المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَسْجُدُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيُثْنِي عَلَى - تفسير المنار - جـ ١

[محمد رشيد رضا]

الفصل: النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَسْجُدُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيُثْنِي عَلَى

النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَسْجُدُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيُثْنِي عَلَى اللهِ - تَعَالَى - بِثَنَاءٍ يُلْهِمُهُ يَوْمَئِذٍ فَيُقَالُ لَهُ: ((ارْفَعْ رَأْسَكَ وَسَلْ تُعْطَهُ وَاشْفَعْ تُشَفَّعُ)) وَلَيْسَ فِي الشَّفَاعَةِ بِهَذَا الْمَعْنَى أَنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ يَرْجِعُ عَنْ إِرَادَةٍ كَانَ أَرَادَهَا لِأَجْلِ الشَّافِعِ وَإِنَّمَا هِيَ إِظْهَارُ كَرَامَةٍ لِلشَّافِعِ بِتَنْفِيذِ الْإِرَادَةِ الْأَزَلِيَّةِ عُقَيْبَ دُعَائِهِ، وَلَيْسَ فِيهَا أَيْضًا مَا يُقَوِّي غُرُورَ الْمَغْرُورِينَ اللَّذِينَ يَتَهَاوَنُونَ بِأَوَامِرِ الدِّينِ وَنَوَاهِيهِ اعْتِمَادًا عَلَى شَفَاعَةِ الشَّافِعِينَ، بَلْ فِيهِ أَنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ، وَأَنَّهُ لَا يَنْفَعُ أَحَدًا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا طَاعَتُهُ وَرِضَاهُ (فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ) (74: 48،‌

‌ 49)

وَ (وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى)(21: 28) .

(وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ)

هَذِهِ الْآيَةُ كَالَّتِي قَبْلَهَا وَاللَّوَاتِي بَعْدَهَا تَفْصِيلٌ لِنِعْمَةِ اللهِ عَلَى شَعْبِ إِسْرَائِيلَ الَّتِي ذُكِرَتْ مِنْ قَبْلُ مُجْمَلَةً، وَابْتُدِئَ التَّفْصِيلُ بِذِكْرِ التَّفْضِيلِ لِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْحِكْمَةِ فِي ذِكْرِهِ، وَهُوَ نُهُوضُ الْهِمَّةِ إِلَى التَّخَلُّقِ بِالْأَخْلَاقِ الْفَاضِلَةِ وَالتَّرَفُّعِ عَنِ الرِّضَا بِمَا دُونَ الْمَقَامِ الَّذِي رَفَعَهُمُ اللهُ إِلَيْهِ، وَتَوْطِينِ النَّفْسِ لِقَبُولِ الْمَوْعِظَةِ إِلَى آخَرِ مَا تَقَدَّمَ. ثُمَّ ذَكَّرَهُمْ بِمَا حَلَّ بِهِمْ مِنَ الْبَلَاءِ وَالْعُقُوبَاتِ جَزَاءً عَلَى جَرَائِمِهِمْ، وَبِلُطْفِ اللهِ - تَعَالَى - بِهِمْ وَإِنْجَائِهِمْ مِنَ الْبَلَاءِ وَتَوْبَتِهِ عَلَيْهِمُ الْمَرَّةَ بَعْدَ الْمَرَّةِ لِيُعَرِّفَهُمْ مِقْدَارَ فَضْلِهِ وَعُقُوبَتِهِ مَعًا.

وَالْآيَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى مَا قَبْلَهَا مِنْ سِلْسِلَةِ الذِّكْرَيَاتِ فَقَوْلُهُ: (وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ) عَطْفُ تَفْصِيلٍ عَلَى الْإِجْمَالِ فِي قَوْلِهِ: (اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ) أَيْ: نِعَمِيَ الْكَثِيرَةَ؛ لِأَنَّ الْمُفْرَدَ الْمُضَافَ يُفِيدُ الْعُمُومَ، أَيْ: وَاذْكُرُوا إِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ،

وَفِرْعَوْنُ لَقَبٌ لِمَنْ تَوَلَّى مُلْكَ مِصْرَ قَبْلَ الْبَطَالِسَةِ، وَإِلَهُ خَاصَّتِهِ، وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى قَوْمِهِ قُدَمَاءِ الْمِصْرِيِّينَ، وَلَمَّا كَانَتِ التَّنْجِيَةُ لَا تَكُونُ إِلَّا مِنْ ظُلْمٍ أَوْ شَرٍّ، بَيَّنَ مَا نَجَّاهُمْ مِنْهُ بِقَوْلِهِ:(يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ) أَيْ: يُكَلِّفُونَكُمْ وَيَبْغُونَكُمْ مَا يَسُوءُكُمْ وَيُذِلُّكُمْ مِنَ الْعَذَابِ، ثُمَّ بَيَّنَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ (يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ) أَيْ: يَقْتُلُونَ ذُكْرَانَ نَسْلِكُمْ، وَيَسْتَبْقُونَ إِنَاثَهُ أَحْيَاءً لِإِضْعَافِكُمْ وَإِذْلَالِكُمُ الْمُفْضِي إِلَى قَطْعِ نَسْلِكُمْ وَإِبَادَتِكُمْ (وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ) أَيْ: وَفِي ذَلِكُمُ الْعَذَابِ وَفِي التَّنْجِيَةِ مِنْهُ - فِي كُلٍّ مِنْهُمَا - بَلَاءٌ وَامْتِحَانٌ عَظِيمٌ لَكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ، كَمَا قَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى:(وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)(7: 168) .

ص: 256

(قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ) فِي هَذِهِ الْآيَةِ بَعْدَ قِرَاءَةِ عِبَارَةِ الْجَلَالِ مَا مِثَالُهُ: خَاطَبَ الَّذِينَ كَانُوا فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمَا كَانَ لِآبَائِهِمْ؛ لِأَنَّ الْإِنْعَامَ عَلَى أُمَّةٍ بِعُنْوَانِ أَنَّهَا أُمَّةُ كَذَا، هُوَ إِنْعَامٌ شَامِلٌ لِلْأُمَّةِ مَنْ أَصَابَهُ ذَلِكَ الْإِنْعَامُ مِنْ أَفْرَادِهَا وَمَنْ لَمْ يُصِبْهُ، وَيَصِحُّ الِامْتِنَانُ بِهِ عَلَى اللَّاحِقِينَ مِنْهُمْ وَالسَّابِقِينَ، كَمَا يَصِحُّ الْفَخْرُ بِهِ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ، كَمَا أَنَّ الْإِنْعَامَ عَلَى شَخْصٍ بِشَيْءٍ يَخْتَصُّ بِعُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِ كَلَبُوسٍ يَلْبَسُهُ، أَوْ لَذِيذِ طَعَامٍ يَطْعَمُهُ، يَكُونُ إِنْعَامًا عَلَى الشَّخْصِ، وَلَا يُقَالُ: إِنَّهُ إِنْعَامٌ عَلَى لِسَانِ فُلَانٍ وَلَا عَلَى رَأْسِهِ، أَوْ يَدِهِ أَوْ رِجْلِهِ، وَلِأَنَّ مَا وَصَلَ إِلَى مُجْتَمَعٍ بِعُنْوَانِ ذَلِكَ الِاجْتِمَاعِ وَالرَّابِطَةِ الَّتِي رَبَطَتْ أَفْرَادَهُ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ يَكُونُ لَهُ أَثَرٌ فِي مَجْمُوعِ الْأَفْرَادِ، لَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ الْوَاصِلُ مِنْ نِقْمَةٍ أَوْ نِعْمَةٍ مُسَبِّبًا عَنْ عَمَلِ الْأُمَّةِ شَرًّا أَوْ خَيْرًا، وَيَكُونُ لِذَلِكَ أَثَرٌ فِي الْأُمَّةِ يُورِثُهُ السَّلَفُ الْخَلَفَ مَا بَقِيَتِ الْأُمَّةُ، وَأَنْوَاعُ الْبَلَاءِ الَّتِي ذَكَّرَهَا بِهَا الْيَهُودَ فِي الْقُرْآنِ كَانَتْ لِشَعْبِ إِسْرَائِيلَ مِنْ حَيْثُ هُوَ شَعْبُ إِسْرَائِيلَ؛ لِأَنَّ الْجَرَائِمَ الَّتِي كَانَ الْبَلَاءُ عُقُوبَةً عَلَيْهَا إِنَّمَا كَانَتْ مِنْ مَجْمُوعِ الشَّعْبِ، مِنْ حَيْثُ هُوَ شَعْبُ إِسْرَائِيلَ. ثُمَّ إِنَّ اللهَ - تَعَالَى - كَانَ يَتُوبُ عَلَى الشَّعْبِ بَعْدَ كُلِّ بَلَاءٍ وَيُفِيضُ عَلَيْهِ النِّعَمَ؛ فَتَكُونُ الْعُقُوبَةُ تَرْبِيَةً وَتَعْلِيمًا تُفِيدُ الْمُعْتَبِرِينَ بِهَا نِعْمَةً وَسَعَادَةً.

