الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَقَدْ يُصِيبُهُمُ النَّقْصُ فِي أَمْوَالِهِمْ، وَعَافِيَةِ أَبْدَانِهِمْ، وَقُوَّةِ عُقُولِهِمْ. وَلَكِنَّ هَذَا كُلَّهُ لَا يُقَابِلُ بَعْضَ أَعْمَالِهِمُ الْقَبِيحَةِ، لَا سِيَّمَا الْمُلُوكُ وَالْأُمَرَاءُ الَّذِينَ تَشْقَى بِأَعْمَالِهِمُ السَّيِّئَةِ أُمَمٌ وَشُعُوبٌ. كَذَلِكَ نَرَى مِنَ الْمُحْسِنِينَ فِي أَنْفُسِهِمْ وَلِلنَّاسِ مَنْ يُبْتَلَى بِهَضْمِ حُقُوقِهِ، وَلَا يَنَالُ الْجَزَاءَ الَّذِي يَسْتَحِقُّهُ عَلَى عَمَلِهِ، فَإِنْ كَانَ قَدْ يَنَالُ رِضَاءَ نَفْسِهِ وَسَلَامَةَ أَخْلَاقِهِ وَصِحَّةَ مَلَكَاتِهِ، فَمَا ذَلِكَ كُلُّ مَا يَسْتَحِقُّ، وَفِي ذَلِكَ الْيَوْمِ يُوَفَّى كُلُّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الْعَالَمِينَ جَزَاءَهُ كَامِلًا لَا يُظْلَمُ شَيْئًا مِنْهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:(فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ)
(99: 7 - 8)
عَلَّمَنَا اللهُ أَنَّهُ رَحْمَنُ رَحِيمٌ لِيَجْذِبَ قُلُوبَنَا إِلَيْهِ، وَلَكِنْ هَلْ يَشْعُرُ كُلُّ عِبَادِهِ بِهَذِهِ الْمِنَّةِ فَيَنْجَذِبُوا إِلَيْهِ الِانْجِذَابَ الْمَطْلُوبَ؟ أَلَيْسَ فِينَا مَنْ يَسْلُكُ كُلَّ سَبِيلٍ لَا يُبَالِي بِمُسْتَقِيمٍ وَمُعْوَجٍّ؟ بَلَى، وَلِهَذَا أَعْقَبَ سُبْحَانَهُ ذِكْرَ الرَّحْمَةِ بِذِكْرِ الدِّينِ، فَعَرَفْنَا أَنَّهُ يَدِينُ الْعِبَادَ وَيُجَازِيهِمْ عَلَى أَعْمَالِهِمْ فَكَانَ مِنْ رَحْمَتِهِ بِعِبَادِهِ أَنْ رَبَّاهُمْ بِنَوْعَيِ التَّرْبِيَةِ كِلَيْهِمَا: التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ، كَمَا تَشْهَدُ بِذَلِكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ الْكَثِيرَةُ (نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ) (1
5:
49 - 50) .
(إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ مَا هِيَ الْعِبَادَةُ؟ يَقُولُونَ هِيَ الطَّاعَةُ مَعَ غَايَةِ الْخُضُوعِ، وَمَا كُلُّ عِبَارَةٍ تُمَثِّلُ الْمَعْنَى تَمَامَ التَّمْثِيلِ، وَتُجَلِّيهِ لِلْأَفْهَامِ وَاضِحًا لَا يَقْبَلُ التَّأْوِيلَ، فَكَثِيرًا مَا يُفَسِّرُونَ الشَّيْءَ بِبَعْضِ لَوَازِمِهِ وَيُعَرِّفُونَ الْحَقِيقَةَ بِرُسُومِهَا، بَلْ يَكْتَفُونَ أَحْيَانًا بِالتَّعْرِيفِ اللَّفْظِيِّ وَيُبَيِّنُونَ الْكَلِمَةَ بِمَا يَقْرُبُ مِنْ مَعْنَاهَا، وَمِنْ ذَلِكَ هَذِهِ الْعِبَارَةُ الَّتِي شَرَحُوا بِهَا مَعْنَى الْعِبَادَةِ، فَإِنَّ فِيهَا إِجْمَالًا وَتَسَاهُلًا. وَإِنَّنَا إِذَا تَتَبَّعْنَا آيَ الْقُرْآنِ وَأَسَالِيبَ اللُّغَةِ وَاسْتِعْمَالَ الْعَرَبِ لِـ " عَبَدَ " وَمَا يُمَاثِلُهَا وَيُقَارِبُهَا فِي الْمَعْنَى - كَخَضَعَ وَخَنَعَ وَأَطَاعَ وَذَلَّ - نَجِدُ أَنَّهُ لَا شَيْءَ مِنْ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ يُضَاهِي " عَبَدَ " وَيَحِلُّ مَحَلَّهَا وَيَقَعُ مَوْقِعَهَا، وَلِذَلِكَ قَالُوا: إِنَّ لَفْظَ " الْعِبَادِ " مَأْخُوذٌ مِنَ الْعِبَادَةِ، فَتَكْثُرُ إِضَافَتُهُ إِلَى اللهِ تَعَالَى، وَلَفْظَ " الْعَبِيدِ " تَكْثُرُ إِضَافَتُهُ إِلَى غَيْرِ اللهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنَ الْعُبُودِيَّةِ بِمَعْنَى الرِّقِّ، وَفَرْقٌ بَيْنَ الْعِبَادَةِ وَالْعُبُودِيَّةِ بِذَلِكَ الْمَعْنَى، وَمِنْ هُنَا قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إِنَّ الْعِبَادَةَ لَا تَكُونُ فِي اللُّغَةِ إِلَّا لِلَّهِ تَعَالَى، وَلَكِنَّ اسْتِعْمَالَ الْقُرْآنِ يُخَالِفُهُ.
يَغْلُو الْعَاشِقُ فِي تَعْظِيمِ مَعْشُوقِهِ وَالْخُضُوعِ لَهُ غُلُوًّا كَبِيرًا حَتَّى يَفْنَى هَوَاهُ فِي هَوَاهُ، وَتَذُوبَ إِرَادَتُهُ فِي إِرَادَتِهِ، وَمَعَ ذَلِكَ لَا يُسَمَّى خُضُوعُهُ هَذَا عِبَادَةً بِالْحَقِيقَةِ، وَيُبَالِغُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ فِي تَعْظِيمِ الرُّؤَسَاءِ وَالْمُلُوكِ وَالْأُمَرَاءِ، فَتَرَى مِنْ خُضُوعِهِمْ لَهُمْ وَتَحَرِّيهِمْ مَرْضَاتَهُمْ مَا لَا تَرَاهُ مِنَ الْمُتَحَنِّثِينَ الْقَانِتِينَ، دَعْ سَائِرَ الْعَابِدِينَ، وَلَمْ يَكُنِ الْعَرَبُ يُسَمُّونَ شَيْئًا مِنْ هَذَا الْخُضُوعِ عِبَادَةً، فَمَا هِيَ الْعِبَادَةُ إِذًا؟
تَدَلُّ الْأَسَالِيبُ الصَّحِيحَةُ، وَالِاسْتِعْمَالُ الْعَرَبِيُّ الصُّرَاحُ عَلَى أَنَّ الْعِبَادَةَ ضَرْبٌ
مِنَ الْخُضُوعِ بَالِغٌ حَدَّ النِّهَايَةِ، نَاشِئٌ عَنِ اسْتِشْعَارِ الْقَلْبِ عَظَمَةً لِلْمَعْبُودِ لَا يَعْرِفُ مَنْشَأَهَا، وَاعْتِقَادِهِ بِسُلْطَةٍ لَهُ لَا يُدْرِكُ كُنْهَهَا وَمَاهِيَتَهَا. وَقُصَارَى مَا يَعْرِفُهُ مِنْهَا أَنَّهَا مُحِيطَةٌ بِهِ، وَلَكِنَّهَا فَوْقَ إِدْرَاكِهِ، فَمَنْ يَنْتَهِي إِلَى أَقْصَى الذُّلِّ لِمَلِكٍ مِنَ الْمُلُوكِ لَا يُقَالُ إِنَّهُ عَبَدَهُ وَإِنْ قَبَّلَ مَوْطِئَ أَقْدَامِهِ، مَا دَامَ سَبَبُ الذُّلِّ وَالْخُضُوعِ مَعْرُوفًا وَهُوَ الْخَوْفُ مِنْ ظُلْمِهِ الْمَعْهُودِ، أَوِ الرَّجَاءُ بِكَرَمِهِ الْمَحْدُودِ، اللهُمَّ إِلَّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الَّذِينَ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ الْمُلْكَ قُوَّةٌ غَيْبِيَّةٌ سَمَاوِيَّةٌ أُفِيضَتْ عَلَى الْمُلُوكِ مِنَ الْمَلَأِ الْأَعْلَى، وَاخْتَارَتْهُمْ لِلِاسْتِعْلَاءِ عَلَى سَائِرِ أَهْلِ الدُّنْيَا، لِأَنَّهُمْ أَطْيَبُ النَّاسِ عُنْصُرًا، وَأَكْرَمُهُمْ جَوْهَرًا، وَهَؤُلَاءِ هُمُ الَّذِينَ انْتَهَى بِهِمْ هَذَا الِاعْتِقَادُ إِلَى الْكُفْرِ وَالْإِلْحَادِ، فَاتَّخَذُوا الْمُلُوكَ آلِهَةً وَأَرْبَابًا وَعَبَدُوهُمْ عِبَادَةً حَقِيقِيَّةً.
لِلْعِبَادَةِ صُوَرٌ كَثِيرَةٌ فِي كُلِّ دِينٍ مِنَ الْأَدْيَانِ شُرِعَتْ لِتَذْكِيرِ الْإِنْسَانِ بِذَلِكَ الشُّعُورِ بِالسُّلْطَانِ الْإِلَهِيِّ الْأَعْلَى الَّذِي هُوَ رُوحُ الْعِبَادَةِ وَسِرُّهَا، وَلِكُلِّ عِبَادَةٍ مِنَ الْعِبَادَاتِ الصَّحِيحَةِ أَثَرٌ فِي تَقْوِيمِ أَخْلَاقِ الْقَائِمِ بِهَا وَتَهْذِيبِ نَفْسِهِ، وَالْأَثَرُ إِنَّمَا يَكُونُ عَنْ ذَلِكَ الرُّوحِ، وَالشُّعُورِ الَّذِي قُلْنَا إِنَّهُ مَنْشَأُ التَّعْظِيمِ وَالْخُضُوعِ، فَإِذَا وُجِدَتْ صُورَةُ الْعِبَادَةِ خَالِيَةً مِنْ هَذَا الْمَعْنَى لَمْ تَكُنْ عِبَادَةً، كَمَا أَنَّ صُورَةَ الْإِنْسَانِ وَتِمْثَالَهُ لَيْسَ إِنْسَانًا.
