِهِ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ فِي أَهْلِ الْإِفْكِ (فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ) (24: 13) أَيْ فِي حُكْمِهِ الْمُبَيَّنِ فِي كِتَابِهِ. وَذَهَبَ مُفَسِّرُنَا (الْجَلَالُ) إِلَى أَنَّ مَعْنَاهُ الْمُحَاجَّةُ فِي الْآخِرَةِ، وَالنَّظْمُ لَا يَأْبَاهُ، وَلَكِنَّ فِيهِ اعْتِرَافًا مِنَ اللَّائِمِينَ الْمُؤَنِّبِينَ بِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الْحَقِّ الَّذِي لَا يُنْجِي عِنْدَ اللهِ سِوَاهُ، وَمَنِ اعْتَقَدَ هَذَا لَا يَجْعَلُهُ تَعْلِيلًا لِلْإِنْكَارِ عَلَى مَنْ يَرَاهُ مِنْ قَوْمِهِ، يُحَدِّثُ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا يُوَافِقُهُمْ وَيُقَوِّي حُجَّتَهُمْ، بَلْ فِيهِ أَيْضًا أَنَّ تَرْكَ تَحْدِيثِهِمْ لَا يَمْنَعُهَا فِي الْآخِرَةِ.
مِثْلُ هَذِهِ الذَّبْذَبَةِ تَكُونُ مِنَ الْأُمَمِ فِي طَوْرِ الضَّعْفِ وَلَا سِيَّمَا ضَعْفُ الْإِرَادَةِ وَالْعِلْمِ، وَلَوْ كَانَ لِأُولَئِكَ الْقَوْمِ إِرَادَةٌ قَوِيَّةٌ لَثَبَتُوا ظَاهِرًا عَلَى مَا يَعْتَقِدُونَهُ بَاطِلًا، وَلَمْ يُصَانِعُوا مُخَالِفِيهِمْ مِنْ أَهْلِ الْمِلَّةِ الْأُولَى أَوِ الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ، وَقَدْ وَبَّخَهُمُ اللهُ - تَعَالَى - وَأَنْكَرَ عَلَيْهِمْ هَذَا التَّلَوُّنَ وَالدِّهَانَ فِي الدِّينِ، وَلِقَاءَ كُلِّ فَرِيقٍ بِوَجْهٍ يُظْهِرُونَ لَهُ مَا يُسِرُّونَ مِنْ أَمْرِ الْآخَرِ، فَقَالَ:(أَوَ لَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ) يَعْنِي أَيَقُولُ اللَّائِمُونَ أَوِ الْمُنَافِقُونَ كُلُّهُمْ مَا قَالُوا، وَيَكْتُمُونَ مِنْ صِفَاتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَا كَتَمُوا، وَيُحَرِّفُونَ مِنْ كِتَابِهِمْ مَا حَرَّفُوا، وَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ مِنْ كُفْرٍ وَكَيْدٍ، وَمَا يُعْلِنُونَ مِنْ إِظْهَارِ إِيمَانٍ وَوُدٍّ، فَإِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ بِإِحَاطَةِ عِلْمِهِ - تَعَالَى -، فَلِمَ لَا يَحْفَلُونَ بِاطِّلَاعِهِ عَلَى ظَوَاهِرِهِمْ، وَإِحَاطَتِهِ بِمَا يَجُولُ فِي أَطْوَاءِ ضَمَائِرِهِمْ، وَبِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى عِلْمِهِ مِنْ خِزْيٍ فِي الدُّنْيَا وَعَذَابٍ فِي الْآخِرَةِ.
قَالَ - تَعَالَى -: (وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ)
ذَلِكَ الَّذِي تَقَدَّمَ هُوَ شَأْنُ عُلَمَائِهِمْ، يُحَرِّفُونَ كِتَابَ اللهِ وَيَخْرُجُونَ مِنْ حُكْمِهِ بِالتَّأْوِيلِ، وَهَذَا هُوَ شَأْنُ عَامَّتِهِمْ، لَا عِلْمَ لَهُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْكِتَابِ، وَلَا مَعْرِفَةَ لَهُمْ بِالْأَحْكَامِ، وَمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الدِّينِ فَهُوَ أَمَانِيٌّ يَتَمَنَّوْنَهَا وَتَجُولُ صُوَرُهَا فِي خَيَالَاتِهِمْ، وَهَذِهِ الصُّوَرُ هِيَ كُلُّ مَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ بِدِينِهِمْ، وَمَا هُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْهَا، وَإِنَّمَا هِيَ ظُنُونٌ
يَلْهَوْنَ بِهَا، وَهَذَا هُوَ مَحِلُّ الذَّمِّ لَا مُجَرَّدُ كَوْنِهِمْ أُمِّيِّينَ، فَإِنَّ الْأُمِّيَّ قَدْ يَتَلَقَّى الْعِلْمَ عَنِ الْعُلَمَاءِ الثِّقَاتِ وَيَعْقِلُهُ عَنْهُمْ بِدَلِيلِهِ فَيَكُونُ عِلْمُهُ صَحِيحًا، وَهَؤُلَاءِ لَمْ يَكُونُوا كَذَلِكَ. فَإِنْ قِيلَ: لِمَ سُمِّيَ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الْأَمَانِيِّ ظَنًّا مَعَ أَنَّهُمْ أَخَذُوهُ عَنْ رُؤَسَاءِ دِينِهِمُ الْمَوْثُوقِ بِهِمْ عِنْدَهُمْ وَسَلَّمُوهُ تَسْلِيمًا، فَلَمْ يَكُنْ فِي نُفُوسِهِمْ مَا يُخَالِفُهُ، وَمِثْلُ هَذَا يُسَمَّى اعْتِقَادًا وَعِلْمًا؟ نَقُولُ: إِنَّمَا الْعِلْمُ بِالدَّلِيلِ وَلَا يُسَمِّي مِثْلَ ذَلِكَ عِلْمًا إِلَّا مَنْ لَا يَعْرِفُ مَعْنَى الْعِلْمِ. عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ رَاجِحًا وَمُسَلَّمًا إِلَّا لِأَنَّ مُقَابِلَهُ لَمْ يَخْطُرْ بِبَالِهِمْ، وَلَوْ أُرِدَ عَلَيْهِمْ لَتَزَلْزَلَ مَا عِنْدَهُمْ ثُمَّ زَالَ، أَوْ ظَهَرَ فِيهِ الشَّكُّ وَتَطَرَّقَ إِلَيْهِ الِاحْتِمَالُ، وَيَصِحُّ أَنْ يُقَالَ فِي مِثْلِ هَؤُلَاءِ: إِنَّ الظَّنَّ أَوِ التَّرَدُّدَ كَانَ نَائِمًا فِي نُفُوسِهِمْ، وَهُوَ عُرْضَةٌ لِأَنْ يُوقِظَهُ نَقِيضُهُ وَيَذْهَبَ بِهِ مَتَى طَرَأَ، وَنَوْمُ الظَّنِّ لَا يَصِحُّ أَنْ يُسَمَّى اعْتِقَادًا.
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: هَذِهِ الْأَمَانِيُّ تُوجَدُ فِي كُلِّ الْأُمَمِ فِي حَالِ الضَّعْفِ وَالِانْحِطَاطِ، يَفْتَخِرُونَ بِمَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ مِنَ الشَّرِيعَةِ، وَبِسَلَفِهِمُ الَّذِينَ كَانُوا مُهْتَدِينَ بِهَا، وَبِمَا لَهُمْ مِنَ الْآثَارِ الَّتِي كَانَتْ ثَمَرَةَ تِلْكَ الْهِدَايَةِ، وَتُسَوِّلُ لَهُمُ الْأَمَانِيُّ أَنَّ ذَلِكَ كَافٍ فِي نَجَاتِهِمْ وَسَعَادَتِهِمْ وَفَضْلِهِمْ عَلَى سَائِرِ النَّاسِ. هَكَذَا كَانَ الْيَهُودُ فِي زَمَنِ التَّنْزِيلِ، وَقَدِ اتَّبَعْنَا سُنَنَهُمْ وَتَلَوْنَا تُلُوَّهُمْ، فَظَهَرَ فِينَا تَأْوِيلُ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ ((لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ قَبْلَكُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ)) وَإِنَّنَا نَقْرَأُ أَخْبَارَهُمْ فَنَسْخَرُ مِنْهُمْ وَلَا نَسْخَرُ مِنْ أَنْفُسِنَا، وَنَعْجَبُ لَهُمْ كَيْفَ رَضُوا بِالْأَمَانِيِّ، وَنَحْنُ غَارِقُونَ فِيهَا!
ثُمَّ إِنَّ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ التَّقْلِيدِ وَعَدَمِ الِاعْتِدَادِ بِإِيمَانِ صَاحِبِهِ، وَقَدْ مَضَى عَلَى هَذَا إِجْمَاعُ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ وَأَهْلِ الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ، وَإِنَّمَا كَانَ الْجَاهِلُ يَأْخُذُ عَنِ الْعَالِمِ الْعَقِيدَةَ بِبُرْهَانِهَا، وَالْأَحْكَامَ بِرِوَايَتِهَا، وَلَا يَتَقَلَّدُ رَأْيَهُ كَيْفَمَا كَانَ مِنْ غَيْرِ بَيِّنَةٍ وَلَا بُرْهَانٍ، وَفَسَّرَ بَعْضُهُمُ الْأَمَانِيَّ بِالْأَكَاذِيبِ ابْتِدَاءً، وَمِنْهُمْ مَنْ فَسَّرَهَا بِالْقِرَاءَاتِ، أَيْ أَنَّهُمْ لَا حَظَّ لَهُمْ مِنَ الْكِتَابِ إِلَّا قِرَاءَةَ أَلْفَاظِهِ مِنْ غَيْرِ فَهْمٍ وَلَا اعْتِبَارٍ يَظْهَرُ أَثَرُهُمَا فِي الْعَمَلِ، فَهُوَ عَلَى حَدِّ (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا) (62: 5) وَقَدْ وَرَدَ التَّمَنِّي بِمَعْنَى الْقِرَاءَةِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
تَمَنَّى كِتَابَ اللهِ أَوَّلَ لَيْلِهِ
…
تَمَنِّيَ دَاوُدَ الزَّبُورَ عَلَى رِسْلِ
وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ التَّمَنِّي قَدْ بَرَزَ فِيهِ الْمُسْلِمُونَ حَتَّى سَبَقُوا مَنْ قَبْلَهُمْ، فَقَدْ أَمْسَوْا
أَكْثَرَ الْأُمَمِ تِلَاوَةً لِكِتَابِهِمْ، وَأَقَلَّهُمْ فَهْمًا لَهُ وَاهْتِدَاءً بِهِ.
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّمَا يُحْسِنُ تَفْسِيرَ هَذِهِ الْآيَاتِ مَنْ كَانَ عَلَى عِلْمٍ بِتَارِيخِ الْيَهُودِ فِي ذَلِكَ الْعَصْرِ وَوُقُوفٍ عَلَى حَالِهِمْ، وَإِنْ كَانَتْ إِلَّا نُسْخَةً مِنْ حَالِ بَعْضِ الشُّعُوبِ الْمَوْجُودِينَ الْآنَ. . . كَانُوا أَكْثَرَ النَّاسِ مِرَاءً وَجِدَالًا فِي الْحَقِّ وَإِنْ كَانَ بَيِّنًا بَاهِرًا، وَأَشَدَّ النَّاسِ كَذِبًا وَغُرُورًا وَأَكْلًا لِأَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ كَالرِّبَا الْفَاحِشِ، وَغِشًّا وَتَدْلِيسًا وَتَلْبِيسًا، وَكَانُوا مَعَ ذَلِكَ يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُمْ شَعْبُ اللهِ الْخَاصُّ وَأَفْضَلُ النَّاسِ كَمَا يَعْتَقِدُ أَشْبَاهُهُمْ فِي هَذَا الزَّمَانِ، فَهَذِهِ هِيَ الْأَمَانِيُّ الَّتِي صَدَّتْهُمْ عَنْ قَبُولِ الْإِسْلَامِ.
وَأَمَّا اللَّفْظُ وَالنَّظْمُ فَفِيهِ أَنَّ قَوْلَهُ - تَعَالَى -: (إِلَّا أَمَانِيَّ) اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ، وَالْعِلْمُ الْمَنْفِيُّ قَاصِرٌ لَا يَشْمَلُ الْأَمَانِيَّ، وَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مُتَعَدِّيًا، وَالْآيَةُ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِمْ: مَا عَلِمْتُ فُلَانًا إِلَّا فَاضِلًا، وَيَكُونُ الْمَعْنَى أَنَّهُمْ إِنَّمَا يَعْلَمُونَ مِنَ الْكِتَابِ أَنَّهُ مَجْمُوعَةُ أَمَانِيٍّ يُمَنُّونَهَا أَنْفُسَهُمْ، فَهُمْ لَا يَأْخُذُونَ مِنْهُ إِلَّا مَا هُوَ لَهُمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي غُرُورِهِمْ، وَأَمَّا مَا يُنَبِّهُهُمْ عَلَى سَيِّئَاتِ أَعْمَالِهِمْ فَكَأَنَّهُ غَيْرُ مَعْرُوفٍ لَهُمْ مِنَ الْكِتَابِ.
ثُمَّ قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ)
قَالَ الْمُفَسِّرُ (الْجَلَالُ) : إِنَّهُمْ كَانُوا يَكْتُبُونَ الْأَحْكَامَ عَلَى خِلَافِ مَا هِيَ عَلَيْهِ فِي الْكِتَابِ، كَآيَةِ الرَّجْمِ وَوَصَفِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: لَوْ كَانَ هَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ لَمَا بُدِئَ الْكَلَامُ بِالْفَاءِ، وَإِنَّمَا الْآيَةُ وَعِيدٌ عَلَى أَنْ لَبَّسُوا عَلَى النَّاسِ بِالْكِتَابَةِ، وَتَأْلِيفِ الْكُتُبِ الدِّينِيَّةِ وَإِيهَامِ الْعَامَّةِ أَنَّ كُلَّ مَا كَتَبُوهُ فِيهَا مَأْخُوذٌ مِنْ كِتَابِ اللهِ كَمَا يَعْتَقِدُ الْمُقَلِّدُونَ مِنْ كُلِّ مِلَّةٍ بِكُتُبِ الدِّينِ الَّتِي يُؤَلِّفُهَا عُلَمَاؤُهُمْ فِي الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ، حَتَّى إِنَّ بَعْضَهُمْ يَقُولُ: إِنَّ اخْتِلَافَهَا لَا يُنَافِي كَوْنَهَا مِنْ عِنْدِ اللهِ، خِلَافًا لِقَوْلِهِ - تَعَالَى -:(وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا)(4: 82) ، فَهَذِهِ الْكُتُبُ هِيَ مَثَارُ الْأَمَانِيِّ وَالْغُرُورِ؛ وَلِذَلِكَ أَنْزَلَ عَلَى
أَصْحَابِهَا الْهَلَاكَ بَعْدَ مَا ذَكَرَ أَصْنَافَ الْيَهُودِ مِنْ مُنَافِقِينَ وَمُحَرِّفِينَ وَأُمِّيِّينَ فَقَالَ: (فَوَيْلٌ لِلَّذِينِ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللهِ) .
أَقُولُ: أَيْ وَيْلٌ وَهَلَاكٌ عَظِيمٌ لِأُولَئِكَ الْعُلَمَاءِ الَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكُتُبَ بِأَيْدِيهِمْ وَيُودِعُونَهَا آرَاءَهُمْ وَيَحْمِلُونَ النَّاسَ عَلَى التَّعَبُّدِ بِهَا قَائِلِينَ:إِنَّ مَا فِيهَا مِنْ عِنْدِ اللهِ وَيُمْكِنُ الِاسْتِغْنَاءُ بِهَا عَنِ الْكِتَابِ الَّذِي نَفْهَمُ مِنْهُ مَا لَا يَفْهَمُ غَيْرُنَا، يَخْطُبُونَ بِتِلْكَ الْكُتُبِ مَيْلَ الْعَامَّةِ وَوُدَّهُمْ، وَيَبْتَغُونَ الْجَاهَ عِنْدَهُمْ وَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَهُمْ بِالدِّينِ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ:(لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا) ، وَكُلُّ مَا يُبَاعُ بِهِ الْحَقُّ وَيُتْرَكُ لِأَجْلِهِ فَهُوَ قَلِيلٌ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ أَثْمَنُ الْأَشْيَاءِ وَأَغْلَاهَا، وَأَرْفَعُهَا وَأَعْلَاهَا؛ وَلِذَلِكَ كَرَّرَ الْوَعِيدَ فَقَالَ:(فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ) ، فَالْهَلَاكُ وَالْوَيْلُ مُحِيطٌ بِهِمْ مِنْ أَقْطَارِهِمْ، وَنَازِلٌ بِهِمْ مِنْ جَانِبِ الْوَسِيلَةِ وَمِنْ جَانِبِ الْمَقْصِدِ.
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: مَنْ شَاءَ أَنْ يَرَى نُسْخَةً مِمَّا كَانَ عَلَيْهِ أُولَئِكَ الْيَهُودُ، فَلْيَنْظُرْ فِيمَا بَيْنَ يَدَيْهِ، فَإِنَّهُ يَرَاهَا وَاضِحَةً جَلِيَّةً، يَرَى كُتُبًا أُلِّفَتْ فِي عَقَائِدِ الدِّينِ وَأَحْكَامِهِ حَرَّفُوا فِيهَا مَقَاصِدَهُ وَحَوَّلُوهَا إِلَى مَا يَغُرُّ النَّاسَ وَيُمَنِّيهِمْ وَيُفْسِدُ عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ، وَيَقُولُونَ: هِيَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَمَا هِيَ مِنْ عِنْدِ اللهِ، وَإِنَّمَا هِيَ صَادَّةٌ عَنِ النَّظَرِ فِي كِتَابِ اللهِ وَالِاهْتِدَاءِ بِهِ، وَلَا يَعْمَلُ هَذَا إِلَّا أَحَدُ رَجُلَيْنِ: رَجُلٌ مَارِقٌ مِنَ الدِّينِ يَتَعَمَّدُ إِفْسَادَهُ وَيَتَوَخَّى إِضْلَالَ أَهْلِهِ، فَيَلْبَسُ لِبَاسَ الدِّينِ وَيَظْهَرُ بِمَظْهَرِ أَهْلِ الصَّلَاحِ، يُخَادِعُ بِذَلِكَ النَّاسَ لِيَقْبَلُوا مَا يَكْتُبُ وَيَقُولُ، وَرَجُلٌ يَتَحَرَّى التَّأْوِيلَ وَيَسْتَنْبِطُ الْحِيَلَ لِيُسَهِّلَ عَلَى النَّاسِ مُخَالَفَةَ الشَّرِيعَةِ ابْتِغَاءَ الْمَالِ وَالْجَاهِ.
ثُمَّ ذَكَرَ الْأُسْتَاذُ وَقَائِعَ، طَابَقَ فِيهَا بَيْنَ مَا كَانَ عَلَيْهِ الْيَهُودُ مِنْ قَبْلُ، وَمَا عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ الْآنَ، ذَكَرَ وَقَائِعَ لِلْقُضَاةِ وَالْمَأْذُونِينَ، وَلِلْعُلَمَاءِ وَالْوَاعِظِينَ، فَسَقُوا فِيهَا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَتَأَوَّلُ وَيَغْتَرُّ بِأَنَّهُ يَقْصِدُ نَفْعَ أُمَّتِهِ، كَمَا كَانَ أَحْبَارُ الْيَهُودُ يُفْتُونَ بِأَكْلِ الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً لِيَسْتَغْنِيَ شَعْبُ إِسْرَائِيلَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَفْعَلُ مَا يَفْعَلُ عَامِدًا عَالِمًا أَنَّهُ مُبْطَلٌ، وَلَكِنْ تَغُرُّهُ أَمَانِيُّ الشَّفَاعَاتِ وَالْمُكَفِّرَاتِ.
(وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)
هَذَا ضَرْبٌ مِنْ ضُرُوبِ غُرُورِهِمْ، عَطَفَهُ عَلَى مَا قَبْلَهُ فَقَالَ:(وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً) قِيلَ: هِيَ أَرْبَعُونَ يَوْمًا مُدَّةُ عِبَادَتِهِمُ الْعِجْلَ، وَالَّذِي عَلَيْهِ أَكْثَرُ الْيَهُودِ أَنَّهَا سَبْعَةُ أَيَّامٍ؛ لِأَنَّ عُمْرَ الدُّنْيَا عِنْدَهُمْ سَبْعَةُ آلَافِ سَنَةٍ، فَالْإِسْرَائِيلِيُّ الَّذِي لَا تُدْرِكُهُ الشَّفَاعَةُ يَمْكُثُ فِي النَّارِ سَبْعَةَ أَيَّامٍ عَنْ كُلِّ أَلْفِ سَنَةٍ يَوْمًا، وَمِثْلُ هَذَا الْحُكْمِ لَا يُمْكِنُ الْقَوْلُ بِهِ إِلَّا بِعَهْدٍ مِنَ اللهِ - تَعَالَى - مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ وَالْجَزَاءِ، وَإِلَّا كَانَ افْتِئَاتًا عَلَيْهِ سُبْحَانَهُ، وَقَوْلًا عَلَيْهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ، وَهَذَا مَا رَدَّ بِهِ عَلَيْهِمْ، وَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ، وَأَمَرَ رَسُولَهُ أَنْ يُخَاطِبَهُمْ بِهِ بِقَوْلِهِ:(قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ عَهْدَهُ)، أَيْ هَلْ عَهِدَ اللهُ إِلَيْكُمْ ذَلِكَ وَوَعَدَ بِهِ فَكَانَ حَقًّا لَكُمْ عِنْدَهُ؛ لِأَنَّ اللهَ لَا يُخْلِفُ عَهْدَهُ؟ وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ وَبَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: مَعْنَاهُ: هَلِ اتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللهِ عَهْدًا بِاتِّبَاعِ شَرِيعَتِهِ اعْتِقَادًا وَائْتِمَارًا وَانْتِهَاءً وَتَخَلُّقًا، فَأَنْتُمْ وَاثِقُونَ بِعَهْدِ اللهِ فِي كِتَابِهِ لِمَنْ كَانَ كَذَلِكَ بِالنَّجَاةِ مِنَ النَّارِ وَدُخُولِ الْجَنَّةِ وَمَغْفِرَةِ مَا عَسَاهُ يَفْرُطُ مِنْهُ مِنَ السَّيِّئَاتِ أَوِ الْعُقُوبَةِ عَلَيْهِ مُدَّةً قَصِيرَةً؟ !
وَالِاسْتِفْهَامُ لِلْإِنْكَارِ، أَيْ لَسْتُمْ عَلَى عَهْدٍ مِنَ اللهِ - تَعَالَى - وَلِذَلِكَ كَذَّبَهُمْ بِقَوْلِهِ:(أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ) ، أَيْ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ شَيْئًا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ، إِذِ الْعِلْمُ بِمِثْلِهِ لَا يَكُونُ إِلَّا بِوَحْيٍ مِنْهُ يُبَلِّغُهُ عَنْهُ رُسُلُهُ، وَالْقَوْلُ عَلَى اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ جُرْأَةٌ وَافْتِيَاتٌ عَلَيْهِ وَكُفْرٌ بِهِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ إِذْ لَا وَاسِطَةَ بَيْنَهُمَا: إِمَّا اتِّخَاذُ عَهْدِ اللهِ، وَإِمَّا الْقَوْلُ عَلَى اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ، وَإِذَا كَانَ اتِّخَاذُ الْعَهْدِ لَمْ يَحْصُلْ، تَعَيَّنَ أَنَّكُمْ تَكْذِبُونَ عَلَى اللهِ بِجَهْلِكُمْ وَغُرُورِكُمْ، (بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً) الْآيَةِ، (بَلَى) مُبْطِلَةٌ لِدَعْوَاهُمْ،
وَقَالَ الْأُسْتَاذُ: لِلسَّيِّئَةِ هُنَا إِطْلَاقُهَا، وَخَصَّهَا مُفَسِّرُنَا (الْجَلَالُ) وَبَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ بِالشِّرْكِ، وَلَوْ صَحَّ هَذَا لَمَا كَانَ لِقَوْلِهِ - تَعَالَى -:(وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ) مَعْنًى؛ فَإِنَّ الشِّرْكَ أَكْبَرُ السَّيِّئَاتِ، وَهُوَ يَسْتَحِقُّ هَذَا الْوَعِيدَ لِذَاتِهِ كَيْفَمَا كَانَ، وَمَعْنَى إِحَاطَةِ الْخَطِيئَةِ هُوَ حَصْرُهَا لِصَاحِبِهَا، وَأَخْذُهَا بِجَوَانِبِ إِحْسَاسِهِ وَوِجْدَانِهِ، كَأَنَّهُ مَحْبُوسٌ فِيهَا لَا يَجِدُ لِنَفْسِهِ
مَخْرَجًا مِنْهَا، يَرَى نَفْسَهُ حُرًّا مُطْلَقًا وَهُوَ أَسِيرُ الشَّهَوَاتِ، وَسَجِينُ الْمُوبِقَاتِ، وَرَهِينُ الظُّلُمَاتِ، وَإِنَّمَا تَكُونُ الْإِحَاطَةُ بِالِاسْتِرْسَالِ فِي الذُّنُوبِ، وَالتَّمَادِي عَلَى الْإِصْرَارِ، قَالَ - تَعَالَى -:(كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)(83: 14) أَيْ مِنَ الْخَطَايَا وَالسَّيِّئَاتِ، فَفِي كَلِمَةِ (يَكْسِبُونَ) مَعْنَى الِاسْتِرْسَالِ وَالِاسْتِمْرَارِ، وَرَانَ عَلَيْهِ: غَطَّاهُ وَسَتَرَهُ، أَيْ أَنَّ قُلُوبَهُمْ قَدْ أَصْبَحَتْ فِي غُلْفٍ مِنْ ظُلُمَاتِ الْمَعَاصِي، حَتَّى لَمْ يَبْقَ مَنْفَذٌ لِلنُّورِ يَدْخُلُ إِلَيْهَا مِنْهُ، وَمَنْ أَحْدَثَ لِكُلِّ سَيِّئَةٍ يَقَعُ فِيهَا تَوْبَةً نَصُوحًا وَإِقْلَاعًا صَحِيحًا، لَا تُحِيطُ بِهِ الْخَطَايَا، وَلَا تَرِينُ عَلَى قَلْبِهِ السَّيِّئَاتُ. رَوَى أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالْحَاكِمُ - وَصَحَّحَاهُ - وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ حِبَّانَ وَغَيْرُهُمْ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:((إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا أَذْنَبَ ذَنْبًا نُكِتَتْ فِي قَلْبِهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، فَإِنْ تَابَ وَنَزَعَ وَاسْتَغْفَرَ صُقِلَ قَلْبُهُ، وَإِنْ عَادَ زَادَتْ حَتَّى تَعْلُوَ قَلْبَهُ، فَذَلِكَ الرَّانُ الَّذِي ذَكَرَ اللهَ - تَعَالَى - فِي الْقُرْآنِ: (كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)(83: 14)) ) .
لِمِثْلِ هَذَا كَانَ السَّلَفُ يَقُولُونَ: الْمَعَاصِي بَرِيدُ الْكُفْرِ.
قَوْلُهُ: (فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) خَبَرُ (مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ) ، أَيْ هُمْ أَصْحَابُ دَارِ الْعَذَابِ فِي الْآخِرَةِ الْأَحِقَّاءُ بِهَا دُونَ مَنْ لَمْ يَصِلْ إِلَى دَرَجَتِهِمْ فِي الدُّنْيَا، وَهُوَ مَنْ فِي قَلْبِهِ شَيْءٌ مِنْ نُورِ الْإِيمَانِ وَتَوْحِيدِ اللهِ - تَعَالَى - وَمَا يَتْبَعُهُ مِنَ الْخَيْرِ.
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ تَرَكَ السَّيِّئَةَ فِي الْآيَةِ عَلَى إِطْلَاقِهَا فَلَمْ يُؤَوِّلْهَا بِالشِّرْكِ، وَلَكِنَّهُمْ أَوَّلُوا جَزَاءَهَا فَقَالُوا: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْخُلُودِ طُولُ مُدَّةِ الْمُكْثِ؛ لِأَنَّ الْمُؤْمِنَ مَنْ لَا يَخْلُدُ فِي النَّارِ وَإِنِ اسْتَغْرَقَتِ الْمَعَاصِي عُمْرَهُ وَأَحَاطَتِ الْخَطَايَا بِنَفْسِهِ فَانْهَمَكَ فِيهَا طُولَ حَيَاتِهِ.
أَوَّلُوا هَذَا التَّأْوِيلَ هُرُوبًا مِنْ قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ: إِنَّ أَصْحَابَ الْكَبَائِرِ يُخَلَّدُونَ فِي النَّارِ، وَتَأْيِيدًا لِمَذْهَبِهِمْ أَنْفُسِهِمُ الْمُخَالِفِ لِلْمُعْتَزِلَةِ، وَالْقُرْآنُ فَوْقَ
الْمَذَاهِبِ يُرْشِدُ إِلَى أَنَّ مَنْ تُحِيطُ بِهِ خَطِيئَتُهُ، لَا يَكُونُ أَوْ لَا يَبْقَى مُؤْمِنًا.
(وَأَقُولُ) -: إِنَّ فَتْحَ بَابِ تَأْوِيلِ الْخُلُودِ يُجَرِّئُ أَصْحَابَ اسْتِقْلَالِ الْفِكْرِ فِي هَذَا الزَّمَانِ عَلَى الدُّخُولِ فِيهِ، وَالْقَوْلِ بِأَنَّ مَعْنَى خُلُودِ الْكَافِرِينَ فِي الْعَذَابِ طُولُ مُكْثِهِمْ فِيهِ؛ لِأَنَّ الرَّحْمَنَ الرَّحِيمَ الَّذِي سَبَقَتْ رَحْمَتُهُ غَضَبَهُ، مَا كَانَ لِيُعَذِّبَ خَلْقَهُ عَذَابًا لَا نِهَايَةَ لَهُ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَهْتَدُوا بِالدِّينِ الَّذِي شَرَعَهُ لِمَنْفَعَتِهِمْ لَا لِمَنْفَعَتِهِ، وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يَفْقَهُوا الْمَنْفَعَةَ، وَإِذَا كَانَ التَّقْلِيدُ مَقْبُولًا عِنْدَ اللهِ كَمَا يَرَى فَاتِحُو الْبَابِ، فَقَدْ وَضَحَ عُذْرُ الْأَكْثَرِينَ؛ لِأَنَّهُمْ مُقَلِّدُونَ لِعُلَمَائِهِمْ إِلَى آخِرِ مَا يَتَكَلَّمُ بِهِ النَّاسُ وَلَا سِيَّمَا فِي هَذَا الْعَصْرِ، فَإِنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ قَدِيمَةٌ، وَهِيَ أَكْبَرُ مُشْكِلَاتِ الدِّينِ.
نَعَمْ، إِنَّ الْعُلَمَاءَ يَحْتَجُّونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِجْمَاعِ - وَلَوْ سُكُوتِيًّا - وَلَكِنَّ التَّأْوِيلَ بَابٌ لَا يَكَادُ يَسُدُّهُ - مَتَى فُتِحَ - شَيْءٌ.
ثُمَّ ذَكَرَ فِي مُقَابَلَةِ أَهْلِ النَّارِ أَضْدَادَهُمْ أَهْلَ الْجَنَّةِ عَلَى سُنَّتِهِ فِي كِتَابِهِ، فَقَالَ:(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ)
،
وَأَمَّا الَّذِينَ جَمَعُوا بَيْنَ الْإِيمَانِ الصَّحِيحِ وَمَا يَلْزَمُهُ مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَاتِ فَ (أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) . أَقُولُ: أَيْ أُولَئِكَ دُونَ غَيْرِهِمْ أَصْحَابُهَا الْحَقِيقِيُّونَ بِهَا، بِحَسَبِ وَعْدِ اللهِ وَفَضْلِهِ هُمْ خَالِدُونَ فِيهَا. وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْوَعْدَ عَلَى الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ مَعًا، إِذْ لَا يَنْفَكُّ أَحَدُهُمَا عَنِ الْآخَرِ، إِلَّا مَنْ آمَنَ فَمَاتَ وَلَمْ يَتَّسِعْ لَهُ الْوَقْتُ لِلْعَمَلِ، فَهُوَ مِنْ أَهْلِهِ بِمُقْتَضَى إِيمَانِهِ الصَّحِيحِ، وَمَا حَالَ دُونَهُ مِنَ الْآجَالِ عُذْرٌ؛ لِأَنَّهُ لَا ذَنْبَ لَهُ فِيهِ.
(وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ)
الْآيَاتُ السَّابِقَةُ كَانَتْ تَذْكِيرًا بِالنِّعَمِ التَّارِيخِيَّةِ الْمَلِيَّةِ، وَبِالتَّقْصِيرِ فِي الشُّكْرِ وَعَوَاقِبِهِ، وَذَلِكَ كَالتَّفْضِيلِ عَلَى الْعَالَمِينَ الَّذِي يَرْفَعُ النَّفْسَ، وَالْإِنْجَاءِ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ وَمِنَ الْغَرَقِ، وَإِيتَاءِ مُوسَى الْكِتَابَ وَالْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ، وَتَسْهِيلِ الْمَعِيشَةِ عَلَيْهِمْ فِي التِّيهِ بِمَا سَاقَ اللهُ إِلَيْهِمْ مِنَ الْمَنِّ وَالسَّلْوَى، ثُمَّ مَا كَانَ مِنْهُمْ فِي أَثَرِ كُلِّ نِعْمَةٍ وَمَا أَعْقَبَهُ
كُفْرُ النِّعَمِ مِنَ النِّقَمِ. وَلَمْ يَذْكُرْ فِيمَا سَبَقَ مِنَ الْأَحْكَامِ الْعَمَلِيَّةِ إِلَّا مَا جَاءَ عَلَى سَبِيلِ التَّبَعِ لِهَذِهِ الْأُصُولِ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ وَمَا بَعْدَهَا التَّذْكِيرُ بِأُمَّهَاتِ الْأَحْكَامِ فِي الْعِبَادَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ وَمَا كَانَ مِنْ إِهْمَالِهَا وَتَرْكِ الْعَمَلِ بِهَا. هَذَا هُوَ الْمُرَادُ أَوَّلًا وَبِالذَّاتِ عَلَى أَنَّ فِيمَا يَأْتِي إِعَادَةَ الْإِشَارَةِ إِلَى بَعْضِ مَا مَضَى، قَضَى بِهَا مَا كَانَ عَلَيْهِ الْيَهُودُ مِنْ سُوءِ الْفَهْمِ وَغِلَظِ الْقُلُوبِ وَكَثْرَةِ الْمُشَاغَبَاتِ وَالْمُمَارَاةِ، فَالْخِطَابُ مَعَهُمْ دَائِمًا فِي بَابِ الْإِطْنَابِ.
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: لَاحَظَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ وَالْمُفَسِّرِينَ أَنَّ الْقُرْآنَ يُطْنِبُ وَيُبْدِئُ وَيُعِيدُ فِي خِطَابِ الْيَهُودِ خَاصَّةً، وَذَلِكَ لِمَا كَانَتْ شُحِنَتْ بِهِ أَذْهَانُهُمْ مِمَّا يُسَمَّى عِلْمًا أَوْ فِقْهًا، فَأَبْعَدَهُمْ عَنْ أَنْ يَصِلَ شُعَاعُ الْحَقِّ إِلَى مَا وَرَاءِ ذَلِكَ فِي نُفُوسِهِمْ وَيَكْتَفِي بِالْإِيجَازِ، بَلْ بِالْإِشَارَةِ الدَّقِيقَةِ فِي خِطَابِ الْعَرَبِ لِمَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ سُرْعَةِ الْفَهْمِ وَرِقَّةِ الْإِحْسَاسِ لِقُرْبِهِمْ مِنَ السَّذَاجَةِ الْفِطْرِيَّةِ، فَالْإِشَارَةُ إِلَى الْبُرْهَانِ فِي ضِمْنِ تَمْثِيلٍ يُغْنِي عِنْدَهُمْ عَنِ الْإِسْهَابِ وَالتَّطْوِيلِ؛ وَلِذَلِكَ خَاطَبَهُمْ بِمِثْلِ قَوْلِهِ فِي الْأَصْنَامِ:(وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ)(22: 73) .
قَوْلُهُ - تَعَالَى -: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ) أَيْ وَاذْكُرْ أَيُّهَا الرَّسُولُ إِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ أَخْذِ الْمِيثَاقِ عَلَيْهِمْ فِي سِيَاقِ خِطَابِهِمْ، وَلَمْ يُبَيِّنْهُ لِعِلْمِهِمْ بِهِ، وَقَوْلُهُ هُنَا:(لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ) . . . إِلَخْ بَيَانٌ لَهُ - أَيْ لِلْمِيثَاقِ - لَا مَقُولُ قَوْلٍ مَحْذُوفٍ كَمَا قَالَ الْمُفَسِّرُ.
يُقَالُ: أَخَذْتُ عَلَيْكَ عَهْدًا تَفْعَلُ كَذَا، كَمَا تَقُولُ: أَنْ تَفْعَلَ كَذَا سَوَاءٌ، وَهُوَ خَبَرٌ بِمَعْنَى النَّهْيِ لِلْمُبَالَغَةِ وَالتَّأْكِيدِ، يُلَاحَظُ فِيهِ أَنَّ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ قَدِ امْتَثَلَ فَيُخْبِرُ بِوُقُوعِهِ، أَوْ إِنَّهُ - لِتَوْثِيقِهِ وَالتَّشْدِيدِ فِي تَأْكِيدِهِ - سَيَمْتَثِلُ حَتْمًا فَيُخْبِرُ بِأَنَّهُ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ. (أَقُولُ) وَهَذَا النَّهْيُ عَنْ عِبَادَةِ غَيْرِ اللهِ مُسْتَلْزِمٌ لِلْأَمْرِ بِعِبَادَتِهِ - تَعَالَى - وَلَمْ يُصَرِّحْ بِهِ؛ وَلِأَنَّهُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ اللهَ، وَإِنَّمَا يَخْشَى عَلَيْهِمُ الشِّرْكَ بِهِ كَمَا وَقَعَ مِنْهُمْ فِي بَعْضِ الْأَجْيَالِ وَمِنْ غَيْرِهِمْ مِنَ الشُّعُوبِ، فَالْأَصْلُ الْأَوَّلُ لِدِينِ اللهِ عَلَى أَلْسِنَةِ جَمِيعِ رُسُلِهِ هُوَ أَنْ يُعْبَدَ اللهُ وَحْدَهُ، وَلَا يُشْرَكَ بِهِ عِبَادَةُ أَحَدٍ سِوَاهُ مِنْ مَلَكٍ وَلَا بَشَرٍ وَلَا مَا دُونَهُمَا بِدُعَاءٍ وَلَا بِغَيْرِهِ مِنْ أَنْوَاعِ الْعِبَادَةِ، كَمَا قَالَ:(وَاعْبُدُوا اللهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا)(4: 36) فَالتَّوْحِيدُ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِالْجَمْعِ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ.
قَالَ - تَعَالَى -: (وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا) أَيْ وَتُحْسِنُونَ بِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا، وَالْإِحْسَانُ
نِهَايَةُ الْبِرِّ فَيَدْخُلُ فِيهِ جَمِيعُ مَا يَجِبُ مِنَ الرِّعَايَةِ وَالْعِنَايَةِ، وَقَدْ أَكَّدَ اللهُ الْأَمْرَ بِإِكْرَامِ الْوَالِدَيْنِ فِي التَّوْرَاةِ حَتَّى إِنَّهُ يُوجَدُ فِيهَا الْآنَ أَنَّ مَنْ يَسُبُّ وَالِدَيْهِ يُقْتَلُ، وَقَدْ قَرَنَ الْأَمْرَ بِالْإِحْسَانِ بِالْوَالِدَيْنِ إِلَى الْأَمْرِ بِالتَّوْحِيدِ أَوِ النَّهْيِ عَنِ الشِّرْكِ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -:(وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا)(17: 23) . وَلَيْسَتْ هَذِهِ الْعِنَايَةُ بِأَمْرِ الْوَالِدَيْنِ فِي الْكُتُبِ السَّمَاوِيَّةِ لِكَوْنِهِمَا سَبَبَ وُجُودِ الْوَلَدِ كَمَا يَقُولُ النَّاسُ، فَإِنَّهُ لَا مِنَّةَ لَهُمَا عَلَى الْوَلَدِ بِهَذِهِ السَّبَبِيَّةِ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ إِكْرَامًا لَهُ وَلَا عِنَايَةً بِهِ، كَيْفَ وَهُوَ لَمْ يَكُنْ مَعْرُوفًا أَوْ مَوْجُودًا فَيُكْرَمُ! ، وَإِنَّمَا كَانَتْ بِبَاعِثِ الشَّهْوَةِ وَإِرْضَاءِ النَّفْسِ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَكُنْ يَخْطُرُ بِبَالِهِ الْوَلَدُ إِلَّا بَعْدَ الزَّوَاجِ بِزَمَنٍ طَوِيلٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ يَوَدُّ أَلَّا يُولَدَ لَهُ، أَوْ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ وَاحِدٌ أَوْ وَلَدَانِ فَقَطْ فَيَكُونَ لَهُ أَكْثَرُ. فَإِذَا كَانَ وُجُوبُ الْإِحْسَانِ بِالْوَالِدَيْنِ مَعْلُولًا لِإِرَادَتِهِمَا الْوَلَدَ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُخَصَّ هَذَا الْإِحْسَانُ بِوَلَدٍ لَمْ يَكُنْ لَهُمَا مِنَ الزَّوْجِيَّةِ حَظٌّ سِوَاهُ بِعَيْنِهِ، وَهُوَ مَا لَا وُجُودَ لَهُ، ذَلِكَ كَلَامٌ شِعْرِيٌّ، وَالْعِلَّةُ الصَّحِيحَةُ فِي وُجُوبِ هَذَا الْإِحْسَانِ عَلَى الْوَلَدِ هِيَ الْعِنَايَةُ الصَّادِقَةُ الَّتِي بَذَلَاهَا فِي تَرْبِيَتِهِ، وَالْقِيَامِ بِشُئُونِهِ أَيَّامَ كَانَ ضَعِيفًا عَاجِزًا جَاهِلًا، لَا يَمْلِكُ لِنَفْسِهِ نَفْعًا، وَلَا يَقْدِرُ أَنْ يَدْفَعَ عَنْهَا ضَرَرًا، إِذْ كَانَا يَحُوطَانِهِ بِالْعِنَايَةِ وَالرِّعَايَةِ، وَيَكْفُلَانِهِ حَتَّى يَقْدِرَ عَلَى الِاسْتِقْلَالِ وَالْقِيَامِ بِشَأْنِ نَفْسِهِ، فَهَذَا هُوَ الْإِحْسَانُ الَّذِي يَكُونُ مِنْهُمَا عَنْ عِلْمٍ وَاخْتِيَارٍ، بَلْ مَعَ الشَّغَفِ الصَّحِيحِ وَالْحَنَانِ الْعَظِيمِ، وَمَا جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ، وَإِذَا وَجَبَ عَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَشْكُرَ لِكُلِّ مَنْ يُسَاعِدُهُ عَلَى أَمْرٍ عَسِيرٍ فَضْلَهُ، وَيُكَافِئَهُ بِمَا يَلِيقُ بِهِ عَلَى حَسَبِ الْحَالِ فِي الْمُسَاعِدِ، وَمَا كَانَتْ بِهِ الْمُسَاعَدَةُ، فَكَيْفَ لَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الشُّكْرُ لِلْوَالِدَيْنِ بَعْدَ الشُّكْرِ لِلَّهِ - تَعَالَى - وَهُمَا اللَّذَانِ كَانَا يُسَاعِدَانِهِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ أَيَّامَ كَانَ يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ كُلُّ شَيْءٍ؟ ! .
وَكَذَلِكَ حُبُّ الْوَالِدَيْنِ لِلْوَلَدِ لَيْسَتْ عِلَّتُهُ - كَمَا يَقُولُ النَّاسُ - كَوْنَهُ جُزْءًا مِنْهُمَا وَفِلْذَةَ كَبِدِهِمَا، هَذَا كَلَامٌ شِعْرِيٌّ لَا حَقِيقِيٌّ أَيْضًا، فَإِنَّ جِسْمَ الْإِنْسَانِ مُرَكَّبٌ مِنَ الْأَغْذِيَةِ النَّبَاتِيَّةِ وَالْحَيَوَانِيَّةِ، فَلَوْ كَانَتِ الْعِلَّةُ صَحِيحَةً، لَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُحِبَّ الْحِنْطَةَ وَالْغَنَمَ أَكْثَرَ مِمَّا يُحِبُّ وَالِدَيْهِ، وَإِنَّمَا لِحُبِّ الْوَالِدَيْنِ الْوَلَدَ مَنْبَعَانِ:(أَحَدُهُمَا) : حَنَانٌ فِطْرِيٌّ أَوْدَعَهُ اللهُ - تَعَالَى - فِيهِمَا لِإِتْمَامِ حِكْمَتِهِ (وَثَانِيهُمَا) : مَا جَرَتْ بِهِ سُنَّةُ الْبَشَرِ مِنَ
التَّفَاخُرِ بِالْأَوْلَادِ، وَمِنَ الْأَمَلِ بِالِاسْتِفَادَةِ مِنْهُمْ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَلَيْسَتِ الْفَائِدَةُ مَحْصُورَةً فِي الْمَالِ وَالْعَوْنِ عَلَى الْمَعِيشَةِ، وَإِنَّمَا تَتَنَاوَلُ الشَّرَفَ وَالْجَاهَ أَيْضًا.
وَكَمْ أَبٍ قَدْ عَلَا بِابْنٍ لَهُ شَرَفًا
…
كَمَا عَلَا بِرَسُولِ اللهِ عَدْنَانُ
وَلَمَّا كَانَ حُبُّ الْوَالِدَيْنِ لِلْأَوْلَادِ بِمَكَانَةٍ مِنَ الْقُوَّةِ لَا يُخْشَى زَوَالُهَا، تَرَكَ النَّصَّ عَلَى الْإِحْسَانِ بِهِمْ وَثَنَّى بِالْإِحْسَانِ بِمَنْ دُونَهُمْ فِي النَّسَبِ، فَقَالَ:(وَذِي الْقُرْبَى) .
الْإِحْسَانُ هُوَ الَّذِي يُقَوِّي غَرَائِزَ الْفِطْرَةِ، وَيُوَثِّقُ الرَّوَابِطَ الطَّبِيعِيَّةَ بَيْنَ الْأَقْرَبِينَ حَتَّى تَبْلُغَ الْبُيُوتُ فِي وَحْدَةِ الْمَصْلَحَةِ دَرَجَةَ الْكَمَالِ، وَالْأُمَّةُ: تَتَأَلَّفُ مِنَ الْبُيُوتِ (الْعَائِلَاتِ) ، فَصَلَاحُهَا صَلَاحُهَا، وَهَاهُنَا قَالَ الْأُسْتَاذُ كَلِمَةً جَلِيلَةً وَهِيَ:(وَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ بَيْتٌ لَا تَكُونُ لَهُ أُمَّةٌ) ، وَذَلِكَ أَنَّ عَاطِفَةَ التَّرَاحُمِ وَدَاعِيَةَ التَّعَاوُنِ إِنَّمَا تَكُونَانِ عَلَى أَشَدِّهِمَا وَأَكْمَلِهِمَا فِي الْفِطْرَةِ بَيْنَ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَوْلَادِ، ثُمَّ بَيْنَ سَائِرِ الْأَقْرَبِينَ، فَمَنْ فَسَدَتْ فِطْرَتُهُ حَتَّى لَا خَيْرَ فِيهِ لِأَهْلِهِ، فَأَيُّ خَيْرٍ يُرْجَى مِنْهُ لِلْبُعَدَاءِ وَالْأَبْعَدِينَ؟ وَمَنْ لَا خَيْرَ فِيهِ لِلنَّاسِ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ جُزْءًا مِنْ بِنْيَةِ أُمَّةٍ؛ لِأَنَّهُ لَمْ تَنْفَعْ فِيهِ اللُّحْمَةُ النَّسَبِيَّةُ الَّتِي هِيَ أَقْوَى لُحْمَةٍ طَبِيعِيَّةٍ تَصِلُ بَيْنَ النَّاسِ، فَأَيُّ لُحْمَةٍ بَعْدَهَا تَصِلُهُ بِغَيْرِ الْأَهْلِ فَتَجْعَلُهُ جُزْءًا مِنْهُمْ يَسُرُّهُ مَا يَسُرُّهُمْ وَيُؤْلِمُهُ مَا يُؤْلِمُهُمْ، وَيَرَى مَنْفَعَتَهُمْ عَيْنَ مَنْفَعَتِهِ وَمَضَرَّتَهُمْ عَيْنَ مَضَرَّتِهِ، وَهُوَ مَا يَجِبُ عَلَى كُلِّ شَخْصٍ لِأُمَّتِهِ؟ قَضَى نِظَامُ الْفِطْرَةِ بِأَنْ تَكُونَ نَعْرَةُ الْقَرَابَةِ أَقْوَى مَنْ كُلِّ نَعْرَةٍ، وَصِلَتُهَا أَمْتَنَ مَنْ كُلِّ صِلَةٍ، فَجَاءَ الدِّينُ يُقَدِّمُ حُقُوقَ الْأَقْرَبِينَ عَلَى سَائِرِ الْحُقُوقِ، وَجَعْلَ حُقُوقِهِمْ عَلَى حَسَبِ قُرْبِهِمْ مِنَ الشَّخْصِ.
ثُمَّ ذَكَرَ حُقُوقَ أَهْلِ الْحَاجَةِ مِنْ سَائِرِ النَّاسِ فَقَالَ: (وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ) ، وَالْيَتِيمُ هُوَ مَنْ مَاتَ أَبُوهُ وَهُوَ صَغِيرٌ، وَقَدْ قَدَّمَ الْوَصِيَّةَ بِهِ عَلَى الْوَصِيَّةِ بِالْمِسْكِينِ، وَلَمْ يُقَيِّدْهَا بِفَقْرٍ وَلَا مَسْكَنَةٍ، فَعُلِمَ أَنَّهَا مَقْصُودَةٌ لِذَاتِهَا.
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: أَكَّدَ اللهُ - تَعَالَى - الْوَصِيَّةَ بِالْيَتِيمِ، وَفِي الْقُرْآنِ وَالسَّنَةِ كَثِيرٌ مِنْ هَذِهِ الْوَصَايَا، وَحَسْبُكَ أَنَّ الْقُرْآنَ نَهَى عَنْ قَهْرِ الْيَتِيمِ وَشَدَّدَ الْوَعِيدَ عَلَى أَكْلِ مَالِهِ تَشْدِيدًا خَاصًّا، وَلَوْ كَانَ السِّرُّ فِي ذَلِكَ غَلَبَةَ الْمَسْكَنَةِ عَلَى الْيَتَامَى، لَاكْتَفَى هُنَا بِذِكْرِ الْمَسَاكِينِ. كَلَّا إِنَّ السِّرَّ فِي ذَلِكَ هُوَ كَوْنُ الْيَتِيمِ لَا يَجِدُ فِي الْغَالِبِ مَنْ تَبْعَثُهُ عَاطِفَةُ الرَّحْمَةِ الْفِطْرِيَّةِ عَلَى الْعِنَايَةِ بِتَرْبِيَتِهِ وَالْقِيَامِ بِحِفْظِ حُقُوقِهِ، وَالْعِنَايَةِ
بِأُمُورِهِ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ، فَإِنَّ الْأُمَّ إِنْ وُجِدَتْ تَكُونُ فِي الْأَغْلَبِ عَاجِزَةً، وَلَا سِيَّمَا إِذَا تَزَوَّجَتْ بَعْدَ أَبِيهِ، فَأَرَادَ اللهُ - تَعَالَى - وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ بِمَا أَكَّدَ مِنَ الْوَصِيَّةِ بِالْأَيْتَامِ
أَنْ يَكُونُوا مِنَ النَّاسِ بِمَنْزِلَةِ أَبْنَائِهِمْ يُرَبُّونَهُمْ تَرْبِيَةً دِينِيَّةً دُنْيَوِيَّةً؛ لِئَلَّا يَفْسُدُوا وَيَفْسُدَ بِهِمْ غَيْرُهُمْ، فَيَنْتَشِرُ الْفَسَادُ فِي الْأُمَّةِ فَتَنْحَلُّ انْحِلَالًا، فَالْعِنَايَةُ بِتَرْبِيَةِ الْيَتَامَى هِيَ الذَّرِيعَةُ لِمَنْعِ كَوْنِهِمْ قُدْوَةً سَيِّئَةً لِسَائِرِ الْأَوْلَادِ. وَالتَّرْبِيَةُ لَا تَتَيَسَّرُ مَعَ وُجُودِ هَذِهِ الْقُدْوَةِ، فَإِهْمَالُ الْيَتَامَى إِهْمَالٌ لِسَائِرِ أَوْلَادِ الْأُمَّةِ.
أَمَّا الْمَسَاكِينُ فَلَا يُرَادُ بِهِمْ هَؤُلَاءِ السَّائِلُونَ الشَّحَّاذُونَ الْمُلْحِفُونَ الَّذِينَ يَقْدِرُونَ عَلَى كَسْبِ مَا يَفِي بِحَاجَاتِهِمْ، أَوْ يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ وَلَوْ لَمْ يَكْتَسِبُوا، إِلَّا أَنَّهُمُ اتَّخَذُوا السُّؤَالَ حِرْفَةً، يَبْتَغُونَ بِهَا الثَّرْوَةَ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْمَلُونَ عَمَلًا يَنْفَعُ النَّاسَ، وَلَكِنَّ الْمِسْكِينَ مَنْ يَعْجِزُ عَنْ كَسْبٍ يَكْفِيهِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ عز وجل: (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا) فَهُوَ كَلَامٌ جَدِيدٌ لَهُ شَأْنٌ مَخْصُوصٌ، وَلِذَلِكَ تَغَيَّرَ فِيهِ الْأُسْلُوبُ، فَلَمْ يَرِدْ عَلَى النَّسَقِ الَّذِي قَبْلَهُ مَعَ دُخُولِهِ فِي الْمِيثَاقِ، فَإِنَّهُ بَيَّنَ فِيمَا سَبَقَ الْحُقُوقَ الْعَمَلِيَّةَ وَعَبَّرَ عَنْهَا بِالْإِحْسَانِ، وَيَسْتَحِيلُ أَنْ يُحْسِنَ الْإِنْسَانُ بِالْفِعْلِ إِلَى جَمِيعِ النَّاسِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُعَامِلَ جَمِيعَ النَّاسِ، فَالَّذِينَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُعَامَلَتِهِمْ هُمْ أَهْلُ بَيْتِهِ وَأَقَارِبِهِ الَّذِينَ يَنْشَأُ فِيهِمْ وَيَتَرَبَّى بَيْنَهُمْ، فَجَاءَ النَّصُّ بِوُجُوبِ الْإِحْسَانِ فِي مُعَامَلَتِهِمْ لِتَصْلُحَ بِذَلِكَ حَالُ الْبُيُوتِ.
ثُمَّ إِنَّ الْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ مِنْ قَوْمِهِ هُمُ الَّذِينَ لَا يَسْتَغْنُونَ عَنْ إِحْسَانِهِ وَإِحْسَانِ أَمْثَالِهِ بِالْفِعْلِ؛ لِأَنَّهُ لَا قِيَمَ لِلْأَوَّلِينَ، وَلَا غَنَاءَ عِنْدَ الْآخِرِينَ، فَفَرَضَ عَلَيْهِ أَنْ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا مِنْهُ. ثُمَّ بَعْدَ بَيَانِ مَا بِهِ إِصْلَاحُ الْبُيُوتِ مِنْ إِعَانَةِ الْأَقْرَبِينَ، وَمَا بِهِ صَلَاحُ بَعْضِ الْعَامَّةِ مِنْ مَعُونَةِ الْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ عَلَى إِصْلَاحِ بُيُوتِهِمْ، بَقِيَ بَيَانُ حُقُوقِ سَائِرِ الْأُمَّةِ، وَهِيَ النَّصِيحَةُ لَهُمْ، وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ فِيهِمْ، فَهَذَا هُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -:(وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا) ، وَلَيْسَ مَعْنَاهُ مُجَرَّدَ التَّلَطُّفِ بِالْقَوْلِ وَالْمُجَامَلَةِ فِي الْخِطَابِ، فَالْحُسْنُ هُوَ النَّافِعُ فِي الدِّينِ أَوِ الدُّنْيَا، وَهُوَ لَا يَخْرُجُ عَمَّا ذَكَرْنَا، فَلَمَّا كَانَ هَذَا النَّوْعُ مِنَ الْحُقُوقِ مُسْتَقِلًّا بِذَاتِهِ جَاءَ بِأُسْلُوبٍ آخَرَ، وَلَا شَكَّ أَنَّ فِي الْقِيَامِ بِهَذِهِ الْفَرَائِضِ إِصْلَاحَ الْأُمَّةِ كُلِّهَا.
جَاءَ الْأَمْرُ بِالْعِبَادَةِ مُجْمَلًا لِيَعْلَمَ الْإِنْسَانُ أَنَّهُ مُكَلَّفٌ بِكُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِهَا
بِحَسْبِ الطَّاقَةِ، وَلَكِنْ مِنَ الْعِبَادَةِ مَا لَا يَهْتَدِي إِلَيْهِ الْإِنْسَانُ إِلَّا بِهِدَايَةٍ إِلَهِيَّةٍ، وَأَكْبَرُ ذَلِكَ النَّوْعِ إِقَامَةُ الصَّلَاةِ لِإِصْلَاحِ نُفُوسِ الْأَفْرَادِ، وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ لِإِصْلَاحِ شُئُونِ الِاجْتِمَاعِ؛ لِذَلِكَ قَالَ - تَعَالَى - بَعْدَ مَا تَقَدَّمَ:(وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ) ، وَإِنَّمَا إِقَامَةُ الصَّلَاةِ بِالْإِخْلَاصِ لِلَّهِ وَالصِّدْقِ فِي التَّوَجُّهِ إِلَيْهِ وَالْخُشُوعِ لِعَظَمَتِهِ وَجَلَالِهِ وَالِاسْتِكَانَةِ لِعِزِّ سُلْطَانِهِ، وَلَا تَكُونُ بِمُجَرَّدِ الْإِتْيَانِ بِصُورَةِ الصَّلَاةِ وَرُسُومِهَا الظَّاهِرَةِ، وَلَوْ كَانَ هَذَا هُوَ الْمُرَادُ لَمَا وَصَفَهُمْ بِالتَّوَلِّي وَالْإِعْرَاضِ عَنْهُ؛ فَإِنَّهُمْ مَا أَعْرَضُوا عَنْ صُورَةِ الصَّلَاةِ إِلَى ذَلِكَ الْيَوْمِ الَّذِي ذَكَّرَهُمْ فِيهِ بِهَذِهِ الْآيَاتِ وَإِلَى هَذَا الْيَوْمِ أَيْضًا. وَأَمَّا الزَّكَاةُ فَقَدْ كَانَ بَعْضُ أَحْبَارِهِمْ يَزْعُمُ أَنَّهَا تِلْكَ الْمُحْرَقَاتُ وَالْقَرَابِينُ الْمَفْرُوضَةُ لِتَكْفِيرِ الْخَطَايَا أَوْ شُكْرِ اللهِ - تَعَالَى - عَلَى إِخْرَاجِهِمْ مِنْ مِصْرَ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ النِّعَمِ. وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ،
فَإِنَّ لَهُمْ زَكْوَاتٍ مَالِيَّةٍ، مِنْهَا مَالٌ مَخْصُوصٌ يُؤَدَّى لِآلِ هَارُونَ وَهُوَ إِلَى الْآنِ فِي (اللَّاوِيِّينَ) ، وَمِنْهَا مَالٌ لِلْمَسَاكِينِ، وَمِنْهَا مَا يُؤْخَذُ مِنْ ثَمَرَاتِ الْأَرْضِ، وَمِنْهَا سَبْتُ الْأَرْضِ، وَهُوَ تَرْكُهَا فِي كُلِّ سَبْعِ سِنِينَ مَرَّةً بِلَا حَرْثٍ وَلَا زَرْعٍ، وَكُلُّ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا فِي تِلْكَ السَّنَةِ، فَهُوَ صَدَقَةٌ.
قَالَ - تَعَالَى -: (ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ) أَيْ ثُمَّ كَانَ مِنْ أَمْرِكُمْ بَعْدَ هَذَا الْمِيثَاقِ الَّذِي فِيهِ سَعَادَتُكُمْ، أَنْ تَوَلَّيْتُمْ عَنِ الْعَمَلِ بِهِ، وَأَنْتُمْ فِي حَالَةِ الْإِعْرَاضِ عَنْهُ وَعَدَمِ الِاكْتِرَاثِ لَهُ، وَقَدْ يَتَوَلَّى الْإِنْسَانُ مُنْصَرِفًا عَنْ شَيْءٍ وَهُوَ عَازِمٌ عَلَى أَنْ يَعُودَ إِلَيْهِ وَيُوَفِّيَهُ حَقَّهُ، فَلَيْسَ كُلُّ مُتَوَلٍّ عَنْ شَيْءٍ مُعْرِضًا عَنْهُ وَمُهْمِلًا لَهُ عَلَى الدَّوَامِ؛ لِذَلِكَ كَانَ ذِكْرُ هَذَا الْقَيْدِ (وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ) لَازِمًا لَا بُدَّ مِنْهُ، وَلَيْسَ تَكْرَارًا كَمَا يُتَوَهَّمُ، وَإِنَّمَا هُوَ مُتَمِّمٌ لِلْمَعْنَى، وَمُؤَكِّدٌ لِلْمُبَالَغَةِ فِي التَّرْكِ الْمُسْتَفَادِ مِنَ التَّوَلِّي.
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَلَا حَاجَةَ إِلَى مَا زَادَهُ الْمُفَسِّرُ مِنْ قَوْلِهِ: ((فَقَبِلْتُمْ ذَلِكَ) لِيَعْطِفَ عَلَيْهِ (ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ) ، فَالْمَقَامُ مَقَامُ وَعِيدٍ وَزَجْرٍ وَتَوْبِيخٍ، وَفِي كَلِمَةِ (ثُمَّ) نَفْسِهَا مَا يُفِيدُ أَنَّ التَّوَلِّيَ لَمْ يَكُنْ عَقِبَ أَخْذِ الْمِيثَاقِ.
وَقَدْ كَانَ سَبَبُ ذَلِكَ التَّوَلِّي مَعَ الْإِعْرَاضِ أَنَّ اللهَ أَمَرَهُمْ أَنْ لَا يَأْخُذُوا الدِّينَ إِلَّا فِي كِتَابِهِ، فَاتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ يُحِلُّونَ بِرَأْيِهِمْ وَيُحَرِّمُونَ،
وَيُبِيحُونَ بِاجْتِهَادِهِمْ وَيَحْظُرُونَ، وَيَزِيدُونَ فِي الْأَحْكَامِ وَالشَّرَائِعِ، وَيَضَعُونَ مَا شَاءُوا مِنَ الِاحْتِفَالَاتِ وَالشَّعَائِرِ، فَصَدَقَ عَلَيْهِمْ أَنَّهُمُ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ شُرَكَاءَ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ، فَإِنَّ اللهَ هُوَ الَّذِي يَضَعُ الدِّينَ وَحْدَهُ، وَإِنَّمَا الْعُلَمَاءُ أَدِلَّاءُ يُسْتَعَانُ بِهِمْ عَلَى فَهْمِ كِتَابِهِ وَمَا شَرَعَ عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ، وَقَدِ اتَّبَعَ سَنَنَ الْيَهُودِ فِي هَذَا التَّشْرِيعِ جَمِيعُ مَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْمِلَلِ، وَحُكْمُ الْجَمِيعِ عِنْدَ اللهِ - تَعَالَى - وَاحِدٌ لَا يَخْتَلِفُ، فَهُوَ لَا يُحَابِي أَحَدًا (وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا) (18: 49) وَكَذَلِكَ كَانُوا قَدْ قَطَعُوا صِلَاتِ الْقَرَابَةِ، وَبَخِلُوا بِالنَّفَقَةِ الْوَاجِبَةِ، وَتَرَكُوا النَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَفَقَدُوا رُوحَ الصَّلَاةِ وَمَنَعُوا الزَّكَاةَ، وَلَكِنَّهُمُ الْآنَ عَادُوا إِلَى بَعْضِ مَا تَرَكُوا، وَلَمْ يَعُدِ الَّذِينَ تَشَبَّهُوا بِهِمْ أَوِ اتَّبَعُوا بِغَيْرِ شُعُورِ سُنَّتِهِمْ، وَالْأَمْرُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: (إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ) فَهُوَ اسْتِثْنَاءٌ لِبَعْضِ مَنْ كَانُوا فِي زَمَنِ سَيِّدِنَا مُوسَى عليه السلام أَوْ فِي كُلِّ زَمَنٍ، فَإِنَّهُ لَا تَخْلُو أُمَّةٌ مِنَ الْأُمَمِ مِنَ الْمُخْلِصِينَ الَّذِينَ يُحَافِظُونَ عَلَى الْحَقِّ بِحَسَبِ مَعْرِفَتِهِمْ وَقَدْرِ طَاقَتِهِمْ. وَالْحِكْمَةُ فِي ذِكْرِ هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ عَدَمُ بَخْسِ الْمُحْسِنِينَ حَقَّهُمْ، وَبَيَانُ أَنَّ وُجُودَ قَلِيلٍ مِنَ الصَّالِحِينَ فِي الْأُمَّةِ لَا يَمْنَعُ عَنْهَا الْعِقَابَ الْإِلَهِيِّ إِذَا فَشَا فِيهَا الْمُنْكَرُ، وَقَلَّ الْمَعْرُوفُ.
لَوْ تَدَبَّرَ جُهَّالُنَا هَذِهِ الْآيَةَ، لَعَلِمُوا أَنَّهُمْ مَغْرُورُونَ بِالِاعْتِمَادِ عَلَى الْأَقْطَابِ وَالْأَوْتَادِ وَالْأَبْدَالِ فِي تَحَمُّلِ الْبَلَاءِ عَنْهُمْ، وَمَنْعِ الْعَذَابِ أَنْ يَنْزِلَ بِالْأُمَّةِ بِبَرَكَتِهِمْ، فَلَوْ فُرِضَ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْأَقْطَابَ
مَوْجُودُونَ حَقِيقَةً، فَإِنَّ وُجُودَهُمْ لَا يُغْنِي عَنِ الْأُمَّةِ شَيْئًا، وَقَدْ عَصَى اللهَ جَمَاهِيرُهَا وَقَضَوْا مِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَهُمْ بِهِ، فَقَدْ جَرَتْ سُنَّتُهُ - تَعَالَى - فِي خَلْقِهِ بِأَنَّ بَقَاءَ الْأُمَمِ عَزِيزَةً إِنَّمَا يَكُونُ بِمُحَافَظَةِ الْجَمَاهِيرِ فِيهَا عَلَى الْأَخْلَاقِ وَالْأَعْمَالِ الَّتِي تَكُونُ بِهَا الْعِزَّةُ وَيُحْفَظُ بِهَا الْمَجْدُ وَالشَّرَفُ.
وَمَنْ لَمْ يَعْتَبِرْ بِآيَاتِ اللهِ فِي كِتَابِهِ، لَا يَعْتَبِرْ بِآيَاتِهِ وَسُنَنِهِ فِي خَلْقِهِ، فَقَدْ فُتِنَ الْمُسْلِمُونَ فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ، وَحَلَّ بِجَمِيعِ بِلَادِهِمْ مَا حَلَّ مِنَ الْبَلَاءِ وَهُمْ لَا يَعْتَبِرُونَ، (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) (47: 24) ، (أَوَ لَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ) (9: 126) .
(وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ)
كَانَ التَّذْكِيرُ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ بِأَهَمِّ الْمَأْمُورَاتِ الَّتِي أَخَذَ اللهُ - تَعَالَى - الْمِيثَاقَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِهَا بَعْدَ تَوْحِيدِ اللهِ - تَعَالَى - وَإِفْرَادِهِ بِالْعِبَادَةِ وَبَيَانِ أَنَّهُمْ نَقَضُوا مِيثَاقَ اللهِ - تَعَالَى - وَلَمْ يَأْتَمِرُوا بِهَا، وَفِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ التَّذْكِيرُ بِأَهَمِّ الْمَنْهِيَّاتِ الَّتِي أَخَذَ اللهُ - تَعَالَى - الْمِيثَاقَ عَلَيْهِمْ بِاجْتِنَابِهَا، وَبَيَانُ أَنَّهُمْ نَقَضُوا مِيثَاقَهُ وَلَمْ يَنْتَهُوا عَنْهَا، وَقَدْ قَالَ هُنَاكَ:(وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ) أَيِ الَّذِينَ نَزَلَتْ عَلَيْهِمُ التَّوْرَاةُ، ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَى خِطَابِ الْحَاضِرِينَ فِي زَمَنِ التَّنْزِيلِ فَقَالَ:(ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ) وَقَالَ هُنَا: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ) تَمَادِيًا فِي سِيَاقِ الِالْتِفَاتِ، وَتَذْكِيرًا بِوَحْدَةِ الْأُمَّةِ وَاعْتِبَارِهَا كَالشَّخْصِ الْوَاحِدِ، يُصِيبُ الْخَلْفَ أَثَرُ مَا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ مَا اسْتَنُّوا بِسُنَّتِهِمْ، وَجَرَوْا عَلَى طَرِيقَتِهِمْ، كَمَا تُؤَثِّرُ أَعْمَالُ الشَّخْصِ السَّابِقَةُ فِي قُوَاهُ النَّفْسِيَّةِ، وَطَبْعِ مَلَكَاتِهِ
بَعْدَ انْحِلَالِ مَادَّةِ تِلْكَ الْأَعْضَاءِ الَّتِي ابْتَدَأَتِ الْعَمَلَ، وَحُلُولِ مَوَادٍّ أُخْرَى فِي مَحِلِّهَا تَتَمَرَّنُ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ الْعَمَلِ، فَمَا يَفْعَلُهُ الشَّخْصُ فِي صِغَرِهِ، يَبْقَى أَثَرُهُ فِي قُوَاهُ فِي كِبَرِهِ، فَكَذَلِكَ الْأُمَمُ.
وَقَدْ أَوْرَدَ النَّهْيَ عَنْ سَفْكِ بَعْضِهِمْ دَمَ بَعْضٍ، وَإِخْرَاجِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَوْطَانِهِمْ بِعِبَارَةٍ تُؤَكِّدُ مَعْنَى وَحْدَةِ الْأُمَّةِ، وَتُحْدِثُ فِي النَّفْسِ أَثَرًا شَرِيفًا يَبْعَثُهَا عَلَى الِامْتِثَالِ إِنْ كَانَ هُنَاكَ قَلْبٌ يَشْعُرُ، وَوِجْدَانٌ يَتَأَثَّرُ، فَقَالَ:(لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ) فَجَعَلَ دَمَ كُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الْأُمَّةِ كَأَنَّهُ دَمُ الْآخَرِ عَيْنُهُ، حَتَّى إِذَا سَفَكَهُ كَانَ كَأَنَّهُ بَخَعَ نَفْسَهُ وَانْتَحَرَ بِيَدِهِ. وَقَالَ:(وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ) عَلَى هَذَا النَّسَقِ. وَهَذَا التَّعْبِيرُ الْمُعْجِزُ بِبَلَاغَتِهِ خَاصٌّ بِالْقُرْآنِ. فَهَذِهِ الْأَحْكَامُ لَا تَزَالُ مَحْفُوظَةً عِنْدَ الْإِسْرَائِيلِيِّينَ فِي الْكِتَابِ وَإِنْ لَمْ يَجْرُوا عَلَيْهَا فِي الْعَمَلِ، وَلَكِنَّ الْعِبَارَةَ عَنْهَا عِنْدَهُمْ لَا تُطَاوِلُ هَذِهِ الْعِبَارَةَ الَّتِي تُدْهِشُ صَاحِبَ الذَّوْقِ السَّلِيمِ وَالْوِجْدَانِ الرَّقِيقِ، فَهَذَا إِرْشَادٌ حَكِيمٌ طَلَعَ مِنْ ثَنَايَا الْأَحْكَامِ يَهْدِي إِلَى أَسْرَارِهَا وَيُومِئُ إِلَى مَشْرِقِ أَنْوَارِهَا، مَنْ تَدَبَّرَهُ عَلِمَ أَنَّهُ لَا قِوَامَ لِلْأُمَمِ إِلَّا بِالتَّحَقُّقِ بِمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْحِكَمُ، وَشُعُورِ كُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِهَا بِأَنَّ نَفْسَهُ نَفْسُ الْآخَرِينَ وَدَمَهُ دَمُهُمْ، لَا فَرْقَ فِي الِاحْتِرَامِ بَيْنَ الرُّوحِ الَّتِي تَجُولُ فِي بَدَنِهِ وَالدَّمِ الَّذِي يَجْرِي فِي عُرُوقِهِ، وَبَيْنَ الْأَرْوَاحِ وَالدِّمَاءِ الَّتِي يَحْيَا بِهَا إِخْوَانُهُ الَّذِينَ وُحِّدَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمُ الشَّرِيعَةُ الْعَادِلَةُ وَالْمَصَالِحُ الْعَامَّةُ، هَذَا هُوَ الْوَجْهُ الْوَجِيهُ فِي الْآيَةِ، وَقِيلَ: مَعْنَاهَا لَا تَرْتَكِبُوا مِنَ الْجَرَائِمِ مَا تُجَازَوْنَ عَلَيْهِ بِالْقَتْلِ وَالْإِخْرَاجِ مِنَ الدِّيَارِ. وَيُقَالُ فِي قَوْلِهِ: (لَا تَسْفِكُونَ) كَمَا قِيلَ قَبْلَهُ فِي قَوْلِهِ: (لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ) مِنْ تَضَمُّنِ صِيغَةِ الْخَبَرِ لِلتَّأْكِيدِ.
وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: (ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ) فِيهِ وَجْهَانِ:
(أَحَدُهُمَا) : أَنَّهُ يُخَاطِبُهُمْ بِمَا كَانَ مِنِ اعْتِرَافِ سَلَفِهِمْ بِالْمِيثَاقِ وَقَبُولِهِ، وَشُهُودِهِمُ الْوَحْيَ الَّذِي نَزَلَ بِهِ عَلَى مُوسَى عليه الصلاة والسلام.
(ثَانِيهُمَا) : أَنَّ الْمُرَادَ الْحَاضِرُونَ أَنْفُسُهُمْ، أَيْ أَنَّكُمْ أَيُّهَا الْمُخَاطَبُونَ بِالْقُرْآنِ قَدْ أَقْرَرْتُمْ بِهَذَا الْمِيثَاقِ وَتَعْتَقِدُونَهُ فِي قُلُوبِكُمْ، وَلَا تُنْكِرُوا بِأَلْسِنَتِكُمْ، بَلْ تَشْهَدُونَ بِهِ وَتُعْلِنُونَهُ، فَالْحُجَّةُ نَاهِضَةٌ عَلَيْكُمْ بِهِ.
ثُمَّ بَعْدَ بَيَانِ هَذَا الْمِيثَاقِ وَتَسْجِيلِهِ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ يَعْرِفُونَهُ لَا يُنْكِرُونَ مِنْهُ شَيْئًا، ذَكَرَ نَقْضَهُمْ إِيَّاهُ فَقَالَ:(ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ) الْحَاضِرُونَ الشَّاهِدُونَ الْمُشَاهِدُونَ (تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ) أَيْ يَقْتُلُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، كَمَا كَانَ يَفْعَلُ مَنْ قَبْلَكُمْ، مَعَ اعْتِرَافِكُمْ
بِأَنَّ الْمِيثَاقَ مَأْخُوذٌ عَلَيْكُمْ كَمَا كَانَ مَأْخُوذًا عَلَيْهِمْ؛ كَانَ (بَنُو قَيْنُقَاعَ) مِنَ الْيَهُودِ أَعْدَاءَ بَنِي قُرَيْظَةَ إِخْوَانِهِمْ فِي الدِّينِ، وَكَانَ الْأَوَّلُونَ حُلَفَاءَ الْأَوْسِ، وَالْآخَرُونَ مَعَ بَنِي النَّضِيرِ حُلَفَاءَ الْخَزْرَجِ، ثُمَّ افْتَرَقُوا فَبَقِيَ بَنُو النَّضِيرِ مَعَ الْخَزْرَجِ، وَخَالَفَ بَنُو قُرَيْظَةَ الْأَوْسَ، وَكَانَ الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ قَبْلَ الْإِسْلَامِ أَعْدَاءً، وَكَانُوا يَقْتَتِلُونَ، وَمَعَ كُلٍّ حُلَفَاؤُهُ، فَهَذَا مَا احْتَجَّ اللهُ - تَعَالَى - عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِقَتْلِهِمْ
أَنْفُسِهِمْ فِي عَصْرِ التَّنْزِيلِ، وَيَتْبَعُ هَذَا الْقِتَالَ الْأَسْرُ، وَمِنْ لَوَازِمِهِ الْإِخْرَاجُ مِنَ الدِّيَارِ وَلِذَلِكَ قَالَ:(وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) . وَالتَّظَاهُرُ: التَّعَاوُنُ، وَتَظَاهَرُونَ أَصْلُهُ تَتَظَاهَرُونَ كَمَا قَرَأَ الْجُمْهُورُ، وَقَرَأَ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ بِحَذْفِ إِحْدَى التَّاءَيْنِ لِلتَّخْفِيفِ وَهُوَ مَقِيسٌ مَشْهُورٌ. كَانَ كُلُّ فَرِيقٍ مِنَ الْيَهُودِ يُظَاهِرُ حُلَفَاءَهُ مِنَ الْعَرَبِ وَيُعَاوِنُهُمْ عَلَى إِخْوَانِهِ مِنَ الْيَهُودِ بِالْإِثْمِ كَالْقَتْلِ وَالسَّلْبِ، وَبِالْعُدْوَانِ كَالْإِخْرَاجِ مِنَ الدِّيَارِ.
وَمِنْ مَثَارَاتِ الْعَجَبِ أَنَّهُ كَانُوا إِذَا اتَّفَقُوا عَلَى فِدَاءِ الْأَسْرَى يَفْدِي كُلُّ فَرِيقٍ مِنَ الْيَهُودِ أَسْرَى أَبْنَاءِ جِنْسِهِ، وَإِنْ كَانُوا مِنْ أَعْدَائِهِ، وَيَعْتَذِرُونَ عَنْ هَذَا بِأَنَّهُمْ مَأْمُورُونَ فِي الْكِتَابِ بِفِدَاءِ أَسْرَى شَعْبِ إِسْرَائِيلَ، فَإِنْ كَانُوا مُسْتَمْسِكِينَ بِالْكِتَابِ، فَلِمَ قَاتَلُوا شَعْبَ إِسْرَائِيلَ وَأَخْرَجُوهُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ، وَهُمْ مَنْهِيُّونَ عَنْ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ؟ هَذَا لَعِبٌ بِالْكِتَابِ وَاسْتِهْزَاءٌ بِالدِّينِ وَلِذَلِكَ قَالَ - تَعَالَى -:(وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ) بَعْدَ أَنْ كُنْتُمْ أَسَرْتُمُوهُمْ وَأَخْرَجْتُمُوهُمْ بِالتَّظَاهُرِ عَلَيْهِمْ مَعَ الْعَرَبِ، (وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ) بِمِيثَاقٍ أَغْلَظَ مِنْ طَلَبِ مُفَادَاتِهِمْ. (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ) وَهُوَ فِدَاءُ الْأَسْرَى، (وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ) آخَرَ مِنْهُ وَهُوَ النَّهْيُ عَنِ الْقَتْلِ وَالْإِخْرَاجِ؟ أَلَيْسَ مِنَ الْحَمَاقَةِ وَالْهُزْءِ وَالسُّخْرِيَةِ أَنَّ يَدَّعِيَ مُدَّعٍ مِثْلَ هَذَا الْإِيمَانِ بِأَهْوَنِ الْأُمُورِ مَعَ الْكُفْرِ بِأَعْظَمِهَا؟ وَالْإِيمَانُ لَا يَتَجَزَّأُ، فَالْكُفْرُ بِالْبَعْضِ كَالْكُفْرِ بِالْكُلِّ.
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: فِي التَّعْبِيرِ عَنِ الْمُخَالَفَةِ وَالْمَعْصِيَةِ بِالْكُفْرِ دَلِيلٌ عَلَى مَا سَبَقَ بَيَانُهُ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: (وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ) فَالْقُرْآنُ يُصَرِّحُ هُنَا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ بِأَنَّ مَنْ يُقْدِمُ عَلَى الذَّنْبِ لَا تَضْطَرِبُ نَفْسُهُ قَبْلَ إِصَابَتِهِ، وَلَا يَتَأَلَّمُ وَيَنْدَمُ بَعْدَ وُقُوعِهِ فَيَرْجِعُ إِلَى اللهِ - تَعَالَى - تَائِبًا، بَلْ يَسْتَرْسِلُ فِيهِ بِلَا مُبَالَاةٍ بِنَهْيِ اللهِ - تَعَالَى -
عَنْهُ وَتَحْرِيمِهِ لَهُ، فَهُوَ كَافِرٌ بِهِ؛ لِأَنَّ الْمُؤْمِنَ بِأَنَّ هَذَا شَيْءٌ حَرَّمَهُ اللهُ - تَعَالَى -، الْمُصَدِّقَ بِأَنَّهُ مِنْ أَسْبَابِ سُخْطِهِ وَمُوجِبَاتِ عُقُوبَتِهِ لَا يُمْكِنُ أَلَّا يَكُونَ لِإِيمَانِ قَلْبِهِ أَثَرٌ فِي نَفْسِهِ، فَإِنَّ مِنَ الضَّرُورِيَّاتِ أَنَّ لِكُلِّ اعْتِقَادٍ أَثَرًا فِي النَّفْسِ، وَلِكُلِّ أَثَرٍ فِي النَّفْسِ تَأْثِيرٌ فِي الْأَعْمَالِ. وَهَذَا هُوَ الْوَجْهُ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ النَّاطِقَةِ بِأَنَّهُ ((لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَشْرَبُ الْخَمْرَ شَارِبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ)) .
وَلَقَدْ سَمَّى اللهُ الذَّنْبَ هَاهُنَا كُفْرًا لِمَا تَقَدَّمَ، وَتَوَعَّدَ عَلَيْهِ بِوَعِيدِ الْكُفْرِ فَقَالَ:(فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) . . . إِلَخْ. أَوْعَدَهُمُ اللهُ - تَعَالَى - كَمَا أَوْعَدَ مَنْ قَبْلَهُمْ وَمَنْ بَعْدَهُمْ بِأَنَّهُمْ يُعَاقَبُونَ عَلَى نَقْضِ مِيثَاقِ الدِّينِ الَّذِي يَجْمَعُهُمْ، وَالشَّرِيعَةِ الَّتِي هِيَ مَنَاطُ وِحْدَتِهِمْ وَرِبَاطِ جِنْسِيَّتِهِمْ بِالْخِزْيِ الْعَاجِلِ، وَالْعَذَابِ الْآجِلِ، وَقَدْ دَلَّ الْمَعْقُولُ، وَشَهِدَ الْوُجُودُ بِأَنَّهُ مَا مِنْ أُمَّةٍ فَسَقَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا، وَاعْتَدَتْ حُدُودَ شَرِيعَتِهَا، إِلَّا وَانْتَكَثَ فَتْلُهَا، وَتَفَرَّقَ شَمْلُهَا، وَنَزَلَ بِهَا الذُّلُّ وَالْهَوَانُ، وَهُوَ الْخِزْيُ الْمُرَادُ فِي الْقُرْآنِ، وَهَذِهِ هِيَ سُنَّةُ الْخَلِيقَةِ، ذَكَرَهَا لِيَعْتَبِرَ بِهَا مَنْ صَرَفَتْهُ الْغَفْلَةُ عَنْهَا.
وَأَمَّا الْعَذَابُ الْآجِلُ الَّذِي عَبَّرَ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: (وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ) فَهُوَ عَلَى كَوْنِهِ مِنْ عَالَمِ الْغَيْبِ مَعْقُولَ الْمَعْنَى، وَهَادٍ إِلَى حِكْمَةٍ عُلْيَا؛ ذَلِكَ أَنَّ النُّفُوسَ الْبَشَرِيَّةَ إِذَا سَحَلَ مَرِيرُهَا، وَاخْتَلَّتْ بِفَسَادِ الْأَخْلَاقِ أُمُورُهَا، وَكَثُرَتْ فِي ذَا الْعَالَمِ شُرُورُهَا، حَتَّى سَلَبَتْ مَا أَعَدَّهُ اللهُ - تَعَالَى - لِمَنْ حَافَظُوا عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَاسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ، تَكُونُ جَدِيرَةً بِأَنْ تُسْلَبَ فِي الْآخِرَةِ مَا أَعَدَّهُ اللهُ - تَعَالَى - لِلْأَرْوَاحِ الْعَالِيَةِ، وَمَا وَعَدَ بِهِ أَصْحَابَ النُّفُوسِ الزَّكِيَّةِ، فَإِنَّ سَعَادَةَ الدَّارِ الدُّنْيَا لَمْ تَكُنْ أَجْرًا عَلَى أَعْمَالٍ بَدَنِيَّةٍ لَا تَتَعَلَّقُ بِصَلَاحِ النَّفْسِ فِي خُلُقٍ وَلَا نِيَّةٍ، وَإِنَّمَا هِيَ ثَمَرَةُ تَزْكِيَةِ النَّفْسِ الَّتِي يُتَوَسَّلُ إِلَيْهَا بِعَمَلِ الْحِسِّ، فَإِذَا كَانَ هَذَا شَأْنَ سَعَادَةِ الدُّنْيَا، فَكَيْفَ يَكُونُ نَعِيمُ الْآخِرَةِ جَزَاءَ حَرَكَاتٍ جَسَدِيَّةٍ، وَهِيَ الدَّارُ الَّتِي تَغْلِبُ فِيهَا الرُّوحَانِيَّةُ؟ (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) (91: 7 - 10) .
(وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) بَلْ هُوَ مُحِيطٌ بِهِ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْهُ شَيْءٌ. وَقَدْ قَرَأَ عَاصِمٌ فِي رِوَايَةِ الْمُفَضَّلِ (تُرَدُّونَ) بِالْخِطَابِ لِمُنَاسَبَةِ قَوْلِهِ: (مِنْكُمْ) كَمَا قَرَأَ
الْجُمْهُورُ (تَعْمَلُونَ) بِالْخِطَابِ لِذَلِكَ، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَنَافِعٌ وَعَاصِمٌ فِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرِ وَيَعْقُوبَ (يَعْمَلُونَ) عَلَى الْغِيبَةِ لِرُجُوعِ الضَّمِيرِ إِلَى (مَنْ يَفْعَلُ) .