لَا أَقُولُ: إِنَّ هَذَا الْخِطَابَ إِيمَاءٌ أَوْ إِشَارَةٌ لِلْمُخَاطَبِينَ بِأَنْ يَسْتَحْضِرُوا تَارِيخَ أُمَّتِهِمُ الْمَاضِيَ لِيَتَذَكَّرُوا صُنْعَ اللهِ - تَعَالَى - فِيهِمْ فَيُعْتَبِرُوا بِمَا أَصَابَهُمْ مِنْ نَعْمَاءَ وَضَرَّاءَ، وَسَعَادَةٍ وَشَقَاءٍ، وَيَتَفَكَّرُوا فِيمَا حَلَّ بِهِمْ مِنْ بَعْدِهِمْ، وَمَا يُنْتَظَرُ أَنْ يَحِلَّ بِهِمْ، وَإِنَّمَا

الْكَلَامُ نَصٌّ صَرِيحٌ لَا يَحْتَاجُ إِلَى التَّأْوِيلِ؛ فَالرَّوَابِطُ الِاجْتِمَاعِيَّةُ بَيْنَ أَفْرَادِ الْأُمَمِ وَجَمَاعَاتِهَا كَالرَّوَابِطِ الْحَيَوِيَّةِ بَيْنَ أَعْضَاءِ الشَّخْصِ الْوَاحِدِ بِلَا فَرْقٍ. تَعَثَرُ الرِّجْلُ فَتُخْدَشُ أَوْ تُوثَأُ، وَالْأَلَمُ يُلِمُّ بِالشَّخْصِ كُلِّهِ مِنْ حَيْثُ هُوَ شَخْصٌ حَيٌّ بِحَيَاةٍ وَاحِدَةٍ تَسْتَوِي فِيهَا رِجْلُهُ وَسَائِرُ أَعْضَائِهِ؛ وَلِذَلِكَ يَسْعَى بِجُمْلَتِهِ لِإِزَالَةِ أَلَمِ الرِّجْلِ، وَيَتَوَقَّى أَسْبَابَ الْعِثَارِ بَعْدَ ذَلِكَ مُسْتَعِينًا بِكُلِّ أَعْضَائِهِ وَقُوَاهُ.

عَلَّمَنَا اللهُ - تَعَالَى - هَذَا بِمَا قَصَّ عَلَيْنَا مِنْ أَخْبَارِ الْأُمَمِ، وَأَنْعَمَ عَلَى أُمَّتِنَا - الَّتِي لَا تَخْتَصُّ بِشَعْبٍ وَلَا جِنْسٍ - بِهَذَا الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ فَكَانَ لَهُمْ بِهِ نِعَمٌ لَا تُحْصَى تُعْرَفُ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، مِنْهَا أَنَّهُمْ كَانُوا أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ فَأَصْبَحُوا بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا، وَمِنْهَا أَنَّهُمْ كَانُوا مُسْتَضْعَفِينَ فَمَكَّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَأَوْرَثَهُمْ أَرْضَ الشُّعُوبِ الْقَوِيَّةِ وَدِيَارَهَمْ وَجَعَلَ لَهُمُ السُّلْطَانَ عَلَيْهِمْ، وَمِنْهَا أَنَّهُ جَعَلَهُمْ أُمَّةً وَسَطًا لَا تَفْرِيطَ عِنْدَهَا وَلَا إِفْرَاطَ؛ لِيَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ الَّذِينَ غَلَوْا وَأَفْرَطُوا، وَالَّذِينَ قَصَّرُوا وَفَرَّطُوا، ثُمَّ لَمَّا كَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ أَنْزَلَ بِهَا أَلْوَانًا مِنَ الْبَلَاءِ وَالنِّقَمِ بِعُنْوَانِ الْأُمَّةِ. فَإِنَّ التَّتَارَ إِنَّمَا نَكَّلُوا بِهَا وَتَبَّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا؛ لِأَنَّهَا الْأُمَّةُ الْإِسْلَامِيَّةُ، ثُمَّ زَحَفَ عَلَيْهَا الْغَرْبِيُّونَ أَيَّامَ حُرُوبِ الصَّلِيبِ وَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ؛ لِأَنَّهَا الْأُمَّةُ الْإِسْلَامِيَّةُ،

ص: 257

ثُمَّ إِنَّ الْفِتَنَ لَا تَزَالُ تَحُلُّ بِدِيَارِهِمْ، وَتُنْقِصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا، وَسَوْطَ عَذَابِ اللهِ يُصَبُّ عَلَيْهَا بِعُنْوَانِ الْأُمَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ، وَقَدْ مَرَّتْ عَلَيْهَا قُرُونٌ وَهِيَ لَا تَعْتَبِرُ بِمَا مَضَى، وَلَا تَتَرَبَّى بِمَا حَضَرَ، بَلْ جَهِلَتِ الْمَاضِيَ فَحَارَتْ فِي الْحَاضِرِ، لَا تَعْرِفُ سَبَبَهُ وَلَا الْمَخْرَجَ مِنْهُ.

أَلَيْسَ مِنَ الْعَجِيبِ أَنَّ الْجُمْهُورَ الْأَعْظَمَ مِنَ الْمُشْتَغِلِينَ بِالْعِلْمِ مِنْهَا هُمْ أَجْهَلُهَا بِتَارِيخِهَا، لَا يَعْرِفُونَ شَيْئًا مِنْ مَاضِيهَا وَلَا حَاضِرِهَا؟ وَلَكِنَّهُمْ يَعْتَرِفُونَ بِأَنَّ الْأُمَّةَ فِي بَلَاءٍ كَبِيرٍ، وَيَعْتَذِرُونَ بِالْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ عَنْ مَعْرِفَةِ الْأَسْبَابِ، وَيَكِلُونَ إِلَى الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ النَّجَاةَ مِنْهُ أَوِ الْبَقَاءَ فِيهِ.

إِنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ أُمَّةٌ وَاحِدَةٌ وَإِنِ اخْتَلَفَتْ دِيَارُهَا وَتَعَدَّدَتْ أَجْنَاسُهَا، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ تَعْرِفَ حَقِيقَتَهَا إِلَّا بَعْدَ مَعْرِفَةِ تَارِيخِهَا الْمَاضِي، فَلَا بُدَّ مِنْ تَتَبُّعِ السَّوَاقِي وَالْجَدَاوِلِ إِلَى الْيَنْبُوعِ الْأَوَّلِ الَّذِي هُوَ الْأَصْلُ.

كَانَ سَلَفُنَا - رَضِيَ اللهُ - تَعَالَى - عَنْهُمْ - يَضْبِطُونَ أَحْوَالَ مَنْ قَبْلَهُمْ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا

بِكُلِّ اعْتِنَاءٍ وَدِقَّةٍ، حَتَّى كَانُوا يَرْوُونَ الْبَيْتَ مِنَ الشِّعْرِ أَوِ النُّكْتَةَ بَيْنَ الْعَاشِقِ وَمَعْشُوقَتِهِ بِالْأَسَانِيدِ الْمُتَّصِلَةِ، وَلَيْسَتْ هَذِهِ الْمُبَالَغَةُ مِمَّا يُؤْخَذُ عَلَيْهِمْ؛ فَإِنَّ الْأُمَّةَ إِنَّمَا تَكُونُ أُمَّةً بِدِينِهَا وَلُغَتِهَا وَأَخْلَاقِهَا وَعَادَاتِهَا، فَإِذَا لَمْ يَحْفَظْ خَلَفُهَا عَنْ سَلَفِهَا هَذِهِ الْمُقَوِّمَاتِ بِحِفْظِ تَارِيخِهَا، تَكُونُ عُرْضَةً لِلتَّغَيُّرِ بِتَأْثِيرِ حَوَادِثِ الزَّمَانِ، وَتَقَلُّبَاتِ شُئُونِ الِاجْتِمَاعِ مَعَ جَهْلِ الْمُتَأَخِّرِ بِمَا كَانَ عَلَيْهِ الْمُتَقَدِّمُ، وَبِكَيْفِيَّةِ حُدُوثِ التَّغْيِيرِ الضَّارِّ لِلْجَهْلِ بِالتَّارِيخِ، بِهَذَا تَفْعَلُ فَوَاعِلُ الْكَوْنِ بِالْأُمَّةِ الْجَاهِلَةِ أَفَاعِيلَهَا حَتَّى تَقْلِبَ كِيَانَهَا، وَتُقَوِّضَ بُنْيَانَهَا، وَتَقْطَعَ عُرَى الرُّبُطِ الْعَامَّةِ بَيْنَ أَفْرَادِهَا، فَلَا يَكُونُ لَهُمْ عَمَلٌ إِلَّا لِلْمَصْلَحَةِ الشَّخْصِيَّةِ، وَهِيَ لَا حِفَاظَ لَهَا فِي مَجْمُوعِ الْأُمَّةِ إِلَّا بِالْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ، فَإِذَا أَهْمَلَتْ تَكُونُ الْأُمَّةُ مِنَ الْهَالِكِينَ.

عُنِيَتْ أُمَّتُنَا بِالتَّارِيخِ عِنَايَةً لَمْ تَسْبِقْهَا بِهِ أُمَّةٌ، فَلَمْ تَكْتَفِ بِضَبْطِ الْوَقَائِعِ وَتُلْقِيهَا بِالرِّوَايَةِ كَالسُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ، بَلْ تَفَنَّنَتْ فِيهَا فَصَنَّفَتْ فِي تَارِيخِ الْأَشْخَاصِ كَمَا صَنَّفَتْ فِي تَارِيخِ الْبِلَادِ وَالشُّعُوبِ، ثُمَّ نَوَّعَتْ تَارِيخَ الْأَشْخَاصِ فَجَعَلَتْ لِكُلِّ طَبَقَةٍ تَارِيخًا، فَنَرَى فِي الْمَكَاتِبِ طَبَقَاتِ الْمُفَسِّرِينَ، وَطَبَقَاتِ الْمُحَدِّثِينَ، وَطَبَقَاتِ النَّحْوِيِّينَ، وَطَبَقَاتِ الْأَطِبَّاءِ، وَطَبَقَاتِ الشُّعَرَاءِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ.