خُذْ إِلَيْكَ عِبَادَةَ الصَّلَاةِ مَثَلًا، وَانْظُرْ كَيْفَ أَمَرَ اللهُ بِإِقَامَتِهَا دُونَ مُجَرَّدِ الْإِتْيَانِ بِهَا، وَإِقَامَةُ الشَّيْءِ: هِيَ الْإِتْيَانُ بِهِ مُقَوَّمًا كَامِلًا يَصْدُرُ عَنْ عِلَّتِهِ وَتَصْدُرُ عَنْهُ آثَارُهُ. وَآثَارُ الصَّلَاةِ وَنَتَائِجُهَا هِيَ مَا أَنْبَأَنَا اللهُ تَعَالَى بِهَا بِقَوْلِهِ: (إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ)(29: 45) وَقَوْلِهِ عز وجل: (إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا إِلَّا الْمُصَلِّينَ)(70: 19 - 22) وَقَدْ تَوَعَّدَ الَّذِينَ يَأْتُونَ بِصُورَةِ الصَّلَاةِ مِنَ الْحَرَكَاتِ وَالْأَلْفَاظِ مَعَ السَّهْوِ عَنْ مَعْنَى الْعِبَادَةِ وَسِرِّهَا فِيهَا الْمُؤَدِّي إِلَى غَايَتِهَا بِقَوْلِهِ: (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ)(107: 4 - 7) فَسَمَّاهُمْ مُصَلِّينَ، لِأَنَّهُمْ أَتَوْا بِصُورَةِ الصَّلَاةِ، وَوَصَفَهُمْ بِالسَّهْوِ عَنِ الصَّلَاةِ الْحَقِيقِيَّةِ الَّتِي هِيَ تَوَجُّهُ الْقَلْبِ إِلَى اللهِ تَعَالَى الْمُذَكِّرُ بِخَشْيَتِهِ، وَالْمُشْعِرُ لِلْقُلُوبِ
بِعِظَمِ سُلْطَانِهِ، ثُمَّ وَصَفَهُمْ بِأَثَرِ هَذَا السَّهْوِ وَهُوَ الرِّيَاءُ وَمَنْعُ الْمَاعُونِ. وَذَكَرَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ أَنَّ الرِّيَاءَ ضَرْبَانِ: رِيَاءُ النِّفَاقِ وَهُوَ الْعَمَلُ لِأَجْلِ رُؤْيَةِ النَّاسِ، وَرِيَاءُ الْعَادَةِ وَهُوَ الْعَمَلُ بِحُكْمِهَا مِنْ غَيْرِ مُلَاحِظَةِ مَعْنَى الْعَمَلِ وَسِرِّهِ وَفَائِدَتِهِ، وَلَا مُلَاحَظَةِ مَنْ يَعْمَلُ لَهُ وَيَتَقَرَّبُ إِلَيْهِ بِهِ، وَهُوَ مَا عَلَيْهِ أَكْثَرُ النَّاسِ، فَإِنَّ صَلَاةَ أَحَدِهِمْ فِي طَوْرِ الرُّشْدِ وَالْعَقْلِ هِيَ عَيْنُ مَا كَانَ يُحَاكِي بِهِ أَبَاهُ فِي طَوْرِ الطُّفُولِيَّةِ عِنْدَمَا يَرَاهُ يُصَلِّي - يَسْتَمِرُّ عَلَى ذَلِكَ بِحُكْمِ الْعَادَةِ مِنْ غَيْرِ فَهْمٍ وَلَا عَقْلٍ، وَلَيْسَ لِلَّهِ شَيْءٌ فِي هَذِهِ الصَّلَاةِ، وَقَدْ وَرَدَ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ: أَنَّ " مَنْ لَمْ تَنْهَهُ صَلَاتُهُ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ لَمْ يَزْدَدْ مِنَ اللهِ إِلَّا بُعْدًا " وَأَنَّهَا تُلَفُّ كَمَا يُلَفُّ
الثَّوْبُ الْبَالِي وَيُضْرَبُ بِهَا وَجْهُهُ " وَأَمَّا الْمَاعُونُ فَهُوَ الْمَعُونَةُ وَالْخَيْرُ الَّذِي تَقَدَّمَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى أَنَّ مِنْ شَأْنِ الْإِنْسَانِ أَنْ يَكُونَ مَنُوعًا لَهُ إِلَّا الْمُصَلِّينَ.
وَالِاسْتِعَانَةُ: طَلَبُ الْمَعُونَةِ، وَهِيَ إِزَالَةُ الْعَجْزِ وَالْمُسَاعَدَةُ عَلَى إِتْمَامِ الْعَمَلِ الَّذِي يَعْجِزُ الْمُسْتَعِينُ عَنِ الِاسْتِقْلَالِ بِهِ بِنَفْسِهِ.
ثُمَّ تَكَلَّمَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ عَلَى حَصْرِ الْعِبَادَةِ وَالِاسْتِعَانَةِ فِي اللهِ تَعَالَى الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ تَقْدِيمُ الْمَفْعُولِ (إِيَّاكَ) عَلَى الْفِعْلِ (نَعْبُدُ) وَ (نَسْتَعِينُ) فَقَالَ مَا مِثَالُهُ:
أَمَرَنَا اللهُ تَعَالَى بِأَلَّا نَعْبُدَ غَيْرَهُ؛ لِأَنَّ السُّلْطَةَ الْغَيْبِيَّةَ الَّتِي هِيَ وَرَاءَ الْأَسْبَابِ لَيْسَتْ إِلَّا لَهُ دُونَ غَيْرِهِ، فَلَا يُشَارِكُهُ فِيهَا أَحَدٌ فَيُعَظَّمُ تَعْظِيمَ الْعِبَادَةِ، وَأَمَرَنَا بِأَلَّا نَسْتَعِينَ بِغَيْرِهِ أَيْضًا، وَهَذَا يَحْتَاجُ إِلَى الْبَيَانِ؛ لِأَنَّهُ أَمَرَنَا أَيْضًا فِي آيَاتٍ أُخْرَى بِالتَّعَاوُنِ:(وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى)(5: 2) فَمَا مَعْنَى حَصْرِ الِاسْتِعَانَةِ بِهِ مَعَ ذَلِكَ؟
الْجَوَابُ: أَنَّ كُلَّ عَمَلٍ يَعْمَلُهُ الْإِنْسَانُ تَتَوَقَّفُ ثَمَرَتُهُ وَنَجَاحُهُ عَلَى حُصُولِ الْأَسْبَابِ الَّتِي اقْتَضَتِ الْحِكْمَةُ الْإِلَهِيَّةُ أَنْ تَكُونَ مُؤَدِّيَةً إِلَيْهِ وَانْتِفَاءِ الْمَوَانِعِ الَّتِي مِنْ شَأْنِهَا بِمُقْتَضَى الْحِكْمَةِ أَنْ تَحُولَ دُونَهُ وَقَدْ مَكَّنَ اللهُ تَعَالَى الْإِنْسَانَ بِمَا أَعْطَاهُ مِنَ الْعِلْمِ وَالْقُوَّةِ مِنْ دَفْعِ بَعْضِ الْمَوَانِعِ وَكَسْبِ بَعْضِ الْأَسْبَابِ، وَحَجَبَ عَنْهُ الْبَعْضَ الْآخَرَ، فَيَجِبُ عَلَيْنَا أَنْ نَقُومَ بِمَا فِي اسْتِطَاعَتِنَا مِنْ ذَلِكَ. وَنَبْذُلَ فِي إِتْقَانِ أَعْمَالِنَا كُلَّ مَا نَسْتَطِيعُ مِنْ حَوْلٍ وَقُوَّةٍ، وَأَنْ نَتَعَاوَنَ وَيُسَاعِدَ بَعْضُنَا بَعْضًا عَلَى ذَلِكَ. وَنُفَوِّضَ الْأَمْرَ فِيمَا وَرَاءَ كَسْبِنَا إِلَى الْقَادِرِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، وَنَلْجَأَ إِلَيْهِ وَحْدَهُ، وَنَطْلُبَ الْمَعُونَةَ الْمُتَمِّمَةَ لِلْعَمَلِ
وَالْمُوَاصَلَةِ لِثَمَرَتِهِ مِنْهُ سُبْحَانَهُ دُونَ سِوَاهُ، إِذْ لَا يَقْدِرُ عَلَى مَا وَرَاءَ الْأَسْبَابِ الْمَمْنُوحَةِ لِكُلِّ الْبِشْرِ عَلَى السَّوَاءِ إِلَّا مُسَبِّبُ الْأَسْبَابِ، وَرَبُّ الْأَرْبَابِ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى:" (وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ " مُتَمِّمٌ لِمَعْنَى قَوْلِهِ: " (إِيَّاكَ نَعْبُدُ " لِأَنَّ الِاسْتِعَانَةَ بِهَذَا الْمَعْنَى فَزَعٌ مِنَ الْقَلْبِ إِلَى اللهِ وَتَعَلُّقٌ مِنَ النَّفْسِ بِهِ، وَذَلِكَ مِنْ مُخِّ الْعِبَادَةِ، فَإِذَا تَوَجَّهَ الْعَبْدُ بِهَا إِلَى غَيْرِ اللهِ تَعَالَى كَانَ ضَرْبًا مِنْ ضُرُوبِ الْعِبَادَةِ الْوَثَنِيَّةِ الَّتِي كَانَتْ ذَائِعَةً فِي زَمَنِ التَّنْزِيلِ وَقَبْلَهُ، وَخُصَّتْ بِالذِّكْرِ لِئَلَّا يَتَوَهَّمَ الْجُهَلَاءُ أَنَّ الِاسْتِعَانَةَ بِمَنِ اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ مَنْ دُونِ اللهِ، وَاسْتَعَانُوا بِهِمْ فِيمَا وَرَاءَ الْأَسْبَابِ الْمُكْتَسِبَةِ لِعَامَّةِ النَّاسِ، هِيَ كَالِاسْتِعَانَةِ بِسَائِرِ النَّاسِ فِي الْأَسْبَابِ الْعَامَّةِ، فَأَرَادَ الْحَقُّ جَلَّ شَأْنُهُ أَنْ يَرْفَعَ هَذَا اللَّبْسَ عَنْ عِبَادِهِ بِبَيَانِ أَنَّ الِاسْتِعَانَةَ بِالنَّاسِ فِيمَا هُوَ فِي اسْتِطَاعَةِ النَّاسِ إِنَّمَا هُوَ ضَرْبٌ مِنَ اسْتِعْمَالِ الْأَسْبَابِ الْمَسْنُونَةِ، وَمَا مَنْزِلَتُهَا إِلَّا كَمَنْزِلَةِ الْآلَاتِ فِيمَا هِيَ آلَاتٌ لَهُ، بِخِلَافِ الِاسْتِعَانَةِ بِهِمْ فِي شُئُونٍ تَفُوقُ الْقُدْرَةَ وَالْقُوَى الْمَوْهُوبَةَ لَهُمْ، وَالْأَسْبَابَ الْمُشْتَرِكَةَ بَيْنَهُمْ، كَالِاسْتِعَانَةِ فِي شِفَاءِ الْمَرَضِ بِمَا وَرَاءَ الدَّوَاءِ، وَعَلَى غَلَبَةِ الْعَدُوِّ بِمَا وَرَاءَ الْعُدَّةِ وَالْعِدَّةِ، فَإِنَّ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَجُوزُ الْفَزَعُ وَالتَّوَجُّهُ فِيهِ إِلَى غَيْرِ اللهِ تَعَالَى صَاحِبِ السُّلْطَانِ الْأَعْظَمِ، عَلَى مَا لَا يَصِلُ إِلَيْهِ سُلْطَانُ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِ:
ضَرَبَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ مَثَلًا لِذَلِكَ، الزَّارِعُ يَبْذُلُ جُهْدَهُ فِي الْحَرْثِ وَالْعَزْقِ وَتَسْمِيدِ الْأَرْضِ وَرَيِّهَا، وَيَسْتَعِينُ بِاللهِ تَعَالَى عَلَى إِتْمَامِ ذَلِكَ بِمَنْعِ الْآفَاتِ وَالْجَوَائِحِ السَّمَاوِيَّةِ أَوِ الْأَرْضِيَّةِ، وَمَثَّلَ بِالتَّاجِرِ يَحْذِقُ فِي اخْتِيَارِ الْأَصْنَافِ، وَيَمْهَرُ فِي صِنَاعَةِ التَّرْوِيجِ، ثُمَّ يَتَوَكَّلُ عَلَى اللهِ فِيمَا بَعْدَ ذَلِكَ. ثُمَّ قَالَ: وَمِنْ هُنَا تَعْلَمُونَ أَنَّ الَّذِينَ يَسْتَعِينُونَ بِأَصْحَابِ الْأَضْرِحَةِ وَالْقُبُورِ عَلَى قَضَاءِ حَوَائِجِهِمْ، وَتَيْسِيرِ أُمُورِهِمْ، وَشِفَاءِ أَمْرَاضِهِمْ، وَنَمَاءِ حَرْثِهِمْ وَزَرْعِهِمْ، وَهَلَاكِ أَعْدَائِهِمْ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَصَالِحِ، هُمْ عَنْ صِرَاطِ التَّوْحِيدِ نَاكِبُونَ، وَعَنْ ذِكْرِ اللهِ مُعْرِضُونَ. أَرْشَدَتْنَا هَذِهِ الْكَلِمَةُ الْوَجِيزَةُ " (وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ " إِلَى أَمْرَيْنِ عَظِيمَيْنِ هُمَا مِعْرَاجُ السَّعَادَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ:
(أَحَدُهُمَا) : أَنْ نَعْمَلَ الْأَعْمَالَ النَّافِعَةَ، وَنَجْتَهِدَ فِي إِتْقَانِهَا مَا اسْتَطَعْنَا؛ لِأَنَّ طَلَبَ الْمَعُونَةِ لَا يَكُونُ إِلَّا عَلَى عَمَلٍ بَذَلَ فِيهِ الْمَرْءُ طَاقَتَهُ فَلَمْ
يُوَفِّهِ حَقَّهُ، أَوْ يَخْشَى أَلَّا يَنْجَحَ فِيهِ، فَيَطْلُبَ الْمَعُونَةَ عَلَى إِتْمَامِهِ وَكَمَالِهِ، فَمَنْ وَقَعَ مِنْ يَدِهِ الْقَلَمُ عَلَى الْمَكْتَبِ لَا يَطْلُبُ الْمَعُونَةَ مَنْ أَحَدٍ عَلَى إِمْسَاكِهِ، وَمَنْ وَقَعَ تَحْتَ عِبْءٍ ثَقِيلٍ يَعْجَزُ عَنِ النُّهُوضِ بِهِ وَحْدَهُ، يَطْلُبُ الْمَعُونَةَ مِنْ غَيْرِهِ عَلَى رَفْعِهِ، وَلَكِنْ بَعْدَ اسْتِفْرَاغِ الْقُوَّةِ فِي الِاسْتِقْلَالِ بِهِ، وَهَذَا الْأَمْرُ هُوَ مِرْقَاةُ السَّعَادَةِ الدُّنْيَوِيَّةِ، وَرُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ السَّعَادَةِ الْأُخْرَوِيَّةِ.