ثُمَّ أَكَّدَ اللهُ - تَعَالَى - ذَلِكَ الْوَعِيدَ الشَّدِيدَ وَبَيَّنَ سَبَبَهُ بِقَوْلِهِ: (أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ) أَيْ جَعَلُوا حُظُوظَهُمْ مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا بَدَلًا مِنَ الْآخِرَةِ بِمَا فَرَّطُوا فِي جَنْبِ اللهِ، وَأَهْمَلُوا مِنْ شَرِيعَتِهِ، حَتَّى لَمْ يَتَّبِعُوا مِنْهَا إِلَّا مَا يُوَافِقُ أَهْوَاءَهُمْ، وَلَا يُعَارِضُ شَهَوَاتِهِمْ كَالْحَمِيَّةِ الَّتِي حَمَلَتْ كُلَّ حَلِيفٍ عَلَى الِانْتِصَارِ لِمُحَالِفِهِ الْمُشْرِكِ وَمُظَاهَرَتِهِ إِيَّاهُ عَلَى قَوْمِهِ الَّذِينَ تَجْمَعُهُ بِهِمْ رَابِطَةُ الدِّينِ وَالنَّسَبِ (فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ) ؛ لِأَنَّ عِلَّتَهُ ذَاتِيَّةٌ فِيهِمْ، وَهِيَ ظُلْمَةُ أَرْوَاحِهِمْ وَفَسَادُ أَخْلَاقِهِمْ (وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ) بِشَفَاعَةِ شَافِعٍ، أَوْ وِلَايَةِ وَلِيٍّ مِنْ دُونِ اللهِ (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) (2: 255) ؟ وَأَنَّى يُؤْذَنُ بِالشَّفَاعَةِ لِمَنْ سَجَّلَتْ عَلَيْهِمُ الشَّقَاءَ أَعْمَالُهُمْ بِإِحَاطَةِ الْخَطَايَا بِهِمْ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، حَتَّى أَخَذَتْ عَلَيْهِمْ طَرِيقَ الرَّحْمَةِ، وَقَطَعَتْ عَلَيْهِمْ بِاخْتِيَارِهِمْ سَبِيلَ الرِّضْوَانِ الْإِلَهِيِّ، فَمِنَ الْجَهْلِ إِهْمَالُهُمُ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ، وَنَقْضُهُمْ مِيثَاقَ اللهِ - تَعَالَى - فِي أَهَمِّ مَا وَاثَقَهُمْ بِهِ، وَاعْتِمَادُهُمْ مَعَ هَذَا كُلِّهِ عَلَى الشُّفَعَاءِ (وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ) (21: 28) .
وَمِنْ مَبَاحِثِ الْأَلْفَاظِ فِي قَوْلِهِ: (وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ) أَنَّ الضَّمِيرَ لِلشَّأْنِ عِنْدَ الْمُفَسِّرِ وَالْجَمَاهِيرِ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّ الْمَعْهُودَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ أَنَّ الْجُمْلَةَ الَّتِي تَقْضِي الْحَالُ فِيهَا بِتَقَدُّمِ الِاسْمِ وَتَأَخُّرِ الْفِعْلِ، أَوْ مَا يُشْتَقُّ مِنْهُ لَا بُدَّ أَنْ تُصَدَّرَ بِضَمِيرٍ تَعْتَمِدُ عَلَيْهِ، وَلِهَذَا شَوَاهِدٌ فِي كَلَامِ الْبُلَغَاءِ يَتَّفِقُ فِيهَا ذَوْقُهُمْ، وَإِنِ اخْتَلَفَ النُّحَاةُ فِي إِعْرَابِهَا.
(وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ)
عُهِدَ فِي سِيرَةِ الْبَشَرِ أَنَّ الْأُمَّةَ تُوعَظُ وَتُنْذَرُ، فَتَتَّعِظُ وَتَتَدَبَّرُ، فَإِذَا طَالَ عَلَيْهَا الْأَمَدُ بَعْدَ النَّذِيرِ تَقْسُو الْقُلُوبُ، وَيَذْهَبُ أَثَرُ الْمَوْعِظَةِ مِنَ الصُّدُورِ، وَتَفْسُقُ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا، وَتَنْسَى مَا لَمْ تَعْمَلْ بِهِ مِمَّا أُنْذِرَتْ بِهِ، أَوْ تُحَرِّفُهُ عَنْ مَوْضِعِهِ بِضُرُوبِ التَّأْوِيلِ، وَزُخْرُفِ الْقَالِ وَالْقِيلِ، وَلَقَدْ يَكُونُ لِلْمُتَأَخِّرِ مِنْهَا بَعْضُ الْعُذْرِ لِجَهْلِهِ بِمَا فَعَلَ الْمُتَقَدِّمُ، وَأَخْذِهِ مَا يُؤْثَرُ عَنْهُ بِالتَّسْلِيمِ لِكَمَالِ الثِّقَةِ وَحُسْنِ الظَّنِّ.
بَيَّنَ اللهُ - تَعَالَى - هَذِهِ السُّنَّةَ الِاجْتِمَاعِيَّةَ فِي سُورَةِ الْحَدِيدِ بِقَوْلِهِ: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينِ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينِ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ)(57: 16) وَلِهَذَا كَانَ - تَعَالَى - يُرْسِلُ الرُّسُلَ بَعْضُهُمْ فِي أَثَرِ بَعْضٍ حَتَّى لَا يَطُولَ أَمَدُ الْإِنْذَارِ عَلَى النَّاسِ فَيَفْسُقُوا وَيَضِلُّوا، وَلَا يَعْرِفُ التَّارِيخُ شَعْبًا جَاءَتْ فِيهِ الرُّسُلُ تَتْرَى كَشَعْبِ إِسْرَائِيلَ؛ لِذَلِكَ كَانُوا بِمَعْزِلٍ عَنْ صِحَّةِ الْعُذْرِ بِطُولِ الْأَمَدِ عَلَى الْإِنْذَارِ، وَفِي نَاحِيَةٍ عَمَّا يُرْجَى قَبُولُهُ مِنَ التَّعَلُّلِ وَالِاعْتِذَارِ؛ لِهَذَا قَالَ - تَعَالَى - بَعْدَ كُلِّ مَا تَقَدَّمَ:(وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ) فَلَمْ يَمُرَّ زَمَنٌ بَيْنَ مُوسَى وَعِيسَى آخِرِ أَنْبِيَائِهِمْ إِلَّا وَكَانَ فِيهِ نَبِيٌّ مُرْسَلٌ، أَوْ أَنْبِيَاءُ مُتَعَدِّدُونَ يَأْمُرُونَ وَيَنْهَوْنَ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: اعْلَمُوا يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ إِنْ كَانَ لِطُولِ الْأَمَدِ عَلَى النُّبُوَّةِ وَبَعْدَ الْعَهْدِ بِالرُّسُلِ يَدٌ فِي تَغْيِيرِ الْأَوْضَاعِ وَنِسْيَانِ الشَّرَائِعِ، وَكَانَ فِي ذَلِكَ وَجْهٌ لِاعْتِذَارِ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَتَنَاوَلُكُمْ، فَإِنَّ الرُّسُلَ قَدْ جَاءَتْكُمْ تَتْرَى ثُمَّ كَانَ مِنْ أَمْرِكُمْ مَعَهُمْ مَا كَانَ.
ذَكَرَ رُسُلَ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِالْإِجْمَالِ لِبَيَانِ مَا ذَكَرَ، ثُمَّ خَصَّ بِالذِّكْرِ الْمَسِيحَ عليه السلام فَقَالَ:(وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ)، فَأَمَّا الْبَيِّنَاتُ: فَهِيَ مَا يَتَبَيَّنُ بِهِ الْحَقُّ مِنَ الْحُجَجِ الْقَيِّمَةِ وَالْآيَاتِ الْبَاهِرَةِ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: الْمُرَادُ بِهَا مَا عَادَ إِلَيْهِ مِنْ أَحْكَامِ التَّوْرَاةِ. وَأَمَّا رُوحُ الْقُدُسِ فَهُوَ رُوحُ الْوَحْيِ الَّذِي يُؤَيِّدُ اللهُ - تَعَالَى - بِهِ أَنْبِيَاءَهُ فِي عُقُولِهِمْ وَمَعَارِفِهِمْ
وَهُوَ هُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا وَمَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ)(42: 52) الْآيَةِ. وَيُطْلَقُ عَلَيْهِ رُوحُ الْقُدُسِ؛ لِأَنَّ التَّعْلِيمَ الَّذِي يَكُونُ بِهِ مُقَدَّسٌ، أَوْ لِأَنَّهُ يُقَدِّسُ النُّفُوسَ كَمَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ " الرُّوحُ الْأَمِينُ "؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ الْمُوحَى إِلَيْهِ يَكُونُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ فِيهِ
يَأْمَنُ مَعَهَا التَّلْبِيسَ فِيمَا يُلْقَى إِلَيْهِ، قَالَ - تَعَالَى - فِي الْقُرْآنِ:(نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ)(26: 193، 194) .
(ثُمَّ قَالَ الْأُسْتَاذُ) : ذَهَبَ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِرُوحِ الْقُدُسِ الْمَلَكُ الْمُسَمَّى بِجِبْرِيلَ الَّذِي يَنْزِلُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ، وَمِنْهُ يَسْتَمِدُّونَ الشَّرَائِعَ عَنِ اللهِ - تَعَالَى -، وَهُوَ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِمْ " حَاتِمُ الْجُودِ "، وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ وَجْهًا آخَرَ، وَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا رُوحُ عِيسَى نَفْسِهِ، وَوَصْفُهَا بِالْقَدَاسَةِ وَالطَّهَارَةِ بِمَعْنَى إِعَاذَتِهِ مِنَ الشَّيْطَانِ أَنْ يَكُونَ لَهُ حَظٌّ فِيهِ، أَوْ لِأَنَّهُ أُنْزِلَ عَلَيْهِ الْإِنْجِيلُ بِالتَّعَالِيمِ الَّتِي تُقَدِّسُ النُّفُوسَ، بَلْ قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ رُوحَ الْقُدُسِ هُوَ الْإِنْجِيلُ، وَالْمُرَادُ مِنَ الْكُلِّ وَاحِدٌ، وَهُوَ أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ عِيسَى بَعْدَ ظُهُورِ رُسُلٍ كَثِيرِينَ فِيهِمْ بَعْدَ مُوسَى، وَأَعْطَاهُ مَا لَمْ يُعْطِ كُلَّ رَسُولٍ مِنْ أُولَئِكَ مِنَ الْوَحْيِ أَوْ مِنْ قُوَّةِ الرُّوحِ، وَزَكَاءِ النَّفْسِ وَمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، وَنَسْخِ بَعْضِ الْأَحْكَامِ، وَقَدْ كَانَ حَظُّهُ مَعَ ذَلِكَ مِنْهُمْ كَحَظِّ سَابِقِيهِ الَّذِينَ لَمْ يُؤْتَوْا مِنَ الْمَوَاهِبِ مِثْلُ مَا أُوتِيَ.
مَاذَا كَانَ حَظُّ أُولَئِكَ الرُّسُلِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ؟ كَانَ حَظُّهُمْ مِنْهُمْ مَا أَفَادَهُ الِاسْتِفْهَامُ التَّوْبِيخِيُّ فِي قَوْلِهِ: (أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ) ، فَاتَّبَعْتُمُ الْهَوَى وَأَطَعْتُمُ الشَّهَوَاتِ، وَعَصَيْتُمُ الرُّسُلَ وَاحْتَمَيْتُمْ عَلَيْهِمْ أَنْ أَنْذَرُوكُمْ وَدَعَوْكُمْ إِلَى أَحْكَامِ كِتَابِكُمْ، (فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ) كَانَ الْمَعْهُودُ فِي التَّخَاطُبِ وَكَلَامِ النَّاسِ أَنَّ تُذْكَرَ هَذِهِ الْمَسَاوِئُ ثُمَّ يُوَبَّخُونَ عَلَيْهَا، وَلَكِنْ طَوَاهَا فِي الْخِطَابِ وَأَدْمَجَهَا فِي الِاسْتِفْهَامِ لِتُفَاجِئَ النُّفُوسَ بِقُوَّةِ التَّشْنِيعِ وَالتَّقْبِيحِ، وَتَبْرُزَ لَهَا فِي ثَوْبِ الْإِنْكَارِ وَالتَّوْبِيخِ، وَفِي ذَلِكَ الْإِيمَاءُ إِلَى أَنَّ هَذِهِ الْمُعَامَلَةَ السُّوءَى مِمَّا لَا يَخْفَى خَبَرُهَا، وَلَا تَغِيبُ عَنِ الْإِنْكَارِ صُوَرُهَا، فَلَا يَنْبَغِي الْإِلْمَاعُ إِلَيْهَا إِلَّا فِي سِيَاقِ تَقْرِيعِ مُجْتَرِحِيهَا، وَهَذَا مِنْ إِيجَازِ الْقُرْآنِ الَّذِي لَا يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِكْرُ الْإِنْسَانِ، وَانْظُرْ كَيْفَ أَوْرَدَ خَبَرَ الْقَتْلِ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى الْحَالِ لِاسْتِحْضَارِ تِلْكَ الصُّورَةِ الْفَظِيعَةِ، وَتَمْثِيلِهَا لِلسَّامِعِ حَتَّى يُمَثِّلَهَا فِي الْخَيَالِ، وَإِنْ مَرَّتْ عَلَيْهَا الْقُرُونُ وَالْأَحْوَالُ؛ لِأَنَّهَا أَفَاعِيلٌ لَا تَخْلَقُ جِدَّتُهَا، وَدِمَاءٌ لَا تَطِيرُ رَغْوَتُهَا، وَإِنَّ مِثْلَ هَذَا التَّعْبِيرِ لِيُمَثِّلُ
تِلْكَ الصُّورَةَ الْمُشَوَّهَةَ؛ لِأَنَّ الْأَلْفَاظَ إِذَا قَرَعَتِ الذِّهْنَ بِمَفْهُومِهَا، يَتَنَاوَلُ الْخَيَالُ ذَلِكَ الْمَفْهُومَ وَيُصَوِّرُهُ بِالصُّورَةِ اللَّائِقَةِ بِهِ، فَيَكُونُ لَهُ مِنَ التَّأْثِيرِ مَا يُنَاسِبُهُ.
قَتَلُوا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ الْمُرْسَلِينَ زَكَرِيَّا وَيَحْيَى عليهما السلام وَيُرْوَى أَنَّهُمْ قَتَلُوا فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ مِائَةً وَخَمْسِينَ نَبِيًّا، فَإِنْ صَحَّ هَذَا، فَالْمُرَادُ بِأُولَئِكَ الْأَنْبِيَاءِ مَنْ كَانَتْ نُبُوَّتُهُمْ مَحْصُورَةً فِي الدَّعْوَةِ
إِلَى إِقَامَةِ التَّوْرَاةِ، وَدَلِيلُهَا مَحْصُورٌ فِي الْإِنْبَاءِ بِبَعْضِ الْمُغَيَّبَاتِ، وَكَانَ هَذَا الْفَرِيقُ مُنْتَشِرًا فِي أَسْبَاطِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَثِيرًا بِكَثْرَتِهِمْ.
وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ حُجَّتَانِ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: حُجَّةٌ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَحُجَّةٌ عَلَى الَّذِينَ يَعْجَبُونَ لِعَدَمِ إِيمَانِهِمْ بِهِ وَإِجَابَتِهِمْ دَعْوَتَهُ، وَبَيَانُ أَنَّ الْمُجَاحَدَةَ وَالْمُعَانَدَةَ مِنْ شَأْنِهِمْ، وَمِمَّا عُرِفَ مِنْ شَنْشَنَتِهِمْ، وَنَاسَبَ بَعْدَ هَذَا أَنْ يَذْكُرَ مَا كَانُوا يَعْتَذِرُونَ بِهِ عَنِ الْإِيمَانِ بِهِ، وَالِاهْتِدَاءِ بِكِتَابِهِ بَعْدَ تَقْرِيرِ الدَّعْوَةِ وَإِقَامَةِ الْحُجَّةِ، فَقَالَ:(وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ) وَالْغُلْفُ: بِضَمٍّ وَسُكُونٍ وَبِضَمَّتَيْنِ جَمْعُ أَغْلَفَ، وَهُوَ مَا يُحِيطُ بِهِ غِلَافٌ يَمْنَعُ أَنْ يُصِيبَهُ شَيْءٌ. وَالْمُرَادُ أَنَّنَا لَا نَعْقِلُ قَوْلَكَ، وَلَا يَنْفُذُ إِلَى قُلُوبِنَا مَفْهُومُ دَعْوَتِكَ؛ فَهُوَ بِمَعْنَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -:(وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنَكَ حِجَابٌ)(41: 5) .
وَقَدْ رَدَّ اللهُ - تَعَالَى - عَلَيْهِمْ بِمَا يُشْعِرُ بِكَذِبِهِمْ وَعِنَادِهِمْ فَقَالَ: (بَلْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ) أَيْ أَنَّ قُلُوبَهُمْ لَيْسَتْ غُلْفًا لَا تَفْهَمُ الْحَقَّ بِطَبْعِهَا، وَإِنَّمَا أَبْعَدَهُمُ اللهُ - تَعَالَى - مِنْ رَحْمَتِهِ بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ بِالْأَنْبِيَاءِ السَّابِقِينَ، وَبِالْكِتَابِ الَّذِي تَرَكُوا الْعَمَلَ بِهِ وَحَرَّفُوهُ اتِّبَاعًا لِأَهْوَائِهِمْ، فَهُمْ قَدْ أَنِسُوا بِالْكُفْرِ وَانْطَبَعُوا عَلَيْهِ، فَكَانَ ذَلِكَ سَبَبًا فِي حِرْمَانِهِمْ مِنْ قَبُولِ الرَّحْمَةِ الْكُبْرَى بِإِجَابَةِ دَعْوَةِ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ، هَذَا هُوَ مَعْنَى اللَّعْنِ، وَقَدْ ذَكَرْتُ مَعَهُ عِلَّتَهُ؛ لِيُعْلَمَ أَنَّهُ جَرَى عَلَى سُنَّةِ اللهِ - تَعَالَى - فِي الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبِّبَاتِ، وَأَنَّ اللهَ لَمْ يَظْلِمْهُمْ بِهَذَا، وَإِنَّمَا ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بِالْكُفْرِ الَّذِي يَسْتَتْبِعُ الْكُفْرَ، وَالْعِصْيَانِ الَّذِي يَجُرُّ إِلَى التَّمَادِي فِي الْعِصْيَانِ، كَمَا هِيَ السَّنَةُ فِي أَخْلَاقِ الْإِنْسَانِ، وَلَمَّا ذَكَرَ اللَّعْنَ مُعَلَّلًا بِالْكُفْرِ الَّذِي هُوَ نَتِيجَةُ تَأْثِيرِ أَعْمَالِهِمُ السَّابِقَةِ فِي أَنْفُسِهِمْ، وَكَانَ مِمَّا يَخْطُرُ بِالْبَالِ أَنَّ أُولَئِكَ الْقَوْمَ لَمْ يَكُونُوا كَافِرِينَ بَلْ مُؤْمِنِينَ بِاللهِ وَكِتَابِهِ وَرُسُلِهِ إِلَيْهِمُ اسْتَدْرَكَ فَقَالَ:(فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ) ، وَإِنَّمَا الْقِلَّةُ فِي الْإِيمَانِ
بِاعْتِبَارِ مَا يُؤْمَنُ بِهِ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ وَأَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ، وَبِالنِّسْبَةِ إِلَى الْيَقِينِ فِي الْإِيمَانِ وَتَحْكِيمِهِ فِي الْفِكْرِ وَالْوِجْدَانِ.
وَلَقَدْ كَانَ الْقَوْمُ يُؤْمِنُونَ بِالشَّرِيعَةِ فِي الْجُمْلَةِ وَكَمَا تُعْطِيهِ ظَوَاهِرُ الْأَلْفَاظِ، وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يَلْبِسُوهَا مُفَصَّلَةً تَفْصِيلًا وَلَمْ يَفْقَهُوا حِكَمَهَا وَأَسْرَارَهَا، فَلَمْ يَكُنْ لَهَا سُلْطَانٌ عَلَى قُلُوبِهِمْ، وَلَمْ تَكُنْ هِيَ الْمُحَرِّكَةُ لِإِرَادَتِهِمْ فِي أَعْمَالِهِمْ، وَإِنَّمَا كَانَ يُحَرِّكُهَا الْهَوَى وَالشَّهْوَةُ، وَيُصَرِّفُهَا عَامِلُ اللَّذَّةِ، فَالْإِيمَانُ إِنَّمَا كَانَ عِنْدَهُمْ قَوْلًا بِاللِّسَانِ، وَرَسْمًا يَلُوحُ فِي الْخَيَالِ، تُكَذِّبُهُ الْأَعْمَالُ وَتَطْمِسُهُ السَّجَايَا الرَّاسِخَةُ وَالْخِلَالُ، وَهَذَا هُوَ الْإِيمَانُ الَّذِي لَا قِيمَةَ لَهُ عِنْدَ اللهِ - تَعَالَى -، وَمِنَ الْعَجَبِ أَنْ نَرَى آيَاتِ الْقُرْآنِ تُبْطِلُهُ بِالْحُجَجِ الْقَيِّمَةِ وَالْأَسَالِيبِ الْمُؤَثِّرَةِ، وَأَهْلُ الْقُرْآنِ عَنْ ذَلِكَ غَافِلُونَ، فَقَلِيلًا مَا يَعْتَبِرُونَ وَيَتَذَكَّرُونَ.
وَمِنْ مَبَاحِثِ اللَّفْظِ فِي الْآيَةِ: أَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْمُفَسِّرِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّ (مَا) زَائِدَةٌ وَمَا هِيَ بِزَائِدَةٍ وِفَاقًا لِابْنِ جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ، وَجَلَّ الْقُرْآنُ أَنْ يَكُونَ فِيهِ كَلِمٌ زَائِدٌ، وَإِنَّمَا تَأْتِي (مَا) هَذِهِ لِإِفَادَةِ الْعُمُومِ تَارَةً وَلِتَفْخِيمِ الشَّيْءِ تَارَةً، وَيَقُولُ ابْنُ جَرِيرٍ: إِنَّمَا يُؤْتَى بِهَا فِي مِثْلِ هَذَا
الْمُقَامِ كَمُبْتَدَأِ كَلَامٍ جَدِيدٍ يُفِيدُ الْعُمُومَ، كَأَنَّهُ قَالَ: فَإِيمَانًا قَلِيلًا ذَلِكَ الَّذِي يُؤْمِنُونَ بِهِ. وَأَمَّا الَّتِي لِتَفْخِيمِ الشَّيْءِ فَكَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ)(3: 159) أَيْ فَبِسَبَبِ رَحْمَةٍ عَظِيمَةِ الشَّأْنِ خَصَّكَ اللهُ بِهَا لِنْتَ لَهُمْ عَلَى مَا لَقِيتَ مِنْهُمْ، وَقَدْ بَيَّنَ - تَعَالَى - هَذِهِ الرَّحْمَةَ بِقَوْلِهِ فِي وَصْفِهِ صلى الله عليه وسلم:(بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ)(9: 128) وَقَوْلِهِ: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)(21: 107) .
هَذَا مَا اخْتَارَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: (فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ) ، وَهُنَاكَ وَجْهٌ آخَرُ أَوْرَدَهُ ابْنُ جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ، وَهُوَ أَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ بِالنَّبِيِّ وَمَا جَاءَ بِهِ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ، وَالِاسْتِدْرَاكُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَظْهَرُ؛ فَإِنَّهُ لَمَّا بَيَّنَ أَنَّ كُفْرَهُمُ الْمُسْتَقِرَّ، وَعِصْيَانَهُمُ الْمُسْتَمِرَّ، كَانَ سَبَبًا فِي لَعْنِهِمْ وَإِبْعَادِهِمْ، كَانَ لِلْوَهْمِ أَنْ يَذْهَبَ إِلَى أَنَّهُمْ قَوْمٌ قَدْ سَجَّلَ عَلَيْهِمُ الشَّقَاءَ وَعَمَّهُمْ حَتَّى لَا مَطْمَعَ فِي إِيمَانِ أَحَدٍ مِنْهُمْ، فَجَاءَ قَوْلُهُ - تَعَالَى -:(فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ) يُبَيِّنُ أَنَّ هَذَا الْوَهْمَ لَا يَصِحُّ أَنْ يَنْطَلِقَ عَلَى إِطْلَاقِهِ، وَأَنَّ تَأْثِيرَ مَا ذُكِرَ فِي مَجْمُوعِ الشَّعْبِ لَمْ يَسْتَغْرِقْ أَفْرَادَهُ اسْتِغْرَاقًا، وَإِنَّمَا غَمَرَ الْأَكْثَرِينَ، وَيُرْجَى أَنْ
يَنْجُوَ مِنْهُ النَّفَرُ الْقَلِيلُ، وَكَذَلِكَ كَانَ.
أَقُولُ: وَفِيهِ مِنْ دِقَّةِ الْقُرْآنِ فِي الصِّدْقِ وَتَحْدِيدِ الْحَقِّ مَا لَا يُعْهَدُ فِي كَلَامِ النَّاسِ.
(وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكَافِرِينَ بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّ قَوْلَهُ - تَعَالَى -: (وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ) . . . إِلَخْ مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ قَبْلَهُ: (فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ) ، وَالْمَعْنَى أَنَّ إِيمَانَهُمْ كَانَ قَلِيلًا حَالَ كَوْنِهِمْ كَانُوا يَنْتَظِرُونَ نَبِيًّا وَكِتَابًا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ، وَكَانُوا يَسْتَفْتِحُونَ بِهِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، فَكَيْفَ لَا يَكُونُ قَلِيلًا أَوْ أَقَلَّ بَعْدَمَا جَاءَ مَا كَانُوا يَنْتَظِرُونَ وَعَرَفُوا أَنَّهُ الْحَقُّ ثُمَّ كَفَرُوا؟ فَالْجُمْلَةُ حَالِيَّةٌ، وَيَصِحُّ أَيْضًا هَذَا الِاتِّصَالُ الَّذِي ذَكَرَهُ عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي فِي تَفْسِيرِ (فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ) ، وَالْكِتَابُ هُنَا الْقُرْآنُ، نَكَّرَهُ لِلتَّفْخِيمِ، وَقَوْلُهُ:(مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ) مَعْنَاهُ أَنَّهُ مُوَافِقٌ لَهُ فِي التَّوْحِيدِ وَأُصُولِ الدِّينِ وَمَقَاصِدِهِ، وَالِاسْتِفْتَاحُ فِي قَوْلِهِ:(وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا) مَعْنَاهُ طَلَبُ الْفَتْحِ وَهُوَ الْفَصْلُ فِي الشَّيْءِ وَالْحُكْمِ، وَيُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى النَّصْرِ؛ لِأَنَّهُ فَصْلٌ بَيْنَ الْمُتَحَارِبِينَ، وَكَانَتِ الْيَهُودُ تَسْتَفْتِحُ عَلَى مُشْرِكِي الْعَرَبِ بِالنَّبِيِّ الْمُنْتَظَرِ، يَقُولُونَ: إِنَّهُ سَيَظْهَرُ فَيَنْصُرُ كِتَابُهُ التَّوْحِيدَ الَّذِي نَحْنُ عَلَيْهِ، وَيَخْذُلُ الْوَثَنِيَّةَ الَّتِي تَنْتَحِلُونَهَا وَيُبْطِلُهَا، فَيَكُونُ مُؤَيِّدًا لِدِينِ مُوسَى.
أَقُولُ: رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ أَشْيَاخٍ مِنَ الْأَنْصَارِ أَنَّ هَذَا نَزَلَ فِيهِمْ وَفِي يَهُودِ الْمَدِينَةِ، قَالُوا: كُنَّا قَدْ عَلَوْنَاهُمْ قَهْرًا دَهْرًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَنَحْنُ أَهْلُ شِرْكٍ وَهُمْ أَهْلُ كِتَابٍ، وَهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّ نَبِيًّا سَيُبْعَثُ الْآنَ نَتَّبِعُهُ قَدْ أَظَلَّ زَمَانُهُ، نَقْتُلُكُمْ مَعَهُ قَتْلَ عَادَ وَإِرَمَ. . . إِلَخْ. وَرَوَى الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي تَفْسِيرِ (يَسْتَفْتِحُونَ) : يَسْتَنْصِرُونَ، يَقُولُونَ: نَحْنُ نُعِينُ مُحَمَّدًا عَلَيْهِمْ. . . إِلَخْ.
وَتَتِمَّتُهُ فِي تَفْسِيرِ الْعِمَادِ ابْنِ كَثِيرٍ. وَشَذَّ بَعْضُهُمْ كَالْبَغَوِيِّ فِي تَفْسِيرِهِ فَقَالَ: إِنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ إِذَا حَزَبَهُمْ أَمْرٌ أَوْ دَهَمَهُمْ عَدُوٌّ: اللهُمَّ انْصُرْنَا عَلَيْهِمْ بِالنَّبِيِّ الْمَبْعُوثِ فِي آخِرِ الزَّمَانِ الَّذِي نَجِدُ صِفَتَهُ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، فَكَانُوا يُنْصَرُونَ، وَفِيهِ رِوَايَاتٌ ضَعِيفَةٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، لَمْ يُعَرِّجِ ابْنُ كَثِيرٍ عَلَى شَيْءٍ مِنْهَا، وَلَعَلَّهُ تَرَكَهَا لِأَنَّهَا عَلَى ضَعْفِ رِوَايَتِهَا وَمُخَالَفَتِهَا لِلرِّوَايَاتِ الْمَعْقُولَةِ شَاذَّةُ الْمَعْنَى - بِجَعْلِ الِاسْتِفْتَاحِ دُعَاءً بِشَخْصِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ " بِحَقِّهِ " وَهَذَا غَيْرُ مَشْرُوعٍ، وَلَا حَقَّ لِأَحَدٍ عَلَى اللهِ فَيُدْعَى بِهِ، كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ وَغَيْرُهُ، وَكَذَلِكَ فَعَلَ ابْنُ جَرِيرٍ، لَمْ يَذْكُرْ شَيْئًا مِنْ رِوَايَاتِ الدُّعَاءِ بِحَقِّهِ وَالِاسْتِنْصَارِ بِشَخْصِهِ، بَلْ ذَكَرَ عِدَّةَ رِوَايَاتٍ فِي أَنَّهُمْ كَانُوا يَدْعُونَ اللهَ بِأَنْ يَبْعَثَهُ لِيَقْتُلَ الْمُشْرِكِينَ، وَفِي بَعْضِهَا أَنَّهُمْ كَانُوا يَرْجُونَ أَنْ يَكُونَ مِنْهُمْ، وَالْكَلَامُ هُنَا فِي مَجِيءِ الْكِتَابِ لَا فِي مَجِيءِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم الَّذِي يَأْتِي ذِكْرُ مَجِيئِهِ قَرِيبًا، عَلَى أَنَّهُمَا مُتَلَازِمَانِ (فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ) . أَعَادَ (فَلَمَّا جَاءَهُمْ) وَهِيَ عَيْنُ الْأَوْلَى لِطُولِ الْفَصْلِ، وَوَصَلَ بِهِ الْجَوَابَ وَهُوَ (كَفَرُوا بِهِ) ذَلِكَ أَنَّهُ رَاعَهُمْ كَوْنُهُ بُعِثَ فِي الْعَرَبِ فَحَسَدُوهُ، فَحَمَلَهُمُ الْحَسَدُ عَلَى الْكُفْرِ بِهِ جُحُودًا وَبَغْيًا، فَسُجِّلَتْ عَلَيْهِمُ اللَّعْنَةُ الَّتِي أَصَابَتْهُمْ بِكُفْرِهِمُ الْأَوَّلِ بِأَنَّ الْكُفْرَ صَارَ وَصْفًا لَازِمًا لَهُمْ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ:(فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكَافِرِينَ) وَلَمْ يَقُلْ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّ الْمَظْهَرَ أَبْلَغُ وَأَعَمُّ وَأَشْمَلُ.
ثُمَّ ذَكَرَ عِلَّةَ هَذَا الْكُفْرِ وَسَبَبَهُ، وَبَيَّنَ فَسَادَ رَأْيِهِمْ فِيهِ بِقَوْلِهِ:(بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللهُ)
أَيْ بِئْسَ شَيْئًا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ، هُوَ كُفْرُهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ كَمَا كَانُوا يَنْتَظِرُونَ. شَرَى الشَّيْءَ وَاشْتَرَاهُ: يُسْتَعْمَلُ كُلٌّ مِنْهُمَا بِمَعْنَى بَاعَ الشَّيْءَ، وَبِمَعْنَى ابْتَاعَهُ؛ لِأَنَّ الْحَرْفَ يَدُلُّ عَلَى الْمُعَاوَضَةِ. وَقَدْ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى أَنَّ (اشْتَرَوْا) هُنَا بِمَعْنَى بَاعُوا؛ أَيْ أَنَّهُمْ بَذَلُوا أَنْفُسَهُمْ وَبَاعُوهَا بِمَا حَرَصُوا عَلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِ بَغْيًا وَحَسَدًا لِلنَّبِيِّ وَحُبًّا فِي الرِّيَاسَةِ وَاعْتِزَازًا
بِالْجِنْسِيَّةِ، وَبِمَا كَانَ لِكُلٍّ مِنَ الرُّؤَسَاءِ وَالْمَرْءُوسِينَ مِنَ الْمَنَافِعِ الْمُتَبَادَلَةِ فِي الْمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا، فَهَذَا كُلُّهُ يُعَدُّ ثَمَنًا لِأَنْفُسِهِمُ الَّتِي خَسِرُوهَا بِالْكُفْرِ، حَتَّى كَأَنَّهُمْ فَقَدُوهَا كَمَا يَفْقِدُ الْبَائِعُ الْمَبِيعَ، وَذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ وَجْهًا آخَرَ وَهُوَ أَنَّ (اشْتَرَوْا) هُنَا بِمَعْنَى ابْتَاعُوا، أَيْ أَنَّهُمْ جَعَلُوا أَنْفُسَهُمْ ثَمَنًا لِلْكُفْرِ الَّذِي ذُكِرَتْ عِلَّتُهُ آنِفًا. وَفِيهِ مِنَ الزِّيَادَةِ عَلَى مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ أَنَّهُمْ قَدْ أَنْقَذُوا أَنْفُسَهُمْ بِذَلِكَ الْكُفْرِ، أَيْ أَنَّهُمْ يَزْعُمُونَ ذَلِكَ وَيَدَّعُونَهُ فِي الظَّاهِرِ، وَإِنْ كَانُوا فِي الْبَاطِنِ قَدْ عَرَفُوا أَنَّ مَا جَاءَهُمْ هُوَ الْحَقُّ الَّذِي كَانُوا يَنْتَظِرُونَ، وَأَنَّهُمْ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ، وَلَكِنَّهُمْ يَكْتُمُونَ.
وَقَدْ فُهِمَ مِمَّا تَقَدَّمَ مَعْنَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: (بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ) ، فَهُوَ تَعْلِيلٌ لِكُفْرِهِمْ لَا لِشِرَائِهِمْ، أَيْ كَفَرُوا بِهِ لِمَحْضِ الْبَغْيِ الَّذِي أَثَارَهُ الْحَسَدُ كَرَاهَةَ أَنْ يُنْزِلَ اللهُ الْوَحْيَ مِنْ فَضْلِهِ بِمُقْتَضَى مَشِيئَتِهِ، وَأَيُّ بَغْيٍ أَقْبَحُ مِنْ بَغْيِ مَنْ يُرِيدُ أَنْ يَحْجُرَ عَلَى فَضْلِ اللهِ، وَيُقَيِّدَ رَحْمَتَهُ، فَلَا يَرْضَى مِنْهُ أَنْ يَجْعَلَ الْوَحْيَ فِي آلِ إِسْمَاعِيلَ كَمَا جَعَلَهُ فِي آلِ أَخِيهِ إِسْحَاقَ؟ قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو (يُنْزِلَ) بِالتَّخْفِيفِ مِنَ الْإِنْزَالِ، وَالْبَاقُونَ بِالتَّشْدِيدِ مِنَ التَّنْزِيلِ: وَأَمَّا قَوْلُهُ: (فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ) فَهُوَ الْغَضَبُ الَّذِي اسْتَوْجَبُوهُ حَدِيثًا بِالْكُفْرِ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَوْقَ ذَلِكَ الْغَضَبِ الَّذِي لَحِقَهُمْ مِنْ قَبْلُ بِإِعْنَاتِ مُوسَى عليه السلام وَالْكُفْرِ بِهِ، وَقَدْ ذُكِرَ فِي قَوْلِهِ:(وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ)(2: 61)، ثُمَّ تَوَعَّدَهُمْ بَعْدَ الْغَضَبِ الْمُزْدَوِجِ فَقَالَ:(وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ) أَيْ مَقْرُونٌ بِالْإِهَانَةِ وَالْإِذْلَالِ، وَبِذَلِكَ صَارَ بِمَعْنَى الْآيَةِ السَّابِقَةِ، فَكَأَنَّ الْجَزَاءَ وَاحِدٌ تَكَرَّرَ بِتَكَرُّرِ الذَّنْبِ.
وَقَالَ: (وَلِلْكَافِرِينَ) وَلَمْ يَقُلْ (وَلَهُمْ) لِمَا فِي الْمَظْهَرِ مِنْ بَيَانِ التَّعْلِيلِ بِالْوَصْفِ الَّذِي سَجَّلَهُ عَلَيْهِمْ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا، وَهَذَا الْعَذَابُ مُطْلَقٌ، يَشْمَلُ عَذَابَ الدُّنْيَا وَعَذَابَ الْآخِرَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ ذُنُوبَ الْأُمَمِ تَتْبَعُهَا عُقُوبَتُهَا فِي الدُّنْيَا؛ لِأَنَّهَا أَثَرٌ طَبِيعِيٌّ لَهَا، وَإِنَّمَا جَعَلَهَا اللهُ كَذَلِكَ لِتَكُونَ عِبْرَةً يَتَأَدَّبُ الْمُتَأَخِّرُونَ بِمَا أَصَابَ مِنْهَا الْمُتَقَدِّمِينَ، وَكَذَلِكَ الْحَالُ فِي عُقُوبَةِ الْآخِرَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَفْرَادِ؛ فَإِنَّ عَذَابَ كُلِّ شَخْصٍ إِنَّمَا يَكُونُ بِحَسَبِ تَأْثِيرِ الْجَهْلِ فِي عَقْلِهِ وَفَسَادِ الْأَخْلَاقِ وَسُوءِ الْأَعْمَالِ فِي نَفْسِهِ.
اعْتَذَرَ بَعْضُ الْيَهُودِ فِي عَصْرِ التَّنْزِيلِ عَنْ عَدَمِ الْإِيمَانِ بِأَنَّ قُلُوبَهُمْ غُلْفٌ
لَمْ تَفْهَمِ الدَّعْوَةَ وَلَمْ تَعْقِلِ الْخِطَابَ، فَرَدَّ اللهُ - تَعَالَى - عَلَيْهِمْ بِبَيَانِ السَّبَبِ الْحَقِيقِيِّ فِي تَرْكِ الْإِيمَانِ، وَمَا اسْتَحَقُّوهُ عَلَيْهِ
مِنَ الْغَضَبِ وَالْهَوَانِ، ثُمَّ ذَكَرَ اعْتِذَارًا آخَرَ لَهُمْ مَقْرُونًا بِالرَّدِّ وَالْإِبْطَالِ، وَإِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ بِهِ فَقَالَ:(وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا) صِيغَةُ الدَّعْوَةِ تُشْعِرُ بِوُجُوبِ الْإِيمَانِ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ - تَعَالَى -؛ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَهُ لَا لِأَنَّ الْمُنَزَّلَ عَلَيْهِ فَلَانٌ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَقُلْ: آمِنُوا بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ؛ فَإِنَّ مَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ لَوْ أُنْزِلَ عَلَى غَيْرِهِ لَوَجَبَ الْإِيمَانُ بِهِ، فَإِنَّ الْوَحْيَ هُوَ الْمَقْصُودُ بِالذَّاتِ وَالْأَنْبِيَاءَ إِنَّمَا هُمْ مُبَلِّغُونَ، فَتَقْيِيدُ الْخُضُوعِ لِوَحْيِ اللهِ بِكَوْنِهِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُنَزَّلًا عَلَى شَخْصٍ مِنْ شَعْبِ كَذَا بِعَيْنِهِ تَحَكُّمٌ عَلَى اللهِ - تَعَالَى - وَقَضَاءٌ عَلَيْهِ بِأَنْ تَكُونَ رَحْمَتُهُ مُقَيَّدَةً بِأَهْوَاءِ فَرِيقٍ مِنْ خَلْقِهِ، فَإِيرَادُ الدَّعْوَةِ بِمَا ذَكَرَ مِنَ الْإِطْلَاقِ مَعَ إِيرَادِ الْجَوَابِ مُقَيَّدًا بِقَيْدِ (نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا) يُشْعِرُ بِقُوَّةِ حُجَّةِ الدَّعْوَةِ، وَوَهَنِ مَا بُنِيَ عَلَيْهِ الْجَوَابُ مِنَ الشُّبْهَةِ، ثُمَّ صَرَّحَ بِالْحَقِيقَةِ وَهِيَ أَنَّهُمْ إِنَّمَا يَدَّعُونَ هَذَا الْإِيمَانَ بِأَلْسِنَتِهِمْ (وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ) مِنْ مَدْلُولٍ وَلَازِمٍ لَا يَنْفَكُّ عَنْهُ، كَالْبِشَارَةِ بِرَسُولٍ مِنْ بَنِي إِخْوَتِهِمْ أَيْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ، وَكَوْنِ مَا تَثْبُتُ بِهِ نُبُوَّةُ مُحَمَّدٍ بِمُسَاوَاتِهِ لِمَا تَثْبُتُ بِهِ نُبُوَّةُ مُوسَى يَسْتَلْزِمُ وُجُوبَ اتِّبَاعِ مُحَمَّدٍ كَمَا اتُّبِعَ مُوسَى؛ لِأَنَّ الْمَدْلُولَ يَتْبَعُ دَلِيلَهُ فِي كُلِّ زَمَنٍ وَكُلِّ مَوْضُوعٍ، قَالَ: إِنَّهُمْ يَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَ الْمَنَزَّلِ إِلَيْهِمْ (وَهُوَ الْحَقُّ) أَيْ وَالْحَالُ أَنَّهُ الْحَقُّ الثَّابِتُ فِي نَفْسِهِ بِالدَّلِيلِ حَالَ كَوْنِهِ (مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ) ، فَهُوَ مُؤَيَّدٌ عِنْدَهُمْ بِالْعَقْلِ وَالنَّقْلِ، وَقَدْ كَانَ مِنْ مُكَابَرَتِهِمْ وَعِنَادِهِمْ مَا كَانَ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا إِلْزَامُهُمُ الْحُجَّةَ بِمَا اقْتَرَفُوا مِنْ فُحْشِ الْمُخَالَفَةِ لِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ، وَالْفُسُوقِ عَنْهُ لِيُعْلَمَ أَنَّهُمْ يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ، وَيُحَكِّمُونَ شَهَوَاتِهِمْ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ، وَمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَلِذَلِكَ قَالَ:(قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَلَيْسَ فِيهِ الْأَمْرُ بِقَتْلِ الْأَنْبِيَاءِ، بَلْ فِيهِ النَّهْيُ الشَّدِيدُ عَنْ قَتْلِ أَنْفُسِكُمْ.
وَمِنْ مَبَاحِثِ اللَّفْظِ أَوِ الْبَلَاغَةِ: أَنَّهُ جَاءَ بِالْجُمْلَةِ الْحَالِيَّةِ فِي بَيَانِ كَوْنِ مَا كَفَرُوا بِهِ هُوَ الْحَقُّ؛ لِأَنَّ الْجُمْلَةَ الْحَالِيَّةَ تَدُلُّ عَلَى تَقَدُّمِ ثُبُوتِ مَضْمُونِهَا عَلَى حُدُوثِ مَا جُعِلَتْ قَيْدًا لَهُ، وَمَا كَفَرُوا بِهِ كَذَلِكَ هُوَ الْحَقُّ مِنْ قَبْلِ كُفْرِهِمْ، وَهَذَا الْمَعْنَى لِلْجُمْلَةِ الْحَالِيَّةِ
هُوَ مَا حَقَّقَهُ الْإِمَامُ عَبْدُ الْقَاهِرِ فِي دَلَائِلِ الْإِعْجَازِ، وَلَمْ يُشِرْ إِلَيْهِ شَيْخُنَا هُنَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عِنْدَ تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَاتِ قَدْ قَرَأَ دَلَائِلَ الْإِعْجَازِ، وَقَوْلُهُ:(مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ) حَالٌ مُفْرَدَةٌ مُؤَكِّدَةٌ وَالْأَصْلُ فِيهَا الْمُقَارَنَةُ لِمَا هِيَ قَيْدٌ لَهُ، وَهُوَ يَتَضَمَّنُ إِثْبَاتَ كُفْرِهِمْ بِالتَّوْرَاةِ بِالتَّبَعِ لِكُفْرِهِمْ بِالْقُرْآنِ الْمُصَدِّقِ لَهَا، وَلَوْ فِيمَا صَدَّقَهَا فِيهِ، وَالْكُفْرُ بِبَعْضِهِ كَالْكُفْرِ بِهِ كُلِّهِ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ قَرِيبًا. وَمِنْ مَبَاحِثِ اللَّفْظِ أَيْضًا: وَضْعُ الْمُضَارِعِ (تَقْتُلُونَ) مَوْضِعَ الْمَاضِي (قَتَلْتُمْ) لِمَا سَبَقَ بَيَانُهُ فِي مِثْلِ هَذَا التَّعْبِيرِ مِنْ إِرَادَةِ اسْتِحْضَارِ صُورَةِ هَذَا الْجُرْمِ الْفَظِيعِ مُبَالَغَةً فِي التَّقْرِيعِ، وَإِغْرَاقًا فِي التَّشْنِيعِ. وَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الصِّيغَةُ تَدُلُّ عَلَى الْحَالِ، فَتُوهِمُ أَنَّ الَّذِينَ فِي زَمَنِ التَّنْزِيلِ كَانُوا لَا يَزَالُونَ يَقْتَرِفُونَ هَذِهِ الْجَرِيمَةَ، عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ
فِي ذَلِكَ الْعَهْدِ أَنْبِيَاءُ إِلَّا مَنْ يُبَكِّتُهُمْ وَيَحْتَجُّ عَلَيْهِمْ، وَصَلَهَا بِقَوْلِهِ:(مِنْ قَبْلُ) دَفْعًا لِذَلِكَ الْوَهْمِ. وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: (فَلِمَ) وَاقِعَةٌ فِي جَوَابِ شَرْطٍ دَلَّ عَلَيْهِ مَا بَعْدَهُ.
وَقَدْ سَبَقَ الْقَوْلُ غَيْرَ مَرَّةٍ بِأَنَّ خِطَابَ الْخَلَفِ بِإِسْنَادِ مَا كَانَ مِنْ سَلَفِهِمْ إِلَيْهِمْ مَقْصُودٌ لِبَيَانِ وَحْدَةِ الْأُمَّةِ وَتَكَافُلِهَا وَكَوْنِهَا فِي الْأَخْلَاقِ وَالسَّجَايَا الْمُشْتَرَكَةِ بَيْنَ أَفْرَادِهَا كَالشَّخْصِ الْوَاحِدِ، وَبَيَانِ أَنَّ مَا تُبْلَى بِهِ الْأُمَمُ مِنَ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ إِنَّمَا هُوَ أَثَرُ الْأَخْلَاقِ الْغَالِبَةِ عَلَيْهَا، وَالْأَعْمَالُ الْفَاشِيَةُ فِيهَا مُنْبَعِثَةٌ عَنْ تِلْكَ الْأَخْلَاقِ، فَمَا جَرَى مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْمُنْكَرَاتِ لَمْ يَكُنْ مِنْ قَذَفَاتِ الْمُصَادَفَةِ، وَإِنَّمَا كَانَ عَنْ أَخْلَاقٍ رَاسِخَةٍ فِي الشَّعْبِ تَبِعَ الْآخِرُونَ فِيهَا الْأَوَّلِينَ، إِمَّا بِالْعَمَلِ وَإِمَّا بِالْإِقْرَارِ وَتَرْكِ الْإِنْكَارِ. وَلَوْ أَنْكَرَ الْمَجْمُوعُ مَا كَانَ مِنْ بَعْضِ الْأَفْرَادِ لَمَا تَفَاقَمَ الْأَمْرُ، وَلَمَا تَمَادَى وَاسْتَمَرَّ.
فَالْحُجَّةُ تَقُومُ عَلَى الْحَاضِرِينَ بِأَنَّ الْغَابِرِينَ قَتَلُوا الْأَنْبِيَاءَ، فَأَقَرَّهُمْ مَنْ كَانَ مَعَهُمْ، وَلَمْ يَعُدُّوا ذَلِكَ خُرُوجًا مِنَ الدِّينِ وَلَا رَفْضًا لِلشَّرِيعَةِ، وَتَبِعَهُمْ مَنْ بَعْدَهُمْ عَلَى ذَلِكَ، وَفَاعِلُ الْكُفْرِ وَمُجِيزُهُ وَاحِدٌ، وَقَدْ سَبَقَ تَقْرِيرُ هَذَا غَيْرَ مَرَّةٍ.
(وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي
قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ)
سَبَقَ التَّذْكِيرُ بِاتِّخَاذِ الْعِجْلِ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: (وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً)(الْآيَةَ 2: 51) ثُمَّ أَعَادَهُ هُنَا بِعِبَارَةٍ وَأُسْلُوبٍ آخَرَيْنِ فِي سِيَاقٍ آخَرَ، أَمَّا اخْتِلَافُ الْعِبَارَةِ وَالْأُسْلُوبِ فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا السِّيَاقُ فَقَدْ كَانَ أَوَّلًا فِي تَعْدَادِ النِّعَمِ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَيَانِ مَا قَابَلُوهَا بِهِ مِنَ الْكُفْرَانِ، وَهُوَ هُنَا فِي ذِكْرِ الْآيَاتِ وَرَدِّ شُبُهَاتِهِمُ الْمَانِعَةِ بِزَعْمِهِمْ مِنَ الْإِيمَانِ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وآله وسلم فَهُنَاكَ يَقُولُ إِنَّ النِّعَمَ الَّتِي أَسْبَغَهَا اللهُ عَلَيْكُمْ لَمْ يَكُنْ لَهَا مِنْ شُكْرٍ عِنْدَكُمْ إِلَّا اتِّخَاذُ عِجْلٍ تَعْبُدُونَهُ مِنْ دُونِهِ، وَهَاهُنَا يَقُولُ إِنَّ الْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ عَلَى النُّبُوَّةِ وَالْوَحْدَانِيَّةِ لَمْ تَزِدْكُمْ إِلَّا إِيغَالًا فِي الشِّرْكِ وَانْهِمَاكًا فِي الْوَثَنِيَّةِ، فَكَيْفَ تَعْتَذِرُونَ عَنْ عَدَمِ الْإِيمَانِ بِمُحَمَّدٍ بِأَنَّكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ إِلَّا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَهَذَا شَأْنُكُمْ فِيهِ؟ وَمَجْمُوعُ الْآيَتَيْنِ يُنْبِئُ بِفَسَادِ قُلُوبِ الْقَوْمِ وَفَسَادِ عُقُولِهِمْ حَتَّى لَا مَطْمَعَ فِي هِدَايَةِ أَكْثَرِهِمْ مِنْ جِهَةِ الْوِجْدَانِ، وَلَا مِنْ نَاحِيَةِ الْعَقْلِ وَالْجَنَانِ، وَهَذِهِ الْبَيِّنَاتُ الَّتِي ذَكَرَهَا هَاهُنَا قَدْ كَانَتْ فِي مِصْرَ قَبْلَ الْمِيعَادِ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ التَّوْرَاةُ، وَأَمَّا النِّعَمُ الَّتِي ذَكَرَهَا هُنَاكَ فَقَدْ كَانَتْ فِي أَرْضِ الْمِيعَادِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَوَجْهُ الِاتِّصَالِ بَيْنَ هَذِهِ الْآيَةِ وَمَا قَبْلَهَا قَدْ عُلِمَ مِمَّا قُلْنَاهُ وَفِيهِ الْمُقَابَلَةُ بَيْنَ مُعَامَلَتِهِمْ لِمُوسَى عليه السلام وَمُعَامَلَتِهِمْ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وآله وسلم إِذْ قَالُوا:(قُلُوبُنَا غُلْفٌ) وَادَّعَوْا أَنَّهُمْ مَأْمُورُونَ بِأَلَا يُؤْمِنُوا إِلَّا بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْهِمْ خَاصَّةً، وَقَدْ عُلِمَ مِنْ هَذِهِ
الْحُجَجِ كُلِّهَا بُطْلَانُ شُبَهِهِمْ وَكَذِبُهُمْ فِي دَعْوَاهُمْ، وَأَنَّهُ لَا عُذْرَ لَهُمْ فِي تَرْكِ الْإِيمَانِ.
قَالَ: (وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ) أَيْ مِنْ بَعْدِ هَذَا الْمَجِيءِ لَا مِنْ بَعْدِ مُوسَى، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ عُذْرٌ فِي ذَلِكَ الِاتِّخَاذِ؛ فَإِنَّهُ بَعْدَ بُلُوغِ الدَّعْوَةِ وَقِيَامِ الْحُجَّةِ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ:(وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ) أَيْ ظُلْمٌ أَعْظَمُ مِنَ الشِّرْكِ بِاللهِ - تَعَالَى -؟ وَلَا تَغْفُلُ عَنِ الْإِيجَازِ فِي قَوْلِهِ: (مِنْ بَعْدِهِ) ، وَحَذْفِ مَفْعُولِ (اتَّخَذْتُمْ) أَيِ اتَّخَذْتُمُوهُ إِلَهًا.
ثُمَّ ذَكَّرَهُمْ هُنَا أَيْضًا أَخْذَ الْمِيثَاقِ وَرَفْعَ الطُّورِ كَمَا ذَكَّرَهُمْ بِهِ فِي آيَةٍ تَقَدَّمَتْ، وَقَدْ قَالَ هُنَاكَ:(خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ) وَقَالَ هُنَا: (خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا) وَأَمَرَهُمْ فِي تِلْكَ بِالْحِفْظِ، وَأَمَرَهُمْ فِي هَذِهِ بِالْفَهْمِ وَالطَّاعَةِ. وَقُلْنَا فِي تَفْسِيرِ (وَاذْكُرُوا) : إِنَّ الْمُرَادَ الْحَثُّ بِهِ عَلَى الْعَمَلِ، فَالْعِبَارَتَانِ تَتَلَاقَيَانِ فِي الْمَعْنَى وَالْمُرَادِ.
وَفِي اخْتِلَافِ النَّظْمِ وَالْأُسْلُوبِ حُجَّةٌ عَلَى الَّذِينَ تَوَهَّمُوا أَنَّ إِعْجَازَ الْقُرْآنِ فِي الْبَلَاغَةِ إِنَّمَا هُوَ فِي السَّبْقِ إِلَى الْعِبَارَةِ الَّتِي يَتَأَدَّى بِهَا الْمَعْنَى عَلَى أَكْمَلِ الْوُجُوهِ الْمُمْكِنَةِ فِي نَظْمِ الْكَلِمَاتِ الْعَرَبِيَّةِ.
رَأَى هَؤُلَاءِ أَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي يُفِيدُ عِلْمًا بِشَيْءٍ مَا، لَهُ كَلِمَاتٌ فِي اللُّغَةِ تُؤَدِّيهِ بِوُجُوهٍ مِنَ النَّظْمِ، وَأَنَّ الْكَلِمَاتِ وَالْوُجُوهَ مَحْدُودَةٌ، فَمَنْ سَبَقَ إِلَى أَتَمِّهَا أَدَاءً وَأَبْلَغِهَا تَأْثِيرًا، كَانَ كَالسَّابِقِ إِلَى انْتِقَاءِ أَكْرَمِ جَوْهَرَةٍ مِنْ طَائِفَةٍ مِنَ الْجَوَاهِرِ أَمَامَهُ، أَوْ إِلَى أَنْفَسِ عِقْدٍ وَأَحْسَنِهِ نَظْمًا مِنْ عُقُودٍ عُرِضَتْ عَلَيْهِ.
مِثَالُ ذَلِكَ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: (وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ)(40: 28) قَالَ عُلَمَاءُ هَذَا الشَّأْنِ: إِنَّهُ يَتَأَلَّفُ مِنْ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ عَشَرَةُ ضُرُوبٍ مِنَ النَّظْمِ
بِالتَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ، مَا مِنْ ضَرْبٍ مِنْهَا إِلَّا وَهُوَ مُنْتَقَدٌ بِالْخَطَلِ أَوْ إِيهَامِ خِلَافِ الْمُرَادِ أَوِ الْخَطَأِ فِي الْإِعْرَابِ إِلَّا نَظْمَ الْآيَةِ، فَهُوَ الَّذِي يُؤَدِّي الْمَعْنَى عَلَى أَكْمَلِ الْوُجُوهِ، وَلَا يَتَأَتَّى نَظْمٌ آخَرُ يُؤَدِّي مُؤَدَّاهُ. وَزَعَمَ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ هَذَا الْإِعْجَازَ لَيْسَ إِلَهِيًّا.
لَوْ أُخِذَ مَا قَالُوهُ مُسَلَّمًا عَلَى إِطْلَاقِهِ، لَكَانَ لَنَا أَنْ نَقُولَ: إِنَّهُ لَيْسَ فِي قُدْرَةِ أَحَدٍ مِنَ الْبَشَرِ أَنْ يَأْتِيَ بِكَلَامٍ طَوِيلٍ يَتَجَلَّى لَهُ فِي كُلِّ جُمْلَةٍ مِنْهُ جَمِيعُ الْكَلِمَاتِ الَّتِي تَدْخُلُ فِي تَأْدِيَةِ الْمَعْنَى الْمُرَادِ لَهُ، وَجَمِيعُ ضُرُوبِ النَّظْمِ، وَوُجُوهُ الْأَسَالِيبِ الْمُمْكِنَةِ فِي تَرْتِيبِ تِلْكَ الْكَلِمَاتِ وَتَأْلِيفِهَا فَيَخْتَارُ الْأَحْسَنَ وَالْأَبْلَغَ مِنْهَا، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ هَذَا فِي قُدْرَةِ
الْبَشَرِ - كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ - فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَنْ جَاءَ بِهِ مُؤَيَّدًا بِعِنَايَةٍ مِنَ اللهِ - تَعَالَى - عَلَى أَنَّنَا لَا نُسَلِّمُ بِمَا قَالُوهُ عَلَى إِطْلَاقِهِ، فَإِنَّهُ لَا يَتَّجِهُ إِلَّا فِي أَلْفَاظٍ مُعَيَّنَةٍ كَأَلْفَاظِ آيَةِ (وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ) . . . إِلَخْ، وَإِذَا نَظَرْنَا إِلَى الْمَعَانِي لَا سِيَّمَا الْكُلِّيَّةِ تَرَاهَا تَتَجَلَّى فِي صُوَرٍ كَثِيرَةٍ مِنَ النَّظْمِ الَّذِي تَخْتَلِفُ أَلْفَاظُهُ، وَأَمَامُنَا الْآنَ مَعْنَى الْآيَةِ الَّتِي نُفَسِّرُهَا، وَهُوَ أَنَّ اللهَ أَخَذَ الْعَهْدَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِأَنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا،، وَأَنْ يَعْمَلُوا بِشَرِيعَتِهِ وَوَصَايَاهُ، وَكَانَ أَخْذُ هَذَا الْعَهْدِ فِي مَوْقِفِ رَهْبَةٍ وَخُشُوعٍ يُعِينُ عَلَى أَخْذِهِ بِالْجِدِّ وَالْعَزِيمَةِ، إِذْ كَانَ الْجَبَلُ مَرْفُوعًا فَوْقَهُمْ بِصِفَةٍ لَمْ يَعْهَدُوهَا حَتَّى ظَنُّوا أَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَقَعَ بِهِمْ، وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يَلْبَثُوا أَنْ نَقَضُوا هَذَا الْمِيثَاقَ وَتَرَكُوا الْعَمَلَ بِهِ، وَعَبَدُوا الْعِجْلَ الَّذِي صَاغُوهُ مِنْ حُلِيِّهِمْ بِأَيْدِيهِمْ عَنْ حُبٍّ مُتَمَكِّنٍ مِنَ النَّفْسِ وَغَالِبٍ عَلَى الْعَقْلِ وَالْحِسِّ، وَقَدْ ذَكَرَ اللهُ - تَعَالَى - هَذَا الْمَعْنَى فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ غَيْرَ مَرَّةٍ وَلَكِنْ بِعِبَارَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ كَالْآيَةِ الَّتِي تَقَدَّمَتْ، وَذَكَرَ هُنَاكَ أَنَّهُمْ تَوَلَّوْا عَنِ الْمِيثَاقِ بَعْدَ الْأَمْرِ بِحِفْظِهِ وَالْعَمَلِ بِهِ رَجَاءَ التَّقْوَى، وَكَآيَةِ الْأَعْرَافِ (وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ) (7: 171) وَتَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهَا هُنَاكَ، وَكِلَاهُمَا غَايَةٌ فِي الْبَلَاغَةِ.
وَذَكَرَهُ هُنَا بِنَظْمٍ آخَرَ تَنْتَهِي إِلَيْهِ الْبَلَاغَةُ فِي سِيَاقٍ آخَرَ فَقَالَ: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا)، ثُمَّ الْتَفَتَ عَنْ خِطَابِ الْحَاضِرِينَ إِلَى الْحِكَايَةِ عَنِ الْغَابِرِينَ فَقَالَ:(قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا) أَيْ أَنَّهُمْ قَبِلُوا الْمِيثَاقَ وَفَهِمُوهُ، وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يَعْمَلُوا بِهِ بَلْ خَالَفُوهُ تَعَنُّتًا وَتَأَوُّلًا وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُمْ نَطَقُوا بِهَاتَيْنِ الْكَلِمَتَيْنِ (سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا) بَلِ الْمُرَادُ أَنَّهُمْ بِمَثَابَةِ مَنْ قَالَ ذَلِكَ، وَمِثْلُ هَذَا التَّجَوُّزِ مَعْرُوفٌ فِي عَهْدِ الْعَرَبِ وَفِي هَذَا الْعَهْدِ، يُعَبِّرُونَ عَنْ حَالِ الْإِنْسَانِ وَغَيْرِهِ بِقَوْلٍ يَحْكِيهِ عَنْ نَفْسِهِ حَتَّى حُكِيَ مِثْلُ ذَلِكَ عَنِ الْحَيَوَانَاتِ وَالطُّيُورِ وَعَنِ الْجَمَادَاتِ أَيْضًا، وَهُوَ أُسْلُوبٌ أَظُنُّ أَنَّهُ يُوجَدُ فِي كُلِّ لُغَةٍ أَوْ فِي اللُّغَاتِ الرَّاقِيَةِ فَقَطْ.
ثُمَّ ذَكَرَ أَقْبَحَ أَمْثِلَةِ هَذَا الْعِصْيَانِ بِعِبَارَةٍ مُدْهِشَةٍ فِي بَلَاغَتِهَا فَقَالَ: (وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ)، هَذِهِ الِاسْتِعَارَةُ مِنْ فَرَائِدِ الِاسْتِعَارَاتِ يُتَمَثَّلُ بِهَا عِنْدَ ذِكْرِ بَلَاغَةِ الْقُرْآنِ. وَإِشْرَابُ الشَّيْءِ الشَّيْءَ: مُخَالَطَتُهُ إِيَّاهُ وَامْتِزَاجُهُ بِهِ
، يُقَالُ: بَيَاضٌ مُشَرَّبٌ بِحُمْرَةٍ، أَوْ هُوَ مِنَ الشُّرْبِ كَأَنَّ الشَّيْءَ الْمَحْبُوبَ شَرَابٌ يُسَاغُ، فَهُوَ يَسْرِي فِي قَلْبِ الْمُحِبِّ وَيُمَازِجُهُ كَمَا يَسْرِي الشَّرَابُ الْعَذْبُ الْبَارِدُ فِي لَهَاتِهِ. وَقَدْ قَدَّرَ الْأَكْثَرُونَ هُنَا مُضَافًا مَحْذُوفًا، فَقَالُوا: الْمُرَادُ " حُبُّ الْعِجْلِ "
وَذَهَبَ بَعْضُ الْجَامِدِينَ عَلَى الظَّوَاهِرِ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالشُّرْبِ هُنَا حَقِيقَتُهُ، وَزَعَمُوا أَنَّ مُوسَى لَمَّا سَحَقَ الْعِجْلَ وَذَرَّاهُ فِي الْيَمِّ طَفِقُوا يَشْرَبُونَ الْمَسْحُوقَ مَعَ الْمَاءِ، وَغَفَلَ صَاحِبُ هَذَا الزَّعْمِ عَنْ قَوْلِهِ - تَعَالَى -:(فِي قُلُوبِهِمْ) ، وَالشَّرَابُ الْحَقِيقِيُّ لَا يَكُونُ فِي الْقَلْبِ، وَالشُّرْبُ غَيْرُ الْإِشْرَابِ.
وَلِبَعْضِ الْمُفَسِّرِينَ مَزَاعِمُ وَقِصَصٌ فِي الْعِجْلِ لَا يَدُلُّ عَلَيْهَا وَحْيٌ مُنَزَّلٌ وَلَا تَارِيخٌ صَحِيحٌ يُنْقَلُ، وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ (بِكُفْرِهِمْ) لِلسَّبَبِيَّةِ أَيْ: سَبَبُ هَذَا الْحُبِّ الشَّدِيدِ لِعِبَادَةِ الْعِجْلِ هُوَ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الْوَثَنِيَّةِ فِي مِصْرَ، فَقَدْ رَسَخَ الْكُفْرُ فِي قُلُوبِهِمْ بِطُولِ الزَّمَنِ، وَوَرِثَهُ الْأَبْنَاءُ عَنِ الْآبَاءِ.
وَأَمَّا السِّيَاقُ الَّذِي وَرَدَتْ فِيهِ هَذِهِ الْآيَةُ بِهَذَا النَّظْمِ وَالْأُسْلُوبِ الْمُخَالِفَيْنِ لِأُسْلُوبِ تِلْكَ الْآيَةِ مَعَ الْاتِّحَادِ فِي الْمَعْنَى، فَهُوَ إِقَامَةُ الْحُجَّةِ عَلَى الْيَهُودِ الَّذِينَ لَمْ يُؤْمِنُوا بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وآله وسلم وَرَدُّ زَعْمِهِمْ أَنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ بِشَرِيعَةٍ لَا يُطَالِبُهُمُ اللهُ بِالْإِيْمَانِ بِغَيْرِهَا كَمَا قُلْنَا فِي الَّتِي قَبْلَهَا؛ وَلِذَلِكَ خَتَمَ الْآيَةَ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى - مُخَاطِبًا لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:(قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) أَيْ إِنْ صَحَّ زَعْمُكُمْ أَنَّكُمْ مُؤْمِنُونَ بِشَرِيعَةٍ - وَالْإِيْمَانُ الْحَقِيقِيُّ يَقْتَضِي الْعَمَلَ بِمَا لَهُ مِنَ السُّلْطَانِ عَلَى الْإِرَادَةِ - فَبِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ ذَلِكَ الْإِيْمَانُ مِنَ الْأَعْمَالِ الَّتِي مِنْهَا عِبَادَةُ الْعِجْلِ، وَقَتْلُ الْأَنْبِيَاءِ، وَنَقْضُ الْمِيثَاقِ. لَكِنَّ هَذَا الزَّعْمَ مَشْكُوكٌ فِيهِ، بَلْ يَصِحُّ الْقَطْعُ بِعَدَمِهِ بِدَلِيلِ الْأَعْمَالِ الَّتِي يَسْتَحِيلُ أَنْ تَكُونَ أَثَرًا لَهُ. وَلَا يَنْسَى الْقَارِئُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ رَبْطِ الْإِيْمَانِ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ - تَعَالَى -:(بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ)(2: 81) الْآيَةَ.
هَذِهِ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ بِطَبِيعَةِ الْإِيْمَانِ وَأَثَرِهِ فِي عَمَلِ الْمُؤْمِنِ. وَتَلِيهَا حُجَّةٌ أُخْرَى تَتَعَلَّقُ بِفَائِدَةِ الْإِيْمَانِ وَمَثُوبَتِهِ فِي الْحَيَاةِ الْأُخْرَى، وَهِيَ قَوْلُهُ عز وجل:(قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) . الْمُرَادُ مِنَ الدَّارِ الْآخِرَةِ ثَوَابُهَا وَنَعِيمُهَا؛ لِأَنَّ حَالَ الْإِنْسَانِ فِيهَا لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ؛ الْمَثُوبَةِ بِالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ، أَوِ الْعُقُوبَةِ بِالْعَذَابِ الْأَلِيمِ، وَاسْتَغْنَى
عَنِ التَّصْرِيحِ بِالنَّعِيمِ أَوِ الثَّوَابِ بِقَوْلِهِ (لَكُمْ) فَإِنَّهُ يُشْعِرُ بِالْمَحْذُوفِ، وَإِنَّمَا أَوْجَزَ هُنَا فِي خِطَابِ الْيَهُودِ؛ لِأَنَّهُ يَحْكِي عَنْ شَيْءٍ يَعْرِفُونَهُ فِي أَنْفُسِهِمْ، وَقَدْ أَوْضَحَ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ:(خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ) وَالْخَالِصَةُ: هِيَ السَّالِمَةُ مِنَ الشَّوَائِبِ.
(قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ) : فَسَّرَ مُفَسِّرُنَا (الْجَلَالُ) الْخَالِصَةَ بِالْخَاصَّةِ. وَقَالُوا: إِنَّهُ اسْتِعْمَالٌ لَمْ يُعْهَدْ فِي الْكَلَامِ الْفَصِيحِ، وَالتَّخْصِيصُ مَفْهُومٌ مِنْ قَوْلِهِ:(مِنْ دُونِ النَّاسِ) يَقُولُ: إِنْ صَحَّتْ دَعْوَاكُمْ وَصَدَقَ قَوْلُكُمْ إِنَّهُ لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا، وَأَنَّكُمْ شَعْبُ اللهِ الْمُخْتَارُ؛ فَلَنْ تَمَسَّكُمُ النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ لَا تَزِيدُ عَلَى أَيَّامِ عِبَادَةِ الْعِجْلِ وَلَا تَتَجَاوَزُ عَابِدِيهِ، فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ الَّذِي يُوصِلُكُمْ إِلَى ذَلِكَ النَّعِيمِ الْخَالِصِ الدَّائِمِ، لَا مُنَازِعَ لَكُمْ فِيهِ وَلَا مُزَاحِمَ، وَإِنْ لَمْ تَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ فَمَا أَنْتُمْ بِصَادِقِينَ؛ إِذْ لَا يُعْقَلُ أَنْ يَرْغَبَ الْإِنْسَانُ عَنِ السَّعَادَةِ وَيَخْتَارَ الشَّقَاءَ عَلَيْهَا.
: وَالتَّمَنِّي هُوَ ارْتِيَاحُ النَّفْسِ وَتَشَوُّفُهَا إِلَى الشَّيْءِ تَوَدُّهُ وَتُحِبُّ الْمَصِيرَ إِلَيْهِ.
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ تَفْسِيرُ التَّمَنِّي بِالسُّؤَالِ وَالطَّلَبِ، وَهُوَ غَيْرُ مَعْرُوفٍ عَنْ غَيْرِهِ مِنَ الْعَرَبِ. وَلَعَلَّهُ فَسَّرَهُ بِاللَّازِمِ؛ فَإِنَّ مَنْ تَمَنَّى شَيْئًا طَلَبَهُ بِالْقَوْلِ أَوِ الْفِعْلِ أَوْ بِهِمَا. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ كَثِيرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ - عَلَيْهِمْ رِضْوَانُ اللهِ - تَمَنِّي الْمَوْتِ عِنْدَ الْقِتَالِ وَبَعْدَ الْقِتَالِ، يُعَبِّرُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ عَمَّا فِي نُفُوسِهِمْ، وَمَا هُوَ إِلَّا صِدْقُ الْإِيْمَانِ بِمَا أَعَدَّ اللهُ للْمُؤْمِنِينَ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ.
أَقُولُ: تَفْسِيرُ التَّمَنِّي بِلَازِمِهِ الْقَوْلِيِّ كَمَا نُقِلَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَوِ الْعَمَلِيِّ كَالتَّعَرُّضِ لِلْقَتْلِ فِي سَبِيلِ الْإِيْمَانِ كَمَا نُقِلَ عَنْ غَيْرِهِ يَدْفَعُ إِيرَادَ مَنْ يَقُولُ: إِذَا كَانَ الْمُرَادُ بِالتَّمَنِّي تَمَنِّيَ النَّفْسِ فَلَا يَظْهَرُ صِدْقُ قَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي الْآيَةِ الَّتِي بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ: (وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ) وَقَدْ ظَهَرَ صِدْقُهَا عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ، فَلَمْ يَتَمَنَّ أَحَدٌ مِنَ الْمُخَاطَبِينَ الْمَوْتَ، وَقَدْ وَرَدَ أَنَّهُمْ لَوْ تَمَنَّوُا الْمَوْتَ لَمَاتُوا - رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
وَمَا قَالَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي تَفْسِيرِ التَّمَنِّي بِحَقِيقَتِهِ يَدْفَعُ كُلَّ إِيرَادٍ؛ فَقَدْ قَالَ: إِنَّ الْكَلَامَ حُجَّةٌ عَلَى مُدَّعِي الْإِيْمَانِ، وَاسْتِحْقَاقَ مَا أَعَدَّهُ اللهُ لِأَهْلِهِ فِي الْآخِرَةِ تُقْنِعُهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ بِأَنَّهُمْ إِمَّا صَادِقُونَ فِي دَعْوَاهُمْ، وَذَلِكَ إِذَا كَانُوا يَتَمَنَّوْنَ فِي أَنْفُسِهِمُ الْمَوْتَ وَالْوُصُولَ إِلَى الدَّارِ الْآخِرَةِ، وَيَبْذُلُونَ أَرْوَاحَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ بِارْتِيَاحٍ إِذَا كَانَ حِفْظُ الْحَقِّ يَقْتَضِي بَذْلَهَا، وَإِمَّا كَاذِبُونَ فِيهَا، وَذَلِكَ إِذَا كَانُوا شَدِيدِي الْحِرْصِ عَلَى هَذِهِ الْحَيَاةِ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ الْحُجَّةَ
الْإِلْزَامِيَّةَ أَمَامَ النَّاسِ؛ وَلِذَلِكَ كَانَتِ الْعِبْرَةُ فِي الْآيَةِ عَامَّةً، فَهِيَ وَارِدَةٌ فِي سِيَاقِ الْاحْتِجَاجِ عَلَى الْيَهُودِ، وَيَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَتَّخِذُوهَا مِيزَانًا يَزِنُونَ بِهِ دَعْوَاهُمُ، الْيَقِينَ فِي الْإِيْمَانِ وَالْقِيَامَ بِحُقُوقِهِ؛ لِأَنَّ اللهَ أَنْزَلَهَا لِذَلِكَ.
لَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: (وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا) أَنَّهُمْ لَمْ يَقُولُوا: يَا لَيْتَنَا نَمُوتُ، أَوْ كَلِمَةً هَذَا مَعْنَاهَا لَكَانَ الْاحْتِجَاجُ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا هُوَ بِالتَّعْجِيزِ عَنْ لَفْظٍ يُحَرِّكُونَ بِهِ أَلْسِنَتَهُمْ، وَلَكَانَ ذَلِكَ مِنَ الْخَوَارِقِ الْكَوْنِيَّةِ، وَلَمَا صَحَّ تَعْلِيلُ نَفِيِ التَّمَنِّي بِقَوْلِهِ:(بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) فَإِنَّ هَذَا التَّعْلِيلَ صَرِيحٌ بِأَنَّ الْمَانِعَ لَهُمْ مِنْ تَمَنِّي الْمَوْتِ هُمْ أَنَّهُمْ يَعْرِفُونَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ عَاصُونَ مُقْتَرِفُونَ لِلذُّنُوبِ الَّتِي يَسْتَحِقُّونَ عَلَيْهَا الْعُقُوبَةَ، لَا أَنَّ أَلْسِنَتَهُمْ عَاجِزَةٌ عَنِ النُّطْقِ بِكَلِمَةٍ تَدُلُّ عَلَى تَمَنِّي، وَإِنْ كَذِبًا - وَكَثِيرًا مَا كَانُوا يَكْذِبُونَ - وَقَدْ أَسْنَدَ الْفِعْلَ إِلَى الْأَيْدِي؛ لِأَنَّ أَكْثَرَ الْأَعْمَالِ تُزَاوَلُ بِهَا؛ وَلِذَلِكَ جَرَى عُرْفُ اللُّغَةِ عَلَى جَعْلِهَا كِنَايَةً عَنِ الشَّخْصِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ عَامِلٌ مُطْلَقًا، وَقَدْ خَتَمَ الْآيَةَ بِقَوْلِهِ:(وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) لِيُبَيِّنَ أَنَّهُمْ ظَالِمُونَ فِي حُكْمِهِمْ بِأَنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ خَالِصَةٌ لَهُمْ، وَأَنَّ غَيْرَهُمْ مِنَ الشُّعُوبِ مَحْرُومٌ مِنْهَا، وَأَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ مِثْلَهُمْ مِفْتَانًا عَلَى اللهِ - تَعَالَى - فَهُوَ ظَالِمٌ مِثْلَهُمْ.
ثُمَّ بَيَّنَ حَقِيقَةَ حَالِهِمْ فِي الْإِخْلَادِ إِلَى الْأَرْضِ وَالْفَنَاءِ فِي حُبِّ الْبَقَاءِ، وَأَنَّهُمْ لَيْسُوا عَلَى بَيِّنَةٍ مِمَّا يَدَّعُونَ، وَلَا ثِقَةَ لَهُمْ بِأَنْفُسِهِمْ فِيمَا يَزْعُمُونَ، فَقَالَ:(وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ) كَذَلِكَ كَانُوا وَكَذَلِكَ هُمُ الْآنَ. وَالظَّاهِرُ مِنْ سِيرَتِهِمْ وَنِظَامِ مَعِيشَتِهِمْ أَنَّهُمْ كَذَلِكَ يَكُونُونَ إِلَى مَا شَاءَ اللهُ، وَإِنْ كَانَ الظَّاهِرُ أَنَّ الْكَلَامَ خَاصٌّ بِمَنْ كَانُوا فِي عَصْرِ التَّنْزِيلِ، يُحَاجُّهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَيُشَاغِبُونَهُ وَيُجَاحِدُونَهُ، مُعْتَزِّينَ بِشَعْبِهِمْ مُغْتَرِّينَ بِكِتَابِهِمْ، بَلْ ذَهَبَ
بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ عُلَمَاؤُهُمْ فَقَطْ. وَنَكَّرَ الْحَيَاةَ لِلتَّحْقِيرِ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: إِنَّهُمْ شَدِيدُو الْحِرْصِ عَلَى الْحَيَاةِ وَإِنْ كَانَتْ فِي بُؤْسٍ وَشَقَاءٍ. ثُمَّ خَصَّ طَائِفَةً مِنَ النَّاسِ بِالذِّكْرِ، عُرِفُوا بِشِدَّةِ الْحِرْصِ عَلَى الْحَيَاةِ وَتَمَنِّي طُولِ الْبَقَاءِ فِي الدُّنْيَا؛ لِأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِحَيَاةٍ بَعْدَهَا، فَقَالَ:(وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا) أَيْ أَنَّهُمْ أَحْرَصُ النَّاسِ مِنْ جَمِيعِ النَّاسِ حَتَّى
مِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا، ثُمَّ بَيَّنَ مِثَالًا مِنْ هَذَا الْحِرْصِ مُسْتَأْنَفًا فَقَالَ:(يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ) أَيْ يَتَمَنَّى لَوْ يُعَمِّرُهُ اللهُ وَيُبْقِيهِ أَلْفَ سَنَةٍ، أَوْ أَكْثَرَ، فَإِنَّ لَفْظَ الْأَلْفِ عِنْدَ الْعَرَبِ مُنْتَهَى أَسْمَاءِ الْعَدَدِ، فَيُعَبَّرُ بِهِ عَنِ الْمُبَالَغَةِ فِي الْكَثْرَةِ؛ لِأَنَّهُ يَعْرِفُ مِنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِكِتَابِهِ، وَيَتَوَقَّعُ سَخْطَ اللهِ وَعِقَابَهُ فَيَرَى أَنَّ الدُّنْيَا عَلَى مَا فِيهَا مِنَ الْمُنَغِّصَاتِ خَيْرٌ لَهُ مِنَ الْآخِرَةِ وَمَا يَتَوَقَّعُهُ فِيهَا. قَالَ - تَعَالَى -:(وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ) أَيْ وَمَا تَعْمِيرُهُ الطَّوِيلُ بِمُزَحْزِحِهِ، أَيْ مُنَحِّيهِ وَمُبْعدُهُ عَنِ الْعَذَابِ الْمُعَدِّ لَهُ وَلِأَمْثَالِهِ، فَإِنَّهُ مَيِّتٌ مَهْمَا طَالَ عُمُرُهُ، وَكُلُّ مَالَهُ حَدٌّ فَهُوَ مُنْتَهٍ إِلَيْهِ (وَاللهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ) لَا تَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ مِنْ أَمْرِهِمْ، وَلَوْ عَرَفُوهُ حَقَّ مَعْرِفَتِهِ لَعَلِمُوا أَنَّ طُولَ الْعُمُرِ لَا يُخْرِجُهُمْ مِنْ قَبْضَتِهِ وَلَا يُنْجِيهِمْ مِنْ عُقُوبَتِهِ؛ فَإِنَّ الْمَرْجِعَ إِلَيْهِ، وَالْأَمْرَ كُلَّهُ بِيَدَيْهِ.
وَمِنْ مَبَاحِثِ اللَّفْظِ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: (وَمَا هُوَ) مُبْهَمٌ يُفَسِّرُهُ مَا بَعْدَهُ كَمَا اخْتَارَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ " مَا " حِجَازِيَّةٌ وَالضَّمِيرَ الْعَائِدَ عَلَى (أَحَدُهُمْ) اسْمُهَا، وَ (بِمُزَحْزِحِهِ) خَبَرُهَا، وَالْبَاءَ زَائِدَةٌ فِي الْإِعْرَابِ، وَ (أَنْ يُعَمَّرَ) فَاعِلُ مُزَحْزِحِهِ.
(قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ)
الْكَلَامُ مُتَّصِلٌ بِمَا قَبْلَهُ مِنْ ذِكْرِ تَعِلَّاتِ الْيَهُودِ وَاعْتِذَارِهِمْ عَنْ عَدَمِ الْإِيْمَانِ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَبِمَا جَاءَ بِهِ مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى، زَعَمُوا أَنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ بِكِتَابٍ وَلَا حَاجَةَ لَهُمْ بِهِدَايَةٍ فِي غَيْرِهِ، فَاحْتَجَّ عَلَيْهِمْ بِمَا يَنْقُضُ دَعْوَاهُمْ، وَزَعَمُوا أَنَّهُمْ نَاجُونَ فِي الْآخِرَةِ عَلَى كُلِّ حَالٍ؛ لِأَنَّهُمْ شَعْبُ اللهِ وَأَبْنَاؤُهُ، فَأَبْطَلَ زَعْمَهُمْ، ثُمَّ
ذَكَرَ لَهُمْ تَعِلَّةً أُخْرَى أَغْرَبَ مِمَّا سَبَقَهَا، وَفَنَّدَهَا
كَمَا فَنَّدَ مَا قَبْلَهَا، وَهِيَ أَنَّ جِبْرِيلَ الَّذِي يَنْزِلُ بِالْوَحْيِ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وآله وسلم عَدُوُّهُمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ بِوَحْيٍ يَجِيءُ هُوَ بِهِ. وَقَدْ جَاءَ فِي أَسْبَابِ النُّزُولِ رِوَايَاتٌ عَنْهُمْ فِي ذَلِكَ.
مِنْهَا: أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ صُورِيَّا مِنْ عُلَمَائِهِمْ سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْمَلَكِ الَّذِي يَنْزِلُ عَلَيْهِ بِالْوَحْيِ فَقَالَ: هُوَ جِبْرِيلُ، فَزَعَمَ أَنَّهُ عَدُوُّ الْيَهُودِ، وَذَكَرَ مِنْ عَدَاوَتِهِ أَنَّهُ أَنْذَرَهُمْ خَرَابَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَكَانَ، وَمِنْهَا: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه دَخَلَ مِدْرَاسَهَمْ، فَذَكَرَ جِبْرِيلَ، فَقَالُوا: ذَاكَ عَدُوُّنَا، يُطْلِعُ مُحَمَّدًا عَلَى أَسْرَارِنَا، وَأَنَّهُ صَاحِبُ كُلِّ خَسْفٍ وَعَذَابٍ، وَمِيكَائِيلُ صَاحِبُ الْخِصْبِ وَالسَّلْمِ. . . إِلَخْ، وَهَذَا الْقَوْلُ هُرَاءٌ، وَخَطَلُهُ بَيِّنٌ، وَإِنَّمَا عُنِيَ الْقُرْآنُ بِذِكْرِهِ وَرَدِّهِ؛ لِأَنَّهُ مُؤْذِنٌ بِتَعَنُّتِهِمْ وَعِنَادِهِمْ، وَشَاهِدٌ عَلَى فَسَادِ تَصَوُّرِهِمْ وَعَدَمِ تَدَبُّرِهِمْ؛ لِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَانُوا يَنْتَظِرُونَ مَا يَقُولُ أَهْلُ الْكِتَابِ فِيهِ أَنَّهُ لَا قِيمَةَ لِأَقْوَالِهِمْ وَلَا اعْتِدَادَ بِمِرَائِهِمْ وَجِدَالِهِمْ.