ثُمَّ اهْتَدَى بَعْضُهُمْ إِلَى اسْتِنْبَاطِ قَوَاعِدِ الْعُمْرَانِ وَأُصُولِ الِاجْتِمَاعِ مِنَ التَّارِيخِ فَصَنَّفَ ابْنُ خَلْدُونَ فِي ذَلِكَ مُقَدِّمَةَ تَارِيخِهِ، وَلَوْ لَمْ تَنْقَطِعْ بِنَا سِلْسِلَةُ الْعِلْمِ مِنْ ذَلِكَ الْعَهْدِ لَكُنَّا أَتْمَمْنَا مَا بَدَأَ بِهِ سَلَفُنَا، وَلَكِنَّنَا تَرَكْنَاهُ وَسَبَقَنَا غَيْرُنَا إِلَى إِتْمَامِهِ وَاسْتِثْمَارِهِ؛ فَالتَّارِيخُ هُوَ الْمُرْشِدُ الْأَكْبَرُ لِلْأُمَمِ الْعَزِيزَةِ

ص: 258

الْيَوْمَ إِلَى مَا هِيَ فِيهِ مِنْ سَعَةِ الْعُمْرَانِ وَعِزَّةِ السُّلْطَانِ، وَكَانَ الْقُرْآنُ هُوَ الْمُرْشِدُ الْأَوَّلُ لِلْمُسْلِمِينَ إِلَى الْعِنَايَةِ بِالتَّارِيخِ وَمَعْرِفَةِ سُنَنِ اللهِ فِي الْأُمَمِ مِنْهُ، وَكَانَ الِاعْتِقَادُ بِوُجُوبِ حِفْظِ السُّنَّةِ وَسِيرَةِ السَّلَفِ هُوَ الْمُرْشِدُ الثَّانِي إِلَى ذَلِكَ، فَلَمَّا صَارَ الدِّينُ يُؤْخَذُ مِنْ غَيْرِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أُهْمِلَ التَّارِيخُ، بَلْ صَارَ مَمْقُوتًا عِنْدَ أَكْثَرِ الْمُشْتَغِلِينَ بِعِلْمِ الدِّينِ، فَإِنْ وُجِدَ مَنْ يَلْتَفِتُ إِلَيْهِ، فَإِنَّمَا يَكُونُ مُتَّبِعًا فِي ذَلِكَ سُنَّةَ قَوْمٍ آخَرِينَ.

نَكْتَفِي الْآنَ بِهَذَا التَّنْبِيهِ وَنَعُودُ إِلَى إِتْمَامِ تَفْسِيرِ الْآيَةِ الَّتِي صَرَفَتْنَا إِلَيْهِ بِمُخَاطَبَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي زَمَنِ تَنْزِيلِ الْقُرْآنِ بِمَا كَانَ مِنْ تَعْذِيبِ آلِ فِرْعَوْنَ لِسَلَفِهِمْ، وَإِنْعَامِ اللهِ عَلَيْهِمْ بِالْإِنْجَاءِ مِنْ ذَلِكَ الْعَذَابِ.

أَوَّلُ مَنْ دَخَلَ مِصْرَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ هُوَ يُوسُفُ عليه السلام، وَانْضَمَّ إِلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ إِخْوَتُهُ وَنَمَا نَسْلُهُ وَنَسْلُهُمْ فِيهَا وَكَثُرَ، حَتَّى قِيلَ: إِنَّهُمْ كَانُوا يَوْمَ خَرَجُوا مِنْ مِصْرَ سِتَّمِائَةِ أَلْفٍ، وَهَذَا النُّمُوُّ كَانَ فِي مُدَّةِ أَرْبَعِمِائَةِ سَنَةٍ، وَكَانَ الْمِصْرِيُّونَ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ لَا يُحِبُّونَ مُسَاكَنَةَ الْغُرَبَاءِ، فَلَمَّا رَأَى فِرْعَوْنُ نُمُوَّ شَعْبِ إِسْرَائِيلَ خَافَ مَغَبَّةَ الْأَمْرِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُمْ إِذَا كَثُرُوا يَتَبَسَّطُونَ فِي الْأَرْضِ وَيُزَاحِمُونَ الْمِصْرِيِّينَ، فَطَفِقَ يَسْتَذِلُّهُمْ وَيُكَلِّفُهُمُ الْأَعْمَالَ الشَّاقَّةَ، كَصُنْعِ الطُّوبِ لِبِنَاءِ الْهَيَاكِلِ وَالْبَرَابِي لِعِلْمِهِ بِأَنَّ الذُّلَّ يُقَلِّلُ النَّسْلَ وَيُفْضِي بِالْأُمَّةِ إِلَى الِانْقِرَاضِ، وَلَكِنَّهُمْ ظَلُّوا مَعَ الِاسْتِذْلَالِ يَتَنَاسَلُونَ وَيَكْثُرُونَ. فَلَمَّا رَآهُمُ الْحُكَّامُ الْمِصْرِيُّونَ يَزْدَادُونَ نَسْلًا، وَأَنَّهُمْ مَعَ هَذَا مُحَافِظُونَ عَلَى عَادَاتِهِمْ وَتَقَالِيدِهِمْ، وَلَا يُمَازِجُونَ الْمِصْرِيِّينَ، وَعِنْدَهُمُ الْأَثَرَةُ وَالْإِبَاءُ؛ لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّهُمْ شَعْبُ اللهِ وَأَفْضَلُ خَلْقِهِ، خَافُوا أَنْ يَقْوَوْا بِالْكَثْرَةِ فَيَعْدُوا عَلَيْهِمْ وَيَغْلِبُوهُمْ عَلَى بِلَادِهِمْ كُلِّهَا أَوْ بَعْضِهَا، وَإِنَّمَا كَانُوا يَزْدَادُونَ عَلَى الذُّلِّ نَسْلًا؛ لِأَنَّ الذُّلَّ لَا يُؤَثِّرُ إِلَّا فِي الزَّمَنِ الطَّوِيلِ، ذَلِكَ بِأَنَّ الذَّلِيلَ الَّذِي لَا تُطْلَقُ إِرَادَتُهُ فِي أَعْمَالِهِ هُوَ

بِمَنْزِلَةِ الشَّخْصِ الَّذِي يَضْعُفُ عَنْ تَنَاوُلِ الْغِذَاءِ الَّذِي يَمُدُّ حَيَاتَهُ، فَهُوَ يَذْبُلُ رُوَيْدًا رُوَيْدًا حَتَّى يَنْحَلَ وَيَمُوتَ، وَالْقُوَّةُ الْمَعْنَوِيَّةُ الَّتِي تَحْفَظُ حَيَاةَ الْأُمَمِ هِيَ قُوَّةُ الْأَرْوَاحِ وَالْإِرَادَاتِ؛ لِأَنَّ الْجِسْمَ مَحْمُولٌ

ص: 259

بِالرُّوحِ. وَالْعَمَلُ النَّافِعُ إِنَّمَا يَكُونُ بِالْإِرَادَةِ، فَمَتَى خُذِّلَتِ النُّفُوسُ بِالتَّسَلُّطِ عَلَى إِرَادَتِهَا تَبِعَهَا الْجِسْمُ فَيَضْعُفُ بِضَعْفِهَا، وَالضَّعِيفُ يَأْتِي بِنِتَاجٍ ضَعِيفٍ، وَيَكُونُ نَسْلُ نِتَاجِهِ أَضْعَفَ مِنْ نَسْلِهِ، وَيَتَسَلْسَلُ هَكَذَا حَتَّى يَكُونَ مِنْ لَوَازِمِ ضَعْفِ النَّسْلِ إِسْرَاعُ الْمَوْتِ إِلَى صِغَارِهِ قَبْلَ بُلُوغِ سِنِّ الرُّشْدِ، وَبِهَذَا يَنْقَرِضُ النَّسْلُ، كَمَا حَصَلَ لِهُنُودِ أَمْرِيكَا وَسُكَّانِ شَمَالِيِّ أُسْتُرَالِيَا.

اسْتَبْطَأَ الْمِصْرِيُّونَ أَثَرَ الِاسْتِذْلَالِ فِي الْإِسْرَائِيلِيِّينَ فَعَمِلُوا عَلَى انْقِرَاضِهِمْ بِقَتْلِ ذُكْرَانِهِمْ، وَاسْتِحْيَاءِ إِنَاثِهِمْ، فَأَمَرَ فِرْعَوْنُ الْقَوَابِلَ بِأَنْ يَقْتُلْنَ كُلَّ ذَكَرٍ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ عِنْدَ وِلَادَتِهِ؛ لِأَنَّ مِنْ سُنَّةِ اللهِ فِي الْخَلْقِ أَنَّ قِوَامَ الشُّعُوبِ وَالْقَبَائِلِ وَحِفْظَ الْأَجْنَاسِ إِنَّمَا يَكُونُ بِالذُّكُورِ. وَقَالَ مُفَسِّرُنَا (الْجَلَالُ) تَبَعًا لِغَيْرِهِ: إِنَّ سَبَبَ الْعَذَابِ وَتَقْتِيلِ الْأَبْنَاءِ دُونَ الْبَنَاتِ هُوَ أَنَّ بَعْضَ الْكَهَنَةِ أَخْبَرَ فِرْعَوْنَ بِأَنْ سَيُولَدُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَدٌ يَنْزِعُ مِنْهُ مُلْكَهُ، وَيَكُونُ عَلَى يَدَيْهِ هُلْكُهُ.

(قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ) : وَلَيْسَ لِهَذَا الْقَوْلِ سَنَدٌ صَحِيحٌ وَلَا يُعْرَفُ فِي التَّارِيخِ، وَمَا قُلْنَاهُ هُوَ الَّذِي يَعْرِفُهُ بَنُو إِسْرَائِيلَ، وَيَتَنَاقَلُونَهُ فِي كُتُبِهِمُ الْمَعْرُوفَةِ بِالْمُقَدَّسَةِ وَغَيْرِ الْمُقَدَّسَةِ، وَهُوَ الْمَعْقُولُ فِي نَفْسِهِ أَيْضًا.

(وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ)

جَاءَ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ ذِكْرُ تَنْجِيَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ، وَهُوَ عَلَى

كَوْنِهِ تَفْصِيلًا لِمَا قَبْلَهُ مِنْ حَيْثُ التَّذْكِيرِ بِالنِّعَمِ، مُجْمَلٌ مِنْ حَيْثُ الْإِنْجَاءِ، فَإِنَّهُ يَشْمَلُ النَّجَاةَ بِجَمِيعِ أَنْوَاعِهَا مِنْ ذَلِكَ الْعَذَابِ، وَذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ نِعْمَتَهُ فِي طَرِيقِ الْإِنْجَاءِ بِالتَّفْصِيلِ بَعْدَ الْإِجْمَالِ لِبَيَانِ عِنَايَةِ اللهِ - تَعَالَى - بِهِمْ فِيهَا، إِذْ جَعَلَ وَسِيلَتَهُ مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ، وَجَعَلَ فِي طَرِيقِهِ هَلَاكَ عَدُوِّهِمْ. وَقَدْ يُقَالُ: إِنَّ هَذِهِ نِعْمَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ مِنْ نِعَمِهِ - تَعَالَى - عَلَيْهِمْ، لَا أَنَّهَا بَيَانُ الْإِجْمَالِ فِي الَّتِي قَبْلَهَا.