(ثَانِيهِمَا) : مَا أَفَادَهُ الْحَصْرُ مِنْ وُجُوبِ تَخْصِيصِ الِاسْتِعَانَةِ بِاللهِ تَعَالَى وَحْدَهُ فِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ، وَهُوَ رُوحُ الدِّينِ، وَكَمَالُ التَّوْحِيدِ الْخَالِصِ الَّذِي يَرْفَعُ نُفُوسَ مُعْتَقِدِيهِ وَيُخَلِّصُهَا مِنْ رِقِّ الْأَغْيَارِ، وَيَفُكُّ إِرَادَتَهُمْ مِنْ أَسْرِ الرُّؤَسَاءِ الرُّوحَانِيِّينَ، وَالشُّيُوخِ الدَّجَّالِينَ، وَيُطْلِقُ عَزَائِمَهُمْ مَنْ قَيْدِ الْمُهَيْمِنِينَ الْكَاذِبِينَ، مِنَ الْأَحْيَاءِ وَالْمَيِّتِينَ، فَيَكُونُ الْمُؤْمِنُ مَعَ النَّاسِ حُرًّا خَالِصًا وَسَيِّدًا كَرِيمًا، وَمَعَ اللهِ عَبْدًا خَاضِعًا (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) (33: 71) .
وَأَقُولُ أَيْضًا: عِبَادَةُ اللهِ تَعَالَى هِيَ غَايَةُ الشُّكْرِ لَهُ فِي الْقِيَامِ بِمَا يَجِبُ لِأُلُوهِيَّتِهِ، وَاسْتِعَانَتُهُ هِيَ غَايَةُ الشُّكْرِ لَهُ فِي الْقِيَامِ بِمَا يَجِبُ لِرُبُوبِيَّتِهِ، أَمَّا الْأَوَّلُ فَظَاهِرٌ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْإِلَهُ الْحَقُّ فَلَا يُعْبَدُ بِحَقٍّ سِوَاهُ، وَأَمَّا الثَّانِي: فَلِأَنَّهُ هُوَ الْمُرَبِّي لِلْعِبَادِ الَّذِي وَهَبَ لَهُمْ جَمِيعَ مَا تَكْمُلُ بِهِ تَرْبِيَتُهُمُ الصُّورِيَّةُ وَالْمَعْنَوِيَّةُ، وَمِنْ هُنَا تَعْلَمُ أَنَّ إِيرَادَ ذِكْرِ الْعِبَادَةِ وَالِاسْتِعَانَةِ بَعْدَ ذِكْرِ اسْمِ الْجَلَالَةِ الْأَعْظَمِ، وَاسْمِ الرَّبِّ الْأَكْرَمِ، إِنَّمَا هُوَ لِتَرَتُّبِهِمَا عَلَيْهِمَا مِنْ قَبِيلِ تَرْتِيبِ النَّشْرِ عَلَى اللَّفِّ. وَالِاسْتِعَانَةُ بِهَذَا الْمَعْنَى تَرَادِفُ التَّوَكُّلَ عَلَى اللهِ وَتَحُلُّ مَحَلَّهُ، وَهُوَ كَمَالُ التَّوْحِيدِ وَالْعِبَادَةِ الْخَالِصَةِ، وَلِذَلِكَ جَمَعَ الْقُرْآنُ بَيْنَهُمَا فِي مِثْلِ قَوْلِهِ تَعَالَى:(وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ)(11: 123) .
فَهَذِهِ الِاسْتِعَانَةُ هِيَ ثَمَرَةُ التَّوْحِيدِ وَاخْتِصَاصُ اللهِ تَعَالَى بِالْعِبَادَةِ، فَإِنَّ مِنْ مَعْنَى الْعِبَادَةِ: الشُّعُورَ بِأَنَّ السُّلْطَةَ الْغَيْبِيَّةَ الَّتِي هِيَ وَرَاءَ الْأَسْبَابِ الْعَامَّةِ، الْمَوْهُوبَةِ مِنَ اللهِ تَعَالَى لِعِبَادِهِ كَافَّةً، هِيَ لِلَّهِ وَحْدَهُ، كَمَا تَنْطِقُ بِهِ الْآيَةُ الَّتِي اسْتَشْهَدْنَا بِهَا آنِفًا عَلَى قَرْنِ الْعِبَادَةِ بِالتَّوَكُّلِ، فَمَنْ كَانَ
مُوَحِّدًا خَالِصًا لَا يَسْتَعِينُ بِغَيْرِ اللهِ تَعَالَى قَطُّ، فَمَا كَانَ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَعُونَةِ دَاخِلًا فِي حَلَقَاتِ سِلْسِلَةِ الْأَسْبَابِ كَانَ طَلَبَهُ بِسَبَبِهِ طَلَبًا مِنَ اللهِ تَعَالَى وَلَكِنَّهُ يَحْتَاجُ فِي تَحَقُّقِ ذَلِكَ إِلَى قَصْدٍ وَمُلَاحَظَةٍ وَشُهُودٍ قَلْبِيٍّ، وَمَا كَانَ غَيْرَ
دَاخِلٍ فِيهَا يَتَوَجَّهُ فِي طَلَبِهِ إِلَى اللهِ تَعَالَى بِلَا وَاسِطَةٍ وَلَا حِجَابٍ، وَبِهَذَا الْبَيَانِ تَعْلَمُ أَنَّهُ لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ التَّوْحِيدِ وَالتَّوَكُّلِ وَبَيْنَ الْأَخْذِ بِالْأَسْبَابِ وَإِقَامَةِ سُنَنِ اللهِ تَعَالَى فِيهَا، بَلِ الْكَمَالُ وَالْأَدَبُ فِي الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا، فَالسَّيِّدُ الْمَالِكُ إِذَا نَصَبَ لِعَبْدِهِ وَخَدَمِهِ مَائِدَةً يَأْكُلُونَ مِنْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا، وَجَعَلَ لَهُمْ خَدَمًا يَقُومُونَ بِأَمْرِهَا، لَا يَكُونُ طَلَبُ الطَّعَامِ مِنْهُ إِلَّا بِالِاخْتِلَافِ إِلَى الْمَائِدَةِ، وَإِنَّمَا يَنْبَغِي أَلَّا يَغْفُلُوا بِهَا وَبِخَدَمِهَا عَنْ ذِكْرِ صَاحِبِ الْفَضْلِ الَّذِي أَنْشَأَهَا بِمَالِهِ وَسَخَّرَ أُولَئِكَ الْخَدَمَ لِلْآكِلِينَ عَلَيْهَا، وَلَا عَنْ حَمْدِهِ وَشُكْرِهِ، فَهَذَا مِثَالُ مَائِدَةِ الْكَوْنِ بِأَسْبَابِهِ وَمُسَبِّبَاتِهِ، وَالْعَبْدُ إِذَا احْتَاجَ شَيْئًا مِنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي لَمْ يَجْعَلْهَا سَيِّدُهُ مَبْذُولَةً لِجَمِيعِ عَبِيدِهِ فِي كُلِّ وَقْتٍ، طَلَبَهُ مِنْهُ دُونَ سِوَاهُ، فَإِنْ أَظْهَرَ الْحَاجَةَ إِلَى غَيْرِهِ كَانَ ذَلِكَ مِنْ قِلَّةِ ثِقَتِهِ بِمَوْلَاهُ، وَجَعَلَ ذَلِكَ الْغَيْرَ فِي مَرْتَبَتِهِ أَوْ أَجْدَرَ مِنْهُ بِالْفَضْلِ. هَذَا فِي الْعَبِيدِ مَعَ السَّادَةِ الَّذِينَ لَهُمْ نُظَرَاءٌ وَأَنْدَادٌ، فَكَيْفَ إِذَا كَانَ الْعَبْدُ الَّذِي يَتَوَجَّهُ إِلَى غَيْرِ مَوْلَاهُ، لَا يَجِدُ مَنْ يَتَوَجَّهُ إِلَيْهِ سِوَاهُ، إِلَّا أَمْثَالَهُ مِنَ الْعَبِيدِ الْمُحْتَاجِينَ إِلَى الْمَوْلَى مِثْلِهِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ السَّيِّدُ الصَّمَدُ الَّذِي لَيْسَ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ؟
ثُمَّ إِنَّ لَفْظَ الِاسْتِعَانَةِ يُشْعِرُ بِأَنْ يَطْلُبَ الْعَبْدُ مِنَ الرَّبِّ تَعَالَى الْإِعَانَةَ عَلَى شَيْءٍ لَهُ فِيهِ كَسْبٌ لِيُعِينَهُ عَلَى الْقِيَامِ بِهِ، وَفِي هَذَا تَكْرِيمٌ لِلْإِنْسَانِ بِجَعْلِ عَمَلِهِ أَصْلًا فِي كُلِّ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ لِإِتْمَامِ تَرْبِيَةِ نَفْسِهِ وَتَزْكِيَتِهَا، وَإِرْشَادٍ لَهُ إِلَى أَنَّ تَرْكَ الْعَمَلِ وَالْكَسْبِ، لَيْسَ مِنْ سُنَّةِ الْفِطْرَةِ وَلَا مِنْ هَدْيِ الشَّرِيعَةِ، فَمَنْ تَرَكَهُ كَانَ كَسُولًا مَذْمُومًا لَا مُتَوَكِّلًا مَحْمُودًا، وَبِتَذْكِيرِهِ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى بِضَعْفِهِ لِكَيْلَا يَغْتَرَّ، فَيَتَوَهَّمَ أَنَّهُ مُسْتَغْنٍ بِكَسْبِهِ عَنْ عِنَايَةِ رَبِّهِ، فَيَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ فِي عَاقِبَةِ أَمْرِهِ.
إِذَا تَدَبَّرْتَ هَذَا فَهِمْتَ مِنْهُ نُكْتَةً مِنْ نُكَتِ تَقْدِيمِ الْعِبَادَةِ عَلَى الِاسْتِعَانَةِ، وَهِيَ أَنَّ الثَّانِيَةَ ثَمَرَةٌ لِلْأَوْلَى، وَلَا يُنَافِي هَذَا أَنَّ الْعِبَادَةَ نَفْسَهَا مِمَّا يُسْتَعَانُ عَلَيْهِ بِاللهِ تَعَالَى لِيُوَفَّقَ الْعَابِدُ لِلْإِتْيَانِ بِهَا عَلَى الْوَجْهِ الْمُرْضِي لَهُ عز وجل. لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ؛ لِأَنَّ الثَّمَرَةَ الَّتِي تَخْرُجُ مِنَ الشَّجَرَةِ تَكُونُ حَاوِيَةً لِلنَّوَاةِ الَّتِي تَخْرُجُ مِنْهَا شَجَرَةٌ أُخْرَى. فَالْعِبَادَةُ تَكُونُ سَبَبًا لِلْمَعُونَةِ مِنْ وَجْهٍ، وَالْمَعُونَةُ تَكُونُ سَبَبًا لِلْعِبَادَةِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، كَذَلِكَ الْأَعْمَالُ تُكَوِّنُ الْأَخْلَاقَ الَّتِي هِيَ مَنَاشِئُ الْأَعْمَالِ، فَكُلٌّ مِنْهُمَا سَبَبٌ وَمُسَبَّبٌ وَعِلَّةٌ وَمَعْلُولٌ، وَالْجِهَةُ مُخْتَلِفَةٌ فَلَا دَوْرَ فِي الْمَسْأَلَةِ.