قَالَ - تَعَالَى -: (قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللهِ) أَيْ قُلْ لَهُمْ أَيُّهَا الرَّسُولُ حِكَايَةً عَنِ اللهِ - تَعَالَى -: مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ، فَإِنَّ شَأْنَ جِبْرِيلَ كَذَا؛ فَهُوَ إذًا عَدُوٌّ لِوَحْيِ اللهِ الَّذِي يَشْمَلُ التَّوْرَاةَ وَغَيْرَهَا وَلِهِدَايَةِ اللهِ - تَعَالَى - لِخَلْقِهِ وَبُشْرَاهُ لِلْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا يَأْتِي فِي بَيَانِ ذَلِكَ. قَالَ شَيْخُنَا فِي تَقْيِيدِ تَنْزِيلِهِ (بِإِذْنِ اللهِ) : وَإِذَا كَانَ يُنَاجِي رُوحَكَ وَيُخَاطِبُ قَلْبَكَ بِإِذْنِ اللهِ لَا افْتِيَاتًا مِنْ نَفْسِهِ، فَعَدَاوَتُهُ لَا يَصِحُّ أَنْ تَصُدَّ عَنِ الْإِيْمَانِ بِكَ، وَلَيْسَ لِلْعَاقِلِ أَنْ يَتَّخِذَهَا تَعِلَّةً وَيَنْتَحِلَهَا عُذْرًا، فَإِنَّ الْقُرْآنَ مِنْ عِنْدِ اللهِ لَا مِنْ عِنْدِهِ. فَقَوْلُهُ:(بِإِذْنِ اللهِ) حُجَّةٌ أُولَى عَلَيْهِمْ، ثُمَّ قَالَ:(مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ) أَيْ: حَالَ كَوْنِهِ مُوَافِقًا لِلْكُتُبِ الَّتِي تَقَدَّمَتْهُ فِي الْأُصُولِ الَّتِي تَدْعُو إِلَيْهَا مِنَ التَّوْحِيدِ وَاتِّبَاعِ الْحَقِّ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَمُطَابِقًا لِمَا فِيهَا مِنَ الْبِشَارَاتِ بِالنَّبِيِّ الَّذِي يَجِيءُ مِنْ أَبْنَاءِ إِسْمَاعِيلَ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: فَآمِنُوا بِهِ لِهَذِهِ الْمُطَابَقَةِ وَالْمُوَافَقَةِ، لَا لِأَنَّ جِبْرِيلَ وَاسِطَةٌ فِي تَبْلِيغِهِ وَتَنْزِيلِهِ، وَهَذِهِ حُجَّةٌ ثَانِيَةٌ، ثُمَّ عَزَّزَهَا بِثَالِثَةٍ وَهِيَ قَوْلُهُ:(وَهُدًى) أَيْ: نَزَّلَهُ هَادِيًا مِنَ الضَّلَالَاتِ وَالْبِدَعِ الَّتِي طَرَأَتْ عَلَى الْأَدْيَانِ، فَأَلْقَتْ أَهْلَهَا فِي حَضِيضِ الْهَوَانِ، وَالْعَاقِلُ لَا يَرْفُضُ الْهِدَايَةَ الَّتِي تَأْتِيهِ وَتُنْقِذُهُ مِنْ ضَلَالٍ هُوَ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْوَاسِطَةَ فِي مَجِيئِهَا كَانَ عَدُوًّا لَهُ مِنْ
قَبْلُ، فَإِنَّ هَذَا الرَّفْضَ مِنْ عَمَلِ الْغَبِيِّ الْجَاهِلِ الَّذِي لَا يَعْرِفُ الْخَيْرَ بِذَاتِهِ وَإِنَّمَا يَعْرِفُهُ بِمَنْ كَانَ سَبَبًا فِي حُصُولِهِ. ثُمَّ أَيَّدَ الْحُجَجَ الثَّلَاثَ بِرَابِعَةٍ، فَقَالَ:(وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ) أَيْ: إِذَا كُنْتُمْ تُعَادُونَ جِبْرِيلَ لِأَنَّهُ أَنْذَرَ بِخَرَابِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَهُوَ إِنَّمَا أَنْذَرَ الْمُفْسِدِينَ، وَقَدْ أُنْزِلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَيَّ بُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ، فَمَا لَكُمَ أَنْ تَتْرُكُوا هَذِهِ الْبُشْرَى إِنْ كُنْتُمْ مِنْ أَهْلِ الْإِيْمَانِ، لِأَنَّ الَّذِي نَزَلَ بِهَا قَدْ نَزَلَ بِإِنْذَارِ أَهْلِ الْفَسَادِ وَالطُّغْيَانِ.
وَمِنْ مَبَاحِثِ اللَّفْظِ فِي الْآيَةِ: أَنَّ جِبْرِيلَ اسْمٌ أَعْجَمِيٌّ مُرَكَّبٌ مِنْ " جِبْرَ " وَمَعْنَاهُ بِالْعِبْرَانِيَّةِ أَوِ السِّرْيَانِيَّةِ: الْقُوَّةُ، وَمِنْ " إِيلَ "، وَمَعْنَاهُ: الْإِلَهُ، أَيْ قُوَّةُ اللهِ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ عَبْدُ اللهِ. وَفِيهِ 13 لُغَةً مِنْهَا ثَمَانِ لُغَاتٍ قُرِئَ بِهِنَّ، أَرْبَعٌ فِي الْمَشْهُورَاتِ: جَبْرَئِيلُ كَسَلْسَبِيلٍ، قَرَأَ بِهَا حَمْزَةُ
وَالْكِسَائِيُّ، وَجِبْرَيِلُ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَحَذْفِ الْهَمْزَةِ قَرَأَ بِهَا ابْنُ كَثِيرٍ وَالْحَسَنُ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ، وَجَبْرَئِلُ كَجَحْمَرِشٍ قَرَأَ بِهَا عَاصِمٌ بِرِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ، وَجِبْرِيلُ كَقِنْدِيلٍ قَرَأَ بِهَا الْبَاقُونَ. وَأَرْبَعٌ فِي الشَّوَاذِّ: جَبْرَإِلُ، وَجَبْرَائِيلُ، وَجَبْرِئْلُ، وَجَبْرِينُ.
وَمِنْهَا أَنَّ قَوْلَهُ: (نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ) وَرَدَ عَلَى طَرِيقِ الْالْتِفَاتِ عَنِ التَّكَلُّمِ إِلَى الْخِطَابِ إِذْ كَانَ مُقْتَضَى السِّيَاقِ أَنْ يَقُولَ: (نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِي) وَقَدْ قَالُوا فِي نُكْتَتِهِ: إِنَّهَا حِكَايَةُ مَا خَاطَبَهُ اللهُ - تَعَالَى - بِهِ. وَلَا أَرَى صَاحِبَ الذَّوْقِ السَّلِيمِ إِلَّا مُسْتَنْكِرًا صِيغَةَ التَّكَلُّمِ فِي هَذَا الْمُقَامِ، وَالْعِلَّةُ فِي ذَلِكَ لَا تَبْعُدُ عَنِ الْأَفْهَامِ، وَمِنْهَا أَنَّ الضَّمِيرَ الْمَنْصُوبَ الْبَارِزَ فِي (نَزَّلَهُ) لِلْقُرْآنِ وَهُوَ لَمْ يُذْكَرْ فِيمَا قَبْلَهَا، وَإِنَّمَا عَيَّنَتْهُ قَرِينَةُ الْحَالِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى فَخَامَةِ شَأْنِهِ، كَأَنَّهُ لِشُهْرَتِهِ قَدِ اسْتَغْنَى عَنْ ذِكْرِهِ (قَالَهُ الْبَيْضَاوِيُّ) .
أَقَامَ الْحُجَجَ عَلَى حَمَاقَتِهِمْ وَسُخْفِهِمْ فِي دَعْوَى عَدَاوَةِ جِبْرِيلَ، وَبَيَانِ أَنَّهَا لَا يَصِحُّ أَنْ تَكُونَ مَانِعَةً مِنَ الْإِيْمَانِ بِكِتَابٍ أَنْزَلَهُ اللهُ بِتِلْكَ الصِّفَاتِ الَّتِي طُوِيَتْ فِيهَا الْحُجَجُ، ثُمَّ بَيَّنَ فِي آيَةٍ أُخْرَى حَقِيقَةَ حَالِهِمْ فِي هَذِهِ الْعَدَاوَةِ فَقَالَ:(مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ) بِكُفْرِهِ بِمَا يُنْزِلُهُ مِنَ الْهِدَايَةِ (وَمَلَائِكَتِهِ) بِرَفْضِ الْحَقِّ وَالْخَيْرِ الَّذِي فُطِرُوا عَلَيْهِ، وَكَرَاهَةِ الْقِيَامِ بِمَا يَعْهَدُ بِهِ إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ عز وجل؛ لِأَنَّهُمْ (لَا يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) (66: 6) ، (وَرُسُلِهِ) بِتَكْذِيبِ بَعْضٍ وَقَتْلِ بَعْضٍ (وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ) بِأَنَّ الْأَوَّلَ يَنْزِلُ بِالْآيَاتِ وَالنُّذُرِ، وَمَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَهُوَ عَدُوٌّ لِمِيكَالَ؛ لِأَنَّ
فِطْرَتَهُمَا وَاحِدَةٌ، وَحَقِيقَتَهُمَا وَاحِدَةٌ، مَنْ مَقَتَهَا وَعَادَاهَا فِي أَحَدِهِمَا فَقَدْ عَادَاهَا فِي الْآخَرِ (فَإِنَّ اللهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ) أَيْ مَنْ عَادَى اللهَ وَعَادَى هَؤُلَاءِ الْمُقَرَّبِينَ مِنَ اللهِ الَّذِينَ جَعَلَهُمْ رَحْمَةً لِخَلْقِهِ فَإِنَّ اللهَ عَدُوٌّ لَهُ؛ لِأَنَّهُ كَافِرٌ بِاللهِ وَمُعَادٍ لَهُ، وَاللهُ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ أَيْ يُعَامِلُهُمْ مُعَامَلَةَ الْأَعْدَاءِ لِلْأَعْدَاءِ، وَهُمُ الظَّالِمُونَ لِأَنْفُسِهِمْ إِذْ دَعَاهُمْ فَلَمْ يَقْبَلُوا أَنْ يَكُونُوا مَعَ الْأَوْلِيَاءِ (وَمِيكَالَ) بِوَزْنِ مِيعَادٍ قِرَاءَةُ أَبِي عَمْرٍو وَيَعْقُوبَ وَعَاصِمٍ بِرِوَايَةِ حَفْصٍ، وَقَرَأَ نَافِعٌ (مِيكَائِلَ)، وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَابْنُ عَامِرٍ (مِيكَائِيلَ) وَفِي الشَّوَاذِّ: مِيكَئِلُ، وَمِيكَئِيلُ؛ وَمِيكَايِيلُ.
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: هَذَا وَعِيدٌ لَهُمْ بَعْدَ بَيَانِ فَسَادِ الْعِلَّةِ الَّتِي جَاءُوا بِهَا، وَهُمْ لَمْ يَدَّعُوا عَدَاوَةَ هَؤُلَاءِ كُلِّهِمْ وَلَكِنَّهُمْ كَذَلِكَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، فَأَرَادَ أَنْ يُبَيِّنَ حَقِيقَةَ حَالِهِمْ فِي الْوَاقِعِ، وَهِيَ أَنَّهُمْ أَعْدَاءُ الْحَقِّ وَأَعْدَاءُ كُلِّ مَنْ يُمَثِّلُهُ وَيَنْقُلُهُ وَيَدْعُو إِلَيْهِ، فَالتَّصْرِيحُ بِعَدَاوَةِ جِبْرِيلَ كَالتَّصْرِيحِ بِعَدَاوَةِ مِيكَالَ الَّذِي يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ يُحِبُّونَهُ، وَأَنَّهُمْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالنَّبِيِّ، لَوْ كَانَ هُوَ الَّذِي يَنْزِلُ بِالْوَحْيِ عَلَيْهِ. وَمُعَادَاةُ الْقُرْآنِ كَمُعَادَاةِ سَائِرِ الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ؛ لِأَنَّ الْغَرَضَ مِنَ الْجَمِيعِ وَاحِدٌ. وَمُعَادَاةُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم كَمُعَادَاةِ سَائِرِ رُسُلِ اللهِ؛ لِأَنَّ وَظِيفَتَهُمْ وَاحِدَةٌ، فَقَوْلُهُمُ السَّابِقُ وَحَالُهُمْ يَدُلَّانِ عَلَى مُعَادَاةِ كُلِّ مَنْ ذَكَرَ، وَهَذَا مِنْ ضُرُوبِ إِيجَازِ الْقُرْآنِ الَّتِي انْفَرَدَ بِهَا.
وَفِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: (لِلْكَافِرِينَ) وَضْعٌ لِلْمُظْهَرِ فِي مَوْضِعِ الْمُضْمَرِ؛ لِبَيَانِ أَنَّ سَبَبَ عَدَاوَتِهِ
-
تَعَالَى - لَهُمْ هُوَ الْكُفْرُ، فَإِنَّ اللهَ لَا يُعَادِي قَوْمًا لِذَوَاتِهِمْ وَلَا لِأَنْسَابِهِمْ، وَإِنَّمَا يَكْرَهُ لَهُمُ الْكُفْرَ وَيُعَاقِبُهُمْ عَلَيْهِ مُعَاقَبَةَ الْعَدُوِّ لِلْعَدُوِّ.
(أَقُولُ) : وَقَدْ تَقَدَّمَ غَيْرَ مَرَّةٍ أَنَّ عَذَابَ اللهِ وَانْتِقَامَهُ مِنَ الْكَفَرَةِ الْفَجَرَةِ لَا يُشْبِهُ انْتِقَامَ مُلُوكِ الدُّنْيَا وَزُعَمَائِهَا، وَإِنَّمَا قَضَتْ سُنَّتُهُ - تَعَالَى - بِأَنْ يَكُونَ لِكُلِّ عَمَلٍ يَعْمَلُهُ الْإِنْسَانُ فِي ظَاهِرِهِ أَوْ فِي نَفْسِهِ وَضَمِيرِهِ أَثَرٌ فِي نَفْسِ الْعَامِلِ يُزَكِّيهَا وَيُدَسِّيهَا، وَسَعَادَةُ الْإِنْسَانِ فِي الْآخِرَةِ أَوْ شَقَاؤُهُ تَابِعٌ لِآثَارِ اعْتِقَادَاتِهِ وَأَعْمَالِهِ فِي نَفْسِهِ. وَلِذَلِكَ قَالَ - تَعَالَى -:(وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ)(43: 76) .
ثُمَّ صَرَّحَ بِأَنَّ الْقُرْآنَ مُنْزَلٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَحْدَهُ، وَأَنَّهُ فِي نَفْسِهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ لَا يَحْتَاجُ إِلَى آيَةٍ أُخْرَى تُبَيِّنُهُ وَتَشْهَدُ لَهُ، فَإِنَّ مَا كَانَ بَيِّنًا فِي نَفْسِهِ أَوْلَى بِالْقَبُولِ مِمَّا
يَحْتَاجُ فِي بَيَانِهِ إِلَى غَيْرِهِ، فَقَالَ:(وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ) وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْوَحْيَ مِنَ اللهِ لِلنَّبِيِّ يُسَمَّى تَنْزِيلًا وَإِنْزَالًا وَنُزُولًا لِبَيَانِ عُلُوِّ مَرْتَبَةِ الرُّبُوبِيَّةِ، لَا أَنَّ هُنَاكَ نُزُولًا حِسِّيًّا مِنْ مَكَانٍ مُرْتَفِعٍ إِلَى مَكَانٍ مُنْخَفِضٍ.
قَالَ هَذَا شَيْخُنَا: وَعُلُوُّ اللهِ - تَعَالَى - عَلَى خَلْقِهِ حَقِيقَةٌ أَثْبَتَهَا لِنَفْسِهِ فِي كِتَابِهِ، لَا حَاجَةَ إِلَى تَأْوِيلِهَا بِعُلُوِّ مَرْتَبَةِ الرُّبُوبِيَّةِ عَلَى مَرْتَبَةِ الْمَخْلُوقِينَ هَرَبًا مِنِ اسْتِلْزَامِهَا الْحَصْرَ وَالتَّحَيُّزَ فِي جِهَةٍ وَاحِدَةٍ، فَإِنَّ التَّنْزِيهَ الْقَطْعِيَّ يُبْطِلُ اللُّزُومَ. وَمَسْأَلَةُ الْجِهَاتِ نِسْبِيَّةٌ لَا حَقِيقِيَّةٌ، وَإِذْ كَانَ الرَّبُّ - تَعَالَى - بَائِنًا مِنْ خَلْقِهِ وَهُوَ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ، فَهُمْ أَيْنَمَا كَانُوا يَتَوَجَّهُونَ إِلَيْهِ إِلَّا أَنَّهُ فَوْقَهُمْ، وَإِذَا كَانَ الْمَلَائِكَةُ (يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ) (16: 50) فَمَاذَا يُقَالُ فِيمَنْ دُونَهُمْ؟ وَتُوَجُّهُ الْبَشَرِ إِلَى رَبِّهِمْ فِي جِهَةِ الْعُلُوِّ وَقِبَلَ السَّمَاءِ فِطْرِيٌّ مَعْرُوفٌ فِي جَمِيعِ أَهْلِ الْمِلَلِ، فَهُوَ فَوْقَ الْخَلْقِ فِي جُمْلَتِهِ وَفَوْقَ الْعِبَادِ أَيْنَمَا كَانُوا مِنْ أَرْضٍ أَوْ سَمَاءٍ، وَهُنَالِكَ مَقَامُ الْإِطْلَاقِ الَّذِي لَا يُقَيَّدُ بِقَيْدٍ وَلَا يُحْصَرُ فِي حَيِّزٍ، وَإِنَّمَا الْحَيِّزُ وَالْحَصْرُ مِنَ الْأُمُورِ النِّسْبِيَّةِ وَالْاعْتِبَارِيَّةِ فِي دَاخِلِ دَائِرَةِ الْخَلْقِ. وَصَحَّ فِي الْحَدِيثِ: أَنَّ الْمَلَائِكَةَ إِذَا سَمِعُوا كَلَامَ اللهِ فِي السَّمَاوَاتِ عَرَاهُمْ مَا عَرَاهُمْ مِمَّا أُشِيرَ إِلَيْهِ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: (حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ)(34: 23) .
وَشَيْخُنَا عَلَى دَعْوَتِهِ إِلَى مَذْهَبِ السَّلَفِ كَانَ لَا يَزَالُ مُتَأَثِّرًا بِمَذْهَبِ الْأَشْعَرِيَّةِ.
وَأَمَّا كَوْنُ آيَاتِ الْقُرْآنِ بَيِّنَاتٍ فَهِيَ أَنَّهَا بِإِعْجَازِهَا الْبَشَرَ وَبِقَرْنِ الْمَسَائِلِ الْاعْتِقَادِيَّةِ فِيهَا بِبَرَاهِينِهَا، وَالْأَحْكَامُ الْأَدَبِيَّةُ وَالْعِلْمِيَّةُ بِوُجُوهِ مَنَافِعِهَا، لَا تَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ آخَرَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا هِدَايَةٌ مِنَ اللهِ - تَعَالَى - وَأَنَّهَا جَدِيرَةٌ بِالْاتِّبَاعِ، بَلْ هِيَ دَلِيلٌ عَلَى نَفْسِهَا عِنْدَ صَاحِبِ الْفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ كَالنُّورِ يُظْهِرُ الْأَشْيَاءَ وَهُوَ ظَاهِرٌ بِنَفْسِهِ لَا يَحْتَاجُ إِلَى شَيْءٍ آخَرَ يُظْهِرُهُ (وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ) الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ نُورِ الْفِطْرَةِ وَانْغَمَسُوا فِي ظُلْمَةِ التَّقْلِيدِ، فَتَرَكُوا طَلَبَ الْحَقِّ بِذَاتِهِ لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّ فِطْرَتَهُمْ نَاقِصَةٌ لَا اسْتِعْدَادَ فِيهَا لِإِدْرَاكِهِ بِذَاتِهِ عَلَى شِدَّةِ ظُهُورِهِ، وَإِنَّمَا يَطْلُبُونَهُ مِنْ كَلَامِ مُقَلِّدِيهِمْ، وَكَذَا الَّذِينَ ظَهَرَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى حَسَدًا لِمَنْ ظَهَرَ الْحَقُّ عَلَى يَدَيْهِ وَعِنَادًا لَهُ.
بَعْدَ هَذَا كُلِّهِ بَيَّنَ اللهُ - تَعَالَى - شَأْنَيْنِ مِنْ شُئُونِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَهُمَا: أَنَّهُ لَا ثِقَةَ بِهِمْ
فِي شَيْءٍ لِمَا عُرِفَ عَنْهُمْ مِنْ نَقْضِ الْعُهُودِ، وَأَنَّهُ لَا رَجَاءَ فِي إِيْمَانِ أَكْثَرِهِمْ؛ لِأَنَّ الضَّلَالَةَ قَدْ مَلَكَتْ عَلَيْهِمْ أَمْرَهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ، فَإِنْ كَانَ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَعْمَالِ وَالْأَقْوَالِ قَدْ صَدَرَ عَنْ بَعْضِهِمْ، وَإِنْ كَانَ نَقْضُ الْعُهُودِ قَدْ وَقَعَ فِي كُلِّ زَمَنٍ مِنْ فَرِيقٍ مِنْهُمْ دُونَ فَرِيقٍ، فَلَا يَتَوَهَّمَنَّ أَحَدٌ أَنَّ أُولَئِكَ هُمُ الْأَقَلُّونَ، كَلَّا بَلْ هُمُ الْأَكْثَرُونَ، وَلِذَلِكَ قَالَ:(أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ) ، هَمْزَةُ الْاسْتِفْهَامِ التَّوْبِيخِيِّ دَاخِلَةٌ عَلَى مَحْذُوفٍ، أَيْ: أَكَفَرُوا بِالْآيَاتِ وَقَالُوا مَا قَالُوا، وَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ؟ النَّبْذُ: طَرْحُ الشَّيْءِ وَإِلْقَاؤُهُ، وَالْمُرَادُ بِالْعُهُودِ هُنَا عُهُودُهُمْ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَلَمَّا كَانَ لَفْظُ (فَرِيقٌ) يُوهِمُ الْعَدَدَ الْقَلِيلَ، وَكَانَ الْوَاقِعُ أَنَّ الَّذِينَ كَانُوا يَرَوْنَ الْوَفَاءَ لَهُ صلى الله عليه وسلم قَلِيلُونَ، وَالنَّاقِضِينَ هُمُ الْأَكْثَرُونَ أَضْرَبَ عَنْهُ وَقَالَ:(بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ) فَهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ لَا إِيْمَانَ لَهُمْ، أَيْ لَا عُهُودَ لَهُمْ. وَفِيهِ مَنْ خَبَرِ الْغَيْبِ أَنَّ أَكْثَرَ الْيَهُودِ لَا يُؤْمِنُونَ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَكَذَلِكَ كَانَ وَصَدَقَ اللهُ الْعَظِيمُ.
(وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ)
قَوْلُهُ - تَعَالَى -: (وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ) تَقَدَّمَ مَعْنَاهُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ 41 وَالْآيَةِ 89 وَقَوْلُهُ: (نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ) بَيَانٌ لِحَالٍ جَدِيدَةٍ مِنْ أَحْوَالِ أَهْلِ الْكِتَابِ يَصِحُّ أَنْ تَكُونَ عِلَّةً لِجَمِيعِ مَا صَدَرَ عَنْهُمْ مِنَ الشَّنَاعَاتِ فِي مُعَادَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَمُجَاحَدَتِهِ، وَهِيَ أَنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ قَدْ نَبَذُوا كِتَابَ اللهِ الَّذِي يُفَاخِرُونَ بِهِ وَيَحْتَجُّونَ بِأَنَّهُمُ اكْتَفَوْا بِالْهِدَايَةِ بِهِ، وَأَنَّهُ لَا حَاجَةَ لَهُمْ بِسِوَاهُ - نَبَذُوهُ أَنْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لَهُ بِحَالِهِ وَصِفَاتِهِ؛ لِأَنَّ الْبِشَارَاتِ الَّتِي فِيهِ بِالنَّبِيِّ الَّذِي يَجِيءُ مِنْ آلِ إِسْمَاعِيلَ لَا تَنْطَبِقُ إِلَّا عَلَى هَذَا الرَّسُولِ، وَمُصَدِّقٌ لَهُ بِمَقَالِهِ بِاعْتِرَافِهِ بِنُبُوَّةِ مُوسَى عليه السلام وَصِدْقِهِ فِيمَا جَاءَ بِهِ مِنَ الْهُدَى وَالشَّرِيعَةِ، وَتَوْبِيخِهِ الْيَهُودَ عَلَى تَحْرِيفِ بَعْضِهَا وَنِسْيَانِ بَعْضٍ وَتَرْكِ الْعَمَلِ بِمَا بَقِيَ لَهُمْ مِنْهَا.
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: لَيْسَ الْمُرَادُ بِنَبْذِ الْكِتَابِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ أَنَّهُمْ طَرَحُوهُ بِرُمَّتِهِ وَتَرَكُوا التَّصْدِيقَ بِهِ فِي جُمْلَتِهِ وَتَفْصِيلِهِ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ أَنَّهُمْ طَرَحُوا جُزْءًا مِنْهُ وَهُوَ مَا يُبَشِّرُ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَيُبَيِّنُ صِفَاتِهِ وَيَأْمُرُهُمْ بِالْإِيْمَانِ بِهِ وَاتِّبَاعِهِ، أَيْ فَهُوَ تَشْبِيهٌ لِتَرْكِهِمْ إِيَّاهُ وَإِنْكَارِهِ بِمَنْ يُلْقِي الشَّيْءَ وَرَاءَ ظَهْرِهِ حَتَّى لَا يَرَاهُ فَيَتَذَكَّرُهُ. وَتَرْكُ الْجُزْءِ مِنْهُ كَتَرْكِهِ كُلِّهِ؛ لِأَنَّ تَرْكَ الْبَعْضِ يَذْهَبُ بِحُرْمَةِ الْوَحْيِ مِنَ النَّفْسِ وَيُجَرِّئُ عَلَى تَرْكِ الْبَاقِي (مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا) (5: 32) (وَقَالَ) : وَلَا فَرْقَ فِي هَذَا الْحُكْمِ بَيْنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، فَكُلٌّ مِنْهُمَا مُبَشَّرٌ بِالنَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام فِي كِتَابِهِ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا قَدْ نَبَذَ الْكِتَابَ فَلَمْ يَعْمَلْ بِهِ. وَلَمْ يَضُرَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم هَذَا الْجُحُودُ مِنَ الْفَرِيقِ الْجَاحِدِ؛ لِأَنَّ دَعْوَتَهُ قَدْ قَبِلَهَا الْآخَرُونَ وَاهْتَدَى بِهَا مَنْ لَا يُحْصَى مِنَ الْأُمَّتَيْنِ وَمِنْ سَائِرِ الْأُمَمِ، وَإِنَّمَا يَضُرُّ الْجَاحِدِينَ؛ لِأَنَّهُمْ تَرَكُوا كِتَابَهُمُ الَّذِي يَزْعُمُونَ أَنَّهُ الْمُنَجِّي وَالْمُخَلِّصُ لَهُمْ، وَحُرِمُوا مِنْ هِدَايَةِ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ، الَّتِي هِيَ أَكْمَلُ هِدَايَةٍ أَنْعَمَ اللهُ بِهَا عَلَى الْعَالَمِينَ.
قَالَ - تَعَالَى - بَعْدَ مَا ذَكَرَ نَبْذَهُمُ الْكِتَابَ: (كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ) أَيْ نَبَذُوهُ نَبْذَ مَنْ لَا يَعْلَمُ أَنَّهُ كِتَابُ اللهِ، يُرِيدُ أَنَّهُمْ بَالَغُوا فِي تَرْكِهِ وَإِهْمَالِهِ، وَمَنْ تَرَكَ شَيْئًا مِنْ أَمْرِ اللهِ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ أَمْرُهُ - وَلَكِنْ طَافَ بِهِ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ فَغُلِبَ عَلَى أَمْرِهِ -
فَإِنَّهُ لَا يَلْبَثُ أَنْ يَعُودَ، وَلَكِنَّ هَذَا الْفَرِيقَ النَّابِذَ لِكِتَابِ اللهِ - تَعَالَى - مِنْ حَيْثُ هُوَ مُبَشِّرٌ بِالنَّبِيِّ وَآمِرٌ بِاتِّبَاعِهِ، يَتَمَادَى بِهِمُ الزَّمَانُ وَلَا يَتُوبُونَ وَلَا يَرْجِعُونَ، وَمَا أَحْسَنَ التَّعْبِيرَ عَنْ ذَلِكَ بِنَفْيِ الْحَالِ وَالْاسْتِقْبَالِ دُونَ نَفْيِ الْمَاضِي.
مَبْحَثُ السِّحْرِ وَهَارُوتَ وَمَارُوتَ
ثُمَّ ذَكَرَ - تَعَالَى - أَنَّ أُولَئِكَ الَّذِينَ نَبَذُوا كِتَابَ اللهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ - مُجَاحَدَةً لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَحَسَدًا لَهُ - قَدْ تَبَدَّلُوا الْكُفْرَ بِالْإِيْمَانِ وَاشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى (وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ) مِنَ الْإِنْسِ فِي قِصَصِهَا وَأَسَاطِيرِهَا، أَوْ مِنَ الْجِنِّ فِي وَسْوَسَتِهَا، أَوْ مِنْهُمَا جَمِيعًا عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ - تَعَالَى -:(شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا)(6: 112)(عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ) أَيْ مَا كَانَتْ تَتْلُو عَلَى عَهْدِهِ وَفِي أَيَّامِ مُلْكِهِ، إِذْ زَعَمُوا أَنَّ مُلْكَهُ قَامَ عَلَى أَسَاسِ السِّحْرِ وَالطِّلَسْمَاتِ، وَأَنَّهُ ارْتَدَّ فِي آخِرِ عُمُرِهِ وَعَبَدَ الْأَصْنَامَ مَرْضَاةً لِنِسَائِهِ الْوَثَنِيَّاتِ (وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ) وَمَا سَحَرَ (وَلَكِنَّ) أُولَئِكَ (الشَّيَاطِينَ) الَّذِينَ يُسْنِدُونَ إِلَيْهِ مَا انْتَحَلُوهُ مِنَ السِّحْرِ، وَمَا تَلَبَّسُوا بِهِ مِنَ الْكُفْرِ، هُمُ الَّذِينَ (كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ) لِيَفْتِنُوا بِهِ الْعَامَّةَ وَيُضِلُّونَهُمْ عَنْ طَلَبِ الْأَشْيَاءِ مِنْ أَسْبَابِهَا الظَّاهِرَةِ وَمَنَاهِجِهَا الْمَشْرُوعَةِ.
هَذِهِ الْأَوْهَامُ وَالْأَكَاذِيبُ عَلَى نَبِيِّ اللهِ سُلَيْمَانَ عليه السلام مِمَّا افْتَجَرَهُ بَعْضُ الدَّجَّالِينَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَوَسْوَسُوا بِهِ إِلَى بَعْضِ الْمُسْلِمِينَ فَصَدَّقُوهُمْ فِي بَعْضِ مَا زَعَمُوهُ مِنْ حِكَايَاتِ السِّحْرِ، وَكَذَّبُوهُمْ فِيمَا رَمَوْا بِهِ سُلَيْمَانَ مِنَ الْكُفْرِ، وَإِنَّكَ لَتَرَى دَجَاجِلَةَ الْمُسْلِمِينَ إِلَى الْيَوْمِ يَتْلُونَ أَقْسَامًا وَعَزَائِمَ، وَيَخُطُّونَ خُطُوطًا وَطَلَاسِمَ وَيُسَمُّونَ ذَلِكَ خَاتَمَ سُلَيْمَانَ وَعُهُودَهُ، وَيَزْعُمُونَ أَنَّهَا تَقِي حَامِلَهَا مِنِ اعْتِدَاءِ الْجِنِّ وَمَسِّ الْعَفَارِيتِ، وَلَقَدْ رَأَى كَاتِبُ هَذَا التَّفْسِيرِ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، وَكَانَ فِي أَيَّامِ حَدَاثَتِهِ يُصَدِّقُ بِهِ وَيَعْتَقِدُ فَائِدَتَهُ.
وَقَدْ زَعَمَ الْيَهُودُ أَنَّ سُلَيْمَانَ سَحَرَ وَدَفَنَ السِّحْرَ تَحْتَ كُرْسِيِّهِ، وَأَنَّهُ أَضَاعَ خَاتَمَهُ الَّذِي كَانَ بِهِ مُلْكُهُ، فَوَقَعَ فِي يَدِ آخَرَ وَجَلَسَ مَجْلِسَهُ لِلْحُكْمِ، إِلَى آخِرِ مَا خَلَطُوا فِيهِ التَّارِيخَ بِالدَّجَلِ.
وَرُوِيَ عَنْهُمْ أَنَّ سُلَيْمَانَ هُوَ الَّذِي جَمَعَ كُتُبَ السِّحْرِ مِنَ النَّاسِ وَدَفَنَهَا
تَحْتَ كُرْسِيِّهِ، ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا النَّاسُ وَتَنَاقَلُوهَا. وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: أَنَّهُ إِنَّمَا دَفَنَ تَحْتَ كُرْسِيِّهِ كُتُبًا أُخْرَى فِي الْعُلُومِ، فَلَمَّا اسْتُخْرِجَتْ، أَشَاعَ الشَّيَاطِينُ أَنَّهَا كُتُبُ سِحْرٍ، وَأَنْشَأَ الدَّجَّالُونَ بَعْدَ ذَلِكَ يَنْتَحِلُونَ مَا شَاءُوا وَيَنْسُبُونَهُ إِلَى تِلْكَ الْكُتُبِ. وَلَا شَكَّ أَنَّ مَا قَالُوهُ عَلَى سُلَيْمَانَ وَمُلْكِهِ مِنْ خَبَرِ السِّحْرِ وَالْكُفْرِ مَكْذُوبٌ، افْتَرَاهُ أَهْلُ الْأَهْوَاءِ وَقَدْ قَصَّهُ اللهُ - تَعَالَى - عَلَيْنَا؛ لِنَعْتَبِرَ بِمَا افْتَرَاهُ هَؤُلَاءِ النَّاسُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ وَبِتَرْجِيحِ فَرِيقٍ مِنْ خَلْفِهِمُ الْاشْتِغَالَ بِذَلِكَ عَلَى الِاهْتِدَاءِ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، حَتَّى إِنَّهُمْ نَبَذُوا كِتَابَهُمُ الَّذِي بَشَّرَ بِهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ.
وَمِنَ الْبَدِيهِيِّ أَنَّ ذِكْرَ الْقِصَّةِ فِي الْقُرْآنِ لَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ كُلُّ مَا يُحْكَى فِيهَا عَنِ النَّاسِ صَحِيحًا، فَذِكْرُ السِّحْرِ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ لَا يَسْتَلْزِمُ إِثْبَاتَ مَا يَعْتَقِدُ النَّاسُ مِنْهُ، كَمَا أَنَّ نِسْبَةَ الْكُفْرِ إِلَى سُلَيْمَانَ الَّتِي عُلِمَتْ مِنَ النَّفْيِ لَا تَسْتَلْزِمُ أَنْ تَكُونَ صَحِيحَةً؛ لِأَنَّهَا ذُكِرَتْ فِي الْقُرْآنِ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ ذِكْرُهَا فِي سِيَاقِ النَّفْيِ.
(قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ مَا مِثَالُهُ) : بَيَّنَّا غَيْرَ مَرَّةٍ أَنَّ الْقِصَصَ جَاءَتْ فِي الْقُرْآنِ لِأَجْلِ الْمَوْعِظَةِ وَالْاعْتِبَارِ لَا لِبَيَانِ التَّارِيخِ وَلَا لِلْحَمْلِ عَلَى الْاعْتِقَادِ بِجُزْئِيَّاتِ الْأَخْبَارِ عِنْدَ الْغَابِرِينَ، وَإِنَّهُ لِيُحْكَى مِنْ عَقَائِدِهِمُ الْحَقُّ وَالْبَاطِلُ، وَمِنْ تَقَالِيدِهِمُ الصَّادِقُ وَالْكَاذِبُ، وَمِنْ عَادَاتِهِمُ النَّافِعُ وَالضَّارُّ، لِأَجْلِ الْمَوْعِظَةِ وَالْاعْتِبَارِ، فَحِكَايَةُ الْقُرْآنِ لَا تَعْدُو مَوْضِعَ الْعِبْرَةِ وَلَا تَتَجَاوَزُ مَوْطِنَ الْهِدَايَةِ، وَلَا بُدَّ أَنْ يَأْتِيَ فِي الْعِبَارَةِ أَوِ السِّيَاقِ وَأُسْلُوبِ النَّظْمِ مَا يَدُلُّ عَلَى اسْتِحْسَانِ الْحَسَنِ وَاسْتِهْجَانِ الْقَبِيحِ. وَقَدْ يَأْتِي فِي الْحِكَايَةِ بِالتَّعْبِيرَاتِ الْمُسْتَعْمَلَةِ عِنْدَ الْمُخَاطَبِينَ أَوِ الْمَحْكِيِّ عَنْهُمْ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ صَحِيحَةً فِي نَفْسِهَا كَقَوْلِهِ:(كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ)(2: 275) وَكَقَوْلِهِ: (بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ)(18: 90) وَهَذَا الْأُسْلُوبُ مَأْلُوفٌ، فَإِنَّنَا نَرَى كَثِيرًا مِنْ كُتَّابِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ وَكُتَّابِ الْإِفْرِنْجِ يَذْكُرُونَ آلِهَةَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ فِي خُطَبِهِمْ وَمَقَالَاتِهِمْ وَلَا سِيَّمَا فِي سِيَاقِ كَلَامِهِمْ عَنِ الْيُونَانِ وَالْمِصْرِيِّينَ الْقُدَمَاءِ، وَلَا يَعْتَقِدُ أَحَدٌ مِنْهُمْ شَيْئًا مِنْ تِلْكَ الْخُرَافَاتِ الْوَثَنِيَّةِ.
وَيَقُولُ أَهْلُ السَّوَاحِلِ: غَرَبَتِ الشَّمْسُ، أَوْ سَقَطَ قُرْصُ الشَّمْسِ فِي الْبَحْرِ أَوْ فِي الْمَاءِ، وَلَا يَعْتَقِدُونَ ذَلِكَ وَإِنَّمَا يُعَبِّرُونَ بِهِ عَنِ الْمَرْئِيِّ.
جَاءَ ذِكْرُ السِّحْرِ فِي مَوَاضِعَ مُتَعَدِّدَةٍ فِي الْقُرْآنِ، وَأَكْثَرُهُ فِي قِصَّةِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ،
وَذُكِرَ هُنَا فِي الْكَلَامِ عَنِ الْيَهُودِ. وَإِذَا أَرَدْنَا فَهْمَهُ مِنْ عُرْفِ اللُّغَةِ وَجَدْنَا أَنَّ السِّحْرَ عِنْدَ الْعَرَبِ كُلُّ مَا لَطُفَ مَأْخَذُهُ وَدَقَّ وَخَفِيَ، وَقَالُوا: سَحَرَهُ وَسَحَّرَهُ بِمَعْنَى خَدَعَهُ وَعَلَّلَهُ، وَقَالُوا: عَيْنٌ سَاحِرَةٌ وَعُيُونٌ سَوَاحِرُ، وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ:((إِنَّ مِنَ الْبَيَانِ لَسِحْرًا)) ، وَالسَّحْرُ بِالْفَتْحِ وَبِالتَّحْرِيكِ الرِّئَةُ وَهِيَ أَصْلُ هَذِهِ الْمَادَّةِ، وَالرِّئَةُ فِي الْبَاطِنِ، فَمَا لَطُفَ مَأْخَذُهُ وَدَقَّ صُنْعُهُ حَتَّى لَا يَهْتَدِي إِلَيْهِ غَيْرُ أَهْلِهِ فَهُوَ بَاطِنٌ خَفِيٌّ، وَمِنْهُ الْخِدَاعُ: وَهُوَ أَنْ يُظْهَرَ لَكَ شَيْءٌ غَيْرُ الْوَاقِعِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، فَالْوَاقِعُ بَاطِنٌ خَفِيٌّ، وَتَأْثِيرُ الْعُيُونِ فِي عُشَّاقِ الْحِسَانِ، وَالْكَلَامُ الْبَلِيغُ فِي عُشَّاقِ الْبَيَانِ، مِمَّا يَخْفَى مَسْلَكُهُ وَيَدِقُّ سَبَبُهُ، حَتَّى يَعْسُرَ عَلَى أَكْثَرِ النَّاسِ الْوُقُوفُ عَلَى الْعِلَّةِ فِي تَأْثِيرِهِ.
وَقَدْ وَصَفَ اللهُ السِّحْرَ فِي الْقُرْآنِ بِأَنَّهُ تَخْيِيلٌ يَخْدَعُ الْأَعْيُنَ فَيُرِيهَا مَا لَيْسَ بِكَائِنٍ كَائِنًا فَقَالَ: (يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى)(20: 66) وَالْكَلَامُ فِي حِبَالِ السَّحَرَةِ وَعِصِيِّهِمْ، وَفِي آيَةٍ أُخْرَى (سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ) (7: 116) وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ الَّتِي نُفَسِّرُهَا أَنَّ السِّحْرَ كَانَ يُؤْخَذُ بِالتَّعْلِيمِ، وَالتَّارِيخُ يَشْهَدُ بِهَذَا، وَقَدْ كَانَ الْمِصْرِيُّونَ يُطْلِقُونَ لَقَبَ السَّاحِرِ عَلَى الْعَالِمِ، كَمَا يُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِ - تَعَالَى -:(وَقَالُوا يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ)(43: 49) وَمَجْمُوعُ هَذِهِ النُّصُوصِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ السِّحْرَ إِمَّا حِيلَةٌ وَشَعْوَذَةٌ، وَإِمَّا صِنَاعَةٌ عِلْمِيَّةٌ خَفِيَّةٌ يَعْرِفُهَا بَعْضُ النَّاسِ وَيَجْهَلُهَا الْأَكْثَرُونَ فَيُسَمُّونَ الْعَمَلَ بِهَا سِحْرًا لِخَفَاءِ سَبَبِهِ وَلُطْفِ مَأْخَذِهِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُعَدَّ مِنْهُ تَأْثِيرُ النَّفْسِ الْإِنْسَانِيَّةِ فِي نَفْسٍ أُخْرَى لِمِثْلِ هَذِهِ الْعِلَّةِ. وَقَدْ قَالَ الْمُؤَرِّخُونَ: إِنَّ سَحَرَةَ فِرْعَوْنَ قَدِ اسْتَعَانُوا بِالزِّئْبَقِ عَلَى إِظْهَارِ الْحِبَالِ وَالْعِصِيِّ بِصُوَرِ الْحَيَّاتِ وَالثَّعَابِينِ وَتَخْيِيلِ أَنَّهَا تَسْعَى.
وَقَدِ اعْتَادَ الَّذِينَ اتَّخَذُوا التَّأْثِيرَاتِ النَّفْسِيَّةَ صِنَاعَةً وَوَسِيلَةً لِلْمَعَاشِ أَنْ يَسْتَعِينُوا بِكَلَامٍ مُبْهَمٍ وَأَسْمَاءٍ غَرِيبَةٍ اشْتَهَرَ عِنْدَ النَّاسِ أَنَّهَا مِنْ أَسْمَاءِ الشَّيَاطِينِ وَمُلُوكِ الْجَانِّ، وَأَنَّهُمْ يَحْضُرُونَ إِذَا دُعُوا بِهَا وَيَكُونُونَ مُسَخَّرِينَ لِلدَّاعِي. وَلِمِثْلِ هَذَا الْكَلَامِ تَأْثِيرٌ فِي إِثَارَةِ الْوَهْمِ عُرِفَ بِالتَّجْرِبَةِ، وَسَبَبُهُ اعْتِقَادُ الْوَاهِمِ أَنَّ الشَّيَاطِينَ يَسْتَجِيبُونَ لِقَارِئِهِ وَيُطِيعُونَ أَمْرَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّ فِيهِ خَاصِّيَّةَ التَّأْثِيرِ وَلَيْسَ فِيهِ، وَإِنَّمَا تِلْكَ الْعَقِيدَةُ الْفَاسِدَةُ تَفْعَلُ فِي النَّفْسِ الْوَاهِمَةِ مَا يُغْنِي مُنْتَحِلَ السِّحْرِ عَنْ تَوْجِيهِ هِمَّتِهِ وَتَأْثِيرِ إِرَادَتِهِ. وَهَذَا هُوَ السَّبَبُ فِي اعْتِقَادِ الدَّهْمَاءِ أَنَّ السِّحْرَ عَمَلٌ يُسْتَعَانُ عَلَيْهِ بِالشَّيَاطِينِ وَأَرْوَاحِ الْكَوَاكِبِ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْمُتَكَلِّمُونَ وَالْمُفَسِّرُونَ وَالْفُقَهَاءُ فِي حَقِيقَةِ السِّحْرِ وَفِي أَحْكَامِهِ، وَعَدَّهُ بَعْضُهُمْ مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ، وَفَرَّقُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُعْجِزَةِ، وَلَمْ يَذْكُرُوا فِي فُرُوقِهِمْ أَنَّ السِّحْرَ يُتَلَقَّى بِالتَّعْلِيمِ، وَيَتَكَرَّرُ بِالْعَمَلِ، فَهُوَ أَمْرٌ عَادِيٌّ قَطْعًا بِخِلَافِ الْمُعْجِزَةِ.
(قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ) فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: (يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ) وَجْهَانِ:
(أَحَدُهُمَا) : أَنَّهُ مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ: (وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا) أَيْ أَنَّ الشَّيَاطِينَ هُمُ الَّذِينَ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ.
(وَالثَّانِي) : وَهُوَ الْأَظْهَرُ أَنَّهُ مُتَّصِلٌ بِالْكَلَامِ عَنِ الْيَهُودِ وَأَنَّ الْكَلَامَ فِي الشَّيَاطِينِ قَدِ انْتَهَى عِنْدَ الْقَوْلِ بِكُفْرِهِمْ. وَانْتِحَالُ الْيَهُودِ لِتَعْلِيمِ السِّحْرِ أَمْرٌ كَانَ مَشْهُورًا فِي زَمَنِ التَّنْزِيلِ، وَلَا يَزَالُونَ يَنْتَحِلُونَ ذَلِكَ إِلَى الْيَوْمِ. أَيْ أَنَّ فَرِيقًا مِنَ الْيَهُودِ نَبَذُوا كِتَابَ اللهِ (وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ) وَهَاهُنَا يَقُولُ الْقَائِلُ: بِمَاذَا اتَّبَعُوا أُولَئِكَ الشَّيَاطِينَ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى سُلَيْمَانَ فِي رَمْيِهِ بِالْكُفْرِ، وَزَعْمِهِمْ أَنَّ السِّحْرَ اسْتُخْرِجَ مِنْ كُتُبِهِ الَّتِي كَانَتْ تَحْتَ كُرْسِيِّهِ؟ فَأَجَابَ عَلَى طَرِيقِ الْاسْتِئْنَافِ الْبَيَانِيِّ (يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ) . . . إِلَخْ، وَنَفْيُ الْكُفْرِ عَنْ سُلَيْمَانَ وَإِلْصَاقُهُ بِالشَّيَاطِينِ الْكَاذِبِينَ ذُكِرَ بِطَرِيقِ الِاعْتِرَاضِ، فَعُلِمَ أَيْضًا أَنَّهُمُ اتَّبَعُوا الشَّيَاطِينَ بِهَذِهِ الْفِرْيَةِ أَيْضًا. وَإِنَّمَا كَانَ الْقَصْدُ إِلَى وَصْفِ الْيَهُودِ بِتَعْلِيمِ السِّحْرِ؛ لِأَنَّهُ مِنَ السَّيِّئَاتِ الَّتِي كَانُوا مُتَلَبِّسِينَ بِهَا، وَيَضُرُّونَ بِهَا النَّاسَ خِدَاعًا وَتَمْوِيهًا وَتَلْبِيسًا.
ثُمَّ قَالَ: (وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ) فَأَجْمَلَ بِهَذِهِ الْعِبَارَةِ الْوَجِيزَةِ خَبَرَ قِصَّةٍ كَانُوا يَتَحَدَّثُونَ بِهَا كَمَا أَجْمَلَ فِي ذِكْرِ تَعْلِيمِ السِّحْرِ، فَلَمْ يَذْكُرْ مَا هُوَ، أَشَعْوَذَةٌ وَتَخْيِيلٌ، أَمْ خَوَاصٌّ طَبِيعِيَّةٌ، وَتَأْثِيرَاتٌ نَفْسِيَّةٌ؟ وَهَذَا ضَرْبٌ مِنَ الْإِعْجَازِ انْفَرَدَ بِهِ الْقُرْآنُ، يَذْكُرُ الْأَمْرَ الْمَشْهُورَ بَيْنَ النَّاسِ فِي وَقْتٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ لِأَجْلِ الْاعْتِبَارِ بِهِ فَيَنْظِمُهُ فِي أُسْلُوبٍ يُمْكِنُ لِكُلِّ أَحَدٍ أَنْ يَقْبَلَهُ فِيهِ مَهْمَا يَكُنِ اعْتِقَادُهُ لِذَلِكَ الشَّيْءِ فِي تَفْصِيلِهِ، أَلَا تَرَى كَيْفَ ذَكَرَ السِّحْرَ هُنَا وَفِي مَوَاضِعَ أُخْرَى بِأَسَالِيبَ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُنْكِرَهَا مَنْ يَدَّعِي أَنَّ السِّحْرَ حِيلَةٌ وَشَعْوَذَةٌ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا ذَكَرْنَاهُ، وَلَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَرُدَّهَا مَنْ يَدَّعِي أَنَّهُ مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ؟
وَالْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ أَنَّ اللهَ عز وجل قَدْ وَكَلَ مَعْرِفَةَ هَذِهِ الْحَقَائِقِ الْكَوْنِيَّةِ إِلَى
بَحْثِ الْإِنْسَانِ وَاشْتِغَالِهِ بِالْعِلْمِ؛ لِأَنَّهُ مِنَ الْأُمُورِ الْكَسْبِيَّةِ، وَلَوْ بَيَّنَ مَسَائِلَهَا بِالنَّصِّ الْقَاطِعِ لَجَاءَتْ مُخَالِفَةً لِعِلْمِ النَّاسِ وَاخْتِبَارِهِمْ فِي كُلِّ جِيلٍ لَمْ يَرْتَقِ الْعِلْمُ فِيهِ إِلَى أَعْلَى دَرَجَةٍ، وَلَكَانَتْ تِلْكَ الْمُخَالَفَةُ مِنْ أَسْبَابِ الشَّكِّ أَوِ التَّكْذِيبِ، فَإِنَّنَا نَرَى مِنَ النَّاسِ مَنْ يَطْعَنُ فِي كُتُبِ الْوَحْيِ لِتَفْسِيرِ بَعْضِ تِلْكَ الْأُمُورِ الْمُجْمَلَةِ بِمَا يَتَرَاءَى لَهُمْ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ نَصًّا وَلَا ظَاهِرًا فِيهِ، وَيَزْعُمُونَ أَنَّ كِتَابَ الدِّينِ جَاءَ مُخَالِفًا لِلْعِلْمِ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الَّذِي يُطْلِقُونَ عَلَيْهِ اسْمَ الْعِلْمِ ظَنِّيًّا أَوْ فَرْضِيًّا.
فِي (الْمَلَكَيْنِ) قِرَاءَتَانِ، فَتْحُ اللَّامِ وَكَسْرُهَا، فَالْأُولَى قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ، وَالثَّانِيَةُ قِرَاءَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ وَأَبِي الْأَسْوَدِ وَالضَّحَّاكِ. وَحَمَلَ بَعْضُهُمْ قِرَاءَةَ الْفَتْحِ عَلَى قِرَاءَةِ الْكَسْرِ وَيُؤَيِّدُهُ مَا قِيلَ إِنَّ الْمُرَادَ بِهِمَا (دَاوُدُ وَسُلَيْمَانُ عليهما السلام) . . . وَقِيلَ. بَلْ هُمَا رَجُلَانِ صَاحِبَا وَقَارٍ وَسَمْتٍ فَشُبِّهَا بِالْمَلَائِكَةِ، وَكَانَ يَؤُمُّهُمَا النَّاسُ بِالْحَوَائِجِ الْأَهْلِيَّةِ وَيُجِلُّونَهُمَا أَشَدَّ الْإِجْلَالِ فَشُبِّهَا بِالْمُلُوكِ، وَتِلْكَ عَادَةُ النَّاسِ فِيمَنْ يَنْفَرِدُ بِالصِّفَاتِ الْمَحْمُودَةِ يَقُولُونَ: هَذَا مَلَكٌ وَلَيْسَ بِإِنْسَانٍ، كَمَا يَقُولُونَ فِيمَنْ كَانَ سَيِّدًا عَزِيزًا يُظْهِرُ الْغِنَى عَنِ النَّاسِ مِنْ حَيْثُ يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ:" وَهَذَا سُلْطَانُ زَمَانِهِ "، جَلَّتْ حِكْمَةُ اللهِ فِي خَلْقِهِ فَقَدْ قَدَّ هَؤُلَاءِ الْآدَمِيِّينَ مِنْ أَدِيمٍ وَاحِدٍ، كَانَ النَّاسُ عَلَى عَهْدِ هَارُوتَ وَمَارُوتَ - اللَّذَيْنِ كَانَ يُتَحَدَّثُ بِخَبَرِهِمَا وَلَا يُحَدَّدُ تَارِيخُهُمَا - عَلَى مِثَالِهِمُ الْيَوْمَ لَا يَقْصِدُونَ لِلْفَصْلِ فِي شُئُونِهِمُ الْأَهْلِيَّةِ مِنَ الْجِهَةِ الرُّوحَانِيَّةِ إِلَّا إِلَى أَهْلِ السَّمْتِ وَالْوَقَارِ اللَّابِسِينَ لِبَاسَ أَهْلِ التَّقْوَى وَالصَّلَاحِ، هَذَا مَا نُشَاهِدُهُمْ عَلَيْهِ فِي زَمَانِنَا، وَهَذَا مَا حَكَى اللهُ - تَعَالَى - عَنْهُمْ فِي الزَّمَنِ الْقَدِيمِ، وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: لَعَلَّ اللهَ - تَعَالَى - سَمَّاهُمَا مَلَكَيْنِ (بِفَتْحِ اللَّامِ) حِكَايَةً لِاعْتِقَادِ النَّاسِ فِيهِمَا، وَأَجَازَ أَيْضًا كَوْنَ إِطْلَاقِ لَفْظِ الْمَلَكَيْنِ عَلَيْهِمَا مَجَازًا كَمَا قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ. قَالَ - تَعَالَى - فِي الْيَهُودِ:(يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ) ، وَالظَّاهِرُ مِنَ الْعَطْفِ أَنَّ مَا أُنْزِلَ عَلَيْهِمَا هُوَ غَيْرُ السِّحْرِ ضُمَّ إِلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ جِنْسِهِ فِي كَوْنِ تَعْلِيمِهِ سَيِّئَةً مَذْمُومَةً أَوْ هُوَ لِتَغَايُرِ الِاعْتِبَارِ أَوِ النَّوْعِ. وَلَيْسَ مَعْنَى الْإِنْزَالِ عَلَيْهِمَا أَنَّهُ وَحْيٌ مِنَ اللهِ كَوَحْيِهِ لِلْأَنْبِيَاءِ، فَيُشْكِلُ عَدُّهُ مِنَ الشَّرِّ وَالْبَاطِلِ الَّذِي يُذَمُّ تَعَلُّمُهُ، فَإِنَّ كَلِمَةَ (أُنْزِلَ) تُسْتَعْمَلُ فِي مَوَاضِعَ لَا صِلَةَ بَيْنِهَا وَبَيْنَ وَحْيِ الْأَنْبِيَاءِ، قَالُوا: أُنْزِلَتْ حَاجَتِي عَلَى كِرِيمٍ، وَأُنْزِلَ لِيَ عَنْ هَذِهِ الْأَبْيَاتِ،
وَيُقَالُ: قَدْ أُنْزِلَ الصَّبْرُ عَلَى قَلْبِ فُلَانٍ، وَقَالَ - تَعَالَى -:(وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ)(57: 25) وَقَالَ: (ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ)(9: 26) . وَلَعَلَّ التَّعْبِيرَ عَمَّا أُوتِيَاهُ مِنَ الْعِلْمِ بِالْإِنْزَالِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يُعْرَفُ لَهُ مَأْخَذٌ غَيْرُهُمَا، يُرَادُ أَنَّهُمَا أَلْهَمَاهُ إِلْهَامًا وَاهْتَدَيَا إِلَيْهِ مِنْ غَيْرِ أُسْتَاذٍ وَلَا مُعَلِّمٍ. وَيَصِحُّ أَنْ يُسَمَّى مِثْلُ هَذَا وَحْيًا لِخَفَاءِ مَنْبَعِهِ. وَلَيْسَ الْوَحْيُ إِلْهَامَ الْخَوَاطِرِ خَاصًّا فِي عُرْفِ اللُّغَةِ وَلَا عُرْفِ الْقُرْآنِ بِالْأَنْبِيَاءِ، وَلَا بِمَا يَكُونُ مَوْضُوعُهُ خَيْرًا أَوْ حَقًّا، فَقَدْ قَالَ - تَعَالَى -:(وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ)(16: 68)، وَقَالَ:(وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرَضِعِيهِ)
(28: 7) وَقَالَ: (شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا)(6: 112) وَقَالَ الشَّاعِرُ:
رَأْسُ الْغَوَايَةِ فِي الْعَقْلِ السَّقِيمِ
…
فَمَا فِيهِ فَأَكْثَرُهُ وَحْيُ الشَّيَاطِينِ
وَذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ وَجْهًا آخَرَ فِي تَفْسِيرِ (وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ) ، وَنَقَلَهُ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ وَهُوَ أَنَّ (مَا) نَافِيَةٌ، أَيْ: إِنَّ الْيَهُودَ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَيَرْتَقُونَ بِسَنَدِهِ إِلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ، وَمَا أُنْزِلَ السِّحْرُ عَلَى الْمَلَكَيْنِ، فَكَيْفَ كَانُوا يُعَلِّمُونَهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ؟ وَقَدْ ضَعَّفُوهُ بِأَنَّ الثَّابِتَ فِي الْوَاقِعِ أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ، وَقَدْ أَجَازَ هَذَا التَّضْعِيفَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ، عَلَى أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ بِهِ نَفْيُ الْإِنْزَالِ خَاصَّةً، أَيْ أَنَّ ذَلِكَ السِّحْرَ الَّذِي يَنْسُبُونَهُ إِلَى الْمَلَكَيْنِ لَمْ يَنْزِلْ عَلَيْهِمَا إِنْزَالًا مِنَ اللهِ فَيَنْظِمُهُ الْيَهُودُ فِي سِلْكِ الْعُلُومِ الْمَحْمُودَةِ وَيَزْعُمُونَ أَنَّهُ حَقٌّ، وَإِنَّمَا هُوَ شَيْءٌ افْتَجَرَاهُ وَاخْتَرَعَاهُ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمَا.
ثُمَّ قَالَ: (وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ) أَيْ إِنَّ مَا عِنْدَنَا هُوَ أَمْرٌ يَبْتَلِي بِهِ اللهُ النَّاسَ وَيَخْتَبِرُهُمْ فَلَا تَتَعَلَّمْ مَا هُوَ كُفْرٌ، فَإِنْ أَصَرَّ عَلَّمَاهُ. هَذَا مَا عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي الدَّرْسِ. وَقَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: وَمَا يُعَلِّمَانِ أَحَدًا حَتَّى يَنْصَحَاهُ وَيَقُولَا لَهُ: إِنَّمَا نَحْنُ ابْتِلَاءٌ مِنَ اللهِ، فَمَنْ تَعَلَّمَ مِنَّا وَعَمِلَ بِهِ كَفَرَ، وَمَنْ تَعَلَّمَ وَتَوقَّى عَمَلَهُ ثَبَتَ عَلَى الْإِيْمَانِ، فَلَا تَكْفُرْ بِاعْتِقَادِ جَوَازِهِ وَالْعَمَلِ بِهِ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ تَعَلُّمَ السِّحْرِ وَمَا لَا يَجُوزُ اتِّبَاعُهُ غَيْرُ مَحْظُورٍ، وَإِنَّمَا الْمَنْعُ مِنِ اتِّبَاعِهِ وَالْعَمَلِ بِهِ اهـ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: إِنَّمَا نَحْنُ أُولُو فِتْنَةٍ نَبْلُوكَ وَنَخْتَبِرُكَ أَتَشْكُرُ أَمْ تَكْفُرُ؟ وَنَنْصَحُ لَكَ أَلَّا تَكْفُرَ. وَلَعَلَّهُمَا يَقُولَانِ هَذَا لِلْمُحَافَظَةِ
عَلَى حُسْنِ اعْتِقَادِ النَّاسِ بِفَضْلِهِمَا إِذْ كَانُوا يَقُولُونَ هُمَا مَلَكَانِ. وَإِنَّنَا نَسْمَعُ الدَّجَاجِلَةَ الَّذِينَ يَنْتَحِلُونَ مِثْلَ هَذَا وَيُوهِمُونَ النَّاسَ أَنَّهُمْ رُوحَانِيُّونَ، يَقُولُونَ لِمَنْ يُعَلِّمُونَهُمُ الْكِتَابَةَ لِلْمَحَبَّةِ وَلِلْبُغْضِ: نُوصِيكَ بِأَلَّا تَكْتُبَ هَذَا لِجَلْبِ امْرَأَةٍ مُتَزَوِّجَةٍ إِلَى حُبِّ رَجُلٍ غَيْرِ زَوْجِهَا، وَلَا تَكْتُبَ لِأَحَدِ الزَّوْجَيْنِ بِأَنْ يَبْغَضَ الْآخَرَ، وَأَنْ تَخُصَّ هَذِهِ الْفَوَائِدَ بِالْمَصْلَحَةِ كَالْحُبِّ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، وَالتَّفْرِيقِ بَيْنَ الْعَاشِقِينَ الْفَاسِقِينَ، وَإِنَّمَا يَقُولُونَ هَذَا لِيُوهِمُوا النَّاسَ أَنَّ عُلُومَهُمْ إِلَهِيَّةٌ، وَأَنَّ صِنَاعَتَهُمْ رُوحَانِيَّةٌ، وَأَنَّهُمْ صَحِيحُو النِّيَّةِ. وَقَدْ كَانَ الْيَهُودُ يُسْنِدُونَ سِحْرَهُمْ إِلَى مَلَكَيْنِ بِبَابِلَ، وَنَرَى دَجَاجِلَةَ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْمَغَارِبَةِ وَغَيْرِهِمْ يُسْنِدُونَ خُزَعْبَلَاتِهِمْ إِلَى " دَانْيَالَ النَّبِيِّ "، وَهَذَا الْمَعْنَى يَصِحُّ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ قَوْلَهُ:(وَمَا أُنْزِلَ) نَفِيٌ بِحَسَبِ تَوْجِيهِنَا السَّابِقِ. وَقَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: إِنَّ مَعْنَاهُ عَلَى وَجْهِ النَّفْيِ: إِنَّمَا نَحْنُ مَفْتُونُونَ، فَلَا تَكُنْ مِثْلَنَا.
قَالَ - تَعَالَى -: (فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ) ، صِيغَةُ الْمُضَارِعِ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ وَمَا قَبْلَهَا لِتَصْوِيرِ مَا كَانَ كَأَنَّهُ كَائِنٌ، فَالْكَلَامُ تَصْوِيرٌ لِلْقِصَّةِ لَا حُكْمٌ بِمَضْمُونِهَا، أَيْ أَنَّهُمْ
كَانُوا يَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا وُضِعَ لِأَجْلِ التَّفْرِيقِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، وَهُوَ نَحْوُ مَا يُسَمِّيهِ الدَّجَاجِلَةُ الْآنَ " كِتَابَ الْبِغْضَةِ " وَلَيْسَ فِي الْعِبَارَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا يَتَعَلَّمُونَهُ لِهَذَا الْغَرَضِ هُوَ مُؤَثِّرٌ فِيهِ بِطَبْعِهِ أَوْ بِسَبَبٍ خَفِيٍّ أَوْ بِخَارِقَةٍ لَا تُعْقَلُ لَهَا عِلَّةٌ وَلَا أَنَّهُ غَيْرُ مُؤَثِّرٍ، وَلَيْسَ فِيهَا بَيَانٌ لِمَا يَتَعَلَّمُونَهُ هَلْ هُوَ كِتَابَةُ تَمَائِمَ، أَوْ تِلَاوَةُ رُقًى وَعَزَائِمَ، أَوْ أَسَالِيبُ سِعَايَةٍ، أَوْ دَسَائِسُ تَنْفِيرٍ وَنِكَايَةٍ، أَوْ تَأْثِيرٌ نَفْسَانِيٌّ، أَوْ وَسْوَاسٌ شَيْطَانِيٌّ؟ أَيُّ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ ثَبَتَ عِلْمًا كَانَ تَفْصِيلًا لِمَا أَجْمَلَهُ الْقُرْآنُ فِي الْوَاقِعِ، وَلَا يَجُوزُ لَنَا أَنْ نَتَحَكَّمَ بِتَفْصِيلِ مَا أَجْمَلَهُ الْقُرْآنُ فَنَحْمِلُهُ عَلَى أَحَدِ مَا ذَكَرَ أَوْ عَلَى غَيْرِهِ. وَلَوْ عَلِمَ اللهُ أَنَّ الْخَيْرَ لَنَا فِي بَيَانِ ذَلِكَ لَبَيَّنَهُ كَمَا قُلْنَاهُ فِي مِثْلِهِ مِرَارًا.
لَمْ يُبَيِّنِ الْقُرْآنُ ذَلِكَ الْإِجْمَالَ وَلَا حَقِيقَةَ ذَلِكَ الْعِلْمِ؛ لِأَنَّهُ مَوْكُولٌ إِلَى بَحْثِ الْبَشَرِ وَارْتِقَائِهِمْ فِي الْعِلْمِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يُهْمِلْ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْعَقَائِدِ وَبَيَانِ الْحَقِّ فِيهَا؛ وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْدَ حِكَايَةِ السِّحْرِ عَنْهُمْ:(وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) أَيْ أَنَّهُمْ لَيْسَ لَهُمْ قُوَّةٌ غَيْبِيَّةٌ وَرَاءَ الْأَسْبَابِ الَّتِي رَبَطَ اللهُ بِهَا الْمُسَبِّبَاتِ، فَهُمْ يَفْعَلُونَ بِهَا مَا يُوهِمُونَ النَّاسَ أَنَّهُ فَوْقَ اسْتِعْدَادِ الْبَشَرِ، وَفَوْقَ مَا مُنِحُوا مِنَ الْقُوَى وَالْقَدَرِ،
فَإِذَا اتَّفَقَ أَنْ أُصِيبَ أَحَدٌ بِضَرَرٍ مِنْ أَعْمَالِهِمْ، فَإِنَّمَا ذَلِكَ بِإِذْنِ اللهِ، أَيْ بِسَبَبٍ مِنَ الْأَسْبَابِ الَّتِي جَرَتِ الْعَادَةُ بِأَنْ تَحْصُلَ الْمُسَبِّبَاتُ مِنْ ضُرٍّ وَنَفْعٍ عِنْدَ حُصُولِهَا بِإِذْنِ اللهِ - تَعَالَى. وَهَذَا الْحُكْمُ التَّوْحِيدِيُّ هُوَ الْمَقْصِدُ الْأَوَّلُ مِنْ مَقَاصِدِ الدِّينِ، فَالْقُرْآنُ لَا يُتْرَكُ بَيَانُهُ عِنْدَ الْحَاجَةِ بَلْ يُبَيِّنُهُ عِنْدَ كُلِّ مُنَاسَبَةٍ، وَرُبَّمَا تَرِدُ فِي الْقُرْآنِ قِصَّةٌ مِثْلَ هَذِهِ الْقِصَّةِ لِأَجْلِ بَيَانِ الْحَقِّ فِي مَسْأَلَةٍ اعْتِقَادِيَّةٍ كَهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ؛ لِأَنَّ إِيرَادَ الْأَحْكَامِ فِي سِيَاقِ الْوَقَائِعِ أَوْقَعُ فِي النَّفْسِ وَأَعْصَى عَلَى التَّأْوِيلِ وَالتَّحْرِيفِ.
ثُمَّ قَالَ بَعْدَ نَفْيِ الْقُوَّةِ الَّتِي وَرَاءَ الْأَسْبَابِ عَنْهُمْ: (وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ) ، يَضُرُّهُمْ؛ لِأَنَّهُ سَبَبٌ فِي الْإِضْرَارِ بِالنَّاسِ، وَهُوَ مُحَرَّمٌ يُعَاقِبُ اللهُ - تَعَالَى - عَلَيْهِ فِي الْآخِرَةِ، وَمَنْ عُرِفَ بِإِيذَاءِ النَّاسِ يَمْقُتُهُ النَّاسُ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِ. وَلَمَّا كَانَ بَعْضُ الضَّارِّ مِنْ جِهَةٍ نَافِعًا مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى - وَرُبَّمَا كَانَتْ مَنْفَعَتُهُ أَكْبَرَ مِنْ إِثْمِهِ - نَفَى الْمَنْفَعَةَ بَعْدَ إِثْبَاتِ الْمَضَرَّةِ. فَهَذَا النَّفْيُ وَاجِبٌ فِي قَانُونِ الْبَلَاغَةِ لَا بُدَّ مِنْهُ، وَقَدْ صَدَقَ اللهُ - تَعَالَى - فَإِنَّنَا نَرَى مُنْتَحِلِي السِّحْرِ وَمَا فِي مَعْنَاهُ أَفْقَرَ النَّاسِ وَأَحْقَرَهُمْ، وَلَوْ عَقَلَ السُّفَهَاءُ الَّذِينَ يَخْتَلِفُونَ إِلَيْهِمْ يَلْتَمِسُونَ الْمَنَافِعَ لِأَنْفُسِهِمْ وَالْإِيقَاعَ بِأَعْدَائِهِمْ لَعَلِمُوا أَنَّ الشَّقِيَّ فِي نَفْسِهِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَهَبَ السَّعَادَةَ لِغَيْرِهِ؛ لِأَنَّ فَاقِدَ الشَّيْءِ لَا يُعْطِيهِ، هَذِهِ حَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا، فَكَيْفَ يَكُونُونَ فِي الْآخِرَةِ يَوْمَ (تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) (2: 281) لَا جَرَمَ أَنَّهَا تَكُونُ حَالًا سُوْأَى، وَالْيَهُودُ يَعْلَمُونَ ذَلِكَ كَمَا قَالَ:(وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ) أَيْ أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ مَنِ اخْتَارَ هَذَا وَاسْتَبْدَلَهُ بِمَا آتَاهُ اللهُ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ الْحَقِّ وَأَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ الْعَادِلَةِ الْمُوصِلِينَ إِلَى سَعَادَةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَلَيْسَ لَهُ نَصِيبٌ فِي نَعِيمِ الْآخِرَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ التَّوْرَاةَ قَدْ حَظَرَتْ تَعْلِيمَ السِّحْرِ، وَجَعَلَتْهُ كَعِبَادَةِ الْأَوْثَانِ وَشَدَّدَتِ الْعُقُوبَةَ
عَلَى فَاعِلِهِ وَعَلَى اتِّبَاعِ الْجِنِّ وَالشَّيَاطِينِ وَالْكُهَّانِ، وَلَا يُنَافِي هَذَا الْعِلْمُ قَوْلَهُ:(وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) فَإِنَّ الْعِلْمَ عِلْمَانِ: عِلْمٌ تَفْصِيلِيٌّ مُتَمَكِّنٌ مِنَ النَّفْسِ مُتَسَلِّطٌ عَلَى إِرَادَتِهَا يُحَرِّكُهَا إِلَى الْعَمَلِ، وَعِلْمٌ إِجْمَالِيٌّ خَيَالِيٌّ يَلُوحُ فِي الذِّهْنِ مُبْهَمًا عِنْدَمَا يَعْرِضُ مَا يُذَكَّرُ بِهِ كَكِتَابٍ وَإِلْقَاءِ سُؤَالٍ، وَهُوَ يَقْبَلُ التَّحْرِيفَ وَالتَّأْوِيلَ، وَلَيْسَ لَهُ مَنْفَذٌ إِلَى الْإِرَادَةِ وَلَا سَبِيلٌ، فَقَدْ كَانُوا يَسْتَحِلُّونَ أَكْلَ السُّحْتِ كَالرِّشْوَةِ وَالرِّبَا بِالتَّأْوِيلِ، كَمَا يَفْعَلُ غَيْرُهُمُ الْيَوْمَ
وَقَبْلَ الْيَوْمِ. وَلَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ حُرْمَةً مَا ذُكِرَ عِلْمًا تَفْصِيلِيًّا يَسْتَغْرِقُ جَمِيعَ جُزْئِيَّاتِ الْمُحَرَّمِ، وَيَفْقَهُونَ عِلَّةَ التَّحْرِيمِ وَسِرَّهُ، وَيُصَدِّقُونَ بِمَا تَوَعَّدَ اللهُ مُرْتَكِبَهُ مِنَ الْعُقُوبَةِ فِي الْآخِرَةِ تَصْدِيقًا جَازِمًا، وَيَتَذَكَّرُونَهُ وَقْتَ الْعَمَلِ - بِمَا لِلْعَقِيدَةِ مِنَ السُّلْطَانِ عَلَى الْإِرَادَةِ - لَمَا ارْتَكَبُوا مَا ارْتَكَبُوهُ مَعَ الْإِصْرَارِ عَلَيْهِ، وَلَكِنَّهُمْ فَقَدُوا هَذَا النَّوْعَ مِنَ الْعِلْمِ وَلَمْ يُغْنِ عَنْهُمْ تَصَوُّرُ أَنَّ السِّحْرَ وَالْخِدَاعَ كِلَاهُمَا حَرَامٌ كَالرِّبَا وَالرِّشْوَةِ؛ لِأَنَّ فِي الْكِتَابِ عِبَارَةً تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ؛ فَإِنَّ الْعِبَارَةَ تَحْتَمِلُ ضُرُوبًا مِنَ التَّأْوِيلِ كَكَوْنِ النَّهْيِ خَاصًّا بِمُعَامَلَةِ شَعْبِ إِسْرَائِيلَ، وَكَانُوا يَقُولُونَ:(لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ)(3: 75) إِذَا أَكَلْنَا أَمْوَالَهُمْ بِالْبَاطِلِ، وَكَاشْتِرَاطِ الضَّرَرِ فِي السِّحْرِ مَعَ ادِّعَاءِ أَنَّ مَا يَأْتُونَهُ مِنْهُ نَافِعٌ غَيْرُ ضَارٍّ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
وَإِنَّنَا نَرَى كَثِيرًا مِنَ الْحُرُمَاتِ قَدِ انْتُهِكَتْ فِي الْمُسْلِمِينَ بِمِثْلِ التَّأْوِيلَاتِ حَتَّى جَوَّزَ بَعْضُ الْمُشْتَغِلِينَ بِالْفِقْهِ هَدْمَ رُكْنٍ مِنْ أَعْظَمِ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ بِالْحِيلَةِ، وَهُوَ رُكْنُ الزَّكَاةِ الَّذِي يُحَارَبُ تَارِكُوهُ شَرْعًا، وَتَرَى هَذِهِ الْحِيَلَ قَدْ أَثَّرَتْ فِي الْأُمَّةِ أَسْوَأَ التَّأْثِيرِ، فَقَلَّمَا يُوجَدُ فِيهَا غَنِيٌّ يُؤَدِّي الزَّكَاةَ، وَلَا يَعْتَقِدُ الْمُتَمَسِّكُ بِالدِّينِ مِنْ هَؤُلَاءِ الْأَغْنِيَاءِ أَنَّهُ مُتَعَرِّضٌ لِمَقْتِ اللهِ وَعُقُوبَتِهِ، وَأَنَّهُ قَدْ فَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ؛ لِأَنَّهُ يَمْنَعُ الزَّكَاةَ بِحِيلَةٍ يُسَمِّيهَا شَرْعِيَّةً، وَقَدْ أَخَذَهَا عَمَّنْ يُسَمَّوْنَ فُقَهَاءَ، وَيَفْتَخِرُونَ بِأَنَّهُمْ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ، ثُمَّ إِنَّ الْحِيَلَ عَلَى التَّزْوِيرِ وَأَكْلِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ لَهَا فِي بَعْضِ الْكُتُبِ وَعَلَى أَلْسِنَةِ كَثِيرِينَ مِنْ أَصْحَابِ الْعَمَائِمِ مَجَالٌ وَاسِعٌ وَمَيْدَانٌ فَسِيحٌ، وَلَهَا أَقْبَحُ التَّأْثِيرِ فِي إِفْسَادِ الْعَامَّةِ وَاسْتِبَاحَتِهِمُ الْمَحْظُورَاتِ، وَلَقَدْ صَارَتْ هَذِهِ الْحِيَلُ عَلَى اللهِ عز وجل وَالتَّأْوِيلَاتُ الْبَاطِلَةُ الْهَادِمَةُ لِدِينِهِ مَعْدُودَةً مِنْ عِلْمِ الدِّينِ حَتَّى إِنَّهُ لَيَأْتِيهَا مَنْ لَا مَنْفَعَةَ لَهُ فِي إِتْيَانِهَا مِمَّنْ يُعَدُّونَ صَالِحِينَ، وَمِنْ أَعْجَبِ ذَلِكَ أَنَّ بَعْضَ أَهْلِ الْعِلْمِ الصَّالِحِينَ يَشْهَدُ الزُّورَ بِمِثْلِ هَذِهِ التَّأْوِيلَاتِ، وَقَدْ نَقَلَ الثِّقَاتُ أَنَّ طَالِبَ الشَّهَادَةِ يَسْتَعْطِفُهُ وَيَسْتَمِيلُ قَلْبَهُ الشَّكْوَى مِنَ الظُّلْمِ، وَإِرَادَةُ الْاسْتِعَانَةِ بِشَهَادَتِهِ عَلَى دَفْعِ الْمَظْلَمَةِ وَالتَّخَلُّصِ مِنَ الْأَذَى، فَيَأْمُرُ الشَّيْخُ بِأَنْ تُطْوَى الْوَرَقَةُ الْمُشْتَمِلَةُ عَلَى قَوْلِ الزُّورِ بِحَيْثُ يُحْجَبُ سَوَادُ الْكِتَابَةِ فَلَا يَرَاهُ وَيَضَعُ تَوْقِيعَهُ وَخَتْمَهُ فِي ذَيْلِهَا كَأَنَّهُ وَضَعَهُمَا عَلَى وَرَقَةٍ خَالِيَةٍ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهَا لَيْسَتْ خَالِيَةً مِنَ الْكِتَابَةِ، وَيَعْرِفُ مَا فِيهَا مِنَ الْكَذِبِ. فَهَلْ نَقُولُ: إِنَّهُ غَيْرُ عَالِمٍ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: (وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ)(25: 72) وَقَوْلِهِ: (إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ)
(16: 105) وَبِمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا
مِنْ حَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ وَكَانَ مُتَّكِئًا ((أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ؟ الْإِشْرَاكِ بِاللهِ وَعُقُوقِ الْوَالِدَيْنِ - ثُمَّ قَعَدَ فَقَالَ - أَلَا وَقَوْلُ الزُّورِ وَشَهَادَةُ الزُّورِ، فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى قُلْنَا لَيْتَهُ سَكَتَ)) . وَبِمَا رَوَيَاهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا أَيْضًا ((آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ، إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ)) ، وَفِي رِوَايَةٍ لِغَيْرِهِمَا:((ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ فَهُوَ مُنَافِقٌ وَإِنْ صَامَ وَصَلَّى وَحَجَّ وَاعْتَمَرَ وَقَالَ إِنَّهُ مُسْلِمٌ)) ، وَذَكَرَهُنَّ.
بَلَى إِنَّهُ عَالِمٌ بِكُلِّ ذَلِكَ وَلَكِنَّهُ التَّأْوِيلُ أَفْسَدَ عَلَى كُلِّ أَهْلِ دِينٍ دِينَهُمْ.
أَقُولُ: أَشَارَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ إِلَى مَا كَانَ مِنْ إِقْدَامِ هَذَا الْعَالِمِ الْعَابِدِ عَلَى شَهَادَةِ الزُّورِ وَاسْتِحْلَالِهَا بِتِلْكَ الْحِيلَةِ السَّخِيفَةِ، وَذَكَرَ أَمْثِلَةً أُخْرَى، وَقَدْ تَذَكَّرْتُ عِنْدَ كِتَابَةِ الْحَدِيثِ فِي الْمُنَافِقِينَ أَنَّ بَعْضَ شُيُوخِ الْأَزْهَرِ الْمَعْرُوفِينَ كَانَ وَعَدَنِي وَعْدًا وَأَخْلَفَ، فَسَأَلْتُهُ بِهِ فَقَالَ: إِنَّ فُقَهَاءَنَا الْحَنَفِيَّةَ قَالُوا بِأَنَّ الْوَفَاءَ بِالْوَعْدِ غَيْرُ وَاجِبٍ، فَقُلْتُ وَقَدْ تَمَيَّزْتُ مِنَ الْغَيْظِ: إِنَّ مَنْ يَقُولُ هَذَا الْقَوْلَ بَعْدَ مَا وَرَدَ مِنَ النُّصُوصِ الصَّرِيحَةِ فِي الْوَفَاءِ وَفِي الْوَعِيدِ عَلَى تَرْكِهِ فَهُوَ مُخْطِئٌ، وَقَوْلُهُ مَرْدُودٌ كَمَا وَرَدَ فِي الصَّحِيحِ (بَلْ قُلْتُ أَكْثَرَ مِنْ هَذَا) وَإِنَّنِي أُبَرِّئُ الْأَئِمَّةَ مِنَ الْقَوْلِ بِحِلِّ إِخْلَافِ الْوَعْدِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ صَحِيحٍ، وَلَكِنَّنِي أَعْذُرُ الْفُقَهَاءَ إِذَا قَالُوا بِأَنَّهُ لَيْسَ لِلْقَاضِي أَنْ يَحْكُمَ عَلَى مَنْ وَعَدَ بِالْوَفَاءِ وَيُلْزِمَهُ ذَلِكَ إِلْزَامًا، وَلَا أَعْذُرُ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ الْوَفَاءَ مُسْتَحَبٌّ وَتَرْكُهُ جَائِزٌ، وَإِنْ كَانَ هُوَ الْمَعْرُوفَ فِي أَكْثَرِ كُتُبِ الْفِقْهِ الْمُتَدَاوَلَةِ.
وَلَقَدْ صَارَ الْعَالَمُ الْمُسْلِمُ عَاجِزًا فِي أَكْبَرِ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ عَنْ إِنْكَارِ مَا يُخَالِفُ هَدْيَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْ كُتُبِ الْمَيِّتِينَ وَلَا سِيَّمَا إِذَا اشْتَهَرُوا بِاخْتِيَارِ كُتُبِهِمْ لِلتَّدْرِيسِ، وَحُجَّةُ هَؤُلَاءِ الْمُقَلِّدِينَ عَلَى نَصْرِ كُتُبِ الْمَيِّتِينَ وَتَرْجِيحِهَا عَلَى كِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ هِيَ أَنَّ الْقَادِرِينَ عَلَى الْاهْتِدَاءِ بِهِمَا قَدِ انْقَرَضُوا، فَوَجَبَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ تَرْكُ الْعَمَلِ بِهِمَا، وَالْاعْتِمَادُ عَلَى كُتُبِ الْعُلَمَاءِ الْمُتَأَخِّرِينَ الَّذِينَ اسْتَنْبَطُوا مِنْ قَوَاعِدِ أَئِمَّتِهِمْ جَمِيعَ مَسَائِلِ الدِّينِ، فَعَلَيْنَا أَنْ نَأْخُذَ بِكُلِّ مَا قَالُوا، وَأَلَّا نَنْظُرَ فِي الْكِتَابِ إِلَّا لِلتَّبَرُّكِ بِهِمَا، فَإِنْ رَأَيْنَا خِلَافًا بَيْنَ قَوْلِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَقَوْلِ الْفَقِيهِ لَا يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ، فَعَلَيْنَا أَنْ نَتَّهِمَ عُقُولَنَا وَأَفْهَامَنَا، وَنُنَزِّهَ فَهْمَ الْفَقِيهِ الْمَيِّتِ وَعَقْلَهُ، وَنَعْمَلَ بِقَوْلِهِ مُكَابِرِينَ
أَنْفُسَنَا الَّتِي سُجِّلَ عَلَيْهَا الْحِرْمَانُ مِنْ فَهْمِ الْكِتَابِ الْمُبِينِ وَالسُّنَّةِ الْبَيْضَاءِ الَّتِي وَصَفَهَا صَاحِبُهَا بِأَنَّ لَيْلَهَا كَنَهَارِهَا أَيْ لَا يَشْتَبِهُ فِيهَا أَحَدٌ! ! ! هَذَا مَا عَلَيْهِ جَمَاهِيرُ الْمُسْلِمِينَ، وَلَمْ يَبْعُدْ مَنْ قَبْلَهُمْ عَنْ كِتَابِ رَبِّهِمْ أَشَدَّ مِنْ هَذَا الْبُعْدِ، وَسَيَعُودُونَ إِلَيْهِ بَعْدَ حِينٍ، فَقَدْ أَخَذَهُمُ الْعَذَابُ عَلَى تَرْكِهِ (وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) (30: 47) .
ثُمَّ قَالَ - تَعَالَى -: (وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ خَيْرٌ) أَيْ لَوْ أَنَّهُمُ اسْتَبْدَلُوا الْإِيْمَانَ بِمَا جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِهَذَا السِّحْرِ الْخَادِعِ وَاتِّبَاعِ نَزَغَاتِ الشَّيَاطِينِ، أَوْ لَوْ آمَنُوا بِكِتَابِهِمْ إِيْمَانًا حَقِيقِيًّا - وَمِنْهُ الْبِشَارَةُ بِالنَّبِيِّ وَالْأَمْرُ بِاتِّبَاعِهِ - وَاتَّقَوْا بِالْعَمَلِ بِهِ وَالْمُحَافَظَةِ عَلَى حُدُودِهِ
مَغَبَّةَ مَا يَنْتَظِرُهُ الْمُجْرِمُونَ مِنَ الْعُقُوبَةِ عَلَى الْعِصْيَانِ، لَكَانَ ثَوَابُ اللهِ لَهُمْ عَلَى الْإِيْمَانِ الصَّحِيحِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ خَيْرًا لَهُمْ مِنْ جَمِيعِ مَا تَوَهَّمُوهُ فِي الْمُخَالَفَةِ مِنَ الْمَنَافِعِ. ثُمَّ قَالَ:(لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) أَيْ إِنَّهُمْ فِي كُلِّ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْأَبَاطِيلِ، وَمِنْ زَعْمِهِمْ أَنَّهَا تَرْجِعُ إِلَى الْكِتَابِ بِضُرُوبٍ مِنَ التَّأْوِيلِ، يَتَّبِعُونَ الظُّنُونَ وَيَعْتَمِدُونَ عَلَى التَّقْلِيدِ، وَلَيْسُوا عَلَى شَيْءٍ مِنَ الْعِلْمِ الصَّحِيحِ، وَلَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ عِلْمًا صَحِيحًا لَظَهَرَ أَثَرُهُ فِي أَعْمَالِهِمْ وَلَآمَنُوا بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَاتَّبَعُوهُ فَكَانُوا مِنَ الْمُفْلِحِينَ.