لَمَّا أَرْسَلَ اللهُ - تَعَالَى - مُوسَى عليه السلام إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ يَدْعُوهُمْ إِلَى تَوْحِيدِ اللهِ، وَإِلَى أَنْ يُخَلِّيَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ شَعْبِ إِسْرَائِيلَ بَعْدَ إِطْلَاقِهِمْ مِنْ ذَلِكَ الِاسْتِعْبَادِ وَالتَّعْذِيبِ، لَمْ يَزِدْهُمْ فِرْعَوْنُ إِلَّا تَعْذِيبًا وَتَعْبِيدًا، وَفِي سِفْرِ الْخُرُوجِ مِنْ تَارِيخِ التَّوْرَاةِ: أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - أَنْبَأَ مُوسَى بِأَنَّهُ يُقَسِّي

ص: 260

قَلْبَ فِرْعَوْنَ فَلَا يُخَفِّفُ الْعَذَابَ عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَلَا يُرْسِلُهُمْ مَعَ مُوسَى حَتَّى يُرِيَهُ آيَاتِهِ، وَأَنَّهُ بَعْدَ الدَّعْوَةِ زَادَ ظُلْمًا وَعُتُوًّا، فَأَمَرَ الَّذِينَ كَانُوا يُسَخِّرُونَ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْأَعْمَالِ الشَّاقَّةِ بِأَنْ يَزِيدُوا فِي الْقَسْوَةِ عَلَيْهِمْ، وَأَنْ يَمْنَعُوهُمُ التِّبْنَ الَّذِي كَانُوا يُعْطُونَهُمْ إِيَّاهُ لِعَمَلِ اللَّبِنِ (الطُّوبِ) ، وَيُكَلِّفُوهُمْ أَنْ يَجْمَعُوا التِّبْنَ وَيَعْمَلُوا كُلَّ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَهُ مِنَ اللَّبِنِ، لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْهُ شَيْءٌ، فَأَعْطَى اللهُ - تَعَالَى - مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ الْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ، فَحَاوَلَ فِرْعَوْنُ مُعَارَضَتَهَا بِسِحْرِ السَّحَرَةِ، فَلَمَّا آمَنَ السَّحَرَةُ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ؛ لِعِلْمِهِمْ أَنَّ مَا جَاءَ بِهِ لَيْسَ مِنَ السِّحْرِ، وَإِنَّمَا هُوَ تَأْيِيدٌ مِنَ اللهِ - تَعَالَى -، وَرَأَى مَا رَأَى بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللهِ لِمُوسَى، سَمَحَ بِخُرُوجِ بَنِي إِسْرَائِيلَ بَلْ طَرَدَهُمْ، وَفِي سِفْرِ الْخُرُوجِ أَنَّهُمْ خَرَجُوا فِي شَهْرِ أَبِيبٍ، وَكَانَتْ إِقَامَتُهُمْ فِي مِصْرَ 430 سَنَةٍ. ثُمَّ أَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ، وَأَنْجَى اللهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَأَغْرَقَ فِرْعَوْنَ وَمَنْ مَعَهُ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ عز وجل:

(وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ) أَيْ: وَاذْكُرُوا مِنْ نِعَمِنَا عَلَيْكُمْ إِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهِ طَرِيقًا يَبَسًا سَلَكْتُمُوهُ فِي هَرَبِكُمْ مِنْ فِرْعَوْنَ (فَأَنْجَيْنَاكُمْ) بِعُبُورِهِ مِنْ جَانِبٍ إِلَى آخَرَ (وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ) إِذْ عَبَرُوا وَرَاءَكُمْ (وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) ذَلِكَ بِأَعْيُنِكُمْ، لَوْلَاهُ لَعَظُمَ عَلَيْكُمْ خَبَرُ غَرَقِهِمْ وَلَمْ تُصَدِّقُوهُ.

(قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ) : فَلْقُ الْبَحْرِ كَانَ مِنْ مُعْجِزَاتِ مُوسَى. وَقَدْ قُلْنَا فِي " رِسَالَةِ التَّوْحِيدِ ": إِنَّ الْخَوَارِقَ الْجَائِزَةَ عَقْلًا، أَيِ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا اجْتِمَاعُ النَّقِيضَيْنِ، وَلَا

ارْتِفَاعُهُمَا لَا مَانِعَ مِنْ وُقُوعِهَا بِقُدْرَةِ اللهِ - تَعَالَى - فِي يَدِ نَبِيٍّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، وَيَجِبُ أَنْ نُؤْمِنَ بِهَا عَلَى ظَاهِرِهَا، وَلَا يَمْنَعُنَا هَذَا الْإِيمَانُ مِنَ الِاهْتِدَاءِ بِسُنَنِ اللهِ - تَعَالَى - فِي الْخَلْقِ وَاعْتِقَادِ أَنَّهَا لَا تَتَبَدَّلُ وَلَا تَتَحَوَّلُ، كَمَا قَالَ اللهُ فِي كِتَابِهِ الَّذِي خَتَمَ بِهِ الْوَحْيَ، عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ الَّذِي خَتَمَ بِهِ النَّبِيِّينَ، فَانْتَهَى بِذَلِكَ زَمَنُ الْمُعْجِزَاتِ، وَدَخَلَ الْإِنْسَانُ بِدِينِ الْإِسْلَامِ فِي سِنِّ الرُّشْدِ، فَلَمْ تَعُدْ مُدْهِشَاتُ الْخَوَارِقِ هِيَ الْجَاذِبَةُ لَهُ إِلَى الْإِيمَانِ وَتَقْوِيمِ مَا يَعْرِضُ لِلْفِطْرَةِ مِنَ الْمَيْلِ عَنِ الِاعْتِدَالِ فِي الْفِكْرِ وَالْأَخْلَاقِ وَالْأَعْمَالِ، كَمَا كَانَ فِي سِنِّ الطُّفُولِيَّةِ (النَّوْعِيَّةِ) بَلْ أَرْشَدَهُ - تَعَالَى - بِالْوَحْيِ الْأَخِيرِ (الْقُرْآنِ) إِلَى اسْتِعْمَالِ عَقْلِهِ فِي تَحْصِيلِ الْإِيمَانِ بِاللهِ وَبِالْوَحْيِ، ثُمَّ جَعَلَ لَهُ كُلَّ إِرْشَادَاتِ الْوَحْيِ مُبَيِّنَةً مُعَلِّلَةً مُدَلِّلَةً حَتَّى فِي مَقَامِ الْأَدَبِ (كَمَا أَوْضَحْنَا ذَلِكَ فِي رِسَالَةِ التَّوْحِيدِ) . فَإِيمَانُنَا بِمَا أَيَّدَ اللهُ - تَعَالَى - بِهِ الْأَنْبِيَاءَ مِنَ الْآيَاتِ لِجَذْبِ قُلُوبِ أَقْوَامِهِمُ الَّذِينَ لَمْ تَرْتَقِ عُقُولُهُمْ إِلَى فَهْمِ الْبُرْهَانِ، لَا يُنَافِي كَوْنَ دِينِنَا هُوَ دِينُ الْعَقْلِ وَالْفِطْرَةِ، وَكَوْنِهِ حَتَّمَ عَلَيْنَا الْإِيمَانَ بِمَا يَشْهَدُ لَهُ الْعِيَانُ، مِنْ أَنَّ سُنَنَهُ - تَعَالَى - فِي الْخَلْقِ لَا تَبْدِيلَ لَهَا وَلَا تَحْوِيلَ.

(أَقُولُ) : وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ أَنَّ الَّذِي يَمْنَعُهُ الْعَقْلُ هُوَ وُقُوعُ الْمُحَالِ، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُؤَيَّدَ نَبِيٌّ بِمَا هُوَ مُسْتَحِيلٌ عَقْلًا؛ لِأَنَّ الْمُسْتَحِيلَ هُوَ الَّذِي لَا يُمْكِنُ وُقُوعُهُ، وَمَا وَقَعَ لَا يَكُونُ مُسْتَحِيلًا، وَلِذَلِكَ سَمَّى الْمُتَكَلِّمُونَ الْمُعْجِزَاتِ " خَوَارِقَ الْعَادَاتِ " وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ لَهَا أَسْبَابًا

ص: 261

خَفِيَّةً رُوحِيَّةً لَمْ يُطْلِعِ اللهُ الْأُمَمَ عَلَيْهَا وَلَكِنَّهُ خَصَّ بِهَا الْأَنْبِيَاءَ عليهم السلام، وَالْمَشْهُورُ: أَنَّ اللهَ يَخْلُقُهَا بِغَيْرِ سَبَبٍ لِتَدُلَّ عَلَى أَنَّ السُّنَنَ وَالنَّوَامِيسَ لَا تَحْكُمُ عَلَى وَاضِعِهَا وَمُدَبِّرِهَا، وَإِنَّمَا هُوَ الْحَاكِمُ الْمُتَصَرِّفُ بِهَا، وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ؛ لِأَنَّهُ الظَّاهِرُ، وَإِلَّا فَمَنْ ذَا الَّذِي يَسْتَطِيعُ أَنْ يَنْفِيَ ذَلِكَ النَّفْيَ الْمُطْلَقَ عَنْ عَالَمِ الْغَيْبِ؟ وَقَدْ ذَكَرَ الْقَوْلَيْنِ الْإِمَامُ الْغَزَالِيُّ وَأَشَارَ إِلَيْهِمَا الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي رِسَالَةِ التَّوْحِيدِ.