وَأَقُولُ أَيْضًا إِنَّ نُكْتَةَ تَقْدِيمِ " إِيَّاكِ " عَلَى الْفِعْلَيْنِ " نَعْبُدُ، وَنَسْتَعِينُ " هِيَ إِفَادَةُ الِاخْتِصَاصِ وَالْحَصْرِ عَلَى الْمَشْهُورِ الَّذِي جَرَى عَلَيْهِ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ كَغَيْرِهِ فَالْمَعْنَى إِذًا: نَعْبُدُكَ وَلَا نَعْبُدُ غَيْرَكَ وَنَسْتَعِينُكَ وَلَا نَسْتَعِينُ بِسِوَاكَ. وَقَدِ اسْتَخْرَجَ لَهُ بَعْضُ الْغَوَّاصِينَ عَلَى الْمَعَانِي
نُكَتًا أُخْرَى (مِنْهَا) أَنَّ " إِيَّاكَ " ضَمِيرٌ رَاجِعٌ إِلَى اللهِ تَعَالَى، وَقِيلَ إِنَّ " إِيَّا " اسْمٌ ظَاهِرٌ مُضَافٌ إِلَى الضَّمِيرِ الَّذِي هُوَ الْكَافُ، فَتَقْدِيمُهُ عَلَى الْوَجْهَيْنِ يُؤْذِنُ بِالِاهْتِمَامِ بِهِ الَّذِي هُوَ الْعِلَّةُ الْأَصْلِيَّةُ الْعَامَّةُ لِلتَّقْدِيمِ فِي هَذِهِ اللُّغَةِ (وَمِنْهَا) أَنَّهُ مِنَ الْأَدَبِ أَيْضًا، (وَمِنْهَا) أَنَّ إِفَادَةَ الْحَصْرِ بِهَذَا الِاسْمِ أَوِ " الضَّمِيرِ " الْمُقَدَّمِ عَلَى الْفِعْلِ أَبْلَغُ مِنْ إِفَادَةِ الْحَصْرِ بِالضَّمِيرِ الْمُتَّصِلِ الَّذِي يُقْرَنُ بِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مِنَ الْكَلِمِ، كَقَوْلِكَ: إِنَّمَا نَعْبُدُكَ وَإِنَّمَا نَسْتَعِينُكَ، أَوْ نَسْتَعِينُ بِكَ وَحْدَكَ وَإِعَادَةُ، إِيَّاكَ مَعَ الْفِعْلِ الثَّانِي يُفِيدُ أَنَّ كُلًّا مِنَ الْعِبَادَةِ وَالِاسْتِعَانَةِ مَقْصُودٌ بِالذَّاتِ فَلَا يَسْتَلْزِمُ كُلٌّ مِنْهُمَا الْآخَرَ. ذَلِكَ بِأَنَّ الِاسْتِعَانَةَ بِاللهِ تَعَالَى يَجِبُ أَنْ تَكُونَ عَامَّةً فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ لَا يَسْتَعِينُ بِاللهِ عَلَى شَيْءٍ مِنْ أَعْمَالِهِ الِاخْتِيَارِيَّةِ، زَعْمًا مِنْهُمْ أَنَّهُمْ يَسْتَقِلُّونَ بِذَلِكَ بِدُونِ إِعَانَةٍ خَاصَّةٍ مِنْهُ تَعَالَى كَالْقَدَرِيَّةِ. وَأَفْضَلُ الِاسْتِعَانَةِ مَا كَانَ عَلَى الطَّاعَةِ وَالْخَيْرِ، وَقَدْ أَخَذَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِيَدِ مُعَاذٍ يَوْمًا وَقَالَ:" وَاللهِ إِنِّي لِأُحِبُّكَ، أُوصِيكِ يَا مُعَاذُ لَا تَدَعَنَّ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ أَنْ تَقُولَ: " اللهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ عِبَادَتِكَ " وَقَدْ رَوَيْنَا هَذَا الْمَعْنَى فِي الْأَحَادِيثِ الْمُسَلْسَلَةِ. قَالَ لِي شَيْخُنَا أَبُو الْمَحَاسِنِ مُحَمَّدٌ الْقَاوَقْجِيُّ فِي طَرَابُلُسَ الشَّامِ: " إِنِّي أُحِبُّكَ فَقُلِ: اللهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ "، قَالَ لِي شَيْخُنَا مُحَمَّدُ عَابِدٌ السَّنَدِيُّ فِي الْحَرَمِ النَّبَوِيِّ الشَّرِيفِ: " إِنِّي أُحِبُّكَ " إِلَخْ وَذَكَرَ سَنَدَهُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
(اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ
ذَكَرَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ أَوَّلًا مَا قَالُوهُ فِي مَعْنَى الْهِدَايَةِ لُغَةً مِنْ أَنَّهَا: الدَّلَالَةُ بِلُطْفٍ عَلَى مَا يُوَصِّلُ إِلَى الْمَطْلُوبِ، ثُمَّ بَيَّنَ أَنْوَاعَهَا وَمَرَاتِبَهَا فَقَالَ مَا مِثَالُهُ: مَنَحَ اللهُ تَعَالَى الْإِنْسَانَ أَرْبَعَ هِدَايَاتٍ يَتَوَصَّلُ بِهَا إِلَى سَعَادَتِهِ.
(أُولَاهَا) : هِدَايَةُ الْوُجْدَانِ الطَّبِيعِيِّ وَالْإِلْهَامُ الْفِطْرِيُّ. وَتَكُونُ لِلْأَطْفَالِ مُنْذُ وِلَادَتِهِمْ، فَإِنَّ الطِّفْلَ بَعْدَ مَا يُولَدُ
يَشْعُرُ بِأَلَمِ الْحَاجَةِ إِلَى الْغِذَاءِ فَيَصْرُخُ طَالِبًا لَهُ بِفِطْرَتِهِ، وَعِنْدَمَا يَصِلُ الثَّدْيُ إِلَى فِيهِ يُلْهَمُ الْتِقَامَهُ وَامْتِصَاصَهُ.
(الثَّانِيَةُ) : هِدَايَةُ الْحَوَّاسِ وَالْمَشَاعِرِ، وَهِيَ مُتَمِّمَةٌ لِلْهِدَايَةِ الْأُولَى فِي الْحَيَاةِ الْحَيَوَانِيَّةِ، وَيُشَارِكُ الْإِنْسَانَ فِيهِمَا الْحَيَوَانُ الْأَعْجَمُ، بَلْ هُوَ فِيهِمَا أَكْمَلُ مِنَ الْإِنْسَانِ، فَإِنَّ حَوَاسَّ الْحَيَوَانِ وَإِلْهَامَهُ يَكْمُلَانِ لَهُ بَعْدَ وِلَادَتِهِ بِقَلِيلٍ، بِخِلَافِ الْإِنْسَانِ فَإِنَّ ذَلِكَ يَكْمُلُ فِيهِ بِالتَّدْرِيجِ فِي زَمَنٍ غَيْرِ قَصِيرٍ، أَلَا تَرَاهُ عَقِبَ الْوِلَادَةِ لَا تَظْهَرُ عَلَيْهِ عَلَامَاتُ إِدْرَاكِ الْأَصْوَاتِ وَالْمَرْئِيَّاتِ، ثُمَّ بَعْدَ مُدَّةٍ يُبْصِرُ، وَلَكِنَّهُ لِقِصَرِ نَظَرِهِ يَجْهَلُ تَحْدِيدَ الْمَسَافَاتِ، فَيَحْسَبُ الْبَعِيدَ قَرِيبًا فَيَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَيْهِ لِيَتَنَاوَلَهُ وَإِنْ كَانَ قَمَرَ السَّمَاءِ وَلَا يَزَالُ يَغْلَطُ حِسُّهُ حَتَّى فِي طَوْرِ الْكَمَالِ:
(الْهِدَايَةُ الثَّالِثَةُ) : الْعَقْلُ، خَلَقَ اللهُ الْإِنْسَانَ لِيَعِيشَ مُجْتَمِعًا وَلَمْ يُعْطَ مِنَ الْإِلْهَامِ وَالْوِجْدَانِ مَا يَكْفِي مَعَ الْحِسِّ الظَّاهِرِ لِهَذِهِ الْحَيَاةِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ كَمَا أُعْطِيَ النَّحْلُ وَالنَّمْلُ، فَإِنَّ اللهَ قَدْ مَنَحَهَا
مِنَ الْإِلْهَامِ مَا يَكْفِيهَا، لِأَنْ تَعِيشَ مُجْتَمِعَةً يُؤَدِّي كُلٌّ وَاحِدٌ مِنْهَا وَظِيفَةَ الْعَمَلِ لِجَمِيعِهَا، وَيُؤَدِّي الْجَمِيعُ وَظِيفَةَ الْعَمَلِ لِلْوَاحِدِ، وَبِذَلِكَ قَامَتْ حَيَاةُ أَنْوَاعِهَا كَمَا هُوَ مُشَاهَدٌ.
أَمَّا الْإِنْسَانُ فَلَمْ يَكُنْ مِنْ خَاصَّةِ نَوْعِهِ أَنْ يَتَوَفَّرَ لَهُ مِثْلُ ذَلِكَ الْإِلْهَامُ، فَحَبَاهُ اللهُ هِدَايَةً هِيَ أَعْلَى مِنْ هِدَايَةِ الْحِسِّ وَالْإِلْهَامِ، وَهِيَ الْعَقْلُ الَّذِي يُصَحِّحُ غَلَطَ الْحَوَاسِّ وَالْمَشَاعِرِ وَيُبَيِّنُ أَسْبَابَهُ، وَذَلِكَ أَنَّ الْبَصَرَ يَرَى الْكَبِيرَ عَلَى الْبُعْدِ صَغِيرًا، وَيَرَى الْعُودَ الْمُسْتَقِيمَ فِي الْمَاءِ مُعْوَجًّا، وَالصَّفْرَاوِيَّ يَذُوقُ الْحُلْوَ مُرًّا. وَالْعَقْلُ هُوَ الَّذِي يَحْكُمُ بِفَسَادِ مِثْلِ هَذَا الْإِدْرَاكِ.
(الْهِدَايَةُ الرَّابِعَةُ) : الدِّينُ، يُغَلِّطُ الْعَقْلَ فِي إِدْرَاكِهِ كَمَا تَغْلَطُ الْحَوَاسُّ، وَقَدْ يُهْمِلُ الْإِنْسَانُ اسْتِخْدَامَ حَوَاسِّهِ وَعَقْلِهِ فِيمَا فِيهِ سَعَادَتُهُ الشَّخْصِيَّةُ النَّوْعِيَّةُ وَيَسْلُكُ بِهَذِهِ الْهِدَايَاتِ مَسَالِكَ الضَّلَالِ، فَيَجْعَلُهَا مُسَخَّرَةً لِشَهَوَاتِهِ وَلَذَّاتِهِ حَتَّى تُورِدَهُ مَوَارِدَ الْهَلَكَةِ. فَإِذَا وَقَعَتِ الْمَشَاعِرُ فِي مَزَالِقِ الزَّلَلِ، وَاسْتَرَقَّتِ الْحُظُوظُ وَالْأَهْوَاءُ الْعَقْلَ فَصَارَ يَسْتَنْبِطُ لَهَا ضُرُوبَ الْحِيَلِ، فَكَيْفَ يَتَسَنَّى لِلْإِنْسَانِ مَعَ ذَلِكَ أَنْ يَعِيشَ سَعِيدًا؟ وَهَذِهِ الْحُظُوظُ وَالْأَهْوَاءُ لَيْسَ لَهَا حَدٌّ يَقِفُ الْإِنْسَانُ عِنْدَهُ وَمَا هُوَ بِعَائِشٍ وَحْدَهُ، وَكَثِيرًا مَا تَتَطَاوَلُ بِهِ إِلَى مَا فِي يَدِ غَيْرِهِ، فَهِيَ لِهَذَا تَقْتَضِي أَنْ يَعْدُوَ بَعْضُ أَفْرَادِهِ عَلَى بَعْضٍ، فَيَتَنَازَعُونَ وَيَتَدَافَعُونَ، وَيَتَجَادَلُونَ وَيَتَجَالَدُونَ، وَيَتَوَاثَبُونَ وَيَتَنَاهَبُونَ
حَتَّى يُفْنِيَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَلَا تُغْنِيَ عَنْهُمْ تِلْكَ الْهِدَايَاتُ شَيْئًا فَاحْتَاجُوا إِلَى هِدَايَةٍ تُرْشِدُهُمْ فِي ظُلُمَاتِ أَهْوَائِهِمْ، إِذَا هِيَ غَلَبَتْ عَلَى عُقُولِهِمْ، وَتُبَيِّنُ لَهُمْ حُدُودَ أَعْمَالِهِمْ لِيَقِفُوا عِنْدَهَا وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ عَمَّا وَرَاءَهَا. ثُمَّ إِنَّ مِمَّا أُودِعَ فِي غَرَائِزِ الْإِنْسَانِ الشُّعُورُ بِسُلْطَةٍ غَيْبِيَّةٍ مُتَسَلِّطَةٍ عَلَى الْأَكْوَانِ يَنْسِبُ إِلَيْهَا كُلَّ مَا لَا يَعْرِفُ لَهُ سَبَبًا. لِأَنَّهَا هِيَ الْوَاهِبَةُ كُلَّ مَوْجُودٍ مَا بِهِ قِوَامُ وُجُودِهِ، وَبِأَنَّ لَهُ حَيَاةً وَرَاءَ هَذِهِ الْحَيَاةِ الْمَحْدُودَةِ، فَهَلْ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَصِلَ بِتِلْكَ الْهِدَايَاتِ الثَّلَاثِ إِلَى تَحْدِيدِ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ لِصَاحِبِ تِلْكَ السُّلْطَةِ الَّذِي خَلَقَهُ وَسَوَّاهُ، وَوَهَبَهُ هَذِهِ الْهِدَايَاتِ وَغَيْرَهَا، وَمَا فِيهِ سَعَادَتُهُ فِي تِلْكَ الْحَيَاةِ الثَّانِيَةِ؟ كَلَّا إِنَّهُ فِي أَشَدِّ الْحَاجَةِ إِلَى هَذِهِ الْهِدَايَةِ الرَّابِعَةِ - الدِّينِ - وَقَدْ مَنَحَهُ اللهُ تَعَالَى إِيَّاهَا.