وَمِنْ مَبَاحِثِ اللَّفْظِ فِي الْآيَاتِ: أَنَّ بَابِلَ بَلْدَةٌ قَدِيمَةٌ كَانَتْ فِي سَوَادِ الْكُوفَةِ (قَبْلَ الْكُوفَةِ) فِي أَشْهَرِ أَقْوَالِ الْمُفَسِّرِينَ، وَيُؤْخَذُ مِنْ بَعْضِ كُتُبِ التَّارِيخِ أَنَّهَا كَانَتْ فِي الْجَانِبِ الشَّرْقِيِّ مِنْ نَهْرِ الْفُرَاتِ بَعِيدَةً عَنْهُ، وَيُقَالُ: إِنَّ أَصْلَ اشْتِقَاقِهَا فِي الْعِبْرَانِيَّةِ يَدُلُّ عَلَى الْخَلْطِ، إِشَارَةً إِلَى مَا يَرْوِيهِ الْعِبْرَانِيُّونَ مِنِ اخْتِلَاطِ الْأَلْسِنَةِ هُنَاكَ. وَهَارُوتُ وَمَارُوتُ اسْمَانِ أَعْجَمِيَّانِ، وَلَوْ كَانَا مُشْتَقَّيْنِ مِنَ الْهَرْتِ وَالْمَرْتِ كَمَا زَعَمَ بَعْضُهُمْ لَمَا مُنِعَا مِنَ الصَّرْفِ، وَ (مِنْ) فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -:(وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ) لِاسْتِغْرَاقِ النَّفْيِ وَتَأَكُّدِهِ، وَقَدْ شَدَّدَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ كَعَادَتِهِ الْإِنْكَارَ عَلَى مَنْ قَالَ إِنَّهَا زَائِدَةٌ، وَقَالَ: إِنَّمَا الزَّائِدَةُ مَا يُذْكَرُ لِلتَّحْلِيَةِ وَلَا يَكُونُ لَهُ مَعْنًى مَا وِفَاقًا لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ، وَالْمَثُوبَةُ الثَّوَابُ، وَ (لَمَثُوبَةٌ) خَبَرُ (لَوْ)، قَالَ الْأُسْتَاذُ: أَيْ لَكَانَتْ مَثُوبَةٌ مِنَ اللهِ خَيْرًا.
وَقَدْ قَدَّرُوا لَهَا فِعْلًا فَقَالُوا: الْأَصْلُ لَأُثِيبُوا مَثُوبَةً، فَحُذِفَ الْفِعْلُ وَرُكِّبَ الْبَاقِي جُمْلَةً اسْمِيَّةً لِيَدُلَّ عَلَى ثَبَاتِ الْمَثُوبَةِ، وَنُكِّرَتْ لِبَيَانِ أَنَّهَا مَهْمَا قَلَّتْ فَهِيَ خَيْرٌ لَهُمْ، وَأَصْلُهَا الثَّوْبُ بِمَعْنَى الرُّجُوعِ، كَأَنَّ الْمُحْسِنَ يَثُوبُ إِلَى مَنْ أَحْسَنَ إِلَيْهِ بَعْدَ الْإِعْرَاضِ.
(يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ)
أَقُولُ: هَذَا خِطَابٌ لِلْمُؤْمِنِينَ فِي أَمْرٍ لَهُ عِلَاقَةٌ بِمَا كَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْيَهُودِ، فَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِمَاضِي السِّيَاقِ الْخَاصِّ بِبَنِي إِسْرَائِيلَ، وَبَدْءِ انْتِقَالٍ مِنْهُ إِلَى سِيَاقٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى جَمِيعًا فِي أَمْرِ الدِّينِ. وَ (رَاعِنَا) كَلِمَةٌ كَانَتْ تَدُورُ عَلَى أَلْسِنَةِ الصَّحَابَةِ فِي خِطَابِ النَّبِيِّ
صلى الله عليه وسلم.
وَالْمَعْنَى الْمُتَبَادِرُ مِنْهَا لُغَةً هُوَ: رَاعِنَا سَمْعَكَ وَهُوَ كَأَرْعِنَا سَمْعَكَ: أَيِ اسْمَعْ لَنَا مَا نُرِيدُ أَنْ نَسْأَلَ عَنْهُ وَنُرَاجِعَكَ الْقَوْلَ فِيهِ لِنَفْهَمَهُ عَنْكَ، أَوْ رَاقِبْنَا وَانْتَظِرْ مَا يَكُونُ مِنْ شَأْنِنَا فِي حِفْظِ مَا تُلْقِيهِ عَلَيْنَا وَفَهْمِهِ. قَالَ فِي مَجَازِ الْأَسَاسِ: وَرَاعَيْتُ الْأَمْرَ - نَظَرْتُ إِلَامَ يَصِيرُ وَأَنَا أُرَاعِي فُلَانًا - أَنْظُرُ مَاذَا يَفْعَلُ، وَأَرْعَيْتُهُ سَمْعِي، وَأَرْعِنِي سَمْعَكَ، وَرَاعِنِي سَمْعَكَ اهـ. وَلَكِنَّ اللهَ - تَعَالَى - نَهَى الْمُؤْمِنِينَ عَنْ قَوْلِ هَذِهِ الْكَلِمَةِ، وَالْمَشْهُورُ فِي كُتُبِ التَّفْسِيرِ أَنَّ سَبَبَ ذَلِكَ هُوَ أَنَّ الْيَهُودَ سَمِعُوهَا فَافْتَرَصُوهَا وَصَارُوا يُخَاطِبُونَ بِهَا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَاوِينَ أَلْسِنَتَهُمْ بِهَا لِتُوَافِقَ كَلِمَةَ شَتْمٍ بِلِسَانِهِمُ الْعِبْرَانِيِّ. قِيلَ: كَانُوا يَنْطِقُونَ بِهَا " رَاعَيْنَا " وَقِيلَ: كَانُوا يُرِيدُونَ بِتَحْرِيفِهَا نِسْبَتَهُ إِلَى الرُّعُونَةِ، وَفِي سُورَةِ النِّسَاءِ (مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ) (4: 46) الْآيَةَ.
(الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ) : إِنَّ هَذَا النَّهْيَ لَهُ صِلَةٌ وَارْتِبَاطٌ بِشَأْنِ الْيَهُودِ لَا مَحَالَةَ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ لَا يَزَالُ فِي شُئُونِهِمْ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالْمُؤْمِنِينَ، وَلَكِنَّ هَذَا لَا يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونَ سَبَبُ النَّهْيِ هُوَ كَوْنُ الْكَلِمَةِ تُسْتَعْمَلُ لِلشَّتْمِ فِي الْعِبْرَانِيَّةِ، وَلَا أَقُولُ بِهَذَا إِلَّا بِنَقْلٍ صَحِيحٍ
عَمَّنْ يَعْرِفُ هَذِهِ اللُّغَةَ، وَلِلْمُفَسِّرِينَ وُجُوهٌ أُخْرَى فِي تَعْلِيلِ النَّهْيِ، فَعَنْ مُجَاهِدٍ وَغَيْرِهِ أَنَّ مَعْنَى الْكَلِمَةِ " خِلَافٌ " وَالْمُرَادُ لَا تُخَالِفُوهُ كَمَا يَفْعَلُ أَهْلُ الْكِتَابِ، وَلَكِنِ اعْتُرِضَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ بِأَنْ لَيْسَ لَهُ شَاهِدٌ مِنَ اللُّغَةِ. وَالْمَعْرُوفُ فِي اللُّغَةِ أَنَّ (رَاعِنَا) مِنَ الْمُرَاعَاةِ. وَهِيَ تَقْتَضِي الْمُشَارَكَةَ فِي الرِّعَايَةِ أَيِ ارْعَنَا نَرْعَكَ، وَفِي خِطَابِ النَّبِيِّ بِذَلِكَ مِنْ سُوءِ الْأَدَبِ مَا هُوَ ظَاهِرٌ، فَالنَّهْيُ عَنْهُ تَأْدِيبٌ كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -:(يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ)(49: 2) كَأَنَّهُ يَقُولُ: لَا تَكُونُوا كَهَؤُلَاءِ الْغِلَاظِ الْقُلُوبِ الَّذِينَ قَصَصْنَا عَلَيْكُمْ خَبَرَهُمْ، أَوِ الَّذِينَ عَرَفْتُمْ سُوءَ أَدَبِهِمْ مَعَ الْأَنْبِيَاءِ، بَلِ اجْمَعُوا بَيْنَ الطَّاعَةِ وَالْأَدَبِ.
(قَالَ) : وَهَا هُنَا وَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّهُ يُقَالُ فِي اللُّغَةِ: رَاعَى الْحِمَارُ الْحُمُرَ إِذَا رَعَى مَعَهَا، فَيَجُوزُ أَنَّ الْيَهُودَ كَانُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَةَ بِصَرْفِهَا إِلَى هَذَا الْمَعْنَى، فَنَهَى اللهُ الْمُسْلِمِينَ عَنْ هَذِهِ الْكَلِمَةِ، وَشَنَّعَ عَلَى الْيَهُودِ بِإِظْهَارِ سُوءِ قَصْدِهِمْ فِيهَا، وَقَدْ رَضُوا بِصَرْفِ اللَّفْظِ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى وَإِنْ كَانَ يَتَضَمَّنُ أَنَّهُمْ حُمُرٌ؛ لِأَنَّ السَّبَّابَ يَسُبُّ نَفْسَهُ كَمَا يَسُبُّ غَيْرَهُ فَهُوَ عَلَى حَدِّ قَوْلِ الْقَائِلِ:
اقْتُلُونِي وَمَالِكًا
…
وَاقْتُلُوا مَالِكًا مَعِي
قَالَ - تَعَالَى -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا) ، نَهَاهُمْ - تَعَالَى - عَنْ كَلِمَةٍ كَانُوا يَقُولُونَهَا وَأَمَرَهُمْ بِكَلِمَةٍ خَيْرٍ مِنْهَا تُفِيدُ مَا كَانُوا يُرِيدُونَهُ مِنْهَا. فَكَلِمَةُ (انْظُرْنَا) تُفِيدُ مَعْنَى كَلِمَةِ (رَاعِنَا) فَإِنَّ فِيهَا مَعْنَى الْإِنْظَارِ وَالْإِمْهَالِ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا الْمَعْنَى قِرَاءَةُ (انْظِرْنَا) مِنَ الْإِنْظَارِ، وَفِيهَا مَعْنَى الْمُرَاقَبَةِ وَهُوَ مَا يُسْتَفَادُ مِنَ النَّظَرِ بِالْعَيْنِ. تَقُولُ: نَظَرْتُ الشَّيْءَ
وَنَظَرْتَ إِلَيْهِ إِذَا وَجَّهْتَ إِلَيْهِ بَصَرَكَ وَرَأَيْتَهُ، وَتَقُولُ: نَظَرْتُهُ بِمَعْنَى انْتَظَرْتُهُ وَمِنْهُ (مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً)(36: 49) أَذِنَ اللهُ - تَعَالَى - لَهُمْ بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ (انْظُرْنَا) وَأَمَرَهُمْ بِالسَّمَاعِ لِلنَّبِيِّ لِيَعُوا عَنْهُ مَا يَقُولُ مِنَ الدِّينِ وَهُوَ أَمْرٌ يَتَضَمَّنُ الطَّاعَةَ وَالِاسْتِجَابَةَ. ثُمَّ خَتَمَ الْآيَةَ بِقَوْلِهِ: (وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ) لِبَيَانِ أَنَّ مَا صَدَرَ عَنِ الْيَهُودِ مِنْ سُوءِ الْأَدَبِ فِي خِطَابِ الرَّسُولِ هُوَ أَثَرٌ مِنْ آثَارِ الْكُفْرِ الَّذِي يُعَذَّبُونَ عَلَيْهِ الْعَذَابَ الْمُوجِعَ أَشَدَّ الْإِيجَاعِ، وَلِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ التَّقْصِيرَ
فِي الْأَدَبِ مَعَهُ صلى الله عليه وسلم ذَنْبٌ مُجَاوِرٌ لِلْكُفْرِ يُوشِكُ أَنْ يَجُرَّ إِلَيْهِ، فَيَجِبُ الْاحْتِرَاسُ مِنْهُ بِتَرْكِ الْأَلْفَاظِ الْمُوهِمَةِ لِلْمُسَاوَاةِ، بَلْهَ الْأَلْفَاظِ الْمُنَافِيَةِ لِلْآدَابِ.
أَقُولُ: لَا شَكَّ أَنَّ مَنْ يُعَامِلُ أُسْتَاذَهُ وَمُرْشِدَهُ مُعَامَلَةَ الْمُسَاوَاةِ فِي الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ، يَقِلُّ احْتِرَامُهُ لَهُ وَتَزُولُ هَيْبَتُهُ مِنْ نَفْسِهِ حَتَّى تَقِلَّ الِاسْتِفَادَةُ مِنْهُ أَوْ تَعْدَمَ، وَإِذَا لَمْ تَزُلِ الِاسْتِفَادَةُ مِنْهُ مِنْ حَيْثُ كَوْنِهِ مُعَلِّمًا، فَإِنَّهَا تَقِلُّ وَتَزُولُ لَا مَحَالَةَ مِنْ حَيْثُ كَوْنِهِ مُرَبِّيًا؛ لِأَنَّ الْمَدَارَ فِي التَّرْبِيَةِ عَلَى التَّأَسِّي وَالْقُدْوَةِ، وَمَنْ أَرَاهُ مِثْلِي لَا أَرْضَاهُ إِمَامًا وَقُدْوَةً لِي، فَإِنْ رَضِيتُهُ بِالْمُوَاضَعَةِ وَالتَّقْلِيدِ وَكَذَّبَتْنِي الْمُعَامَلَةُ، فَأَيُّ قِيمَةٍ لِهَذَا الرِّضَى، وَالْعِبْرَةُ بِمَا فِي الْوَاقِعِ وَنَفْسِ الْأَمْرِ، وَهُوَ أَنَّ مَنِ اعْتَقَدَ أَنَّ امْرَأً فَوْقَهُ عِلْمًا وَكَمَالًا، وَأَنَّهُ فِي حَاجَةٍ لِلِاسْتِفَادَةِ مِنْ عِلْمِهِ وَإِرْشَادِهِ وَمِنْ أَخْلَاقِهِ وَآدَابِهِ، فَإِنَّهُ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُسَاوِيَ نَفْسَهُ بِهِ فِي الْمُعَامَلَةِ الْقَوْلِيَّةِ وَلَا الْفِعْلِيَّةِ، إِلَّا مَا يَكُونُ مِنْ فَلَتَاتِ اللِّسَانِ وَمِنَ اللَّمَمِ، وَعَنْ مِثْلِ هَذَا نَهَى الصَّحَابَةُ رضي الله عنهم؛ لِئَلَّا يَجُرَّهُمُ الْأُنْسُ بِهِ صلى الله عليه وسلم وَكَرَمُ أَخْلَاقِهِ إِلَى تَعَدِّي حُدُودِ الْأَدَبِ الْوَاجِبِ مَعَهُ الَّذِي لَا تَكْمُلُ التَّرْبِيَةُ إِلَّا بِكَمَالِهِ، وَهُوَ - تَعَالَى - يَقُولُ:(لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ)(33: 21) الْآيَةَ.
(الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ) : إِنَّمَا كَانَ عَدَمُ الْإِصْغَاءِ لِمَا يَقُولُهُ الرَّسُولُ عليه الصلاة والسلام وَخِطَابُهُ خِطَابُ الْأَكْفَاءِ وَالنُّظَرَاءِ مُجَاوِرًا لِلْكُفْرِ؛ لِأَنَّهُ يَتَكَلَّمُ عَنِ اللهِ عز وجل لِسَعَادَةِ مَنْ يَسْمَعُ وَيَعْقِلُ وَيَأْخُذُ مَا يُؤْمَرُ بِهِ بِالْأَدَبِ وَيَسْأَلُ عَمَّا لَا يَفْهَمُهُ بِالْأَدَبِ، وَمَنْ فَاتَتْهُ هَذِهِ السَّعَادَةُ فَهُوَ الشَّقِيُّ الَّذِي لَا يُعْدَلُ بِشَقَائِهِ شَقَاءٌ. وَمَعْنَى هَذِهِ الْمُجَاوَرَةِ أَنَّ سُوءَ الْأَدَبِ بِنَحْوِ مَا حُكِيَ عَنِ الْيَهُودِ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ، هُوَ مِنَ الْكُفْرِ الصَّرِيحِ، وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْدَهُ:(وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا)(4: 46) فَالْأَلْفَاظُ الَّتِي تُحَاكِي الْأَلْفَاظَ الَّتِي تُوُعِّدُوا عَلَيْهَا بِهَذَا الْوَعِيدِ عَلَى أَنَّهَا كُفْرٌ إِذَا صَدَرَتْ مِنَ الْمُؤْمِنِ غَيْرَ مُحَرَّفَةٍ وَلَا مَقْصُودًا بِهَا مَا كَانُوا يَقْصِدُونَ، تُسَمَّى مُجَاوِرَةً لِأَلْفَاظِ الْكُفْرِ؛ لِأَنَّهَا مُوهِمَةٌ وَخَارِجَةٌ عَنْ حُدُودِ الْأَدَبِ اللَّائِقِ بِالْمُؤْمِنِينَ.
(قَالَ) : إِنَّ لِمَنْ جَاءَ بَعْدَ الرَّسُولِ حَظًّا مِنْ هَذَا التَّأْدِيبِ، وَلَيْسَ هُوَ خَاصًّا
بِمَنْ كَانَ فِي عَصْرِهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، فَهَذَا كِتَابُ اللهِ الَّذِي كَانَ يَتْلُوهُ عَلَيْهِمْ، وَكَانَ يَجِبُ الِاسْتِمَاعُ لَهُ وَالْإِنْصَاتُ لِأَجْلِ تَدَبُّرِهِ، هُوَ الَّذِي يُتْلَى عَلَيْنَا بِعَيْنِهِ، لَمْ يَذْهَبْ مِنْهُ شَيْءٌ، وَهُوَ كَلَامُ اللهِ الَّذِي بِهِ
كَانَ الرَّسُولُ رَسُولًا تَجِبُ طَاعَتُهُ وَالْاهْتِدَاءُ بِهَدْيِهِ، فَمَا هَذَا الْأَدَبُ الَّذِي يُقَابِلُهُ بِهِ الْأَكْثَرُونَ؟ إِنَّهُمْ يَلْغَطُونَ فِي مَجْلِسِ الْقُرْآنِ، فَلَا يَسْتَمِعُونَ وَلَا يُنْصِتُونَ، وَمَنْ أَنْصَتَ وَاسْتَمَعَ فَإِنَّمَا يُنْصِتُ طَرَبًا بِالصَّوْتِ وَاسْتِلْذَاذًا بِتَوْقِيعِ نَغَمَاتِ الْقَارِئِ، وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ فِي اسْتِحْسَانِ ذَلِكَ وَاسْتَجَادَتِهِ مَا يَقُولُونَهُ فِي مَجَالِسِ الْغِنَاءِ، وَيَهْتَزُّونَ لِلتِّلَاوَةِ وَيُصَوِّتُونَ بِأَصْوَاتٍ مَخْصُوصَةٍ، كَمَا يَفْعَلُونَ عِنْدَ سَمَاعِ الْغِنَاءِ بِلَا فَرْقٍ، وَلَا يَلْتَفِتُونَ إِلَى شَيْءٍ مِنْ مَعَانِيهِ إِلَّا مَا يَرَوْنَهُ مَدْعَاةً لِسُرُورِهِمْ فِي مِثْلِ قِصَّةِ يُوسُفَ عليه السلام مَعَ الْغَفْلَةِ عَمَّا فِيهَا مِنَ الْعِبْرَةِ وَإِعْلَاءِ شَأْنِ الْفَضِيلَةِ وَلَا سِيَّمَا الْعِفَّةُ وَالْأَمَانَةُ، أَلَيْسَ هَذَا أَقْرَبَ إِلَى الِاسْتِهَانَةِ بِالْقُرْآنِ مِنْهُ بِالْأَدَبِ اللَّائِقِ الَّذِي تُرْشِدُ إِلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ وَأَمْثَالُهَا، وَتَتَوَعَّدُ عَلَى تَرْكِهِ بِجَعْلِهِ مُجَاوِرًا لِلْكُفْرِ الَّذِي يَسُوقُ صَاحِبَهُ إِلَى الْعَذَابِ الْأَلِيمِ:(أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ)(23: 68، 69) ؟ .
ثُمَّ قَالَ - تَعَالَى -: (مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ) يَقُولُ - تَعَالَى - لِلْمُؤْمِنِينَ: إِنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ عَلِمْتُمْ شَأْنَهُمْ مَعَ أَنْبِيَائِهِمْ حَسَدَةٌ لَا يُلْتَفَتُ إِلَى تَكْذِيبِهِمْ وَلَا يُبَالَى بِعُدْوَانِهِمْ، وَلَا يَضُرُّكُمْ كُفْرُهُمْ وَعِنَادُهُمْ، فَهُمْ لِحَسَدِهِمْ لَا يَوَدُّونَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ أَدْنَى خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ، وَالْقُرْآنُ أَعْظَمُ الْخَيْرَاتِ؛ لِأَنَّهُ النِّظَامُ الْكَامِلُ، وَالْفَضْلُ الشَّامِلُ، وَالْهِدَايَةُ الْعُظْمَى، وَالْآيَةُ الْكُبْرَى، جَمَعَ بِهِ شَمْلَكُمْ، وَوَصَلَ حَبْلَكُمْ، وَوَحَّدَ شُعُوبَكُمْ وَقَبَائِلَكُمْ، وَطَهَّرَ عُقُولَكُمْ مِنْ نَزَغَاتِ الْوَثَنِيَّةِ، وَزَكَّى نُفُوسَكُمْ مِنْ أَدْرَانِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَأَقَامَكُمْ عَلَى سُنَنِ الْفِطْرَةِ، وَشَرَعَ لَكُمُ الْحَنِيفِيَّةَ السَّمْحَةَ، فَكَيْفَ لَا يَحْرِقُ الْحَسَدُ عَلَيْهِ أَكْبَادَهُمْ وَيُخْرِجُ أَضْغَانَهُمْ عَلَيْكُمْ وَأَحْقَادَهُمْ؟ .
(أَقُولُ) الْوُدُّ مَحَبَّةُ الشَّيْءِ، وَتَمَنِّي وُقُوعِهِ، يُطْلَقُ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا قَصْدًا، وَعَلَى الْآخَرِ تَبَعًا. وَيَكُونُ مَفْعُولُ الْأَوَّلِ مُفْرَدًا وَالثَّانِي جُمْلَةً، وَنَفْيُهُ بِمَعْنَى الْكَرَاهَةِ، فَالْمَعْنَى:
مَا يُحِبُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَلَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ أَدْنَى خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ، أَمَّا أَهْلُ الْكِتَابِ وَلَا سِيَّمَا الْيَهُودُ فَلِحَسَدِهِمْ لِلْعَرَبِ أَنْ يَكُونَ فِيهِمُ الْكِتَابُ وَالنُّبُوَّةُ، وَهُوَ مَا كَانُوا يَحْتَكِرُونَهُ لِأَنْفُسِهِمْ، وَأَمَّا الْمُشْرِكُونَ فَلِأَنَّ فِي التَّنْزِيلِ الْمَرَّةَ بَعْدَ الْمَرَّةِ مِنْ قُوَّةِ الْإِسْلَامِ وَرُسُوخِهِ وَانْتِشَارِهِ مَا خَيَّبَ آمَالَهُمْ فِي تَرَبُّصِهِمُ الدَّوَائِرَ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَانْتِهَاءِ أَمْرِهِ.
ثُمَّ إِنَّ اللهَ - تَعَالَى - رَدَّ عَلَيْهِمْ بِمَا بَيَّنَ جَهْلَهُمْ وَجَهْلَ جَمِيعِ الْحَاسِدِينَ فَقَالَ: (وَاللهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) ، أَيْ أَنَّ الْحَاسِدَ لِغَبَاوَتِهِ وَفَسَادِ طَوِيَّتِهِ يَكُونُ سَاخِطًا عَلَى اللهِ - تَعَالَى - وَمُعْتَرِضًا عَلَيْهِ أَنْ أَنْعَمَ عَلَى الْمَحْسُودِ بِمَا أَنْعَمَ، وَلَا يَضُرُّ اللهَ - تَعَالَى - سُخْطُ السَّاخِطِينَ، وَلَا يُحَوِّلُ مَجَارِيَ نِعَمِهِ حَسَدُ الْحَاسِدِينَ، فَاللهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ، وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ
الْعَظِيمِ - أَسْنَدَ كُلًّا مِنْ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ إِلَى اسْمِ الذَّاتِ الْأَعْظَمِ لِبَيَانِ أَنَّهُمَا حَقُّهُ لِذَاتِهِ، فَلَيْسَ لِأَحَدٍ مِنْ عَبِيدِهِ أَدْنَى تَأْثِيرٍ فِي مَنْحِهِمَا وَلَا فِي مَنْعِهِمَا.
(مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ)
قَالَ أَئِمَّةُ اللُّغَةِ: إِنَّ أَصْلَ النَّسْخِ النَّقْلُ، سَوَاءً كَانَ نَقْلَ الشَّيْءِ بِذَاتِهِ كَمَا يُقَالُ: نَسَخَتِ الشَّمْسُ الظِّلَّ، أَيْ نَقَلَتْهُ مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ، أَوْ نَقْلَ صُورَتِهِ كَمَا يُقَالُ: نَسَخْتُ الْكِتَابَ، إِذَا نَقَلْتُ عَنْهُ صُورَةً مِثْلَ الْأُولَى، وَوَرَدَ: نَسَخَتِ الرِّيحُ الْأَثَرَ: أَيْ أَزَالَتْهُ. وَأَصْلُ النِّسْيَانِ التَّرْكُ أَوْ هُوَ غَايَتُهُ اللَّازِمَةُ لَهُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: (أَتَتْكَ
آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى) (20: 126) أَيْ تَرَكْتَهَا بِتَرْكِ الْعَمَلِ بِهَا، فَجَزَاؤُكَ أَنْ تُتْرَكَ فِي الْعَذَابِ فَاحْفَظِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيَّ.
(مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا) .
(الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ) : لِلْمُفَسِّرِينَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ طَرِيقَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: (وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ)(16: 101) ، فَالنَّسْخُ هُنَا بِمَعْنَى التَّبْدِيلِ، أَيْ إِذَا جَعَلْنَا آيَةً بَدَلًا مِنْ آيَةٍ، فَإِنَّنَا نَجْعَلُ هَذَا الْبَدَلَ خَيْرًا مِنَ الْمُبْدَلِ مِنْهُ أَوْ مِثْلَهُ عَلَى الْأَقَلِّ، فَالْآيَةُ عِنْدَ هَؤُلَاءِ فِي نَسْخِ التِّلَاوَةِ، وَقَالُوا: إِنَّ الْمُرَادَ بِالنِّسْيَانِ هُوَ أَنْ يَأْمُرَ اللهُ - تَعَالَى - بِعَدَمِ تِلَاوَةِ الْآيَةِ فَتُنْسَى بِالْمَرَّةِ. (قَالَ) : وَهَذَا بِمَعْنَى التَّبْدِيلِ، فَمَا هِيَ الْفَائِدَةُ فِي عَطْفِهِ عَلَيْهِ بِ (أَوْ) ؟ وَهَلْ هُوَ إِلَّا تَكْرَارٌ يَجِلُّ كَلَامُ اللهِ عَنْهُ؟ .
وَثَانِيهِمَا: أَنَّ الْمُرَادَ نَسْخُ حُكْمِ الْآيَةِ، وَهُوَ عَامٌّ يَشْمَلُ نَسْخَ الْحُكْمِ وَحْدَهُ وَنَسْخَهُ مَعَ التِّلَاوَةِ، وَهَذَا هُوَ الْقَوْلُ الْمُخْتَارُ لِلْجُمْهُورِ، وَقَالُوا فِي تَوْجِيهِهِ: إِنَّهُ لَا مَعْنَى لِنَسْخِ الْآيَةِ فِي ذَاتِهَا وَلَا حَاجَةَ إِلَيْهِ. وَإِنَّمَا الْأَحْكَامُ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ وَالْأَحْوَالِ، فَإِذَا شُرِعَ حُكْمٌ فِي وَقْتٍ لِشِدَّةِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ، ثُمَّ زَالَتِ الْحَاجَةُ فِي وَقْتٍ آخَرَ، فَمِنَ الْحِكْمَةِ أَنْ يُنْسَخَ الْحُكْمُ وَيُبَدَّلَ بِمَا يُوَافِقُ الْوَقْتَ الْآخَرَ، فَيَكُونُ خَيْرًا مِنَ الْأَوَّلِ أَوْ مِثْلَهُ فِي فَائِدَتِهِ مِنْ حَيْثُ قِيَامُ الْمَصْلَحَةِ بِهِ. وَقَالُوا: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْإِنْسَاءِ إِزَالَةُ الْآيَةِ مِنْ ذَاكِرَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وآله وسلم وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي هَذَا: أَيَكُونُ
بَعْدَ التَّبْلِيغِ أَمْ قَبْلَهُ؟ فَقِيلَ: بَعْدَهُ كَمَا وَرَدَ فِي أَصْحَابِ بِئْرِ مَعُونَةَ وَقِيلَ:
قَبْلَهُ حَتَّى أَنَّ السُّيُوطِيَّ رَوَى فِي أَسْبَابِ النُّزُولِ أَنَّ الْآيَةَ كَانَتْ تَنْزِلُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وآله وسلم لَيْلًا فَيَنْسَاهَا نَهَارًا، فَحَزِنَ لِذَلِكَ فَنَزَلَتِ الْآيَةُ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَلَا شَكَّ عِنْدِي فِي أَنَّ هَذِهِ الرِّوَايَةَ مَكْذُوبَةٌ وَأَنَّ مِثْلَ هَذَا النِّسْيَانِ مُحَالٌ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ عليهم السلام؛ لِأَنَّهُمْ مَعْصُومُونَ فِي التَّبْلِيغِ، وَالْآيَاتُ الْكَرِيمَةُ نَاطِقَةٌ بِذَلِكَ كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -:(إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ)(75: 17) وَقَوْلِهِ: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)(15: 9) وَقَدْ قَالَ الْمُحَدِّثُونَ وَالْأُصُولِيُّونَ: إِنَّ مِنْ عَلَامَةِ وَضْعِ الْحَدِيثِ مُخَالَفَتَهُ لِلدَّلِيلِ الْقَاطِعِ عَقْلِيًّا كَانَ أَوْ نَقْلِيًّا، كَأُصُولِ الِاعْتِقَادِ وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مِنْهَا، فَإِنَّ هَذَا النِّسْيَانَ يُنَافِي الْعِصْمَةَ الْمُجْمَعَ عَلَيْهَا.
وَقَالُوا فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ - تَعَالَى - بَعْدَ مَا ذَكَرَ: (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أَنَّهُ وَرَدَ مَوْرِدَ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى الْقُدْرَةِ عَلَى النَّسْخِ بِالْمَعْنَى الَّذِي قَالُوهُ، أَيْ أَنَّهُ لَا يُسْتَنْكَرُ عَلَى اللهِ كَمَا زَعَمَ الْيَهُودُ؛ لِأَنَّهُ مِمَّا تَنَالُهُ قُدْرَتُهُ، ثُمَّ اسْتُدِلَّ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ:(أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) الْآيَةَ. وَالْخِطَابُ فِي (تَعْلَمْ) لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالْمُرَادُ بِهِ غَيْرُهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ رُبَّمَا كَانُوا يَمْتَعِضُونَ مِنْ كَلَامِ الْيَهُودِ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْمُعْتَرِضِينَ عَلَى النَّسْخِ، وَضَعِيفُ الْإِيْمَانِ يُؤَثِّرُ فِي نَفْسِهِ أَنْ يُعَابَ مَا يَأْخُذُ بِهِ، فَيُخْشَى عَلَيْهِ مِنَ الرُّكُونِ إِلَى الشُّبْهَةِ أَوِ الْحَيْرَةِ فِيهَا؛ فَفِي الْكَلَامِ تَثْبِيتٌ لِمَنْ كَانَ كَذَلِكَ مِنَ الضُّعَفَاءِ وَدَعْمٌ لِإِيْمَانِهِمْ، وَتَوْجِيهُ الْكَلَامِ إِلَى شَخْصٍ يُرَادُ غَيْرُهُ شَائِعٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ وَالْمُوَلِّدِينَ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: نَزَلَ الْقُرْآنُ عَلَى طَرِيقِ قَوْلِهِمْ: (إِيَّاكَ أَعْنِي وَاسْمَعِي يَا جَارَةُ) وَإِذَا كَانَ هَذَا الْمُلْكُ الْعَظِيمُ لِلَّهِ وَحْدَهُ، فَلَا شَكَّ أَنَّهُ لَا يُعْجِزُهُ أَنْ يَنْسَخَ حُكْمًا مِنَ الْأَحْكَامِ. وَمِنْ آيَةِ إِرَادَةِ الْأُمَّةِ بِالْخِطَابِ الِالْتِفَاتُ عَنِ الْأَفْرَادِ إِلَى الْجَمْعِ بِقَوْلِهِ:(وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ) أَيْ أَنَّ وَلِيَّكُمْ وَنَاصِرَكُمْ هُوَ اللهُ - تَعَالَى - وَحْدَهُ، فَلَا تُبَالُوا بِمَنْ يُنْكِرُ النَّسْخَ أَوْ يَعِيبُكُمْ بِهِ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَسْتَهْوِيَكُمْ إِنْكَارُهُمْ فَيُمِيلَكُمْ عَنْ دِينِكُمْ، فَإِنَّهُ لَا قِيمَةَ لَهُ وَلَا لِلْمُنْكِرِينَ إِذْ لَيْسَ فِي اسْتِطَاعَتِهِمْ أَنْ يَضُرُّوكُمْ أَوْ يَنْفَعُوكُمْ إِذَا كَانَ اللهُ هُوَ مَوْلَاكُمْ وَنَاصِرَكُمْ. وَإِذَا أَرَادَ اللهُ بِكُمْ سُوءًا فَلَا يَمْلِكُونَ أَنْ يَدْفَعُوهُ عَنْكُمْ.
ثُمَّ قَالَ - تَعَالَى -: (أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ) ،
وَهَذَا كَلَامٌ
جَدِيدٌ مُنْقَطِعٌ عَمَّا قَبْلَهُ وَقَالُوا: إِنَّ (أَمْ) هُنَا لِلِاسْتِفْهَامِ لَا لِلْإِضْرَابِ؛ لِأَنَّ أَمِ الَّتِي تُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى (بَلْ) يُقْصَدُ بِهَا الْإِضْرَابُ عَنِ الْكَلَامِ السَّابِقِ، وَلَا يَظْهَرُ الْإِضْرَابُ هُنَا. هَذَا مَا اخْتَارَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ مِنْ قَوْلِهِمْ.
(قَالَ) : وَاسْتَشْهَدُوا لِ (أَمِ) الِاسْتِفْهَامِيَّةِ بِقَوْلِ الشَّاعِرِ:
فَوَاللهِ لَا أَدْرِي أَهِنْدٌ تَقَوَّلَتْ
…
أَمِ الْقَوْمُ أَمْ كُلٌّ إِلَيَّ حَبِيبُ؟
وَبَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ يَقُولُونَ: إِنَّ (أَمْ) هَذِهِ مُنْقَطِعَةٌ لِلْإِضْرَابِ عَنْ عَدَمِ عِلْمِهِمْ بِالسَّابِقِ إِلَى الِاسْتِفْهَامِ عَنِ اقْتِرَاحِهِمْ، فَهِيَ تَتَضَمَّنُ الْإِضْرَابَ وَالِاسْتِفْهَامَ مَعًا، وَتَجِدُ (الْجَلَالَيْنِ) يُقَدِّرَانِ ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِهِمَا وَقَدْ قَدَّرَا فِيهِ هُنَا " بَلْ أَتُرِيدُونَ "، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمَعْنَى هُنَا: أَتُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سَأَلَ مُوسَى قَوْمُهُ تَبَرُّمًا وَإِعْنَاتًا؟ يُحَذِّرُ الْمُسْلِمِينَ مَا فَعَلَ أُولَئِكَ، وَقَدْ أَتْبَعَ التَّحْذِيرَ بِالْوَعِيدِ فَقَالَ:(وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ) أَيْ إِنَّ تَرْكَ الْآيَاتِ الْمَوْجُودَةِ وَالْإِعْرَاضَ عَنْهَا لِإِعْنَاتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِسُؤَالِ غَيْرِهَا لِتَكُونَ بَدَلًا مِنْهَا هُوَ مِنِ اخْتِيَارِ الْكُفْرِ عَلَى الْإِيْمَانِ وَاسْتِحْبَابِ الْعَمَى عَلَى الْهُدَى. وَبَدَّلَ وَتَبَدَّلَ وَاسْتَبْدَلَ يَدُلُّ عَلَى جَعْلِ شَيْءٍ فِي مَوْضِعِ آخَرَ بَدَلًا مِنْهُ، وَالْبَاءُ تُقْرَنُ بِالْمُبْدَلِ مِنْهُ لَا بِالْبَدَلِ كَمَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ فِي تَفْسِيرِ (أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ) (2: 61) .
(الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ) : هَذَا تَقْرِيرُ مَا جَرَى عَلَيْهِ الْمُفَسِّرُونَ فِي الْآيَاتِ، وَإِذَا وَازَنَّا بَيْنَ سِيَاقِ آيَةِ (مَا نَنْسَخْ) وَآيَةِ (وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ)، نَجِدُ أَنَّ الْأُولَى خُتِمَتْ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى -:(أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) وَالثَّانِيَةَ بِقَوْلِهِ: (وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ)(16: 101) الْآيَةَ، وَنَحْنُ نَعْلَمُ شِدَّةَ الْعِنَايَةِ فِي أُسْلُوبِ الْقُرْآنِ بِمُرَاعَاةِ هَذِهِ الْمُنَاسَبَاتِ، فَذِكْرُ الْعِلْمِ وَالتَّنْزِيلِ وَدَعْوَى الِافْتِرَاءِ فِي الْآيَةِ يَقْتَضِي أَنْ يُرَادَ بِالْآيَاتِ فِيهَا آيَاتُ الْأَحْكَامِ.
وَأَمَّا ذِكْرُ الْقُدْرَةِ وَالتَّقْرِيرُ بِهَا فِي الْآيَةِ الْأُولَى فَلَا يُنَاسِبُ مَوْضُوعَ الْأَحْكَامِ وَنَسْخِهَا، وَإِنَّمَا يُنَاسِبُ هَذَا ذِكْرَ الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ، فَلَوْ قَالَ:(أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)، لَكَانَ لَنَا أَنْ نَقُولَ: إِنَّهُ أَرَادَ نَسْخَ آيَاتِ الْأَحْكَامِ لِمَا اقْتَضَتْهُ الْحِكْمَةُ مِنِ انْتِهَاءِ الزَّمَنِ أَوِ الْحَالِ الَّتِي كَانَتْ فِيهَا تِلْكَ الْأَحْكَامُ مُوَافِقَةً لِلْمَصْلَحَةِ، وَقَدْ تَحَيَّرَ الْعُلَمَاءُ فِي فَهْمِ
الْإِنْسَاءِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرُوهُ حَتَّى قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ مَعْنَى (نُنْسِهَا) نَتْرُكُهَا عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ نَسْخٍ، وَأَنْتَ تَرَى هَذَا - وَإِنْ صَحَّ لُغَةً - لَا يَلْتَئِمُ مَعَ تَفْسِيرِهَا؛ إِذْ لَا مَعْنَى لِلْإِتْيَانِ بِخَيْرٍ مِنْهَا مَعَ تَرْكِهَا عَلَى حَالِهَا غَيْرَ مَنْسُوخَةٍ، (قَالَ) : وَالْمَعْنَى الصَّحِيحُ الَّذِي يَلْتَئِمُ مَعَ السِّيَاقِ إِلَى آخِرِهِ أَنَّ الْآيَةَ هُنَا هِيَ مَا يُؤَيِّدُ اللهُ - تَعَالَى - بِهِ الْأَنْبِيَاءَ مِنَ الدَّلَائِلِ عَلَى نُبُوَّتِهِمْ، أَيْ (مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ) نُقِيمُهَا دَلِيلًا عَلَى نُبُوَّةِ نَبِيٍّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ أَيْ نُزِيلُهَا
وَنَتْرُكُ تَأْيِيدَ نَبِيٍّ آخَرَ، أَوْ نُنْسِهَا النَّاسَ لِطُولِ الْعَهْدِ بِمَنْ جَاءَ بِهَا، فَإِنَّنَا بِمَا لَنَا مِنَ الْقُدْرَةِ الْكَامِلَةِ وَالتَّصَرُّفِ فِي الْمُلْكِ نَأْتِي بِخَيْرٍ مِنْهَا فِي قُوَّةِ الْإِقْنَاعِ وَإِثْبَاتِ النُّبُوَّةِ أَوْ مِثْلِهَا فِي ذَلِكَ. وَمَنْ كَانَ هَذَا شَأْنَهُ فِي قُدْرَتِهِ وَسَعَةِ مُلْكِهِ، فَلَا يَتَقَيَّدُ بِآيَةٍ مَخْصُوصَةٍ يَمْنَحُهَا جَمِيعَ أَنْبِيَائِهِ، وَالْآيَةُ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ هِيَ: الدَّلِيلُ وَالْحُجَّةُ وَالْعَلَامَةُ عَلَى صِحَّةِ الشَّيْءِ، وَسُمِّيَتْ جُمَلُ الْقُرْآنِ آيَاتٍ؛ لِأَنَّهَا بِإِعْجَازِهَا حُجَجٌ عَلَى صِدْقِ النَّبِيِّ، وَدَلَائِلُ عَلَى أَنَّهُ مُؤَيَّدٌ فِيهَا بِالْوَحْيِ مِنَ اللهِ عز وجل، وَمِنْ قَبِيلِ تَسْمِيَةِ الْخَاصِّ بِاسْمِ الْعَامِّ.
وَلَقَدْ كَانَ مِنْ يَهُودَ مَنْ يُشَكِّكُ فِي رِسَالَتِهِ عليه السلام بِزَعْمِهِمْ أَنَّ النُّبُوَّةَ مُحْتَكَرَةٌ لِشَعْبِ إِسْرَائِيلَ، وَلَقَدْ تَقَدَّمَتِ الْآيَاتُ فِي تَفْنِيدِ زَعْمِهِمْ هَذَا وَقَالُوا:(لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى)(28: 48) أَيْ مِنَ الْآيَاتِ، فَرَدَّ اللهُ - تَعَالَى - عَلَيْهِمْ فِي مَوَاضِعَ مِنْهَا قَوْلُهُ عز وجل بَعْدَ حِكَايَةِ قَوْلِهِمْ هَذَا:(أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ)(28: 48) . . . إِلَخْ، وَمِنْهَا هَذِهِ الْآيَاتُ، وَالْخِطَابُ فِيهَا لِلْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ كَانَ الْيَهُودُ يُرِيدُونَ تَشْكِيكَهُمْ كَأَنَّهُ يَقُولُ:
إِنَّ قُدْرَةَ اللهِ - تَعَالَى - لَيْسَتْ مَحْدُودَةً وَلَا مُقَيَّدَةً بِنَوْعٍ مَخْصُوصٍ مِنَ الْآيَاتِ أَوْ بِآحَادٍ مِنْهَا لَا تَتَنَاوَلُ غَيْرَهَا، وَلَيْسَتِ الْحُجَّةُ مَحْصُورَةً فِي الْآيَاتِ السَّابِقَةِ لَا تَتَعَدَّاهَا، بَلِ اللهُ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَأْتِيَ بِخَيْرٍ مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي أَعْطَاهَا مُوسَى وَبِمِثْلِهَا، فَإِنَّهُ لَا يُعْجِزُ قُدْرَتَهُ شَيْءٌ، وَلَا يَخْرُجُ عَنْ مُلْكِهِ شَيْءٌ، كَمَا أَنَّ رَحْمَتَهُ لَيْسَتْ مَحْصُورَةً فِي شَعْبٍ وَاحِدٍ فَيَخُصُّهُ بِالنُّبُوَّةِ وَيَحْصُرُ فِيهِ هِدَايَةَ الرِّسَالَةِ، كَلَّا إِنَّ رَحْمَتَهُ وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ، كَمَا أَنَّ قُدْرَتَهُ تَتَصَرَّفُ بِكُلِّ شَيْءٍ مِنْ مُلْكِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي لَا يُشَارِكُهُ فِيهِ مُشَارِكٌ، وَلَا يُنَازِعُهُ فِيهِ مُنَازِعٌ، فَيَكُونُ وَلِيًّا وَنَصِيرًا لِمَنْ كَفَرَ بِنِعَمِهِ وَانْحَرَفَ عَنْ سُنَنِهِ.
انْظُرْ كَيْفَ أَسْفَرَتِ الْبَلَاغَةُ عَنْ وَجْهِهَا فِي هَذَا الْمَقَامِ، فَظَهَرَ أَنَّ ذِكْرَ الْقُدْرَةِ
وَسَعَةَ الْمُلْكِ إِنَّمَا يُنَاسِبُ الْآيَاتِ بِمَعْنَى الدَّلَائِلِ دُونَ مَعْنَى الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ وَالْأَقْوَالِ الدَّالَّةِ عَلَيْهَا، مِنْ حَيْثُ هِيَ دَالَّةٌ عَلَيْهَا لَا مِنْ حَيْثُ هِيَ دَالَّةٌ عَلَى النُّبُوَّةِ. وَيَزِيدُ هَذَا سُفُورًا وَوُضُوحًا قَوْلُهُ عَقِبَهُ:(أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ) ؟ فَقَدْ كَانَ بَنُو إِسْرَائِيلَ لَمْ يَكْتَفُوا بِمَا أَعْطَى مُوسَى مِنَ الْآيَاتِ وَتَجَرَّءُوا عَلَى طَلَبِ غَيْرِهَا وَقَالُوا: (يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً)(2: 55)، وَكَذَلِكَ كَانَ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ كُلَّمَا رَأَوْا آيَةً طَلَبُوا غَيْرَهَا حَتَّى رَأَوْا تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلَمْ يُؤْمِنُوا. وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -:(كَمَا سُئِلَ مُوسَى) يَشْمَلُ كُلَّ ذَلِكَ.
قَدْ أَرْشَدَنَا اللهُ - تَعَالَى - بِهَذَا إِلَى أَنَّ التَّفَنُّنَ فِي طَلَبِ الْآيَاتِ، وَعَدَمَ الْإِذْعَانِ لِمَا يَجِيءُ بِهِ النَّبِيُّ مِنْهَا وَالِاكْتِفَاءُ بِهِ بَعْدَ الْعَجْزِ عَنْ مُعَارَضَتِهِ هُوَ دَأْبُ الْمَطْبُوعِينَ عَلَى الْكُفْرِ، الْجَامِدِينِ عَلَى الْمُعَانَدَةِ وَالْمُجَاحَدَةِ، فَإِنَّهُ قَالَ بَعْدَ إِنْكَارِ هَذَا الطَّلَبِ:(وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيْمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ) وَيُوَضِّحُ هَذَا قَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي آيَةٍ أُخْرَى (وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ)
(17: 59) ، وَالْمُرَادُ الْآيَاتُ الْمُقْتَرَحَةُ، بِدَلِيلِ السِّيَاقِ، وَهُوَ اتِّفَاقٌ بَيْنَ الْمُفَسِّرِينَ، وَلَوْ كَانَ الْمَوْضُوعُ مَوْضُوعَ طَلَبِ اسْتِبْدَالِ أَحْكَامٍ بِأَحْكَامٍ تَنْسَخُهَا، لَمَا كَانَ لِلتَّوَعُّدِ بِالْكُفْرِ وَجْهٌ وَجِيهٌ.
وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: (فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ) مَعْنَاهُ أَنَّهُ أَخْطَأَ وَسَطَ الْجَادَّةِ، وَمَالَ إِلَى أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ، وَمَتَى انْحَرَفَ السَّائِرُ فِي سَيْرِهِ عَنِ الْوَسَطِ، يَخْرُجُ عَنِ الْمَنْهَجِ وَيَبْعُدُ عَنْهُ كُلَّمَا أَوْغَلَ فِي السَّيْرِ، فَيَهْلَكُ دُونَ الْوُصُولِ إِلَى الْمَقْصِدِ. وَالْمُرَادُ بِسَوَاءِ السَّبِيلِ: الْحَقُّ وَالْخَيْرُ اللَّذَانِ تَكْمُلُ الْفِطْرَةُ بِالِاسْتِقَامَةِ عَلَى السَّيْرِ فِي طَرِيقِهِمَا، وَمَنْ مَالَ عَنِ الْحَقِّ وَقَعَ فِي الْبَاطِلِ لَا مَحَالَةَ، (فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ) (10: 32) .
هَذَا هُوَ التَّفْسِيرُ الَّذِي تَتَّصِلُ بِهِ الْآيَاتُ، وَيَلْتَئِمُ بَعْضُهَا مَعَ بَعْضٍ عَلَى وَجْهٍ يَتَدَفَّقُ بِالْبَلَاغَةِ، وَهُوَ الَّذِي يَتَقَبَّلُهُ الْعَقْلُ وَيَسْتَحْلِيهِ الذَّوْقُ، إِذْ لَا يَحْتَاجُ إِلَى شَيْءٍ مِنَ التَّكَلُّفِ فِي فَهْمِ نَظْمِهِ، وَلَا فِي تَوَخِّيهِ مُفْرَدَاتِهِ كَالْإِنْسَاءِ وَالْقُدْرَةِ وَالْمُلْكِ، وَقَدِ اضْطُرَّ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالنَّسْخِ نَسْخُ الْأَحْكَامِ - مَعَ مَا عَرَفْتَ مِنَ التَّكَلُّفِ - إِلَى الْقَوْلِ بِجَوَازِ
نِسْيَانِ الْوَحْيِ، وَطَفِقُوا يَلْتَمِسُونَ الدَّلَائِلَ عَلَى ذَلِكَ، حَتَّى أَوْرَدُوا قَوْلَهُ عز وجل:(وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ)(18: 24) ، وَلَيْسَ مِنْ هَذَا الْمَوْضُوعِ وَلَا الْمُخَاطَبُ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وَإِنَّمَا جَاءَ عَلَى طَرِيقِ الْحِكَايَةِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ - تَعَالَى -:(سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ)(87: 6، 7) فَهُوَ يُؤَكِّدُ عَدَمَ النِّسْيَانِ؛ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ بِالْمَشِيئَةِ قَدِ اسْتُعْمِلَ فِي أُسْلُوبِ الْقُرْآنِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الثُّبُوتِ وَالِاسْتِمْرَارِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -:(خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ)(11: 108) أَيْ غَيْرَ مَقْطُوعٍ. وَقَوْلِهِ: (قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ)(7: 188) . وَالنُّكْتَةُ فِي الِاسْتِثْنَاءِ بَيَانُ أَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ الثَّابِتَةَ الدَّائِمَةَ إِنَّمَا كَانَتْ كَذَلِكَ بِمَشِيئَةِ اللهِ - تَعَالَى - لَا بِطَبِيعَتِهَا فِي نَفْسِهَا، وَلَوْ شَاءَ اللهُ - تَعَالَى - أَنْ يُغَيِّرَهَا لَفَعَلَ، وَهَذَا الِاعْتِقَادُ مِنْ مَهَمَّاتِ الدِّينِ، فَلَا غَرْوَ أَنْ تُزَاحَ عَنْهُ الْأَوْهَامُ فِي كُلِّ مَقَامٍ يُمْكِنُ أَنْ تَعْرِضَ فِيهِ، فَلَيْسَ امْتِنَاعُ نِسْيَانِ الْوَحْيِ طَبِيعَةً لَازِمَةً لِلنَّبِيِّ، وَإِنَّمَا هُوَ تَأْيِيدٌ وَمِنْحَةٌ مِنَ اللهِ - تَعَالَى -، وَلَيْسَ خُلُودَ أَهْلِ الْجَنَّةِ فِي الْجَنَّةِ وَاجِبٌ عَقْلِيٌّ أَوْ طَبِيعِيٌّ، وَإِنَّمَا هُوَ بِإِرَادَةِ اللهِ - تَعَالَى - وَمَشِيئَتِهِ.
وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو (أَوْ نَنْسَأَهَا) أَيْ نُؤَخِّرُهَا، وَلَا يَظْهَرُ هَذَا الْمَعْنَى فِي مَقَامِ نَسْخِ الْأَحْكَامِ كَمَا يَظْهَرُ فِي نَسْخِ الْآيَاتِ وَالْمُعْجِزَاتِ الْمُقْتَرَحَةِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ، فَإِنَّ الْآيَةَ الَّتِي تُقْتَرَحُ عَلَى نَبِيٍّ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ لِنَبِيٍّ قَبْلَهُ، قَدْ تُنْسَخُ بِآيَةٍ جَدِيدَةٍ خَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا، وَقَدْ تُؤَخَّرُ بِالْآيَةِ الْجَدِيدَةِ، ثُمَّ تُعْطَى فِي وَقْتٍ آخَرَ بَعْدَ الِاقْتِرَاحِ، وَلَكِنَّ تَأْخِيرَ آيَاتِ الْأَحْكَامِ لَيْسَ لَهُ مَعْنًى ظَاهِرٌ.
(وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ إِنَّ اللهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)
بَيِّنَ اللهُ - تَعَالَى - فِي الْآيَةِ الْأُولَى مِنْ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ الْمُتَعَصِّبِينَ لِدِينِهِمْ - مِنْ حَيْثُ هُوَ جِنْسِيَّةٌ لَهُمْ تَقُومُ بِهَا مَنَافِعُ جِنْسِهِمْ - لَمْ يَكْتَفُوا بِكُفْرِهِمْ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالْكَيْدِ لَهُ وَنَقْضِ مَا عَاهَدَهُمْ عَلَيْهِ حَسَدًا لَهُ وَلِقَوْمِهِ عَلَى نِعْمَةِ النُّبُوَّةِ، بَلْ هُمْ يَزِيدُونَ عَلَى ذَلِكَ مَا قَصَّهُ - تَعَالَى - بِقَوْلِهِ:(وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيْمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ) ، فَهُوَ بَيَانٌ لِمَا يُضْمِرُونَهُ وَمَا تُكِنُّهُ صُدُورُهُمْ لِلْمُسْلِمِينَ مِنَ الْحَسَدِ عَلَى نِعْمَةِ الْإِسْلَامِ الَّتِي عَرَفُوا أَنَّهَا الْحَقُّ، وَأَنَّ وَرَاءَهَا السَّعَادَةَ فِي الدَّارَيْنِ، وَلَكِنَّهُمْ شَقَّ عَلَيْهِمْ أَنْ يَتَّبِعُوهُمْ، فَتَمَنَّوْا أَنْ يُحْرَمُوا هَذِهِ النِّعْمَةَ وَيَرْجِعُوا كُفَّارًا كَمَا كَانُوا، وَذَلِكَ شَأْنُ الْحَاسِدِ يَتَمَنَّى أَنْ يُسْلَبَ مَحْسُودُهُ النِّعْمَةَ وَلَوْ لَمْ تَكُنْ ضَارَّةً بِهِ، فَكَيْفَ إِذَا كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ تِلْكَ النِّعْمَةَ إِذَا تَمَّتْ وَثَبَتَتْ يَكُونُ مِنْ أَثَرِهَا سِيَادَةُ الْمَحْسُودِ عَلَيْهِ وَإِدْخَالُهُ تَحْتَ سُلْطَانِهِ، كَمَا كَانَ يَتَوَقَّعُ عُلَمَاءُ يَهُودَ فِي عَصْرِ التَّنْزِيلِ؟ وَقَدْ جَاءَ هَذَا التَّنْبِيهُ تَتِمَّةً لِقَوْلِهِ - تَعَالَى - قَبْلَ آيَاتٍ:(مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ)(2: 105) وَقَدْ بَيَّنَ اللهُ لَنَا مَا كَانَ مِنْ مُحَاوَلَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَتَحَيُّلِهِمْ عَلَى تَشْكِيكِ الْمُسْلِمِينَ فِي دِينِهِمْ كَقَوْلِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ: بِأَنْ يُؤْمِنُوا أَوَّلَ النَّهَارِ وَيَكْفُرُوا آخِرَهُ، لَعَلَّ ضُعَفَاءَ الْإِيْمَانِ يَرْجِعُونَ عَنِ الْإِسْلَامِ اقْتِدَاءً بِهِمْ، كَمَا سَيَأْتِي فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ، وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ وَمَا بَعْدَهَا إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ لِذَلِكَ بَعْضَ الْأَثَرِ فِي نُفُوسِ بَعْضِ الْمُسْلِمِينَ.
وَفَائِدَةُ هَذَا التَّنْبِيهِ أَوِ التَّنْبِيهَاتِ أَنْ يَعْلَمَ الْمُسْلِمُونَ أَنَّ مَا يَبْدُو مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أَحْيَانًا مِنْ إِلْقَاءِ الشُّبَهِ عَلَى الْإِسْلَامِ وَتَشْكِيكِ الْمُسْلِمِينَ فِيهِ، إِنَّمَا هُوَ مَكْرُ السَّوْءِ، يَبْعَثُ عَلَيْهِ الْحَسَدُ لَا النُّصْحُ الَّذِي يَبْعَثُ عَلَيْهِ الِاعْتِقَادُ. وَقَالَ:(حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ) لِيُبَيِّنَ أَنَّ حَسَدَهُمْ لَمْ يَكُنْ عَنْ شُبْهَةٍ دِينِيَّةٍ أَوْ غَيْرِهِ عَلَى حَقٍّ يَعْتَقِدُونَهُ، وَإِنَّمَا هُوَ خُبْثُ النُّفُوسِ وَفَسَادُ الْأَخْلَاقِ وَالْجُمُودُ عَلَى الْبَاطِلِ، وَإِنْ ظَهَرَ لِصَاحِبِهِ الْحَقُّ؛ وَلِذَلِكَ قَفَّاهُ بِقَوْلِهِ:(مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ) أَيْ بِالْآيَاتِ الَّتِي جَاءَ بِهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَبِانْطِبَاقِ مَا يَحْفَظُونَ مِنْ بِشَارَاتِ كُتُبِهِمْ بِنَبِيِّ آخِرِ الزَّمَانِ عَلَيْهِ.
ثُمَّ أَمَرَ اللهُ - تَعَالَى - الْمُؤْمِنِينَ بِأَنْ يُقَابِلُوا هَذَا الْحَسَدَ وَمَا يَنْبَعِثُ عَنْهُ بِمَا يَلِيقُ بِهِمْ مِنْ مَحَاسِنِ الْأَخْلَاقِ، فَقَالَ:(فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا)، وَلَمْ يَقُلْ: فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا عَنْهُمْ لِإِرَادَةِ
الْعُمُومِ، أَيْ عَامِلُوا جَمِيعَ النَّاسِ بِالصَّفْحِ وَالْعَفْوِ، فَإِنَّ هَذَا هُوَ اللَّائِقُ بِشَأْنِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُتَّقِينَ (الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا) (25: 63) .
أَقُولُ: الْعَفْوُ تَرْكُ الْعِقَابِ عَلَى الذَّنْبِ (إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً)(9: 66) وَالصَّفْحُ: الْإِعْرَاضُ عَنِ الْمُذْنِبِ بِصَفْحَةِ الْوَجْهِ، فَيَشْمَلُ تَرْكَ الْعِقَابِ وَتَرْكَ اللَّوْمِ وَالتَّثْرِيبِ.
(قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ) : وَفِي أَمْرِهِ - تَعَالَى - لَهُمْ بِالْعَفْوِ وَالصَّفْحِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى قِلَّتِهِمْ هُمْ أَصْحَابُ الْقُدْرَةِ وَالشَّوْكَةِ؛ لِأَنَّ الصَّفْحَ إِنَّمَا يُطْلَبُ مِنَ الْقَادِرِ عَلَى خِلَافِهِ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: لَا يُغْرَّنَّكُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ كَثْرَةُ أَهْلِ الْكِتَابِ مَعَ بَاطِلِهِمْ فَإِنَّكُمْ عَلَى قِلَّتِكُمْ أَقْوَى مِنْهُمْ بِمَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْحَقِّ، فَعَامِلُوهُمْ مُعَامَلَةَ الْقَوِيِّ الْعَادِلِ لِلْقَوِيِّ الْجَاهِلِ، (قَالَ) : وَفِي إِنْزَالِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى ضَعْفِهِمْ مَنْزِلَ الْأَقْوِيَاءِ، وَوَضْعِ أَهْلِ الْكِتَابِ عَلَى كَثْرَتِهِمْ مَوْضِعَ الضُّعَفَاءِ، إِيذَانٌ بِأَنَّ أَهْلَ الْحَقِّ هُمُ الْمُؤَيَّدُونَ بِالْعِنَايَةِ الْإِلَهِيَّةِ، وَأَنَّ الْعِزَّةَ لَهُمْ مَا ثَبَتُوا عَلَى حَقِّهِمْ، وَمَهْمَا يَتَصَارَعُ الْحَقُّ وَالْبَاطِلُ فَإِنَّ الْحَقَّ هُوَ الَّذِي يَصْرَعُ الْبَاطِلَ، كَمَا قُلْنَا غَيْرَ مَرَّةٍ، وَإِنَّمَا بَقَاءُ الْبَاطِلِ فِي غَفْلَةِ الْحَقِّ عَنْهُ. ثُمَّ قَالَ - تَعَالَى -:(حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ) فَوَعَدَهُمْ بِأَنْ سَيَمُدُّهُمْ بِمَعُونَتِهِ، وَيُؤَيِّدُهُمْ بِنَصْرِهِ، ثُمَّ أَحَالَهُمْ بِقَوْلِهِ:(إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) عَلَى قُدْرَتِهِ النَّافِذَةِ الَّتِي لَا يَشِذُّ عَنْهَا شَيْءٌ فِي الْعَالَمِينَ تَأْيِيدًا لِلْوَعْدِ، وَكَشْفًا لِشُبْهَةِ مَنْ عَسَاهُ يَقُولُ: أَنَّى لِهَذِهِ الشِّرْذِمَةِ الْقَلِيلَةِ الْعَدَدِ، الضَّعِيفَةِ الْقُوَى، أَنْ تَنْتَحِلَ لِنَفْسِهَا وَصْفَ الْمُلُوكِ الْعَالِينَ، وَتَقِفَ مَعَ الْأُمَمِ الْقَوِيَّةِ مَوْقِفَ الْعَافِينَ الْقَادِرِينَ؟ فَجَاءَ الْجَوَابُ يَقُولُ لِمِثْلِ هَذَا الْمُشْتَبِهِ: إِنَّ الَّذِي أَوْقَفَهَا هَذَا الْمَوْقِفَ، وَمَنَحَهَا هَذَا الْوَصْفَ، وَهُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَهَبَهَا مِنَ الْقُوَّةِ مَا تَتَضَاءَلُ دُونَهُ جَمِيعُ الْقُوَى، وَهُوَ مَا يُؤَيِّدُ بِهِ سُبْحَانَهُ مَنْ يَقُومُ بِالْحَقِّ وَيَثْبُتُ عَلَيْهِ (وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) (22: 40) وَقَدْ فَعَلَ.
أَقُولُ: جَعَلَ شَيْخُنَا الْأَمْرَ فِي الْغَايَةِ الَّتِي قَيَّدَ بِهَا الْعَفْوَ وَالصَّفْحَ وَاحِدَ الْأُمُورِ، إِذْ فَسَّرَهُ بِالنَّصْرِ، وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ جَعَلُوهُ وَاحِدَ الْأَوَامِرِ، وَهُوَ الْأَمْرُ بِقِتَالِهِمْ، وَيُعَبِّرُ بَعْضُهُمْ بِآيَةِ السَّيْفِ، وَيَعْنُونَ آيَةَ التَّوْبَةِ الَّتِي فِيهَا حُكْمُ الْجِزْيَةِ.
وَقَالَ بَعْضُهُمُ: الْمُرَادُ هُنَا الْأَمْرُ بِقَتْلِ بَنِي قُرَيْظَةَ وَإِجْلَاءِ بَنِي النَّضِيرِ، وَقَالُوا: إِنَّهُ تَوْقِيتٌ لَا يَصِحُّ أَنْ يُسَمَّى مَنْسُوخًا، أَيْ فِي عُرْفِ الْأُصُولِيِّينَ، وَإِنْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
وَغَيْرِهِ. وَذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ عَاهَدَ جَمِيعَ الْيَهُودِ الْمُجَاوِرِينَ لَهُ فِي الْمَدِينَةِ عَهْدًا أَمَّنَهُمْ فِيهِ عَلَى
أَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَحُرِّيَّةِ دِينِهِمْ، فَغَدَرُوا وَنَقَضُوا الْعَهْدَ بِمُوَالَاةِ الْمُشْرِكِينَ عَلَيْهِ مِرَارًا، وَكَانَ يَعْفُو عَنْهُمْ وَيَصْفَحُ حَتَّى أَذِنَ اللهُ لَهُ بِقِتَالِهِمْ وَإِجْلَائِهِمْ.
(قَالَ الْأُسْتَاذُ) : ثُمَّ بَعْدَ الْوَعْدِ بِالنَّصْرِ وَالْإِرْشَادِ إِلَى الِاعْتِمَادِ فِيهِ عَلَى الْقُدْرَةِ دَلَّهُمْ عَلَى بَعْضِ وَسَائِلِ تَحَقُّقِهِ، وَهِيَ الصَّلَاةُ الَّتِي تُوَثِّقُ عُرْوَةَ الْإِيْمَانِ، وَتُعْلِي الْهِمَّةَ، وَتَرْفَعُ النَّفْسَ بِمُنَاجَاةِ اللهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ، وَتُؤَلِّفُ بَيْنَ الْقُلُوبِ بِالِاجْتِمَاعِ لَهَا، وَالتَّعَارُفِ فِي مَسَاجِدِهَا، وَالزَّكَاةِ الَّتِي تَصِلُ بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ وَالْفُقَرَاءِ فَتَتَكَوَّنُ بِاتِّصَالِهِمْ وَحْدَةُ الْأُمَّةِ حَتَّى تَكُونَ كَجِسْمٍ وَاحِدٍ، فَقَالَ:(وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ) ، وَلَمْ تُذْكَرْ إِقَامَةُ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ فِي مَوْضِعٍ مِنَ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ إِلَّا وَالْمَقَامُ يَقْتَضِي الذِّكْرَ لِبَيَانِ فَائِدَةٍ خَاصَّةٍ لِهَذَا الْأَمْرِ لَا يُمْكِنُ أَنْ تُسْتَفَادَ مِنْ ذِكْرِهِمَا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ إِقَامَةَ الصَّلَاةِ لَيْسَتْ عِبَارَةً عَنْ أَدَائِهَا مُطْلَقًا، وَإِنَّمَا هِيَ عِبَارَةٌ عَنِ الْقِيَامِ بِحُقُوقِهَا الرُّوحِيَّةِ فِي صُورَتِهَا الْعَمَلِيَّةِ، وَذَلِكَ بِالتَّوَجُّهِ إِلَى اللهِ - تَعَالَى - وَمُنَاجَاتِهِ وَالِانْقِطَاعِ إِلَيْهِ عَمَّا عَدَاهُ، وَإِشْعَارِ الْقَلْبِ عَظَمَتَهُ وَكِبْرِيَاءَهُ، فَبِهَذَا الشُّعُورِ يَنْمُو الْإِيْمَانُ، وَتَقْوَى الثِّقَةُ بِاللهِ، وَتَتَنَزَّهُ النَّفْسُ أَنْ تَأْتِيَ الْفَوَاحِشَ وَالْمُنْكَرَاتِ، وَتَسْتَنِيرُ الْبَصِيرَةُ فَتَكُونُ أَقْوَى نَفَاذًا فِي الْحَقِّ، وَأَشَدَّ بُعْدًا عَنِ الْأَهْوَاءِ، فَنُفُوسُ الْمُصَلِّينَ جَدِيرَةٌ بِالنَّصْرِ لِمَا تُعْطِيهَا الصَّلَاةُ مِنَ الْقُوَّةِ الْمَعْنَوِيَّةِ، وَمِنَ الثِّقَةِ بِقُدْرَةِ اللهِ - تَعَالَى -، فَإِذَا كَانَ قَوْلُهُ - تَعَالَى - بَعْدَ الْوَعْدِ بِالنَّصْرِ:(إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) دَلِيلًا أَيَّدَ بِهِ الْوَعْدَ، فَقَوْلُهُ:(وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ) هِدَايَةً إِلَى طَرِيقِ الِاقْتِنَاعِ التَّامِّ بِهَذَا الدَّلِيلِ حَتَّى يَكُونَ وِجْدَانًا لِلنَّفْسِ لَا تُزَلْزِلُهُ الشُّبُهَاتُ، وَلَا تُؤَثِّرُ فِيهِ الْمُشَاغَبَاتُ وَالْمُجَادَلَاتُ.
وَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الْقُرْآنِ بِقَرْنِ الزَّكَاةِ بِالصَّلَاةِ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ لِإِصْلَاحِ نُفُوسِ الْأَفْرَادِ، وَالزَّكَاةَ لِإِصْلَاحِ شُئُونِ الِاجْتِمَاعِ، ثُمَّ إِنَّ فِيهَا مِنْ مَعْنَى الْعِبَادَةِ مَا فِي الصَّلَاةِ، فَإِنَّ الْمَالَ - كَمَا يَقُولُونَ - شَقِيقُ الرُّوحِ، فَمَنْ جَادَ بِهِ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللهِ - تَعَالَى - كَانَ بَذْلُهُ مَزِيدًا فِي إِيْمَانِهِ، فَهِيَ إِصْلَاحٌ رُوحِيٌّ أَيْضًا.
وَبَعْدَ أَنْ أَمَرَ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ فِي سِيَاقٍ كَشَفَ شُبْهَةَ مَنْ يَشْتَبِهُ مِنْ ضُعَفَاءِ الْإِيْمَانِ فِي نَصْرِ اللهِ الْمُؤْمِنِينَ، وَجَعْلِ السُّلْطَانِ لَهُمْ عَلَى الْكَافِرِينَ، وَبَيَانِ أَنَّ إِقَامَةَ
هَذَيْنِ الرُّكْنَيْنِ مِنْ وَسَائِلِ النَّصْرِ وَالسُّلْطَانِ فِي الدُّنْيَا، بَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهَا مِنْ أَسْبَابِ السَّعَادَةِ فِي الْآخِرَةِ، فَقَالَ:(وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ) ، وَلَكِنَّ الْبَيَانَ جَاءَ فِي صُورَةٍ عَامَّةٍ، وَهَذَا مِنَ الْأَسَالِيبِ الَّتِي لَا تَكَادُ تَجِدُ لَهَا فِي غَيْرِ الْقُرْآنِ نَظِيرًا يَنْتَقِلُ مِنْ بَيَانِ حُكْمٍ إِلَى آخَرَ، فَيَكُونُ الثَّانِي قَائِمًا بِنَفْسِهِ وَشَامِلًا لِلْأَوَّلِ بِعُمُومِهِ، وَتَكُونُ صِلَةُ الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ هِيَ الرَّابِطَ فِي النَّظْمِ. وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -:(تَجِدُوهُ) هُوَ كَقَوْلِهِ: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ)(99: 7) وَقَالُوا: إِنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ يَرَى وَيَجِدُ جَزَاءَهُ، وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ الْجَزَاءُ مَبْنِيًّا عَلَى أَثَرِ الْعَمَلِ فِي نَفْسِ الْعَامِلِ وَارْتِقَائِهَا بِهِ كَانَ الْجَزَاءُ
بِمَثَابَةِ الْعَمَلِ نَفْسِهِ، وَوَصَلَ الْوَعْدُ بِالْجَزَاءِ عَلَى الْعَمَلِ بِمَا يَبْعَثُ الْمُؤْمِنَ عَلَى الْإِحْسَانِ فِيهِ، وَيَدُلُّ عَلَى تَحَقُّقِهِ، فَقَالَ:(إِنَّ اللهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) فَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْهُ شَيْءٌ فَتَخَافُوا أَنْ يُنْقِصَكُمْ مِنْ أُجُورِكُمْ شَيْئًا.
(الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ) : هَذِهِ الْآيَاتُ هِيَ آخِرُ مَا أَدَّبَ اللهُ - تَعَالَى - بِهِ الْمُؤْمِنِينَ فِي هَذَا الْمَقَامِ عَلَى مَا يُخَامِرُ الْبَعْضَ مِنْهُمْ وَمَا يَعِنُّ لَهُ مِنَ الشُّبَهِ فِي مُسْتَقْبَلِ الْإِسْلَامِ وَتَأْيِيدِهِ - تَعَالَى - لِنَبِيِّهِ وَإِعْزَازِهِ لِحِزْبِهِ، وَكَانَ أَوَّلُهَا قَوْلَهُ عز وجل:(يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا)(2: 104) وَكَأَنَّ مَنْشَأَ تِلْكَ الْخَوَاطِرِ هُوَ مَا يَرَوْنَهُ فِي التَّنْزِيلِ الْمَرَّةَ بَعْدَ الْمَرَّةِ، وَمَا يُشَاهِدُونَهُ مِنْ عَمَلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْجَزْمِ بِأَنَّ الْأَسْبَابَ مَقْرُونَةٌ بِمُسَبِّبَاتِهَا، وَأَنَّ حَوَادِثَ الْكَوْنِ جَارِيَةٌ عَلَى سُنَنٍ مُطَّرِدَةٍ، وَمَا كَانَ هَذَا الْفَرِيقُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ يَعْلَمُ قَبْلَ إِعْلَامِ اللهِ - تَعَالَى - إِيَّاهُمْ بِأَنَّ الْإِيْمَانَ الصَّحِيحَ الَّذِي يَتَوَكَّلُ صَاحِبُهُ - بَعْدَ اتِّخَاذِ الْأَسْبَابِ وَالْوَسَائِلِ - عَلَى الْقُدْرَةِ الْإِلَهِيَّةِ وَالْعِنَايَةِ الْغَيْبِيَّةِ، وَعَمَلُ الصَّالِحَاتِ الَّذِي يُصْلِحُ النُّفُوسَ، وَيُؤَلِّفُ - مَعَ الِاعْتِقَادِ - بَيْنَ الْقُلُوبِ، هُمَا أَكْبَرُ أَسْبَابِ الْقُوَّةِ، وَأَقْرَبُ وَسَائِلِ السِّيَادَةِ وَالسَّعَادَةِ، وَقَدْ جَاءَ هَذَا الْإِرْشَادُ وَالتَّأْدِيبُ فِي سِيَاقِ الْكَلَامِ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ؛ لِأَنَّ مَكْرَهُمُ السَّيِّئَ كَانَ مَثَارًا لِبَعْضِ الْخَوَاطِرِ فِي الْمُسْلِمِينَ، فَالْكَلَامُ تَأْدِيبٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَدٌّ عَلَى الْيَهُودِ.
ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى الْكَلَامِ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ عَامَّةً وَمَا يُلَامُ عَلَيْهِ الْفَرِيقَانِ مِنْهُمُ - الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى - فَقَالَ:
(وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) .
هَذَا بَيَانٌ لِحَالَيْنِ آخَرَيْنِ مِنْ أَحْوَالِ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي غُرُورِهِمْ بِدِينِهِمْ، مَا كَانَ الْمُسْلِمُونَ قَبْلَ نُزُولِ الْآيَاتِ يَعْرِفُونَهَا:
أَمَّا الْأُولَى فَمَا بَيَّنَهُ - تَعَالَى - بِقَوْلِهِ: (وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى)، وَهُوَ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ:(وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ) أَيْ قَالَتِ الْيَهُودُ: لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا، وَقَالَتِ النَّصَارَى كَذَلِكَ فِي أَنْفُسِهِمْ، وَهُوَ اخْتِصَارٌ بَدِيعٌ غَيْرُ مُخِلٍّ. وَهَذِهِ عَقِيدَةُ الْفَرِيقَيْنِ إِلَى الْيَوْمِ، وَلَا يُنَافِي انْسِحَابَ حُكْمِهَا عَلَى الْآخِرِينَ، أَنَّ نَفَرًا مِنَ الْأَوَّلِينَ قَالُوا ذَلِكَ بَيْنَ يَدَيِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَمَا يُرْوَى، وَقَدْ بَيَّنَ لَنَا - تَعَالَى - أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ لَا حُجَّةَ لَهُ فِي كُتُبِهِمُ الْمُنَزَّلَةِ فَقَالَ:(تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)، وَالْأَمَانِيُّ: جَمْعُ أُمْنِيَّةٍ، وَهِيَ مَا يَتَمَنَّاهُ الْمَرْءُ وَلَا يُدْرِكُهُ. وَهَذَا الْقَوْلُ نَاطِقٌ بِأُمْنِيَّةٍ وَاحِدَةٍ وَلَكِنَّهَا تَتَضَمَّنُ أَمَانِيَّ مُتَعَدِّدَةً هِيَ لَوَازِمٌ لَهَا، كَنَجَاتِهِمْ مِنَ الْعَذَابِ وَكَوُقُوعِ أَعْدَائِهِمْ فِيهِ وَحِرْمَانِهِمْ مِنَ النَّعِيمِ، وَلِهَذَا ذَكَرَ الْأَمَانِيَّ بِالْجَمْعِ وَلَمْ يَقُلْ: تِلْكَ أُمْنِيَّتُهُمْ. وَقَدِ انْفَرَدَ بِهَذَا الْوَجْهِ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ، وَهُنَاكَ وُجُوهٌ أُخْرَى وَهِيَ: أَنَّ الْإِشَارَةَ بِتِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ لِقَوْلِهِ: (مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ) الْآيَةَ، وَقَوْلِهِ:(وَدَّ كَثِيرٌ) وَقَوْلِهِ (وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ) وَقِيلَ: إِنَّ فِي الْكَلَامِ مُضَافًا مَحْذُوفًا أَيْ أَمْثَالُ تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ، ثُمَّ طَالَبَهُمْ - تَعَالَى - بِالْبُرْهَانِ عَلَى دَعْوَاهُمْ، فَقَرَّرَ لَنَا قَاعِدَةً لَا تُوجَدُ فِي غَيْرِ الْقُرْآنِ مِنَ الْكُتُبِ السَّمَاوِيَّةِ، وَهِيَ أَنَّهُ لَا يَقْبَلُ مِنْ أَحَدٍ قَوْلًا لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ، وَلَا
يَحْكُمُ لِأَحَدٍ بِدَعْوَى يَنْتَحِلُهَا بِغَيْرِ بُرْهَانٍ يُؤَيِّدُهَا، ذَلِكَ أَنَّ الْأُمَمَ الَّتِي خُوطِبَتْ بِالْكُتُبِ السَّالِفَةِ لَمْ تَكُنْ مُسْتَعِدَّةً لِاسْتِقْلَالِ الْفِكْرِ وَمَعْرِفَةِ الْأُمُورِ بِأَدِلَّتِهَا وَبَرَاهِينِهَا؛ وَلِذَلِكَ اكْتَفَى مِنْهُمْ بِتَقْلِيدِ الْأَنْبِيَاءِ فِيمَا يُبَلِّغُونَهُمْ وَإِنْ لَمْ يَعْرِفُوا بُرْهَانَهُ، فَهُمْ مُكَلَّفُونَ أَنْ يَفْعَلُوا مَا يُؤْمَرُونَ، سَوَاءً عَرَفُوا لِمَاذَا أُمِرُوا أَوْ لَمْ يَعْرِفُوا، وَلَكِنَّ الْقُرْآنَ يُخَاطِبُ مَنْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ بِمِثْلِ قَوْلِهِ:(قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي)(12: 108) وَقَدْ فَسَّرُوا الْبَصِيرَةَ بِالْحُجَّةِ الْوَاضِحَةِ، وَيُسْتَدَلُّ عَلَى قُدْرَةِ اللهِ وَإِرَادَتِهِ وَعِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ وَوَحْدَانِيَّتِهِ بِالْآيَاتِ الْكَوْنِيَّةِ، وَهِيَ كَثِيرَةٌ جِدًّا فِي الْقُرْآنِ، وَبِالْأَدِلَّةِ النَّظَرِيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ كَقَوْلِهِ:(لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتَا)(21: 22) وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَيُسْتَدَلُّ عَلَى الْأَحْكَامِ بِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مِنْ نَفْيِ الْمَضَرَّاتِ وَالْإِفْضَاءِ إِلَى الْمَنَافِعِ.
عَلَّمَ الْقُرْآنُ أَهْلَهُ أَنْ يُطَالِبُوا النَّاسَ بِالْحُجَّةِ؛ لِأَنَّهُ أَقَامَهُمْ عَلَى سَوَاءِ الْمَحَجَّةِ. وَجَدِيرٌ بِصَاحِبِ الْيَقِينِ أَنْ يُطَالِبَ خَصْمَهُ بِهِ وَيَدْعُوَهُ إِلَيْهِ، وَعَلَى هَذَا دَرَجَ سَلَفُ هَذِهِ الْأُمَّةِ الصَّالِحُ، قَالُوا بِالدَّلِيلِ وَطَالَبُوا بِالدَّلِيلِ وَنَهَوْا عَنِ الْأَخْذِ بِشَيْءٍ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ، ثُمَّ جَاءَ الْخَلَفُ الطَّالِحُ فَحَكَمَ بِالتَّقْلِيدِ، وَأَمَرَ بِالتَّقْلِيدِ، وَنَهَى عَنِ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى غَيْرِ صِحَّةِ التَّقْلِيدِ، حَتَّى كَأَنَّ الْإِسْلَامَ خَرَجَ عَنْ حَدِّهِ، أَوِ انْقَلَبَ إِلَى ضِدِّهِ، وَصَارَ الَّذِينَ يَعْلَمُونَ أَنَّ الْإِسْلَامَ امْتَازَ عَنْ سَائِرِ الْأَدْيَانِ بِإِبْطَالِ
التَّقْلِيدِ، وَبِالْمُطَالَبَةِ بِالْبُرْهَانِ وَالدَّلِيلِ، وَعَلَّمَ النَّاسَ اسْتِقْلَالَ الْفِكْرِ، مَعَ الْمُشَاوَرَةِ فِي الْأَمْرِ، يُطَالِبُونَ الْمُسْلِمِينَ بِالرُّجُوعِ إِلَى الدَّلِيلِ، وَيَعِيبُونَ عَلَيْهِمُ الْأَخْذَ بِقَالَ وَقِيلَ، وَيَا لَيْتَهُ كَانَ الْأَخْذُ بِقَالَ اللهُ، وَقِيلَ فِيمَا يُرْوَى عَنْ رَسُولِ اللهِ، وَلَكِنَّهُ الْأَخْذُ بِقَالَ فُلَانٌ وَقِيلَ عَنْ عِلَّانٍ (إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ) (53: 23) .
قَالَ - تَعَالَى - رَدًّا عَلَيْهِمْ: (بَلَى) وَهِيَ كَلِمَةٌ تُذْكَرُ فِي الْجَوَابِ لِإِثْبَاتِ نَفْيٍ سَابِقٍ، فَهِيَ مُبْطِلَةٌ لِقَوْلِهِمْ:(لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ) . . . إِلَخْ، أَيْ بَلَى إِنَّهُ يَدْخُلُهَا مَنْ لَمْ يَكُنْ هُودًا وَلَا نَصَارَى؛ لِأَنَّ رَحْمَةَ اللهِ لَيْسَتْ خَاصَّةً بِشَعْبٍ دُونَ شَعْبٍ، وَإِنَّمَا هِيَ مَبْذُولَةٌ لِكُلِّ مَنْ يَطْلُبُهَا وَيَعْمَلُ لَهَا عَمَلَهَا، وَهُوَ مَا بَيَّنَهُ سبحانه وتعالى بِقَوْلِهِ:(مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ) . إِسْلَامُ الْوَجْهِ لِلَّهِ: هُوَ التَّوَجُّهُ إِلَيْهِ وَحْدَهُ وَتَخْصِيصُهُ
بِالْعِبَادَةِ دُونَ سِوَاهُ، كَمَا أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ:(إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ 1: 5) وَغَيْرِهَا مِنَ الْآيَاتِ، وَقَدْ عَبَّرَ هُنَا عَنْ إِسْلَامِ الْقَلْبِ وَصِحَّةِ الْقَصْدِ إِلَى الشَّيْءِ بِإِسْلَامِ الْوَجْهِ، كَمَا عَبَّرَ عَنْهُ بِتَوْجِيهِ الْوَجْهِ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى - حِكَايَةً عَنْ إِبْرَاهِيمَ:(إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ)(6: 79) لِأَنَّ قَاصِدَ الشَّيْءِ يُقْبِلُ عَلَيْهِ بِوَجْهِهِ لَا يُوَلِّيهِ دُبُرَهُ، فَلَمَّا كَانَ تَوْجِيهُ الْوَجْهِ إِلَى شَيْءٍ لَهُ جِهَةٌ تَابِعًا لِقَصْدِهِ وَاشْتِغَالِ الْقَلْبِ بِهِ عَبَّرَ عَنْهُ بِهِ، وَجَعَلَ التَّوَجُّهَ بِالْوَجْهِ إِلَى جِهَةٍ مَخْصُوصَةٍ (وَهِيَ الْقِبْلَةُ) بِأَمْرِ اللهِ مُذَكِّرًا بِإِقْبَالِ الْقَلْبِ عَلَى اللهِ الَّذِي لَا تُحَدِّدُهُ الْجِهَاتُ، فَالْإِنْسَانُ يَتَضَرَّعُ وَيَسْجُدُ لِلَّهِ - تَعَالَى - بِوَجْهِهِ، وَعَلَى الْوَجْهِ يَظْهَرُ أَثَرُ الْخُشُوعِ، وَظَاهِرٌ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ إِسْلَامِ الْوَجْهِ لِلَّهِ تَوْحِيدُهُ بِالْعِبَادَةِ وَالْإِخْلَاصُ لَهُ فِي الْعَمَلِ، بِأَلَّا يَجْعَلَ الْعَبْدُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ وُسَطَاءَ يُقَرِّبُونَهُ إِلَيْهِ زُلْفَى؛ فَإِنَّهُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ، وَمِنْ هُنَا يُفْهَمُ مَعْنَى الْإِسْلَامِ الَّذِي يَكُونُ بِهِ الْمَرْءُ مُسْلِمًا.
ذَكَرَ التَّوْحِيدَ وَالْإِيْمَانَ الْخَالِصَ وَلَمْ يَحْمِلْ عَلَيْهِ الْوَعْدَ بِالْأَجْرِ عِنْدَ اللهِ - تَعَالَى - وَاسْتِحْقَاقَ الْكَرَامَةِ فِي دَارِ الْمُقَامَةِ إِلَّا بَعْدَ أَنْ قَيَّدَهُ بِإِحْسَانِ الْعَمَلِ، فَقَالَ:(بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ) ، وَتِلْكَ سُنَّةُ الْقُرْآنِ تَقْرِنُ الْإِيْمَانَ بِعَمَلِ الصَّالِحَاتِ، كَقَوْلِهِ:(لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا)(4: 123، 124) وَهَذَا فِي مَعْنَى الْآيَاتِ الَّتِي نُفَسِّرُهَا، نَفَى أَمَانِيَّ الْمُسْلِمِينَ كَمَا نَفَى أَمَانِيَّ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَجَعَلَ أَمْرَ سَعَادَةِ الْآخِرَةِ مَنُوطًا بِالْإِيْمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ مَعًا. وَكَقَوْلِهِ:(فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ)(21: 94) الْآيَةَ.