(قَالَ) : وَزَعَمَ الَّذِينَ لَا يُحِبُّونَ الْمُعْجِزَاتِ مِنَ الْمُتَهَوِّرِينَ أَنَّ عُبُورَ بَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ كَانَ فِي إِبَّانِ الْجَزْرِ، فَإِنَّ فِي الْبَحْرِ الْأَحْمَرِ رُقَارِقَ إِذَا كَانَ الْجَزْرُ الَّذِي عُهِدَ هُنَاكَ شَدِيدًا يَتَيَسَّرُ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَعْبُرَ مَاشِيًا، وَلَمَّا أَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ وَرَآهُمْ قَدْ عَبَرُوا الْبَحْرَ تَأَثَّرَهُمْ، وَكَانَ الْمَدُّ تَفِيضُ ثَوَائِبُهُ (وَهِيَ الْمِيَاهُ الَّتِي تَجِيءُ عُقَيْبَ الْجَزْرِ) فَلَمَّا نَجَا بَنُو إِسْرَائِيلَ، كَانَ الْمَدُّ قَدْ طَغَى وَعَلَا حَتَّى أَغْرَقَ الْمِصْرِيِّينَ، وَتَحَقُّقُ إِنْعَامِ

اللهِ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ يَتِمُّ بِهَذَا التَّوْفِيقِ لَهُمْ وَالْخِذْلَانِ لِعَدْوِهِمْ، وَلَا يُنَافِي الِامْتِنَانَ بِهِ عَلَيْهِمْ كَوْنُهُ لَيْسَ آيَةً لِمُوسَى عليه السلام. فَإِنَّ نِعَمَ اللهِ بِغَيْرِ طَرِيقِ الْمُعْجِزَاتِ أَعَمُّ وَأَكْثَرُ، كَذَا قَالُوا. قَالَ شَيْخُنَا: وَلَكِنْ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ آيَةً لَهُ وَصْفُ كُلِّ فِرْقٍ مِنْهُ بِالطَّوْدِ الْعَظِيمِ. وَإِذَا تَيَسَّرَ تَأْوِيلُ كُلِّ آيَاتِ الْقِصَّةِ مِنَ الْقُرْآنِ فَإِنَّهُ يَتَعَسَّرُ تَأْوِيلُ قَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ: (فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ)(26: 63) وَهُوَ الْمُوَافِقُ لِمَا فِي التَّوْرَاةِ اهـ.

وَيَقُولُ الْمُؤَوِّلُونَ: إِنَّهُمْ لَمَّا عَبَرُوا انْفَرَقَ بِهِمْ، وَكَانُوا لِاسْتِعْجَالِهِمْ وَاتِّصَالِ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ قَدْ جَعَلُوا ذَلِكَ الْمَاءَ الرَّقَارِقَ فِرْقَيْنِ عَظِيمَيْنِ مُمْتَدَّيْنِ كَالطَّوْدَيْنِ، وَأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تُشْعِرُ بِذَلِكَ، فَإِنَّهُ يَقُولُ:(وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ) وَلَمْ يَقُلْ: فَرَقْنَا لَكُمُ الْبَحْرَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْبَاءَ هُنَا لِلْآلَةِ، كَمَا تَقُولُ: قَطَعْتُ بِالسِّكِّينِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ - تَعَالَى -: (فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ)(26: 63) فَإِنَّهُ لَا يُنَافِي أَنَّ الِانْفِلَاقَ كَانَ بِهِمْ كَمَا فِي آيَةِ الْبَقَرَةِ لَا بِالْعَصَا، وَذَلِكَ أَنَّ الَّذِي أَوْحَاهُ اللهُ - تَعَالَى - إِلَى مُوسَى هُوَ أَنْ يَخُوضَ الْبَحْرَ بِبَنِي إِسْرَائِيلَ، وَقَدْ عُهِدَ أَنَّ مَنْ كَانَ بِيَدِهِ عَصًا إِذَا أَرَادَ الْخَوْضَ فِي مَاءٍ كَتُرْعَةٍ أَوْ نَهْرٍ، فَإِنَّهُ يَضْرِبُ الْمَاءَ أَوَّلًا بِعَصَاهُ ثُمَّ يَمْشِي، فَهَذِهِ الْآيَةُ مُعَبِّرَةٌ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى: أَيْ أَلْهَمَهُ اللهُ عِنْدَ مَا وَصَلَ إِلَى الْبَحْرِ أَنْ يَضْرِبَهُ بِعَصَاهُ وَيَمْشِيَ، فَفَعَلَ وَمَشَى وَرَاءَهُ بَنُو إِسْرَائِيلَ بِجَمْعِهِمُ الْكَبِيرِ، فَانْفَلَقَ بِهِمُ الْبَحْرُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ - تَعَالَى -:(فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ)(26: 63) فَهُوَ تَشْبِيهٌ مَعْهُودٌ مِثْلُهُ فِي مَقَامِ الْمُبَالَغَةِ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -:(وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ)(11: 42) وَقَوْلِهِ: (وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِي فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ)(42: 32) فَالْأَمْوَاجُ وَالسُّفُنُ وَالْجَوَارِي لَا تَكُونُ كَالْجِبَالِ الشَّاهِقَةِ، وَالْأَعْلَامِ الْبَاسِقَةِ، وَإِنَّمَا تَقْضِي الْبَلَاغَةُ بِمِثْلِ هَذَا التَّعْبِيرِ، لِكَمَالِ التَّصْوِيرِ وَإِرَادَةِ التَّأْثِيرِ.

هَذَا مَا يَنْتَهِي إِلَيْهِ تَأْوِيلُ الْمُؤَوِّلِينَ وَلَمْ يَبْسُطْهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي الدَّرْسِ، وَإِنَّمَا قَرَّرَ أَنَّ

ص: 262

فَرْقَ الْبَحْرِ كَانَ مُعْجِزَةً لِمُوسَى عليه السلام، وَحَكَى عَنِ الْمُتَهَوِّرِينَ مِنَ الَّذِينَ لَا يُحِبُّونَ الْمُعْجِزَاتِ خِلَافَهُ، وَهُوَ أَنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّ عُبُورَ الْبَحْرِ كَانَ فِي وَقْتِ الْجَزْرِ، وَإِنَّمَا بَسَطْنَا تَأْوِيلَهُمْ لِئَلَّا يَتَوَهَّمُوا أَنَّنَا لَمْ نَقُلْ بِهِ؛ لِأَنَّنَا لَمْ نَهْتَدِ لِتَوْجِيهِهِ مِثْلَهُمْ، وَلَا يَهِمُّنَا أَنْ نُنَازِعَهُمْ فِي تَأْوِيلِ آيَةٍ بِخُصُوصِهَا إِذَا عَلِمْنَا أَنَّهُمْ يُثْبِتُونَ الْآيَاتِ الْكَوْنِيَّةِ تَأْيِيدًا

لِلْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، فَإِذَا كَانُوا يَنْفُونَهَا كُلَّهَا فَالْأَوْلَى لَهُمْ أَلَّا يَتْعَبُوا فِي تَأْوِيلِ جُزْئِيَّاتِهَا، فَإِنَّ مِنْهَا مَا لَا يَقْبَلُ التَّأْوِيلَ بِحَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ الْكَلَامُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ لِإِثْبَاتِهَا أَوَّلًا فِي قُدْرَةِ اللهِ وَإِرَادَتِهِ، ثُمَّ فِي إِثْبَاتِ أَصْلِ الْوَحْيِ وَإِرْسَالِ الرُّسُلِ، وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، وَلَنَا أَنْ نَقُولَ هُنَا: إِنَّ الْبَاءَ فِي قَوْلِهِ (بِكُمْ) سَبَبِيَّةٌ، أَوْ لِلْمُلَابَسَةِ لَا لِلْآلَةِ، وَقَدْ أَشَارَ الْبَيْضَاوِيُّ إِلَى ذَلِكَ كُلِّهِ بِقَوْلِهِ: فَقُلْنَاهُ وَفَصَلْنَا بَيْنَ بَعْضِهِ وَبَعْضٍ حَتَّى حَصَلَتْ فِيهِ مَسَالِكُ لِسُلُوكِكُمْ فِيهِ أَوْ بِسَبَبِ إِنْجَائِكُمْ، أَوْ مُتَلَبَّسًا بِكُمْ.

وَأَزْيَدُ الْآنَ: أَنَّنِي رَأَيْتُ بَعْدَ كِتَابَةِ مَا تَقَدَّمَ بِبِضْعِ سِنِينَ جُزْءًا مِنْ تَفْسِيرِ الْأَصْبَهَانِيِّ فِي خِزَانَةِ كُتُبِ كُوبْرِيلِّي بَاشَا فِي الْآسِتَانَةِ، فَرَاجَعْتُ تَفْسِيرَ هَذِهِ الْآيَةِ فِيهِ فَأَلْفَيْتُهُ يَذْكُرُ فِي الْبَاءِ الْوَجْهَيْنِ، أَيْ: إِنَّ فَرْقَ الْبَحْرِ حَصَلَ بِهِمْ، أَيْ: بِنَفْسِ عُبُورِهِمْ أَوْ بِسَبَبِهِمْ. وَمِثْلُهُ قَوْلُ الْبَغَوِيِّ: قِيلَ: مَعْنَاهُ فَرَقْنَاهُ لَكُمْ، وَقِيلَ: فَرَقْنَا الْبَحْرَ بِدُخُولِكُمْ إِيَّاهُ.

قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: بَعْدَ أَنْ قَرَّرَ نِعْمَةَ الْإِنْجَاءِ مِنِ اسْتِبْعَادِ الظَّالِمِينَ، وَالْبُعْدِ مِنْ فِتْنَةِ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ، ذَكَرَ النِّعْمَةَ الَّتِي وَلِيَتْهَا، وَذَكَّرَهُمْ بِمَا كَانَ مِنْ كُفْرِهِمْ إِيَّاهَا، فَقَالَ:(وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً) وَقَدْ كَانَتْ هَذِهِ الْمُوَاعَدَةُ لِإِعْطَائِهِ التَّوْرَاةَ، وَلَمَّا ذَهَبَ لِمِيقَاتِ رَبِّهِ اسْتَبْطَئُوهُ فَاتَّخَذُوا عِجْلًا مِنْ ذَهَبٍ فَعَبَدُوهُ، كَمَا هُوَ مُفَصَّلٌ فِي غَيْرِ هَذِهِ السُّورَةِ - وَسَيَأْتِي هُنَاكَ تَفْسِيرُهُ إِنْ شَاءَ اللهُ - تَعَالَى - وَالْمُرَادُ هُنَا التَّذْكِيرُ بِالنِّعْمَةِ وَبَيَانُ كُفْرِهَا؛ لِيَظْهَرَ أَنَّ تَكْذِيبَهُمْ بِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَمُعَانَدَتَهُ لَيْسَ بِبِدْعٍ مِنْ أَمْرِهِمْ، وَإِنَّمَا هُوَ مَعْهُودٌ مِنْهُمْ مَعَ رُؤْيَةِ الْآيَاتِ وَبَعْدَ إِغْدَاقِ النِّعَمِ عَلَيْهِمْ؛ وَلِذَلِكَ اكْتَفَى بِالْإِشَارَةِ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ:(ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ) أَيِ: اتَّخَذْتُمُوهُ إِلَهًا وَمَعْبُودًا. وَبَعْدَ أَنْ ذَكَّرَهُمْ بِذَلِكَ الظُّلْمِ ذَكَّرَهُمْ بِتَفَضُّلِهِ عَلَيْهِمْ بِالتَّوْبَةِ، ثُمَّ بِالْعَفْوِ الَّذِي هُوَ جَزَاءُ التَّوْبَةِ، فَقَالَ:(ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) هَذِهِ النِّعْمَةَ بِدَوَامِ التَّوْحِيدِ وَالطَّاعَةِ.

ثُمَّ قَفَّى عَلَى هَذَا بِذِكْرِ إِيتَائِهِمُ الْكِتَابَ وَهُوَ الْمِنَّةُ الْكُبْرَى، فَقَالَ:(وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) . قَالَ الْمُفَسِّرُ (الْجَلَالُ) كَغَيْرِهِ: إِنَّ

الْفُرْقَانَ هُوَ التَّوْرَاةُ، وَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ الْفُرْقَانَ هُوَ مَا أُوتِيَهُ مُوسَى مِنَ الْآيَاتِ وَالْمُعْجِزَاتِ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ بَعْدَ حِكَايَةِ الْقَوْلَيْنِ: وَلَكِنَّ ذِكْرَهُ بَعْدَ الْكِتَابِ مَعْطُوفًا عَلَيْهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ مَا فِي الْكِتَابِ مِنَ الشَّرَائِعِ وَالْأَحْكَامِ الْمُفَرِّقَةِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَالْحَلَّالِ وَالْحَرَامِ، وَمَعْنَى

ص: 263

قَوْلِهِ: (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) وَ (لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) أَيْ: لِيُعِدَّكُمْ بِهَذَا الْعَفْوِ لِلْاسْتِمْرَارِ عَلَى الشُّكْرِ وَيَعِدَّكُمْ بِهَذِهِ الْأَحْكَامِ وَالشَّرَائِعِ لِلْاهْتِدَاءِ وَيُهَيِّئَكُمْ لِلْاسْتِرْشَادِ، فَلَا تَقَعُوا فِي وَثَنِيَّةٍ أُخْرَى، وَإِنَّ مِنْ كَمَالِ الِاسْتِعْدَادِ لِلْهِدَايَةِ بِفَهْمِ الْكِتَابِ أَنْ يَعْرِفُوا أَنَّ مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم هُوَ هُدًى وَنُورٌ يُرْجِعُهُمْ إِلَى الْأَصْلِ الَّذِي تَفَرَّقُوا عَنْهُ وَاخْتَلَفُوا فِيهِ، وَكَذَلِكَ اهْتَدَى بِهِ مِنْهُمُ الْمُسْتَبْصِرُونَ، وَجَاحَدَهُ الرُّؤَسَاءُ الْمُسْتَكْبِرُونَ، وَالْمُقَلِّدُونَ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ.

(وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ وَإِذْ قُلْتُمْ يَامُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)

فِي هَذِهِ الْآيَاتِ ضَرْبٌ مِنْ ضُرُوبِ التَّذْكِيرِ غَيْرُ مَا سَبَقَهُ، وَمِنَ الْبَلَاغَةِ وَالْحِكْمَةِ أَنْ يَجِيءَ تَالِيًا لَهُ وَمُتَأَخِّرًا عَنْهُ: مَهَدَّ أَوَّلًا لِلتَّذْكِيرِ تَمْهِيدًا يَسْتَرْعِي السَّمْعَ، وَيُوَجِّهُ الْفِكْرَ وَيَسْتَمِيلُ الْقَلْبَ، وَهُوَ الِابْتِدَاءُ بِذِكْرِ النِّعْمَةِ مُجْمَلَةً وَالتَّفْضِيلِ عَلَى الْعَالَمِينَ وَلَا يَرْتَاحُ الْإِنْسَانُ لِحَدِيثٍ كَحَدِيثِ مَنَاقِبِ قَوْمِهِ وَمَفَاخِرِهِمْ، ثُمَّ طَفِقَ يُفَصِّلُ النِّعْمَةَ وَيَشْرَحُهَا، فَبَدَأَ بِذِكْرِ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِهَا لَا يَقْتَرِنُ بِهِ ذِكْرُ سَيِّئَةٍ مِنْ سَيِّئَاتِهِمْ وَهُوَ تَنْجِيَتُهُمْ مِنْ ظُلْمِ آلِ فِرْعَوْنَ، وَلَكِنْ ذَكَرَ مَعَهُ أَكْبَرَ ضُرُوبِ ذَلِكَ الظُّلْمِ - وَهُوَ قَتْلُ

الْأَبْنَاءِ - يُخَفِّضُ مِنْ عُتُوِّ تِلْكَ النُّفُوسِ الْمُعْجَبَةِ الْمُتَكَبِّرَةِ الَّتِي تَعْتَقِدُ أَنَّ اللهَ لَا يُسَوِّدُ عَلَيْهِمْ شَعْبًا آخَرَ، وَهُوَ مَعَ هَذَا لَا يُنَفِّرُ بِهَا عَنِ الْإِصْغَاءِ وَالتَّدَبُّرِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُفَاجِئْهَا بِشَيْءٍ فِيهِ نِسْبَةُ التَّقْصِيرِ وَعَمَلُ السُّوءِ إِلَيْهَا، ثُمَّ ثَنَّى بِذِكْرِ نِعْمَةٍ خَاصَّةٍ خَالِصَةٍ تَسْكُنُ النَّفْسُ إِلَى ذِكْرِهَا، إِذْ لَا يَشُوبُ الْفَخْرَ بِهَا تَنْغِيصٌ مِنْ تَذَكُّرِ غَضَاضَةٍ تَتَّصِلُ بِوَاقِعَتِهَا، وَهِيَ فَرْقُ الْبَحْرِ بِهِمْ وَإِنْجَاؤُهُمْ، وَإِغْرَاقُ عَدُوِّهِمْ.

ص: 264

لَا جَرَمَ أَنَّ نُفُوسَ الْإِسْرَائِيلِيِّينَ كَانَتْ تَهْتَزُّ وَتَأْخُذُهَا الْأَرْيَحِيَّةُ عِنْدَ مَا تَلَا عَلَيْهِمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم هَذِهِ الْآيَةَ لِمَا فِيهَا مِنَ الشَّهَادَةِ بِعِنَايَةِ اللهِ - تَعَالَى - بِهِمْ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا قَارَنُوا بَيْنَ هَذَا التَّذْكِيرِ وَبَيْنَ تَذْكِيرِ مُشْرِكِي الْعَرَبِ بِتِلْكَ الْقَوَارِعِ الشَّدِيدَةِ، لَمْ يَتْرُكْهَا بَعْدَ هَذِهِ الْهَزَّةِ تَجْمَحُ فِي عُجْبِهَا وَفَخْرِهَا، وَتَتَمَادَى فِي إِبَائِهَا وَزَهْوِهَا، بَلْ عَقَّبَ عَلَيْهَا فَذَكَرَ بَعْدَ هَذِهِ النِّعْمَةِ سَيِّئَةً لَهُمْ، هِيَ كُبْرَى السَّيِّئَاتِ الَّتِي ظَلَمُوا بِهَا أَنْفُسَهُمْ وَكَفَرُوا نِعْمَةَ رَبِّهِمْ، وَهِيَ اتِّخَاذُ الْعِجْلِ إِلَهًا، وَقَدَّمَ عَلَى ذِكْرِهَا خَبَرَ مُوَاعَدَةِ مُوسَى وَهِيَ مِنَ النِّعَمِ، وَخَتَمَهَا بِذِكْرِ الْعَفْوِ، ثُمَّ قَفَّى عَلَيْهَا بِذِكْرِ نِعْمَةِ إِيتَائِهِمُ الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ، وَهَذَا مَا يَجْعَلُ أَنْفُسَ السَّامِعِينَ الْوَاعِينَ قَلِقَةً يَتَنَازَعُهَا شُعُورُ اعْتِرَافِ الْمُذَكِّرِ الْوَاعِظِ لَهَا بِالشَّرَفِ، وَشُعُورُ رَمْيِهِ إِيَّاهَا بِالظُّلْمِ وَالسَّرَفِ.