أَشَارَ الْقُرْآنُ إِلَى أَنْوَاعِ الْهِدَايَةِ الَّتِي وَهَبَهَا اللهُ تَعَالَى لِلْإِنْسَانِ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ 90: 10) أَيْ طَرِيقَيِ السَّعَادَةِ وَالشَّقَاوَةِ وَالْخَيْرِ وَالشَّرِّ.
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَهَذِهِ تَشْمَلُ هِدَايَةَ الْحَوَّاسِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ، وَهِدَايَةَ الْعَقْلِ وَهِدَايَةَ الدِّينِ، وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى:(وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى)(41: 17) أَيْ دَلَلْنَاهُمْ عَلَى طَرِيقَيِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، فَسَلَكُوا سُبُلَ الشَّرِّ الْمُعَبِّرِ عَنْهُ بِالْعَمَى. وَذَكَرَ غَيْرَ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ مِمَّا فِي مَعْنَاهُمَا ثُمَّ قَالَ:
بَقِيَ مَعَنَا هِدَايَةٌ أُخْرَى وَهِيَ الْمُعَبَّرُ عَنْهَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ)(6: 90) فَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الْهِدَايَةِ مَا سَبَقَ ذِكْرُهُ، فَالْهِدَايَةُ فِي الْآيَاتِ السَّابِقَةِ
بِمَعْنَى الدَّلَالَةِ، وَهِيَ بِمَنْزِلَةِ إِيقَافِ الْإِنْسَانِ عَلَى رَأْسِ الطَّرِيقَيْنِ: الْمُهْلِكُ، وَالْمُنْجِي، مَعَ بَيَانِ مَا يُؤَدِّي إِلَيْهِ كُلٌّ مِنْهُمَا، وَهِيَ مِمَّا تَفَضَّلَ اللهُ بِهِ عَلَى جَمِيعِ أَفْرَادِ الْبَشَرِ. وَأَمَّا هَذِهِ الْهِدَايَةُ فَهِيَ أَخَصُّ مِنْ تِلْكَ، وَالْمُرَادُ بِهَا إِعَانَتُهُمْ وَتَوْفِيقُهُمْ لِلسَّيْرِ فِي طَرِيقِ الْخَيْرِ وَالنَّجَاةُ مَعَ الدَّلَالَةِ، وَهِيَ لَمْ تَكُنْ مَمْنُوحَةً لِكُلِّ أَحَدٍ كَالْحَوَاسِّ وَالْعَقْلِ وَشَرْعِ الدِّينِ.
وَلَمَّا كَانَ الْإِنْسَانُ عُرْضَةً لِلْخَطَأِ وَالضَّلَالِ فِي فَهْمِ الدِّينِ وَفِي اسْتِعْمَالِ الْحَوَاسِّ وَالْعَقْلِ عَلَى مَا قَدَّمْنَا، كَانَ مُحْتَاجًا إِلَى الْمَعُونَةِ الْخَاصَّةِ، فَأَمَرَنَا اللهُ بِطَلَبِهَا مِنْهُ فِي قَوْلِهِ (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) فَمَعْنَى " (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ " دُلَّنَا دَلَالَةً تَصْحَبُهَا مَعُونَةٌ غَيْبِيَّةٌ مِنْ لَدُنْكَ تَحَفَظُنَا بِهَا مِنَ الضَّلَالِ وَالْخَطَأِ، وَمَا كَانَ هَذَا أَوَّلَ دُعَاءٍ عَلَّمَنَا اللهُ إِيَّاهُ، إِلَّا لِأَنَّ حَاجَتَنَا إِلَيْهِ أَشَدُّ مِنْ حَاجَتِنَا إِلَى كُلِّ شَيْءٍ سِوَاهُ.
ثُمَّ بَيَّنَ مَعْنَى الصِّرَاطِ (وَهُوَ الطَّرِيقُ) وَاشْتِقَاقُهُ، وَقِرَاءَةُ الصِّرَاطِ بِالسِّينِ الْمُهْمَلَةِ وَاشْتِقَاقُهَا عَلَى نَحْوِ مَا فِي كُتُبِ اللُّغَةِ وَالتَّفْسِيرِ، وَمَعْنَى الْمُسْتَقِيمِ: وَهُوَ ضِدُّ الْمُعْوَجِّ، وَقَالَ: لَيْسَ الْمُرَادُ بِمُقَابِلِ الْمُسْتَقِيمِ الْمُعْوَجَّ ذَا التَّمَوُّجِ وَالتَّعَارِيجِ، بَلِ الْمُرَادُ: كُلُّ مَا فِيهِ انْحِرَافٌ عَنِ الْغَايَةِ الَّتِي يَجِبُ أَنْ يَنْتَهِيَ سَالِكُهُ إِلَيْهَا. وَالْمُسْتَقِيمُ فِي عُرْفِ الْهَنْدَسَةِ: أَقْرَبُ مُوَصِّلٍ بَيْنَ طَرَفَيْنِ، وَهَذَا الْمَعْنَى لَازِمٌ لِلْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ بِالْبَدَاهَةِ. وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ الْمُرَادَ بِمُقَابِلِ الْمُسْتَقِيمِ كُلُّ مَا فِيهِ انْحِرَافٌ؛ لِأَنَّ كُلَّ مَنْ يَمِيلُ وَيَنْحَرِفُ عَنِ الْجَادَّةِ يَكُونُ أَضَلَّ عَنِ الْغَايَةِ مِمَّنْ يَسِيرُ عَلَيْهَا فِي خَطٍّ ذِي تَعَارِيجَ؛ لِأَنَّ هَذَا الْأَخِيرَ قَدْ يَصِلُ إِلَى الْغَايَةِ بَعْدَ زَمَنٍ طَوِيلٍ. وَلَكِنَّ الْأَوَّلَ لَا يَصِلُ إِلَيْهَا أَبَدًا. بَلْ يَزْدَادُ عَنْهَا بُعْدًا كُلَّمَا أَوْغَلَ فِي السَّيْرِ وَانْهَمَكَ فِيهِ.
وَقَدْ قَالُوا: إِنَّ الْمُرَادَ بِالصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، الدِّينُ، أَوِ الْحَقُّ، أَوِ الْعَدْلُ، أَوِ الْحُدُودُ.
وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّهُ جُمْلَةُ مَا يُوَصِّلُنَا إِلَى سَعَادَةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ مِنْ عَقَائِدَ وَآدَابٍ وَأَحْكَامٍ وَتَعَالِيمَ.
لِمَ سُمِّيَ الْمُوَصِّلُ إِلَى السَّعَادَةِ مِنْ ذَلِكَ صِرَاطًا وَطَرِيقًا؟ خُذِ الْحَقَّ مَثَلًا وَهُوَ الْعِلْمُ الصَّحِيحُ بِاللهِ وَبِالنُّبُوَّةِ وَبِأَحْوَالِ الْكَوْنِ وَالنَّاسِ، تَرَى مَعْنَى الصِّرَاطِ فِيهِ وَاضِحًا؛ لِأَنَّ السَّبِيلَ أَوِ الصِّرَاطَ مَا أَسْلُكُهُ وَأَسِيرُ فِيهِ لِبُلُوغِ الْغَايَةِ الَّتِي أَقْصِدُهَا، كَذَلِكَ الْحَقُّ الَّذِي يُبَيِّنُ لِيَ الْوَاقِعَ الثَّابِتَ فِي الْعَقِيدَةِ الصَّحِيحَةِ هُوَ كَالْجَادَّةِ بَيْنَ السُّبُلِ الْمُتَفَرِّقَةِ الْمُضِلَّةِ، فَالطَّرِيقُ الْوَاضِحُ لِلْحِسِّ، يُشْبِهُ الْحَقَّ لِلْعَقْلِ وَالنَّفْسِ، سَيْرٌ حِسِّيٌّ، وَسَيْرٌ مَعْنَوِيٌّ، كَذَلِكَ إِذَا اعْتَبَرْتَ
هَذَا الْمَعْنَى فِي الْحُدُودِ وَالْأَحْكَامِ تَجِدُهُ وَاضِحًا - قَسَّمْتَ أَحْكَامَ الْأَعْمَالِ إِلَى: وَاجِبٍ، وَمَنْدُوبٍ، وَمُبَاحٍ، وَمُحَرَّمٍ وَمَكْرُوهٍ، فَكَانَ هَذَا مُرِيحًا لَنَا مِنْ تَمْيِيزِ الْخَيْرِ مِنَ الشَّرِّ بِأَنْفُسِنَا وَاجْتِهَادِنَا، فَبَيَانُ الْأَحْكَامِ بِالْهِدَايَةِ الْكُبْرَى
وَهِيَ الدِّينُ كَالطَّرِيقِ الْوَاضِحِ يُسْلَكُ بِالْعَمَلِ. وَمَعَ هَذَا تَجِدُ الشَّهَوَاتِ تَتَلَاعَبُ بِالْأَحْكَامِ وَتُرْجِعُهَا إِلَى أَهْوَائِهَا كَمَا يَصْرِفُ السُّفَهَاءُ عُقُولَهُمْ وَحَوَاسَّهُمْ فِيمَا يُرْدِيهِمْ. وَهَذَا التَّلَاعُبُ بِالدِّينِ إِنَّمَا يَصْدُرُ مِنْ عُلَمَائِهِ. وَضَرَبَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ لِذَلِكَ مَثَلًا أَحَدَ الشُّيُوخِ الْمُتَفَقِّهِينَ، سَرَقَ كِتَابًا مِنْ وَقْفِ أَحَدِ الْأَرْوِقَةِ فِي الْأَزْهَرِ مُسْتَحِلًّا لَهُ بِحُجَّةِ أَنَّ قَصْدَ الْوَاقِفِ الِانْتِفَاعُ بِهِ، وَهُوَ يَحْصُلُ بِوُجُودِ الْكِتَابِ عِنْدَهُ، وَأَنَّهُ قَدْ يَفُوتُ النَّفْعُ بِبَقَائِهِ فِي الرِّوَاقِ حَيْثُ وَضَعَهُ الْوَاقِفُ، إِذْ لَا يُوجَدُ فِيهِ مَنْ يَفْهَمُهُ مِثْلَهُ بِزَعْمِهِ! ! وَاسْتِحْلَالُ الْمُحَرَّمَاتِ بِمِثْلِ هَذَا التَّأْوِيلِ لَيْسَ بِقَلِيلٍ، وَلِذَلِكَ كَانَ الْإِنْسَانُ مُحْتَاجًا أَشَدَّ الِاحْتِيَاجِ إِلَى الْعِنَايَةِ الْإِلَهِيَّةِ الْخَاصَّةِ لِأَجْلِ الِاسْتِقَامَةِ وَالسَّيْرِ فِي تِلْكَ الْهِدَايَاتِ الْأَرْبَعِ سَيْرًا مُسْتَقِيمًا يُوَصِّلُ إِلَى السَّعَادَةِ. لِهَذَا نَبَّهْنَا اللهُ جَلَّ شَأْنُهُ أَنْ نَلْجَأَ إِلَيْهِ، وَنَسْأَلَهُ الْهِدَايَةَ لِيَكُونَ عَوْنًا لَنَا يَنْصُرَنَا عَلَى أَهْوَائِنَا وَشَهَوَاتِنَا، وَأَنْ تَكُونَ اسْتِعَانَتُنَا فِي ذَلِكَ بِهِ لَا بِسِوَاهُ، بَعْدَ أَنْ نَبْذُلَ مَا نَسْتَطِيعُ مِنَ الْفِكْرِ وَالْجِهَادِ فِي مَعْرِفَةِ مَا أُنْزِلُ إِلَيْنَا مِنَ الشَّرِيعَةِ وَالْأَحْكَامِ وَأَخْذِ أَنْفُسِنَا بِمَا نَعْلَمُ مِنْ ذَلِكَ. وَهَذَا أَفْضَلُ مَا نَطْلُبُ فِيهِ الْمَعُونَةَ مِنْهُ جَلَّ شَأْنُهُ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى خَيْرَيِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. فَهُوَ بِهَذِهِ الْآيَةِ يُعَلِّمُنَا كَيْفَ نَسْتَعِينُ بَعْدَ أَنْ عَلَّمَنَا اخْتِصَاصَهُ بِالِاسْتِعَانَةِ فِي قَوْلِهِ:" وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ".
(صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (قَالَ الْأُسْتَاذُ) : الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ: هُوَ الطَّرِيقُ الْمُوَصِّلُ إِلَى الْحَقِّ، وَلَكِنَّهُ تَعَالَى مَا بَيَّنَهُ بِذَلِكَ كَمَا بَيَّنَهُ فِي نَحْوِ سُورَةِ الْعَصْرِ وَإِنَّمَا بَيَّنَهُ بِإِضَافَتِهِ إِلَى مَنْ سَلَكَ هَذَا الصِّرَاطَ كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ:(فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ) وَقَدْ قُلْنَا: إِنَّ الْفَاتِحَةَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى إِجْمَالِ مَا فُصِّلَ فِي الْقُرْآنِ حَتَّى مِنَ الْأَخْبَارِ، الَّتِي هِيَ مِثْلُ الذِّكْرَى وَالِاعْتِبَارِ، وَيَنْبُوعُ الْعِظَةِ وَالِاسْتِبْصَارِ، وَأَخْبَارُ الْقُرْآنِ كُلُّهَا تَنْطَوِي فِي إِجْمَالِ هَذِهِ الْآيَةِ.
(قَالَ) : فَسَّرَ بَعْضُهُمُ الْمُنْعَمَ عَلَيْهِمْ بِالْمُسْلِمِينَ، وَالْمَغْضُوبَ عَلَيْهِمْ: بِالْيَهُودِ، وَالضَّالِّينَ بِالنَّصَارَى، وَنَحْنُ نَقُولُ إِنَّ الْفَاتِحَةَ أَوَّلُ سُورَةٍ نَزَلَتْ كَمَا قَالَ الْإِمَامُ عَلِيٌّ رضي الله عنه، وَهُوَ أَعْلَمُ بِهَذَا مِنْ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُ تَرَبَّى فِي حِجْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَأَوَّلُ مَنْ
آمَنَ بِهِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ أَوَّلَ سُورَةٍ عَلَى الْإِطْلَاقِ فَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهَا مِنْ أَوَائِلِ السُّوَرِ (كَمَا مَرَّ فِي الْمُقَدِّمَةِ)
وَلَمْ يَكُنِ الْمُسْلِمُونَ فِي أَوَّلِ نُزُولِ الْوَحْيِ بِحَيْثُ يَطْلُبُ الِاهْتِدَاءَ بِهُدَاهُمْ، وَمَا هُدَاهُمْ إِلَّا مِنَ الْوَحْيِ ثُمَّ هُمُ الْمَأْمُورُونَ بِأَنْ يَسْأَلُوا اللهَ أَنْ يَهْدِيَهُمْ هَذِهِ السَّبِيلَ، سَبِيلَ مَنْ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِمْ، فَأُولَئِكَ غَيْرُهُمْ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ بِهَذَا مَا جَاءَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:" (فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ " وَهُمُ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيَّيْنِ وَالصَّدِيقَيْنِ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ مِنَ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ. فَقَدْ أَحَالَ عَلَى مَعْلُومٍ أَجْمَلَهُ فِي الْفَاتِحَةِ وَفَصَّلَهُ فِي سَائِرِ الْقُرْآنِ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ، فَثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْقُرْآنِ تَقْرِيبًا قَصَصٌ. وَتَوْجِيهٌ لِلْأَنْظَارِ إِلَى الِاعْتِبَارِ بِأَحْوَالِ الْأُمَمِ، فِي كُفْرِهِمْ وَإِيمَانِهِمْ، وَشَقَاوَتِهِمْ وَسَعَادَتِهِمْ، وَلَا شَيْءَ يَهْدِي الْإِنْسَانَ كَالْمَثُلَاتِ وَالْوَقَائِعِ. فَإِذَا امْتَثَلْنَا الْأَمْرَ وَالْإِرْشَادَ، وَنَظَرْنَا فِي أَحْوَالِ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ، وَأَسْبَابِ عِلْمِهِمْ وَجَهْلِهِمْ، وَقُوَّتِهِمْ وَضَعْفِهِمْ، وَعِزِّهِمْ وَذُلِّهِمْ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَعْرِضُ لِلْأُمَمِ - كَانَ لِهَذَا النَّظَرِ أَثَرٌ فِي نُفُوسِنَا يَحْمِلُنَا عَلَى حُسْنِ الْأُسْوَةِ وَالِاقْتِدَاءِ بِأَخْبَارِ تِلْكَ الْأُمَمِ فِيمَا كَانَ سَبَبَ السَّعَادَةِ وَالتَّمَكُّنِ فِي الْأَرْضِ، وَاجْتِنَابِ مَا كَانَ سَبَبَ الشَّقَاوَةِ أَوِ الْهَلَاكِ وَالدَّمَارِ. وَمِنْ هُنَا يَنْجَلِي لِلْعَاقِلِ شَأْنُ عِلْمِ التَّارِيخِ وَمَا فِيهِ مِنَ الْفَوَائِدِ وَالثَّمَرَاتِ، وَتَأْخُذُهُ الدَّهْشَةُ وَالْحَيْرَةُ إِذَا سَمِعَ أَنَّ كَثِيرًا مِنْ رِجَالِ الدِّينِ مِنْ أُمَّةٍ هَذَا كِتَابُهَا يُعَادُونَ التَّارِيخَ بِاسْمِ الدِّينِ وَيَرْغَبُونَ عَنْهُ، وَيَقُولُونَ: إِنَّهُ لَا حَاجَةَ إِلَيْهِ وَلَا فَائِدَةَ لَهُ. وَكَيْفَ لَا يُدْهَشُ وَيَحَارُ وَالْقُرْآنُ يُنَادِي بِأَنَّ مَعْرِفَةَ أَحْوَالِ الْأُمَمِ مِنْ أَهَمِّ مَا يَدْعُو إِلَيْهِ هَذَا الدِّينُ؟ (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ)(13: 6) .
وَهَاهُنَا سُؤَالٌ وَهُوَ: كَيْفَ يَأْمُرُنَا اللهُ تَعَالَى بِاتِّبَاعِ صِرَاطِ مَنْ تَقَدَّمَنَا وَعِنْدَنَا أَحْكَامٌ وَإِرْشَادَاتٌ لَمْ تَكُنْ عِنْدَهُمْ، وَبِذَلِكَ كَانَتْ شَرِيعَتُنَا أَكْمَلَ مِنْ شَرَائِعِهِمْ، وَأَصْلَحَ لِزَمَانِنَا وَمَا بَعْدَهُ؟ وَالْقُرْآنُ يُبَيِّنُ لَنَا الْجَوَابَ وَهُوَ أَنَّهُ يُصَرِّحُ بِأَنَّ دِينَ اللهِ فِي جَمِيعِ الْأُمَمِ وَاحِدٌ، وَإِنَّمَا تَخْتَلِفُ الْأَحْكَامُ بِالْفُرُوعِ الَّتِي تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الزَّمَانِ، وَأَمَّا الْأُصُولُ فَلَا خِلَافَ فِيهَا. قَالَ تَعَالَى:(قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ)(3: 64) الْآيَةَ، وَقَالَ تَعَالَى:(إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ)(4: 163) الْآيَةَ. فَالْإِيمَانُ بِاللهِ وَبِرُسُلِهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَتَرْكُ الشَّرِّ وَعَمَلُ الْبِرِّ،
وَالتَّخَلُّقُ بِالْأَخْلَاقِ الْفَاضِلَةِ مُسْتَوٍ فِي الْجَمِيعِ. وَقَدْ أَمَرَنَا اللهُ بِالنَّظَرِ فِيمَا كَانُوا عَلَيْهِ وَالِاعْتِبَارِ بِمَا صَارُوا إِلَيْهِ: لِنَقْتَدِيَ بِهِمْ فِي الْقِيَامِ عَلَى أُصُولِ الْخَيْرِ. وَهُوَ أَمْرٌ يَتَضَمَّنُ الدَّلِيلَ عَلَى أَنَّ فِي ذَلِكَ الْخَيْرَ وَالسَّعَادَةَ. عَلَى حَسَبِ طَرِيقَةِ الْقُرْآنِ فِي قَرْنِ الدَّلِيلِ بِالْمَدْلُولِ وَالْعِلَّةِ بِالْمَعْلُولِ، وَالْجَمْعِ بَيْنَ السَّبَبِ وَالْمُسَبِّبِ. وَتَفْصِيلُ الْأَحْكَامِ الَّتِي هَذِهِ كُلِّيَّاتُهَا بِالْإِجْمَالِ، نَعْرِفُهُ مِنْ شَرْعِنَا وَهَدْيِ نَبِيِّنَا عليه الصلاة والسلام اهـ بِتَفْصِيلٍ وَإِيضَاحٍ. وَأَزِيدُ هُنَا أَنَّ فِي الْإِسْلَامِ مِنْ ضُرُوبِ الْهِدَايَةِ مَا قَدْ يُعَدُّ مِنَ الْأُصُولِ الْخَاصَّةِ بِالْإِسْلَامِ، وَيَرَى أَنَّهُ مِمَّا يُسْتَدْرَكُ عَلَى مَا قَرَّرَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ، كَبِنَاءِ الْعَقَائِدِ فِي الْقُرْآنِ عَلَى الْبَرَاهِينِ الْعَقْلِيَّةِ وَالْكَوْنِيَّةِ، وَبِنَاءِ الْأَحْكَامِ الْأَدَبِيَّةِ وَالْعَمَلِيَّةِ عَلَى قَوَاعِدِ الْمَصَالِحِ وَالْمَنَافِعِ وَدَفْعِ الْمَضَارِّ وَالْمَفَاسِدِ، وَكَبَيَانِ أَنَّ لِلْكَوْنِ سُنَنًا مُطَّرِدَةً تَجْرِي عَلَيْهِ عَوَالِمُهُ الْعَاقِلَةُ وَغَيْرُ الْعَاقِلَةِ، وَكَالْحَثِّ
عَلَى النَّظَرِ فِي الْأَكْوَانِ، لِلْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ بِمَا فِيهَا مِنَ الْحِكَمِ وَالْأَسْرَارِ الَّتِي يَرْتَقِي بِهَا الْعَقْلُ وَتَتَّسِعُ بِهَا أَبْوَابُ الْمَنَافِعِ لِلْإِنْسَانِ، وَكُلُّ ذَلِكَ مِمَّا امْتَازَ بِهِ الْقُرْآنُ. وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا أَنَّهُ تَكْمِيلٌ لِأُصُولِ الدِّينِ الثَّلَاثَةِ الَّتِي بُعِثَ بِهَا كُلُّ نَبِيٍّ مُرْسَلٍ لِجَعْلِ بِنَائِهِ رَصِينًا مُنَاسِبًا لِارْتِقَاءِ الْإِنْسَانِ. وَأَمَّا تِلْكَ الْأُصُولُ وَهِيَ: الْإِيمَانُ الصَّحِيحُ، وَعِبَادَةُ اللهِ تَعَالَى وَحْدَهُ، وَحُسْنُ الْمُعَامَلَةِ مَعَ النَّاسِ، فَهِيَ الَّتِي لَا خِلَافَ فِيهَا.