ثُمَّ بَعْدَ أَنْ أَثْبَتَ لِلْمُسْلِمِ وَجْهَهُ إِلَى اللهِ وَالْمُحْسِنِ فِي عَمَلِهِ الْأَجْرَ عِنْدَ اللهِ، نَفَى عَنْهُ الْخَوْفَ الَّذِي يُرْهِقُ الْكَافِرِينَ وَالْمُسِيئِينَ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا وَفِي تِلْكَ الدَّارِ الْآخِرَةِ وَالْحُزْنَ الَّذِي يُصِيبُهُمْ فَقَالَ:
(وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمَخَاوِفَ وَالْأَحْزَانَ تُسَاوِرُ الَّذِينَ لَبِسُوا إِيْمَانَهُمْ بِظُلْمِ الْوَثَنِيَّةِ، وَأَسَاءُوا أَعْمَالَهُمْ بِالْإِعْرَاضِ عَنِ الْهِدَايَةِ الدِّينِيَّةِ.
تَرَى أَصْحَابَ النَّزَغَاتِ الْوَثَنِيَّةِ فِي خَوْفٍ دَائِمٍ مِمَّا لَا يُخِيفُ؛ لِأَنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ
بِثُبُوتِ السُّلْطَةِ الْغَيْبِيَّةِ الْقَاهِرَةِ لِكُلِّ مَا يَظْهَرُ لَهُمْ مِنْهُ عَمَلٌ لَا يَهْتَدُونَ إِلَى سَبَبِهِ وَلَا يَعْرِفُونَ تَأْوِيلَهُ، يَسْتَخْذُونَ لِلدَّجَّالِينَ وَالْمُشَعْوِذِينَ، وَيَرْتَعِدُونَ مِنْ حَوَادِثِ الطَّبِيعَةِ الْغَرِيبَةِ، إِذَا لَاحَ لَهُمْ نَجْمٌ مُذَنَّبٌ تَخَيَّلُوا أَنَّهُ مُنْذِرٌ يُهَدِّدُهُمْ بِالْهَلَاكِ، وَإِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيهِمْ مِنَ الْفَسَادِ تَوَهَّمُوا أَنَّهَا مِنْ تَصَرُّفِ بَعْضِ الْعِبَادِ، وَتَرَاهُمْ فِي جَزَعٍ وَهَلَعٍ مِنْ حُدُوثِ الْحَوَادِثِ، وَنُزُولِ الْكَوَارِثِ، لَا يَصْبِرُونَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ، وَلَا يُنْفِقُونَ فِي الرَّخَاءِ وَالسَّرَّاءِ (إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا إِلَّا الْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ) (70: 19 - 23) هَذِهِ حَالُ مَنْ فَقَدَ التَّوْحِيدَ الْخَالِصَ وَحُرِمَ مِنَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا (وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ)(41: 16) وَإِنَّمَا كَانَ صَاحِبُ النَّزَغَاتِ الْوَثَنِيَّةِ فِي خَوْفٍ مِمَّا يَسْتَقْبِلُهُ، وَحُزْنٍ مِمَّا يَنْزِلُ بِهِ؛ لِأَنَّ مَا اخْتَرَعَهُ لَهُ وَهْمُهُ مِنَ السُّلْطَةِ الْغَيْبِيَّةِ لِغَيْرِ اللهِ الَّتِي يُحَكِّمُهَا فِي نَفْسِهِ، وَيَجْعَلُهَا حِجَابًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ، لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَعْتَمِدَ فِي الشَّدَائِدِ عَلَيْهَا، وَلَا يَجِدُ عِنْدَهَا غَنَاءً إِذَا هُوَ لَجَأَ إِلَيْهَا، وَمَا هُوَ مِنْ سُلْطَتِهَا عَلَى يَقِينٍ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنَ الظَّانِّينَ أَوِ الْوَاهِمِينَ.
وَأَمَّا ذُو التَّوْحِيدِ الْخَالِصِ فَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا فَاعِلَ إِلَّا اللهُ - تَعَالَى -، وَأَنَّهُ مِنْ رَحْمَتِهِ قَدْ هَدَى الْإِنْسَانَ إِلَى السُّنَنِ الْحَكِيمَةِ الَّتِي يَجْرِي عَلَيْهَا فِي أَفْعَالِهِ، فَإِذَا أَصَابَهُ مَا يَكْرَهُ، بَحَثَ فِي سَبَبِهِ وَاجْتَهَدَ فِي تَلَافِيهِ مِنَ السُّنَّةِ الَّتِي سَنَّهَا اللهُ - تَعَالَى - لِذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ أَمْرًا لَا مَرَدَّ لَهُ، سَلَّمَ أَمْرَهُ فِيهِ إِلَى الْفَاعِلِ الْحَكِيمِ، فَلَا يَحَارُ وَلَا يَضْطَرِبُ؛ لِأَنَّ سَنَدَهُ قَوِيٌّ عَزِيزٌ، وَالْقُوَّةَ الَّتِي يَلْجَأُ إِلَيْهَا كَبِيرَةٌ لَا يُعْجِزُهَا شَيْءٌ، فَإِذَا نَزَلَ بِهِ سَبَبُ الْحُزْنِ أَوْ عَرَضَ لَهُ مُقْتَضَى الْخَوْفِ لَا يَكُونُ أَثَرُهُمَا إِلَّا كَمَا يُطِيفُ الْخَاطِرُ بِالْبَالِ، وَلَا يَلْبَثُ أَنْ يَعْرِضَ لَهُ الزَّوَالُ (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ أَلَا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) (13: 28) فَكَأَنَّهُ - تَعَالَى - يَقُولُ لِأَهْلِ الْكِتَابِ: لَا تَغُرَّنَّكُمُ الْأَمَانِيُّ وَلَا يَخْدَعَنَّكُمُ الِانْتِسَابُ الْبَاطِلُ إِلَى الْأَنْبِيَاءِ، فَهَذِهِ هِيَ طَرِيقُ الْجَنَّةِ، أَسْلِمُوا وُجُوهَكُمْ لِلَّهِ تَسْلَمُوا، وَاعْمَلُوا الصَّالِحَاتِ تُؤْجَرُوا، وَقَدْ أَفْرَدَ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ:(فَلَهُ أَجْرُهُ) مُرَاعَاةً لِلَفْظِ (مَنْ)، وَجَمَعَهُ فِي قَوْلِهِ:(وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) . . . إِلَخْ مُرَاعَاةً لِمَعْنَاهَا.
بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ تَزْكِيَةَ كُلِّ فَرِيقٍ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ نَفْسَهُ، وَحُكْمَهُ بِحِرْمَانِ غَيْرِهِ
مِنْ رَحْمَةِ اللهِ كَيْفَمَا كَانَتْ حَالُهُ ذَكَرَ طَعْنَ كُلِّ فَرِيقٍ مِنْهُمَا بِالْآخَرِ خَاصَّةً فَقَالَ: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ) مِنَ الدِّينِ حَقِيقِيٍّ يُعْتَدُّ بِهِ، فَالشَّيْءُ فِي اللُّغَةِ: هُوَ الْمَوْجُودُ الْمُتَحَقِّقُ،
وَالِاعْتِقَادَاتُ الْخَيَالِيَّةُ الَّتِي لَا تَنْطَبِقُ عَلَى مَوْجُودٍ فِي الْخَارِجِ لَا تُسَمَّى شَيْئًا، فَكَفَرُوا بِعِيسَى وَهُمْ يَتْلُونَ التَّوْرَاةَ الَّتِي تُبَشِّرُ بِهِ، وَتَذْكُرُ مِنَ الْعَلَامَاتِ مَا يَنْطَبِقُ عَلَيْهِ، وَلَا تَزَالُ الْيَهُودُ إِلَى الْيَوْمِ تَدَّعِي أَنَّ الْمَسِيحَ الْمُبَشَّرَ بِهِ فِي التَّوْرَاةِ لَمَّا يَأْتِ، وَتَنْتَظِرُ ظُهُورَهُ وَإِعَادَتَهُ الْمُلْكَ إِلَى شَعْبِ إِسْرَائِيلَ (وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ) مِنَ الدِّينِ حَقِيقِيٍّ يُعْتَدُّ بِهِ لِإِنْكَارِهِمُ الْمَسِيحَ الْمُتَمِّمَ لِشَرِيعَتِهِمْ، يَقُولُ كُلُّ فَرِيقٍ مِنْهُمْ مَا يَقُولُ (وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ) أَيْ يَتْلُو كُلٌّ مِنْهُمْ كِتَابَهُ، فَكِتَابُ الْأَوَّلِينَ (التَّوْرَاةُ) يُبَشِّرُ بِرَسُولٍ مِنْهُمْ ظَهَرَ وَلَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ فَهُمْ مُخَالِفُونَ لِكِتَابِهِمْ، وَكِتَابُ الْآخِرِينَ (الْإِنْجِيلُ) يَقُولُ بِلِسَانِ الْمَسِيحِ: إِنَّهُ جَاءَ مُتَمِّمًا لِنَامُوسِ مُوسَى، لَا نَاقِضًا لَهُ، وَهُمْ قَدْ نَقَضُوهُ، فَدِينُهُمْ وَاحِدٌ، تَرَكَ بَعْضُهُمْ أَوَّلَهُ، وَبَعْضُهُمْ آخِرَهُ فَلَمْ يُؤْمِنْ بِهِ كُلِّهِ أَحَدٌ مِنْهُمْ، وَالْكِتَابُ الَّذِي يَقْرَءُونَ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ.
ثُمَّ قَالَ - تَعَالَى -: (كَذَلِكَ) أَيْ نَحْوَ ذَلِكَ السُّخْفِ وَالْجُزَافِ (قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ) مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْمِلَلِ (مِثْلَ قَوْلِهِمْ) ، تَعَصَّبَ كُلٌّ لِمِلَّتِهِ الَّتِي جَعَلَهَا جِنْسِيَّةً، وَزَعَمَ أَنَّهَا هِيَ الْمُنْجِيَةُ لِكُلِّ مَنْ وُسِمَ بِهَا وَرَضِيَ بِاسْمِهَا وَلَقَبِهَا، وَالْحَقُّ وَرَاءَ جَمِيعِ الْمَزَاعِمِ لَا يَتَقَيَّدُ بِأَسْمَاءٍ وَلَا أَلْقَابٍ، وَإِنَّمَا هُوَ إِيْمَانٌ خَالِصٌ وَعَمَلٌ صَالِحٌ، وَلَوِ اهْتَدَى النَّاسُ إِلَى هَذَا لَمَا تَفَرَّقُوا فِي الدِّينِ وَاخْتَلَفُوا فِي أُصُولِهِ وَلَكِنَّهُمْ تَعَصَّبُوا وَتَحَزَّبُوا لِأَهْوَائِهِمْ، فَتَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا فِي آرَائِهِمْ (فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ)، فَإِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ بِمَا عَلَيْهِ كُلُّ فَرِيقٍ مِنْ حَقٍّ وَبَاطِلٍ. وَلَمْ يُبَيِّنْ لَنَا - تَعَالَى - هُنَا بِمَاذَا يَحْكُمُ. وَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّهُ يُكَذِّبُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يُلْقِيهِمْ فِي النَّارِ، وَلَكِنَّ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ أَنَّهُ يُحِقُّ الْحَقَّ وَيَجْعَلُ أَهْلَهُ فِي النَّعِيمِ، وَيُبْطِلُ الْبَاطِلَ وَيُلْقِي بِأَهْلِهِ فِي الْجَحِيمِ.
هَذَا هُوَ مَعْنَى الْآيَةِ. وَيُرْوَى فِي سَبَبِ نُزُولِهَا أَنَّ يَهُودَ الْمَدِينَةِ تَمَارَوْا مَعَ وَفْدِ نَصَارَى نَجْرَانَ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. فَقَالَ كُلُّ فَرِيقٍ مِنْهُمْ مَا قَالَ فِي إِنْكَارِ حَقِيقَةِ دِينِ
الْآخَرِ، قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّ فَهْمَ الْآيَةِ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ، فَالْآيَةُ تَحْكِي لَنَا اعْتِقَادَ كُلِّ طَائِفَةٍ بِالْأُخْرَى سَوَاءً قَالَ ذَلِكَ مَنْ ذُكِرَ أَوْ لَمْ يَقُلْهُ. عَلَى أَنَّ مَا يُرْوَى فِي أَسْبَابِ النُّزُولِ مِنْ مِثْلِ ذَلِكَ هُوَ مِنْ تَارِيخِ الْآيَاتِ وَمَا فِيهَا مِنَ الْوَقَائِعِ، وَمَا رُوِيَ فِي أَسْبَابِ النُّزُولِ عِنْدَنَا غَيْرُ كَافٍ فِي ذَلِكَ، فَلَا بُدَّ لَنَا مِنَ الْبَحْثِ وَالِاطِّلَاعِ عَلَى تَارِيخِ الْمِلَلِ وَالْأُمَمِ الَّتِي تَكَلَّمَ عَنْهَا الْقُرْآنُ؛ لِأَجْلِ أَنْ نَفْهَمَهُ تَمَامَ الْفَهْمِ وَنَعْرِفَ مَا يَحْكِيهِ عَنْهُمْ مِنَ الْعَقَائِدِ وَالشُّئُونِ وَالْأَعْمَالِ، هَلْ كَانَ عَامًّا فِيهِمْ أَوْ كَانَ فِي طَائِفَةٍ مِنْهُمْ وَأُسْنِدَ إِلَى الْأُمَّةِ لِمَا نَبَّهْنَا عَلَيْهِ مِرَارًا مِنْ إِرَادَةِ تَكَافُلِهَا، وَمُؤَاخَذَةِ الْجَمِيعِ بِمَا يَصْدُرُ عَنْ بَعْضِ الْأَفْرَادِ لِأَنَّهُمْ كُلِّفُوا إِزَالَةَ الْمُنْكَرِ وَالتَّنَاهِيَ عَنْهُ؟
وَالْعِبْرَةُ فِي الْآيَةِ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ فِي تَضْلِيلِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا وَاعْتِقَادِ كُلِّ وَاحِدٍ فِي الْآخَرِ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى شَيْءٍ حَقِيقِيٍّ مِنْ أَمْرِ الدِّينِ، مَعَ أَنَّ كِتَابَ الْيَهُودِ أَصْلٌ لِكِتَابِ النَّصَارَى،
وَكِتَابَ النَّصَارَى مُتَمِّمٌ لِكِتَابِ الْيَهُودِ، قَدْ صَارُوا إِلَى حَالٍ مِنَ التَّهَافُتِ وَاتِّبَاعِ الْأَهْوَاءِ لَا يُعْتَدُّ مَعَهَا بِقَوْلِ أَحَدٍ مِنْهُمْ فِي نَفْسِهِ وَلَا فِي غَيْرِهِ، فَطَعْنُهُمْ فِي النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَإِعْرَاضُهُمْ عَنِ الْإِيْمَانِ بِهِ لَا يَنْهَضُ حُجَّةً عَلَى كَوْنِهِمْ عَلِمُوا أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلْحَقِّ، بَلْ لَا يَصْلُحُ شُبْهَةً عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُمْ أَهْلُ أَهْوَاءٍ وَتَعَصُّبٍ لِلْمَذَاهِبِ الْمُبْتَدَعَةِ وَالْآرَاءِ. فَإِذَا كَانَتِ الْيَهُودُ كَفَرَتْ بِعِيسَى وَأَنْكَرَتْهُ - وَهُوَ مِنْهُمْ - وَهُمْ يَنْتَظِرُونَهُ لِإِعَادَةِ مَجْدِهِمْ وَتَجْدِيدِ عِزِّهِمْ، وَإِذَا كَانَتِ النَّصَارَى قَدْ رَفَضَتِ التَّوْرَاةَ وَكَفَّرَتْ أَهْلَهَا - وَهِيَ حُجَّتُهُمْ عَلَى دِينِهِمْ - فَكَيْفَ يُعْتَدُّ بِكُفْرِ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ بِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ مِنْ شَعْبٍ غَيْرِ شَعْبِهِمْ، وَقَدْ جَاءَ بِشَرِيعَةٍ نَاسِخَةٍ لِشَرَائِعِهِمْ، وَهُمْ لَا يَفْهَمُونَ مِنَ الدِّينِ إِلَّا أَنَّهُ جِنْسِيَّةٌ دُنْيَوِيَّةٌ لَهُمْ؟ ! .
وَفِي الْآيَةِ إِرْشَادٌ إِلَى بُطْلَانِ التَّقْلِيدِ، مُؤَيِّدٌ لِمَا فِي الْآيَةِ الَّتِي تُطَالِبُ الْمُدَّعِيَ بِالْبُرْهَانِ، وَإِلَى النَّعْيِ عَلَى الْمُقَلِّدِينَ الْمُتَعَصِّبِينَ لِآرَائِهِمْ، الْمُتَّبِعِينَ لِأَهْوَائِهِمْ، وَإِلَى التَّحَرِّي فِي الْحُكْمِ عَلَى الشَّيْءِ يَعْتَقِدُ الْحَاكِمُ بُطْلَانَهُ؛ لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِمَا يَعْتَقِدُهُ، فَلَا يَنْبَغِي لِلْعَاقِلِ أَنْ يَحْكُمَ عَلَى شَيْءٍ إِلَّا بَعْدَ الْبَحْثِ وَالتَّحَرِّي وَمَعْرِفَةِ مَكَانِ الْخَطَأِ وَالتَّزْيِيلِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا عَسَاهُ يَكُونُ مَعَهُ صَوَابًا. أَلَمْ تَرَ أَنَّ سِيَاقَ الْآيَاتِ نَاطِقٌ بِإِنْكَارِ حُكْمِ كُلٍّ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ عَلَى الْآخَرِ مِنْ غَيْرِ بَيِّنَةٍ وَلَا بُرْهَانٍ وَلَا فَصْلٍ وَلَا فُرْقَانٍ، مَعَ
أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلَى شَيْءٍ مِنَ الْحَقِّ وَشَيْءٍ مِنَ الْبَاطِلِ؛ لِأَنَّ أَصْلَ دِينِهِ حَقٌّ ثُمَّ طَرَأَتْ عَلَيْهِ نَزَعَاتُ الْوَثَنِيَّةِ وَالْبِدَعُ، وَعَرَضَ لَهُ التَّحْرِيفُ وَالتَّأْوِيلُ، فَتَجْرِيدُهُ مِنْ كُلِّ حَقٍّ لَمْ يَكُنْ إِلَّا تَعَصُّبًا لِلتَّقَالِيدِ مِنْ غَيْرِ بَيِّنَةٍ وَلَا تَمْحِيصٍ، وَأَنَّى لِلْمُقَلِّدِينَ بِذَلِكَ؟ وَانْظُرْ كَيْفَ أَلْحَقَ التَّقْلِيدُ أَهْلَ الْكِتَابِ الَّذِينَ كَانُوا عَلَى عِلْمٍ بِالدِّينِ الْإِلَهِيِّ بِالْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِنْهُ شَيْئًا؟ هَذَا مَا فَعَلَهُ التَّقْلِيدُ بِهِمْ، وَبِمَنْ بَعْدَهُمْ؛ لِأَنَّهُ عَدُوٌّ لِلْعِلْمِ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَكُلِّ مَكَانٍ.
(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ إِنَّ اللهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ وَقَالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)
الْكَلَامُ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ عَامَّةً وَمَنْ عَلَى شَاكِلَتِهِمْ، فَقَوْلُهُ - تَعَالَى -:(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا) الْآيَةَ فِيهِ وُجُوهٌ: (أَحَدُهَا) : أَنَّهُ يُشِيرُ إِلَى حَادِثَةٍ وَقَعَتْ بَعْدَ الْمَسِيحِ بِسَبْعِينَ سَنَةً، وَهِيَ دُخُولُ (تَيْطَسَ الرُّومَانِيِّ) بَيْتَ الْمَقْدِسِ وَتَخْرِيبُهَا حَتَّى صَارَتِ الْمَدِينَةُ تَلًّا مِنَ التُّرَابِ، وَهَدْمُهُ هَيْكَلَ سُلَيْمَانَ عليه السلام حَتَّى لَمْ يَبْقَ مِنْهُ إِلَّا بَعْضُ الْجُدُرِ الْمُدَعْثَرَةِ، وَإِحْرَاقُهُ مَا كَانَ عِنْدَ الْيَهُودِ مِنْ نُسَخِ التَّوْرَاةِ، وَكَانَ الْمَسِيحُ عليه السلام قَدْ أَوْعَدَ الْيَهُودَ بِذَلِكَ. وَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ أَتْبَاعَ الْمَسِيحِ هُمُ الَّذِينَ هَيَّجُوا الرُّومَانِيِّينَ وَأَغْرَوْهُمْ بِهَذَا الْعَمَلِ.
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَلَا أَدْرِي هَلْ يَصِحُّ هَذَا الْخَبَرُ أَمْ لَا، فَإِنَّ قَائِلِيهِ لَمْ يَأْتُوا عَلَيْهِ بِأَدِلَّةٍ وَلَا بِنُقُولٍ تَارِيخِيَّةٍ، وَلَكِنَّنِي أَعْلَمُ أَنَّ الْمَسِيحِيِّينَ عَلَى قِلَّتِهِمْ وَتَشَتُّتِهِمْ
وَاسْتِخْفَائِهِمْ مِنِ اضْطِهَادِ الْيَهُودِ كَانُوا قَدْ وَصَلُوا إِلَى (رُومِيَّةَ) وَكَانُوا يَوَدُّونَ الْإِيقَاعَ بِالْيَهُودِ الَّذِينَ اضْطَرُّوهُمْ إِلَى الْخُرُوجِ مِنْ بِلَادِهِمُ انْتِقَامًا مِنْهُمْ، وَتَحْقِيقًا لِوَعِيدِ الْمَسِيحِ، وَأَنَّ الرُّومَانِيِّينَ - وَإِنْ كَانُوا وَثَنِيِّينَ يَرَوْنَ أَنَّ الْيَهُودَ لَيْسُوا عَلَى شَيْءٍ - لَمْ تَكُنْ حُرُوبُهُمْ دِينِيَّةً وَإِنَّمَا كَانُوا يُحَارِبُونَ الْيَهُودَ وَغَيْرَهُمْ لِشَغَبِهِمْ وَفِتَنِهِمْ أَوْ لِلطَّمَعِ فِي بِلَادِهِمْ وَذَلِكَ لَا يَقْضِي بِهَدْمِ الْمَعْبَدِ وَإِحْرَاقِ كُتُبِ الدِّينِ، فَهَذِهِ قَرَائِنُ تُرَجِّحُ أَنَّهُ كَانَ لِلْمَسِيحِيِّينَ يَدٌ فِي إِغَارَةِ تَيْطَسَ، وَلَكِنْ لَا يُجْزَمُ بِهِ إِلَّا إِذَا وُجِدَ نَقْلٌ تَارِيخِيٌّ صَحِيحٌ يُؤَيِّدُ الْخَبَرَ.
وَمِنَ الْغَرِيبِ أَنَّ ابْنَ جَرِيرٍ الطَّبَرِيَّ قَالَ فِي تَفْسِيرِهِ: إِنَّ الْآيَةَ فِي اتِّحَادِ الْمَسِيحِيِّينَ مَعَ (بَخْتِنْصَرَ الْبَابِلِيِّ) عَلَى تَخْرِيبِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ مَعَ أَنَّ حَادِثَةَ بَخْتِنْصَرَ كَانَتْ قَبْلَ وُجُودِ الْمَسِيحِ وَالْمَسِيحِيَّةِ بِسِتِّمِائَةٍ وَثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ سَنَةً. وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مُؤَرِّخًا مِنْ أَكْبَرِ الْمُؤَرِّخِينَ لَالْتُمِسَ لَهُ الْعُذْرُ بِحَمْلِ قَوْلِهِ عَلَى حَادِثَةِ (أَدْرِينَالَ الرُّومَانِيِّ) الَّذِي جَاءَ بَعْدَ الْمَسِيحِ بِمِائَةٍ وَثَلَاثِينَ سَنَةٍ، وَبَنَى مَدِينَةً عَلَى أَطْلَالِ أُورْشَلِيمَ وَزَيَّنَهَا وَجَعَلَ فِيهَا الْحَمَّامَاتِ، وَبَنَى هَيْكَلًا لِلْمُشْتَرَى عَلَى أَطْلَالِ هَيْكَلِ سُلَيْمَانَ، وَحَرَّمَ عَلَى الْيَهُودِ دُخُولَ هَذِهِ الْمَدِينَةِ، وَجَعَلَ جَزَاءَ مَنْ يَدْخُلُهَا الْقَتْلَ؛ فَلِذَلِكَ كَانَ الْيَهُودُ يُسَمُّونَهُ (بَخْتِنْصَرَ الثَّانِيَ) لِشِدَّةِ مَا قَاسَوْا مِنْ ظُلْمِهِ وَاضْطِهَادِهِ. وَلَكِنَّ هَذَا لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ عُذْرًا لِلْمُؤَرِّخِ.
(الثَّانِي) : ذَهَبَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى أَنَّ قَوْلَهُ - تَعَالَى -: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ) نَزَلَ فِي مَنْعِ مُشْرِكِي الْعَرَبِ النَّبِيَّ وَأَصْحَابَهُ مِنْ دُخُولِ مَكَّةَ فِي قِصَّةِ عُمْرَةِ الْحُدَيْبِيَّةِ، وَقَالُوا: إِنَّ حَادِثَةَ الرُّومَانِيِّينَ كَانَتْ قَدْ طَالَ عَلَيْهَا الْأَمَدُ فَلَا مُنَاسَبَةَ لِإِرَادَتِهَا بِالْآيَةِ.
وَاعْتُرِضَ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ بِأَنَّ مُشْرِكِي الْعَرَبِ مَا سَعَوْا فِي خَرَابِ الْكَعْبَةِ، بَلْ كَانُوا عَمَرُوهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَكَانُوا يُعَظِّمُونَهَا وَيَرَوْنَهَا مَنَاطَ عِزِّهِمْ وَمَحِلَّ شَرَفِهِمْ وَفَخْرِهِمْ.
وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: يَصِحُّ أَنْ تَكُونَ الْآيَةُ فِي الْأَمْرَيْنِ عَلَى التَّوْزِيعِ، فَالَّذِينَ مَنَعُوا مَسَاجِدَ اللهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ هُمْ مُشْرِكُو مَكَّةَ، وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي خَرَابِهَا هُمْ مُشْرِكُو الرُّومَانِيِّينَ.
وَيَكُونُ قَرْنُ مَا عَمِلَ الْمُشْرِكُونَ مِنْ مَنْعِ الْبَيْتِ الْحَرَامِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهِ اسْمُ اللهِ بِزِيَارَةِ النَّبِيِّ وَأَصْحَابِهِ بِمَا عَمِلَ مَنْ قَبْلَهُمْ مِنْ مُشْرِكِي الرُّومَانِيِّينَ مِنَ التَّخْرِيبِ مِنْ قَبِيلِ الْإِشَارَةِ إِلَى تَسَاوِي الْفِعْلَيْنِ فِي الْقَبِيحِ.
(الثَّالِثُ) : أَنَّ الْكَلَامَ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ، وَأَنَّ الْآيَةَ لَيْسَتْ مُنْبِئَةً بِأَمْرٍ وَقَعَ،
وَلَكِنْ بِأَمْرٍ سَيَقَعُ، وَهُوَ مَا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ إِغَارَةِ الصَّلِيبِيِّينَ عَلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَغَيْرِهِ مِنْ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ وَصَدِّهِمْ إِيَّاهُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى، وَتَخْرِيبِهِمْ كَثِيرًا مِنَ الْمَسَاجِدِ.
(الرَّابِعُ) : وَهُوَ مَبْنِيٌّ أَيْضًا عَلَى أَنَّ الْآيَةَ مُنْبِئَةٌ عَنْ أَمْرٍ سَيَقَعُ وَأَنَّ الْمُرَادَ بِهَا حَادِثَةُ (الْقَرَامِطَةِ) الَّذِينَ هَدَمُوا الْكَعْبَةَ وَمَنَعُوا الْمُسْلِمِينَ مِنْهَا، وَهَدَمُوا كَثِيرًا مِنَ الْمَسَاجِدِ، كَأَنَّهُ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ حَالَ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي طَعْنِ الْيَهُودِ مِنْهُمْ بِالنَّصَارَى وَقَوْلِهِمْ فِيهِمْ: إِنَّهُمْ لَيْسُوا عَلَى شَيْءٍ مِنَ الدِّينِ، وَطَعْنِ النَّصَارَى فِي الْيَهُودِ كَذَلِكَ، وَبَعْدَ قَوْلِهِ فِي الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ: إِنَّهُمْ قَالُوا مِثْلَ قَوْلِهِمْ، لَمْ يَبْقَ إِلَّا مَا سَيَقَعُ لِلْمُسْلِمِينَ وَفِي الْمُسْلِمِينَ، فَأَنْبَأَ اللهُ - تَعَالَى - بِهَذِهِ الْحَادِثَةِ مِنَ الْإِخْبَارِ بِالْغَيْبِ فَوَقَعَتْ، وَكَانَتْ حَادِثَتُهُمْ مِنْ أَكْبَرِ الْأَحْدَاثِ فِي الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّهُمُ اسْتَوْلَوْا عَلَى جُزْءٍ كَبِيرٍ مِنْ مَمَالِكِ الْإِسْلَامِ وَهَدَمُوا الْمَسَاجِدَ، وَعَاثُوا فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَلَمْ يَكُنْ فِي أَيَّامِ الْحُرُوبِ الصَّلِيبِيَّةِ عَلَى طُولِهَا مِنَ الصَّدِّ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ مِثْلَمَا كَانَ عَلَى عَهْدِ (الْقَرَامِطَةِ) فَالْآيَاتُ عَلَى هَذَا مُبَيِّنَةٌ لِأَحْوَالِ جَمِيعِ الْمِلَلِ.
(قَالَ شَيْخُنَا) : سَوَاءً كَانَتِ الْآيَةُ فِي حَادِثَةٍ وَاقِعَةٍ أَوْ مُنْتَظَرَةٍ أَوْ كَانَتْ وَعِيدًا لِلَّذِينِ لَا يَحْتَرِمُونَ الْمَعَابِدَ عَلَى الْإِطْلَاقِ، هِيَ عَلَى كُلِّ حَالٍ نَاطِقَةٌ بِوُجُوبِ احْتِرَامِ كُلِّ مَعْبَدٍ يُذْكَرُ فِيهِ اسْمُ اللهِ - تَعَالَى - بِالصَّلَاةِ وَالتَّسْبِيحِ وَبِتَحْرِيمِ السَّعْيِ فِي خَرَابِ الْمَعَابِدِ، وَبِالْحُكْمِ عَلَى الَّذِينَ يَصُدُّونَ النَّاسَ عَنْهَا وَيَسْعَوْنَ فِي خَرَابِهَا - أَيْ هَدْمِهَا أَوْ تَعْطِيلِ شَعَائِرِهَا وَمَنْعِ عِبَادَةِ اللهِ فِيهَا - بِكَوْنِهِمْ أَظْلَمَ النَّاسِ كَمَا يُسْتَفَادُ مِنِ اسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِ؛ لِأَنَّ الْمَنْعَ مِنْ ذِكْرِ اللهِ - تَعَالَى -، وَإِبْطَالَ شَعَائِرِ الْمَعَابِدِ الَّتِي تُذَكِّرُ بِهِ، وَتُشْعِرُ الْقُلُوبَ عَظَمَتَهُ انْتِهَاكٌ لِحُرْمَةِ الدِّينِ يُفْضِي إِلَى نِسْيَانِ النَّاسِ الرَّقِيبَ الْمُهَيْمِنَ عَلَيْهِمْ، فَيُمْسُونَ كَالْهُمْلِ وَتَفْشُو فِيهِمُ الْمُنْكَرَاتُ وَالْفَوَاحِشُ، وَانْتِهَاكُ الْحُرُمَاتِ، وَهَضْمُ الْحُقُوقِ، وَسَفْكُ الدِّمَاءِ. وَعِبَادَةُ اللهِ - تَعَالَى - بِذِكْرِهِ وَالصَّلَاةُ لَهُ تَنْهَيْ بِطَبِيعَتِهَا عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ، وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ مَا عَسَاهُ يَطْرَأُ عَلَى الْعِبَادَةِ أَوْ يُوجَدُ فِي الْمَسَاجِدِ مِنَ الْأَشْيَاءِ الْمُبْتَدَعَةِ الَّتِي لَمْ يَأْمُرْ بِهَا الْكِتَابُ، فَمَنْ عَلِمَ بِهَذِهِ الْبِدَعِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُنْكِرَهَا وَيَسْعَى فِي إِزَالَتِهَا وَلَا يَجُوزُ لَهُ السَّعْيُ فِي إِزَالَةِ الْمَعَابِدِ مِنَ الْأَرْضِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْفَسَادِ الَّذِي أَشَرْنَا إِلَيْهِ. وَهَذَا هُوَ السِّرُّ
فِي حُكْمِ الشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ بِاحْتِرَامِ كَنَائِسِ أَهْلِ الْكِتَابِ
وَبِيَعِهِمْ وَصَوَامِعِهِمْ وَعُبَّادِهِمْ، وَاحْتِرَامِ مَعَابِدِ الَّذِينَ لَهُمْ شُبْهَةُ كِتَابٍ أَيْضًا كَالْمَجُوسِ وَالصَّابِئِينَ، بَلِ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ يَعُدُّ الصَّابِئِينَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَأَمَّا الْوَثَنِيُّونَ الْخُلَّصُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِيَاءَ وَيَبْنُونَ الْمَسَاجِدَ لِذِكْرِ غَيْرِهِ وَالتَّقَرُّبِ إِلَى سِوَاهُ، فَهَؤُلَاءِ لَمْ يَتَعَرَّضْ لِذِكْرِهِمْ وَلَمْ يَتَوَعَّدْ مَنْ يَمْنَعُهُمْ مِنْ سُخْفِهِمْ.
(أَقُولُ) : لَكِنْ ذَكَرَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ يَجِبُ هَدْمُ مَا بُنِيَ مِنَ الْمَسَاجِدِ وَالْقِبَابِ عَلَى قُبُورِ كَثِيرٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ آلِ الْبَيْتِ، وَأَئِمَّةِ الْفِقْهِ، وَغَيْرِهِمْ مِنَ الصَّالِحِينَ، وَارْتَكَبُوا فِيهَا الْمَحْظُورَاتِ الْكَثِيرَةَ الَّتِي يُعَدُّ بَعْضُهَا مِنَ الشِّرْكِ الصَّرِيحِ وَبَعْضُهَا مِنَ الْبِدَعِ وَالْمَعَاصِي، وَلَا سِيَّمَا الْمَعَاصِي الَّتِي تُفْعَلُ تَدَيُّنًا وَتَقَرُّبًا وَتَوَسُّلًا إِلَى اللهِ - تَعَالَى -، كَمَا تَرَى فِي كِتَابِ الزَّوَاجِرِ لِلْفَقِيهِ ابْنِ حَجَرٍ مِنْ فُقَهَاءِ الشَّافِعِيَّةِ وَغَيْرِهِ مِنْ كُتُبِهِمْ، وَفِي كَثِيرٍ مِنْ كُتُبِ الْحَنَابِلَةِ وَيَحْتَجُّونَ بِهَدْمِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِمَسْجِدِ الضِّرَارِ، إِنَّمَا يَعْنِي شَيْخُنَا بِتَعْطِيلِ الْمَسَاجِدِ هُنَا إِبْطَالَ التَّدَيُّنِ وَالْعِبَادَةِ مُطْلَقًا كَمَا يُعْلَمُ مِمَّا يَأْتِي، لَا إِبْطَالَ الْبِدَعِ الَّتِي شَوَّهَتِ الْإِسْلَامَ.
ثُمَّ قَالَ - تَعَالَى - فِي شَأْنِ الْمُعْتَدِينَ عَلَى الْمَسَاجِدِ: (أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ) أَيْ فَكَيْفَ يَدْخُلُونَهَا مُفْسِدِينَ وَمُخَرِّبِينَ؟ وَلَا يَنْبَغِي لِلْعَاقِلِ أَنْ يُقْدِمَ عَلَى أَمْرٍ إِلَّا بَعْدَ النَّظَرِ فِيهِ وَالْعِلْمِ بِدَرَجَةِ نَفْعِهِ أَوْ ضَرِّهِ. وَمَا كَانَتْ عِبَادَةُ اللهِ - تَعَالَى - إِلَّا نَافِعَةً وَمَا كَانَ تَرْكُهَا إِلَّا ضَارًّا.
وَمَا عَسَاهُ يُوجَدُ فِي عِبَادَاتِ الْأُمَمِ مِنَ الْخُرَافَاتِ الضَّارَّةِ، فَإِنَّمَا الْمَكْرُوهُ مِنْهُ مَا فِيهِ مِمَّا يُبْعِدُ عَنْ عِبَادَةِ اللهِ - تَعَالَى -، وَيُوقِعُ فِي إِشْرَاكِ غَيْرِهِ فِيهَا، عَلَى أَنَّ الْعِبَادَةَ الْمَمْزُوجَةَ بِنَزَغَاتِ الْوَثَنِيَّةِ أَهْوَنُ مِنَ التَّعْطِيلِ الْقَاضِي بِالْجُحُودِ الْمُطْلَقِ؛ لِذَلِكَ تَوَعَّدَ اللهُ - تَعَالَى - أُولَئِكَ الْمُعْتَدِينَ الظَّالِمِينَ بِقَوْلِهِ:(لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ) فَأَمَّا خِزْيُ الدُّنْيَا فَهُوَ مَا يُعْقِبُهُ الظُّلْمُ مِنْ فَسَادِ الْعُمْرَانِ، الْمُفْضِي إِلَى الذُّلِّ وَالْهَوَانِ، وَنَاهِيكَ بِظُلْمٍ يَحِلُّ الْقُيُودَ وَيَهْدِمُ الْحُدُودَ، وَيُغْرِي النَّاسَ بِالْفَوَاحِشِ وَالْمُنْكَرَاتِ، وَيُسَهِّلُ عَلَيْهِمْ سُبُلَ الشُّرُورِ وَالْمُوبِقَاتِ، وَهُوَ ظُلْمُ إِبْطَالِ الْعِبَادَةِ مِنَ الْمَسَاجِدِ، وَالسَّعْيِ فِي خَرَابِ الْمَعَابِدِ، إِذَا وَقَعَ هَذَا الظُّلْمُ كَانَ الْحَاكِمُ الظَّالِمُ مَخْذُولًا فِي حُكْمِهِ، وَالْفَاتِحُ الظَّالِمُ غَيْرَ أَمِينٍ فِي فَتْحِهِ، وَإِذَا أَرَدْتَ
تَطْبِيقَ ذَلِكَ عَلَى مَنْ نُسِبَ إِلَيْهِمْ هَذَا الظُّلْمُ فَانْظُرْ مَاذَا حَلَّ بِالرُّومَانِيِّينَ، وَمَاذَا كَانَتْ عَاقِبَةُ الْعَرَبِ الْمُشْرِكِينَ، وَبِمَاذَا انْتَهَى عُدْوَانُ الصَّلِيبِيِّينَ، وَكَيْفَ انْقَرَضَ حِزْبُ الْقَرَامِطَةِ الْمُجْرِمِينَ، وَأَمَّا عَذَابُ الْآخِرَةِ فَاللهُ أَعْلَمُ بِهِ، وَنَحْنُ بِوَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ.
ثُمَّ قَالَ - تَعَالَى -: (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ) ، ذَهَبَ الْمُفَسِّرُ (الْجَلَالُ) إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ الْأَرْضُ كُلُّهَا؛ لِأَنَّهُمَا نَاحِيَتَاهَا، وَقَالَ فِي قَوْلِهِ:(فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) أَيْ أَيَّ مَكَانٍ تَسْتَقْبِلُونَهُ فِي صَلَاتِكُمْ فَهُنَاكَ وَجْهُ الْقِبْلَةِ الَّتِي أَمَرَ اللهُ بِأَنْ يُتَوَجَّهَ إِلَيْهَا. وُوَجَّهَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ هَذَا بِقَوْلِهِ: إِنَّ مِنْ شَأْنِ الْعَابِدِ أَنْ يَسْتَقْبِلَ وَجْهَ الْمَعْبُودِ، وَلَمَّا كَانَ سُبْحَانَهُ مُنَزَّهًا عَنِ
الْمَادَّةِ وَالْجِهَةِ وَاسْتِقْبَالُهُ بِهَذَا الْمَعْنَى مُسْتَحِيلًا، شَرَعَ لِلنَّاسِ مَكَانًا مَخْصُوصًا يَسْتَقْبِلُونَهُ فِي عِبَادَتِهِمْ إِيَّاهُ. وَجَعَلَ اسْتِقْبَالَ ذَلِكَ الْمَكَانِ كَاسْتِقْبَالِ وَجْهَهُ - تَعَالَى. ثُمَّ قَالَ:
هَذِهِ الْآيَةُ مُتَّصِلَةٌ بِمَا قَبْلَهَا وَهُوَ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللهِ) . . . إِلَخْ، وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى خِلَافِ مَا قَالَ (الْجَلَالُ) فِي تَفْسِيرِ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، قَالُوا: إِنَّ الْمُرَادَ بِهِمَا الْجِهَتَانِ الْمَعْلُومَتَانِ لِكُلِّ أَحَدٍ؛ وَلِذَلِكَ خَصَّهُمَا بِالذِّكْرِ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -:(رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ)(55: 17) وَهُوَ يَسْتَلْزِمُ مَا قَالَهُ (الْجَلَالُ)، فَإِنَّ الْمُرَادَ عَلَى كُلِّ حَالٍ: أَيَّةُ جِهَةٍ اسْتَقْبَلْتَ وَتَوَجَّهْتَ إِلَيْهَا فِي صَلَاتِكَ فَأَنْتَ مُتَوَجِّهٌ إِلَى اللهِ - تَعَالَى -؛ لِأَنَّ كُلَّ الْجِهَاتِ لَهُ (إِنَّ اللهَ وَاسِعٌ) لَا يَتَحَدَّدُ وَلَا يُحْصَرُ، فَيَصِحُّ أَنْ يُتَوَجَّهَ إِلَيْهِ فِي كُلِّ مَكَانٍ، (عَلِيمٌ) بِالْمُتَوَجِّهِ إِلَيْهِ أَيْنَمَا كَانَ، أَيْ فَاعْبُدِ اللهَ حَيْثُمَا كُنْتَ، وَتَوَجَّهْ إِلَيْهِ أَيْنَمَا حَلَلْتَ، وَلَا تَتَقَيَّدْ بِالْأَمْكِنَةِ، فَإِنَّ مَعْبُودَكَ غَيْرُ مُقَيَّدٍ.
أَقُولُ: بَلْ هُوَ فَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ بَائِنًا مِنْهُ.
وَأَزْيَدُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ بَعْضَ رُوَاةِ الْمَأْثُورِ قَالُوا: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ قَبْلَ الْأَمْرِ بِالتَّوَجُّهِ إِلَى قِبْلَةٍ مُعَيَّنَةٍ. وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي تَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ عَنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ إِلَى الْكَعْبَةِ، وَلَكِنَّ هَذَا فِيهِ آيَاتٌ مُفَصَّلَةٌ سَتَأْتِي فِي أَوَّلِ الْجُزْءِ الثَّانِي مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي صَلَاةِ تَطَوُّعٍ فِي السَّفَرِ لَا يُشْتَرَطُ فِيهَا اسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ. وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّهَا فِيمَنْ يَجْتَهِدُونَ فِي الْقِبْلَةِ فَيُخْطِئُونَ فَإِنَّ صَلَاتَهُمْ صَحِيحَةٌ؛ لِأَنَّ إِيجَابَ اسْتِقْبَالِ جِهَةٍ مُعَيَّنَةٍ إِنَّمَا هُوَ لِلْمَعْنَى الِاجْتِمَاعِيِّ فِي الصَّلَاةِ وَوَحْدَةِ الْأُمَّةِ فِيهَا، وَالتَّعْلِيلُ يَصِحُّ فِي كُلِّ قَوْلٍ مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ، فَإِنَّهُ أَيْنَمَا تَوَجَّهَ الْمُصَلِّي فِي
صَلَاتِهِ الصَّحِيحَةِ فَهُوَ مُتَوَجِّهٌ إِلَى اللهِ - تَعَالَى - لَا يَقْصِدُ بِصَلَاتِهِ غَيْرَهُ، وَهُوَ - تَعَالَى - مُقْبِلٌ عَلَيْهِ رَاضٍ عَنْهُ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ يَلْتَزِمُونَ فِي صَلَاتِهِمْ جِهَةً مُعَيَّنَةً كَالْتِزَامِ النَّصَارَى جِهَةَ الْمَشْرِقِ، وَأَنَّ اسْتِقْبَالَ الْمُسْلِمِينَ الْكَعْبَةَ يَقْتَضِي أَنْ يُصَلِّيَ أَهْلُ كُلِّ قُطْرٍ إِلَى جِهَةٍ مِنَ الْجِهَاتِ الْأَرْبَعِ فَهُمْ يُصَلُّونَ إِلَى جَمِيعِ الْجِهَاتِ، وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ تَوَجُّهَهَمْ إِلَى اللهِ - تَعَالَى -، وَالْوَجْهُ هُنَا قِيلَ: إِنَّهُ بِمَعْنَى الْجِهَةِ وَهُوَ صَحِيحٌ لُغَةً، وَالْمَعْنَى: فَهُنَاكَ الْقِبْلَةُ الَّتِي يَرْضَاهَا لَكُمْ. وَقِيلَ: إِنَّهُ عَلَى حَدِّ (مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ)(58: 7) .
وَوَجْهُ الْمُنَاسَبَةِ وَالِاتِّصَالِ بَيْنَ هَذِهِ الْآيَةِ وَمَا قَبْلَهَا ظَاهِرٌ عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ، فَإِنَّ فِيهَا إِبْطَالَ مَا كَانَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْمِلَلِ السَّابِقَةِ مِنِ اعْتِقَادِ أَنَّ الْعِبَادَةَ لِلَّهِ - تَعَالَى - لَا يَصِحُّ أَنْ تَكُونَ إِلَّا فِي الْهَيْكَلِ وَالْمَعْبَدِ الْمَخْصُوصِ، وَفِي إِبْطَالِ هَذَا إِزَالَةُ مَا عَسَاهُ يُتَوَهَّمُ مِنْ وَعِيدِ مَنْ مَنْعَ مَسَاجِدَ اللهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ مِنْ أَنَّهُ وَعِيدٌ عَلَى إِبْطَالِ الْعِبَادَةِ فِي الْمَوَاضِعِ الْمَخْصُوصَةِ؛ لِأَنَّهُ إِبْطَالٌ لَهَا بِالْمَرَّةِ، إِذْ لَا تَصِحُّ إِلَّا فِي تِلْكَ الْمَوَاضِعِ، فَهَذِهِ الْآيَةُ تَنْفِي ذَلِكَ التَّوَهُّمَ مِنْ حَيْثُ تُثْبِتُ لَنَا قَاعِدَةً مِنْ أَهَمِّ قَوَاعِدِ الِاعْتِقَادِ، وَهِيَ أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - لَا تُحَدِّدُهُ الْجِهَاتُ، وَلَا تَحْصُرُهُ الْأَمْكِنَةُ، وَلَا يُتَقَرَّبُ إِلَيْهِ بِالْبِقَاعِ
وَالْمَعَاهِدِ، وَلَا تَنْحَصِرُ عِبَادَتُهُ فِي الْهَيَاكِلِ وَالْمَسَاجِدِ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ الْوَعِيدُ لِانْتِهَاكِ حُرُمَاتِ اللهِ وَإِبْطَالِ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ عِبَادَتِهِ، وَهُوَ الْعِبَادَةُ الِاجْتِمَاعِيَّةُ الَّتِي يَجْتَمِعُ لَهَا النَّاسُ فِي أَشْرَفِ الْمَعَاهِدِ عَلَى خَيْرِ الْأَعْمَالِ الَّتِي تُطَهِّرُ نُفُوسَهُمْ وَتُهَذِّبُ أَخْلَاقَهُمْ.
وَهَذَا الضَّرْبُ مِنَ الْبَيَانِ مِمَّا امْتَازَ بِهِ الْقُرْآنُ عَلَى سَائِرِ الْكَلَامِ، فَإِنَّكَ لَتَرَى فِيهِ فُنُونًا مِنَ الِاسْتِدْرَاكِ وَالِاحْتِرَاسِ قَدْ جَاءَتْ فِي خِلَالِ الْقَصَصِ وَسِيَاقِ الْأَحْكَامِ، تَقْرَأُ الْآيَةَ فِي حُكْمٍ مِنَ الْأَحْكَامِ، أَوْ عِظَةٍ مِنَ الْمَوَاعِظِ، أَوْ وَاقِعَةٍ تَارِيخِيَّةٍ فِيهَا عِبْرَةٌ مِنَ الْعِبَرِ، فَتَرَاهَا مُسْتَقِلَّةً بِالْبَيَانِ، وَلَكِنَّهَا بِاتِّصَالِهَا بِمَا قَبْلَهَا قَدْ أَزَالَتْ وَهْمًا أَوْ تَمَّمَتْ حُكْمًا، وَكَانَ يَنْبَغِي لِأَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ أَنْ يَقْتَبِسُوا هَذِهِ الضُّرُوبَ مِنَ الْبَيَانِ، وَيَتَوَسَّعُوا بِهَا فِي أَسَالِيبِ الْكَلَامِ، فَإِنَّ الْقُرْآنَ قَدْ أَطْلَقَ لَهُمُ اللُّغَةَ مِنْ عِقَالِهَا، وَعَلَّمَهُمْ مِنَ الْأَسَالِيبِ الرَّفِيعَةِ مَا كَانَتْ تَسْتَحْلِيهِ أَذْوَاقُهُمْ، وَتَنْفَعِلُ لَهُ قُلُوبُهُمْ، وَتَهْتَزُّ لَهُ نُفُوسُهُمْ، وَتَتَحَرَّكُ بِهِ أَرْيَحِيَّتُهُمْ، وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يُوَفَّقُوا لِاقْتِبَاسِ هَذِهِ الْأَسَالِيبِ
الْجَدِيدَةِ، عَلَى أَنَّ مَلَكَتَهُمْ فِي حُسْنِ الْبَيَانِ، قَدِ ارْتَفَعَتْ بَعْدَ نُزُولِ الْقُرْآنِ.
(قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ) : وَسَنُعْطِي هَذَا الْمَوْضُوعَ حَقَّهُ مِنَ الْبَيَانِ فِي مَوْضِعٍ تَكُونُ مُنَاسَبَتُهُ أَقْوَى مِنْ هَذِهِ الْمُنَاسَبَةِ.
ثُمَّ عَادَ الْكِتَابُ إِلَى النَّسَقِ السَّابِقِ فِي تَعْدَادِ مَخَازِي أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ بَعْدَمَا ذَكَرَ مِنْ وَعِيدِ مَنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ مَا ذَكَرَ، وَبَيَّنَ أَنَّهُ بَعِيدٌ فِي كُلِّ مَكَانٍ، فَقَالَ جَلَّ وَعَزَّ:(وَقَالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَدًا)، فَهَذَا عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -:(وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى)(2: 111) وَقَوْلِهِ: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ)(2: 113) . . . إِلَخْ، وَيَصِحُّ أَنْ يُنْسَبَ هَذَا إِلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ جَمِيعًا. وَإِلَى فِرْقَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْهُمْ. وَوَجْهُ الْعُمُومِ أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - أَخْبَرَنَا فِي مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِهِ بِأَنَّ الْيَهُودَ قَالَتْ: عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ، وَأَنَّ النَّصَارَى قَالَتِ: الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ، وَأَنَّ الْمُشْرِكِينَ قَالُوا: إِنَّ الْمَلَائِكَةَ بَنَاتُ اللهِ. وَلَا فَرْقَ فِي الْأَحْكَامِ الَّتِي تُسْنَدُ إِلَى الْأُمَمِ بَيْنَ كَوْنِهَا صَدَرَتْ مِنْ جَمِيعِ أَفْرَادِ الْأُمَّةِ أَوْ صَدَرَتْ مِنْ بَعْضِهِمْ، فَإِنَّ مِثْلَ هَذَا الْإِسْنَادِ مُنْبِئٌ بِتَكَافُلِ الْأُمَمِ كَمَا تَقَدَّمَ غَيْرَ مَرَّةٍ. وَقَدْ نُقِلَ أَنَّ كَلِمَةَ ((عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ)) قَالَهَا بَعْضُ الْيَهُودِ لَا كُلُّهُمْ.، وَكَذَلِكَ اعْتِقَادُ كَوْنِ الْمَلَائِكَةِ بَنَاتِ اللهِ لَمْ يَكُنْ عَامًّا فِي مُشْرِكِي الْعَرَبِ، وَإِنَّمَا عُرِفَ عَنْ بَعْضِهِمْ. ثُمَّ رَدَّ عَلَى مُدَّعِي اتِّخَاذِ الْوَلَدِ بِقَوْلِهِ:(سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ) نَزَّهَ - تَعَالَى - نَفْسَهُ بِكَلِمَةِ (سُبْحَانَهُ) الَّتِي تُفِيدُ التَّنْزِيهَ، مَعَ التَّعَجُّبِ مِمَّا يُنَافِيهِ، كَأَنَّ الَّذِي يَعْرِفُهُ - تَعَالَى - لَا يَنْبَغِي أَنْ يَصْدُرَ عَنْهُ مِثْلَ هَذَا الْقَوْلِ الَّذِي يُشْعِرُ بِأَنَّ لَهُ - تَعَالَى - جِنْسًا يُمَاثِلُهُ، فَإِنَّ قَائِلَ ذَلِكَ لَا يَكُونُ عَلَى عِلْمٍ بِاللهِ - تَعَالَى -، وَإِنَّمَا يَكُونُ زَاعِمًا فِيهِ الْمَزَاعِمَ وَظَانًّا فِيهِ الظُّنُونَ، أَيْ تَنْزِيهًا لَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ كَمَا زَعَمَ هَؤُلَاءِ الْجَاهِلُونَ الظَّانُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ، فَإِنَّهُ لَا جِنْسَ لَهُ فَيَكُونُ لَهُ وَلَدٌ مِنْهُ، وَهَذَا الْوَلَدُ الَّذِي نَسَبُوهُ إِلَيْهِ
-
تَعَالَى - لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ وَهُوَ السَّمَاءُ، أَوْ مِنَ الْعَالَمِ السُّفْلِيِّ وَهُوَ الْأَرْضُ، وَلَا يَصْلُحُ شَيْءٌ مِنْهُمَا أَنْ يَكُونَ مُجَانِسًا لَهُ عز وجل؛ لِأَنَّ جَمِيعَ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مِلْكٌ لَهُ، قَانِتٌ لِعِزَّتِهِ وَجَلَالِهِ، أَيْ خَاضِعٌ لِقَهْرِهِ مُسَخَّرٌ لِمَشِيئَتِهِ، فَإِذَا كَانُوا سَوَاءً فِي كَوْنِهِمْ مُسَخَّرِينَ لَهُ بِفِطْرَتِهِمْ، مُنْقَادِينَ لِإِرَادَتِهِ
بِطَبِيعَتِهِمْ وَاسْتِعْدَادِهِمْ، فَلَا مَعْنَى حِينَئِذٍ لِتَخْصِيصِ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِالِانْتِسَابِ إِلَيْهِ وَجَعْلِهِ وَلَدًا مُجَانِسًا لَهُ (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا) (19: 93) نَعَمْ إِنَّ لَهُ سُبْحَانَهُ أَنْ يَخْتَصَّ مَنْ شَاءَ كَمَا اخْتَصَّ الْأَنْبِيَاءَ بِالْوَحْيِ، وَلَكِنَّ هَذَا التَّخْصِيصَ لَا يَرْتَقِي بِالْمَخْلُوقِ إِلَى مَرْتَبَةِ الْخَالِقِ، وَلَا يُعَرِّجُ بِالْمَوْجُودِ الْمُمْكِنِ إِلَى دَرَجَةِ الْوُجُودِ الْوَاجِبِ، وَإِنَّمَا يُودِعُ سُبْحَانَهُ فِي فِطْرَةِ مَنْ شَاءَ مَا يُؤَهِّلُهُ لِمَا شَاءَ مِنْهُ (أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى) (20: 50) وَلَيْسَتْ شُبْهَةُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا بَعْضَ الْبَشَرِ آلِهَةً بِأَمْثَلَ مِنْ شُبْهَةِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا بَعْضَ الْكَوَاكِبِ آلِهَةً، إِذِ التَّفَاوُتُ بَيْنَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ أَظْهَرُ مَثَلًا مِنَ التَّفَاوُتِ بَيْنَ الْمَسِيحِ، وَبَيْنَ سَائِرِ النَّاسِ الَّذِينَ عَبَدُوهُ وَقَالُوا: هُوَ ابْنُ اللهِ أَوْ هُوَ اللهُ.
وَقَدْ غَلِّبَ فِي الْمِلْكِيَّةِ مَا لَا يَعْقِلُ فَقَالَ: (لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ) . . . إِلَخْ، لِأَنَّ الْمُرَادَ بِتَسْخِيرِهَا لَهُ التَّسْخِيرُ الطَّبِيعِيُّ الَّذِي لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الِاخْتِيَارُ، لَا التَّسْخِيرُ الشَّرْعِيُّ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِالتَّكْلِيفِ الَّذِي يَفْعَلُهُ الْكَاسِبُ بِاخْتِيَارِهِ، وَيَسْتَوِي فِي التَّسْخِيرِ الطَّبِيعِيِّ الْعَاقِلُ وَغَيْرُهُ، وَلَكِنَّهُ فِي غَيْرِ الْعَاقِلِ أَظْهَرُ.
وَلَمَّا ذَكَرَ الْقُنُوتَ لَهُ - تَعَالَى -، جَمَعَهُ بِضَمِيرِ الْعَاقِلِ فَغَلَبَ فِيهِ الْعُقَلَاءُ؛ لِأَنَّ مِنْ شَأْنِ الْقُنُوتِ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْعَاقِلِ الَّذِي يَشْعُرُ بِمُوجَبِهِ وَيَفْعَلُهُ بِاخْتِيَارِهِ، وَإِنْ كَانَ لِغَيْرِ الْعَاقِلِ قُنُوتٌ يَلِيقُ بِهِ. وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ: أَنَّ الْآيَةَ نَاطِقَةٌ بِأَنَّ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مِلْكٌ لِلَّهِ - تَعَالَى - وَمُسَخَّرٌ لِإِرَادَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْعَاقِلِ وَغَيْرِهِ، فَقَدْ حَكَمَ عَلَى الْجَمِيعِ بِالْمِلْكِيَّةِ وَبِالْقُنُوتِ الَّذِي يُرَادُ بِهِ التَّسْخِيرُ وَقَبُولُ تَعَلُّقِ الْإِرَادَةِ وَالْقُدْرَةِ، وَلَكِنَّهُ عِنْدَ ذِكْرِ الْمِلْكِ عَبَّرَ عَنْهُ بِالْكَلِمَةِ الَّتِي تُسْتَعْمَلُ غَالِبًا فِي غَيْرِ الْعَاقِلِ وَهِيَ كَلِمَةُ (مَا) ؛ لِأَنَّ الْمَعْهُودَ فِي ذَوْقِ اللُّغَةِ وَعُرْفِ أَهْلِهَا أَنَّ الْمِلْكَ يَتَعَلَّقُ بِمَا لَا يَعْقِلُ، وَعِنْدَ ذِكْرِ الْقُنُوتِ عَبَّرَ عَنْهُ بِضَمِيرِ الْعُقَلَاءِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَعْمَالِهِمْ، وَمِمَّا يُعْهَدُ مِنْهُمْ وَيُسْنَدُ إِلَيْهِمْ لُغَةً وَعُرْفًا وَهَذَا كَمَا تَرَى مِنْ أَدَقِّ التَّعْبِيرِ وَأَلْطَفِهِ، وَأَعْلَى الْبَيَانِ وَأَشْرَفِهِ.
ثُمَّ زَادَ هَذَيْنَ الْحُكْمَيْنِ بَيَانًا وَتَأْكِيدًا فَقَالَ: (بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) . قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: إِنَّ الْبَدِيعَ بِمَعْنَى الْمُبْدِعِ، فَهُوَ مِنَ الرُّبَاعِيِّ " أَبْدَعَ " وَاسْتَشْهَدُوا بِبَيْتٍ مِنْ كَلَامِ عَمْرِو بْنِ مَعْدِيكَرِبَ جَاءَ فِيهِ (سَمِيعٌ) بِمَعْنَى مُسْمِعٍ، وَقَالُوا: قَدْ تَعَاقَبَ
فَعِيلٌ وَمُفْعِلٌ فِي حُرُوفٍ كَثِيرَةٍ كَحَكِيمٍ وَمُحْكِمٍ، وَقَعِيدٍ وَمُقْعِدٍ، وَسَخِينٍ وَمُسْخِنٍ. وَقَالُوا: إِنَّ الْإِبْدَاعَ هُوَ إِيجَادُ الشَّيْءِ بِصُورَةٍ مُخْتَرَعَةٍ عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ سَبَقَ وَهُوَ لَا يَقْتَضِي سَبْقَ الْمَادَّةِ، وَأَمَّا الْخَلْقُ فَمَعْنَاهُ: التَّقْدِيرُ وَهُوَ يَقْتَضِي شَيْئًا مَوْجُودًا يَقَعُ فِيهِ التَّقْدِيرُ، وَإِذَا كَانَ هُوَ الْمُبْدِعُ لِلسَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْمُخْتَرِعُ
لَهُمَا وَالْمُوجِدُ لِجَمِيعِ مَا فِيهِمَا، فَكَيْفَ يَصِحُّ أَنْ يُنْسَبَ إِلَيْهِ شَيْءٌ مِنْهُمَا عَلَى أَنَّهُ جِنْسٌ لَهُ، - تَعَالَى - اللهُ عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا.
وَكَانَ الْأَصْمَعِيُّ يُنْكِرُ فَعِيلًا بِمَعْنَى مُفْعِلٍ؛ لِأَنَّ الْقِيَاسَ بِنَاؤُهُ مِنَ الثُّلَاثِيِّ وَيَقُولُ: إِنَّ بَدِيعًا صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ بِمَعْنَى لَا نَظِيرَ لَهُ، وَبَدِيعَ السَّمَاوَاتِ مَعْنَاهُ: الْبَدِيعَةُ سَمَاوَاتُهُ، وَفِي هَذَا تَرْكٌ لِلْقِيَاسِ الَّذِي قَضَى فِي الصِّفَةِ الْمُشَبَّهَةِ الَّتِي تُضَافُ إِلَى الْفَاعِلِ، أَنْ تَكُونَ مُتَضَمِّنَةً ضَمِيرًا يَعُودُ عَلَى الْمَوْصُوفِ، وَالْحَقُّ أَنَّ تَحْكِيمَ الْقِيَاسِ فِيمَا ثَبَتَ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ تَحْكِيمٌ جَائِزٌ، فَمَا كَانَ لِلدَّخِيلِ فِي الْقَوْمِ أَنْ يَعْمِدَ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْ كَلَامِهِمْ، فَيَضَعَ لَهَا قَانُونًا يُبْطِلُ بِهِ كَلَامًا آخَرَ ثَبَتَ عَنْهُمْ، وَيَعُدُّهُ خَارِجًا عَنْ لُغَتِهِمْ بَعْدَ ثُبُوتِ نُطْقِهِمْ بِهِ، فَإِذَا كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْوَجْهَيْنِ صَحِيحَ الْمَعْنَى، حَكَمْنَا بِصِحَّةِ كُلٍّ مِنْهُمَا، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ، وَشَوَاهِدُهُ الْمَسْمُوعَةُ أَكْثَرُ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: (وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) فَمَعْنَاهُ: أَنَّهُ إِذَا أَرَادَ إِيجَادَ أَمْرٍ وَإِحْدَاثَهُ، فَإِنَّمَا يَأْمُرُهُ أَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا، فَيَكُونُ مَوْجُودًا، فَكُنْ وَيَكُونُ مِنْ كَانَ التَّامَّةِ. وَقَدْ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ هَذَا ضَرْبٌ مِنَ التَّمْثِيلِ، أَيْ أَنَّ تَعَلُّقَ إِرَادَتِهِ - تَعَالَى - بِإِيجَادِ الشَّيْءِ يَعْقُبُهُ وَجُودُهُ، كَأَمْرٍ يَصْدُرُ فَيَعْقُبُهُ الِامْتِثَالُ، فَلَيْسَ بَعْدَ الْإِرَادَةِ إِلَّا حُصُولُ الْمُرَادِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ هُوَ قَوْلٌ حَقِيقِيٌّ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَقَدْ وَقَعَ هَذَا الْخِلَافُ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَغَيْرِهِمْ، وَعَجِيبٌ وُقُوعُهُ مِنْهُمْ، فَإِنَّ عِنْدَهُمْ مَذْهَبَيْنِ فِي الْمُتَشَابِهَاتِ الَّتِي يَسْتَحِيلُ حَمْلُهَا عَلَى ظَاهِرِهَا، وَهُمَا: مَذْهَبُ السَّلَفِ فِي التَّفْوِيضِ، وَمَذْهَبُ الْخَلَفِ فِي التَّأْوِيلِ، وَظَاهِرٌ أَنَّ هَذَا مِنَ الْمُتَشَابِهِ، وَالْقَاعِدَةُ فِي تَأْوِيلِ مِثْلِهِ مَعْرُوفَةٌ وَمُتَّفَقٌ عَلَيْهَا، وَهِيَ إِرْجَاعُ النَّقْلِيِّ إِلَى الْعَقْلِيِّ؛ لِأَنَّهُ الْأَصْلُ، وَهَاهُنَا يَقُولُونَ: إِنَّ الْأَمْرَ بِمَعْنَى تَعَلُّقِ الْإِرَادَةِ وَأَنَّ مَعْنَى (يَكُونُ) يُوجَدُ.
وَأَقُولُ: إِنَّ الْأَمْرَ بِكَلِمَةِ (كُنْ) هُنَا هُوَ الْأَصْلُ فِيمَا يُسَمُّونَهُ أَمْرَ التَّكْوِينِ، وَيُقَابِلُهُ أَمْرُ التَّكْلِيفِ، فَالْأَوَّلُ مُتَعَلِّقُ صِفَةِ الْإِرَادَةِ، وَالثَّانِي مُتَعَلِّقُ صِفَةِ الْكَلَامِ،
وَأَمْرُ التَّكْلِيفِ يُخَاطَبُ بِهِ الْعَاقِلُ فَيُسَمَّى الْمُكَلَّفَ، وَلَا يُخَاطَبُ بِهِ غَيْرُهُ فَضْلًا عَنِ الْمَعْدُومِ، وَأَمْرُ التَّكْوِينِ يَتَوَجَّهُ إِلَى الْمَعْدُومِ كَمَا يَتَوَجَّهُ إِلَى الْمَوْجُودِ؛ إِذِ الْمُرَادُ بِهِ جَعْلُهُ مَوْجُودًا، وَإِنَّمَا يُوَجَّهُ إِلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ، فَاللهُ - تَعَالَى - يَعْلَمُ الشَّيْءَ قَبْلَ وُجُودِهِ، وَأَنَّهُ سَيُوجَدُ فِي وَقْتِ كَذَا. فَتَتَعَلَّقُ إِرَادَتُهُ بِوُجُودِهِ عَلَى حَسَبِ مَا فِي عِلْمِهِ فَيُوجَدُ. وَشَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ يُسَمِّيهِ الْأَمْرَ الْقَدَرِيَّ الْكَوْنِيَّ، وَيُسَمِّي مُقَابِلَهُ الْأَمْرَ الشَّرْعِيَّ.
قَرَأَ الْجُمْهُورُ (فَيَكُونُ) فِي كُلِّ مَوْضِعٍ بِضَمِّ النُّونِ عَلَى تَقْدِيرِ فَهُوَ يَكُونُ كَمَا أَرَادَ، وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ بِفَتْحِهَا فِي كُلِّ مَوْضِعٍ إِلَّا فِي آلِ عِمْرَانَ وَالْأَنْعَامِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ جَوَابَ الْأَمْرِ بِالْفَاءِ يَكُونُ مَنْصُوبًا.
ذَلِكَ شَأْنُهُ - تَعَالَى - فِي الْإِيجَادِ وَالتَّكْوِينِ، وَهُوَ أَغْمَضُ أَسْرَارِ الْأُلُوهِيَّةِ، فَمَنْ عَرَفَ حَقِيقَتَهُ فَقَدْ عَرَفَ حَقِيقَةَ الْمُبْدِعِ الْأَوَّلِ، وَذَلِكَ مَا لَا مَطْمَعَ فِيهِ. وَقَدْ عَبَّرَ عَنْ هَذَا السِّرِّ بِهَذَا التَّعْبِيرِ
الَّذِي يُقَرِّبُهُ مِنَ الْفَهْمِ بِمَا لَا يَتَشَعَّبُ فِيهِ الْوَهْمُ، وَلَا يُوجَدُ فِي الْكَلَامِ تَعْبِيرٌ آخَرُ أَلْيَقَ بِهِ مِنْ هَذَا التَّعْبِيرِ: يَقُولُ لِلشَّيْءِ: (كُنْ فَيَكُونُ) ، فَالتَّوَالُدُ مُحَالٌ فِي جَانِبِهِ - تَعَالَى -؛ لِأَنَّ مَا يُعْهَدُ فِي حُدُوثِ بَعْضِ الْأَشْيَاءِ وَتَوَلُّدِهَا مِنْ بَعْضٍ، فَهُوَ لَا يَعْدُو طَرِيقَيْنِ: الِاسْتِعْدَادُ الْقَهْرِيُّ الَّذِي لَا مَجَالَ لِلِاخْتِيَارِ فِيهِ كَحُدُوثِ الْحَرَارَةِ مِنَ النُّورِ، وَتَوَلُّدِ الْعُفُونَةِ مِنَ الْمَاءِ يَتَّحِدُ بِغَيْرِهِ، وَالسَّعْيِ الِاخْتِيَارِيِّ كَتَوَلُّدِ النَّاسِ بِالِازْدِوَاجِ الَّذِي يُسَاقُونَ إِلَيْهِ مَعَ اخْتِيَارِهِ وَالْقَصْدِ إِلَيْهِ، وَإِذَا كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَمْرَيْنِ مُحَالًا عَلَى اللهِ - تَعَالَى -، وَكَانَ - تَعَالَى - هُوَ الْمُبْدِعُ لِجَمِيعِ الْكَائِنَاتِ، وَهِيَ بِأَسْرِهَا مِلْكُهُ وَمُسَخَّرَةٌ لِإِرَادَتِهِ فَلَا مَعْنَى لِإِضَافَةِ الْوَلَدِ إِلَيْهِ (سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (37: 180 - 182) .
(وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ
أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ)
قُلْنَا: إِنَّ السِّيَاقَ قَدِ انْتَقَلَ مِنَ الْكَلَامِ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ تُجَاهَ الْقُرْآنِ وَدَعْوَةِ الْإِسْلَامِ وَرَسُولِهِ إِلَى الْكَلَامِ فِي شُئُونِ الْمُؤْمِنِينَ مَعَهُمْ وَمَعَ النَّصَارَى وَالْوَثَنِيِّينَ، وَشَيْخُنَا لَا يَزَالُ يَجْعَلُ السِّيَاقَ وَاحِدًا غَيْرَ مُلْتَفِتٍ فِي التَّنَاسُبِ بَيْنَ الْآيَاتِ إِلَى هَذَا التَّفْصِيلِ لِذَلِكَ الْمُجْمَلِ، وَقَدْ قَالَ هُنَا مَا مِثَالُهُ: الْكَلَامُ لَا يَزَالُ فِي الْقُرْآنِ، وَمَا كَانَ مِنْ أَمْرِ النَّاسِ فِي الْإِيْمَانِ بِهِ وَعَدَمِ الْإِيْمَانِ، وَذَكَرَ فِي الْآيَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ آنِفًا مِنْ شَأْنِ أَهْلِ الْكِتَابِ، مَا تَبَيَّنَ بِهِ أَنَّ عَدَمَ إِيْمَانِهِمْ بِالنَّبِيِّ وَمَا جَاءَ بِهِ غَيْرُ قَادِحٍ فِيهِ، وَلَا يَنْهَضُ شُبْهَةً عَلَيْهِ، وَأَنَّ مَطَاعِنَهُمْ فِيهِ مُتَهَافِتَةٌ مَنْقُوضَةٌ بِطَعْنِهِمْ فِي أَنْفُسِهِمْ، وَتَخَبُّطِهِمْ فِي أَمْرِ كُتُبِهِمْ، ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى ذِكْرِ شُبْهَةِ مُشْرِكِي الْعَرَبِ، وَبَيَّنَ أَنَّهُمْ جَرَوْا فِيهَا عَلَى الْأَصْلِ الْمَعْهُودِ مِنْ أَمْثَالِهِمُ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ سَبَقُوهُمْ بِالضَّلَالِ فَقَالَ:(وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ) أَيِ الْجَاهِلُونَ بِالْكِتَابِ وَالشَّرَائِعِ مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ. وَقَالَ (الْجَلَالُ) : إِنَّ الْمُرَادَ بِالَّذِينِ لَا يَعْلَمُونَ كُفَّارُ مَكَّةَ خَاصَّةً وَلَا دَلِيلَ عَلَى التَّخْصِيصِ، وَيُرَجِّحُ الْعُمُومَ كَوْنُ الْآيَةِ مَدَنِيَّةً (لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللهُ) كَمَا
كَلَّمَ هَذَا الرَّسُولَ مَعَ أَنَّهُ بَشَرٌ مِثْلُنَا (أَوْ تَأْتِيَنَا آيَةٌ) مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي اقْتَرَحْنَاهَا. يَعْنُونَ مَا حَكَاهُ اللهُ - تَعَالَى - عَنْهُمْ بِمِثْلِ قَوْلِهِ: (وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا)(17: 90) الْآيَاتِ (كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ) أَيْ مِثْلَ هَذَا الْقَوْلِ قَالَ الْكُفَّارُ الَّذِينَ أَرْسَلَ اللهُ إِلَيْهِمُ الرُّسُلَ مِنْ قَبْلِهِمْ فِي مَعْنَاهُ، وَهُوَ أَنَّهُمْ أَنْكَرُوا عَلَى الرُّسُلِ الِاخْتِصَاصَ بِالْوَحْيِ مِنْ دُونِهِمْ وَاقْتَرَحُوا عَلَيْهِمُ الْآيَاتِ تَعَنُّتًا وَعِنَادًا (تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ) لِأَنَّ الطُّغْيَانَ قَدْ سَاوَى بَيْنَهُمْ حَتَّى كَأَنَّهُمْ تَوَاصَوْا بِمَا يَقُولُونَ كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ الذَّارِيَاتِ:(أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ)(51: 53) وَيُشْبِهُ هَذَا مَا وَرَدَ مِنْ أَنَّ الْكُفْرَ مِلَّةٌ وَاحِدَةٌ وَذَلِكَ أَنَّ الْحَقَّ وَاحِدٌ، وَمُخَالَفَتَهُ هِيَ الْبَاطِلُ أَوِ الضَّلَالُ، وَهُوَ وَاحِدٌ وَإِنْ تَعَدَّدَتْ طُرُقُهُ وَاخْتَلَفَتْ وُجُوهُهُ؛ وَآثَارُ الشَّيْءِ الْوَاحِدِ الْكُلِّيِّ تَتَشَابَهُ فِيمَنْ تَصْدُرُ عَنْهُمْ وَإِنِ اخْتَلَفَتِ الْجُزْئِيَّاتُ، وَالتَّشَابُهُ
هُنَا إِنَّمَا هُوَ فِي مُكَابَرَةِ الْحَقِّ وَاسْتِبْعَادِ كَوْنِ وَاحِدٍ مِنَ الْبَشَرِ رَسُولًا يُوحَى إِلَيْهِ وَاقْتِرَاحِ الْآيَاتِ تَعَنُّتًا وَعِنَادًا.
وَمِثَالُ الِاخْتِلَافِ فِي الْجُزْئِيَّاتِ طَلَبُ قَوْمِ مُوسَى رُؤْيَةَ اللهِ جَهْرَةً، وَطَلَبُ قَوْمِ مُحَمَّدٍ أَنْ يَرْقَى فِي السَّمَاءِ أَمَامَهُمْ فَيَأْتِيَهُمْ بِكِتَابٍ يَقْرَءُونَهُ، وَالطَّلَبُ الَّذِي مَصْدَرُهُ الْعِنَادُ وَالتَّعَنُّتُ لَا تُقَيَّدُ إِجَابَتُهُ؛ لِأَنَّ صَاحِبَهُ لَا يَقْصِدُ بِهِ مَعْرِفَةَ الْحَقِّ، وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى:(وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ)(6: 7) وَالدَّلِيلُ الْمَعْقُولُ عَلَى هَذَا أَنَّهُ مَا مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا وَقَدْ جَاءَ بِآيَةٍ أَوْ آيَاتٍ كَوْنِيَّةٍ أَوْ عَقْلِيَّةٍ، وَكَانُوا مَعَ ذَلِكَ يَصِفُونَهُمْ بِالسِّحْرِ ثُمَّ يَقْتَرِحُونَ عَلَيْهِمُ الْآيَاتِ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ - تَعَالَى - بَعْدَ حِكَايَةِ شُبْهَةِ هَؤُلَاءِ الْجَاهِلِينَ:(قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) أَيْ أَنَّنَا لَمْ نَدَعْكَ يَا مُحَمَّدُ بِغَيْرِ آيَةٍ بَلْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ عَلَى يَدَيْكَ بَيَانًا لَا يَدَعُ لِلرَّيْبِ طَرِيقًا إِلَى نَفْسِ مَنْ يَعْقِلُهَا. وَقَدْ قَالَ: (بَيَّنَّا الْآيَاتِ) وَلَمْ يَقُلْ: أَعْطَيْنَاكَ الْآيَاتِ لِلتَّفْرِقَةِ وَالْفَصْلِ بَيْنَ آيَاتِ الْقُرْآنِ الَّتِي هِيَ مِنْ عِلْمِ اللهِ وَكَلَامِهِ، يَظْهَرُ بِهَا الْحَقُّ بِطَرِيقٍ مَعْقُولٍ بَيِّنٍ لَا يَشْتَبِهُ فِيهِ الْفَهْمُ، وَلَا يَحَارُ فِيهِ الذِّهْنُ، وَبَيْنَ الْآيَاتِ الْكَوْنِيَّةِ الَّتِي هِيَ مِنْ صُنْعِهِ يَسْتَخْذِي لَهَا الْعَقْلُ وَيَخْضَعُ لَهَا؛ لِشُعُورِهِ بِأَنَّهَا مِنْ قُوَّةٍ فَوْقَ قُوَّتِهِ. وَلِلنَّاسِ فِيمَا يَرَوْنَهُ فَوْقَ مَا يَعْقِلُونَ طَرِيقَانِ مَعْهُودَانِ: مِنْهُمْ مَنْ يُسْنِدُهُ إِلَى الْقُوَّةِ الْغَيْبِيَّةِ الْعُلْيَا، سَوَاءٌ كَانَ لَهُ سَبَبٌ خَفِيٌّ فِي الْوَاقِعِ أَوْ لَا، وَمِنْهُمْ مَنْ يُسْنِدُهُ إِلَى الْأَسْبَابِ الْخَفِيَّةِ الَّتِي يُسَمُّونَهَا السِّحْرَ، وَإِنْ كَانَ فَوْقَ قُدْرَةِ الْبَشَرِ؛ وَلِذَلِكَ ضَلَّتِ الْأُمَمُ فِي آيَاتِ الْأَنْبِيَاءِ السَّابِقِينَ وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَضِلَّ فِي آيَاتِ الْقُرْآنِ لِأَنَّهَا بَيِّنَةٌ مَعْقُولَةٌ وَلِذَلِكَ قَالَ:(ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ)(2: 2) .
نَعَمْ إِنَّ الْآيَاتِ الْعِلْمِيَّةَ لَا يَعْقِلُهَا إِلَّا أَهْلُ الِاسْتِعْدَادِ لِلْعِلْمِ وَالْيَقِينِ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ: (لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) . قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: الَّذِينَ يُوقِنُونَ هُمُ الَّذِينَ خَلَصَتْ نُفُوسُهُمْ مِنْ كُلِّ رَأْيٍ وَتَقْلِيدٍ، وَتَوَجَّهُوا إِلَى طَلَبِ الْحَقِّ فِي الْأُمُورِ الِاعْتِقَادِيَّةِ، وَأَخَذُوا عَلَى أَنْفُسِهِمُ الْعَهْدَ أَنْ يَطْلُبُوهُ بِدَلِيلِهِ وَبُرْهَانِهِ، فَهُمْ إِذَا قَامَ عِنْدَهُمُ الْبُرْهَانُ اعْتَقَدُوا
وَأَيْقَنُوا إِيقَانًا، وَإِنَّمَا يُتَوَقَّعُ الْيَقِينُ مِنْ مِثْلِهِمْ
لَا مِنْ قَوْمٍ يَعْتَقِدُونَ الشَّيْءَ أَوَّلًا بِلَا دَلِيلٍ وَلَا بُرْهَانٍ، ثُمَّ يَلْتَمِسُونَ لَهُ الدَّلِيلَ؛ لِأَنَّ مُقَلِّدِيهِمْ قَالُوا بِوُجُوبِ مَعْرِفَةِ الدَّلِيلِ، فَإِذَا أَصَابُوهُ مُوَافِقًا لِمَا اعْتَقَدُوا، رَضُوا بِهِ وَإِنْ كَانَ ظَنِّيًّا، وَإِذَا نَهَضَ لَهُمْ مُخَالِفًا لِتَقَالِيدِهِمْ، رَفَضُوهُ وَتَعَلَّلُوا بِالتَّعِلَّاتِ الْمُنْتَحَلَةِ، وَهَؤُلَاءِ هُمُ الْجَمَاهِيرُ مِنَ النَّاسِ الَّذِينَ وُصِفُوا فِي الْأَثَرِ بِأَنَّهُمْ أَتْبَاعُ كُلِّ نَاعِقٍ، وَالْعِبْرَةُ فِي خِطَابِ الشَّرْعِ بِأَهْلِ الْيَقِينِ الَّذِينَ صَفَتْ نُفُوسُهُمْ، وَمُحِّصَتْ أَفْكَارُهُمْ، فَسَلِمُوا مِنْ عِلَّةِ الْعِنَادِ وَالْمُكَابَرَةِ الْمَانِعَيْنِ لِشُعَاعِ الْحَقِّ أَنْ يَنْفُذَ إِلَى الْعُقُولِ، وَلِحَرَارَتِهِ أَنْ تَخْتَرِقَ الصُّدُورَ إِلَى الْقُلُوبِ، هَؤُلَاءِ هُمْ أَنْصَارُ الْحَقِّ؛ لِأَنَّهُمْ بِيَقِينِهِمْ لَا يَسْتَطِيعُونَ الْمُرُوقَ مِنْهُ، وَلَا السُّكُوتَ عَنِ الِانْتِصَارِ لَهُ، أَلَمْ تَرَ أَنَّ كِبَارَ الصَّحَابَةِ كَانُوا يُرَاجِعُونَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِيمَا لَمْ يَظْهَرْ لَهُمْ دَلِيلُهُ؛ لِأَنَّهُمْ طُبِعُوا عَلَى مَعْرِفَةِ الْحَقِّ بِالدَّلِيلِ، هَؤُلَاءِ هُمُ النَّاسُ الَّذِينَ تَنْزِلُ الشَّرَائِعُ لِأَجْلِهِمْ، وَلَوْلَا اسْتِعْدَادُهُمْ لَهَا لَمَا شُرِعَتْ أَوْ لَمَا نَجَحَتْ، وَأَمَّا سَائِرُ النَّاسِ فَتَبَعٌ لَهُمْ وَعِيَالٌ عَلَيْهِمْ.
ثُمَّ قَالَ - تَعَالَى -: (إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ) أَيْ بِالشَّيْءِ الثَّابِتِ الْحَقِيقِيِّ الَّذِي لَا يَضِلُّ مَنْ يَأْخُذُ بِهِ، وَلَا تَعْبَثُ بِهِ رِيَاحُ الْأَبَاطِيلِ وَالْأَوْهَامِ، بَلْ يَكُونُ الْآخِذُ بِهِ سَعِيدًا بِالطُّمَأْنِينَةِ وَالْيَقِينِ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّ الْحَقَّ فِي هَذَا الْمَقَامِ يَشْمَلُ الْعُلُومَ الِاعْتِقَادِيَّةَ وَغَيْرَهَا فَهُوَ يَقُولُ: إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْعَقَائِدِ الْحَقِّ الْمُطَابِقَةِ لِلْوَاقِعِ، وَالشَّرَائِعِ الصَّحِيحَةِ الْمُوصِلَةِ إِلَى سَعَادَةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، (بَشِيرًا) لِمَنْ يَتَّبِعُ الْحَقَّ بِالسَّعَادَتَيْنِ، (وَنَذِيرًا) لِمَنْ لَا يَأْخُذُ بِهِ بِشَقَاءِ الدُّنْيَا وَخِزْيِ الْآخِرَةِ (وَلَا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ) أَيْ فَلَا يَضُرُّكَ تَكْذِيبُ الْمُكَذِّبِينَ الَّذِينَ يُسَاقُونَ بِجُحُودِهِمْ إِلَى الْجَحِيمِ؛ لِأَنَّكَ لَمْ تُبْعَثْ مُلْزِمًا لَهُمْ وَلَا جَبَّارًا عَلَيْهِمْ، فَيُعَدُّ عَدَمُ إِيْمَانِهِمْ تَقْصِيرًا مِنْكَ تُسْئَلُ عَنْهُ، بَلْ بُعِثْتَ مُعَلِّمًا وَهَادِيًا بِالْبَيَانِ وَالدَّعْوَةِ وَحُسْنِ الْأُسْوَةِ، لَا هَادِيًا بِالْفِعْلِ وَلَا مُلْزِمًا بِالْقُوَّةِ، (لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ) (2: 272) وَفِي الْآيَةِ تَسْلِيَةٌ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِئَلَّا يَضِيقَ صَدْرُهُ، كَمَا تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ آيَاتٌ أُخْرَى،
وَفِي الْآيَةِ مِنَ الْعِبْرَةِ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ بُعِثُوا مُعَلِّمِينَ لَا مُسَيْطِرِينَ، وَلَا مُتَصَرِّفِينَ فِي الْأَنْفُسِ وَلَا مُكْرِهِينَ، فَإِذَا جَاهَدُوا فَإِنَّمَا يُجَاهِدُونَ دِفَاعًا عَنِ الْحَقِّ لَا إِكْرَاهًا عَلَيْهِ، وَفِيهَا أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - لَا يُطَالِبُ النَّاسَ بِأَنْ يَأْخُذُوا عَنْهُمْ إِلَّا الْعِلْمَ الَّذِي يَهْدِيهِمْ إِلَى مَعْرِفَةِ حُقُوقِ اللهِ وَحُقُوقِ الْعِبَادِ، وَفِي قِرَاءَةِ نَافِعٍ وَيَعْقُوبَ:(وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ) بِالنَّهْيِ، أَيْ لَا تَسْأَلْ عَمَّا سَيُلَاقُونَ مِنَ الِانْتِقَامِ فَإِنَّهُ عَظِيمٌ، فَمِثْلُ هَذَا النَّهْيِ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّهْوِيلِ لَا فِي حَقِيقَتِهِ، وَهُوَ اسْتِعْمَالٌ مَعْرُوفٌ بَيْنَ النَّاسِ حَتَّى الْيَوْمِ.
وَزَعَمَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ النَّهْيَ عَلَى حَقِيقَتِهِ، وَأَنَّهُ خَاصٌّ بِنَهْيِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَنِ السُّؤَالِ عَنْ أَبَوَيْهِ، وَرَوَوْا فِي ذَلِكَ أَنَّهُ سَأَلَ جِبْرِيلَ عَنْ قَبْرَيْهِمَا فَدَلَّهُ عَلَيْهِمَا، فَزَارَهُمَا وَدَعَا لَهُمَا وَتَمَنَّى لَوْ يَعْرِفُ حَالَهُمَا فِي الْآخِرَةِ وَقَالَ:((لَيْتَ شِعْرِي مَا فَعَلَ أَبَوَايَ)) ؟ فَنَزَلَتِ الْآيَةُ
فِي ذَلِكَ. وَالْحَدِيثُ قَالَ الْحَافِظُ الْعِرَاقِيُّ: إِنَّهُ لَمْ يَقِفْ عَلَيْهِ، وَقَالَ السُّيُوطِيُّ: لَمْ يَرِدْ فِي ذَلِكَ إِلَّا أَثَرٌ مُعْضَلٌ ضَعِيفُ الْإِسْنَادِ.
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَقَدْ فَشَا هَذَا الْقَوْلُ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمْ نَذْكُرْهُ، وَإِنَّمَا نُرِيدُ بِذِكْرِهِ التَّنْبِيهَ عَلَى أَنَّ الْبَاطِلَ صَارَ يَفْشُو فِي الْمُسْلِمِينَ بِضَعْفِ الْعِلْمِ، وَالصَّحِيحَ يُهْجَرُ وَيُنْسَى. وَلَا شَكَّ أَنَّ مَقَامَ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام فِي مَعْرِفَةِ أَسْرَارِ الدِّينِ وَحُكْمِ اللهِ فِي الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ يُنَافِي صُدُورَ مِثْلِ هَذَا السُّؤَالِ عَنْهُ، كَمَا أَنَّ أُسْلُوبَ الْقُرْآنِ يَأْبَى أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمُرَادَ مِنْهُ.
ثُمَّ قَالَ عز وجل: (وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ) فَعَادَ إِلَى ذِكْرِ أَهْلِ الْكِتَابِ عَلَى مَا عَهِدْنَا فِي أَسَالِيبِ الْقُرْآنِ مِنْ ضُرُوبِ الِانْتِقَالِ بِالْمُنَاسَبَاتِ الدَّقِيقَةِ.
وَقَدْ قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ غَيْرَ مَرَّةٍ: إِنَّ الْقُرْآنَ لَمْ يَأْتِ عَلَى طَرِيقَةِ الْمُنْشِئِينَ وَالْمُؤَلِّفِينَ الَّذِينَ يَخُصُّونَ كُلَّ طَائِفَةٍ مِنَ الْكَلَامِ بِمَوْضُوعٍ مُعَيَّنٍ وَيُسَمُّونَهَا فَصْلًا أَوْ بَابًا، وَلَكِنَّ لِلْقُرْآنِ أَغْرَاضًا يُبْرِزُهَا بِصُوَرٍ مُخْتَلِفَةٍ، فَكُلَّمَا لَاحَتِ الْمُنَاسَبَةُ لِذِكْرِ شَيْءٍ مِنْهَا أَوِ الِاحْتِجَاجِ عَلَيْهِ أَوِ الدِّفَاعِ عَنْهُ، جَاءَ بِهِ يَجْذِبُ إِلَيْهِ الْأَذْهَانَ، وَيُسَارِقُ بِهِ خَطَرَاتِ الْقُلُوبِ، مَعَ مُرَاعَاةِ التَّنَاسُقِ، وَحِفْظِ الْأُسْلُوبِ الْبَلِيغِ، لِهَذَا يَتَكَرَّرُ فِيهِ الْمَعْنَى الْوَاحِدُ بِعِبَارَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ، وَيَتَجَلَّى الرُّوحُ الْوَاحِدُ فِي أَشْكَالٍ مُتَنَوِّعَةٍ، فَلَمْ يَذْكُرْ هَاهُنَا الْمُشْرِكِينَ إِلَّا لِمَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنَ التَّنَاسُبِ وَالتَّقَارُبِ فِي الْمُجَاحَدَةِ وَالْمُعَانَدَةِ، فَكَانَ ذِكْرُهُمْ مِنْ مُتِمَّاتِ الْحُجَّةِ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ حَيْثُ
أَدَّى غَرَضًا مَقْصُودًا فِي ذَاتِهِ. وَلَمَّا كَانَ ذِكْرُهُمْ فِي عَرَضِ الْكَلَامِ كَالْجُمْلَةِ الِاعْتِرَاضِيَّةِ، كَانَ الرُّجُوعُ إِلَى سَرْدِ شُئُونِ أَهْلِ الْكِتَابِ مَعَ النَّبِيِّ عليه السلام رُجُوعًا إِلَى أَصْلِ الْمَوْضُوعِ.
وَقَالَ فِي مَعْنَى الْآيَةِ: مِنْ شَأْنِ الْإِنْسَانِ أَنْ يَتَأَلَّمَ مِنَ الْقَبِيحِ أَشَدَّ التَّأَلُّمِ إِذَا وَقَعَ مِمَّنْ لَا يُتَوَقَّعُ مِنْهُ، فَكَانَ النَّبِيُّ عليه الصلاة والسلام يَرْجُو أَنْ يُبَادِرَ أَهْلُ الْكِتَابِ إِلَى الْإِيْمَانِ بِهِ، وَأَلَّا يَرَى مِنْهُمُ الْمُكَابَرَةَ وَالْمُجَاحَدَةَ وَالْعِنَادَ؛ وَلِهَذَا كَبُرَ عَلَيْهِ أَنْ رَأَى مِنْ إِعْرَاضِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى عَنْ إِجَابَةِ دَعْوَتِهِ، وَإِسْرَافِهِمْ فِي مُجَاحَدَتِهِ أَشَدَّ مِمَّا رَأَى مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ الَّذِينَ جَاءَ لِمَحْوِ دِينِهِمْ مِنَ الْأَرْضِ، مَعَ مُوَافَقَتِهِ لِأَهْلِ الْكِتَابِ فِي أَصْلِ دِينِهِمْ وَمَقْصِدِهِ مِنْ تَوْحِيدِ اللهِ - تَعَالَى - وَالْإِخْلَاصِ لَهُ وَتَقْوِيمِ عِوَجِ الْفِطْرَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ الَّذِي طَرَأَ عَلَيْهَا بِسَبَبِ التَّقَالِيدِ، وَتَرْقِيَةِ الْمَعَارِفِ الدِّينِيَّةِ إِلَى أَعْلَى مَا اسْتَعَدَّ لَهُ الْإِنْسَانُ مِنَ الِارْتِقَاءِ الْعَقْلِيِّ وَالْأَدَبِيِّ؛ وَلِذَلِكَ كَانَ يُخَاطِبُهُمْ بِمِثْلِ قَوْلِهِ - تَعَالَى -:(قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ)(3: 64) الْآيَةَ، وَغَيْرِهَا مِنَ الْآيَاتِ. وَلَقَدْ كَانَ مِنَ الصَّعْبِ - لَوْلَا إِعْلَامُ اللهِ - تَعَالَى - أَنْ تَعْرِفَ دَرَجَةَ فَتْكِ التَّقْلِيدِ بِعُقُولِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَإِفْسَادِ الْأَهْوَاءِ لِقُلُوبِهِمْ، لِذَلِكَ سَلَّى اللهُ - تَعَالَى - نَبِيَّهُ عَمَّا كَانَ يَجِدُهُ مِنْ عِنَادِهِمْ وَإِيذَائِهِمْ بِآيَاتٍ كَثِيرَةٍ عَرَّفَهُ فِيهَا حَقِيقَةَ حَالِهِمْ، مِنْهَا هَذِهِ الْآيَةُ النَّاطِقَةُ بِأَنَّ كُلًّا مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى عَلَى اتِّحَادِهِمْ فِي أَصْلِ الدِّينِ قَدْ تَعَصَّبَ لِتَقَالِيدِهِ، وَاتَّخَذَ الدِّينَ جِنْسِيَّةً لَا يُرْضِيهِ مِنْ أَحَدٍ شَيْءٌ إِلَّا الدُّخُولَ فِيهَا وَقَبُولَ لَقَبِهَا، فَقَوْلُهُ تَعَالَى:(حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ) مُرَادٌ بِهِ مَا هُمْ
عَلَيْهِ مِنَ التَّقَالِيدِ وَالْأَهْوَاءِ الَّتِي غَيَّرُوا بِهَا وَجْهَ الدِّينِ الْوَاحِدِ حَتَّى صَارَ بَعْضُهُمْ يَحْكُمُ بِكُفْرِ بَعْضٍ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْآيَاتِ السَّابِقَةِ.
ثُمَّ أَمَرَهُ - تَعَالَى - فِي مُقَابَلَةِ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: (قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدَى) أَيِ اجْهَرْ بِقَوْلِ الْحَقِّ.
وَهُوَ أَنَّ الْهُدَى الصَّحِيحَ هُوَ هُدَى اللهِ الَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَى أَنْبِيَائِهِ دُونَ مَا أَضَافَهُ إِلَيْهِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى بِآرَائِهِمْ وَأَهْوَائِهِمْ، فَفَرَّقُوا دَيْنَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا، كُلُّ شِيعَةٍ تُكَفِّرُ الْأُخْرَى وَتَقُولُ: إِنَّهَا لَيْسَتْ عَلَى شَيْءٍ، أَيْ فَإِنْ أَرَدْتَ اسْتِرْضَاءَهُمْ فَلَنْ يَرْضُوا عَنْكَ إِلَّا أَنْ تَتَّبِعَ أَهْوَاءَهُمْ، (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ) الَّتِي أَضَافُوهَا عَلَى كُتُبِهِمْ، وَجَعَلُوهَا أُصُولًا وَفُرُوعًا لِدِينِهِمْ، (بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ) الْيَقِينِ بِالْوَحْيِ الْإِلَهِيِّ الْمُبِينِ، وَالَّذِي بَيَّنَ مَا كَانَ مِنْهُمْ مَنْ تَحْوِيلِ الْقَوْلِ عَنْ مَعْنَاهُ بِالتَّأْوِيلِ، وَتَحْرِيفِهِمُ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ، وَنِسْيَانِهِمْ حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ، (مَالَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ) أَيْ فَإِنَّكَ لَنْ تَنْجَحَ وَلَنْ تَصِلَ إِلَى حَقِّكَ بِمُجَارَاتِهِمْ عَلَى بَاطِلِهِمْ؛ وَلِأَنَّ اللهَ لَا يَنْصُرُكَ عَلَى ذَلِكَ إِذْ لَا يُرْضِيهِ أَنْ يَكُونَ اتِّبَاعُ الْهَوَى طَرِيقًا إِلَى الْهُدَى، وَالضَّالُّ لَا يُرْضِيهِ إِلَّا مُوَافَقَتُهُ عَلَى ضَلَالِهِ وَمُجَارَاتُهُ عَلَى فَسَادِهِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنِ اللهُ هُوَ الَّذِي يَتَوَلَّى شُئُونَكَ وَيَنْصُرُكَ بِمَعُونَتِهِ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكَ وَيَتَوَلَّاكَ مِنْ بَعْدِهِ؟
(أَقُولُ) : وَمَفْهُومُ هَذَا الْمُصَرَّحِ بِهِ فِي آيَاتٍ أُخْرَى، أَنَّ ثَبَاتَهُ عَلَى هُدَى اللهِ الْمُؤَيَّدِ بِالْعِلْمِ هُوَ الَّذِي يَكُونُ سَبَبًا لِتَوَلِّيهِ - تَعَالَى - لَهُ وَنَصْرِهِ إِيَّاهُ عَلَيْهِمْ. وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ شَرْطَ ((إِنْ)) لَا يَقْتَضِي الْوُقُوعَ، فَهُوَ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اتِّبَاعَ أَهْوَائِهِمْ مُتَوَقَّعٌ مِنْهُ صلى الله عليه وسلم، وَإِنَّمَا هُوَ فَرْضٌ فُرِضَ لِبَيَانِ مَضْمُونِهِ الَّذِي ذَكَرْنَا، وَفِيهِ أَنَّ مِنْ سُنَنِ اللهِ تَأْيِيدُ مُتَّبِعِي الْهُدَى عَلَى عِلْمٍ صَحِيحٍ وَأَنَّهُمْ هُمُ الْغَالِبُونَ الْمَنْصُورُونَ، وَهُوَ مَا يُعَبِّرُ عَنْهُ عُلَمَاءُ الِاجْتِمَاعِ بِبَقَاءِ الْأَمْثَلِ فِي كُلِّ تَنَازُعٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا دُونَهُ.
(الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ) : مَنْ تَدَبَّرَ هَذَا الْإِنْذَارَ الشَّدِيدَ الْمُوَجَّهَ مِنَ اللهِ - تَعَالَى - إِلَى نَبِيِّ الرَّحْمَةِ، الْمُؤَيَّدِ مِنْهُ بِالْكَرَامَةِ وَالْعِصْمَةِ، عَلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْوَعِيدُ وَالتَّشْدِيدُ عَلَى الْأُمَّةِ، عَلَى حَدِّ ((إِيَّاكِ أَعْنِي وَاسْمَعِي يَا جَارَةُ)) فَإِنَّ اللهَ - تَعَالَى - يُخَاطِبُ النَّاسَ كَافَّةً فِي شَخْصِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، كَمَا جَرَى عُرْفُ التَّخَاطُبِ مَعَ الرُّؤَسَاءِ وَالزُّعَمَاءِ، فَقَدْ يُقَالُ لِلْمَلِكِ: إِذَا فَعَلْتَ هَذَا كَانَتْ عَاقِبَتُهُ كَذَا، وَالْمُرَادُ إِذَا فَعَلَتْهُ دَوْلَتُكَ أَوْ أُمَّتُكَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ غَيْرَ مَرَّةٍ إِسْنَادُ عَمَلِ بَعْضِ الْأَفْرَادِ إِلَى الْأُمَّةِ كُلِّهَا، وَلَكِنَّ قَوْلَهُ:(وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ)
وَهُوَ يَعْلَمُ جَلَّ شَأْنُهُ أَنَّهُ لَا يَتَّبِعُ أَهْوَاءَهُمْ فِي حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ، وَقَدْ عَصَمَهُ مِنَ الزَّيْغِ وَالضَّلَالِ، إِنَّمَا جَاءَ عَلَى هَذَا الْأُسْلُوبِ؛ لِيُرْشِدَ مَنْ يَأْتِي بَعْدَهُ مِمَّنْ يَتَّبِعُ سُنَّتَهُ وَيَأْخُذُ بِهَدْيِهِ، فَهُوَ يُرْشِدُنَا بِهَذَا التَّهْدِيدِ الْعَظِيمِ إِلَى الصَّدْعِ بِالْحَقِّ وَالِانْتِصَارِ لَهُ وَعَدَمِ الْمُبَالَاةِ بِمَنْ يُخَالِفُهُ، مَهْمَا قَوِيَ حِزْبُهُمْ وَاشْتَدَّ أَمْرُهُمْ، وَإِنَّهُ لَتَهْدِيدٌ تَرْتَعِدُ مِنْهُ فَرَائِصُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا
أَنِسُوا مِنْ أَنْفُسِهِمْ ضَعْفًا فِي الْحَقِّ، كَأَنْ تَرَكُوا الْجَهْرَ بِهِ أَوِ الدِّفَاعَ عَنْهُ خَوْفًا مِنْ إِنْكَارِ الْعَامَّةِ عَلَيْهِمْ وَلَغَطِ النَّاسِ بِهِمْ، فَمَنْ عَرَفَ الْحَقَّ وَعَرَفَ
أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - وَلِيُّ أَهْلِهِ وَنَاصِرُهُمْ، لَا يَخَافُ فِي تَأْيِيدِهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ، وَلَا يَغْتَرَّنَّ أَحَدٌ بِمَنْ يُسَمِّيهِمُ النَّاسُ عُلَمَاءَ وَعَارِفِينَ فِي سُكُوتِهِمْ عَنِ الْحَقِّ، وَمُجَارَاتِهِمْ لِأَهْلِ الْبَاطِلِ، فَإِنَّهُمْ لَيْسُوا عَلَى شَيْءٍ مِنَ الْعِلْمِ الْحَقِيقِيِّ، وَإِنْ هِيَ إِلَّا كَلِمَاتٌ يَتَلَقَّفُونَهَا وَعَادَاتٌ يَتَقَلَّدُونَهَا، لَا حُجَّةَ لِلْأَحْيَاءِ فِيهَا سِوَى قَوْلِهِمْ: إِنَّ الْمَيِّتِينَ دَرَجُوا عَلَيْهَا.
(قَالَ) : وَلَيْسَ هَذَا هُوَ الْعِلْمَ الَّذِي جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وَإِنَّمَا هُوَ شَيْءٌ كَانَ يُلَقَّبُ بِالْعِلْمِ عِنْدَ الضَّالِّينَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ كَذَلِكَ، وَقَدْ نُفِيَ عَنْهُ كَوْنُهُ عِلْمًا عَلَى الْحَقِيقَةِ بِمِثْلِ قَوْلِهِ:(إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ)(53: 23) وَبِقَوْلِهِ: (لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ)(2: 78) فَمَنْ أَخَذَ بِقَوْلِ الْقَائِلِينَ، وَاتَّبَعَ مَا وَجَدَ عَلَيْهِ السَّابِقِينَ، بِدُونِ بَيِّنَةٍ يَعْرِفُ بِهَا وَجْهَ الْحَقِّ مِنْ ذَلِكَ، وَكِتَابُ اللهِ بَيْنَ يَدَيْهِ لَا يَنْظُرُ فِيهِ وَلَا يَرْجِعُ إِلَيْهِ، فَقَدِ اتَّبَعَ الْهَوَى بَعْدَ الَّذِي جَاءَ مِنَ الْعِلْمِ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَبَاءَ بِالْخِزْيِ فِي الدُّنْيَا، وَبِالنَّكَالِ فِي الْآخِرَةِ، وَلَمْ يَكُنْ وَلَنْ يَكُونَ لَهُ مِنَ اللهِ وَلِيٌّ وَلَا نَصِيرٌ، اللهُمَّ أَعِنَّا عَلَى الْجَهْرِ بِالْحَقِّ بَعْدَ مَا عَرَفْنَاهُ، وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا.
(الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ)
الصِّلَةُ بَيْنَ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ) الْآيَةَ، وَبَيْنَ مَا قَبْلَهَا وَاضِحَةٌ جَلِيَّةٌ وَهِيَ أَنَّ هَذِهِ جَاءَتْ فِي مَوْضِعِ الِاسْتِدْرَاكِ عَلَى مَا سَبَقَهَا مِنْ إِيئَاسِ النَّبِيِّ وَالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ.
فَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ آيَةَ: (وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى) قَدْ سَلَّتْ مَا كَانَ يُخَالِجُ النُّفُوسَ مِنَ الرَّجَاءِ بِإِيْمَانِ أَهْلِ الْكِتَابِ كُلِّهِمْ، وَهَذِهِ الْآيَةُ تَنْطِقُ بِأَنَّ مِنْهُمْ مَنْ يُرْجَى إِيْمَانُهُ، وَهُمُ الَّذِينَ وَصَفَهُمْ بِمَا هُوَ عِلَّةُ الرَّجَاءِ وَمَنَاطُ
الْأَمَلِ، وَهُوَ تِلَاوَةُ كِتَابِهِمْ حَقَّ تِلَاوَتِهِ، وَعَدَمُ الْجُمُودِ عَلَى الظَّوَاهِرِ وَالتَّقَالِيدِ، وَالِاكْتِفَاءِ بِالْأَمَانِيِّ وَالظُّنُونِ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: إِنْ كَانَتْ نَفْسُكَ
تُحَدِّثُكَ بِأَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ أَقْرَبُ إِلَى الْإِيْمَانِ بِمَا جِئْتَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ يُشْبِهُ مَا عِنْدَهُمْ وَيُصَدِّقُ أَنْبِيَاءَهُمْ وَأُصُولَ شَرَائِعِهِمْ مِنْ حَيْثُ يَقْتَلِعُ جُذُورَ دِينِ الْوَثَنِيِّينَ وَيَمْحُوهُ مَحْوًا، فَيَكُونُ الْوَثَنِيُّونَ أَجْدَرَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ بِمُعَانَدَتِكَ وُمُجَاحَدَتِكَ، فَاعْلَمْ أَنَّ هَؤُلَاءِ قَدْ أَلْحَقُوا بِدِينِهِمْ مِنَ التَّقَالِيدِ وَالْمُخْتَرَعَاتِ، وَأَلْصَقُوا بِهِ مِنَ الْبِدَعِ وَالْعَادَاتِ مَا غَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ بِغَيْرِ فَهْمٍ، وَجَعَلَهُمْ يَتَعَصَّبُونَ لَهُ بِغَيْرِ عَقْلٍ، فَكَانُوا بِذَلِكَ أَبْعَدَ عَنْ حَقِيقَةِ الْإِيْمَانِ مِنْ أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْبُدُونَ الْأَوْثَانَ، وَذَلِكَ أَنَّهُمُ اتَّخَذُوا الدِّينَ جِنْسِيَّةً فَلَيْسَ لَهُمْ مِنْهُ إِلَّا الْجُمُودُ عَلَى عَادَاتٍ صَارَتْ مُمَيِّزَةً لِلْمُنْتَسِبِينَ إِلَيْهِ، وَلَكِنْ لَا يَزَالُ فِيهِمْ نَفَرٌ يُرْجَى مِنْهُمْ تَدَبُّرُ الشَّيْءِ وَالتَّمْيِيزُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَهُمُ (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ) وَهُمْ (يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ) ، أَيْ يَفْهَمُونَ أَسْرَارَهُ وَيَفْقَهُونَ حِكْمَةَ تَشْرِيعِهِ. وَفَائِدَةَ نَوْطِ التَّكْلِيفِ بِهِ، لَا يَتَقَيَّدُونَ فِي ذَلِكَ بِآرَاءِ مَنْ سَبَقَهُمْ فِيهِ، وَلَا بِتَحْرِيفِهِمْ كَلِمَهُ عَنْ مَوَاضِعِهِ، (أُولَئِكَ) هُمُ الَّذِينَ يُقَدِّرُونَ مَا جِئْتَ بِهِ مِنَ التَّرَقِّي فِي الدِّينِ، وَإِقَامَةِ قَوَاعِدِهِ عَلَى الْأَسَاسِ الْمَتِينِ، وَ (يُؤْمِنُونَ بِهِ) بَعْدَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ الْحَقُّ الَّذِي يُزِيلُ مَا بَيْنَهُمْ مِنَ الْخِلَافِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى طَرِيقِ السَّعَادَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، (وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ) مِنَ الرُّؤَسَاءِ الْمُعَانِدِينَ وَالْمُقَلِّدِينَ الْجَاهِلِينَ وَهُمُ الْأَكْثَرُونَ، (فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ) لِهَذِهِ السَّعَادَةِ، الْمَحْرُومُونَ مِمَّا يَكُونُ لِلْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْمَجْدِ وَالسِّيَادَةِ، سَوَاءً كَانَ كُفْرُهُمْ بِتَحْرِيفِهِ لَيُوَافِقُ مَذَاهِبَهُمُ التَّقْلِيدِيَّةَ، أَمْ بِإِهْمَالِهِ اكْتِفَاءً بِقَوْلِ عُلَمَائِهِمْ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ (بِهِ) لِلْهُدَى الَّذِي ذُكِرَ فِي الْآيَاتِ السَّابِقَةِ.
(الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ) : عَبَّرَ عَنِ التَّدَبُّرِ وَالْفَهْمِ بِالتِّلَاوَةِ حَقَّ التِّلَاوَةِ لِيُرْشِدَنَا إِلَى أَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْمَقْصُودُ مِنَ التِّلَاوَةِ الَّتِي يَشْتَرِكُ فِيهَا أَهْلُ الْأَهْوَاءِ وَالْبِدَعِ مَعَ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْفَهْمِ، وَالتَّعْبِيرُ يُشْعِرُ بِأَنَّ أُولَئِكَ الَّذِينَ حَكَمَ بِنَفْيِ رِضَاهُمْ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم نَفْيًا مُؤَكَّدًا لَا حَظَّ لَهُمْ مِنَ الْكِتَابِ إِلَّا مُجَرَّدَ التِّلَاوَةِ وَتَحْرِيكِ اللِّسَانِ بِالْأَلْفَاظِ، لَا يَعْقِلُونَ عَقَائِدَهُ، وَلَا يَتَدَبَّرُونَ حِكَمَهُ وَمَوَاعِظَهُ، وَلَا يَفْقَهُونَ أَحْكَامَهُ وَشَرَائِعَهُ؛ لِأَنَّهُمُ اسْتَغْنَوْا عَنْهُ بِتَقْلِيدِ بَعْضِ الرُّؤَسَاءِ وَالِاكْتِفَاءِ بِمَا يَقُولُونَ، فَلَا عَجَبَ إِذَا أَعْرَضُوا عَمَّا جَاءَ بِهِ
النَّبِيُّ وَلَا ضَرَرَ فِي إِعْرَاضِهِمْ.
وَأَمَّا الْآخَرُونَ فَإِنَّهُمْ لِتَدَبُّرِهِمْ وَفَهْمِهِمْ أَسْرَارَ الدِّينِ، وَعِلْمِهِمْ بِوُجُوبِ مُطَابَقَتِهَا لِمَصَالِحِ الْمُكَلَّفِينَ، يَعْقِلُونَ أَنَّ مَا جَاءَ بِهِ هُوَ الْحَقُّ الَّذِي يَتَّفِقُ مَعَ مَصْلَحَةِ الْبَشَرِ فِي تَرْقِيَةِ أَرْوَاحِهِمْ، وَفِي نِظَامِ مَعَايِشِهِمْ، فَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَإِنَّمَا يُنْتَفَعُ بِإِيْمَانِ أَمْثَالِهِمْ.
وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ أَنَّ هَذَا التَّعْبِيرَ أَفَادَ حُكْمًا جَدِيدًا وَإِرْشَادًا عَظِيمًا، وَهُوَ أَنَّ الَّذِي يَتْلُو الْكِتَابَ لِمُجَرَّدِ التِّلَاوَةِ مَثَلُهُ كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا، فَلَا حَظَّ لَهُ مِنَ الْإِيْمَانِ بِالْكِتَابِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَفْهَمُ أَسْرَارَهُ وَلَا يَعْرِفُ هِدَايَةَ اللهِ فِيهِ. وَقِرَاءَةُ الْأَلْفَاظِ لَا تُفِيدُ الْهِدَايَةَ وَإِنْ كَانَ الْقَارِئُ يَفْهَمُ
مَدْلُولَاتِهَا كَمَا يَقُولُ الْمُفَسِّرُ وَالْمُعَلِّمُ لَهَا؛ لِأَنَّ هَذَا الْفَهْمَ مِنْ قَبِيلِ التَّصَوُّرِ، وَمَا التَّصَوُّرُ إِلَّا خَيَالٌ يَلُوحُ وَيَتَرَاءَى ثُمَّ يَغِيبُ وَيَتَنَاءَى، وَإِنَّمَا الْفَهْمُ فَهْمُ التَّصْدِيقِ وَالْإِذْعَانِ مِمَنْ يَتَدَبَّرُ الْكِتَابَ مُسْتَهْدِيًا مُسْتَرْشِدًا مُلَاحِظًا أَنَّهُ مُخَاطَبٌ بِهِ مِنَ اللهِ - تَعَالَى - لِيَأْخُذَ بِهِ فَيَهْتَدِي وَيَرْشَدُ، وَالْمُقَلِّدُونَ مَحْرُومُونَ مِنْ هَذَا فَلَا يَخْطُرُ لَهُمْ بِبَالٍ أَنَّهُمْ مُطَالَبُونَ بِالِاهْتِدَاءِ بِكِتَابِ اللهِ - تَعَالَى -، وَإِنَّمَا الْهِدَايَةُ عِنْدَهُمْ مَحْصُورَةٌ فِي كَلَامِ رُؤَسَائِهِمُ الدِّينِيِّينَ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانُوا مَيِّتِينَ.
وَإِذَا كُنَّا نَعْتَبِرُ بِمَا قَصَّ اللهُ - تَعَالَى - عَلَيْنَا مِنْ خَبَرِ أَهْلِ الْكِتَابِ، كَمَا قَالَ: (لَقَدْ
كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ) (12: 111) فَإِنَّنَا نَعْرِفُ حُكْمَ أَهْلِ الْقُرْآنِ عِنْدَهُ - تَعَالَى - مِمَّا ذَكَرَهُ عَنْ أَهْلِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، كَمَا نَعْرِفُهُ مِثْلَ قَوْلِهِ عز وجل:(أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا)(47: 24 (وَقَوْلِهِ: (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبَابِ)(38: 29) فَكُلُّ هَذِهِ الْآيَاتِ وَالْعِبَرِ لَمْ تَحُلْ دُونَ اتِّبَاعِ هَذِهِ الْأُمَّةِ سَنَنَ مَنْ قَبْلَهَا شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ كَمَا أُنْبِئَتْ لِلتَّحْذِيرِ، وَالْقُرْآنُ حُجَّةٌ عَلَيْهَا كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ ((وَالْقُرْآنُ حُجَّةٌ لَكَ أَوْ عَلَيْكَ)) (2) وَلَا شَكَّ أَنَّ مَنْ يَتْلُو أَلْفَاظَ الْقُرْآنِ وَهُوَ مُعْرِضٌ عَنْ هِدَايَتِهِ غَيْرُ مُعْتَبِرٍ بِوَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ فَهُوَ كَالْمُسْتَهْزِئِ بِرَبِّهِ.
سَأَلَ سَائِلٌ مِنَ الْمُقَلِّدِينَ حَاضِرِي الدَّرْسِ بِأَنَّ الْعُلَمَاءَ قَالُوا: إِنَّ الْقُرْآنَ يُتَعَبَّدُ بِتِلَاوَتِهِ، فَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: نَعَمْ، وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يَقُولُوا إِنَّهُ أُنْزِلَ لِذَلِكَ وَكَيْفَ يَقُولُونَ ذَلِكَ، وَاللهُ الَّذِي أَنْزَلَهُ يَقُولُ إِنَّهُ أَنْزَلَهُ:(لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبَابِ)(38: 29) ، فَالْقُرْآنُ وَكَذَلِكَ السُّنَّةُ يُصَرِّحَانِ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ بِخِلَافِ هَذَا الْقَوْلِ إِذَا أُخِذَ عَلَى إِطْلَاقِهِ، وَجُعِلَ مَعْنَاهُ - أَوْ مِنْ مَعْنَاهُ - أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - يُطَالِبُ عِبَادَهُ بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ بِدُونِ تَدَبُّرٍ وَلَا تَذَكُّرٍ. وَقَدْ جَاءَ مِنَ الْأَحَادِيثِ مَا يَصِفُ حَالَ قَوْمٍ يَأْتُونَ بَعْدُ ((يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِرُ تَرَاقِيَهُمْ)) وَقَدْ سَمَّاهُمْ شِرَارَ الْخَلْقِ، فَهَؤُلَاءِ الْأَشْرَارُ قَدِ اتَّخَذُوا الْقُرْآنَ مِنَ الْأَغَانِي وَالْمُطْرِبَاتِ، وَإِذَا طَالَبْتَ أَحَدَهُمْ بِالْفَهْمِ وَالتَّدَبُّرِ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ وَاحْتَجَّ عَلَيْكَ بِكَلِمَةٍ قَالَهَا فَلَانٌ أَوْ حُلْمٍ رَآهُ فُلَانٌ، وَهَكَذَا انْقَلَبَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ
وَضْعُ الدِّينِ، ثُمَّ هُمْ يَتَعَجَّبُونَ مَعَ ذَلِكَ كَيْفَ حُرِمُوا مِنْ وَعْدِ اللهِ فِي قَوْلِهِ:(وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ)(30: 47)(أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ)(23: 68، 69) ، وَضَرَبَ الْأُسْتَاذُ مَثَلًا رَجُلًا يُرْسِلُ كِتَابًا إِلَى آخَرَ فَيَقْرَؤُهُ الْمُرْسَلُ إِلَيْهِ هَذْرَمَةً أَوْ يَتَرَنَّمُ بِهِ، وَلَا يَلْتَفِتُ إِلَى مَعْنَاهُ، وَلَا يُكَلِّفُ نَفْسَهُ إِجَابَةَ مَا طَلَبَ فِيهِ، ثُمَّ يَسْأَلُ الرَّسُولَ أَوْ غَيْرَهُ: مَاذَا قَالَ صَاحِبُ الْكِتَابِ فِيهِ، وَمَاذَا يُرِيدُ مِنْهُ؟ أَيَرْضَى الْمُرْسِلُ مِنَ الْمُرْسَلِ إِلَيْهِ بِهَذَا أَمْ يَرَاهُ اسْتِهْزَاءً بِهِ؟ فَالْمَثَلُ ظَاهِرٌ وَإِنْ كَانَ الْحَقُّ لَا يُقَاسُ عَلَى الْخَلْقِ، فَإِنَّ الْكِتَابَ لَا يُرْسَلُ لِأَجْلِ وَرَقِهِ، وَلَا لِأَجْلِ نُقُوشِهِ،
وَلَا لِأَجْلِ أَنْ تُكَيِّفَ الْأَصْوَاتُ حُرُوفَهُ وَكَلِمَهُ، وَلَكِنْ لِيَعْلَمَ مُرَادَ الْمُرْسَلِ مِنْهُ وَيَعْمَلَ بِهِ.
(الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ) : إِنَّ الِاسْتِهْدَاءَ بِالْقُرْآنِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ، فَعَلَى كُلِّ قَارِئٍ أَنْ يَتْلُوَ الْقُرْآنَ بِالتَّدَبُّرِ، وَأَنْ يُطَالِبَ نَفْسَهُ بِفَهْمِهِ وَالْعَمَلِ بِهِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ كُلَّ مَنْ لَهُ مَعْرِفَةٌ - وَلَوْ قَلِيلَةً - بِاللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ، فَإِنَّهُ يَفْهَمُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا يَهْتَدِي بِهِ، وَمَنْ كَانَ أُمِّيًّا أَوْ أَعْجَمِيًّا فَإِنَّهُ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَسْأَلَ الْقَارِئِينَ أَنْ يَقْرَءُوا لَهُ الْقُرْآنَ وَيُفْهِمُوهُ مَعْنَاهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَى هَذَا فِي مُقَدِّمَةِ تَفْسِيرِ سُورَةِ الْفَاتِحَةِ. بَلْ قَالَ الْأُسْتَاذُ فِي هَذَا الْمَقَامِ: إِنَّنِي أَعْتَقِدُ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَقْرَأَ الْقُرْآنَ أَوْ يَسْمَعَهُ كُلَّهُ، وَلَوْ مَرَّةً وَاحِدَةً فِي عُمُرِهِ، وَمِنْ فَوَائِدِ ذَلِكَ أَنْ يَأْمَنَ مِنْ إِنْكَارِ شَيْءٍ مِنْهُ إِذَا عُرِضَ عَلَيْهِ أَوْ سَمِعَهُ مَعَ التَّشْكِيكِ فِيهِ.
أَقَامَ اللهُ - تَعَالَى - الْحُجَجَ الدَّامِغَةَ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ ثُمَّ نَادَاهُمْ وَدَعَاهُمْ إِلَى تَرْكِ أَسْبَابِ الْغُرُورِ الْمَانِعِ فِي الْإِيْمَانِ فَقَالَ: (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ) ، وَقَدْ سَبَقَ التَّذْكِيرُ بِهَذِهِ النِّعْمَةِ فِي أَوَّلِ الْمُحَاجَّةِ ثُمَّ أُعِيدَ هُنَا لِلْمُنَاسَبَةِ الظَّاهِرَةِ، وَهِيَ أَنَّهُ بَعْدَ مَا ذَكَرَ أَنَّ الْإِعْرَاضَ عَنْ تَدَبُّرِ الْكِتَابِ وَالتَّفَقُّهِ فِيهِ هُوَ كُفْرٌ بِهِ، ذَكَّرَهُمْ بِأَنَّهُ لَا يَلِيقُ بِمَنْ كَرَّمَهُ رَبُّهُ، وَفَضَّلَهُ عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الشُّعُوبِ بِإِيتَائِهِ الْكِتَابَ أَنْ يَكُونَ حَظُّهُ مِنْهُ كَحَظِّ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا. فَإِذَا كَانَ ابْتَدَأَ الْعِظَةَ وَالدَّعْوَةَ بِذِكْرِ هَذَا التَّفْضِيلِ لِتَتَوَجَّهَ إِلَيْهَا الْأَنْظَارُ، وَتُصْغِيَ إِلَيْهَا الْأَسْمَاعُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ الْأُولَى (2: 47) فَلَا غَرْوَ أَنْ يَذْكُرَ هَذَا التَّفْضِيلَ
ثَانِيًا: بَعْدَ
التَّوْبِيخِ وَالتَّقْرِيعِ لِإِزَالَةِ مَا رُبَّمَا يُحْدِثُهُ ذَلِكَ مِنَ الِاسْتِيَاءِ الَّذِي يُتَوَقَّعُ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَسْبَابِ التَّنْفِيرِ عَمَّا فِي الْآيَةِ التَّالِيَةِ، وَلَيْسَ هَذَا مِنَ التَّكْرَارِ الَّذِي يَتَحَامَاهُ الْبُلَغَاءُ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ إِعَادَةِ الشَّيْءِ لِإِفَادَةِ مَا لَا يُسْتَفَادُ بِدُونِهِ. كَأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَمْهِيدٌ لِمَا بَعْدَهَا وَهُوَ فَذْلَكَةُ الْقِصَّةِ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ إِقَامَةِ الْحُجَّةِ.
ذَلِكَ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: (وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا) ، فَلَا يَنْفَعُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنْ تَعْتَذِرُوا عَنِ الْإِعْرَاضِ عَنْ فَهْمِ كِتَابِ اللهِ بِأَنَّ بَعْضَ سَلَفِكُمْ كَانُوا يَفْهَمُونَهُ وَيَتَدَبَّرُونَهُ، وَأَنَّكُمُ اسْتَغْنَيْتُمْ بِتَدَبُّرِهِمْ وَفَهْمِهِمْ عَنْ أَنْ تَفْهَمُوا وَتَتَدَبَّرُوا، فَإِنَّهُ يَوْمٌ لَا يُغْنِي فِيهِ أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ شَيْئًا. وَيُؤَيِّدُ الْآيَةَ حَدِيثُ الصَّحِيحَيْنِ:((يَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ، سَلِينِي مِنْ مَالِي مَا شِئْتِ، لَا أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللهِ شَيْئًا)) . . . إِلَخْ، وَإِذَا كَانَ لَا يُجْزِي فَهْمُ سَلَفِكُمْ عَنْكُمْ أَنَّكُمْ أَعْرَضْتُمْ عَنْ هِدَايَةِ كِتَابِهِ، فَلَا تَنْفَعُكُمْ شَفَاعَتُهُمْ أَيْضًا، كَمَا أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ مِنْكُمْ عَدْلٌ وَلَا فِدَاءٌ تَفْتَدُونَ بِهِ، وَتَجْعَلُونَهُ مُعَادِلًا لِمَا فَرَّطْتُمْ فِيهِ كَمَا قَالَ:(وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ) ، وَكَانُوا يَعْتَقِدُونَ بِالْمُكَفِّرَاتِ تُؤْخَذُ عَدْلًا عَمَّا فَرَّطُوا فِيهِ وَبِشَفَاعَةِ أَنْبِيَائِهِمْ، فَأَخْبَرَهُمُ اللهُ - تَعَالَى - أَنَّهُ لَا يَقُومُ مَقَامَ الِاهْتِدَاءِ بِكِتَابِهِ شَيْءٌ آخَرُ، ثُمَّ قَطَعَ حَبْلَ رَجَائِهِمْ مِنْ كُلِّ نَاصِرٍ يَنْصُرُهُمْ فَقَالَ:(وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ) أَيْ أَنَّهُ لَا يَأْتِيهِمْ نَصْرٌ مِنْ هَاتَيْنِ الْجِهَتَيْنِ وَلَا مِنْ غَيْرِهِمَا.
وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَاتِ الْأُولَى مَا يُغْنِي عَنِ الْإِطَالَةِ هُنَا، وَلَيْسَ فِي هَذِهِ زِيَادَةٌ فِي الْمَعْنَى إِلَّا أَنَّ التَّعْبِيرَ قَدِ اخْتَلَفَ تَفَنُّنًا، فَفِي الْآيَةِ الْأُولَى تَقَدَّمَ ذِكْرُ الشَّفَاعَةِ مَنْفِيَّةَ الْقَبُولِ، وَتَأَخَّرَ ذِكْرُ الْعَدْلِ غَيْرَ مَأْخُوذٍ، وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ نَفْيُ قَبُولِ الْعَدْلِ أَوَّلًا، ثُمَّ نَفِيُ نَفْعِ الشَّفَاعَةِ ثَانِيًا، وَكَأَنَّهُ يُشِيرُ بِهَذَا التَّفَنُّنِ إِلَى أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْفِدَاءِ وَالشَّفَاعَةِ فِي الْجَوَازِ وَالْمَنْعِ، فَمَنْ مَنَعَ الْعِوَضَ فِي الْآخَرِ، لَزِمَهُ مَنْعُ الشَّفَاعَةِ، فَإِنْ جَوَّزَهَا جَوَّزَهُ.
(وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ)
أَقُولُ: بَعْدَ أَنْ أَقَامَ اللهُ الْحُجَّةَ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ وَبَيَّنَ شُئُونَهُمْ فِي الْكُفْرِ
بِالنَّبِيِّ الَّذِي كَانُوا يَنْتَظِرُونَهُ لِبِشَارَةِ رُسُلِهِمْ بِهِ، وَشُئُونَهُمْ فِي التَّلَاعُبِ بِدِينِهِمْ وَشُئُونَهُمْ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ، بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ وَمَا بَعْدَهَا مَا يَسْتَنِدُ إِلَيْهِ الْإِسْلَامُ وَنَبِيُّ الْإِسْلَامِ مِنْ أَصْلٍ وَنَسَبٍ يُجِلُّهُ أَهْلُ الْكِتَابِ وَالْعَرَبِ جَمِيعًا، وَهُوَ مِلَّةُ إِبْرَاهِيمَ وَنَسَبُهُ، فَهُوَ فِي هَذَا السِّيَاقِ يُبَيِّنُ لِأَهْلِ الْكِتَابِ - وَلَا سِيَّمَا الْيَهُودُ - الْمُحْتَكِرِينَ لِلْوَحْيِ فِي قَوْمِهِمْ وَالْمُفَضِّلِينَ لِأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْعَرَبِ بِنَسَبِهِمْ أَنَّ هَذَا لَوْ كَانَ حُجَّةً لَمَا قَامَتْ هَذِهِ
الْحُجَّةُ عَلَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَقَوْمِهِ، إِذِ الْمِلَّةُ فِي الْأَصْلِ وَاحِدَةٌ وَالنَّسَبُ وَاحِدٌ، وَلَكِنَّهُمْ كَفَرُوا النِّعْمَتَيْنِ بِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ أَعْمَالِهِمْ، فَجَاءَ النَّبِيُّ الْمَوْعُودُ بِهِ لِإِصْلَاحِ حَالِهِمْ وَحَالِ غَيْرِهِمْ، وَسَيَأْتِي قَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي هَذَا السِّيَاقِ:(يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ)(2: 146) وَجَرَى شَيْخُنَا فِي الدَّرْسِ عَلَى طَيَّتِهِ فِي التَّنَاسُبِ بَيْنَ هَذَا السِّيَاقِ وَمَا قَبْلَهُ فَقَالَ مَا مِثَالُهُ.
كَانَ الْكَلَامُ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ إِلَى هَذِهِ الْآيَةِ بِأُسْلُوبٍ وَاحِدٍ فِي سِيَاقٍ وَاحِدٍ، ذَكَرَ حَقِّيَّةَ الْكِتَابِ وَكَوْنَهُ مِنْ نُصُوعِ الْبُرْهَانِ بِحَيْثُ يَدْفَعُ رَيْبَ الْمُرْتَابِينَ أَنْ يَدْنُوَ مِنْهُ أَوْ يَتَسَامَى إِلَيْهِ، ثُمَّ ذَكَرَ أَصْنَافَ النَّاسِ فِي أَمْرِ الْإِيْمَانِ بِهِ وَعَدَمِ الْإِيْمَانِ بِهِ، وَأَطَالَ الْحِجَاجَ وَالْمُنَاظَرَةَ فِي خِطَابِ أَهْلِ الْكِتَابِ خَاصَّةً لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّهُمْ كَانُوا مَوْضِعَ الرَّجَاءِ فِي الْمُبَادَرَةِ إِلَى الْإِيْمَانِ بِالنَّبِيِّ وَمَا جَاءَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ وَافَقَهُمْ فِي أَهْلِ الدِّينِ، وَصَدَّقَ أَنْبِيَاءَهُمْ وَكُتُبَهُمْ وَذَكَّرَهُمْ بِمَا نَسُوا، وَعَلَّمَهُمْ مَا جَهِلُوا، وَأَصْلَحَ لَهُمْ مَا حَرَّفُوا وَزَادَهُمْ مَعْرِفَةً بِأَسْرَارِ الدِّينِ وَحِكْمَتِهِ، كَمَا أَنَّهُمْ فِي مَوْضِعِ الشُّبْهَةِ عِنْدَ الْمُشْرِكِينَ وَالْمُنَافِقِينَ بِمَا كَفَرُوا، وَفِي مَوْضِعِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ بِمَا آمَنُوا، قَالَ - تَعَالَى - فِي الِاحْتِجَاجِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ:(أَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةٌ أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ)(26: 197) وَقَدْ جَاءَتْ مُحَاجَّةُ أَهْلِ الْكِتَابِ عَلَى طَرِيقَةِ الْإِطْنَابِ لِمَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ جُمُودِ الْقَرَائِحِ وَالْبُعْدِ عَنِ الْبَلَاغَةِ، كَمَا حَكَى عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا:(قُلُوبُنَا غُلْفٌ) وَمِنْ فَسَادِ الْأَذْهَانِ بِالتَّعَوُّدِ عَلَى التَّأْوِيلِ وَالتَّحْرِيفِ، فَكَانَ يُبْدَأُ لَهُمُ الْمَعْنَى وَيُعَادُ، وَيُسَاقُ إِلَيْهِمُ الْقَوْلُ بِطُرُقٍ بَيِّنَةٍ، وَيُؤَكَّدُ بِضُرُوبٍ مِنَ التَّأْكِيدِ تَبْعُدُ بِهِ عَنْ قَبُولِ التَّأْوِيلِ وَالتَّحْوِيلِ، وَكَانَ مِمَّا حُجُّوا بِهِ التَّذْكِيرُ بِحَالِ سَلَفِهِمُ الْأَنْبِيَاءِ وَبِحَالِهِمْ مَعَهُمْ مِنْ عِصْيَانِهِمْ وَإِيذَائِهِمْ بَلْ قَتْلِهِمْ فِي عَهْدِهِمْ، وَالْغُرُورِ بِانْتِظَارِ شَفَاعَتِهِمْ، وَالِاسْتِغْنَاءِ بِهَا مِنْ بَعْدِهِمْ.
ثُمَّ إِنَّ الْكَلَامَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ) وَمَا بَعْدَهَا مُوَجَّهٌ إِلَى
مُشْرِكِي الْعَرَبِ، وَوَجْهُ الِاتِّصَالِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَا قَبْلَهَا أَنَّ ذَلِكَ كَانَ يَتَضَمَّنُ الِاحْتِجَاجَ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ بِسَلَفِهِمُ الصَّالِحِ، وَهَذَا يَتَضَمَّنُ الِاحْتِجَاجَ عَلَى مُشْرِكِي قُرَيْشٍ وَأَمْثَالِهِمْ بِسَلَفِهِمُ الصَّالِحِ، فَإِنَّهُمْ يَنْتَسِبُونَ إِلَى إِسْمَاعِيلَ وَإِبْرَاهِيمَ وَيَفْتَخِرُونَ بِأَنَّهُمَا بَنَيَا لَهُمُ الْكَعْبَةَ مَعْبَدَهُمُ الْأَكْبَرَ، وَكَانُوا فِي عَهْدِ التَّنْزِيلِ قَدِ اخْتَلَطُوا بِالْأُمَمِ الْمُجَاوِرَةِ الَّتِي تَعْرِفُ لَهُمْ هَذَا النَّسَبَ.
وَإِنَّكَ لَتَرَى الْكَلَامَ هُنَا جَارِيًا عَلَى طَرِيقَةِ الْإِيجَازِ وَالْإِشَارَةِ لِمَا كَانَ عَلَيْهِ الْعَرَبُ مِنْ حِدَّةِ الْفِكْرِ وَصَفَاءِ الْأَذْهَانِ وَدِقَّةِ الْفَهْمِ وَرِقَّةِ الْوِجْدَانِ، عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ تَصْلُحُ حُجَّةً عَلَى الْفَرِيقَيْنِ؛ لِأَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ كَافَّةً يُجِلُّونَ إِبْرَاهِيمَ عليه الصلاة والسلام وَيَعْتَقِدُونَ نُبُوَّتَهُ، وَالْإِسْرَائِيلِيُّونَ مِنْهُمْ يَنْتَسِبُونَ إِلَيْهِ، وَلَكِنَّ الْخِطَابَ فِي قِصَّتِهِ مُوَجَّهٌ إِلَى الْعَرَبِ أَوَّلًا بِالذَّاتِ، فَتِلْكَ حُجَجُ الْقُرْآنِ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِي جَاءَ لِإِصْلَاحِ دِينِهِمْ وَتَرْقِيَتِهِمْ فِيهِ، وَدِينُ اللهِ وَاحِدٌ فِي جَوْهَرِهِ، وَهَذِهِ حُجَجُهُ عَلَى أَهْلِ الشِّرْكِ وَالْوَثَنِيَّةِ الْخَاصَّةِ الَّتِي جَاءَ لِمَحْوِهَا مِنَ الْأَرْضِ وَإِثْبَاتِ نَقِيضِهَا، وَهُوَ التَّوْحِيدُ وَالتَّنْزِيهُ
وَإِثْبَاتُ الْبَعْثِ وَالنُّشُورِ، وَقَدْ أَقَامَ الْحُجَجَ عَلَى هَذَيْنَ الْأَصْلَيْنِ مِنَ الطُّرُقِ الْعَقْلِيَّةِ وَالْكَوْنِيَّةِ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ وَلَا سِيَّمَا فِي السُّوَرِ الْمَكِّيَّةِ.
قَالَ تَبَارَكَ اسْمُهُ: (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ)، أَقُولُ: أَشْهَرُ الْأَقْوَالِ وَأَظْهَرُهَا فِي مُتَعَلِّقِ " إِذْ " هُنَا قَوْلَانِ:
(1)
أَنَّهُ مُقَدَّرٌ مَعْلُومٌ مِنَ السِّيَاقِ وَمِنْ أَمْثَالِهِ وَهُوَ " اذْكُرْ " إِذَا جُعِلَ الْخِطَابُ لِلرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم أَيْ " وَاذْكُرْ " لِأَهْلِ الْكِتَابِ وَلِقَوْمِكَ وَغَيْرِهِمْ (إِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ) . . . إِلَخْ، وَإِذَا جُعِلَ الْخِطَابُ لِلْمُكَلَّفِينَ (وَاذْكُرُوا) وَتَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي خِطَابِ بَنِي إِسْرَائِيلَ.
(2)
أَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: (قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا) ، وَالْكَلِمَاتُ جَمْعُ كَلِمَةٍ وَتُطْلَقُ عَلَى اللَّفْظِ الْمُفْرَدِ وَعَلَى الْجُمَلِ الْمُفِيدَةِ مِنَ الْكَلَامِ. وَالْمُرَادُ مِنْهَا هُنَا مَضْمُونُهَا مِنْ أَمْرٍ وَنَهْيٍ، رَوَى عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:((لَمْ يُبْتَلَ أَحَدٌ بِهَذَا الدِّينِ فَأَقَامَهُ كُلَّهُ إِلَّا إِبْرَاهِيمُ، ابْتَلَاهُ اللهُ بِثَلَاثِينَ خَصْلَةً مِنْ خِصَالِ الْإِسْلَامِ)) . وَاسْتَنْبَطَهَا ابْنُ عَبَّاسٍ بِالْعَدَدِ مِنْ أَرْبَعِ سُوَرٍ لَيْسَ فِيهَا خِطَابٌ لَهُ عليه الصلاة والسلام، وَقَالَ شَيْخُنَا فِي الدَّرْسِ: جَعَلَ التَّكْلِيفَ بِالْكَلِمَاتِ؛ لِأَنَّهَا تَدُلُّ عَلَيْهَا، وَتُعْرَفُ بِهَا عَادَةً، وَلَمْ يَذْكُرِ الْكَلِمَاتِ مَا هِيَ وَلَا الْإِتْمَامَ كَيْفَ كَانَ؛ لِأَنَّ الْعَرَبَ تَفْهَمُ الْمُرَادَ بِهَذَا الْإِبْهَامِ وَالْإِجْمَالِ،
وَأَنَّ الْمَقَامَ مَقَامُ إِثْبَاتِ أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - عَامَلَ إِبْرَاهِيمَ مُعَامَلَةَ الْمُبْتَلِي أَيِ الْمُخْتَبِرِ لَهُ لِتَظْهَرَ حَقِيقَةُ حَالِهِ وَيَتَرَتَّبَ عَلَيْهَا مَا هُوَ أَثَرٌ لَهَا، فَظَهَرَ بِهَذَا الِابْتِلَاءِ وَالِاخْتِبَارِ فَضْلُهُ بِإِتْمَامِهِ مَا كَلَّفَهُ اللهُ - تَعَالَى - إِيَّاهُ وَإِتْيَانِهِ بِهِ عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ. هَذَا هُوَ الْمُبَادِرُ، وَلَكِنَّ الْمُفَسِّرِينِ لَمْ يَأْلُوا فِي تَفْسِيرِ الْكَلِمَاتِ وَالْخَبْطِ فِي تَعْيِينِهَا فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهَا مَنَاسِكُ الْحَجِّ، وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّهَا خِصَالُ الْإِيْمَانِ وَاسْتَخْرَجُوهَا مِنْ آيَاتٍ مِنَ الْقُرْآنِ، وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ الْإِشَارَةَ بِالْكَلِمَاتِ إِلَى الْكَوْكَبِ وَالْقَمَرِ وَالشَّمْسِ الَّتِي رَآهَا وَاسْتَدَلَّ بِأُفُولِهَا عَلَى وَحْدَانِيَّةِ اللهِ - تَعَالَى -، وَكَأَنَّ قَائِلَ هَذَا يَعْتَقِدُ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ عليه الصلاة والسلام كَانَ يَظُنُّ أَنَّ هَذِهِ الْكَوَاكِبَ أَرْبَابٌ، وَحَاشَ لِلَّهِ، مَا كَانَ مِنْهُ إِلَّا قَالَ:(هَذَا رَبِّي) تَمْهِيدًا لِلْحُجَّةِ وَالْبُرْهَانِ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ - تَعَالَى - بَعْدَ حِكَايَةِ ذَلِكَ عَنْهُ: (وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ)(6: 83) وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا جَعْلُ اللهِ إِيَّاهُ إِمَامًا وَتَكْلِيفُهُ بِإِقَامَةِ الْبَيْتِ وَتَطْهِيرِهِ وَأَنَّ بَقِيَّةَ الْآيَةِ مُفَسِّرٌ لِلْإِبْهَامِ فِيهَا. وَادَّعَى بَعْضُهُمْ أَنَّ الْمُرَادَ أَمَرُهُ فِي الْمَنَامِ بِذَبْحِ وَلَدِهِ، وَإِنَّمَا هَذَا الْأَمْرُ كَلِمَةٌ وَاحِدَةٌ، فَكَيْفَ جَعَلُوهَا عَشْرًا؟ وَزَعَمَ آخَرُونَ أَنَّ الْكَلِمَاتِ هِيَ الْخِصَالُ الْعَشْرُ الَّتِي تُسَمَّى خِصَالَ الْفِطْرَةِ، وَهِيَ: قَصُّ الشَّارِبِ وَالْمَضْمَضَةُ وَالْاسْتِنْشَاقُ، وَالسِّوَاكُ، وَفَرْقُ الرَّأْسِ، وَتَقْلِيمُ الْأَظْفَارِ، وَحَلْقُ الْعَانَةِ، وَالْخِتَانُ، وَنَتْفُ الْإِبِطِ، وَالِاسْتِحْدَادُ وَقِيلَ غَيْرَ ذَلِكَ.
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ عِنْدَ إِيرَادِ قَوْلِ الْمُفَسِّرِ (الْجَلَالِ) فِي تَفْسِيرِ الْكَلِمَاتِ إِنَّهَا الْخِصَالُ الْعَشْرُ: إِنَّ هَذَا مِنَ الْجَرَاءَةِ الْغَرِيبَةِ عَلَى الْقُرْآنِ، وَلَا شَكَّ عِنْدِي فِي أَنَّ هَذَا مِمَّا أَدْخَلَهُ الْيَهُودُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ
لِيَتَّخِذُوا دِينَهُمْ هُزُوًا، وَأَيُّ سَخَافَةٍ أَشَدُّ مِنْ سَخَافَةِ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ اللهَ - تَعَالَى - ابْتَلَى نَبِيًّا مِنْ أَجْلِ الْأَنْبِيَاءِ بِمِثْلِ هَذِهِ الْأُمُورِ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ بِإِتْمَامِهَا، وَجَعَلَ ذَلِكَ كَالتَّمْهِيدِ لِجَعْلِهِ إِمَامًا لِلنَّاسِ وَأَصْلًا لِشَجَرَةِ النُّبُوَّةِ، وَإِنَّ هَذِهِ الْخِصَالَ لَوْ كُلِّفَ بِهَا صَبِيٌّ مُمَيِّزٌ لَسَهُلَ عَلَيْهِ إِتْمَامُهَا وَلَمْ يُعَدَّ ذَلِكَ مِنْهُ أَمْرًا عَظِيمًا؟ وَالْحَقُّ أَنَّ مِثْلَ هَذَا يُؤْخَذُ كَمَا أَخْبَرَ اللهُ - تَعَالَى - بِهِ وَلَا يَنْبَغِي تَعْيِينُ الْمُرَادِ بِهِ إِلَّا بِنَصٍّ عَنِ الْمَعْصُومِ.
هَذَا مُلَخَّصُ مَا قَالَهُ شَيْخُنَا فِي الدَّرْسِ وَهُوَ صَفْوَةُ الْحَقِيقَةِ، وَلَكِنْ كَتَبَ إِلَيْهِ رَجُلٌ مِنَ الْمُشْتَغِلِينَ بِالْعِلْمِ فِي سُورْيَا كِتَابًا عَقِبَ قِرَاءَتِهِ ذَلِكَ فِي الْمَنَارِ يَقُولُ فِيهِ: إِنَّ
تَفْسِيرَ الْكَلِمَاتِ بِخِصَالِ الْفِطْرَةِ مَرْوِيٌّ عَنْ تُرْجُمَانِ الْقُرْآنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما فَكَيْفَ يُخَالِفُهُ فِيهِ؟ وَشَدَّدَ النَّكِيرَ فِي ذَلِكَ وَأَطْنَبَ فِي مَدْحِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَدْ أَرْسَلَ إِلَيَّ الْأُسْتَاذُ كِتَابَهُ عِنْدَ وُصُولِهِ وَكَتَبَ عَلَيْهِ: ((الشَّيْخُ رَشِيدٌ يُجِيبُ هَذَا الْحَيَوَانَ)) . . . فَكَتَبْتُ إِلَيْهِ - وَكَانَ صَدِيقًا لِي - كِتَابًا لَطِيفًا كَانَ مِمَّا قُلْتُهُ فِيهِ عَلَى مَا أَتَذَكَّرُ: إِنَّنَا لَمْ نَرَ أَحَدًا مِنَ الْمُفَسِّرِينَ وَلَا مِنْ أَئِمَّةِ الْعُلَمَاءِ الْتَزَمَ مُوَافَقَةَ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي كُلِّ مَا يُرْوَى عَنْهُ، وَإِنْ صَحَّ سَنَدُهُ عِنْدَهُ، فَكَيْفَ إِذَا لَمْ يَصِحَّ؟ وَقَدْ قَالَ الشَّيْخُ مُحَمَّد عَبْده: إِنَّهُ يُجِلُّ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ هَذِهِ الرِّوَايَةِ وَلَا يُصَدِّقُهَا، وَلَمَّا كَانَتْ مِثْلُ هَذِهِ الشُّبْهَةِ أَوِ الطَّعْنِ فِي أَيِّ عَالِمٍ بِأَنَّهُ خَالَفَ فُلَانًا الصَّحَابِيَّ أَوِ الْإِمَامَ فُلَانًا مِمَّا يَرُوجُ فِي سُوقِ الْعَوَامِّ، نَذْكُرُ هُنَا مَا قَالَهُ شَيْخُ الْمُفَسِّرِينَ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ بَعْدَ ذِكْرِ رِوَايَاتِهِ الْمُخْتَلِفَةِ فِي تَفْسِيرِ (الْكَلِمَاتِ) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ مِنْ مُفَسِّرِي السَّلَفِ وَنَقَلَهُ عَنْهُ ابْنُ كَثِيرٍ مُقِرًّا لَهُ، قَالَ هَذَا: قَالَ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ مَا حَاصِلُهُ: إِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْكَلِمَاتِ جَمِيعَ مَا ذُكِرَ، وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ بَعْضَ ذَلِكَ، وَلَا يَجُوزُ الْجَزْمُ بِشَيْءٍ مِنْهَا أَنَّهُ الْمُرَادُ عَلَى التَّعْيِينِ إِلَّا بِحَدِيثٍ أَوْ إِجْمَاعٍ، (قَالَ) : وَلَمْ يَصِحَّ فِي ذَلِكَ خَبَرٌ بِنَقْلِ الْوَاحِدِ وَلَا بِنَقْلِ الْجَمَاعَةِ الَّذِي يَجِبُ التَّسْلِيمُ لَهُ اهـ.
الْمُرَادُ مِنْهُ وَهُوَ عَيْنُ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ شَيْخُنَا وَهَذِهِ الْحُجَّةُ يُدْلِي بِهَا ابْنُ جَرِيرٍ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مِنْ تَفْسِيرِهِ وَهِيَ الْحَقُّ.
ذَكَرَ - تَعَالَى - أَنَّ إِبْرَاهِيمَ أَتَمَّ الْكَلِمَاتِ، وَأَنَّهُ - تَعَالَى - (قَالَ) لَهُ:(إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا) وَقَدْ فُصِلَتِ الْجُمْلَةُ عَمَّا قَبْلَهَا؛ لِأَنَّهَا جَوَابٌ عَنْ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ تَدُلُّ عَلَيْهِ الْقَرِينَةُ، قَالَ شَيْخُنَا: وَلَمْ يَقُلْ: فَقَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ، لِلْإِشْعَارِ بِأَنَّ هَذِهِ الْإِمَامَةَ بِمَحْضِ فَضْلِ اللهِ - تَعَالَى - وَاصْطِفَائِهِ لَا بِسَبَبِ إِتْمَامِ الْكَلِمَاتِ، فَإِنَّ الْإِمَامَةَ هُنَا عِبَارَةٌ عَنِ الرِّسَالَةِ وَهِيَ لَا تُنَالُ بِكَسْبِ الْكَاسِبِ.
وَلَيْسَ فِي الْكَلَامِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الِابْتِلَاءَ كَانَ قَبْلَ النُّبُوَّةِ، وَأَمَّا فَائِدَةُ الِابْتِلَاءِ: فَهِيَ تَعْرِيفُ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام بِنَفْسِهِ، وَأَنَّهُ جَدِيرٌ بِمَا اخْتَصَّهُ اللهُ بِهِ، وَتَقْوِيَةٌ لَهُ عَلَى الْقِيَامِ بِمَا يُوَجَّهُ إِلَيْهِ، وَقَدْ تَحَقَّقَتْ إِمَامَتُهُ لِلنَّاسِ بِدَعْوَتِهِ إِيَّاهُمْ إِلَى التَّوْحِيدِ الْخَالِصِ - وَكَانَتِ الْوَثَنِيَّةُ قَدْ عَمَّتْهُمْ وَأَحَاطَتْ بِهِمْ - فَقَامَ عَلَى عَهْدِهِ بِالْحَنِيفِيَّةِ وَهِيَ الْإِيْمَانُ بِتَوْحِيدِ اللهِ وَالْبَرَاءَةُ مِنَ الشِّرْكِ وَإِثْبَاتُ
الرِّسَالَةِ، وَتَسَلْسَلَ ذَلِكَ فِي ذُرِّيَّتِهِ خَاصَّةً، فَلَمْ يَنْقَطِعْ مِنْهَا دِينُ التَّوْحِيدِ؛ وَلِذَلِكَ وَصَفَ اللهُ الْإِسْلَامَ بِأَنَّهُ مِلَّةُ إِبْرَاهِيمَ.
وَمَاذَا قَالَ إِبْرَاهِيمُ لَمَّا بَشَّرَهُ اللهُ - تَعَالَى - بِجَعْلِهِ إِمَامًا لِلنَّاسِ؟ (قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) أَيْ قَالَ: وَاجْعَلْ مِنْ ذُرِّيَّتِي أَئِمَّةً لِلنَّاسِ، وَهُوَ إِيجَازٌ فِي الْحِكَايَةِ عَنْهُ لَا يُعْهَدُ مِثْلُهُ إِلَّا فِي الْقُرْآنِ.
وَقَدْ جَرَى إِبْرَاهِيمُ صلى الله عليه وسلم عَلَى سُنَّةِ الْفِطْرَةِ فِي دُعَائِهِ هَذَا، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ لَمَّا يَعْلَمُ مِنْ أَنَّ بَقَاءَ وَلَدِهِ بَقَاءٌ لَهُ يُحِبُّ أَنْ تَكُونَ ذُرِّيَّتُهُ عَلَى أَحْسَنِ حَالٍ يَكُونُ هُوَ عَلَيْهَا، لِيَكُونَ لَهُ حَظٌّ مِنَ الْبَقَاءِ جَسَدًا وَرُوحًا. وَمِنْ دُعَاءِ إِبْرَاهِيمَ الَّذِي حَكَاهُ اللهُ عَنْهُ فِي السُّورَةِ الْمُسَمَّاةِ بِاسْمِهِ (رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) (14: 40) وَقَدْ رَاعَى الْأَدَبَ فِي طَلَبِهِ، فَلَمْ يَطْلُبِ الْإِمَامَةَ لِجَمِيعِ ذُرِّيَّتِهِ بَلْ لِبَعْضِهَا؛ لِأَنَّهُ الْمُمْكِنُ وَفِي هَذَا مُرَاعَاةٌ لِسُنَنِ الْفِطْرَةِ أَيْضًا. وَذَلِكَ مِنْ شُرُوطِ الدُّعَاءِ وَآدَابِهِ، فَمَنْ خَالَفَ فِي دُعَائِهِ سُنَنَ اللهِ فِي خَلِيقَتِهِ أَوْ فِي شَرِيعَتِهِ، فَهُوَ غَيْرُ جَدِيرٍ بِالْإِجَابَةِ، بَلْ هُوَ سَيِّئُ الْأَدَبِ مَعَ اللهِ - تَعَالَى -؛ لِأَنَّهُ يَدْعُوهُ لِأَنْ يُبْطِلَ لِأَجْلِهِ سُنَّتَهُ الَّتِي لَا تَتَبَدَّلُ وَلَا تَتَحَوَّلُ أَوْ يَنْسَخَ شَرِيعَتَهُ بَعْدَ خَتْمِ النُّبُوَّةِ وَإِتْمَامِ الدِّينِ.
وَبِمَاذَا أَجَابَ اللهُ إِبْرَاهِيمَ حِينَ دَعَاهُ هَذَا الدُّعَاءَ؟ (قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) أَيْ إِنَّنِي أُعْطِيكَ مَا طَلَبْتَ، وَسَأَجْعَلُ مِنْ ذُرِّيَّتِكَ أَئِمَّةً لِلنَّاسِ، وَلَكِنَّ عَهْدِي بِالْإِمَامَةِ لَا يَنَالُ الظَّالِمِينَ؛ لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا بِأَهْلٍ لِأَنْ يُقْتَدَى بِهِمْ، فَفِي الْعِبَارَةِ مِنَ الْإِيجَازِ مَا يُنَاسِبُ مَا قَبْلَهَا. وَإِنَّمَا اكْتَفَى فِي الْجَوَابِ بِذِكْرِ الْمَانِعِ مِنْ مَنْصِبِ الْإِمَامَةِ مُطْلَقًا، وَهُوَ الظُّلْمُ لِتَنْفِيرِ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ مِنَ الظُّلْمِ وَتَبْغِيضِهِ إِلَيْهِمْ لِيَتَحَامَوْهُ وَيُنَشِّئُوا أَوْلَادَهُمْ عَلَى كَرَاهَتِهِ، وَيُرَبُّوهُمْ عَلَى التَّبَاعُدِ عَنْهُ لِكَيْلَا يَقَعُوا فِيهِ فَيُحْرَمُوا مِنْ هَذَا الْمَنْصِبِ الْعَظِيمِ الَّذِي هُوَ أَعْلَى الْمَنَاصِبِ وَأَشْرَفُهَا، وَلِتَنْفِيرِ سَائِرِ النَّاسِ مِنَ الظَّالِمِينَ وَتَرْغِيبِهِمْ عَنِ الِاقْتِدَاءِ بِهِمْ، فَإِنَّ النَّاسَ قَدِ اعْتَادُوا الْاقْتِدَاءَ بِالرُّؤَسَاءِ وَالْمُلُوكِ الظَّالِمِينَ لِأَنْفُسِهِمْ وَلِغَيْرِهِمْ بِالْخُرُوجِ عَنِ الشَّرِيعَةِ إِلَّا مَا يُوَافِقُ أَهْوَاءَهُمْ، وَيُحَرِّفُونَ أَوْ يُؤَوِّلُونَ الْأَحْكَامَ لِتُطَابِقَ شَهَوَاتِهِمْ، وَقَدْ دَرَجُوا عَلَى ذَلِكَ فِي كُلِّ عَصْرٍ مَا عَدَا عَصْرَ النُّبُوَّةِ وَمَا قَارَبَهُ، كَعَصْرِ خِلَافَةِ النُّبُوَّةِ كَمَا يُعْلَمُ مِنْ شَهَادَةِ التَّارِيخِ الَّتِي لَا تُرَدُّ.
أَقُولُ: وَذَهَبَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالظُّلْمِ هُنَا أَشَدُّ أَنْوَاعِهِ قُبْحًا وَضَرَرًا وَهُوَ الشِّرْكُ وَالْكُفْرُ، وَمِنْهُ (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) (31: 13) وَ (وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ)(2: 254) وَلَكِنْ لَا دَلِيلَ هُنَا عَلَى الْحَصْرِ أَوِ الْقَصْرِ، وَمَنْ يَظْلِمُ النَّاسَ مِنَ الْمُوَحِّدِينَ الْمُقِرِّينَ
بِالرِّسَالَةِ غَيْرُ أَهْلٍ لِإِمَامَتِهِمْ؛ لِأَنَّهُ قُدْوَةُ بَاطِلٍ وَشَرٍّ يُفْسِدُ عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَدُنْيَاهُمْ. وَإِذَا كَانَ فُقَهَاؤُنَا يَقُولُونَ: بِأَنَّ الْإِمَامَ لَا يُنْبَذُ عَهْدُهُ إِلَّا بِالْكُفْرِ الصَّرِيحِ دُونَ الظُّلْمِ وَالْفِسْقِ، فَإِنَّمَا يَقُولُونَ ذَلِكَ خَوْفًا مِنْ وُقُوعِ الْفِتْنَةِ؛ لَا لِأَنَّ الظَّالِمَ أَهْلٌ لِلْإِمَامَةِ، أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ يَشْتَرِطُونَ
فِي اخْتِيَارِهِ وَبَيْعَتِهِ الْعَدَالَةَ، وَمِنْ قَوَاعِدِهِمْ أَنَّهُ يُغْتَفَرُ فِي الْبَقَاءِ وَالِاسْتِمْرَارِ مَا لَا يُغْتَفَرُ فِي الِابْتِدَاءِ، وَلَيْسَ هَذَا فِي كُلِّ شَيْءٍ أَيْضًا.
(قَالَ الْأُسْتَاذُ) : الْإِمَامَةُ الصَّحِيحَةُ وَالْأُسْوَةُ الْحَسَنَةُ هِيَ فِيمَا تَكُونُ عَلَيْهِ الْأَرْوَاحُ مِنَ الصِّفَاتِ الْفَاضِلَةِ وَالْمَلَكَاتِ الْعِلْمِيَّةِ الَّتِي تَمْلِكُ عَلَى صَاحِبِهَا طُرُقَ الْعَمَلِ فَتَسُوقُهُ إِلَى خَيْرِهَا وَتَزَعُهُ عَنْ شَرِّهَا، وَلَا حَظَّ لِلظَّالِمِينَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا، وَإِنَّمَا هُمْ أَصْحَابُ الرَّسْمِ وَأَهِلُ الْخِدَاعِ وَالِانْخِدَاعِ بِالظَّاهِرِ، وَلِذَلِكَ يَصِفُونَ أَعْمَالَهُمْ وَأَحْكَامَهُمْ بِالرَّسْمِيَّةِ. وَقَدْ جَعَلَ اللهُ إِبْرَاهِيمَ إِمَامًا لِلنَّاسِ وَذَكَرَ لَنَا فِي كِتَابِهِ كَثِيرًا مِنْ صِفَاتِهِ الْجَلِيلَةِ كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -:(إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا)(16: 20) الْآيَةَ، وَقَوْلِهِ:(إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ)(11: 75) وَلَمْ يَذْكُرْ لَنَا شَيْئًا مِنْ زِيِّهِ وَصِفَةِ ثِيَابِهِ، وَلَا وَصَفَ أَنْوَاعَ طَعَامِهِ وَشَرَابِهِ، بَلْ أَرْشَدَنَا إِلَى أَنَّ دَعْوَتَهُ الصَّالِحَةَ لَا يَدْخُلُ فِيهَا وَلَا يَنْتَفِعُ بِهَا أَحَدٌ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ إِلَّا مَنِ اجْتَنَبَ الظُّلْمَ لِنَفْسِهِ وَلِلنَّاسِ.
قَالَ: وَقَدْ أَخَذُوا مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ حُكْمًا أُصُولِيًّا، وَهُوَ أَنَّ الظَّالِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُوَلَّى مَنْصِبَ الْإِمَامَةِ الْعُظْمَى، وَاشْتَرَطُوا لِصِحَّةِ الْخِلَافَةِ فِيمَا اشْتَرَطُوا الْعِلْمَ وَالْعَدْلَ، وَنُقِلَ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ (رح) كَانَ يُفْتِي سِرًّا بِجَوَازِ الْخُرُوجِ عَلَى الْمَنْصُورِ، وَيُسَاعِدُ عَلِيَّ بْنَ الْحَسَنِ عَلَى مَا كَانَ يَنْزِعُ إِلَيْهِ مِنَ الْخُرُوجِ عَلَيْهِ. اكْتَفَى الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ مِنَ الدَّرْسِ بِهَذَا الْقَدْرِ مِنَ الِاسْتِشْهَادِ.
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعَلِّلُ إِبَاءَ أَبِي حَنِيفَةَ مِنَ الْأَئِمَّةِ مَنْصِبَ الْقَضَاءِ فِي زَمَنِ الْمَنْصُورِ وَأَمْثَالِهِ مِنَ الْأُمَرَاءِ، بِاعْتِقَادِ عَدَمِ صِحَّةِ إِمَامَتِهِمْ، وَعَدَمِ انْعِقَادِ وِلَايَتِهِمْ، وَيُرْوَى أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ كَانَ يَرَى يَوْمَئِذٍ أَنَّ الْإِمَامَةَ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ لِلْعَلَوِيِّينَ خَاصَّةً.
ثُمَّ ذَكَرَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ هُنَا أَئِمَّةَ الْعِلْمِ وَقَالَ: إِنَّ النَّاسَ لَمْ يَرْعَوُوا عَنِ الِاقْتِدَاءِ بِالظَّالِمِينَ حَتَّى بَعْدَ هَذَا التَّحْذِيرِ الَّذِي أَوْحَاهُ اللهُ إِلَى إِبْرَاهِيمَ، ثُمَّ أَعْلَمَ بِهِ مُحَمَّدًا - عَلَيْهِمَا
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -؛ فَإِنَّهُمْ ظَلُّوا عَلَى دِينِ مُلُوكِهِمْ وَهُمُ الْيَوْمَ وَقَبْلَ الْيَوْمِ يَدَّعُونَ الِاقْتِدَاءَ بِالْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ رضي الله عنهم، وَهُمْ كَاذِبُونَ فِي هَذِهِ الدَّعْوَى، فَإِنَّهُمْ لَيْسُوا عَلَى شَيْءٍ مِنْ سِيرَتِهِمْ فِي التَّخَلُّقِ بِأَخْلَاقِ الْقُرْآنِ، وَتَحَرِّي اتِّبَاعِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فِي جَمِيعِ الْأَعْمَالِ.
اكْتَفَى الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ بِهَذِهِ الْإِشَارَةِ فِي الدَّرْسِ، وَنَزِيدُهَا إِيضَاحًا فَنَقُولُ: قَدْ غَلَبَتْ عَلَى النَّاسِ أَهْوَاءُ السَّلَاطِينِ وَالْحُكَّامِ الظَّالِمِينَ، حَتَّى إِنَّ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةَ الْأَرْبَعَةَ لَمْ يَسْلَمُوا مِنْ أُولَئِكَ الظَّالِمِينَ، فَقَدْ سُجِنَ أَبُو حَنِيفَةَ وَحَاوَلُوا إِكْرَاهَهُ عَلَى قَبُولِ الْقَضَاءِ، لَمَّا رَأَوْا مِنْ إِقْبَالِ النَّاسِ عَلَى الْأَخْذِ عَنْهُ فَلَمْ يَقْبَلْ، فَضَرَبُوهُ وَحَبَسُوهُ وَلَمْ يَقْبَلْ كَمَا هُوَ مَشْهُورٌ.
وَضُرِبَ الْإِمَامُ مَالِكٌ سَبْعِينَ سَوْطًا لِأَجْلِ فَتْوَى لَمْ تُوَافِقْ غَرَضَ السُّلْطَانِ، نَقَلَهُ ابْنُ خَلِّكَانَ عَنْ شُذُورِ الْعُقُودِ لِابْنِ الْجَوْزِيِّ، وَنَقَلَ عَنِ الْوَاقِدِيِّ: أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي آخِرِ عَهْدِهِ يَشْهَدُ الصَّلَوَاتِ فِي الْمَسْجِدِ وَلَا الْجُمُعَةَ، وَكَانَ يَقُولُ: لَيْسَ كُلُّ النَّاسِ يَقْدِرُ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِعُذْرِهِ.
وَسُعِيَ بِهِ إِلَى جَعْفَرِ بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ الْعَبَّاسِ رضي الله عنهما وَهُوَ عَمُّ
أَبِي جَعْفَرٍ الْمَنْصُورِ وَقَالُوا لَهُ: إِنَّهُ لَا يَرَى أَيْمَانَ بَيْعَتِكُمْ هَذِهِ بِشَيْءٍ، فَغَضِبَ جَعْفَرٌ وَدَعَا بِهِ وَجَرَّدَهُ وَضَرَبَهُ بِالسِّيَاطِ، وَمُدَّتْ يَدُهُ حَتَّى انْخَلَعَتْ كَتِفُهُ، وَارْتَكَبَ مِنْهُ أَمْرًا عَظِيمًا.
وَخَبَرُ طَلَبِ هَارُونَ الرَّشِيدِ الشَّافِعِيَّ لِلْقَضَاءِ وَإِبَائِهِ وَاخْتِفَائِهِ ثُمَّ هَرَبِهِ مَشْهُورٌ، وَسَبَبُهُ الْوَرَعُ.
وَأَشْهَرُ مِنْهُ مِحْنَةُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَحَبْسُهُ وَضَرْبُهُ الضَّرْبَ الْمُبَرِّحَ؛ لِيَقُولَ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ. فَهَكَذَا عَامَلَ الْمُلُوكُ الظَّالِمُونَ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةَ وَبَلَغُوا مِنْهُمْ وَمِنَ النَّاسِ بِظُلْمِهِمْ مَا أَرَادُوا مِنْ إِفْسَادِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا.
وَكُلُّنَا يَعْلَمُ أَنَّ أُولَئِكَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الْأَئِمَّةَ الَّذِينَ يَدَّعِي الْأُمَرَاءُ وَالْحُكَّامُ الْيَوْمَ اتِّبَاعَهُمْ كَانُوا أَقَلَّ تَوَغُّلًا وَإِسْرَافًا فِي الظُّلْمِ مِنْ أَكْثَرِ الْمُلُوكِ وَالْأُمَرَاءِ الْمُتَأَخِّرِينَ، وَإِنَّكَ لَتَرَى أَكْثَرَ النَّاسِ تَبَعًا لِأَهْوَاءِ هَؤُلَاءِ الرُّؤَسَاءِ إِلَّا مَنْ وَفَّقَهُ اللهُ وَهَدَاهُ - وَقَلِيلٌ مَا هُمْ - بَلْ هُمُ الْغُرَبَاءُ فِي الْأَرْضِ.
وَالْعِبْرَةُ فِي مِثْلِ مَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ مِنَ الْأَحْدَاثِ أَنَّ الظَّالِمِينَ مِنْ حُكَّامِ هَذِهِ الْأُمَّةِ بَدَءُوا بِتَحْكِيمِ أَهْوَائِهِمُ السِّيَاسِيَّةِ فِي الدِّينِ وَأَهْلِهِ مِنَ الْقَرْنِ الْأَوَّلِ، وَكَانُوا إِذَا رَأَوُا النَّاسَ قَدْ أَقْبَلُوا عَلَى رَجُلٍ مِنْ رِجَالِ الدِّينِ اسْتَمَالُوهُ، فَإِنْ لَمْ يَمِلْ إِلَيْهِمْ آذَوْهُ وَأَهَانُوهُ، وَلَكِنْ كَانَ الدِّينُ وَطَلَبُ الْحَقِّ غَالِبًا عَلَى أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ، فَقَدْ نَقَلَ الْمُؤَرِّخُونَ أَنَّ
الْإِمَامَ مَالِكًا لَمْ يَزَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الضَّرْبِ فِي عُلُوٍّ وَرِفْعَةٍ، وَكَأَنَّمَا كَانَتْ تِلْكَ السِّيَاطُ حُلِيًّا حُلِّيَ بِهِ. وَلَوْ أَمَرَ أَحَدُ السَّلَاطِينِ الْمُتَأَخِّرِينَ بِضَرْبِ عَالَمٍ مِنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الْعَصْرِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَرَى عَهْدَ بَيْعَتِهِ صَحِيحًا أَوْ لِأَنَّهُ أَفْتَى بِمَا لَا يُوَافِقُ غَرَضَهُ (كَمَا نُقِلَ عَنْ مَالِكٍ) لَمَا رَأَيْتَ لَهُ رِفْعَةً وَلَا احْتِرَامًا عِنْدَ النَّاسِ، وَلَأَعْرَضَ الْجَمِيعُ عَنْهُ.
فَأَمَّا الْعُقَلَاءُ الْعَارِفُونَ بِفَضْلِهِ، فَيُعْرِضُونَ عَنْهُ بِوُجُوهِهِمْ، وَأَمَّا الْغَوْغَاءُ مِنَ الْعَامَّةِ وَمَنْ فِي حُكْمِهِمْ، فَيُعْرِضُونَ عَنْهُ بِقُلُوبِهِمْ وَوُجُوهِهِمْ، وَيَعْتَقِدُونَ كُفْرَهُ أَوْ فِسْقَهُ وَابْتِدَاعَهُ.
ذَلِكَ أَنَّ الظَّالِمِينَ مِنَ الْأُمَرَاءِ قَدِ اسْتَعَانُوا بِالظَّالِمِينَ مِنَ الْفُقَهَاءِ عَلَى إِقْنَاعِ الْعَامَّةِ بِأَنَّهُمْ أَئِمَّةُ الدِّينِ الَّذِينَ يَجِبُ اتِّبَاعُهُمْ حَتَّى فِي الْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ، وَحَالُوا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ كِتَابِ اللهِ الَّذِي يَنْطِقُ بِأَنَّ عَهْدَ اللهِ بِالْإِمَامَةِ لَا يَنَالُ الظَّالِمِينَ. وَغَشُّوهُمْ بِأَنَّ أَئِمَّةَ الْفِقْهِ الْأَرْبَعَةِ يَحْكُمُونَ بِذَلِكَ، وَلَوْ عَرَفَ النَّاسُ سِيرَتَهُمْ مَعَ خُلَفَاءِ زَمَنِهِمْ لَمَا تَيَسَّرَ غِشُّهُمْ. هَذَا وَإِنَّ الْحَاكِمِينَ عَلَى عَهْدِهِمْ كَانُوا عَلَى عِلْمٍ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَاتِّبَاعٍ لَهُمَا فِي أَكْثَرِ أَعْمَالِهِمْ وَأَحْكَامِهِمْ، وَأَمَّا الْمُتَأَخِّرُونَ فَلَا يَعْرِفُونَ مِنْ ذَلِكَ أَكْثَرَ مِمَّا يَعْرِفُهُ السُّوقَةُ، وَيَعْمَلُونَ بِخِلَافِ مَا يَعْلَمُونَ، بَلْ يَشْرَعُونَ لِلنَّاسِ أَحْكَامًا جَدِيدَةً يَأْخُذُونَهَا مِنْ قَوَانِينِ الْأُمَمِ تُخَالِفُ الشَّرِيعَةَ وَلَا تُوَافِقُ مَصْلَحَةَ الْأُمَّةِ، وَيُلْزِمُونَ عُمَّالَهُمْ وَقُضَاتَهُمُ الْحُكْمَ بِهَا بِاسْمِهِمْ لَا بَاسِمَ اللهِ - تَعَالَى - (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (5: 45)
(وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ)
قَوْلُهُ - تَعَالَى -: (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا) مَعْطُوفٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ
وَالْمَعْنَى: وَاذْكُرْ أَيُّهَا الرَّسُولُ - أَوْ أَيُّهَا النَّاسُ - إِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ الْحَرَامَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا أَيْ ذَا أَمْنٍ، بِأَنْ خَلَقْنَا بِمَا لَنَا مِنَ الْقُدْرَةِ فِي قُلُوبِ النَّاسِ مِنَ الْمَيْلِ إِلَى حَجِّهِ وَالرِّحْلَةِ إِلَيْهِ الْمَرَّةَ بَعْدَ الْمَرَّةِ مِنْ كُلِّ فَجٍّ وَصَوْبٍ مَا كَانَ بِهِ مَثَابَةً لَهُمْ، وَمِنِ احْتِرَامِهِ وَتَعْظِيمِهِ وَعَدَمِ سَفْكِ دَمٍ فِيهِ مَا كَانَ بِهِ أَمْنًا، وَلَفْظُ (الْبَيْتَ) مِنَ الْأَعْلَامِ الْغَالِبَةِ عَلَى بَيْتِ اللهِ الْحَرَامِ بِمَكَّةَ كَالنَّجْمِ عَلَى الثُّرَيَّا، كَانَ كُلُّ عَرَبِيٍّ يَفْهَمُ هَذَا مِنْ إِطْلَاقِ الْكَلِمَةِ.