بَعْدَ هَذَا كُلِّهِ اسْتَعَدَّتْ تِلْكَ النُّفُوسُ؛ لِأَنْ تَسَمَعَ آيَاتٍ مَبْدُوءَةٍ بِذِكْرِ سَيِّئَاتِهَا مِنْ غَيْرِ تَمْهِيدٍ وَلَا تَوْطِئَةٍ، فَانْتَقَلَ الْكَلَامُ إِلَى هَذَا الضَّرْبِ مِنَ التَّذْكِيرِ مَبْدُوءًا بِقَوْلِهِ - تَعَالَى -:(وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ) أَيْ وَاذْكُرْ أَيُّهَا الرَّسُولُ فِيمَا تُلْقِيهِ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ وَغَيْرِهِمْ إِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا عَبَدُوهُ إِذْ كَانَ يُنَاجِي رَبَّهُ فِي الْمِيقَاتَيْنِ: الزَّمَانِيِّ، وَالْمَكَانِيِّ (يَاقَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ) إِلَهًا عَبَدْتُمُوهُ. وَالْقِصَّةُ مُفَصَّلَةٌ فِي سُورَتَيِ الْأَعْرَافِ وَطَهَ الْمَكِّيَّتَيْنِ؛ لِأَنَّ قِصَّةَ مُوسَى فِيهِمَا مَقْصُودَةٌ بِالذَّاتِ، وَأَمَّا مَا هُنَا فَهُوَ تَذْكِيرٌ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا تَقَدَّمَ وَجْهُهُ فِي سِيَاقِ دَعْوَتِهِمْ إِلَى الْإِسْلَامِ (فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) أَيْ فَتُوبُوا إِلَى خَالِقِكُمُ الَّذِي لَا يَجُوزُ أَنْ تَعْبُدُوا مَعَهُ إِلَهًا آخَرَ هُوَ أَدْنَى مِنْكُمْ، وَهُوَ مِنْ خَلْقِكُمْ، أَيْ تَقْدِيرِكُمْ وَصُنْعِكُمْ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَقْتُلَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، فَإِنَّ قَتْلَ الْمَرْءِ لِأَخِيهِ كَقَتْلِهِ لِنَفْسِهِ، وَيَحْتَمِلُ اللَّفْظُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ لِيَبْخَعَ كُلُّ مَنْ عَبَدَ الْعِجْلَ

نَفْسَهُ انْتِحَارًا.

تَكَلَّمَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي التَّوْبَةِ وَقَالَ: إِنَّهَا مَحْوُ أَثَرِ الرَّغْبَةِ فِي الذَّنْبِ مِنْ لَوْحِ الْقَلْبِ، وَالْبَاعِثُ عَلَيْهَا هُوَ شُعُورُ التَّائِبِ بِعَظَمَةِ مَنْ عَصَاهُ، وَمَا لَهُ مِنَ السُّلْطَانِ عَلَيْهِ فِي الْحَالِ، وَكَوْنِ مَصِيرِهِ إِلَيْهِ فِي الْمَآلِ، لَا جَرَمَ أَنَّ الشُّعُورَ بِهَذَا السُّلْطَانِ الْإِلَهِيِّ بَعْدَ مُقَارَفَةِ الذَّنْبِ يَبْعَثُ فِي قَلْبِ الْمُؤْمِنِ الْهَيْبَةَ وَالْخَشْيَةَ، وَيُحْدِثُ فِي رُوحِهِ انْفِعَالًا مِمَّا فَعَلَ، وَنَدَمًا عَلَى صُدُورِهِ عَنْهُ، وَيُزِيدُ هَذَا الْحَالَ فِي النَّفْسِ تَذَكُّرُ الْوَعِيدِ عَلَى ذَلِكَ الذَّنْبِ، وَمَا رَتَّبَهُ اللهُ عَلَيْهِ مِنَ الْعُقُوبَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. هَذَا أَثَرُ التَّوْبَةِ فِي النَّفْسِ، وَهَذَا الْأَثَرُ يُزْعِجُ التَّائِبَ إِلَى الْقِيَامِ بِأَعْمَالٍ تُضَادُّ ذَلِكَ الذَّنْبَ الَّذِي تَابَ مِنْهُ وَتَمْحُو أَثَرَهُ السَّيِّئَ (إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ) (11: 114)

فَمِنْ عَلَامَةِ التَّوْبَةِ النَّصُوحِ الْإِتْيَانُ بِأَعْمَالٍ تَشُقُّ عَلَى النَّفْسِ، وَمَا كَانَتْ لِتَأْتِيَهَا لَوْلَا ذَلِكَ الشُّعُورُ الَّذِي يُحْدِثُهُ الذَّنْبُ، وَهَذِهِ الْعَلَامَةُ لَا تَتَخَلَّفُ عَنِ التَّوْبَةِ، سَوَاءٌ كَانَ الذَّنْبُ مَعَ اللهِ - تَعَالَى - أَوْ مَعَ النَّاسِ، أَلَا تَرَى أَنَّ أَهْوَنَ مَا يَكُونُ مِنْ إِنْسَانٍ يُذْنِبُ مَعَ آخَرَ يُبَاهِي بِهِ أَنْ يَجِيءَ مُعْتَرِفًا بِالذَّنْبِ مُعْتَذِرًا عَنْهُ؟ وَهَذَا ذُلٌّ يَشُقُّ عَلَى النَّفْسِ لَا مَحَالَةَ، وَقَدْ أُمِرَ بَنُو إِسْرَائِيلَ بِأَشَقِّ الْأَعْمَالِ

ص: 265

فِي تَحْقِيقِ التَّوْبَةِ مِنْ أَكْبَرِ الذُّنُوبِ، وَهُوَ الرَّغْبَةُ عَنْ عِبَادَةِ مَنْ خَلَقَهُمْ وَبَرَأَهُمْ إِلَى عِبَادَةِ مَا عَمِلُوا بِأَيْدِيَهُمْ وَقَدْ قَالَ:(فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ) لِيُنَبِّهَهُمْ إِلَى أَنَّ الْإِلَهَ الْحَقِيقِيَّ هُوَ الْخَالِقُ الْبَارِئُ لِيَتَضَمَّنَ الْأَمْرُ الِاحْتِجَاجَ عَلَيْهِمْ وَالْبُرْهَانَ عَلَى جَهْلِهِمْ، ذَلِكَ الْعَمَلُ الَّذِي أَمَرَهُمْ بِهِ مُوسَى هُوَ قَتْلُ أَنْفُسِهِمْ، وَالْقِصَّةُ فِي التَّوْرَاةِ الَّتِي بَيْنَ أَيْدِيهِمْ إِلَى الْيَوْمِ: دَعَا مُوسَى إِلَيْهِ مَنْ يَرْجِعُ إِلَى الرَّبِّ، فَأَجَابَهُ بَنُو لَاوَى، فَأَمَرَهُمْ بِأَنْ يَأْخُذُوا السُّيُوفَ وَيَقْتُلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فَفَعَلُوا، وَقُتِلَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ " نَحْوُ ثَلَاثَةِ آلَافٍ "، وَقَالَ مُفَسِّرُنَا (الْجَلَالُ) كَغَيْرِهِ: إِنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا سَبْعُونَ أَلْفًا وَالْقُرْآنُ لَمْ يُعَيِّنِ الْعَدَدَ، وَالْعِبْرَةُ الْمَقْصُودَةُ مِنَ الْقِصَّةِ لَا تَتَوَقَّفُ عَلَى تَعْيِينِهِ فَنُمْسِكُ عَنْهُ، كَذَا قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ، وَهَذَا مَذْهَبُهُ فِي جَمِيعِ مُبْهَمَاتِ الْقُرْآنِ، يَقِفُ عِنْدَ النَّصِّ الْقَطْعِيِّ لَا يَتَعَدَّاهُ، وَيُثْبِتُ أَنَّ الْفَائِدَةَ لَا تَتَوَقَّفُ عَلَى سِوَاهُ.

قَالَ - تَعَالَى -: (ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ) لِأَنَّهُ يُطَهِّرُكُمْ مِنْ رِجْسِ الشِّرْكِ الَّذِي دَنَّسْتُمْ بِهِ أَنْفُسَكُمْ وَيَجْعَلُكُمْ أَهْلًا لِمَا وَعَدَكُمْ بِهِ فِي الدُّنْيَا وَلِمَثُوبَتِهِ فِي الْآخِرَةِ،

وَقَوْلُهُ: (فَتَابَ عَلَيْكُمْ) مِنْ كَلَامِ اللهِ - تَعَالَى - لَا تَتِمَّةٍ لِكَلَامِ مُوسَى عليه السلام فِي الظَّاهِرِ، وَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى مَحْذُوفٍ، تَقْدِيرُهُ فَفَعَلْتُمْ مَا أَمَرَكُمْ مُوسَى بِهِ، فَتَابَ عَلَيْكُمْ (إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) أَيْ أَنَّهُ هُوَ وَحْدَهُ الْكَثِيرُ التَّوْبَةِ عَلَى عِبَادِهِ بِتَوْفِيقِهِمْ لَهَا وَقَبُولِهَا مِنْهُمْ، وَإِنْ تَعَدَّدَتْ قَبْلَهَا جَرَائِمُهُمْ، الرَّحِيمُ بِهِمْ، وَلَوْلَا رَحْمَتُهُ لَعَجَّلَ بِإِهْلَاكِهِمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمُ الْكُبْرَى وَلَا سِيَّمَا الشِّرْكُ بِهِ.

(وَإِذْ قُلْتُمْ يَامُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً) أَيْ وَاذْكُرُوا إِذْ قُلْتُمْ لِنَبِيِّكُمْ: يَا مُوسَى لَنْ نُصَدِّقَ بِمَا جِئْتَ بِهِ تَصْدِيقَ إِذْعَانٍ وَاتِّبَاعٍ، حَتَّى نَرَى اللهَ عِيَانًا جَهْرَةً، فَيَأْمُرُنَا بِالْإِيمَانِ لَكَ، (فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) أَيْ فَأَخَذَتِ الْقَائِلِينَ ذَلِكَ مِنْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ بِأَعْيُنِكُمْ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ هَذَا بِالتَّفْصِيلِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ، فَالْقِصَّةُ هُنَالِكَ مَقْصُودَةٌ بِكُلِّ مَا فِيهَا مِنْ فَائِدَةٍ وَعِبْرَةٍ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ بِهَا هُنَا التَّذْكِيرُ كَمَا تَقَدَّمَ.

قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: سُؤَالُ بَنِي إِسْرَائِيلَ رُؤْيَةَ اللهِ - تَعَالَى - وَاقِعَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ لَا تَتَّصِلُ بِمَسْأَلَةِ عِبَادَةِ الْعِجْلِ، وَهِيَ مَعْرُوفَةٌ عِنْدَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَمَنْصُوصَةٌ فِي كِتَابِهِمْ، وَذَلِكَ أَنَّ طَائِفَةً مِنْهُمْ قَالُوا: لِمَاذَا اخْتُصَّ مُوسَى وَهَارُونُ بِكَلَامِ اللهِ - تَعَالَى - مِنْ دُونِنَا؟ وَانْتَشَرَ هَذَا الْقَوْلُ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَتَجَرَّأَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ بَعْدَ مَوْتِ هَارُونَ وَهَاجُوا عَلَى مُوسَى وَبَنِي هَارُونَ وَقَالُوا لَهُمْ: إِنَّ نِعْمَةَ اللهِ عَلَى شَعْبِ إِسْرَائِيلَ هِيَ لِأَجْلِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ، فَتَشْمَلُ جَمِيعَ الشَّعْبِ، وَقَالُوا لِمُوسَى: لَسْتَ أَفْضَلَ مِنَّا، فَلَا يَحِقُّ لَكَ أَنْ تَتَرَفَّعَ وَتَسُودَ عَلَيْنَا بِلَا مَزِيَّةٍ، وَإِنَّنَا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً، فَأَخَذَهُمْ إِلَى خَيْمَةِ الْعَهْدِ فَانْشَقَّتِ الْأَرْضُ وَابْتَلَعَتْ طَائِفَةً مِنْهُمْ، وَجَاءَتْ نَارٌ مِنَ الْجَانِبِ الْآخَرِ فَأَخَذَتِ الْبَاقِينَ، وَهَذِهِ النَّارُ هِيَ الْمُعَبَّرُ عَنْهَا هُنَا بِالصَّاعِقَةِ، وَهَلْ ثَمَّةَ مِنْ نَارٍ غَيْرُ الِاشْتِعَالِ بِالْكَهْرَبَاءِ، وَهُوَ مَا تُحْدِثُهُ الصَّاعِقَةُ الَّتِي تُحْدِثُ الِانْشِقَاقَ فِي الْأَرْضِ

ص: 266

أَيْضًا؟ . وَقَدْ أَخَذَ هَذَا الْعَذَابُ تِلْكَ الطَّائِفَةَ وَالْآخَرُونَ يَنْظُرُونَ، وَهَكَذَا بَنُو إِسْرَائِيلَ يَتَمَرَّدُونَ وَيُعَانِدُونَ مُوسَى عليه السلام، وَكَانَ سَوْطُ عَذَابِ اللهِ

يُصَبُّ عَلَيْهِمْ، فَرُمُوا بِالْأَمْرَاضِ وَالْأَوْبِئَةِ، وَسُلِّطَتْ عَلَيْهِمُ الْهَوَامُّ وَغَيْرُهَا حَتَّى أَمَاتَتْ مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا، فَمُجَاحَدَتُهُمْ وَمُعَانَدَتُهُمْ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَمْ تَكُنْ بِدْعًا مِنْ أَعْمَالِهِمْ.

قَالَ - تَعَالَى -: (ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) ذَهَبَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْبَعْثِ هُوَ كَثْرَةُ النَّسْلِ، أَيْ أَنَّهُ بَعْدَمَا وَقَعَ فِيهِمُ الْمَوْتُ بِالصَّاعِقَةِ وَغَيْرِهَا وَظُنَّ أَنْ سَيَنْقَرِضُونَ بَارَكَ اللهُ فِي نَسْلِهِمْ؛ لِيُعِدَّ الشَّعْبَ - بِالْبَلَاءِ السَّابِقِ - لِلْقِيَامِ بِحَقِّ الشُّكْرِ عَلَى النِّعَمِ الَّتِي تَمَتَّعَ بِهَا الْآبَاءُ الَّذِينَ حَلَّ بِهِمُ الْعَذَابُ بِكُفْرِهِمْ لَهَا.

وَالْعِبْرَةُ الِاجْتِمَاعِيَّةُ فِي الْآيَاتِ أَنَّ الْخِطَابَ فِي كُلِّ مَا تَقَدَّمَ كَانَ مُوَجَّهًا إِلَى الَّذِينَ كَانُوا فِي عَصْرِ التَّنْزِيلِ، وَأَنَّ الْكَلَامَ عَنِ الْأَبْنَاءِ وَالْآبَاءِ وَاحِدٌ لَمْ تَخْتَلِفْ فِيهِ الضَّمَائِرُ حَتَّى كَأَنَّ الَّذِينَ قَتَلُوا أَنْفُسَهُمْ بِالتَّوْبَةِ وَالَّذِينَ صُعِقُوا بَعْدَ ذَلِكَ هُمُ الْمُطَالَبُونَ بِالِاعْتِبَارِ وَبِالشُّكْرِ، وَمَا جَاءَ الْخِطَابُ بِهَذَا الْأُسْلُوبِ إِلَّا لِبَيَانِ مَعْنَى وِحْدَةِ الْأُمَّةِ، وَاعْتِبَارِ أَنَّ كُلَّ مَا يَبْلُوهَا اللهُ بِهِ مِنَ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ، وَمَا يُجَازِيهَا بِهِ مِنَ النِّعَمِ وَالنِّقَمِ، إِنَّمَا يَكُونُ لِمَعْنًى مَوْجُودٍ فِيهَا يَصِحُّ أَنْ يُخَاطَبَ اللَّاحِقُ مِنْهَا بِمَا كَانَ لِلسَّابِقِ، كَأَنَّهُ وَقَعَ بِهِ؛ لِيَعْلَمَ النَّاسُ أَنَّ سُنَّةَ اللهِ - تَعَالَى - فِي الِاجْتِمَاعِ الْإِنْسَانِيِّ أَنْ تَكُونَ الْأُمَمُ مُتَكَافِلَةً، يَعْتَبِرُ كُلُّ فَرْدٍ مِنْهَا سَعَادَتَهُ بِسَعَادَةِ سَائِرِ الْأَفْرَادِ وَشَقَاءَهُ بِشَقَائِهِمْ، وَيَتَوَقَّعُ نُزُولَ الْعُقُوبَةِ إِذَا فَشَتِ الذُّنُوبُ فِي الْأُمَّةِ وَإِنْ لَمْ يُوَاقِعْهَا هُوَ (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً) (8: 25) وَهَذَا التَّكَافُلُ فِي الْأُمَمِ هُوَ الْمِعْرَاجُ الْأَعْظَمُ لِرُقِيِّهَا؛ لِأَنَّهُ يَحْمِلُ الْأُمَّةَ الَّتِي تَعْرِفُهُ عَلَى التَّعَاوُنِ عَلَى الْخَيْرِ وَالْمُقَاوَمَةِ لِلشَّرِّ فَتَكُونُ مِنَ الْمُفْلِحِينَ.

بَعْدَ هَذَا ذَكَرَ اللهُ - تَعَالَى - نِعْمَةً أُخْرَى، بَلْ نِعْمَتَيْنِ مِنَ النِّعَمِ الَّتِي مَنَّ بِهَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَكَفَرُوا بِهَا، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ مَا كَانَ بِهِ الْكُفْرَانُ، بَلْ طَوَاهُ وَأَشَارَ بِمَا خَتَمَ بِهِ الْآيَةَ مِنْ أَنَّهُمْ لَمْ يَظْلِمُوا اللهَ - تَعَالَى - بِذَلِكَ الذَّنْبِ الْمَطْوِيِّ وَإِنَّمَا ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ، وَهَذَا أُسْلُوبٌ آخَرُ مِنْ أَسَالِيبِ الْبَيَانِ فِي التَّذْكِيرِ، وَضَرْبٌ مِنْ ضُرُوبِ الْإِيجَازِ الَّتِي هِيَ أَقْوَى دَعَائِمِ الْإِعْجَازِ.

أَمَّا النِّعْمَةُ الْأُولَى فَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: (وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ) قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: هَذِهِ نِعْمَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ مُتَّصِلَةٌ بِمَا قَبْلَهَا فِي سِيَاقِ الذِّكْرَى، مُنْفَصِلَةٌ عَنْهَا فِي الْوُقُوعِ، فَإِنَّ التَّظْلِيلَ اسْتَمَرَّ إِلَى دُخُولِهِمْ أَرْضَ الْمِيعَادِ، وَلَوْلَا أَنْ سَاقَ اللهُ إِلَيْهِمُ الْغَمَامَ يُظَلِّلُهُمْ فِي

التِّيهِ لَسَفَعَتْهُمُ الشَّمْسُ وَلَفَحَتْ وُجُوهَهُمْ. وَقَالَ: لَا مَعْنَى لِوَصْفِ الْغَمَامِ بِالرَّقِيقِ كَمَا قَالَ الْمُفَسِّرُ (الْجَلَالُ) وَغَيْرُهُ، بَلِ السِّيَاقُ يَقْتَضِي كَثَافَتَهُ إِذْ لَا يَحْصُلُ الظِّلُّ الظَّلِيلُ الَّذِي يُفِيدُهُ حَرْفُ التَّظْلِيلِ إِلَّا بِسَحَابٍ كَثِيفٍ يَمْنَعُ حَرَّ الشَّمْسِ وَوَهَجَهَا، وَكَذَلِكَ لَا تَتِمُّ النِّعْمَةُ الَّتِي بِهَا الْمِنَّةُ إِلَّا بِالْكَثِيفِ، وَهُوَ الْمَنْقُولُ الْمَعْرُوفُ عِنْدَ الْإِسْرَائِيلِيِّينَ أَنْفُسِهِمْ.

ص: 267