وَأَمَّا وَصْفُهُ تَعَالَى الَّذِينَ أُنْعِمَ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ غَيْرُ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ، فَالْمُخْتَارُ فِيهِ أَنَّ الْمَغْضُوبَ عَلَيْهِمْ هُمُ الَّذِينَ خَرَجُوا عَنِ الْحَقِّ بَعْدَ عِلْمِهِمْ بِهِ، وَالَّذِينَ بَلَغَهُمْ شَرْعُ اللهِ وَدِينُهُ فَرَفَضُوهُ وَلَمْ يَتَقَبَّلُوهُ، انْصِرَافًا عَنِ الدَّلِيلِ، وَرِضَاءً بِمَا وَرِثُوهُ مِنَ الْقِيلِ، وَوُقُوفًا عِنْدَ التَّقْلِيدِ، وَعُكُوفًا عَلَى هَوًى غَيْرِ رَشِيدٍ، وَغَضَبُ اللهِ يُفَسِّرُونَهُ بِلَازِمِهِ: وَهُوَ الْعِقَابُ، وَوَافَقَهُمُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ، وَالَّذِي يَنْطَبِقُ عَلَى مَذْهَبِ السَّلَفِ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ شَأْنٌ مِنْ شُئُونِهِ تَعَالَى يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ عُقُوبَتُهُ وَانْتِقَامُهُ، وَإِنَّ الضَّالِّينَ هُمُ الَّذِينَ لَمْ يَعْرِفُوا الْحَقَّ أَلْبَتَّةَ، أَوْ لَمْ يَعْرِفُوهُ عَلَى الْوَجْهِ الصَّحِيحِ الَّذِي يُقْرَنُ بِهِ الْعَمَلُ كَمَا سَيَأْتِي تَفْصِيلُهُ. وَقَرَنَ الْمَعْطُوفَ فِي قَوْلِهِ " (وَلَا الضَّالِّينَ " بِلَا لِمَا فِي " غَيْرِ " مِنْ مَعْنَى النَّفْيِ، أَيْ وَغَيْرِ الضَّالِّينَ، فَفِيهِ تَأْكِيدٌ لِلنَّفْيِ. وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الطَّوَائِفَ ثَلَاثٌ: الْمُنْعَمُ عَلَيْهِمْ، وَالْمَغْضُوبُ عَلَيْهِمْ، وَالضَّالُّونَ. وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمَغْضُوبَ عَلَيْهِمْ ضَالُّونَ
أَيْضًا لِأَنَّهُمْ بِنَبْذِهِمُ الْحَقُّ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ قَدِ اسْتَدْبَرُوا الْغَايَةَ وَاسْتَقْبَلُوا غَيْرَ وِجْهَتِهَا، فَلَا يَصِلُونَ مِنْهَا إِلَى الْمَطْلُوبِ، وَلَا يَهْتَدُونَ فِيهَا إِلَى مَرْغُوبٍ، وَلَكِنَّ فَرْقًا بَيْنَ مَنْ عَرَفَ الْحَقَّ فَأَعْرَضَ عَنْهُ عَلَى عِلْمٍ، وَبَيْنَ مَنْ لَمْ يَظْهَرْ لَهُ الْحَقُّ فَهُوَ تَائِهٌ بَيْنَ الطُّرُقِ، لَا يَهْتَدِي إِلَى الْجَادَّةِ الْمُوَصِّلَةِ مِنْهَا، وَهُمْ مَنْ لَمْ تَبْلُغْهُمُ الرِّسَالَةُ، أَوْ بَلَغَتْهُمْ عَلَى وَجْهٍ لَمْ يَتَبَيَّنْ لَهُمْ فِيهِ الْحَقُّ. فَهَؤُلَاءِ هُمْ أَحَقُّ بِاسْمِ الضَّالِّينَ، فَإِنَّ الضَّالَّ حَقِيقَةً: هُوَ التَّائِهُ الْوَاقِعُ فِي عَمَايَةٍ لَا يَهْتَدِي مَعَهَا إِلَى الْمَطْلُوبِ، وَالْعَمَايَةُ فِي الدِّينِ: هِيَ الشُّبَهَاتُ الَّتِي تَلْبِسُ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتُشَبِّهُ الصَّوَابَ بِالْخَطَأِ.
الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: الضَّالُّونَ عَلَى أَقْسَامٍ: -
الْقِسْمُ الْأَوَّلُ مَنْ لَمْ تَبْلُغْهُمُ الدَّعْوَةُ إِلَى الرِّسَالَةِ، أَوْ بَلَغَتْهُمْ عَلَى وَجْهٍ لَا يَسُوقُ إِلَى النَّظَرِ. فَهَؤُلَاءِ لَمْ يَتَوَفَّرْ لَهُمْ مِنْ أَنْوَاعِ الْهِدَايَةِ سِوَى مَا يَحْصُلُ بِالْحِسِّ وَالْعَقْلِ، وَحُرِمُوا رُشْدَ الدِّينِ، فَإِنْ لَمْ يَضِلُّوا فِي شُئُونِهِمُ الدُّنْيَوِيَّةِ ضَلُّوا لَا مَحَالَةَ فِيمَا تُطْلَبُ بِهِ نَجَاةُ الْأَرْوَاحِ وَسَعَادَتُهَا فِي الْحَيَاةِ الْأُخْرَى. عَلَى أَنَّ مِنْ شَأْنِ الدِّينِ الصَّحِيحِ أَنْ يُفِيضَ عَلَى أَهْلِهِ مِنْ رُوحِ الْحَيَاةِ مَا بِهِ يَسْعَدُونَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ مَعًا، فَمَنْ حُرِمَ الدِّينَ حُرِمَ السَّعَادَتَيْنِ، وَظَهَرَ أَثَرُ التَّخَبُّطِ وَالِاضْطِرَابِ فِي أَعْمَالِهِ الْمَعَاشِيَّةِ، وَحَلَّ بِهِ مِنَ الرَّزَايَا مَا يَتْبَعُ الضَّلَالَ وَالْخَبْطَ عَادَةً، سُنَّةُ اللهِ فِي هَذَا الْعَالَمِ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِهِ تَبْدِيلًا. أَمَّا أَمْرُهُمْ فِي الْآخِرَةِ فَعَلَى أَنَّهُمْ لَنْ يُسَاوُوا الْمُهْتَدِينَ فِي مَنَازِلِهِمْ، وَقَدْ يَعْفُو اللهُ عَنْهُمْ وَهُوَ الْفَعَّالُ لِمَا يُرِيدُ.
وَأَزِيدُ فِي إِيضَاحِ كَلَامِ الْأُسْتَاذِ: أَنَّ الَّذِينَ حُرِمُوا هِدَايَةَ الدِّينِ لَا يُعْقَلُ أَنْ يُؤَاخَذُوا فِي الْآخِرَةِ عَلَى تَرْكِ شَيْءٍ مِمَّا لَا يُعْرَفُ إِلَّا بِهَذِهِ الْهِدَايَةِ. وَهَذَا هُوَ مَعْنَى كَوْنِهِمْ غَيْرَ مُكَلَّفِينَ، وَعَلَيْهِ جُمْهُورُ الْمُتَكَلِّمِينَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا) (17: 15) وَمَنْ قَالَ: إِنَّهُمْ مُكَلَّفُونَ بِالْعَقْلِ لَا يَظْهَرُ وَجْهٌ لِقَوْلِهِ إِلَّا إِذَا أَرَادَ أَنَّ حَالَهُمْ فِي الْآخِرَةِ تَكُونُ عَلَى حَسَبِ ارْتِقَاءِ أَرْوَاحِهِمْ بِهِدَايَةِ الْعَقْلِ وَسَلَامَةِ الْفِطْرَةِ، إِذْ لَا شَكَّ أَنَّ مَنْ لَمْ يُبْعَثْ فِيهِمْ رَسُولٌ يَتَفَاوَتُونَ فِي إِدْرَاكِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ بِتَفَاوُتِ اسْتِعْدَادِهِمُ الْفِطْرِيِّ وَمَا يُصَادِفُونَ مِنْ حَسُنِ التَّرْبِيَةِ وَقُبْحِهَا. وَبِهَذَا يُجْمَعُ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ فِي تَكْلِيفِهِمْ وَعَدَمِهِ أَوْ يُفْصَلُ بَيْنَهَا. وَمَا يُعْطِيهِمُ اللهُ تَعَالَى إِيَّاهُ فِي الْآخِرَةِ عَلَى حَسَبِ حَالِهِمْ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَالْفَضِيلَةِ وَالرَّزِيلَةِ - يَكُونُ جَزَاءً عَادِلًا
عَلَى أَعْمَالِهِمُ الِاخْتِيَارِيَّةِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ وَسَأُفَصِّلُ هَذَا الْمَعْنَى فِي تَفْسِيرِ الْآيَاتِ الْمُنَزَّلَةِ فِيهِ إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى. وَأَعُودُ الْآنَ إِلَى إِتْمَامِ سِيَاقِ الْأُسْتَاذِ، قَالَ:
(الْقِسْمُ الثَّانِي) : مَنْ بَلَغَتْهُ الدَّعْوَةُ عَلَى وَجْهٍ يَبْعَثُ عَلَى النَّظَرِ، فَسَاقَ هِمَّتَهُ إِلَيْهِ، وَاسْتَفْرَغَ جُهْدَهُ فِيهِ، وَلَكِنْ لَمْ يُوَفَّقْ إِلَى الْإِيمَانِ بِمَا دُعِيَ إِلَيْهِ، وَانْقَضَى عُمْرُهُ وَهُوَ فِي الطَّلَبِ، وَهَذَا الْقِسْمُ لَا يَكُونُ إِلَّا أَفْرَادًا مُتَفَرِّقَةً فِي الْأُمَمِ، وَلَا يَعُمُّ حَالُهُ شَعْبًا مِنَ الشُّعُوبِ، فَلَا يَظْهَرُ لَهُ أَثَرٌ فِي أَحْوَالِهَا الْعَامَّةِ، وَمَا يَكُونُ لَهَا مِنْ سَعَادَةٍ وَشَقَاءٍ فِي حَيَاتِهَا الدُّنْيَا أَمَّا صَاحِبُ هَذِهِ الْحَالَةِ فَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُ الْأَشَاعِرَةِ إِلَى أَنَّهُ مِمَّنْ تُرْجَى لَهُ رَحْمَةُ اللهِ تَعَالَى، وَيَنْقُلُ صَاحِبُ هَذَا الرَّأْيِ مِثْلَهُ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ وَأَمَّا عَلَى رَأْيِ الْجُمْهُورِ فَلَا رَيْبَ أَنَّ مُؤَاخَذَتَهُ أَخَفُّ مِنْ مُؤَاخَذَةِ الْجَاحِدِ الَّذِي أَنْكَرَ التَّنْزِيلَ، وَاسْتَعْصَى عَلَى الدَّلِيلِ، وَكَفَرَ بِنِعْمَةِ الْعَقْلِ، وَرَضِيَ بِحَظِّهِ مِنَ الْجَهْلِ.
(الْقِسْمُ الثَّالِثُ) : مَنْ بَلَغَتْهُمُ الرِّسَالَةُ وَصَدَّقُوا بِهَا، بِدُونِ نَظَرٍ فِي أَدِلَّتِهَا وَلَا وُقُوفٍ عَلَى أُصُولِهَا، فَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ فِي فَهْمِ مَا جَاءَتْ بِهِ مِنْ أُصُولِ الْعَقَائِدِ، وَهَؤُلَاءِ هُمُ الْمُبْتَدِعَةُ فِي كُلِّ دِينٍ، وَمِنْهُمُ الْمُبْتَدِعُونَ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ، وَهُمُ الْمُنْحَرِفُونَ فِي اعْتِقَادِهِمْ عَمَّا تَدُلُّ عَلَيْهِ جُمْلَةُ الْقُرْآنِ وَمَا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ الصَّالِحُ وَأَهْلُ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ، فَفَرَّقُوا الْأُمَّةَ إِلَى مُشَارِبَ، يُغَصُّ بِمَائِهَا الْوَارِدُ، وَلَا يَرْتَوِي مِنْهَا الشَّارِبُ، (قَالَ) : وَإِنِّي أُشِيرُ إِلَى طَرَفٍ مِنْ آثَارِهِمْ فِي النَّاسِ: يَأْتِي الرَّجُلُ إِلَى دَوَائِرِ الْقَضَاءِ فَيُسْتَحْلَفُ بِاللهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ، أَوْ بِالْمُصْحَفِ الْكَرِيمِ وَهُوَ كَلَامُ اللهِ الْقَدِيمُ، - أَنَّهُ مَا فَعَلَ كَذَا، فَيَحْلِفُ وَعَلَامَةُ الْكَذِبِ بَادِيَةٌ عَلَى وَجْهِهِ، فَيَأْتِيهِ الْمُسْتَحْلِفُ مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ وَيَحْمِلُهُ عَلَى الْحَلِفِ بِشَيْخٍ مِنَ الْمَشَايِخِ الَّذِينَ يَعْتَقِدُ لَهُمُ الْوِلَايَةَ، فَيَتَغَيَّرُ لَوْنُهُ، وَتَضْطَرِبُ أَرْكَانُهُ، ثُمَّ يَرْجِعُ فِي أَلْيَتِهِ وَيَقُولُ الْحَقَّ، وَيُقِرُّ بِأَنَّهُ فَعَلَ مَا حَلَفَ أَوَّلًا أَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْهُ، تَكْرِيمًا لِاسْمِ ذَلِكَ الشَّيْخِ، وَخَوْفًا مِنْهُ أَنْ يَسْلُبَ عَنْهُ نِعْمَةً أَوْ يُحِلَّ بِهِ نِقْمَةً إِذَا حَلَفَ
بِاسْمِهِ كَاذِبًا. فَهَذَا ضَلَالٌ فِي أُصُولِ الْعَقِيدَةِ، يَرْجِعُ إِلَى الضَّلَالِ فِي الْإِيمَانِ بِاللهِ تَعَالَى وَمَا يَجِبُ لَهُ مِنَ الْوَحْدَانِيَّةِ فِي الْأَفْعَالِ، وَلَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَسْرُدَ مَا وَقَعَ فِيهِ الْمُسْلِمُونَ مِنَ الضَّلَالِ فِي الْعَقَائِدِ الْأَصْلِيَّةِ بِسَبَبِ الْبِدَعِ الَّتِي عَرَضَتْ عَلَى دِينِ الْإِسْلَامِ لَطَالَ الْمَقَالُ، وَاحْتِيجَ إِلَى وَضْعِ مُجَلَّدَاتٍ فِي وُجُوهِ الضَّلَالِ، وَمِنْ أَشْنَعِهَا أَثَرًا، وَأَشَدِّهَا ضَرَرًا،
خَوْضُ رُؤَسَاءِ الْفِرَقِ مِنْهُمْ فِي مَسَائِلِ الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ، وَالِاخْتِيَارِ وَالْجَبْرِ، وَتَحْقِيقِ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، وَتَهْوِينِ مُخَالَفَةِ اللهِ عَلَى نُفُوسِ الْعَبِيدِ.