يُذَكِّرُ اللهُ - تَعَالَى - الْعَرَبَ بِهَذِهِ النِّعْمَةِ أَوِ النِّعَمِ الْعَظِيمَةِ وَهِيَ جَعْلُ الْبَيْتِ الْحَرَامِ مَرْجِعًا لِلنَّاسِ يَقْصِدُونَهُ ثُمَّ يَثُوبُونَ إِلَيْهِ، وَمَأْمَنًا لَهُمْ فِي تِلْكَ الْبِلَادِ بِلَادِ الْمَخَاوِفِ الَّتِي يُتَخَطَّفُ النَّاسُ فِيهَا مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، وَبِدَعْوَةِ إِبْرَاهِيمَ عليه الصلاة والسلام لِلْبَيْتِ وَأَهْلِهِ الْمُؤْمِنِينَ، وَفِي هَذَا التَّذْكِيرِ مَا فِيهِ مِنَ الْفَائِدَةِ فِي تَقْرِيرِ دَعْوَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَبَيَانِ بِنَائِهَا عَلَى أُصُولِ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ، الَّذِي تَحْتَرِمُهُ قُرَيْشٌ وَغَيْرُهَا مِنَ الْعَرَبِ، وَقَدِ اخْتَارَ الْمَثَابَةَ عَلَى نَحْوِ الْقَصْدِ وَالْمَزَارِ؛ لِأَنَّ لَفْظَ الْمَثَابَةِ يَتَضَمَّنُ هَذَا وَزِيَادَةً فَإِنَّهُ لَا يُقَالُ: ثَابَ الْمَرْءُ إِلَى الشَّيْءِ إِلَّا إِذَا كَانَ قَصَدَهُ أَوَّلًا ثُمَّ رَجَعَ إِلَيْهِ. وَلَمَّا كَانَ الْبَيْتُ مَعْبَدًا وَشِعَارًا عَامًّا، كَانَ النَّاسُ الَّذِينَ يَدِينُونَ بِزِيَارَتِهِ وَالْقَصْدِ إِلَيْهِ لِلْعِبَادَةِ يَشْتَاقُونَ الرُّجُوعَ إِلَيْهِ، فَمَنْ سَهُلَ عَلَيْهِ أَنْ يَثُوبَ إِلَيْهِ فَعَلَ، وَمَنْ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنَ الرُّجُوعِ إِلَيْهِ بِجُثْمَانِهِ، رَجَعَ إِلَيْهِ بِقَلْبِهِ وَوِجْدَانِهِ، وَكَوْنُهُ مَثَابَةً لِلنَّاسِ أَمْرٌ مَعْرُوفٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَالْإِسْلَامِ، وَهُوَ يَصْدُقُ بِرُجُوعِ بَعْضِ زَائِرِيهِ إِلَيْهِ، وَحَنِينِ غَيْرِهِمْ وَتَمَنِّيهِمْ لَهُ عِنْدَ عَجْزِهِمْ عَنْهُ.
وَكَذَلِكَ جَعْلُهُ أَمْنًا مَعْرُوفٌ عِنْدَهُمْ، فَقَدْ كَانَ الرَّجُلُ يَرَى قَاتِلَ أَبِيهِ فِي الْحَرَمِ فَلَا يُزْعِجُهُ، عَلَى مَا هُوَ مَعْرُوفٌ عِنْدَهُمْ مِنْ حُبِّ الِانْتِقَامِ وَالتَّفَاخُرِ بِأَخْذِ الثَّأْرِ.
(الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ) قَدْ يُقَالُ: مَا وَجْهُ الْمِنَّةِ عَلَى الْعَرَبِ عَامَّةً بِكَوْنِ الْبَيْتِ أَمْنًا لِلنَّاسِ وَالْفَائِدَةُ
فِيهِ إِنَّمَا هِيَ لِلنُّجَاةِ وَالضُّعَفَاءِ الَّذِينَ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى الْمُدَافَعَةِ عَنْ أَنْفُسِهِمْ؟ وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا: أَنَّهُ مَا مِنْ قَوِيٍّ إِلَّا وَيُوشِكُ أَنْ يُضْطَرَّ فِي يَوْمٍ مِنَ الْأَيَّامِ إِلَى مَفْزَعٍ يَلْجَأُ إِلَيْهِ لِدَفْعِ عَدُوٍّ أَقْوَى مِنْهُ أَوْ لِهُدْنَةٍ يَصْطَلِحُ فِي غُضُونِهَا مَعَ خَصْمٍ يَرَى سِلْمَهُ خَيْرًا مِنْ حَرْبِهِ، وَوَلَاءَهُ أَوْلَى مِنْ عَدَائِهِ، فَبِلَادٌ كُلُّهَا أَخْطَارٌ وَمَخَاوِفُ لَا رَاحَةَ فِيهَا لِأَحَدٍ، وَقَدْ بَيَّنَ اللهُ الْمِنَّةَ عَلَى الْعَرَبِ إِذْ جَعَلَ لَهُمْ مَكَانًا آمِنًا بِقَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ: (أَوْلَمَ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ
حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللهِ يَكْفُرُونَ) (29: 67) .
قَالَ - تَعَالَى -: (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى) قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ (وَاتَّخَذُوا) بِفَتْحِ الْخَاءِ عَلَى أَنَّهُ فِعْلٌ مَاضٍ مَعْطُوفٌ عَلَى (جَعَلْنَا) وَالْبَاقُونَ بِكَسْرِهَا عَلَى أَنَّهُ أَمْرٌ، أَيْ وَقُلْنَا اتَّخِذُوا أَوْ قَائِلِينَ اتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى، فَحُذِفَ الْقَوْلُ لِلْإِيجَازِ، وَفَائِدَتُهُ أَنْ يَسْتَحْضِرَ ذِهْنُ التَّالِي أَوِ السَّامِعِ الْمَأْمُورِينَ حَاضِرِينَ وَالْأَمْرُ يُوَجَّهُ إِلَيْهِمْ، فَهُوَ تَصْوِيرٌ لِلْمَاضِي بِصُورَةِ الْحَاضِرِ لِيَقَعَ فِي نُفُوسِ الْمُخَاطَبِينَ بِالْقُرْآنِ أَنَّ الْأَمْرَ يَتَنَاوَلُهُمْ، وَأَنَّهُ مُوَجَّهٌ إِلَيْهِمْ كَمَا وُجِّهَ إِلَى سَلَفِهِمْ فِي عَهْدِ أَبِيهِمْ إِبْرَاهِيمَ، وَهُمْ وَلَدُهُ إِسْمَاعِيلُ وَآلُ بَيْتِهِ وَمَنْ أَجَابَ دَعَوْتَهُمَا إِلَى حَجِّ الْبَيْتِ، لَا أَنَّهُ حِكَايَةٌ تَارِيخِيَّةٌ سِيقَتْ لِلْفُكَاهَةِ وَالتَّسْلِيَةِ بَلْ شَرِيعَةٌ وَدِينٌ. وَهَذَا الْقَوْلُ أَحْسَنُ مِنْ قَوْلِ بَعْضِهِمْ: إِنَّ (اتَّخِذُوا) أَمْرٌ لِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْقَوْلَ يَقْتَصِرُ عَلَى مَعْنَى صِيغَةِ الْأَمْرِ، وَمَا قُلْنَا يَتَضَمَّنُ مَعَ ذَلِكَ مَعْنَى الْقِرَاءَةِ بِصِيغَةِ الْمَاضِي الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ مَعَهُ قَدِ اتَّخَذُوا مَقَامَهُ مُصَلًّى؛ وَلِأَنَّهُ أَبْلَغُ لِمَا فِيهِ مِنْ تَحْرِيكِ شُعُورِ الْخَلَفِ بِشَرَفِ عَمَلِ السَّلَفِ وَبَعْثِهِمْ عَلَى الِاقْتِدَاءِ بِهِمْ.
وَ (مَقَامِ) اسْمُ مَكَانٍ مِنَ الْقِيَامِ، وَقَدِ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ الْحَجَرُ الَّذِي كَانَ يَقُومُ عَلَيْهِ عِنْدَ بِنَاءِ الْكَعْبَةِ. قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَجَابِرٌ وَقَتَادَةُ وَغَيْرُهُمْ وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَعَلَيْهِ مُفَسِّرُنَا (الْجَلَالُ)، وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّهُ الْحَرَمُ كُلُّهُ وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ النَّخَعِيِّ وَمُجَاهِدٍ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَطَاءٍ أَنَّهُ مَوَاقِفُ الْحَجِّ كُلُّهَا، وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: إِنَّهُ عَرَفَةُ وَمُزْدَلِفَةٌ وَالْجِمَارُ. اخْتَلَفُوا أَيْضًا فِي تَفْسِيرِ الْمُصَلَّى، فَقَالَ مَنْ فَسَّرَ الْمَقَامَ بِالْحَجَرِ: إِنَّهُ مَكَانُ الصَّلَاةِ أَيْ صَلَاتُنَا الْمَخْصُوصَةُ وَعَلَيْهِ (الْجَلَالُ) وَاسْتَدَلُّوا لَهُ بِحَدِيثِ جَابِرٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ قَالَ: ((إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَمَّا فَرَغَ مِنْ طَوَافِهِ عَمَدَ إِلَى مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ فَصَلَّى خَلْفَهُ رَكْعَتَيْنِ وَقَرَأَ الْآيَةَ)) وَذَهَبَ الْآخَرُونَ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُصَلَّى مَوْضِعُ الصَّلَاةِ بِمَعْنَاهَا اللُّغَوِيِّ الْعَامِّ، وَهُوَ الدُّعَاءُ وَالتَّوَجُّهُ إِلَى اللهِ - تَعَالَى - وَعِبَادَتُهُ مُطْلَقَةً، وَالْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ يُرَجِّحُ قَوْلَ هَؤُلَاءِ، وَذَكَرَ مِنْ دَلِيلِهِ أَنَّ الْحِجْرَ لَا يَسَعُ لِلصَّلَاةِ الْمَخْصُوصَةِ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ جَابِرٌ:((إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى خَلْفَهُ)) فَكَيْفَ يُتَّخَذُ مِنْهُ مَحَلٌّ لِلصَّلَاةِ؟ وَأَجَابَ عَنْ حَدِيثِ مُسْلِمٍ وَحَدِيثِ أَبِي نُعَيْمٍ مَرْفُوعًا ((هَذَا مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ))
بِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِمَا مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحَجَرَ هُوَ الْمُرَادُ بِمَقَامِ إِبْرَاهِيمَ فِي الْآيَةِ دُونَ غَيْرِهِ
وَإِنَّمَا صَلَاتُهُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الصَّلَاةَ هُنَاكَ مَشْرُوعَةٌ، عَلَى أَنَّ فِي سَنَدِ حَدِيثِ أَبِي نُعَيْمٍ مَقَالًا، وَالْخِطَابُ فِي الْأَصْلِ لِلْمُؤْمِنِينَ فِي زَمَنِ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام وَلَمْ تَكُنْ صَلَاتُنَا هَذِهِ صَلَاتَهُمْ، فَحَمْلُ الْمَقَامِ عَلَى جَمِيعِ شَعَائِرِ الْحَجِّ الَّتِي قَامَ فِيهَا إِبْرَاهِيمُ وَالصَّلَاةِ عَلَى مَعْنَاهَا اللُّغَوِيِّ الَّذِي يَشْمَلُ صَلَاةَ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ كَانَ مَعَهُ عَلَى عِبَادَتِهِ كَمَا يَشْمَلُ صَلَاتَنَا وَمَنَاسِكَنَا أَظْهَرُ، كَمَا قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ، وَالصَّلَاةُ عِنْدَ الْعَرَبِ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْأُمَمِ تَشْمَلُ الدُّعَاءَ وَالثَّنَاءَ عَلَى اللهِ، وَالتَّوَسُّلَ إِلَيْهِ بِكُلِّ قَوْلٍ وَعَمَلٍ يَدُلُّ عَلَى التَّوَجُّهِ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ، وَيَقُولُ الْمُحَقِّقُونَ مِنَ الْفُقَهَاءِ: حَيْثُمَا صَلَّيْتَ مِنَ الْمَسْجِدِ فَثَمَّ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ، وَالنَّاسُ يَتَحَرَّوْنَ صَلَاةَ رَكْعَتِيِ الطَّوَافِ خَلْفَ الْبِنَاءِ الْمُرْتَفِعِ الَّذِي وُضِعَ فِيهِ الْحَجَرُ الَّذِي فِيهِ أَثَرُ قَدَمِ إِبْرَاهِيمَ صلى الله عليه وسلم إِنْ أَمْكَنَ، وَالْمَرْوِيُّ أَنَّهُ كَانَ مُلَاصِقًا لِلْكَعْبَةِ فَأَخَّرَهُ إِلَى ذَلِكَ الْمَكَانِ عُمَرُ رضي الله عنه كَمَا رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ بِسَنَدٍ قَوِيٍّ عِنْدَهُمْ، وَرَوَى ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ مُجَاهِدٍ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم هُوَ الَّذِي أَخَّرَهُ، وَسَيَأْتِي فِي تَفْسِيرِ آلِ عِمْرَانَ مِنْ أَوَّلِ الْجُزْءِ الرَّابِعِ مَزِيدُ كَلَامٍ فِي هَذَا الْمُقَامِ.
قَالَ - تَعَالَى -: (وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ) . . . إِلَخْ؛ عَهِدَ إِلَيْهِ بِالشَّيْءِ وَصَّاهُ بِهِ، وَالْمُرَادُ أَنَّ اللهَ كَلَّفَهُمَا أَنْ يُطَهِّرَا ذَلِكَ الْمَكَانَ الَّذِي نَسَبَهُ إِلَيْهِ وَسَمَّاهُ بَيْتَهُ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَهُ مَعْبَدًا يُعْبَدُ فِيهِ الْعِبَادَةَ الصَّحِيحَةَ، وَلَمْ يَذْكُرْ مَا يَجِبُ أَنْ يُطَهِّرَاهُ مِنْهُ لِيَشْمَلَ جَمِيعَ الرِّجْسِ الْحِسِّيِّ وَالْمَعْنَوِيِّ كَالشِّرْكِ وَأَصْنَامِهِ وَاللَّغْوِ وَالرَّفَثِ وَالتَّنَازُعِ.
وَتَخْصِيصُ اللهِ - تَعَالَى - ذَلِكَ الْبَيْتَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى ذَاتِهِ الْمُنَزَّهَةِ عَنْ صِفَاتِ الْأَجْسَامِ، لَيْسَ لِخُصُوصِيَّةٍ فِي مَوْقِعِهِ وَلَا فِي أَحْجَارِهِ، وَإِنَّمَا كَانَ بَيْتًا لِلَّهِ لِأَنَّ اللهَ - تَعَالَى - سَمَّاهُ بَيْتَهُ، وَأَمَرَ بِأَنْ يَتَوَجَّهَ إِلَيْهِ الْمُصَلُّونَ، وَبِأَنْ يُعْبَدَ فِيهِ عِبَادَةً خَاصَّةً. وَالْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْبَشَرَ يَعْجِزُونَ عَنِ التَّوَجُّهِ إِلَى مَوْجُودٍ غَيْبِيٍّ مُطْلَقٍ لَا يَتَقَيَّدُ بِمَكَانٍ، وَلَا يَنْحَصِرُ فِي جِهَةٍ وَهُمْ فِي حَاجَةٍ إِلَى التَّوَجُّهِ إِلَى خَالِقِهِمْ وَشُكْرِهِ وَالتَّوَسُّلِ إِلَيْهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ، وَاسْتِمْدَادِ رَحْمَتِهِ وَمَعُونَتِهِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْفَائِدَةِ لَهُمْ؛ لِأَنَّهُ يُعْلِي مَدَارِكَهُمْ عَنِ التَّقَيُّدِ فِي دَائِرَةِ الْأَسْبَابِ الْمَعْرُوفَةِ عَلَى ضِيقِهَا وَعَنِ الِاسْتِخْذَاءِ لِمَا لَا يَعْرِفُونَ لَهُ سَبَبًا، وَيَرْفَعُ نُفُوسَهُمْ عَنِ الرِّضَى بِالْحَيَاةِ الْحَيَوَانِيَّةِ، فَلَهُ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ أَنْ عَيَّنَ لَهُمْ مَكَانًا نَسَبَهُ إِلَيْهِ فَسَمَّاهُ بَيْتَهُ
رَمْزًا إِلَى أَنَّ ذَاتَهُ الْمُقَدَّسَةَ تَحْضُرُهُ، فَإِذَا كَانَ الْحُضُورُ الْحَقِيقِيُّ مُحَالًا عَلَيْهَا، فَإِنَّهَا تَحْضُرُهُ رَحْمَتُهُ الْإِلَهِيَّةُ؛ وَلِذَلِكَ كَانَ التَّوَجُّهُ إِلَيْهِ بِمَنْزِلَةِ التَّوَجُّهِ إِلَى تِلْكَ الذَّاتِ الْعَلِيَّةِ، لَوْ وَجَدَ الْعَبْدُ إِلَى ذَلِكَ سَبِيلًا، وَلَوْ كَلَّفَ اللهُ عِبَادَهُ بِعِبَادَتِهِ مُطْلَقًا - وَقَدْ عَلَّمَهُمْ بِنَظَرِ الْعَقْلِ وَإِرْشَادِ الشَّرْعِ أَنَّهُ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ - لَوَقَعُوا فِي الْحَيْرَةِ وَالِاضْطِرَابِ لَا يَدْرُونَ كَيْفَ يَتَوَجَّهُونَ إِلَى ذَاتٍ غَيْبِيَّةٍ مُطْلَقَةً، وَلَوِ اخْتَارَ بَعْضُهُمْ لِنَفْسِهِ عِبَادَةً تَلِيقُ بِهَذَا التَّنْزِيهِ الَّذِي أَرْشَدَ إِلَيْهِ الْكِتَابُ وَصَدَّقَهُ الْعَقْلُ، لَمَا اهْتَدَى إِلَيْهِ الْآخَرُونَ، وَبِذَلِكَ يَفْقِدُ الْمُؤْمِنُونَ الْجَامِعَةَ الَّتِي تَجْمَعُهُمْ عَلَى أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ الَّتِي تُؤَلِّفُ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ، لِذَلِكَ قُلْنَا: إِنَّ اللهَ رَحِمَهُمْ إِذْ جَعَلَ لِنَفْسِهِ بَيْتًا يَقْصِدُونَهُ
وَيَثُوبُونَ إِلَيْهِ عِنْدَ الْإِمْكَانِ، وَيَتَوَجَّهُونَ إِلَيْهِ فِي صَلَاتِهِمْ وَإِنْ بَعُدَ الْمَكَانُ، وَلَا يُخْشَى عَلَى الْمُؤْمِنِ تَوَهُّمُ الْحُلُولِ فِي ذَاتِ اللهِ بِنِسْبَةِ الْبَيْتِ إِلَيْهِ بَعْدَ مَا نَفَى سُبْحَانَهُ كُلَّ إِيهَامٍ بِقَوْلِهِ:(وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ إِنَّ اللهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ)(2: 115) .
أَقُولُ: وَلَا يَرِدُ عَلَى هَذَا كَوْنُ السَّمَاءِ قِبْلَةَ الدُّعَاءِ لِإِشْعَارِهَا بِعُلُوِّهِ - تَعَالَى - عَلَى جَمِيعِ خَلْقِهِ لِلْفَرْقِ الظَّاهِرِ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالدُّعَاءِ.
وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: (لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) يُؤَيِّدُ مَا رَجَّحَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ مِنْ جَعْلِ الْمُصَلَّى بِالْمَعْنَى الْعَامِّ أَيِ الْمَعْبَدِ، فَإِنَّهُ بَعْدَ أَمْرِ النَّاسِ بِاتِّخَاذِ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى بَيَّنَ لَنَا أَنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ طَهَّرَاهُ بِأَمْرِهِ لِأَدَاءِ أَنْوَاعٍ مِنَ الْعِبَادَاتِ فِيهِ كَالطَّوَافِ، وَفِي مَعْنَاهُ السَّعْيُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَالْعُكُوفِ فِي الْمَسْجِدِ، وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، وَهُمَا مِنْ أَعْمَالِ الصَّلَاةِ، (وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) جَمْعُ الرَّاكِعِ وَالسَّاجِدِ وَالْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ مَأْمُورًا هُوَ وَمَنْ آمَنَ بِهِ بِهَذِهِ الْعِبَادَاتِ، وَلَكِنْ لَا دَلِيلَ فِيهَا عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا يُؤَدُّونَهَا عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْرُوعِ عِنْدَنَا.
(وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا) هَذِهِ الْآيَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى مَا قَبْلَهَا مَسُوقَةٌ لِبَيَانِ مِنَّةٍ أَوْ مِنَنٍ أُخْرَى عَلَى أَهْلِ الْحَرَمِ، وَهِيَ مَا تَضَمَّنَهُ دُعَاءُ إِبْرَاهِيمَ مِنْ جَعْلِ الْبَلَدِ آمِنًا فِي نَفْسِهِ، وَهُوَ غَيْرُ مَا سَبَقَتْ بِهِ الْمِنَّةُ مِنْ جَعْلِ الْبَيْتِ آمِنًا. وَقَدْ فَسَّرَ الْجَلَالُ (أَمْنًا) بِقَوْلِهِ: ذَا أَمْنٍ: مَعَ أَنَّ الْمَعْنَى ظَاهِرٌ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَحْفُوظًا مِنَ الْأَعْدَاءِ الَّذِينَ يَقْصِدُونَهُ بِالسُّوءِ، وَهُوَ غَيْرُ مَعْنَى كَوْنِهِ ذَا أَمْنٍ، أَيْ أَنَّ مَنْ يَكُونُ فِيهِ يَكُونُ آمِنًا
مِمَّنْ يَسْطُو عَلَيْهِ فَيَظْلِمُهُ أَوْ يَنْتَقِمُ مِنْهُ. وَقَدِ اسْتَجَابَ اللهُ دُعَاءَ إِبْرَاهِيمَ فِي ذَلِكَ، وَمَنْ تَعَدَّى عَلَى الْبَيْتِ لَمْ يَطُلْ زَمَنُ تَعَدِّيهِ بِحَيْثُ يُقَالُ: إِنَّهُ قَدْ مَرَّ زَمَنٌ طَوِيلٌ لَمْ يَكُنِ الْبَيْتُ فِيهِ آمِنًا، بَلْ لَمْ يَنْجَحْ أَحَدٌ تَعَدَّى عَلَيْهِ لِذَاتِهِ، وَإِنَّمَا كَانَ التَّعَدِّي الْقَصِيرُ هُوَ التَّعَدِّي الْعَارِضُ عَلَى بَعْضِ مَنِ اعْتَصَمَ فِيهِ (وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنُ مِنْهُمْ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) فَسَّرَ (الْجَلَالُ) الرِّزْقَ مِنَ الثَّمَرَاتِ بِنَقْلِ جِبْرِيلَ الطَّائِفَ مِنْ حَوْرَانَ فِي بِلَادِ الشَّامِ أَوْ فِلَسْطِينَ إِلَى مَكَانِهِ الْآنَ فِي أَرْضِ الْحِجَازِ، مَعَ أَنَّ الْكَلَامَ فِي الْبَيْتِ وَبَلَدِهِ مَكَّةَ لَا فِي الطَّائِفِ. وَرِزْقُ أَهْلِ هَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ مِنَ الثَّمَرَاتِ ظَاهِرٌ مَعْرُوفٌ بِالْمُشَاهَدَةِ وَالِاخْتِبَارِ الْمُصَدِّقَيْنِ لِمَا جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ فِي سُورَةِ الْقَصَصِ بِقَوْلِهِ:(أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ)(28: 57) فَالثَّمَرَاتُ تُجْبَى وَتُجْمَعُ مِنْ حَيْثُ تَكُونُ وَتُسَاقُ إِلَى مَكَّةَ، وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ كَوْنِهَا مِنَ الطَّائِفِ أَوْ مِنَ الشَّامِ أَوْ مِصْرَ أَوِ الرُّومِ مَثَلًا، وَكَوْنُهَا تُجْمَعُ مِنْ أَقْطَارٍ مُتَفَرِّقَةٍ أَظْهَرُ فِي صِدْقِ الْآيَةِ وَأَدَلُّ عَلَى التَّسْخِيرِ. وَحَدِيثُ نَقْلِ الطَّائِفِ لَا يَصِحُّ، وَلَكِنَّهُمْ أَلْصَقُوهُ بِكِتَابِ اللهِ وَجَعَلُوهُ تَفْسِيرًا لَهُ وَهُوَ بَرِئٌ مِنْهُ وَغَيْرُ مُحْتَاجٍ فِي صِدْقِهِ إِلَيْهِ.
وَقَدْ خَصَّ إِبْرَاهِيمُ بِدُعَائِهِ الْمُؤْمِنِينَ كَمَا هُوَ اللَّائِقُ بِهِ، وَلَكِنَّ اللهَ وَاسِعُ الرَّحْمَةِ وَقَدْ جَعَلَ رِزْقَ الدُّنْيَا عَامًّا لِلْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ (كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا) (17: 20) وَلَكِنَّ تَمْتِيعَ الْكَافِرِ مَحْدُودٌ بِهَذَا الْعُمُرِ الْقَصِيرِ، وَمَصِيرُهُ فِي الْآخِرَةِ إِلَى شَرِّ مَصِيرٍ، وَذَلِكَ جَوَابُ اللهِ - تَعَالَى - لِإِبْرَاهِيمَ:(قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) أَيْ وَأَرْزُقُ مَنْ كَفَرَ أَيْضًا فَأُمَتِّعُهُ بِهَذَا الرِّزْقِ قَلِيلًا، وَهُوَ مُدَّةُ وُجُودِهِ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ أَسُوقُهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ سَوْقًا اضْطِرَارِيًّا لَا يَقْصِدُهُ هُوَ وَلَا يَعْلَمُ أَنَّ كُفْرَهُ يَنْتَهِي بِهِ إِلَيْهِ، وَذَلِكَ أَنَّ لِجَمِيعِ أَعْمَالِ الْبَشَرِ الِاخْتِيَارِيَّةِ غَايَاتٍ وَآثَارًا اضْطِرَارِيَّةً تُفْضِي وَتَنْتَهِي إِلَيْهَا بِطَبِيعَتِهَا بِحَسَبِ نِظَامِ الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبِّبَاتِ، كَمَا يُفْضِي الْإِسْرَافُ فِي الشَّهَوَاتِ أَوِ التَّعَبُ أَوِ الرَّاحَةُ إِلَى بَعْضِ الْأَمْرَاضِ فِي الدُّنْيَا. فَالْكُفَّارُ وَالْفُسَّاقُ مُخْتَارُونَ فِي كُفْرِهِمْ وَفِسْقِهِمْ، فَعِقَابُهُمْ عَلَيْهَا إِنَّمَا هُوَ عِقَابٌ عَلَى أَعْمَالٍ اخْتِيَارِيَّةٍ، وَهُوَ أَنَّ كُفْرَهُمْ بِآيَاتِ اللهِ سَيَسُوقُهُمْ إِلَى عَذَابِ اللهِ بِمَا أَقَامَ اللهُ - تَعَالَى - عَلَيْهِ الْإِنْسَانَ مِنَ السُّنَنِ الْحَكِيمَةِ،
وَأَسَاسُهَا أَنَّ عِلْمَ الْإِنْسَانِ وَأَعْمَالَهُ النَّفْسِيَّةَ وَالْبَدَنِيَّةَ لَهَا الْأَثَرُ الَّذِي يُفْضِي بِهِ إِلَى سَعَادَتِهِ أَوْ شَقَائِهِ اضْطِرَارًا، وَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ السُّنَّةُ بِقَضَاءِ اللهِ وَتَقْدِيرِهِ صَحَّ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ اللهَ قَدِ اضْطَرَّ الْكَافِرَ إِلَى الْعَذَابِ وَأَلْجَأَهُ إِلَيْهِ، إِذْ جَعَلَ الْأَرْوَاحَ الْمُدَنَّسَةَ بِالْعَقَائِدِ الْفَاسِدَةِ وَالْأَخْلَاقِ الْمَذْمُومَةِ مَحِلَّ سُخْطِهِ، وَمَوْضِعَ انْتِقَامِهِ فِي الْآخِرَةِ، كَمَا جَعَلَ أَصْحَابَ الْأَجْسَادِ الْقَذِرَةِ عُرْضَةً لِلْأَمْرَاضِ فِي الدُّنْيَا.
وَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الْعَقَائِدُ وَالْمَعَارِفُ وَالْأَخْلَاقُ وَالْأَعْمَالُ كَسْبِيَّةً، وَكَانَ الْإِنْسَانُ مُتَمَكِّنًا مِنِ اخْتِيَارِ الْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ وَالطَّيِّبِ عَلَى الْخَبِيثِ، وَقَدْ هَدَاهُ اللهُ إِلَى ذَلِكَ بِمَا أَعْطَاهُ مِنَ الْعَقْلِ، وَمَا نَزَّلَهُ مِنَ الْوَحْيِ، صَحَّ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَعَرَّضَهَا لِلْعَذَابِ وَالشَّقَاءِ بِأَعْمَالِهِ الَّتِي مَبْدَؤُهَا كَسْبِيٌّ، وَأَثَرُهَا ضَرُورِيٌّ.
وَفِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: (وَمَنْ كَفَرَ) . . . إِلَخْ إِيجَازٌ بِالْعَطْفِ عَلَى مَحْذُوفٍ، عُلِمَ مِنْهُ أَنَّهُ - تَعَالَى - اسْتَجَابَ دُعَاءَ إِبْرَاهِيمَ فِي الْمُؤْمِنِينَ، فَجَعَلَ لَهُمْ هَذَا الْخَبَرَ فِي الدُّنْيَا، وَأَعَدَّ لَهُمْ مَا هُوَ أَفْضَلُ مِنْهُ فِي الْآخِرَةِ.
وَهُوَ إِيجَازٌ لَمْ يَكُنْ يُعْهَدُ فِي غَيْرِ الْقُرْآنِ، جَارٍ عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي خِطَابِ الْقُرْآنِ لِلْعَرَبِ خَاصَّةً دُونَ مَا كَانَ يُخَاطِبُ بِهِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَإِنْ كَانَ كُلُّ مَا فِي الْقُرْآنِ عِبْرَةً عَامَّةً لِجَمِيعِ الْمُعْتَبِرِينَ، كَمَا تَكَرَّرَ عَنِ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ.
(وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)
ذَكَّرَ اللهُ - تَعَالَى - الْعَرَبَ أَوَّلًا بِنِعْمَتِهِ عَلَيْهِمْ بِهَذَا الْبَيْتِ، أَنْ جَعَلَهُ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا، وَبِدُعَاءِ إِبْرَاهِيمَ عليه الصلاة والسلام لِبَلَدِ الْبَيْتِ وَاسْتِجَابَةِ اللهِ - تَعَالَى - دُعَاءَهُ
إِذْ جَعَلَهُ بَلَدًا آمِنًا تُجْبَى إِلَيْهِ الثَّمَرَاتُ مِنَ الْبِلَادِ الْبَعِيدَةِ فَيَتَمَتَّعُ أَهْلُهُ بِهَا، وَهِيَ نِعَمٌ يَعْرِفُونَهَا لَا يُنْكِرُهَا أَحَدٌ، وَانْتَقَلَ مِنْهَا إِلَى التَّذْكِيرِ بِالنِّعَمِ الْمَعْنَوِيَّةِ فَذَكَرَ عَهْدَهُ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ بِأَنْ يُطَهِّرَا بَيْتَهُ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ؛ لِيُنَبِّهَهُمْ بِإِضَافَةِ الْبَيْتِ إِلَى نَفْسِهِ أَنَّهُ لَا يَلِيقُ أَنْ يُعْبَدَ فِيهِ غَيْرُهُ، وَبِتَطْهِيرِهِ لِأَجْلِ الطَّوَافِ وَالِاعْتِكَافِ وَالصَّلَاةِ أَنَّهُ يَجِبُ تَنْزِيهُهُ عَنِ الْأَصْنَامِ وَالتَّمَاثِيلِ وَعِبَادَتِهَا الْفَاسِدَةِ وَعَنْ سَائِرِ الْأَعْمَالِ الذَّمِيمَةِ كَطَوَافِ الْعُرْيَانِ، وَكَانُوا يَفْعَلُونَهُ.
ثُمَّ ذَكَّرَهُمْ بَعْدَ هَذَا بِأَنَّ إِبْرَاهِيمَ هُوَ الَّذِي بَنَى هَذَا الْبَيْتَ بِمُسَاعَدَةِ ابْنِهِ إِسْمَاعِيلَ، وَذَكَرَ لَهُمْ مِنْ دُعَائِهِمَا هُنَالِكَ مَا يُرْشِدُهُمْ إِلَى الْعِبَادَةِ الصَّحِيحَةِ وَالدِّينِ الْحَقِّ، وَيَجْذِبُهُمْ إِلَى الِاقْتِدَاءِ بِذَلِكَ السَّلَفِ الصَّالِحِ الَّذِي يَنْتَمُونَ إِلَيْهِ وَيُفَاخِرُونَ بِهِ، فَإِنَّ قُرَيْشًا كَانَتْ تَنْتَسِبُ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ بِحَقٍّ وَتَدَّعِي أَنَّهَا عَلَى مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ، وَلِذَلِكَ كَانَتْ تَرَى أَنَّهَا أَهْدَى مِنَ الْفُرْسِ وَالرُّومِ، وَسَائِرُ الْعَرَبِ تَبَعٌ لِقُرَيْشٍ.
قَوْلُهُ - تَعَالَى -: (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ) ظَاهِرٌ فِي أَنَّهُمَا هُمَا اللَّذَانِ بَنَيَا هَذَا الْبَيْتَ لِعِبَادَةِ اللهِ - تَعَالَى - فِي تِلْكَ الْبِلَادِ الْوَثَنِيَّةِ، وَلَكِنَّ الْقَصَّاصِينَ وَمَنْ تَبِعَهُمْ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ جَاءُونَا مِنْ ذَلِكَ بِغَيْرِ مَا قَصَّهُ اللهُ - تَعَالَى - عَلَيْنَا، وَتَفَنَّنُوا فِي رِوَايَاتِهِمْ عَنْ قِدَمِ الْبَيْتِ، وَعَنْ حَجِّ آدَمَ وَمَنْ بَعْدَهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ إِلَيْهِ، وَعَنِ ارْتِفَاعِهِ إِلَى السَّمَاءِ فِي وَقْتِ الطُّوفَانِ، ثُمَّ نُزُولِهِ مَرَّةً أُخْرَى، وَهَذِهِ الرِّوَايَاتُ يُنَاقِضُ أَوْ يُعَارِضُ بَعْضُهَا بَعْضًا، فَهِيَ فَاسِدَةٌ فِي تَنَاقُضِهَا وَتَعَارُضِهَا، وَفَاسِدَةٌ فِي عَدَمِ صِحَّةِ أَسَانِيدِهَا، وَفَاسِدَةٌ فِي مُخَالَفَتِهَا لِظَاهِرِ الْقُرْآنِ، وَلَمْ يَسْتَحِ بَعْضُ النَّاسِ مِنْ إِدْخَالِهَا
فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ وَإِلْصَاقِهَا بِهِ وَهُوَ بَرِئٌ مِنْهَا. وَمِنْ ذَلِكَ زَعْمُهُمْ أَنَّ الْكَعْبَةَ نَزَلَتْ مِنَ السَّمَاءِ فِي زَمَنِ آدَمَ، وَوَصْفُهُمْ حَجَّ آدَمَ إِلَيْهَا وَتَعَارُفَهُ بِحَوَّاءَ فِي عَرَفَةَ، بَعْدَ أَنْ كَانَتْ قَدْ ضَلَّتْ عَنْهُ بَعْدَ هُبُوطِهِمَا مِنَ الْجَنَّةِ، وَحَاوَلُوا تَأْكِيدَ ذَلِكَ بِتَزْوِيرِ قَبْرٍ لَهَا فِي جُدَّةَ. وَزَعْمُهُمْ أَنَّهَا هَبَطَتْ مَرَّةً أُخْرَى إِلَى الْأَرْضِ بَعْدَ ارْتِفَاعِهَا بِسَبَبِ الطُّوفَانِ وَحُلِّيَتْ بِالْحَجَرِ الْأَسْوَدِ، وَأَنَّ هَذَا الْحَجَرَ كَانَ يَاقُوتَةً بَيْضَاءَ - وَقِيلَ: زُمُرُّدَةً - مِنْ يَوَاقِيتِ الْجَنَّةِ أَوْ زُمُرُّدِهَا، وَأَنَّهَا كَانَتْ مُودَعَةً فِي بَاطِنِ جَبَلِ أَبِي قَبِيسٍ فَتَمَخَّضَ الْجَبَلُ فَوَلَدَهَا، وَأَنَّ الْحَجَرَ إِنَّمَا اسْوَدَّ لِمُلَامَسَةِ النِّسَاءِ الْحُيَّضِ لَهُ، وَقِيلَ: لِاسْتِلَامِ الْمُذْنِبِينَ إِيَّاهُ، وَكُلُّ
هَذِهِ الرِّوَايَاتِ خُرَافَاتٌ إِسْرَائِيلِيَّةٌ بَثَّهَا زَنَادِقَةُ الْيَهُودِ فِي الْمُسْلِمِينَ لِيُشَوِّهُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَيُنَفِّرُوا أَهْلَ الْكِتَابِ مِنْهُ.
(الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ) : لَوْ كَانَ أُولَئِكَ الْقَصَّاصُونَ يَعْرِفُونَ الْمَاسَ لَقَالُوا: إِنَّ الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ أَبْهَجُ الْجَوَاهِرِ مَنْظَرًا وَأَكْثَرُهَا بَهَاءً، وَقَدْ أَرَادَ هَؤُلَاءِ أَنَّ يُزَيِّنُوا الدِّينَ وَيُرَقِّشُوهُ بِرِوَايَاتِهِمْ هَذِهِ، وَلَكِنَّهَا إِذَا رَاقَتْ لِلْبُلْهِ مِنَ الْعَامَّةِ، فَإِنَّهَا لَا تَرُوقُ لِأَهْلِ الْعَقْلِ وَالْعِلْمِ الَّذِينَ يَعْلَمُونَ أَنَّ الشَّرِيفَ - هَذَا الضَّرْبُ مِنَ الشَّرَفِ الْمَعْنَوِيِّ - هُوَ مَا شَرَّفَهُ اللهُ - تَعَالَى -، فَشَرَفُ هَذَا الْبَيْتِ إِنَّمَا هُوَ بِتَسْمِيَةِ اللهِ - تَعَالَى - إِيَّاهُ بَيْتَهُ، وَجَعْلِهِ مَوْضِعًا لِضُرُوبٍ مِنْ عِبَادَتِهِ لَا تَكُونُ فِي غَيْرِهِ كَمَا تَقَدَّمَ، لَا بِكَوْنِ أَحْجَارِهِ تَفْضُلُ سَائِرَ الْأَحْجَارِ، وَلَا بِكَوْنِ مَوْقِعِهِ يَفْضُلُ سَائِرَ الْمَوَاقِعِ، وَلَا بِكَوْنِهِ مِنَ السَّمَاءِ، وَلَا بِأَنَّهُ مِنْ عَالَمِ الضِّيَاءِ، وَكَذَلِكَ شَرَفُ الْأَنْبِيَاءِ عَلَى غَيْرِهِمْ مِنَ الْبَشَرِ لَيْسَ لِمَزِيَّةٍ فِي أَجْسَامِهِمْ وَلَا فِي مَلَابِسِهِمْ، وَإِنَّمَا هُوَ لِاصْطِفَاءِ اللهِ - تَعَالَى - إِيَّاهُمْ، وَتَخْصِيصِهِمْ بِالنُّبُوَّةِ الَّتِي هِيَ أَمْرٌ مَعْنَوِيٌّ، وَقَدْ كَانَ أَهْلُ الدُّنْيَا أَحْسَنَ زِينَةً وَأَكْثَرَ نِعْمَةً مِنْهُمْ.
وَقَدْ أَفْصَحَ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى الَّذِي قَرَّرَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ وَمُشَيِّدُ دَعَائِمِ الْإِسْلَامِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللهُ - تَعَالَى - عَنْهُ - إِذْ قَالَ عِنْدَ اسْتِلَامِ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ: ((أَمَا وَاللهِ إِنِّي لَأَعْلَمُ أَنَّكَ حَجَرٌ لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ، وَلَوْلَا أَنَّى رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَبَّلَكَ مَا قَبَّلْتُكَ ثُمَّ دَنَا فَقَبَّلَهُ)) رَوَاهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُمْ مِنْ عِدَّةِ طُرُقٍ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَالدَّارَقُطْنِيُّ فِي الْعِلَلِ عَنْ عِيسَى بْنِ طَلْحَةَ عَنْ رَجُلٍ رَأَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَقَفَ عِنْدَ الْحَجَرِ فَقَالَ: ((إِنِّي لَأَعْلَمُ أَنَّكَ حَجَرٌ لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ)) ثُمَّ قَبَّلَهُ. ثُمَّ حَجَّ أَبُو بَكْرٍ فَوَقَفَ عِنْدَ الْحَجَرِ ثُمَّ قَالَ: إِنِّي لَأَعْلَمُ أَنَّكَ حَجَرٌ لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ، وَلَوْلَا أَنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُقَبِّلُكَ مَا قَبَّلْتُكَ)) وَحَدِيثُ عُمَرَ يُؤَيِّدُ الرِّوَايَةَ الْمَرْفُوعَةَ، وَإِنَّمَا قَدَّمْنَاهُ لِأَنَّهُ أَصَحُّ سَنَدًا، وَمَا رُوِيَ مِنْ مُرَاجَعَةِ عَلِيٍّ لِعُمَرَ فِي ذَلِكَ غَيْرُ صَحِيحٍ، فَلَا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ، وَالْحَدِيثُ يُرْشِدُنَا إِلَى أَنَّ الْحَجَرَ لَا مَزِيَّةَ لَهُ فِي ذَاتِهِ فَهُوَ كَسَائِرِ الْحِجَارَةِ، وَإِنَّمَا اسْتِلَامُهُ أَمْرٌ تَعَبُّدِيٌّ فِي مَعْنَى اسْتِقْبَالِ الْكَعْبَةِ وَجَعْلِ التَّوَجُّهِ إِلَيْهَا تَوَجُّهًا إِلَى اللهِ الَّذِي لَا يُحَدِّدُهُ مَكَانٌ، وَلَا تَحْصُرُهُ جِهَةٌ مِنَ الْجِهَاتِ، عَلَى
أَنَّهُ قَدْ غُرِزَ فِي طَبَائِعِ الْبَشَرِ تَكْرِيمُ الْبُيُوتِ وَالْمَعَاهِدِ، وَالْآثَارِ وَالْمَشَاهِدِ الَّتِي تُنْسَبُ لِلْأَحْيَاءِ، أَوْ تُضَافُ إِلَى الْعُظَمَاءِ:
أَمُرُّ عَلَى الدِّيَارِ دِيَارَ لَيْلَى أُقَبِّلُ ذَا الْجِدَارَ وَذَا الْجِدَارَا
وَمَا حُبُّ الدِّيَارِ شَغَفْنَ قَلْبِي
وَلَكِنْ حُبُّ مَنْ سَكَنَ الدِّيَارَا
وَإِنَّمَا يَكُونُ التَّعْظِيمُ وَالتَّكْرِيمُ لِلدِّيَارِ، فِي حَالِ غَيْبَةِ السَّاكِنِ وَالدِّيَارِ؛ لِأَنَّ النَّفْسَ إِذَا حُرِمَتْ مِنَ الْمُشَاهَدَةِ الَّتِي تُذْكِي نَارَ الْحُبِّ، وَتُهَيِّجُ الْإِحْسَاسَ وَالشُّعُورَ بِلَذَّةِ الْقُرْبِ، تُحَاوِلُ أَنْ تُذْكِيَ تِلْكَ النَّارَ، بِالتَّعَلُّلِ بِالْأَطْلَالِ وَالْآثَارِ، وَلَا يُقَالُ: لِمَاذَا خَصَّصَ الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ بِالتَّقْبِيلِ؟ فَإِنَّ كُلَّ مَشْعَرٍ مِنْ تِلْكَ الْمَشَاعِرِ قَدْ خُصَّ بِمَزِيَّةٍ تُثِيرُ شُعُورًا دِينِيًّا خَاصًّا يَلِيقُ بِهِ، فَلَا يُقَالُ: لِمَاذَا كَانَ الْوُقُوفُ وَالِاجْتِمَاعُ، وَتَعَارُفُ أَهْلِ الْآفَاقِ وَالْأَصْقَاعِ، مَخْصُوصًا بِعَرَفَةَ دُونَ غَيْرِهَا مِنَ الْبِقَاعِ؟ وَلِهَذِهِ الْمَشَاعِرِ وَالشَّعَائِرِ مَعَانٍ وَأَسْرَارٌ أُخْرَى عِنْدَ بَعْضِ الْخَوَاصِّ، لَا يَنْبَغِي شَرْحُهَا لِعَامَّةِ النَّاسِ.
وَقَدْ جَعَلَ الْقُصَّاصُ تِلْكَ الْأَحَادِيثَ وَالْآثَارَ، وَهَذِهِ الْمَعَانِيَ وَالْأَسْرَارَ، وَجَعَلُوا مَزِيَّةَ الْبَيْتِ الْحَرَامِ وَمَشَاعِرَهُ وَحَجَرَهُ الْمُكَرَّمَ مَحْصُورَةً فِي مُخَالَفَتِهَا لِسَائِرِ الْحِجَارَةِ، وَكَوْنِ أَصْلِهَا مِنْ جَوَاهِرِ الْجَنَّةِ الَّتِي هِيَ مِنْ عَالَمِ الْغَيْبِ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ صَحِيحًا لَبَقِيَتْ حِجَارَتُهَا كَمَا كَانَتْ عِنْدَمَا نَزَلَتْ مِنَ الْجَنَّةِ بِزَعْمِهِمْ، وَقَدْ رَاجَتْ بِضَاعَتُهُمُ الْمُزْجَاةُ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْعَقْلِ، عِنْدَ مَنْ لَا يَعْرِفُ مِنَ الدِّينِ إِلَّا هَذِهِ الرُّسُومَ الظَّاهِرَةَ، وَمِنْهَا كُسْوَةُ الْكَعْبَةِ الْحَرِيرِيَّةُ الْمُزَرْكَشَةُ فَإِنَّهَا عِنْدَ عَامَّتِنَا فِي هَذِهِ الْأَزْمِنَةِ مِنْ أَعْظَمِ شَعَائِرِ الدِّينِ، وَإِنْ حَرَّمَ حُضُورَ احْتِفَالِهَا أَوْ رُؤْيَتِهَا بَعْضُ عُلَمَاءِ الْأَزْهَرِ الْمُتَأَخِّرِينَ (كَالْبَاجُورِيِّ) وَلَيْسَ هَذَا التَّحْرِيمُ لِذَاتِهَا فَإِنَّهَا مَشْرُوعَةٌ، بَلْ لِمَا فِي الِاحْتِفَالِ بِهَا مِنَ الْبِدَعِ، وَمَا عَلَيْهِ مِنِ اعْتِقَادِ الْبَرَكَةِ فِيهَا، وَفِي جَمَلِهَا الَّذِي يُقَبِّلُ مِقْوَدَهُ الْأُمَرَاءُ وَالْوُزَرَاءُ وَرُؤَسَاءُ الْعُلَمَاءِ الرَّسْمِيِّينَ الْمُدْهِنِينَ لَهُمْ، وَهَكَذَا كُلُّ وَاحِدٍ يَفْهَمُ الدِّينَ، وَيَأْخُذُ مِنْ كُتُبِ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ، مَا يُنَاسِبُ اسْتِعْدَادَ عَقْلِهِ، وَيَحْسُنُ فِي نَظَرِ جِيرَانِهِ وَأَهْلِهِ، حَتَّى يَخْرُجَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ هَذِهِ الْفَوْضَى فِي الدِّينِ وَالْعِلْمِ، وَيُدِيرَ شُئُونَهُمُ الِاجْتِمَاعِيَّةَ أَهْلُ الْحِكْمَةِ وَالْفَهْمِ، فَيَضَعُونَ لَهُمْ نِظَامًا يُتَّبَعُ فِي تَعْمِيمِ التَّرْبِيَةِ وَالتَّعْلِيمِ (وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللهِ فَقَدَ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (3: 101) .
وَمِنْ مَبَاحِثِ اللَّفْظِ فِي الْجُمْلَةِ: أَنَّ الْقَوَاعِدَ جَمْعُ قَاعِدَةٍ، وَهِيَ مَا يَقْعُدُ وَيَقُومُ عَلَيْهِ الْبِنَاءُ مِنَ الْأَسَاسِ أَوْ مِنَ السَّاقَاتِ، وَرَفْعُهَا: إِعْلَاءُ الْبِنَاءِ عَلَيْهَا أَوْ إِعْلَاؤُهَا نَفْسِهَا عَلَى الْخِلَافِ، وَ (مِنَ الْبَيْتِ) قَالَ (الْجَلَالُ) : إِنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِيَرْفَعُ، وَهَذَا إِنَّمَا يَصِحُّ إِذَا أُرِيدَ بِ (الْبَيْتِ) الْعَرْصَةُ أَوِ الْبُقْعَةُ الَّتِي وَقَعَ فِيهَا الْبِنَاءُ، وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّ (مِنْ) لِلْبَيَانِ: وَعَلَيْهِ يَكُونُ الْبَيْتُ بِمَعْنَى نَفْسِ الْبِنَاءِ وَالْجُدْرَانِ، وَهُنَاكَ قَوْلٌ ثَالِثٌ: وَهُوَ أَنَّ (مِنْ) لِلتَّبْعِيضِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ (الْبَيْتِ) مَجْمُوعُ الْعَرْصَةِ وَالْبِنَاءِ.
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَفِي الْكَلَامِ نُكْتَةٌ لَطِيفَةٌ وَهِيَ أَنَّ ذِكْرَ الْقَوَاعِدِ أَوَّلًا يُنَبِّهُ الذِّهْنَ وَيُحَرِّكُهُ إِلَى طَلَبِ مَعْرِفَةِ الْقَوَاعِدِ مَا هِيَ؟ وَقَوَاعِدُ أَيِّ شَيْءٍ هِيَ؟ فَإِذَا جَاءَ الْبَيَانُ بَعْدَ ذَلِكَ كَانَ أَحْسَنَ وَقْعًا فِي النَّفْسِ، وَأَشَدَّ تَمَكُّنًا فِي الذِّهْنِ، وَأَمَّا النُّكْتَةُ فِي تَأْخِيرِ ذِكْرِ إِسْمَاعِيلَ عَنْ ذِكْرِ الْمَفْعُولِ، مَعَ أَنَّ الظَّاهِرَ أَنْ يُقَالَ: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ وَإِسْمَاعِيلُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ: فَهِيَ الْإِلْمَاعُ إِلَى كَوْنِ الْمَأْمُورِ مِنَ اللهِ بِبِنَاءِ الْبَيْتِ هُوَ إِبْرَاهِيمُ، وَإِنَّمَا كَانَ إِسْمَاعِيلُ مُسَاعِدًا لَهُ وَقَدْ وَرَدَ أَنَّهُ كَانَ يُنَاوِلُهُ الْحِجَارَةَ.
وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: (رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا) . . . إِلَخْ حِكَايَةٌ لِدُعَاءِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ عِنْدَ الْبِنَاءِ وَهُوَ أَنَّهُمَا كَانَا يَقُولَانِ ذَلِكَ، حُذِفَ الْقَوْلُ لِلْإِيجَازِ الَّذِي عُهِدَ مِنَ الْقُرْآنِ فِي خِطَابِ الْعَرَبِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ بَيَانٌ لِحَالِهِمَا وَقْتَئِذٍ، وَتَقَبَّلَ اللهُ الْعَمَلَ: قَبِلَهُ وَرَضِيَ بِهِ (إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ) لِأَقْوَالِنَا (الْعَلِيمُ) بِأَعْمَالِنَا وَبِنِيَّتِنَا فِيهَا.
(رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ) الْمُسْلِمُ وَالْمُسَلِّمُ وَالْمُسْتَسْلِمُ وَاحِدٌ وَهُوَ: الْمُنْقَادُ الْخَاضِعُ، وَالْمُرَادُ بِالْكَلِمَةِ: مَا يَشْمَلُ التَّوْحِيدَ وَالْإِخْلَاصَ لِلَّهِ - تَعَالَى - فِي الِاعْتِقَادِ وَالْعَمَلِ جَمِيعًا، وَمَعْنَى الْأَوَّلِ - أَيِ الْإِخْلَاصُ فِي الِاعْتِقَادِ - أَيْ لَا يَتَوَجَّهُ الْمُسْلِمُ بِقَلْبِهِ إِلَّا إِلَى اللهِ وَلَا يَسْتَعِينُ بِأَحَدٍ فِيمَا وَرَاءَ الْأَسْبَابِ الظَّاهِرَةِ إِلَّا بِاللهِ، وَمَعْنَى الثَّانِي: أَنْ يَقْصِدَ بِعَمَلِهِ مَرْضَاةَ اللهِ - تَعَالَى - لَا اتِّبَاعَ الْهَوَى وَإِرْضَاءَ الشَّهْوَةِ، وَإِنَّمَا يُرْضِيهِ - تَعَالَى - مِنَّا أَنْ نُزَكِّيَ نُفُوسَنَا بِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، وَنُرَقِّيَ عُقُولَنَا بِالِاعْتِقَادِ الصَّحِيحِ الْمُؤَيَّدِ بِالْبُرْهَانِ، فَبِذَلِكَ نَكُونُ مَحِلَّ عِنَايَتِهِ - تَعَالَى - وَمُسْتَوْدَعَ مَعْرِفَتِهِ، وَمَوْضِعَ كَرَامَتِهِ، وَمَنْ يَقْصِدُ بِأَعْمَالِهِ إِرْضَاءً لِشَهْوَتِهِ وَاتِّبَاعَ هَوَاهُ لَا يَزِيدُ نَفْسَهُ إِلَّا خُبْثًا، وَبِذَلِكَ يَكُونُ بَعِيدًا عَنِ الْإِسْلَامِ وَيَصْدُقُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ:(أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا)
(25: 43) ؟ .
وَقَدْ يُقَالُ: إِنَّ الْإِسْلَامَ يَنْدَفِعُ لِمُعْظَمِ الْأَعْمَالِ بِسَائِقِ طَلَبِ الْمَنْفَعَةِ وَاللَّذَّةِ وَهُوَ سَائِقٌ فِطْرِيٌّ، فَكَيْفَ يُنَافِيهِ الْإِسْلَامُ وَهُوَ دِينُ الْفِطْرَةِ. وَمِثَالُهُ طَلَبُ الْغِذَاءِ لِقِوَامِ الْجِسْمِ يَسُوقُ إِلَيْهِ التَّلَذُّذَ بِالطَّعَامِ، وَمِثْلُ ذَلِكَ طَلَبُ اللَّذَّاتِ الْعَقْلِيَّةِ وَالْأَدَبِيَّةِ فَكَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مَا يُطْلَبُ لِلَذَّةٍ خَالِصًا لِلَّهِ وَحْدَهُ؟ وَالْجَوَابُ: أَنَّ الْإِسْلَامَ قَدْ حَلَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ حَلًّا لَا يَجِدُهُ الْإِنْسَانُ فِي دِيَانَةٍ أُخْرَى، ذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يُحَرِّمْ عَلَيْنَا إِلَّا مَا هُوَ ضَارٌّ بِنَا، وَلَمْ يُوجِبْ عَلَيْنَا إِلَّا مَا هُوَ نَافِعٌ لَنَا، وَقَدْ أَبَاحَ لَنَا مَا لَا ضَرَرَ فِي فِعْلِهِ وَلَا فِي تَرْكِهِ مِنْ ضُرُوبِ الزِّينَةِ وَاللَّذَّةِ إِذَا قُصِدَ بِهَا مُجَرَّدُ اللَّذَّةِ، وَأَمَّا إِذَا قُصِدَ بِهَا مَعَ اللَّذَّةِ غَرَضٌ صَحِيحٌ وَفُعِلَتْ بِنِيَّةٍ صَالِحَةٍ فَهِيَ فِي حُكْمِ الطَّاعَاتِ الَّتِي يُثَابُ عَلَيْهَا، وَمِنْ نِيَّةِ الْمَرْءِ الصَّالِحَةِ فِي الزِّينَةِ وَالطِّيبِ أَنْ يَسُرَّ إِخْوَانَهُ بِلِقَائِهِ، وَأَنْ يُظْهِرَ نِعَمَ اللهِ عَلَيْهِ، وَأَنْ يَتَقَرَّبَ
إِلَى امْرَأَتِهِ وَيُدْخِلَ السُّرُورَ عَلَيْهَا، وَإِنَّمَا الْهَوَى الْمَذْمُومُ فِي الْإِسْلَامِ هُوَ الْهَوَى الْبَاطِلُ، كَأَنْ يَتَزَيَّنَ الرَّجُلُ وَيَتَطَيَّبَ لِلْمُفَاخَرَةِ وَالْمُبَاهَاةِ، أَوْ لِيَسْتَمِيلَ إِلَيْهِ النِّسَاءَ الْأَجْنَبِيَّاتِ عَنْهُ، وَبِذَلِكَ تَكُونُ الزِّينَةُ مَذْمُومَةً شَرْعًا وَ ((إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ)) .
دَعَا هَذَانِ النَّبِيَّانِ الْعَظِيمَانِ لِأَنْفُسِهِمَا بِحَقِيقَةِ الْإِسْلَامِ، ثُمَّ دَعَوَا بِذَلِكَ لِذَرِّيَّتِهِمَا فَقَالَا:(وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ) أَيْ وَاجْعَلْ مِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ كَإِسْلَامِنَا لِيَسْتَمِرَّ الْإِسْلَامُ لَكَ بِقُوَّةِ الْأُمَّةِ وَتَعَاوُنِ الْجَمَاعَةِ.
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: أَضَافَا الذُّرِّيَّةَ إِلَى ضَمِيرِ الِاثْنَيْنِ لِلدِّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ الذُّرِّيَّةُ الَّتِي تُنْسَبُ إِلَيْهِمَا مَعًا وَهِيَ مَا يَكُونُ مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ، اللَّفْظُ ظَاهِرٌ فِي هَذَا الْمَعْنَى وَيُرَجِّحُهُ الْحَالُ وَالْمَحِلُّ الَّذِي كَانَا فِيهِ، وَعَزْمُ إِبْرَاهِيمَ عَلَى أَنْ يَدَعَ إِسْمَاعِيلَ فِي بِلَادِ الْعَرَبِ دَاعِيًا إِلَى تَوْحِيدِ اللهِ، وَإِسْلَامِ الْقَلْبِ إِلَيْهِ، وَيَرْجِعَ هُوَ إِلَى بِلَادِ الشَّامِ، وَكَذَلِكَ الدُّعَاءُ لِهَذِهِ الذُّرِّيَّةِ بِأَنْ يَبْعَثَ اللهُ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ كَمَا سَيَأْتِي.
وَقَدِ اسْتَجَابَ اللهُ - تَعَالَى - دُعَاءَ إِبْرَاهِيمَ وَوَلَدِهِ عليهما السلام، وَجَعَلَ فِي ذُرِّيَّتِهِمَا أُمَّةَ الْإِسْلَامِ، وَبَعَثَ فِيهَا مِنْهَا خَاتَمَ النَّبِيِّينَ عليه الصلاة والسلام، وَإِلَى هَذَا الدُّعَاءِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْحَجِّ:(مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ)(22: 78) وَعُلِمَ مِمَّا تَقَدَّمَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْإِسْلَامِ
مَعْنَاهُ الَّذِي شَرَحْنَاهُ، فَمَنْ قَامَ بِهِ هَذَا الْمَعْنَى فَهُوَ الْمُسْلِمُ فِي عُرْفِ الْقُرْآنِ، وَلَيْسَ الْمُرَادَ بِهِ اسْمٌ فِي حُكْمِ الْجَامِدِ يُطْلَقُ عَلَى أُمَّةٍ مَخْصُوصَةٍ حَتَّى يَكُونَ كُلُّ مَنْ يُولَدُ فِيهَا أَوْ يَقْبَلُ لَقَبَهَا مُسْلِمًا ذَلِكَ الْإِسْلَامَ الَّذِي نَطَقَ بِهِ الْقُرْآنُ، وَيَكُونُ مِنَ الَّذِينَ تَنَالُهُمْ دَعْوَةُ إِبْرَاهِيمَ عليه الصلاة والسلام، وَقَدْ جَرَى إِبْرَاهِيمُ وَوَلَدُهُ عَلَى سُنَّةِ الْفِطْرَةِ فِي هَذَا الدُّعَاءِ أَيْضًا، فَخَصَّاهُ بِبَعْضِ الذُّرِّيَّةِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ مِنْهَا مَنْ لَا يَتَنَاوَلُ الْإِسْلَامَ.
(وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا) أَيْ عَلِّمْنَا إِيَّاهَا عِلْمًا يَكُونُ كَالرُّؤْيَةِ الْبَصَرِيَّةِ فِي الْجَلَاءِ وَالْوُضُوحِ، وَالْمَنَاسِكُ: جَمْعُ مَنْسَكٍ بِفَتْحِ السِّينِ فِي الْأَفْصَحِ مِنَ النُّسُكِ (بِضَمَّتَيْنِ) وَمَعْنَاهُ غَايَةُ الْعِبَادَةِ، وَغَلَبَ اسْتِعْمَالُ النُّسُكِ فِي عِبَادَةِ الْحَجِّ خَاصَّةً، وَالْمَنَاسِكِ فِي مَعَالِمِهِ أَوْ أَعْمَالِهِ، (وَتُبْ عَلَيْنَا) أَيْ وَفِّقْنَا لِلتَّوْبَةِ لِنَتُوبَ وَنَرْجِعَ إِلَيْكَ مِنْ كُلِّ حَالٍ أَوْ عَمَلٍ يَشْغَلُنَا عَنْكَ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ - تَعَالَى -:(ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا)(9: 118) أَوِ الْمَعْنَى: اقْبَلْ تَوْبَتَنَا، وَمِنْهُ الْحَدِيثُ:((وَيَتُوبُ اللهُ عَلَى مَنْ تَابَ)) وَتَابَ - بِالْمُثَنَّاةِ - كَثَابَ (بِالْمُثَلَّثَةِ) وَمَعْنَاهُ: رَجَعَ. وَيُقَالُ: تَابَ الْعَبْدُ: إِلَى رَبِّهِ أَيْ رَجَعَ
إِلَيْهِ؛ لِأَنَّ اقْتِرَافَ الذَّنْبِ إِعْرَاضٌ عَنِ اللهِ أَيْ عَنْ طَرِيقِ دِينِهِ وَمُوجِبَاتِ رِضْوَانِهِ، وَيُقَالُ: تَابَ اللهُ عَلَى الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ التَّوْبَةَ مِنَ اللهِ تَتَضَمَّنُ مَعْنَى الرَّحْمَةِ وَالْعَطْفِ؛ كَأَنَّ الرَّحْمَةَ الْإِلَهِيَّةَ تَنْحَرِفُ عَنِ الْمُذْنِبِ بِاقْتِرَافِهِ أَسْبَابَ الْعُقُوبَةِ، فَإِذَا تَابَ عَادَتْ إِلَيْهِ، وَعَطَفَ رَبُّهُ عَلَيْهِ، وَالتَّوْبَةُ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ دَرَجَاتِ النَّاسِ، فَعَبْدُكَ يَتُوبُ إِلَيْكَ مِنْ تَرْكِ مَا أَمَرْتَهُ بِفِعْلِهِ أَوْ فِعْلِ مَا أَمَرْتَهُ بِتَرْكِهِ، وَصَدِيقُكَ يَتُوبُ إِلَيْكَ وَيَعْتَذِرُ إِذَا هُوَ قَصَّرَ فِي عَمَلٍ لَكَ فِيهِ فَائِدَةٌ عَمَّا فِي إِمْكَانِهِ وَاسْتِطَاعَتِهِ، وَوَلَدُكَ يَتُوبُ إِذَا قَصَّرَ فِي أَدَبٍ مِنَ الْآدَابِ الَّتِي تُرْشِدُهُ إِلَيْهَا؛ لِيَكُونَ فِي نَفْسِهِ عَزِيزًا كَرِيمًا، وَكَذَلِكَ تَخْتَلِفُ تَوْبَاتُ التَّائِبِينَ إِلَى اللهِ - تَعَالَى - بِاخْتِلَافِ دَرَجَاتِهِمْ فِي مَعْرِفَتِهِ، وَفَهْمِ أَسْرَارِ شَرِيعَتِهِ، فَعَامَّةُ الْمُؤْمِنِينَ لَا يَعْرِفُونَ مِنْ مُوجِبَاتِ سُخْطِ اللهِ - تَعَالَى - وَأَسْبَابِ عُقُوبَتِهِ إِلَّا الْمَعَاصِيَ الَّتِي شَدَّدَتِ الشَّرِيعَةُ فِي النَّهْيِ عَنْهَا، وَإِذَا تَابُوا مِنْ عَمَلٍ سَيِّئٍ فَإِنَّمَا يَتُوبُونَ مِنْهَا، وَخَوَاصُّ الْمُؤْمِنِينَ يَعْرِفُونَ أَنَّ لِكُلِّ عَمَلٍ سَيِّئٍ لَوَثَةً فِي النَّفْسِ تَبْعُدُ بِهَا عَنِ الْكَمَالِ، وَلِكُلِّ عَمَلٍ صَالِحٍ أَثَرًا فِيهَا يُقَرِّبُهَا مِنَ اللهِ وَصِفَاتِهِ، فَالتَّقْصِيرُ فِي الصَّالِحَاتِ يُعَدُّ عِنْدَ هَؤُلَاءِ مِنَ الذُّنُوبِ الَّتِي تَهْبِطُ بِالنَّفْسِ وَتُبْعِدُهَا عَنِ اللهِ - تَعَالَى -، فَهِيَ إِذَا
قَصَّرَتْ فِيهَا تَتُوبُ، وَإِذَا شَمَّرَتْ لَا تَأْمَنُ النَّقَائِصَ وَالْعُيُوبَ، وَيَخْتَلِفُ اتِّهَامُ هَؤُلَاءِ الْأَبْرَارِ لِأَنْفُسِهِمْ بِاخْتِلَافِ مَعْرِفَتِهِمْ بِصِفَاتِ النَّفْسِ، وَمَا يَعْرِضُ لَهَا مِنَ الْآفَاتِ فِي سَيْرِهَا، وَمَعْرِفَتِهِمْ بِكَمَالِ اللهِ جل جلاله وَمَعْنَى الْقُرْبِ مِنْهُ وَاسْتِحْقَاقِ رِضْوَانِهِ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ:((حَسَنَاتُ الْأَبْرَارِ سَيِّئَاتُ الْمُقَرَّبِينَ)) وَمِنْ هُنَا نَفْهَمُ مَعْنَى التَّوْبَةِ الَّتِي طَلَبَهَا إِبْرَاهِيمُ وَإِسْمَاعِيلُ - عَلَيْهِمَا وَعَلَى آلِهِمَا الصَّلَاةُ وَالتَّسْلِيمُ - (إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) أَيْ إِنَّكَ أَنْتَ وَحْدَكَ الْكَثِيرُ التَّوْبِ عَلَى عِبَادِكَ - وَإِنْ كَثُرَ تَحَوُّلُهُمْ عَنْ سَبِيلِكَ - بِتَوْفِيقِهِمْ لِلتَّوْبَةِ إِلَيْكَ وَقَبُولِ تَوْبَتِهِمْ مِنْهُمْ، الرَّحِيمُ بِالتَّائِبِينَ.
(رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ) أَيْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، وَيَتَضَمَّنُ هَذَا الدُّعَاءَ لَهُمْ بِالِارْتِقَاءِ الَّذِي يُؤَهِّلُهُمْ وَيُعِدُّهُمْ لِظُهُورِ النَّبِيِّ مِنْهُمْ، وَقَدْ أَجَابَ اللهُ - تَعَالَى - هَذِهِ الدَّعْوَةَ بِخَاتَمِ النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ صلى الله عليه وسلم كَمَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ أَحْمَدَ ((أَنَا دَعْوَةُ إِبْرَاهِيمَ وَبِشَارَةُ عِيسَى)) . . . إِلَخْ، ثُمَّ وُصِفَ هَذَا الرَّسُولُ بِقَوْلِهِ:(يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ) الدَّالَّةَ عَلَى وَحْدَانِيَّتِكَ وَتَنْزِيهِكَ وَعَظَمَةِ شَأْنِكَ، وَالدَّالَّةَ عَلَى صِدْقِ رُسُلِكَ إِلَى خَلْقِكَ، فَالْمُرَادُ بِالْآيَاتِ: الْآيَاتُ الْكَوْنِيَّةُ وَالْعَقْلِيَّةُ، أَوِ الْمُرَادُ آيَاتُ الْوَحْيِ الَّتِي تُنْزِلُهَا عَلَيْهِ فَتَكُونُ دَلِيلًا عَلَى صِدْقِهِ، وَمُشْتَمِلَةً عَلَى تَفْصِيلِ آيَاتِ اللهِ فِي خَلْقِهِ كَبَرَاهِينِ التَّوْحِيدِ وَالتَّنْزِيهِ وَدَلَائِلِ النُّبُوَّةِ وَالْبَعْثِ. وَتِلَاوَتُهَا: ذِكْرُهَا الْمَرَّةَ بَعْدَ الْمَرَّةِ لِتَرْسَخَ فِي النَّفْسِ وَتُؤَثِّرَ فِي الْقَلْبِ.
(وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ) قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: فَسَّرُوا الْكِتَابَ بِالْقُرْآنِ، وَالْحِكْمَةَ
بِالسُّنَّةِ، وَالثَّانِي غَيْرُ مُسَلَّمٍ عَلَى عُمُومِهِ، أَمَّا الْأَوَّلُ فَلَهُ وَجْهٌ، وَعَلَيْهِ يَكُونُ الْمُرَادُ بِالْآيَاتِ فِيمَا سَبَقَ دَلَائِلَ الْعَقَائِدِ وَبَرَاهِينَهَا - كَمَا تَقَدَّمَ فِيمَا سَبَقَ - دُونَ الْوَحْيِ وَإِلَّا كَانَ مُكَرَّرًا. وَفِيهِ وَجْهٌ ثَانٍ: وَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْكِتَابِ مَصْدَرُ كَتَبَ، يُقَالُ: كَتَبَ كِتَابًا وَكِتَابَةً، وَإِنَّمَا الدُّعَاءُ لِأُمَّةٍ أُمِّيَّةٍ لَا بُدَّ فِي إِصْلَاحِهَا وَتَهْذِيبِهَا مِنْ تَعْلِيمِهَا الْكِتَابَةَ، وَقَدْ كَانَتِ الْأُمَمُ الْمُجَاوِرَةُ لَهَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَلَا يَتَيَسَّرُ لَهَا اللَّحَاقُ بِهَا أَوْ سَبْقُهَا، حَتَّى تَكُونَ مِنَ الْكَاتِبِينَ مِثْلَهَا، وَأَمَّا الْحِكْمَةُ فَهِيَ فِي كُلِّ شَيْءٍ مَعْرِفَةُ سِرِّهِ وَفَائِدَتِهِ، وَالْمُرَادُ بِهَا أَسْرَارُ الْأَحْكَامِ الدِّينِيَّةِ وَالشَّرَائِعُ وَمَقَاصِدُهَا، وَقَدْ بَيَّنَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ذَلِكَ بِسِيرَتِهِ فِي الْمُسْلِمِينَ، وَمَا فِيهَا مِنَ الْفِقْهِ فِي الدِّينِ، فَإِنْ أَرَادُوا مِنَ السُّنَّةِ هَذَا
الْمَعْنَى فِي تَفْسِيرِ الْحِكْمَةِ فَهُوَ مُسَلَّمٌ، وَهُوَ الَّذِي كَانَ يُفْهَمُ مِنِ اسْمِهَا فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ، وَإِنْ أَرَادُوا بِالسُّنَّةِ مَا يُفَسِّرُهَا بِهِ أَهْلُ الْأُصُولِ وَالْمُحَدِّثُونَ، فَلَا تَصِحُّ عَلَى إِطْلَاقِهَا، فَالْحِكْمَةُ مَأْخُوذَةٌ مِنَ الْحَكَمَةِ - بِالتَّحْرِيكِ - وَهِيَ مَا أَحَاطَ بِحَنَكَيِ الْفَرَسِ مِنَ اللِّجَامِ وَفِيهَا الْعِذَارَانِ، وَفِي ذَلِكَ مَعْنَى مَا يُضْبَطُ بِهِ الشَّيْءُ، وَمِنْ ذَلِكَ إِحْكَامُ الْأَمْرِ وَإِتْقَانُهُ، وَمَا كُلُّ مَنْ يَرْوِي الْأَحَادِيثَ يُحَقَّقُ لَهُ هَذَا الْمَعْنَى، وَلَكِنَّ الَّذِي يَتَفَقَّهُ فِي الدِّينِ وَيَفْهَمُ أَسْرَارَهُ وَمَقَاصِدَهُ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ قَدْ أُوتِيَ الْحِكْمَةَ الَّتِي قَالَ اللهُ فِيهَا: (وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا)(2: 269) وَلَنْ يَكُونَ أَحَدٌ دَاخِلًا فِي دَعْوَةِ إِبْرَاهِيمَ حَتَّى يَقْبَلَ تَعْلِيمَ الْحِكْمَةِ مِنْ هَذَا النَّبِيِّ الْكَرِيمِ.
عَلِمَ إِبْرَاهِيمُ وَإِسْمَاعِيلُ عليهما السلام أَنَّ تَعْلِيمَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ لَا يَكْفِي فِي إِصْلَاحِ الْأُمَمِ وَإِسْعَادِهَا، بَلْ لَا بُدَّ أَنْ يُقْرَنَ التَّعْلِيمُ بِالتَّرْبِيَةِ عَلَى الْفَضَائِلِ، وَالْحَمْلِ عَلَى الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ بِحُسْنِ الْأُسْوَةِ وَالسِّيَاسَةِ، فَقَالَ:(وَيُزَكِّيهِمْ) أَيْ يُطَهِّرُ نُفُوسَهُمْ مِنَ الْأَخْلَاقِ الذَّمِيمَةِ، وَيَنْزِعُ مِنْهَا تِلْكَ الْعَادَاتِ الرَّدِيئَةَ، وَيُعَوِّدُهَا الْأَعْمَالَ الْحَسَنَةَ الَّتِي تَطْبَعُ فِي النُّفُوسِ مَلَكَاتِ الْخَيْرِ، وَيُبَغِّضُ إِلَيْهَا الْقَبِيحَةَ الَّتِي تُغْرِيهَا بِالشَّرِّ، ثُمَّ خَتَمَا الدُّعَاءَ بِهَذَا الثَّنَاءِ (إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)، الْعَزِيزُ: هُوَ الْقَوِيُّ الْغَالِبُ عَلَى أَمْرِهِ فَلَا يُنَالُ بِضَيْمٍ، وَلَا يُغْلَبُ عَلَى أَمْرٍ، وَالْحَكِيمُ: هُوَ الَّذِي يَضَعُ الْأَشْيَاءَ أَحْسَنَ مَوْضِعٍ، وَيُتْقِنُ الْعَمَلَ وَيُحْسِنُ الصُّنْعَ، وَالسِّرُّ فِي ذِكْرِ هَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ هُنَا إِزَالَةُ مَا رُبَّمَا يَتَعَلَّقُ بِالذِّهْنِ، أَوْ يَسْبِقُ إِلَى الْوَهْمِ، مِنْ أَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ الَّتِي دُعِيَ بِهَا لِلْعَرَبِ مُنَافِيَةٌ لِطَبَائِعِهِمْ، بَعِيدَةٌ مِنْ أَحْوَالِهِمْ وَمَعَايِشِهِمْ، فَإِنَّهُمْ جَمُدُوا عَلَى بَدَاوَتِهِمْ، وَأَلِفُوا غِلْظَتَهُمْ وَخُشُونَتَهُمْ، فَهُمْ أَعْدَاءُ الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ، خُصَمَاءُ التَّهْذِيبِ وَالتَّرْبِيَةِ، لَا يَخْضَعُونَ لِنِظَامٍ، وَلَا يُؤْخَذُونَ بِالْأَحْكَامِ، وَلَا اسْتِعْدَادَ فِيهِمْ لِلْمَدَنِيَّةِ وَالْحَضَارَةِ، الَّتِي هِيَ أَثَرُ تَعْلِيمِ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ، وَتَزْكِيَةِ أَفْرَادِ الْأُمَّةِ، فَكَانَ يُتَوَقَّعُ أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ: مَنْ يَقْدِرُ أَنْ يُغَيِّرَ طِبَاعَ الْأُمَّةِ الْمَعْرُوفَةِ بِالْخُشُونَةِ وَالْقَسْوَةِ، فَيَجْعَلُهَا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْمَدَنِيَّةِ وَالْحِكْمَةِ؟ لَوْلَا أَنْ عُلِمَ أَنَّ الْمَدْعُوَّ وَالْمَسْئُولَ هُوَ الْعَزِيزُ الَّذِي لَا مَرَدَّ لِأَمْرِهِ، وَالْحَكِيمُ الَّذِي لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ.
(وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَابَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ)
الْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ مُتَّصِلٌ بِمَا سَبَقَهُ مِنِ ابْتِدَاءِ قَوْلِهِ: (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ) فَقَدْ ذَكَرَ أَنَّهُ - تَعَالَى - ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ، وَأَنَّهُ جَعَلَهُ إِمَامًا لِلنَّاسِ وَجَعَلَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ أَئِمَّةً، وَأَنَّهُ عَهِدَ إِلَيْهِ بِبِنَاءِ بَيْتِهِ وَتَطْهِيرِهِ لِعِبَادَتِهِ فَفَعَلَ، وَكَانَ يَوْمَئِذٍ يَدْعُو بِمَا عُلِمَ مِنْهُ مَا هِيَ مِلَّتُهُ، وَإِنْ هِيَ إِلَّا تَوْحِيدُ اللهِ وَإِسْلَامُ الْقَلْبِ إِلَيْهِ، وَالْإِخْلَاصُ لَهُ بِالْأَعْمَالِ، وَتَعْظِيمُ الْبَيْتِ بِتَطْهِيرِهِ، وَإِقَامَةُ الْمَنَاسِكِ فِيهِ عَنْ بَصِيرَةٍ بِأَسْرَارِهَا تَجْعَلُ الْمَعْنَى الْمُتَصَوَّرَ كَالْمَحْسُوسِ الْمُبْصَرِ. ثُمَّ قَالَ بَعْدَ هَذَا:(وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ) أَيِ امْتَهَنَهَا وَاسْتَخَفَّ بِهَا؛ كَأَنَّهُ - تَعَالَى - يَقُولُ: هَذِهِ هِيَ مِلَّةُ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ الَّذِي تَنْتَسِبُونَ إِلَيْهِ وَتَفْخَرُونَ بِهِ، فَكَيْفَ تَرْغَبُونَ عَنْهَا، وَتَنْتَحِلُونَ لِأَنْفُسِكُمْ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا، وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا لَا بِالذَّاتِ وَلَا بِالْوَسَاطَةِ! .
قَالَ: (وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا) بِهَذِهِ الْمِلَّةِ فَجَعَلْنَاهُ إِمَامًا لِلنَّاسِ، وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ الْكِتَابَ وَالنُّبُوَّةَ (وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) لِجِوَارِ اللهِ بِعَمَلِهِ بِهَذِهِ الْمِلَّةِ وَدَعْوَتِهِ إِلَيْهَا، وَإِرْشَادِهِ النَّاسَ بِهَا. فَمِلَّةٌ جَعَلَتْ لِإِبْرَاهِيمَ هَذِهِ الْمَكَانَةَ عِنْدَ اللهِ -
تَعَالَى - فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، لَا يَرْغَبُ عَنْهَا إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ، وَجَنَى عَلَى إِدْرَاكِ عَقْلِهِ فَاسْتَحَبَّ الْعَمَى عَلَى الْهُدَى، وَإِنْ خَسِرَ الْآخِرَةَ وَالْأُولَى.
وَمِنْ مَبَاحِثِ اللَّفْظِ فِي الْآيَةِ: قَوْلُ (الْجَلَالِ) فِي تَفْسِيرِ (سَفِهَ نَفْسَهُ) أَيْ جَهِلَ أَنَّهَا مَخْلُوقَةٌ
لِلَّهِ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَلَمْ يَقُلْ بِهَذَا أَحَدٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ الَّذِينَ يُعْتَدُّ بِهِمْ وَالسِّيَاقُ لَا يَقْتَضِيهِ، وَسَفِهَ: يُسْتَعْمَلُ لَازِمًا وَمُتَعَدِّيًا، وَمَعْنَى الْمُتَعَدِّي: اسْتَخَفَّ وَامْتَهَنَ وَأَخَّرَهُ (الْجَلَالُ) وَهُوَ الرَّاجِحُ.
وَفِي الْكَشَّافِ أَنَّ (نَفْسَهُ) تَمْيِيزٌ لِفَاعِلِ (سَفِهَ) وَلَا يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ الْإِضَافَةُ إِلَى الضَّمِيرِ؛ لِأَنَّهُ تَعْرِيفٌ لَفْظِيٌّ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ لَا يَرْغَبُ عَنْ ذَلِكَ إِلَّا مَنْ سَفِهَتْ نَفْسُهُ، أَيْ حَمُقَتْ.
وَقَدَّمَ هَذَا الْقَوْلَ كَأَنَّهُ رَجَّحَهُ عَلَى مَا قَبْلَهُ.
وَأَقُولُ: سَفُهَ بِالضَّمِّ - كَضَخُمَ - سَفَاهَةً صَارَ سَفِيهًا، وَسَفِهَ بِالْكَسْرِ - كَتَعِبَ - سَفَهًا هُوَ الَّذِي قِيلَ: إِنَّهُ يُسْتَعْمَلُ لَازِمًا وَمُتَعَدِّيًا، وَقِيلَ: بَلْ هُوَ لَازِمٌ دَائِمًا وَأَنَّ أَصْلَ سَفِهَ نَفْسَهُ بِالرَّفْعِ، فَنُصِبَ عَلَى التَّمْيِيزِ كَسَفِهَ نَفْسًا، فَأُضِيفَتِ النَّفْسُ إِلَى ضَمِيرِهِ كَمَا تَقَدَّمَ وَمِثْلُهُ غَبِنَ رَأْيَهُ. وَسَيَأْتِي تَوْضِيحُ مَعْنَاهُ فِي تَفْسِيرِ (سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ) (2: 142) .
(إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ) أَيِ اصْطَفَاهُ إِذْ دَعَاهُ إِلَى الْإِسْلَامِ بِمَا أَرَاهُ مِنْ آيَاتِهِ وَنَصَبَ لَهُ مِنْ بَيِّنَاتِهِ، فَأَجَابَ الدَّعْوَةَ وَ (قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) وَ (الْجَلَالُ) قَدَّرَ كَلِمَةَ " اذْكُرْ " مُتَعَلِّقًا لِلظَّرْفِ " إِذْ " كَمَا هِيَ عَادَتُهُ فِي مِثْلِهِ وَإِنْ وُجِدَ فِي الْكَلَامِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ، كَقَوْلِهِ هُنَا:(اصْطَفَيْنَاهُ) وَقَدْ نَشَأَ إِبْرَاهِيمُ صلى الله عليه وسلم فِي قَوْمٍ يَعْبُدُونَ الْكَوَاكِبَ وَيَتَّخِذُونَ الْأَصْنَامَ، فَأَرَاهُ اللهُ حُجَّتَهُ، وَأَنَارَ بَصِيرَتَهُ، فَنَفَذَتْ أَشِعَّتُهَا مِنَ الْعَالِمِ الشَّمْسِيِّ، وَأَدْرَكَتْ أَنَّ لِجَمِيعِ الْعَالَمِينَ رَبًّا وَاحِدًا مُنْفَرِدًا بِالْخَلْقِ وَالتَّدْبِيرِ، وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ فَبَهَرَهُمْ بِبُرْهَانِهِ، وَأَفْحَمَهُمْ بِبَيَانِهِ، وَقَدْ قَصَّ اللهُ - تَعَالَى - خَبَرَهُ مَعَهُمْ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ، وَسَيَأْتِي تَفْسِيرُ الْآيَاتِ إِنْ شَاءَ اللهُ - تَعَالَى.
(وَوَصَّى بِهَا) أَيْ بِالْمِلَّةِ أَوِ الْخَصْلَةِ الَّتِي ذُكِرَتْ أَخِيرًا، (إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ) بَنِيهِ أَيْضًا، إِذْ قَالَ كُلٌّ مِنْهُمَا لِوَلَدِهِ:(يَا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ) أَيِ اخْتَارَهُ لَكُمْ بِهِدَايَتِكُمْ إِلَيْهِ وَجَعَلَ الْوَحْيَ فِيكُمْ (فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) أَيْ فَحَافِظُوا عَلَى الْإِسْلَامِ لِلَّهِ وَالْإِخْلَاصِ فِي الِانْقِيَادِ إِلَيْهِ بِحَيْثُ لَا تَتْرُكُوا ذَلِكَ لَحْظَةً
وَاحِدَةً لِئَلَّا تَمُوتُوا فِيهَا فَتَمُوتُوا غَيْرَ مُسْلِمِينَ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَضْمَنُ حَيَاتَهُ بَيْنَ الشَّهِيقِ وَالزَّفِيرِ، وَيَتَضَمَّنُ هَذَا النَّهْيُ إِرْشَادَ مَنْ كَانَ مُنْحَرِفًا عَنِ الْإِسْلَامِ إِلَى عَدَمِ الْيَأْسِ وَأَنْ يُبَادِرَ بِالرُّجُوعِ إِلَيْهِ وَالِاعْتِصَامِ بِحَبْلِهِ لِئَلَّا يَمُوتَ عَلَى غَيْرِهِ.
وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ انْتِقَالٌ إِلَى إِشْرَاكِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْعَالَمِينَ مِنَ الْعَرَبِ فِي التَّذْكِيرِ وَالْإِرْشَادِ إِلَى الْإِسْلَامِ؛ وَلِذَلِكَ ذُكِرَتْ وَصِيَّةُ يَعْقُوبَ، وَاخْتَلَفَ الْأُسْلُوبُ فَقَدْ كَانَ جَارِيًا عَلَى طَرِيقَةِ الْإِيجَازِ، فَانْتَقَلَ إِلَى طَرِيقَةِ الْإِطْنَابِ وَالْإِلْحَاحِ؛ لِمَا تَقَدَّمَ الْإِلْمَاعُ إِلَيْهِ مِنْ مُرَاعَاةِ الْأُولَى فِي خِطَابِ الْعَرَبِ، وَالثَّانِيَةِ فِي خِطَابِ أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ لَا يَكْتَفُونَ بِالْإِشَارَةِ وَالْعِبَارَةِ الْمُخْتَصَرَةِ لِجُمُودِ أَذْهَانِهِمْ وَاعْتِيَادِهِمْ عَلَى التَّأْوِيلِ وَالتَّحْرِيفِ، وَفَصَلَ بَيْنَ الْعَاطِفِ وَالْمَعْطُوفِ بِالْمَفْعُولِ وَلَمْ يَقُلْ: وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ وَيَعْقُوبُ بَنِيهِمَا، لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ
أَنَّ الْوَصِيَّةَ كَانَتْ مِنْهُمَا فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ أَوْ أَنَّهَا خَاصَّةٌ بِأَبْنَائِهِمَا مَعًا، وَهُمْ أَوْلَادُ يَعْقُوبَ عَلَى نَحْوِ مَا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ (وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ) .
ذَكَرَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ وَحُكْمَ الرَّاغِبِ عَنْهَا وَوَصِيَّتَهُ بَنِيهِ بِهَا، وَوَصِيَّةَ حَفِيدِهِ يَعْقُوبَ بَنِيهِ بِهَا أَيْضًا، وَذَلِكَ يُشْعِرُ بِأَنَّ بَنِي إِبْرَاهِيمَ كَانُوا يُوصَوْنَ بِمَا أَوْصَاهُمْ أَبُوهُمْ، فَإِنَّ يَعْقُوبَ أَخَذَ الْوَصِيَّةَ عَنْ أَبِيهِ إِسْحَاقَ، وَذَلِكَ مِنْ ضُرُوبِ الْإِيجَازِ الدَّقِيقَةِ.
ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يُقَرِّرَ أَمْرَ هَذِهِ الْوَصِيَّةِ وَيُؤَكِّدَهَا وَيُقِيمَ الْحُجَّةَ بِهَا عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ، فَقَالَ:(أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي)
أَقُولُ: هَذَا إِضْرَابٌ عَمَّا قَبْلَهُ وَانْتِقَالٌ إِلَى اسْتِفْهَامٍ إِنْكَارِيٍّ وُجِّهَ إِلَى الْيَهُودِ عَنْ وَصِيَّةِ جَدِّهِمْ يَعْقُوبَ لِآبَائِهِمُ الْأَسْبَاطِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ: مَعْنَاهُ أَكُنْتُمْ غَائِبِينَ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذِ احْتَضَرَ يَعْقُوبُ فَسَأَلَ بَنِيهِ عَمَّا يَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِهِ سُؤَالَ تَقْرِيرٍ لِيُشْهِدُوهُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالتَّوْحِيدِ الْخَالِصِ، وَالسُّؤَالُ بِ (مَا) أَعَمُّ مِنَ السُّؤَالِ بِ " مَنْ " لِأَنَّ هَذَا خَاصٌّ بِمَنْ يَعْقِلُ وَمَا أُنْزِلَ مَنْزِلَتَهُ بِسَبَبٍ يُجِيزُ ذَلِكَ، وَالسُّؤَالُ بِكَلِمَةِ (مَا) يَعُمُّ الْعَاقِلَ وَغَيْرَهُ، وَتَتَعَيَّنُ (مَا) فِي السُّؤَالِ عَنِ الْعَاقِلِ إِذَا أُرِيدَ وَصْفُهُ نَحْوَ (قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ) (26: 23) ؟ وَهَذَا الِاصْطِلَاحُ لِلنُّحَاةِ لَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ وَصْفِ اللهِ - تَعَالَى - بِلَفْظِ ((الْعَاقِلِ)) شَرْعًا؛ لِأَنَّ أَسْمَاءَهُ وَصِفَاتَهُ - تَعَالَى - تَوْقِيفِيَّةٌ، (قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ
وَإِسْحَاقَ) عَرَّفُوا الْإِلَهَ بِالْإِضَافَةِ إِلَى آبَائِهِمْ لِأَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ انْفَرَدُوا بِعِبَادَةِ رَبِّ الْعَالَمِينَ خَالِقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَحْدَهُ، وَدَعَوُا الْأُمَمَ إِلَى ذَلِكَ فِي وَقْتٍ فَشَتْ فِيهِ عِبَادَةُ آلِهَةٍ كَثِيرِينَ مِنَ الْكَوَاكِبِ وَالْأَصْنَامِ وَالْحَيَوَانَاتِ وَغَيْرِهَا، وَلِذَلِكَ قَالَ سَحَرَةُ مُوسَى عِنْدَمَا آمَنُوا:(آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ)(7: 121 - 122) . وَإِسْمَاعِيلُ عَمُّ يَعْقُوبَ، ذُكِرَ مَعَ آبَائِهِ لِلتَّغْلِيبِ أَوْ لِتَشْبِيهِ الْعَمِّ بِالْأَبِ، كَمَا فِي حَدِيثِ ((عَمُّ الرَّجُلِ صِنْوُ أَبِيهِ)) رَوَاهُ الشَّيْخَانِ. وَالْجَمْعُ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ جَائِزٌ يَكْثُرُ فِي الْقُرْآنِ وِفَاقًا لِلشَّافِعِيِّ وَابْنِ جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ وَخِلَافًا لِجُمْهُورِ الْأُصُولِيِّينَ (إِلَهًا وَاحِدًا) أَيْ نَعْبُدُهُ حَالَ كَوْنِهِ إِلَهًا وَاحِدًا لَا نُشْرِكُ مَعَهُ أَحَدًا بِدُعَاءٍ، وَلَا تَوَجُّهٍ فِي قَضَاءِ حَاجَةٍ وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْعِبَادَاتِ (وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) أَيْ وَالْحَالُ أَنَّنَا نَحْنُ مُنْقَادُونَ مُذْعِنُونَ مُسْتَسْلِمُونَ لَهُ وَحْدَهُ دُونَ غَيْرِهِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ تَقْدِيمُ الظَّرْفِ (لَهُ) .
وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي الْآيَةِ مَا مَعْنَاهُ:
خُلَاصَةُ هَذِهِ الْوَصِيَّةِ عَقِيدَةُ الْوَحْدَانِيَّةِ فِي الْعِبَادَةِ وَإِسْلَامِ الْقَلْبِ لِلَّهِ - تَعَالَى - وَالْإِخْلَاصِ لَهُ. وَتَكْرَارُ لَفْظِ (الْإِسْلَامِ) فِي هَذِهِ الْآيَاتِ يُرَادُ بِهِ تَقْرِيرُ حَقِيقَةِ الدِّينِ. ذَلِكَ أَنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ تَدَّعِي أَنَّ لَهَا دِينًا خَاصًّا بِهَا وَأَنَّهُ الْحَقُّ، وَإِنِ اخْتَلَفَتْ فِيهِ الْقَبَائِلُ وَالشُّعُوبُ، وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ يَنْتَمِي إِلَى إِبْرَاهِيمَ عَلَى وَثَنِيَّتِهِمْ، وَكَذَلِكَ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى كُلٌّ يَدَّعِي دِينًا خَاصًّا بِهِ وَأَنَّهُ الْحَقُّ،
فَبَيَّنَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ أَنَّ هَذِهِ الدَّعَاوَى مِنَ التَّعَصُّبِ لِلتَّقَالِيدِ وَأَنَّ دِينَ اللهِ - تَعَالَى - وَاحِدٌ فِي حَقِيقَتِهِ، وَرُوحَهُ التَّوْحِيدُ وَالِاسْتِسْلَامُ لِلَّهِ - تَعَالَى -، وَالْخُضُوعُ وَالْإِذْعَانُ لِهِدَايَةِ الْأَنْبِيَاءِ، وَبِهَذَا كَانَ يُوصِي أُولَئِكَ النَّبِيُّونَ أَبْنَاءَهُمْ وَأُمَمَهُمْ، فَتَبَيَّنَ أَنَّ دِينَ اللهِ - تَعَالَى - وَاحِدٌ فِي كُلِّ أُمَّةٍ وَعَلَى لِسَانِ كُلِّ نَبِيٍّ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى:(شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ)(42: 13)) فَالتَّفَرُّقُ فِي الدِّينِ مَا جَاءَ إِلَّا مِنَ الْجَهْلِ وَالتَّعَصُّبِ لِلْأَهْوَاءِ، وَالْمُحَافَظَةِ عَلَى الْحُظُوظِ وَالْمَنَافِعِ الْمُتَبَادَلَةِ بَيْنَ الْمَرْءُوسِينَ وَالرُّؤَسَاءِ، فَالْقُرْآنُ يُطَالِبُ الْجَمِيعَ بِالِاتِّفَاقِ فِي الدِّينِ وَالِاجْتِمَاعِ عَلَى أَصْلَيْهِ، الْعَقْلِيِّ: وَهُوَ التَّوْحِيدُ وَالْبَرَاءَةُ مِنَ الشِّرْكِ بِأَنْوَاعِهِ، وَالْقَلْبِيِّ: وَهُوَ الْإِسْلَامُ وَالْإِخْلَاصُ لِلَّهِ فِي جَمِيعِ الْأَعْمَالِ.
وَعُلِمَ مِنْ هَذَا أَنَّ لَفْظَ الْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ فِي كَلَامِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَيَعْقُوبَ يُرَادُ بِهِ مَعْنَاهُ الَّذِي تَقَدَّمَ، فَمَنْ لَمْ يَكُنْ مُتَحَقِّقًا بِهَذَا الْمَعْنَى فَلَيْسَ بِمُسْلِمٍ، أَيْ لَيْسَ عَلَى دِينِ اللهِ الْقَيِّمِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ جَمِيعُ أَنْبِيَاءِ اللهِ. وَأَمَّا لَفْظُ الْإِسْلَامِ فِي عُرْفِنَا الْيَوْمَ، فَهُوَ لَقَبٌ يُطْلَقُ عَلَى طَوَائِفَ مِنَ النَّاسِ لَهُمْ مُمَيِّزَاتٌ دِينِيَّةٌ وَعَادِيَّةٌ تُمَيِّزُهُمْ عَنْ سَائِرِ طَوَائِفِ النَّاسِ الَّذِينَ يُلَقَّبُونَ بِأَلْقَابٍ دِينِيَّةٍ أُخْرَى، وَلَا يُشْتَرَطُ فِي إِطْلَاقِ هَذَا اللَّقَبِ الْعُرْفِيِّ عِنْدَ أَهْلِهِ أَنْ يَكُونَ الْمُسْلِمُ خَاضِعًا مُسْلِمًا لِدِينِ اللهِ مُخْلِصًا لَهُ أَعْمَالَهُ، بَلْ يُطْلِقُونَهُ أَيْضًا عَلَى مَنِ ابْتَدَعَ فِيهِ مَا لَيْسَ مِنْهُ، أَوْ مَا يُنَافِيهِ، وَمَنْ فَسَقَ عَنْهُ وَاتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ. وَمَعْنَى الْإِسْلَامِ الَّذِي دَعَا إِلَيْهِ الْقُرْآنُ تَقُومُ بِهِ الْحُجَّةُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، وَيَعْتَرِفُ بِهِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى؛ لِأَنَّهُ رُوحُ كُلِّ دِينٍ، وَهُوَ الَّذِي دَعَا إِلَيْهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وَالدَّعْوَةُ إِلَى اللَّقَبِ لَا مَعْنَى لَهَا.
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ بَعْدَ تَقْرِيرِهِ هَذَا الْمَعْنَى: وَبِهِ يَظْهَرُ خَطَأُ مَنْ خَصَّصَ الرَّغْبَةَ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ بِالْمَيْلِ إِلَى الْيَهُودِيَّةِ أَوِ النَّصْرَانِيَّةِ.
وَمِنْ مَبَاحِثِ اللَّفْظِ فِي الْآيَةِ أَنَّ " أَمْ " تُسْتَعْمَلُ فِي الِاسْتِفْهَامِ إِذَا كَانَ مَبْنِيًّا عَلَى كَلَامٍ سَابِقٍ كَمَا هُنَا لِمَا فِيهَا مِنَ الْإِشْعَارِ بِالِانْتِقَالِ، فَفِيهَا مَعْنَى الْإِضْرَابِ.
(تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْئَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ)، أَقُولُ: الْأُمَّةُ هُنَا الْجَمَاعَةُ مِنَ النَّاسِ، وَالْمُشَارُ إِلَيْهِ يَعْقُوبُ وَآبَاؤُهُ وَأَبْنَاؤُهُ، وَإِذَا بَدَأْتَ بِالْأَفْضَلِ قُلْتَ: إِبْرَاهِيمُ وَأَوْلَادُهُ وَأَحْفَادُهُ الْمَذْكُورُونَ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ. (قَدْ خَلَتْ) مَضَتْ وَذَهَبَتْ مِنْ هَذَا الْعَالَمِ (لَهَا مَا كَسَبَتْ) مِنْ عَمَلٍ تُجْزَى بِهِ (وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ) مِنْ عَمَلٍ تُجْزَوْنَ بِهِ، وَلَا يُجْزَى أَحَدٌ بِعَمَلِ غَيْرِهِ (وَلَا تُسْئَلُونَ) يَوْمَ الْحِسَابِ وَالْجَزَاءِ (عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ) سُؤَالَ حِسَابٍ وَجَزَاءٍ، وَلَا يُسْئَلُونَ عَمَّا تَعْمَلُونَ كَذَلِكَ، بَلْ كُلٌّ يُسْأَلُ عَنْ عَمَلِهِ وَيُجَازَى بِهِ دُونَ عَمَلِ غَيْرِهِ،
فَلَا يَنْتَفِعُ أَحَدٌ بِعَمَلِ غَيْرِهِ وَلَا يَتَضَرَّرُ بِهِ مِنْ حَيْثُ هُوَ عَمَلُهُ، إِلَّا أَنَّهُ قَدْ يَنْتَفِعُ أَوْ يَتَضَرَّرُ بِعَمَلِ غَيْرِهِ إِذَا كَانَ هُوَ سَبَبًا لَهُ؛ لِأَنَّهُ أَرْشَدَهُ إِلَيْهِ وَكَانَ قُدْوَةً لَهُ فِيهِ.
(الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ) : جَاءَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ بَعْدَ الْكَلَامِ عَنْ وَصِيَّةِ إِبْرَاهِيمَ لِبَنِيهِ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ لِبَنِيهِمُ؛ اسْتِدْرَاكًا عَلَى مَا عَسَاهُ يَقَعُ فِي أَذْهَانِ ذَرَارِي هَؤُلَاءِ الْأَنْبِيَاءِ الْكِرَامِ - عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مِنْ أَنَّ هَذَا السَّلَفَ الَّذِي لَهُ
عِنْدَ اللهِ هَذِهِ الْمَكَانَةُ يَشْفَعُ لَهُمْ فَيَنْجُونَ وَيَسْعَدُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِمُجَرَّدِ الِانْتِسَابِ إِلَيْهِمْ، فَبَيَّنَ اللهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ سُنَّتَهُ فِي عِبَادِهِ أَلَّا يُجْزَى أَحَدٌ إِلَّا بِكَسْبِهِ وَعَمَلِهِ، وَلَا يُسْأَلَ إِلَّا عَنْ كَسْبِهِ وَعَمَلِهِ، وَقَدْ بَيَّنَ فِي سُورَةِ النَّجْمِ أَنَّ هَذِهِ الْقَضِيَّةَ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ الْعَامَّةِ الَّتِي جَاءَ بِهَا الْأَنْبِيَاءُ مِنْ قَبْلُ (أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى) (53: 36 - 39) . . . إِلَخْ.
وَبَيَّنَ فِي آيَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ فِي سُوَرٍ مُتَفَرِّقَةٍ: أَنَّ الْمُرْسَلِينَ لَمْ يُرْسَلُوا إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ، فَمَنْ آمَنَ بِهِمْ وَعَمِلَ بِمَا يُرْشِدُونَ إِلَيْهِ كَانَ نَاجِيًا وَإِنْ بَعُدَ عَنْهُمْ فِي النَّسَبِ، وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ هَدْيِهِمْ كَانَ هَالِكًا وَإِنْ أَدْلَى إِلَيْهِمْ بِأَقْرَبِ سَبَبٍ (قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ) (11: 46) وَإِذَا لَمْ تَنْتَفِعْ بِهِمْ ذُرِّيَّاتُهُمُ الَّذِينَ لَمْ يَقْتَدُوا بِهِمْ فَكَيْفَ يَنْتَفِعُ بِهِمْ أُولَئِكَ الْبُعَدَاءُ الَّذِينَ لَيْسَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُمْ صِلَةٌ إِلَّا الْأَقْوَالَ الْكَاذِبَةَ الَّتِي يُعَبِّرُ عَنْهَا أَهْلُ هَذَا الْعَصْرِ (بِالْمَحْسُوبِيَّةِ)، وَيَقُولُونَ فِي مُخَاطَبَةِ أَصْحَابِ الْقُبُورِ عِنْدَ الِاسْتِغَاثَةِ بِهِمْ:((الْمَحْسُوبُ كَالْمَنْسُوبِ)) وَمَا أَحْسَنَ قَوْلَ الْإِمَامِ الْغَزَالِيِّ: إِذَا كَانَ الْجَائِعُ يَشْبَعُ إِذَا أَكَلَ وَالِدُهُ دُونَهُ، وَالظَّمْآنُ يَرْوَى بِشُرْبِ وَالِدِهِ.
(وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ)
وَإِنْ لَمْ يَشْرَبْ فَالْعَاصِي يَنْجُو بِصَلَاحِ وَالِدِهِ. وَالْآيَاتُ الَّتِي تُؤَيِّدُ هَذِهِ الْآيَةَ كَثِيرَةٌ جِدًّا، فَهِيَ أَصْلٌ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ الْإِلَهِيِّ لَا يُفِيدُ مَعَهَا تَأْوِيلُ الْمَغْرُورِينَ وَلَا غُرُورُ الْجَاهِلِينَ، بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ السَّابِقَةِ حَقِيقَةَ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ فِي سِيَاقِ دَعْوَةِ الْعَرَبِ إِلَى الْإِسْلَامِ، ثُمَّ أَشْرَكَ مَعَهُمْ أَهْلَ الْكِتَابِ لِأَنَّهُمْ أَقْرَبُ إِلَى الْإِيْمَانِ بِإِبْرَاهِيمَ وَأَجْدَرُ بِإِجْلَالِهِ وَاتِّبَاعِهِ، وَانْتَقَلَ الْكَلَامُ بِهَذِهِ الْمُنَاسَبَةِ إِلَى بَيَانِ وَحْدَةِ الدِّينِ الْإِلَهِيِّ وَاتِّفَاقِ النَّبِيِّينَ فِي جَوْهَرِهِ، وَبَيَانِ جَهْلِ أَهْلِ الْكِتَابِ بِهَذِهِ الْوَحْدَةِ، وَقِصَرِ نَظَرِهِمْ عَلَى مَا يَمْتَازُ بِهِ كُلُّ دِينٍ مِنَ الْفُرُوعِ وَالْجُزْئِيَّاتِ، أَوِ التَّقَالِيدِ الَّتِي أَضَافُوهَا عَلَى التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، فَبَعُدَ بِهَا كُلُّ فَرِيقٍ مِنَ الْآخَرِ أَشَدَّ الْبُعْدِ، وَصَارَ الدِّينُ الْوَاحِدُ كُفْرًا وَإِيْمَانًا، كُلُّ فَرِيقٍ مِنْ أَهْلِهِ يَحْتَكِرُ الْإِيْمَانَ لِنَفْسِهِ وَيَرْمِي الْآخَرَ بِالْكُفْرِ وَالْإِلْحَادِ، وَإِنْ كَانَ نَبِيُّهُمْ وَاحِدًا وَكِتَابُهُمْ وَاحِدًا.
فَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: (وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا) بَيَانٌ لِعَقِيدَةِ الْفَرِيقَيْنِ فِي التَّفَرُّقِ فِي الدِّينِ، وَالضَّمِيرُ فِي (وَقَالُوا) لِأَهْلِ الْكِتَابِ وَ (أَوْ) لِلتَّوْزِيعِ أَوِ التَّنْوِيعِ، أَيْ إِنَّ الْيَهُودَ يَدْعُونَ إِلَى الْيَهُودِيَّةِ الَّتِي هُمْ عَلَيْهَا وَيَحْصُرُونَ الْهِدَايَةَ فِيهَا، وَالنَّصَارَى يَدْعُونَ إِلَى النَّصْرَانِيَّةِ الَّتِي هُمْ عَلَيْهَا وَيَحْصُرُونَ الْهِدَايَةَ فِيهَا - وَهَذَا الْأُسْلُوبُ مَعْهُودٌ فِي اللُّغَةِ - وَلَوْ صدَقَ أَيُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَمَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ مُهْتَدِيًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا، وَكَيْفَ وَهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى كَوْنِهِ إِمَامَ الْهُدَى وَالْمُهْتَدِينَ؛ لِذَلِكَ قَالَ - تَعَالَى - مُلَقِّنًا لِنَبِيِّهِ الْبُرْهَانَ الْأَقْوَى فِي مُحَاجَّتِهِمْ (قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) أَيْ بَلْ نَتَّبِعُ أَوِ اتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ الَّذِي لَا نِزَاعَ فِي هُدَاهُ وَلَا فِي هَدْيِهِ، فَهِيَ الْمِلَّةُ الْحَنِيفِيَّةُ الْقَائِمَةُ عَلَى الْجَادَّةِ بِلَا انْحِرَافٍ وَلَا زَيْغٍ، الْعَرِيقَةُ فِي التَّوْحِيدِ وَالْإِخْلَاصِ بِلَا وَثَنِيَّةٍ وَلَا شِرْكٍ.
وَالْحَنِيفُ فِي اللُّغَةِ: الْمَائِلُ، وَإِنَّمَا أُطْلِقَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ؛ لِأَنَّ النَّاسَ فِي عَصْرِهِ كَانُوا عَلَى طَرِيقَةٍ وَاحِدَةٍ وَهِيَ الْكُفْرُ، فَخَالَفَهُمْ كُلَّهُمْ وَتَنَكَّبَ طَرِيقَتَهُمْ، وَلَا يُسَمَّى الْمَائِلُ حَنِيفًا إِلَّا إِذَا كَانَ الْمَيْلُ عَنِ الْجَادَّةِ الْمُعَبَّدَةِ، وَفِي الْأَسَاسِ: مَنْ مَالَ عَنْ كُلِّ دِينٍ أَعْوَجَ، وَيُطْلَقُ عَلَى الْمُسْتَقِيمِ، وَبِهِ فَسَّرَ الْكَلِمَةَ بَعْضُهُمْ، أَوْرَدَ لَهُ شَاهِدًا مِنَ اللُّغَةِ وَهُوَ أَقْرَبُ. وَمِنَ التَّأْوِيلَاتِ الْبَعِيدَةِ: مَا رُوِيَ مِنْ تَفْسِيرِ الْحَنِيفِ بِالْحَاجِّ وَوَجْهُ الْقَوْلِ بِهِ أَنَّهُ مِمَّا حُفِظَ مِنْ دِينِ إِبْرَاهِيمَ.
(الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ) : قَالَ بَعْضُ الْمُشْتَغِلِينَ بِالْعَرَبِيَّةِ مِنَ الْإِفْرِنْجِ: إِنَّ الْحَنِيفِيَّةَ هِيَ
مَا كَانَ عَلَيْهِ الْعَرَبُ مِنَ الشِّرْكِ، وَاحْتَجُّوا عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِ بَعْضِ النَّصَارَى فِي زَمَنِ الْجَاهِلِيَّةِ: إِنْ فَعَلْتُ هَذَا أَكُونُ حَنِيفِيًّا. وَإِنَّهَا لَفَلْسَفَةٌ جَاءَتْ مِنَ الْجَهْلِ بِاللُّغَةِ، وَقَدْ نَاظَرْتُ بَعْضَ الْإِفْرِنْجِ فِي هَذَا فَلَمْ يَجِدْ مَا يَحْتَجُّ بِهِ إِلَّا عِبَارَةَ ذَلِكَ النَّصْرَانِيِّ، وَهُوَ الْآنَ يَجْمَعُ كُلَّ مَا نُقِلَ عَنِ الْعَرَبِ مِنْ هَذِهِ الْمَادَّةِ لِيَنْظُرَ كَيْفَ كَانُوا يَسْتَعْمِلُونَهَا، وَلَا دَلِيلَ فِي كَلِمَةِ النَّصْرَانِيِّ الْعَرَبِيِّ عَلَى أَنَّ الْكَلِمَةَ تَدُلُّ لُغَةً عَلَى الشِّرْكِ، وَإِنَّمَا مُرَادُهُ بِكَلِمَتِهِ الْبَرَاءَةُ مِنْ دِينِ الْعَرَبِ مُطْلَقًا؛ ذَلِكَ أَنَّ بَعْضَ الْعَرَبِ كَانُوا يُسَمُّونَ أَنْفُسَهُمُ الْحُنَفَاءَ وَيَنْتَسِبُونَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَيَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ عَلَى دِينِهِ، وَكَانَ النَّاسُ يُسَمُّونَهُمُ الْحُنَفَاءَ أَيْضًا، وَالسَّبَبُ فِي التَّسْمِيَةِ وَالدَّعْوَى أَنَّ سَلَفَهُمْ كَانُوا عَلَى مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ حَقِيقَةً
ثُمَّ طَرَأَتْ عَلَيْهِمُ الْوَثَنِيَّةُ فَأَخَذَتْهُمْ عَنْ عَقِيدَتِهِمْ وَأَنْسَتْهُمْ أَحْكَامَ مِلَّتِهِمْ وَأَعْمَالَهَا - نَسُوا بَعْضَهَا بِالْمَرَّةِ وَخَرَجُوا بِبَعْضٍ آخَرَ عَنْ أَصْلِهِ وَوَصْفِهِ كَالْحَجِّ، وَنَفْيُ الشِّرْكِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ فِي آخِرِ الْآيَةِ احْتِرَاسٌ مِنْ وَهْمِ الْوَاهِمِينَ، وَتَكْذِيبٌ لِدَعْوَى الْمُدَّعِينَ.
أَقُولُ: لَا بِدْعَ أَنْ يَنْسَى الْأُمِّيُّونَ مَا كَانُوا عَلَيْهِ، فَإِنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ خَرَجُوا بِدِينِهِمْ عَنْ وَضْعِهِ الْأَوَّلِ فَنَسُوا بَعْضًا وَحَرَّفُوا بَعْضًا، وَزَادُوا فِيهِ وَنَقَصُوا مِنْهُ؛ فَالْيَهُودُ أَضَافُوا التِّلْمُودَ إِلَى مَا عِنْدَهُمْ مِنَ التَّوْرَاةِ، وَسَمُّوا مَجْمُوعَ ذَلِكَ مَعَ تَفَاسِيرِهِ وَآرَاءِ أَحْبَارِهِمْ فِيهِ الْيَهُودِيَّةَ.
وَأَمَّا النَّصَارَى فَقَدْ ظَهَرَ دِينُهُمْ بِشَكْلٍ لَوْ رَآهُ الْحَوَارِيُّونَ الَّذِينَ أَخَذُوا الدِّينَ عَنِ الْمَسِيحِ مُبَاشَرَةً لَمَا عَرَفُوا أَيَّ دِينٍ هُوَ. وَهَؤُلَاءِ الْمُسْلِمُونَ عَلَى حِفْظِ كِتَابِهِمْ فِي الصُّدُورِ وَالسُّطُورِ يَعْمَلُونَ بِاسْمِ الدِّينِ أَعْمَالًا يَظُنُّهَا الْجَاهِلُونَ بِدِينِهِمْ أَعْظَمَ أَرْكَانِ الدِّينِ، وَمَا هِيَ مِنَ الدِّينِ وَإِنَّمَا هِيَ بِدَعُ الْمُضِلِّينَ، فَالْإِفْرِنْجُ يَكْتُبُونَ فِي رِحَلَاتِهِمْ أَنَّ رَقْصَ الْمَوْلَوِيَّةِ مِنْ أَعْظَمِ الْعِبَادَاتِ الْإِسْلَامِيَّةِ، وَأَنَّ مَا يَكُونُ فِي جَامِعِ الْقَلْعَةِ فِي لَيَالِي الْمَوْلِدِ وَالْمِعْرَاجِ وَنِصْفِ شَعْبَانَ مِنَ الرَّقْصِ وَالْعَزْفِ بِالطُّبُولِ وَالدُّفُوفِ وَغَيْرِهَا مِنْ أَهَمِّ الشَّعَائِرِ الْإِسْلَامِيَّةِ، وَسَمَّاهَا بَعْضُهُمُ (الصَّلَاةَ الْكُبْرَى) وَلَوْلَا أَنَّ الْقُرْآنَ مَحْفُوظٌ وَسُنَّةُ الرَّسُولِ وَسِيرَةُ السَّلَفِ الصَّالِحِ مُدَوَّنَتَانِ فِي الْكُتُبِ لَنَسِينَا الْأَصْلَ وَاكْتَفَيْنَا بِهَذِهِ الْبِدَعِ، فَإِنَّ مِئَاتَ الْأُلُوفِ الَّتِي تَحُجُّ إِلَى مَشَاهِدِ أَهْلِ الْبَيْتِ وَالْجِيلَانِيِّ بِالْعِرَاقِ، وَالْبَدَوِيِّ وَأَمْثَالِهِ بِمِصْرَ كُلَّ عَامٍ لَا يُقِيمُ الصَّلَاةَ
وَيُؤْتِي الزَّكَاةَ وَيَحُجُّ الْبَيْتَ مِنْهُمْ إِلَّا أَقَلُّهُمْ، وَهُمْ فِي عِبَادَتِهِمُ الْبَاطِلَةِ أَخْشَعُ مِنْهُمْ فِي عِبَادَتِهِمُ الْمَشْرُوعَةِ، وَلَكِنَّ اللهَ أَرَادَ بَقَاءَ هَذَا الدِّينِ وَحِفْظَهُ وَسَيَرْجِعُ إِلَى كِتَابِهِ الرَّاجِعُونَ، وَيَهْتَدِي بِهِ الْمُهْتَدُونَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُقَلِّدُونَ، وَعِنْدَ ذَلِكَ تَنْقَشِعُ ظُلُمَاتُ هَذِهِ الْبِدَعِ الَّتِي هُمْ فِيهَا يَتَخَبَّطُونَ.
وَقَدْ تَوَهَّمَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ أَنَّ هَذَا الْجَوَابَ (بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ) . . . إِلَخْ جَاءَ عَلَى طَرِيقَةِ الْإِقْنَاعِ وَلَيْسَ حُجَّةً حَقِيقِيَّةً، وَوَجَّهُوهُ بِقَوْلِهِمْ: إِنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ يُعَانِدُونَ الْحَقَّ وَيُكَابِرُونَ فِي مُعْجِزَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَأَمَرَ اللهُ نَبِيَّهُ بِأَنْ يُلْزِمَهُمْ بِالدَّلَائِلِ الْإِقْنَاعِيَّةِ الَّتِي لَا يَقْدِرُونَ عَلَى مُكَابَرَتِهَا وَالْمِرَاءِ فِيهَا. وَالْحَقُّ أَنَّ هَذَا الْجَوَابَ حُجَّةٌ حَقِيقِيَّةٌ، وَقَدْ أَشَرْنَا إِلَى وَجْهِهَا الْوَجِيهِ أَوَّلَ الْكَلَامِ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ. وَقَدْ تَجَرَّأَ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ عَلَى مِثْلِ هَذَا الْكَلَامِ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي احْتَجَّ بِهَا الْقُرْآنُ حَتَّى فِي إِثْبَاتِ الْوَحْدَانِيَّةِ، وَالسَّبَبُ فِي ذَلِكَ افْتِتَانُهُمْ بِالطَّرِيقَةِ النَّظَرِيَّةِ الَّتِي أَخَذُوهَا عَنْ كُتُبِ الْيُونَانِ، وَلَقَدِ اهْتَدَى بِحُجَجِ الْقُرْآنِ الْأُلُوفُ وَأُلُوفُ الْأُلُوفِ، وَقَلَّمَا اهْتَدَى بِتِلْكَ الْأَدِلَّةِ النَّظَرِيَّةِ الْمَحْضَةِ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ، وَإِنَّمَا تُفِيدُ فِي وُقُوعِ شُبُهَاتِهِمُ الَّتِي يُورِدُونَهَا عَلَى الْعَقَائِدِ، وَلَا فَائِدَةَ فِيهَا سِوَى الْمِرَاءِ وَالْجَدَلِ، وَقَدْ مُحِيَتْ فِي عَصْرِنَا تِلْكَ الشُّبُهَاتُ، وَرَغِبَ النَّاسُ عَنْ هَاتِيكَ النَّظَرِيَّاتِ، وَقَامَ بِنَاءُ الْعِلْمِ عَلَى أُسُسِ الْوَقَائِعِ وَالْحَوَادِثِ وَالْمُجَرَّبَاتِ.
وَقَالَ (الْجَلَالُ) : إِنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي يَهُودِ الْمَدِينَةِ وَنَصَارَى نَجْرَانَ، فَهُمُ الْقَائِلُونَ مَا ذُكِرَ
وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الْآيَةَ فِي بَيَانِ طَبِيعَةِ أَهْلِ الْمِلَّتَيْنِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَقَوْلُ يَهُودِ الْمَدِينَةِ وَنَصَارَى نَجْرَانَ مَا ذُكِرَ - إِنْ صَحَّ - لَا يَقْتَضِي التَّخْصِيصَ، فَإِنَّهُمْ مَا قَالُوا إِلَّا مَا هُوَ لِسَانُ حَالِ مِلَّتِهِمْ. وَغَيْرُهُمْ يَقُولُ مِثْلَ قَوْلِهِمْ، أَوْ يُصَدِّقُ الْقَائِلِينَ بِاعْتِقَادِهِ وَسِيرَتِهِ.
أَمَرَ اللهُ النَّبِيَّ بِأَنْ يَدْعُوَ إِلَى اتِّبَاعِ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ، ثُمَّ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمِثْلِ ذَلِكَ فَقَالَ:(قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ) أَيْ لَا تَكُنْ دَعْوَتُكُمْ إِلَى شَيْءٍ خَاصٍّ بِكُمْ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ سَائِرِ أَهْلِ الْأَدْيَانِ السَّمَاوِيَّةِ، بَلِ انْظُرُوا إِلَى جِهَةِ الْجَمْعِ وَالِاتِّفَاقِ، وَادْعُوا إِلَى أَصْلِ الدِّينِ وَرُوحِهِ الَّذِي لَا خِلَافَ فِيهِ وَلَا نِزَاعَ، وَهُوَ التَّسْلِيمُ بِنُبُوَّةِ جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ، مَعَ
الْإِسْلَامِ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ، لَا نَعْبُدُ إِلَّا اللهَ، وَلَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِ اللهِ.
وَالْأَسْبَاطُ أَوْلَادُ يَعْقُوبَ، وَالْفِرَقُ أَوِ الشُّعُوبُ الْإِثْنَى عَشَرَ الْمُتَشَعِّبَةُ مِنْهُمْ. قَالَ - تَعَالَى -:(وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا)(7: 160) وَقَدْ وَرَدَ أَنَّ أَوْلَادَ يَعْقُوبَ كَانُوا أَنْبِيَاءَ وَلَمْ يَرِدْ أَنَّهُمْ كَانُوا مُرْسَلِينَ، فَإِنْ صَحَّ هَذَا كَمَا يُفْهَمُ مِنْ إِطْلَاقِ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ فِي الدَّرْسِ، فَالْمُرَادُ بِالْأَسْبَاطِ الْإِطْلَاقُ الْأَوَّلُ، وَإِلَّا كَانَ فِي الْكَلَامِ تَقْدِيرُ مُضَافٍ، أَيْ أَنْبِيَاءَ الْأَسْبَاطِ، كَأَنَّهُ قَالَ: وَسَائِرُ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَهُوَ الْمُخْتَارُ، وَلَمْ يَصِحَّ فِي نُبُوَّةِ غَيْرِ يُوسُفَ مِنْ أَبْنَاءِ يَعْقُوبَ شَيْءٌ.
(وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ) قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَهَاهُنَا نُكْتَةٌ دَقِيقَةٌ فِي اخْتِلَافِ التَّعْبِيرِ عَنِ الْوَحْيِ الَّذِي مَنَحَهُ اللهُ الْأَنْبِيَاءَ إِذْ عَبَّرَ بِأَنْزَلَ تَارَةً وَبِأُوتِيَ تَارَةً أُخْرَى، وَهِيَ أَنَّ التَّعْبِيرَ بِأَنْزَلَ ذُكِرَ هُنَا فِي جَانِبِ الْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ كُتُبٌ تُؤْثَرُ، وَلَا صُحُفٌ تُنْقَلُ، وَذَلِكَ أَنَّ إِنْزَالَ الْوَحْيِ عَلَى نَبِيٍّ لَا يَسْتَلْزِمُ إِعْطَاءَهُ كِتَابًا يُؤْثَرُ عَنْهُ، وَهَذَا ظَاهِرٌ إِذَا كَانَ النَّبِيُّ غَيْرَ مُرْسَلٍ فَإِنَّ الْوَحْيَ إِلَيْهِ يَكُونُ خَاصًّا بِهِ، وَيَكُونُ إِرْشَادُهُ لِلنَّاسِ أَنْ يَعْمَلُوا بِشَرْعِ رَسُولٍ آخَرَ إِنْ كَانَ بُعِثَ فِيهِمْ رَسُولٌ وَإِلَّا كَانَ قُدْوَةً فِي الْخَيْرِ وَمُعِدًّا لِلنُّفُوسِ لِبَعْثَةِ نَبِيٍّ مُرْسَلٍ، وَأَمَّا النَّبِيُّ الْمُرْسَلُ فَقَدْ يُؤْمَرُ بِالتَّبْلِيغِ الشِّفَاهِيِّ وَلَا يُعْطَى كِتَابًا بَاقِيًا، وَقَدْ يُكْتَبُ مَا يُوحَى إِلَيْهِ فِي عَصْرِهِ فَيَضِيعُ مِنْ بَعْدِهِ، فَهَؤُلَاءِ الرُّسُلُ الْكِرَامُ الَّذِينَ عَبَّرَ عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ:(وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ) لَا يُؤْثَرُ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ كِتَابٌ مُسْنَدٌ صَحِيحٌ وَلَا غَيْرُ صَحِيحٍ، وَأَنَّنَا نُؤْمِنُ بِأَنَّهُمْ كَانُوا أَنْبِيَاءَ، وَأَنَّ مَا نَزَلَ عَلَيْهِمْ هُوَ دِينُ اللهِ الْحَقُّ، وَأَنَّهُ مُوَافِقٌ فِي جَوْهَرِهِ وَأُصُولِهِ لِمَا أُنْزِلَ عَلَى مَنْ بَعْدَهُمْ. وَمَا ذَكَرَ اللهُ مِنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ بِالنَّصِّ هُوَ رُوحُ ذَلِكَ الْوَحْيِ كُلِّهِ، وَقَدْ جَاءَ فِي سُورَةِ النَّجْمِ وَسُورَةِ الْأَعْلَى ذِكْرُ صُحُفٍ لِإِبْرَاهِيمَ. وَقَالَ (الْجَلَالُ) هُنَا: إِنَّهَا عَشْرٌ، فَنُؤْمِنُ أَنَّهُ كَانَ لَهُ صُحُفٌ وَلَا نَزِيدُ عَلَى مَا وَرَدَ شَيْئًا، وَأَمَّا إِسْمَاعِيلُ وَإِسْحَاقُ وَيَعْقُوبُ وَالْأَسْبَاطُ فَلَمْ يَثْبُتْ أَنَّ لَهُمْ صُحُفًا وَلَا كُتُبًا، فَنُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ بِالْإِجْمَالِ وَنَعْتَقِدُ أَنَّهُ عَيْنُ
مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ، وَجَاءَ التَّعْبِيرُ عَنْ وَحْيِ الَّذِينَ كَانَ لَهُمْ كُتُبٌ تُؤْثَرُ بِقَوْلِهِ:(وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ) فَهُوَ يُشِيرُ بِالْإِيتَاءِ إِلَى أَنَّ مَا أُوحِيَ إِلَيْهِمْ
لَهُ وُجُودٌ يُمْكِنُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ وَالنَّظَرُ فِيهِ، فَإِنَّ أَقْوَامَهُمْ يَأْثُرُونَ عَنْهُمْ كُتُبًا.
وَأَقُولُ الْآنَ: إِنَّ الْمُرَادَ الْإِيْمَانُ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ - تَعَالَى - وَمَا أَعْطَاهُ لِأُولَئِكَ النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ إِجْمَالًا، وَأَنَّهُ كَانَ وَحْيًا مِنَ اللهِ فَلَا نُكَذِّبُ أَحَدًا مِنْهُمْ بِمَا ادَّعَاهُ وَدَعَا إِلَيْهِ فِي عَصْرِهِ، بِصَرْفِ النَّظَرِ عَمَّا طَرَأَ عَلَيْهِ مِنْ ضَيَاعِ بَعْضِهِ وَتَحْرِيفِ بَعْضٍ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَضُرُّنَا؛ لِأَنَّ الْإِيْمَانَ التَّفْصِيلِيَّ وَالْعَمَلَ مَقْصُورٌ عَلَى مَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا، فَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ ((أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ كَانُوا يَقْرَءُونَ التَّوْرَاةَ بِالْعِبْرَانِيَّةِ وَيُفَسِّرُونَهَا بِالْعَرَبِيَّةِ لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: ((لَا تُصَدِّقُوا أَهْلَ الْكِتَابِ وَلَا تُكَذِّبُوهُمْ وَقُولُوا (آمَنَّا بِاللهِ) الْآيَةَ))
وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ مَرْفُوعًا ((آمِنُوا بِالتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالزَّبُورِ وَلْيَسَعْكُمُ الْقُرْآنُ)) وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ شَيْخُنَا مِنْ نُكْتَةِ اخْتِلَافِ التَّعْبِيرِ فَيُشْكِلُ بِقَوْلِهِ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ: (وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا) أَيْ مَعْشَرِ الْمُسْلِمِينَ وَهُوَ الْقُرْآنُ وَقَوْلِهِ بَعْدُ: (وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ) وَلَمْ يُعْلَمْ أَنَّهُ كَانَ لِغَيْرِ دَاوُدَ مِنْهُمْ كِتَابٌ مُنَزَّلٌ، عَلَى أَنَّ عَدَمَ الْعِلْمِ بِكُتُبٍ أُنْزِلَتْ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ لَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ تِلْكَ الْكُتُبِ، وَلَعَلَّ نُكْتَةَ اخْتِلَافِ التَّعْبِيرِ أَنْ يَشْمَلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى تِلْكَ الْآيَاتِ الَّتِي أَيَّدَهُمَا بِهَا كَمَا قَالَ:(وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ)(17: 101) وَقَالَ: (وَآتَيْنَا عِيسَى بْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ)(2: 87) ثُمَّ قَالَ: (وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ) لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ خَاصًّا بِمُوسَى وَعِيسَى وَاللهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ بَعْدَ مَا ذَكَرَ الْفَرِيقَيْنِ: (لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ) أَيْ سَوَاءٌ مِنْهُمْ مَنْ لَهُ كِتَابٌ يُؤْثَرُ وَمَنْ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ، نُؤْمِنُ بِالْجَمِيعِ إِجْمَالًا وَنَأْخُذُ التَّفْصِيلَ عَنْ خَاتَمِهِمُ الَّذِي بَيَّنَ لَنَا أَصْلَ مِلَّتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا وَزَادَنَا مِنَ الْحِكَمِ وَالْأَحْكَامِ مَا يُنَاسِبُ هَذَا الزَّمَانَ وَمَا بَعْدَهُ مِنَ الْأَزْمَانِ، وَالْعُمْدَةُ فِي الدِّينِ عَلَى إِسْلَامِ الْقَلْبِ لِلَّهِ - تَعَالَى - (وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) : أَيْ مُذْعِنُونَ مُنْقَادُونَ كَمَا يَقْتَضِي الْإِيْمَانُ الصَّحِيحُ وَلَسْتُمْ كَذَلِكَ أَهْلَ الْكِتَابِ، وَإِنَّمَا أَنْتُمْ مُتَّبِعُونَ لِأَهْوَائِكُمْ وَتَقَالِيدِكُمْ لَا تَحُولُونَ عَنْهَا.
(فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا) قَالَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ: إِنَّ الْآيَةَ تَعْرِيضٌ بِأَهْلِ الْكِتَابِ وَتَبْكِيتٌ لَهُمْ. وَقَالَ (الْجَلَالُ) : إِنَّ لَفْظَ (مِثْلِ) زَائِدٌ وَاسْتَنْكَرَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ ذَلِكَ وَاسْتَكْبَرَهُ كَعَادَتِهِ، فَإِنَّهُ يُخَطِّئُ كُلَّ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ فِي الْقُرْآنِ كَلِمَةً
زَائِدَةً أَوْ حَرْفًا زَائِدًا.
وَقَالَ: إِنَّ لِمِثْلِ هُنَا مَعْنًى لَطِيفًا وَنُكْتَةً دَقِيقَةً، وَذَلِكَ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَبِمَا أُنْزِلَ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ وَلَكِنْ طَرَأَتْ عَلَى إِيْمَانِهِمْ بِاللهِ نَزَغَاتُ الْوَثَنِيَّةِ، وَأَضَاعُوا لُبَابَ مَا أُنْزِلَ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ وَهُوَ الْإِخْلَاصُ وَالتَّوْحِيدُ وَتَزْكِيَةُ النَّفْسِ وَالتَّأْلِيفُ بَيْنَ النَّاسِ، وَتَمَسَّكُوا بِالْقُشُورِ وَهِيَ رُسُومُ
الْعِبَادَاتِ الظَّاهِرَةِ، وَنَقَصُوا مِنْهَا وَزَادُوا عَلَيْهَا مَا يُبْعِدُ كُلًّا مِنْهُمْ عَنِ الْآخَرِ، وَيَزِيدُ فِي عَدَاوَتِهِ وَبَغْضَائِهِ لَهُ، فَفَسَقُوا عَنْ مَقْصِدِ الدِّينِ مِنْ حَيْثُ يَدَّعُونَ الْعَمَلَ بِالدِّينِ، فَلَمَّا بَيَّنَ اللهُ لَنَا حَقِيقَةَ دِينِ الْأَنْبِيَاءِ وَأَنَّهُ وَاحِدٌ لَا خِلَافَ فِيهِ وَلَا تَفْرِيقَ، وَأَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَدَّعُونَ اتِّبَاعَ الْأَنْبِيَاءِ قَدْ ضَلُّوا عَنْهُ فَوَقَعُوا فِي الْخِلَافِ وَالشِّقَاقِ، أَمَرَنَا سبحانه وتعالى أَنْ نَدْعُوَهُمْ إِلَى الْإِيْمَانِ الصَّحِيحِ بِاللهِ وَبِمَا أَنْزَلَ عَلَى النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ بِأَنْ يُؤْمِنُوا بِمِثْلِ مَا نُؤْمِنُ نَحْنُ بِهِ لَا بِمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنِ ادِّعَاءِ حُلُولِ اللهِ فِي بَعْضِ الْبَشَرِ، وَكَوْنِ رَسُولِهِمْ إِلَهًا أَوِ ابْنَ اللهِ، وَمِنَ التَّفَرُّقِ وَالشِّقَاقِ لِأَجْلِ الْخِلَافِ فِي بَعْضِ الرُّسُومِ وَالتَّقَالِيدِ، فَالَّذِي يُؤْمِنُونَ بِهِ فِي اللهِ لَيْسَ مِثْلَ الَّذِي نُؤْمِنُ بِهِ، فَنَحْنُ نُؤْمِنُ بِالتَّنْزِيهِ، وَهُمْ يُؤْمِنُونَ بِالتَّشْبِيهِ، وَعَلَى ذَلِكَ الْقِيَاسُ، فَلَوْ قَالَ: فَإِنْ آمَنُوا بِاللهِ وَبِمَا أُنْزِلَ عَلَى أُولَئِكَ النَّبِيِّينَ وَمَا أُوتُوهُ، فَقَدِ اهْتَدَوْا لَكَانَ لَهُمْ أَنْ يُجَادِلُونَا بِقَوْلِهِمْ: إِنَّنَا نَحْنُ الْمُؤْمِنُونَ بِذَلِكَ دُونَكُمْ، وَلَفْظُ (مِثْلِ) هُوَ الَّذِي يَقْطَعُ عِرْقَ الْجَدَلِ.
عَلَى أَنَّ الْمُسَاوَاةَ فِي الْإِيْمَانِ بَيْنَ شَخْصَيْنِ بِحَيْثُ يَكُونُ إِيْمَانُ أَحَدِهِمَا كَإِيْمَانِ الْآخَرِ فِي صِفَتِهِ وَقُوَّتِهِ وَانْطِبَاقِهِ عَلَى الْمُؤْمِنِ بِهِ، وَمَا يَكُونُ فِي نَفْسِ كُلٍّ مِنْهُمَا مِنْ مُتَعَلِّقِ الْإِيْمَانِ يَكَادُ يَكُونُ مُحَالًا، فَكَيْفَ يَتَسَاوَى إِيْمَانُ أُمَمٍ وَشُعُوبٍ كَثِيرَةٍ، مَعَ الْخِلَافِ الْعَظِيمِ فِي طُرُقِ التَّعْلِيمِ وَالتَّرْبِيَةِ وَالْفَهْمِ وَالْإِدْرَاكِ؟ وَلَوْ كَانَتِ الْقِرَاءَةُ: فَإِنْ آمَنُوا بِمَا آمَنْتُمْ بِهِ - كَمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الشَّوَاذِّ - لَكَانَ الْأَوْلَى أَنْ يُقَدِّرَ الْمِثْلَ، فَكَيْفَ نَقُولُ وَقَدْ وَرَدَ لَفْظُ مِثْلِ مُتَوَاتِرًا: إِنَّهُ زَائِدٌ؟ .
(وَإِنْ تَوَلَّوْا) أَيْ أَعْرَضُوا عَمَّا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ مِنَ الرُّجُوعِ إِلَى أَصْلِ دِينِ الْأَنْبِيَاءِ وَلُبَابِهِ بِإِيْمَانٍ كَإِيْمَانِكُمْ (فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ) أَيْ إِنَّ أَمْرَهُمْ مَحْصُورٌ فِي الْعَدَاوَةِ وَالْمُشَاقَّةِ، أَيِ الْإِيذَاءِ وَالْإِيقَاعِ فِي الْمَشَقَّةِ، أَوْ شَقِّ الْعَصَا بِتَحَرِّي الْخِلَافِ وَالتَّعَصُّبِ لِمَا يَفْصِلُهُمْ وَيُبَيِّنُهُمْ مِنْكُمْ (فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) أَيْ يَكْفِيكَ إِيذَاءَهُمْ وَمَكْرَهُمُ
السَّيِّئَ وَيُؤَيِّدُ دَعْوَتَكَ، وَيَنْصُرُ أُمَّتَكَ؛ فَهَذَا الْوَعْدُ بِالْكِفَايَةِ عَامٌّ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَإِنْ كَانَ الْخِطَابُ خَاصًّا، فَإِنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ وَغَيْرَهُمْ مَا شَاقُّوا النَّبِيَّ لِذَاتِهِ وَمَا كَانَ لَهُمْ حَظٌّ فِي مُقَاوَمَةِ شَخْصِهِ، فَالْإِيذَاءُ كَانَ مُتَوَجِّهًا إِلَيْهِ مِنْ حَيْثُ هُوَ نَبِيٌّ يَدْعُو إِلَى دِينٍ غَيْرِ مَا كَانُوا عَلَيْهِ، وَقَدْ أَنْجَزَ اللهُ وَعْدَهُ لِلنَّبِيِّ وَالْمُؤْمِنِينَ عِنْدَمَا كَانُوا عَلَى ذَلِكَ الْإِيْمَانِ وَكَانَ النَّاسُ يُقَاوِمُونَهُمْ لِأَجْلِهِ، فَلَمَّا انْحَرَفُوا مِنْ بَعْدِهِمْ عَنْهُ خَرَجُوا عَنِ الْوَعْدِ، وَلَوْ عَادَ لَعَادَ اللهُ عَلَيْهِمْ بِالْكِفَايَةِ وَالنَّصْرِ (وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) (22: 40) .
(صِبْغَةَ اللهِ) أَيْ صُبِغْنَا بِمَا ذَكَرَ مِنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ صِبْغَةَ اللهِ وَفِطْرَتَهُ فُطِرْنَا عَلَيْهَا، وَهِيَ مَا صَبَغَ اللهُ بِهِ أَنْبِيَاءَهُ وَرُسُلَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ مِنْ عِبَادِهِ عَلَى سُنَّةِ الْفِطْرَةِ، فَلَا دَخْلَ فِيهَا لِلتَّقَالِيدِ الْوَضْعِيَّةِ وَلَا لِآرَاءِ الرُّؤَسَاءِ وَأَهْوَاءِ الزُّعَمَاءِ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنَ اللهِ - تَعَالَى - بِلَا وَاسِطَةِ مُتَوَسِّطٍ وَلَا صُنْعِ صَانِعٍ، وَالصِّبْغَةُ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ صِيغَةٌ لِلْهَيْئَةِ مِنْ صَبَغَ الثَّوْبَ إِذَا لَوَّنَهُ بِلَوْنٍ خَاصٍّ (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً) أَيْ لَا أَحْسَنَ مِنْ صِبْغَتِهِ فَهِيَ جِمَاعُ الْخَيْرِ الَّذِي يُؤَلِّفُ بَيْنَ الشُّعُوبِ وَالْقَبَائِلِ، وَيُزَكِّي
النُّفُوسَ وَيُطَهِّرُ الْعُقُولَ وَالْقُلُوبَ. وَأَمَّا مَا أَضَافَهُ أَهْلُ الْكِتَابِ إِلَى الدِّينِ مِنْ آرَاءِ أَحْبَارِهِمْ وَرُهْبَانِهِمْ فَهُوَ مِنَ الصَّنْعَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ، وَالصِّبْغَةِ الْبَشَرِيَّةِ قَدْ جَعَلَ الدِّينَ الْوَاحِدَ مَذَاهِبَ مُتَفَرِّقَةً مُفَرِّقَةً، وَالْأُمَّةَ الْوَاحِدَةَ شِيَعًا مُتَنَافِرَةً مُتَمَزِّقَةً (وَنَحْنُ لَهُ) وَحْدَهُ (عَابِدُونَ) فَلَا نَتَّخِذُ أَحْبَارَنَا وَعُلَمَاءَنَا أَرْبَابًا يَزِيدُونَ فِي دِينِنَا وَيَنْقُصُونَ، وَيُحِلُّونَ لَنَا بِآرَائِهِمْ وَيُحَرِّمُونَ، وَيَمْحُونَ مِنْ نُفُوسِنَا صِبْغَةَ اللهِ الْمُوجِبَةَ لِلتَّوْحِيدِ، وَيُثْبِتُونَ مَكَانَهَا صِبْغَةَ الْبَشَرِ الْقَاضِيَةَ بِالشِّرْكِ وَالتَّنْدِيدِ.
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَالْآيَةُ تُشِيرُ إِلَى أَنَّهُ لَا حَاجَةَ فِي الْإِسْلَامِ إِلَى تَمْيِيزِ الْمُسْلِمِ مِنْ غَيْرِهِ بِأَعْمَالٍ صِنَاعِيَّةٍ كَالْمَعْمُودِيَّةِ عِنْدَ النَّصَارَى مَثَلًا، وَإِنَّمَا الْمَدَارُ فِيهِ عَلَى مَا صَبَغَ اللهُ بِهِ الْفِطْرَةَ السَّلِيمَةَ مِنَ الْإِخْلَاصِ وَحُبِّ الْخَيْرِ وَالِاعْتِدَالِ، وَالْقَصْدِ فِي الْأُمُورِ (فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) (30: 30) :
(قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا
وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللهِ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ)
هَذَا ضَرْبٌ آخَرُ مِنْ مُحَاجَّةِ أَهْلِ الْكِتَابِ جَارٍ عَلَى نَسَقِ سَابِقِهِ مُؤْتَلِفٌ مَعَهُ مُتَّصِلٌ بِهِ غَيْرُ مُنْقَطِعٍ وَلَا نَازِلٍ فِي وَاقِعَةٍ خَاصَّةٍ لِلرَّدِّ عَلَى كَلِمَاتٍ قَالَهَا الْيَهُودُ كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ (الْجَلَالُ) وَغَيْرُهُ إِذْ قَالُوا: إِنَّ الْيَهُودَ قَالُوا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ جَمِيعُ النَّاسِ تَابِعِينَ لَنَا فِي الدِّينِ؛ لِأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ مِنَّا وَالشَّرِيعَةَ نَزَلَتْ عَلَيْنَا، وَلَمْ يُعْهَدْ فِي الْعَرَبِ أَنْبِيَاءُ وَلَا شَرَائِعُ، نَعَمْ لَا نُنْكِرُ صُدُورَ هَذَا الْقَوْلِ مِنَ الْيَهُودِ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ مِثْلَهُ دَائِمًا، وَإِنَّمَا نَقُولُ: إِنَّ الْآيَاتِ مُتَنَاسِقَةٌ مَعَ مَا قَبْلَهَا مُتَمِّمَةٌ لَهُ، مُزِيلَةٌ لِشُبُهَاتٍ كَانَتْ فَاشِيَةً فِي الْقَوْمِ فِي كُلِّ مَكَانٍ، لَا خَاصَّةً بِرَدِّ قَوْلٍ لِأَحَدِ يَهُودِ الْحِجَازِ.
الْآيَاتُ السَّابِقَةُ بَيَّنَتْ أَنَّ الْمِلَّةَ الصَّحِيحَةَ هِيَ مِلَّةُ إِبْرَاهِيمَ، وَهِيَ لَمْ تَكُنْ يَهُودِيَّةً وَلَا نَصْرَانِيَّةً، وَإِنَّمَا هِيَ صِبْغَةُ اللهِ الَّتِي لَا صُنْعَ لِأَحَدٍ فِيهَا، بَلْ هِيَ بَرِيئَةٌ مِنِ اصْطِلَاحَاتِ النَّاسِ وَتَقَالِيدِ الرُّؤَسَاءِ فَهِيَ الْجَدِيرَةُ بِالِاتِّبَاعِ، وَلَكِنَّ التَّقَالِيدَ وَالْأَوْضَاعَ قَدْ طَمَسَتْهَا بَعْدَمَا جَرَى الْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهَا.
وَحَلَّتْ تِلْكَ التَّقَالِيدُ مَحِلَّهَا حَتَّى ذَابَتْ هِيَ فِيهَا، وَخَفِيَتْ فَلَمْ تَعُدْ تُعْرَفُ، وَلِذَلِكَ جَاءَ مُحَمَّدٌ
-
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِبَيَانِهَا، وَدَعْوَةِ النَّاسِ إِلَى الرُّجُوعِ إِلَيْهَا، فَيُبَيِّنُ - تَعَالَى - بِتِلْكَ الْمُحَاجَّةِ الْحَقَّ الَّذِي يَجِبُ التَّعْوِيلُ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَخَذَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ يُزِيلُ الْمَوَانِعَ وَيُبْطِلُ الشُّبُهَاتِ الْمُعْتَرِضَةَ فِي طَرِيقِ ذَلِكَ الْحَقِّ، فَأَمَرَ نَبِيَّهُ بِمَا تَرَى مِنَ الْحُجَّةِ فِي قَوْلِهِ:(قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللهِ) بِدَعْوَاكُمُ الِاخْتِصَاصَ بِالْقُرْبِ مِنْهُ، وَزَعْمِكُمْ أَنَّكُمْ أَبْنَاءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ، وَأَنَّهُ لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى، وَمِنْ أَيْنَ جَاءَكُمْ هَذَا الْقُرْبُ وَالِاخْتِصَاصُ بِاللهِ دُونَنَا (وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ) وَرَبُّ الْعَالَمِينَ، فَنِسْبَةُ
الْجَمِيعِ إِلَيْهِ وَاحِدَةٌ: هُوَ الْخَالِقُ وَهُمُ الْمَخْلُوقُونَ، وَهُوَ الرَّبُّ وهُمُ الْمَرْبُوبُونَ، وَإِنَّمَا يَتَفَاضَلُونَ بِالْأَعْمَالِ الْبَدَنِيَّةِ وَالنَّفْسِيَّةِ (وَلَنَا أَعْمَالُنَا) الَّتِي تَخْتَصُّ آثَارُهَا بِنَا إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ، وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ (وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ) كَذَلِكَ، وَرُوحُ الْأَعْمَالِ كُلِّهَا الْإِخْلَاصُ، فَهُوَ وَحْدَهُ الَّذِي يَجْعَلُهَا مُقَرِّبَةً لِصَاحِبِهَا مِنَ اللهِ وَوَسِيلَةً لِمَرْضَاتِهِ (وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ) مِنْ دُونِكُمْ، فَإِنَّكُمُ اتَّكَلْتُمْ عَلَى أَنْسَابِكُمْ وَأَحْسَابِكُمْ، وَاغْتَرَرْتُمْ بِمَا كَانَ مِنْ صَلَاحِ آبَائِكُمْ وَأَجْدَادِكُمْ، وَاتَّخَذْتُمْ لَكُمْ وُسَطَاءَ وَشُفَعَاءَ مِنْهُمْ تَعْتَمِدُونَ عَلَى جَاهِهِمْ، مَعَ انْحِرَافِكُمْ عَنْ صِرَاطِهِمْ، وَمَا هُوَ إِلَّا التَّقَرُّبُ إِلَى اللهِ - تَعَالَى - بِإِحْسَانِ الْأَعْمَالِ، مَعَ الْإِخْلَاصِ الْمَبْنِيِّ عَلَى صِدْقِ الْإِيْمَانِ، وَهُوَ مَا نَدْعُوكُمْ إِلَيْهِ الْآنَ، فَكَيْفَ تَزْعُمُونَ أَنَّ الْإِدْلَاءَ إِلَى ذَلِكَ السَّلَفِ الصَّالِحِ بِالنَّسَبِ، وَالتَّوَسُّلَ إِلَيْهِمْ بِالْقَوْلِ هُوَ الَّذِي يَنْفَعُ عِنْدَ اللهِ - تَعَالَى - وَأَنَّ الِاسْتِقَامَةَ عَلَى صِرَاطِهِمُ الْمُسْتَقِيمِ وَالتَّوَسُّلَ إِلَى اللهِ - تَعَالَى - بِمَا كَانُوا يَتَوَسَّلُونَ إِلَيْهِ بِهِ مِنْ صَالِحِ الْأَعْمَالِ وَالْإِخْلَاصِ فِي الْقَلْبِ لَا يَنْفَعُ وَلَا يُفِيدُ، وَمَا كَانَ سَلَفُكُمْ مَرْضِيًّا عِنْدَ اللهِ - تَعَالَى - إِلَّا بِهِ؟ هَلْ كَانَ إِبْرَاهِيمُ مُقَرَّبًا مِنَ اللهِ - تَعَالَى - بِأَبِيهِ (آزَرَ) الْمُشْرِكِ، أَمْ كَانَ قُرْبُهُ وَفَضْلُهُ بِإِخْلَاصِهِ وَإِسْلَامِ قَلْبِهِ إِلَى رَبِّهِ؟ فَكَمَا جَعَلَ اللهُ النُّبُوَّةَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَجَعَلَهُ إِمَامًا لِلنَّاسِ فِي الْإِسْلَامِ وَالْإِخْلَاصِ جَعَلَهَا كَذَلِكَ فِي مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم فَإِذَا صَحَّ لَكُمْ إِنْكَارُ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي سَلَفِهِ الْعَرَبِ أَنْبِيَاءُ فَأَنْكِرُوا نُبُوَّةَ إِبْرَاهِيمَ، فَإِنَّ الْعِلَّةَ وَاحِدَةٌ، فَكَيْفَ لَا يَتَّحِدُ الْمَعْلُولُ؟
وَحَاصِلُ مَعْنَى الْآيَةِ: إِبْطَالُ مَعْنَى شُبْهَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ أَنَّهُمْ أَبْنَاءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ، وَأَنَّهُ لَا يَنْجُو مَنْ كَانَ عَلَى غَيْرِ طَرِيقَتِهِمْ، وَإِنْ أَحْسَنَ فِي عَمَلِهِ وَأَخْلَصَ فِي قَصْدِهِ، وَأَنَّهُمْ هُمُ النَّاجُونَ الْفَائِزُونَ وَإِنْ أَسَاءُوا عَمَلًا وَنِيَّةً؛ لِأَنَّ أَنْبِيَاءَهُمْ هُمُ الَّذِينَ يُنْجُونَهُمْ وَيُخَلِّصُونَهُمْ بِجَاهِهِمْ، فَالْفَوْزُ عِنْدَهُمْ بِعَمَلِ سَلَفِهِمْ لَا بِصَلَاحِ أَنْفُسِهِمْ وَلَا أَعْمَالِهِمْ، وَهَذَا الِاعْتِقَادُ هَدْمٌ لِدِينِ اللهِ الَّذِي بَعَثَ بِهِ جَمِيعَ أَنْبِيَائِهِ وَدَرَجَ عَلَيْهِ مَنِ اتَّبَعَ سَبِيلَهُمْ، فَإِنَّ رُوحَ الدِّينِ الْإِلَهِيِّ وَمِلَاكَهُ هُوَ التَّوْحِيدُ وَالْإِخْلَاصُ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْإِسْلَامِ، وَكُلُّ عَمَلٍ أَمَرَ بِهِ الدِّينُ فَإِنَّمَا الْغَرَضُ مِنْهُ إِصْلَاحُ الْقَلْبِ وَالْعَقْلِ بِسَلَامَةِ الِاعْتِقَادِ وَحُسْنِ الْقَصْدِ، فَإِذَا زَالَ هَذَا الْمَعْنَى وَحُفِظَتْ جَمِيعُ الْأَعْمَالِ الصُّورِيَّةِ فَإِنَّهَا لَا تُفِيدُ شَيْئًا، بَلْ إِنَّهَا تَضُرُّ بِدُونِهِ، لِأَنَّهَا تَشْغَلُ الْإِنْسَانَ بِمَا لَا يُفِيدُ، وَتَصُدُّهُ عَنِ الْمُفِيدِ
وَلَا شَكَّ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ كَانُوا قَدْ أَزْهَقُوا هَذَا الرُّوحَ الْإِلَهِيَّ مِنْ دِينِهِمْ، فَسَوَاءً كَانَ مَا حَفِظُوهُ مِنَ التَّقَالِيدِ وَالْأَعْمَالِ مَأْثُورًا عَنْ أَنْبِيَائِهِمْ أَمْ غَيْرَ مَأْثُورٍ، إِنَّهُمْ لَيْسُوا عَلَى دِينِ اللهِ، وَمَنْ كَانَ عَلَى بَصِيرَةٍ مِنْهُمْ عَرَفَ أَنَّ مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم هُوَ إِحْيَاءٌ لِرُوحِ الدِّينِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ جَمِيعُ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ، وَتَكْمِيلٌ لِشَرَائِعِهِ وَآدَابِهِ بِمَا يَصْلُحُ لِجَمِيعِ الْبَشَرِ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ.
ثُمَّ إِنَّ مَنْ تَأَمَّلَ هَذَا وَتَأَمَّلَ حَالَ الْمُسْلِمِينَ يَظْهَرُ لَهُ أَنَّهُمْ قَدِ اتَّبَعُوا سَنَنَ مَنْ قَبْلَهُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ، وَسَيَرْجِعُ مَنْ يُرِيدُ اللهُ بِهِمُ الْخَيْرَ إِلَى دِينِ اللهِ - تَعَالَى - بِالرُّجُوعِ إِلَى كِتَابِهِ الَّذِي حَرَّمَ عَلَيْهِمْ تَقْلِيدَ آرَاءِ النَّاسِ فَجَاوَزُوهُ بِأَنْ حَرَّمُوا الْعَمَلَ بِهِ، كَمَا رَجَعَ الْأُلُوفُ وَأُلُوفُ الْأُلُوفِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَى ذَلِكَ فِي الْقُرُونِ الْأُولَى مِنْ ظُهُورِ الْإِسْلَامِ، وَسَيَرْجِعُ غَيْرُهُمْ مِنْ سَائِرِ الْبَشَرِ إِلَيْهِ فَيَعُمُّ الْعَالَمِينَ (وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ) (38: 88)
(أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى) ؟
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّ (أَمْ) هُنَا مُعَادِلَةٌ لِمَا قَبْلَهَا خِلَافًا (لِلْجَلَالِ) وَمَنْ عَلَى رَأْيِهِ الْقَائِلِينَ: إِنَّهَا بِمَعْنَى بَلْ، كَأَنَّهُ قَالَ: أَتَقُولُونَ: إِنَّ هَذَا الِامْتِيَازَ لَكُمْ عَلَيْنَا وَالِاخْتِصَاصَ بِالْقُرْبِ مِنَ اللهِ دُونَنَا هُوَ مِنَ اللهِ، وَالْحَالُ أَنَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ. . . إِلَخْ؟ أَمْ تَقُولُونَ: إِنَّ امْتِيَازَ الْيَهُودِيَّةِ أَوِ النَّصْرَانِيَّةِ الَّتِي أَنْتُمْ عَلَيْهَا بِأَنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا عَلَيْهَا؟ إِنْ كُنْتُمْ تَقُولُونَ هَذَا فَإِنَّ اللهَ يُكَذِّبُكُمْ فِيهِ، وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَيْضًا أَنَّ اسْمَيِ الْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ حَدَثَا بَعْدَ هَؤُلَاءِ، بَلْ حَدَثَ اسْمُ الْيَهُودِيَّةِ بَعْدَ مُوسَى، وَاسْمُ النَّصْرَانِيَّةِ بَعْدَ عِيسَى، كَمَا حَدَثَ لِلْيَهُودِ تَقَالِيدُ كَثِيرَةٌ صَارَ مَجْمُوعُهَا مُمَيِّزًا لَهُمْ. وَأَمَّا النَّصَارَى فَجَمِيعُ تَقَالِيدِهِمُ الْخَاصَّةِ بِهِمُ الْمُمَيِّزَةِ لِلنَّصْرَانِيَّةِ حَادِثَةٌ، فَإِنَّ عِيسَى عليه السلام كَانَ عَدُوَّ التَّقَالِيدِ، وَلِهَذَا كَانَ النَّصَارَى عَلَى كَثْرَةِ مَا أَحْدَثُوا أَقْرَبَ إِلَى الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَنْسُوا جَمِيعًا كَيْفَ زَلْزَلَ (رُوحُ اللهِ) تَقَالِيدَ الْيَهُودِ الظَّاهِرَةِ مَا كَانَ مِنْهَا فِي التَّوْرَاةِ وَمَا لَمْ يَكُنْ، وَلَكِنَّ الَّذِينَ ادَّعَوُا اتِّبَاعَهُ زَادُوا عَلَيْهِمْ مِنْ بَعْدِهِ فِي ابْتِدَاعِ التَّقَالِيدِ وَالرُّسُومِ.
وَزَعَمَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي الرَّدِّ عَلَى الْيَهُودِ، إِذْ كَانُوا يَقُولُونَ: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ يَهُودِيًّا، وَعَلَى النَّصَارَى إِذْ كَانُوا يَقُولُونَ: إِنَّهُ كَانَ نَصْرَانِيًّا، قَالَ
الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ. كَلَّا إِنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي إِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ عَلَى الْحَقِّ وَأَنَّ مِلَّتَهُ هِيَ الْمِلَّةُ الْإِلَهِيَّةُ الْمَرْضِيَّةُ عِنْدَ اللهِ - تَعَالَى - وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ وَكَانَتْ هَذِهِ التَّقَالِيدُ الَّتِي تَقَلَّدُوهَا غَيْرَ مَعْرُوفَةٍ عَلَى عَهْدِ إِبْرَاهِيمَ فَمَا بَالُهُمْ صَارُوا يَنُوطُونَ النَّجَاةَ بِهَا، وَيَزْعُمُونَ أَنَّ مَا عَدَاهَا كُفْرٌ وَضَلَالٌ؟ فَهُوَ لَا يُثْبِتُ لَهُمُ الْقَوْلَ بِأَنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا، وَإِنَّمَا يَقُولُ: إِنَّهُمْ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى الْقَوْلِ بِذَلِكَ لِأَنَّ الْبَدَاهَةَ قَاضِيَةٌ بِكَذِبِهِمْ فِيهِ، وَلِذَلِكَ قَالَ
لِنَبِيِّهِ (قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللهُ) أَيْ إِذَا كَانَ اللهُ قَدِ ارْتَضَى لِلنَّاسِ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ بِاعْتِرَافِكُمْ وَتَصْدِيقِ كُتُبِكُمْ، وَذَلِكَ قَبْلَ وُجُودِ الْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ، فَلِمَاذَا لَا تَرْضُونَ أَنْتُمْ تِلْكَ الْمِلَّةَ لِأَنْفُسِكُمْ؟ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ بِالْمَرْضِيِّ عِنْدَ اللهِ أَمِ اللهُ أَعْلَمُ بِمَا يُرْضِيهِ وَمَا لَا يُرْضِيهِ؟ لَا شَكَّ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ.
وَقَدْ صَرَّحَ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ بِأَنَّ قِرَاءَةَ (أَمْ يَقُولُونَ) بِالتَّحْتِيَّةِ شَاذَّةٌ، وَعَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهَا سَبْعِيَّةٌ يَكُونُ فِي الْكَلَامِ الْتِفَاتٌ. (وَأَقُولُ) : قِرَاءَةُ التَّاءِ هِيَ لِابْنِ عَامِرٍ وَحَمْزَةَ وَالْكِسَائِيِّ وَحَفْصٍ، وَهِيَ لِلْخِطَابِ، وَقِرَاءَةُ الْيَاءِ لِلْبَاقِينَ، فَلَا عِبْرَةَ بِعَدِّ ابْنِ جَرِيرٍ إِيَّاهَا شَاذَّةً.
(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللهِ) ؟ فِي هَذَا الِاسْتِفْهَامِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مُتَمِّمٌ لِمَا قَبْلَهُ مِنْ إِقَامَةِ الْحُجَّةِ بِمِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ، يَقُولُ: إِنَّ عِنْدَكُمْ شَهَادَةً مِنَ اللهِ بِأَنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ عَلَى حَقٍّ، وَكَانَ مَرْضِيًّا عِنْدَ اللهِ - تَعَالَى - فَإِذَا كَتَمْتُمْ ذَلِكَ لِأَجْلِ الطَّعْنِ بِالْإِسْلَامِ، فَقَدْ كَتَمْتُمْ شَهَادَةَ اللهِ، وَكُنْتُمْ أَظْلَمَ الظَّالِمِينَ، وَإِذَا اعْتَرَفْتُمْ بِهِ فَإِمَّا أَنْ تَقُولُوا: إِنَّكُمْ أَنْتُمْ أَعْلَمُ مِنَ اللهِ بِمَا يُرْضِيهِ، وَإِمَّا أَنْ تَقُومَ عَلَيْكُمُ الْحُجَّةُ وَتَحِقَّ عَلَيْكُمُ الْكَلِمَةُ إِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا بِمَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ مِنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ، وَأَحَدُ الْأَمْرَيْنِ ثَابِتٌ، لَا يَقْبَلُ مُرَاوَغَةَ مُبَاهِتٍ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي - وَهُوَ أَظْهَرُ - أَنَّ الشَّهَادَةَ الْمَكْتُومَةَ هِيَ شَهَادَةُ الْكِتَابِ الْمُبَشِّرَةِ بِأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ فِيهِمْ نَبِيًّا مِنْ بَنِي إِخْوَتِهِمْ، وَهُمُ الْعَرَبُ أَبْنَاءُ إِسْمَاعِيلَ، وَكَانُوا - وَلَا يَزَالُونَ - يَكْتُمُونَهَا بِالْإِنْكَارِ عَلَى غَيْرِ الْمُطَّلِعِ عَلَى التَّوْرَاةِ وَبِالتَّحْرِيفِ عَلَى الْمُطَّلِعِ، فَهُوَ يُبَيِّنُ هُنَا - بَعْدَ إِقَامَةِ الْحُجَّةِ بِإِبْرَاهِيمَ عَلَى أَنَّ زَعْمَهُمْ حَصْرَ الْوَحْيِ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ بَاطِلٌ - أَنَّ هُنَاكَ شَهَادَةً صَرِيحَةً بِأَنَّ اللهَ سَيَبْعَثُ فِيهِمْ نَبِيًّا مِنَ الْعَرَبِ، فَكَانَ هَذَا دَلِيلًا ثَالِثًا وَرَاءَ الدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ الْمُشَارِ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ:(وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ) وَالدَّلِيلِ الْإِلْزَامِيِّ الْمُشَارِ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ: (أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ) . . . إِلَخْ، فَكَأَنَّهُ يَقُولُ:
إِنْ هَؤُلَاءِ إِلَّا مُجَادِلُونَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ، مُبَاهِتُونَ لِلنَّبِيِّ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ نَبِيٌّ، إِذْ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَشْتَبِهُوا فِي أَمْرِهِ بَعْدَ شَهَادَةِ كِتَابِهِمْ لَهُ؛ فَإِذَا كَانَ ظُلْمُهُمْ أَنْفُسَهُمْ قَدِ انْتَهَى بِهِمْ إِلَى آخِرِ حُدُودِ الظُّلْمِ - وَهُوَ كِتْمَانُ شَهَادَةِ اللهِ - تَعَالَى - تَعَصُّبًا لِجِنْسِيَّتِهِمُ الدِّينِيَّةِ، الَّتِي ارْتَبَطَ بِهَا الرُّؤَسَاءُ بِالْمَرْءُوسِينَ بِرَوَابِطِ الْمَنَافِعِ الدُّنْيَوِيَّةِ مِنْ مَالٍ وَجَاهٍ - فَكَيْفَ يُنْتَظَرُ مِنْهُمْ أَنْ يُصْغُوا إِلَى بَيَانٍ، أَوْ يَخْضَعُوا لِبُرْهَانٍ؟ وَالِاسْتِفْهَامُ هُنَا يَتَضَمَّنُ التَّوْبِيخَ وَالتَّقْرِيعَ الْمُؤَكَّدَيْنِ بِالْوَعِيدِ فِي قَوْلِهِ:(وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) ، وَإِنَّمَا الْجَزَاءُ عَلَى الْأَعْمَالِ، ثُمَّ خَتَمَ الْمُحَاجَّةَ بِتَأْكِيدِ أَمْرِ الْعَمَلِ، وَعَدَمِ فَائِدَةِ النَّسَبِ فَقَالَ:
(تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْئَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ) وَإِنَّمَا تُسْئَلُونَ عَنْ أَعْمَالِكُمْ وَتُجَازَوْنَ عَلَيْهَا، فَلَا يَنْفَعُكُمْ وَلَا يَضُرُّكُمْ سِوَاهَا، وَهَذِهِ قَاعِدَةٌ يُثْبِتُهَا كُلُّ دِينٍ قَوِيمٍ، وَكُلُّ عَقْلٍ سَلِيمٍ، وَلَكِنَّ قَاعِدَةَ الْوَثَنِيَّةِ الْقَاضِيَةَ بِاعْتِمَادِ النَّاسِ فِي طَلَبِ سَعَادَةِ الْآخِرَةِ، وَبَعْضِ مَصَالِحِ الدُّنْيَا عَلَى كَرَامَاتِ الصَّالِحِينَ تَغْلِبُ مَعَ الْجَهْلِ كُلَّ دِينٍ وَكُلَّ عَقْلٍ،
وَمَنَعَ الْجَهْلُ التَّقْلِيدَ الْمَانِعَ مِنَ النَّظَرِ فِي الْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ وَالدِّينِيَّةِ جَمِيعًا، اللهُمَّ إِلَّا مُكَابَرَةَ الْحِسِّ وَالْعَقْلِ، وَتَأْوِيلَ نُصُوصِ الشَّرْعِ، تَطْبِيقًا لَهُمَا عَلَى مَا يَقُولُ الْمُقَلَّدُونَ الْمُتَّبَعُونَ (بِفَتْحِ اللَّامِ وَالْبَاءِ) وَقَدْ أَوَّلَ الْمُؤَوِّلُونَ نُصُوصَ أَدْيَانِهِمْ تَقْرِيرًا لِاتِّبَاعِ رُؤَسَائِهِمْ وَالِاعْتِمَادِ عَلَى جَاهِهِمْ فِي الْآخِرَةِ؛ لِذَلِكَ جَاءَ الْقُرْآنُ يُبَالِغُ فِي تَقْرِيرِ قَاعِدَةِ ارْتِبَاطِ السَّعَادَةِ بِالْعَمَلِ وَالْكَسْبِ وَتَبْيِينِهَا، وَنَفْيِ الِانْتِفَاعِ بِالْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ لِمَنْ لَمْ يَتَأَسَّ بِهِمْ فِي الْعَمَلِ الصَّالِحِ؛ وَلِذَلِكَ أَعَادَ هَذِهِ الْآيَةَ بِنَصِّهَا فِي مَقَامِ مُحَاجَّةِ أَهْلِ الْكِتَابِ الْمُفْتَخِرِينَ بِسَلَفِهِمْ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ الْعِظَامِ، الْمُعْتَمِدِينَ عَلَى شَفَاعَتِهِمْ وَجَاهِهِمْ وَإِنْ قَصَّرُوا عَنْ غَيْرِهِمْ فِي الْأَعْمَالِ. وَفَائِدَةُ الْإِعَادَةِ تَأْكِيدُ تَقْرِيرِ قَاعِدَةِ بِنَاءِ السَّعَادَةِ عَلَى الْعَمَلِ دُونَ الْآبَاءِ وَالشُّفَعَاءِ، بِحَيْثُ لَا يَطْمَعُ فِي تَأْوِيلِ الْقَوْلِ طَامِعٌ، وَالْإِشْعَارُ بِمَعْنًى يُعْطِيهِ السِّيَاقُ هُنَا وَهُوَ: أَنَّ أَعْمَالَ هَؤُلَاءِ الْمُجَادِلِينَ الْمُشَاغِبِينَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مُخَالِفَةٌ لِأَعْمَالِ سَلَفِهِمْ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، فَهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ عَلَى غَيْرِ دِينِهِمْ.
وَقَدْ سَبَقَ الْقَوْلُ بِأَنَّ الْآيَةَ أَفَادَتْ فِي وَضْعِهَا الْأَوَّلِ: أَنَّ إِبْرَاهِيمَ وَبَنِيهِ وَحَفَدَتَهُ، قَدْ مَضَوْا إِلَى رَبِّهِمْ بِسَلَامَةِ قُلُوبِهِمْ وَإِخْلَاصِهِمْ فِي أَعْمَالِهِمْ، وَانْقَطَعَتِ النِّسْبَةُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَنْ جَاءَ بَعْدَهُمْ فَتَنَكَّبَ طَرِيقَهُمْ، وَانْحَرَفَ عَنْ صِرَاطِهِمْ، وَإِنْ أَدْلَى إِلَيْهِمْ بِالنَّسَبِ،
فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ مَجْزِيٌّ بِعَمَلِهِ، لَا يَنْفَعُ أَحَدًا مِنْهُمْ عَمَلُ غَيْرِهِ مِنْ حَيْثُ هُوَ عَمَلُ ذَلِكَ الْغَيْرِ وَلَا شَخْصُهُ بِالْأَوْلَى، وَذَلِكَ أَنَّهَا جَاءَتْ عَقِبَ بَيَانِ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِيصَاءِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا بِهَا، وَبَيَانِ دُرُوجِهِمْ عَلَيْهَا، ثُمَّ جَاءَ بَعْدَ ذَلِكَ الِاحْتِجَاجُ عَلَى الْقَوْمِ بِمَنْ يَعْتَقِدُونَ فِيهِمُ الْخَيْرَ وَالْكَمَالَ، وَكَوْنُهُمْ لَمْ يَكُونُوا عَلَى هَذِهِ الْيَهُودِيَّةِ وَلَا هَذِهِ النَّصْرَانِيَّةِ اللَّتَيْنِ حَدَثَتَا بَعْدَهُمْ، فَجَاءَتْ قَاعِدَةُ الْأَعْمَالِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ تُبَيِّنُ أَنَّ الْمُتَخَالِفِينَ فِي الْأَعْمَالِ وَالْمَقَاصِدِ لَا يَكُونُونَ مُتَّحِدِينَ فِي الدِّينِ وَلَا مُتَسَاوِينَ فِي الْجَزَاءِ، فَأَفَادَتْ هُنَا مَا لَمْ تُفِدْهُ هُنَاكَ. وَلِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يُحَاسِبُوا أَنْفُسَهُمْ، وَيُحَكِّمُوا قَاعِدَةَ الْعَمَلِ وَالْجَزَاءِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ سَلَفِهِمْ، وَلَا يَغْتَرُّوا بِالتَّسْمِيَةِ إِنْ كَانُوا يَعْقِلُونَ.
وَأَزِيدُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ أَنَّ انْتِفَاعَ النَّاسِ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ فِي الدُّنْيَا إِنَّمَا يَكُونُ بِمُقْتَضَى سُنَنِ اللهِ - تَعَالَى - فِي الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبِّبَاتِ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ شَرْعًا وَعَقْلًا: أَنَّ الْمَيِّتَ يَنْقَطِعُ عَمَلُهُ بِخُرُوجِهِ مِنْ عَالَمِ الْأَسْبَابِ إِلَى الْبَرْزَخِ مِنْ عَالَمِ الْغَيْبِ، وَأَمَّا الْآخِرَةُ فَلَا كَسْبَ فِيهَا، وَأَمْرُهَا إِلَى اللهِ وَحْدَهُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، كَمَا قَالَ - تَعَالَى -:(يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ)(82: 19)