إِذَا وَزَنَّا مَا فِي أَدْمِغَتِنَا مِنَ الِاعْتِقَادَاتِ بِكِتَابِ اللهِ تَعَالَى مِنْ غَيْرِ أَنْ نُدْخِلَهَا أَوَّلًا فِيهِ يَظْهَرُ لَنَا كَوْنُنَا مُهْتَدِينَ أَوْ ضَالِّينَ. وَأَمَّا إِذَا أَدْخَلْنَا مَا فِي أَدْمِغَتِنَا فِي الْقُرْآنِ وَحَشَرْنَاهَا فِيهِ أَوَّلًا فَلَا يُمْكِنُنَا أَنْ نَعْرِفَ الْهِدَايَةَ مِنَ الضَّلَالِ لِاخْتِلَاطِ الْمَوْزُونِ بِالْمِيزَانِ. فَلَا يُدْرَى مَا هُوَ الْمَوْزُونُ مِنَ الْمَوْزُونِ بِهِ - أُرِيدُ أَنْ يَكُونَ الْقُرْآنُ أَصْلًا تُحْمَلُ عَلَيْهِ الْمَذَاهِبُ وَالْآرَاءُ فِي الدِّينِ لَا أَنْ تَكُونَ الْمَذَاهِبُ أَصْلًا وَالْقُرْآنُ هُوَ الَّذِي يُحْمَلُ عَلَيْهَا، وَيُرْجَعُ بِالتَّأْوِيلِ أَوِ التَّحْرِيفِ إِلَيْهَا، كَمَا جَرَى عَلَيْهِ الْمَخْذُولُونَ، وَتَاهَ فِيهِ الضَّالُّونَ.
(الْقِسْمُ الرَّابِعُ) : ضَلَالٌ فِي الْأَعْمَالِ، وَتَحْرِيفٌ لِلْأَحْكَامِ عَمَّا وُضِعَتْ لَهُ، كَالْخَطَأِ فِي فَهْمِ مَعْنَى الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَجَمِيعِ الْعِبَادَاتِ، وَالْخَطَأِ فِي فَهْمِ الْأَحْكَامِ الَّتِي جَاءَتْ فِي الْمُعَامَلَاتِ، وَلْنَضْرِبْ لِذَلِكَ مَثَلًا: الِاحْتِيَالُ فِي الزَّكَاةِ بِتَحْوِيلِ الْمَالِ إِلَى مِلْكِ الْغَيْرِ قَبْلَ حُلُولِ الْحَوَلِ ثُمَّ اسْتِرْدَادُهُ بَعْدَ مُضِيِّ قَلِيلٍ مِنَ الْحَوَلِ الثَّانِي، حَتَّى لَا تَجِبَ الزَّكَاةُ فِيهِ، وَيَظُنُّ الْمُحْتَالُ أَنَّهُ بِحِيلَتِهِ قَدْ خَلَصَ مِنْ أَدَاءِ الْفَرِيضَةِ، وَنَجَا مِنْ غَضَبِ مَنْ لَا تَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ، وَلَا يَعْلَمُ أَنَّهُ بِذَلِكَ قَدْ هَدَمَ رُكْنًا مِنْ أَهَمِّ أَرْكَانِ دِينِهِ، وَجَاءَ بِعَمَلِ مَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّ اللهَ قَدْ فَرَضَ فَرْضًا وَشَرَعَ بِجَانِبِ ذَلِكَ الْفَرْضِ مَا يَذْهَبُ بِهِ وَيَمْحُو أَثَرَهُ، وَهُوَ مُحَالٌ عَلَيْهِ جَلَّ شَأْنُهُ.
ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ مِنْ هَذَا الضَّلَالِ أَوَّلُهَا وَثَالِثُهَا وَرَابِعُهَا يَظْهَرُ أَثَرُهَا فِي الْأُمَمِ فَتَخْتَلُّ قُوَى الْإِدْرَاكِ فِيهَا، وَتَفْسَدُ الْأَخْلَاقُ، وَتَضْطَرِبُ الْأَعْمَالُ، وَيَحُلُّ بِهَا الشَّقَاءُ، عُقُوبَةً مِنَ اللهِ لَا بُدَّ مِنْ نُزُولِهَا بِهِمْ، سُنَّةَ اللهِ فِي خَلْقِهِ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِهِ تَحْوِيلًا. وَيُعَدُّ حُلُولُ الضَّعْفِ وَنُزُولُ الْبَلَاءِ بِأُمَّةٍ مِنَ الْأُمَمِ مِنَ الْعَلَامَاتِ وَالدَّلَائِلِ عَلَى غَضَبِ اللهِ تَعَالَى عَلَيْهَا لِمَا أَحْدَثَتْهُ فِي عَقَائِدِهَا وَأَعْمَالِهَا مِمَّا لَا يُخَالِفُ سُنَنَهُ، وَلَا يَتْبَعُ فِيهِ سُنُنَهُ. لِهَذَا عَلَّمَنَا اللهُ تَعَالَى كَيْفَ نَدْعُوهُ بِأَنْ يَهْدِيَنَا طَرِيقَ الَّذِينَ ظَهَرَتْ نِعْمَتُهُ عَلَيْهِمْ بِالْوُقُوفِ عِنْدَ حُدُودِهِ، وَتَقْوِيمِ الْعُقُولِ وَالْأَعْمَالِ بِفَهْمِ مَا هَدَانَا إِلَيْهِ، وَأَنْ يُجَنِّبَنَا طُرُقَ أُولَئِكَ
الَّذِينَ ظَهَرَتْ فِيهِمْ آثَارُ نِقَمِهِ بِالِانْحِرَافِ عَنْ شَرَائِعِهِ، سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ عَمْدًا وَعِنَادًا، أَوْ غَوَايَةً وَجَهْلًا.
إِذَا ضَلَّتِ الْأُمَّةُ سَبِيلَ الْحَقِّ وَلَعِبَ الْبَاطِلُ بِأَهْوَائِهَا، فَفَسَدَتْ أَخْلَاقُهَا وَاعْتَلَّتْ أَعْمَالُهَا،
وَقَعَتْ فِي الشَّقَاءِ لَا مَحَالَةَ، وَسَلَّطَ اللهُ عَلَيْهَا مَنْ يَسْتَذِلُّهَا وَيَسْتَأْثِرُ بِشُئُونِهَا وَلَا يُؤَخِّرُ لَهَا الْعَذَابَ إِلَى يَوْمِ الْحِسَابِ، وَإِنْ كَانَتْ سَتُلَاقِي نَصِيبَهَا مِنْهُ أَيْضًا، فَإِذَا تَمَادَى بِهَا الْغَيُّ وَصَلَ بِهَا إِلَى الْهَلَاكِ، وَمَحَا أَثَرَهَا مِنَ الْوُجُودِ، هَكَذَا عَلَمَّنَا اللهُ تَعَالَى كَيْفَ نَنْظُرُ فِي أَحْوَالِ مَنْ سَبَقَنَا، وَمَنْ بَقِيَتْ آثَارُهُمْ بَيْنَ أَيْدِينَا مِنَ الْأُمَمِ، لِنَعْتَبِرَ وَنُمَيِّزَ بَيْنَ مَا بِهِ تَسْعَدُ الْأَقْوَامُ وَمَا بِهِ تَشْقَى. أَمَّا فِي الْأَفْرَادِ فَلَمْ تَجْرِ سُنَّةُ اللهِ بِلُزُومِ الْعُقُوبَةِ لِكُلِّ ضَالٍّ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، فَقَدْ يُسْتَدْرَجُ الضَّالُّ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُ، وَيُدْرِكُهُ الْمَوْتُ قَبْلَ أَنْ تَزُولَ النِّعْمَةُ عَنْهُ، وَإِنَّمَا يَلْقَى جَزَاءَهُ (يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ) (82: 19) اهـ.
فَوَائِدُ فِي تَفْسِيرِ الْفَاتِحَةِ
كَانَ غَرَضُنَا الْأَوَّلُ مِنْ كِتَابَةِ تَفْسِيرِ الْفَاتِحَةِ وَنَشْرِهِ فِي الْمَنَارِ هُوَ بَيَانُ مَا نَسْتَفِيدُهُ مِنْ دُرُوسِ شَيْخِنَا الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ، مَعَ شَيْءٍ مِمَّا يَفْتَحُ اللهُ بِهِ عَلَيْنَا بِالِاخْتِصَارِ، فَلِذَلِكَ اخْتَصَرْنَا فِيمَا كَتَبْنَاهُ أَوَّلًا، ثُمَّ لَمَّا طَبَعْنَا تَفْسِيرَ الْفَاتِحَةِ عَلَى حِدَتِهِ مَرَّةً ثَانِيَةً زِدْنَا فِيهِ بَعْضَ زِيَادَاتٍ، وَكَانَ بُدًّا لَنَا أَنْ نَجْعَلَ هَذَا التَّفْسِيرَ مُطَوَّلًا مُسْتَوْفًى. وَلِهَذَا زِدْنَا فِي تَفْسِيرِ الْفَاتِحَةِ هُنَا زِيَادَاتٍ كَثِيرَةً كَمَا نَبَّهْنَا عَلَى ذَلِكَ فِي الْمُقَدِّمَةِ. وَبَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ طَبْعِهِ رَأَيْنَا أَنْ نُعَزِّزَهُ بِالْفَوَائِدِ الْآتِيَةِ:
(حِكْمَةُ إِيثَارِ ذِكْرِ الرُّبُوبِيَّةِ وَالرَّحْمَةِ فِي أَوَّلِ الْفَاتِحَةِ عَلَى سَائِرِ الصِّفَاتِ)
قَدْ عَلِمْتَ أَنَّ اسْمَ الْجَلَالَةِ (اللهُ) هُوَ اسْمُ الذَّاتِ الْجَامِعُ لِمَعَانِي الصِّفَاتِ الْعُلْيَا، وَسَائِرِ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى، وَالْأُصُولِ مِنْ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ الَّتِي تَرْجِعُ إِلَيْهَا غَيْرُهَا، وَتَعُودُ إِلَيْهَا مَعَانِيهَا وَلَوْ بِطْرِيقِ اللُّزُومِ أَرْبَعَةٌ:
اثْنَانِ مِنْهَا ذَاتِيَّانِ وَهُمَا (الْحَيُّ الْقَيُّومُ)
وَالِاثْنَانِ الْآخَرَانِ: فِعْلِيَّانِ وَهُمَا الرَّبُّ وَالرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ، وَبِتَعْبِيرٍ أَظْهَرَ أَوْ أَصَحَّ اثْنَانِ مِنْهُمَا لَا يَتَعَلَّقَانِ بِتَدْبِيرِ الْخَلْقِ، وَاثْنَانِ يَتَعَلَّقَانِ بِهِ، فَالْحَيُّ ذُو الْحَيَاةِ وَهِيَ بِأَعَمِّ مَعَانِيهَا الصِّفَةُ الْوُجُودِيَّةُ الَّتِي هِيَ الْأَصْلُ فِي مَعْقُولِنَا لِجَمِيعِ صِفَاتِ الْكَمَالِ فِي الْوُجُودِ مِنْ صِفَاتِ ذَاتٍ وَصَفَاتِ أَفْعَالٍ كَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ وَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْكَلَامِ، وَهِيَ الصِّفَاتُ الَّتِي يُسَمِّيهَا عُلَمَاءُ الْكَلَامِ صِفَاتِ الْمَعَانِي. وَيَجْعَلُونَ عَلَيْهَا مَدَارَ مَعْرِفَةِ اللهِ تَعَالَى مَعَ الصِّفَاتِ السَّلْبِيَّةِ الَّتِي يُرَادُ بِهَا تَنْزِيهُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا لَا يَلِيقُ مِنَ النَّقْصِ وَمُشَابَهَةِ الْخَلْقِ كَالرَّحْمَةِ وَالْحِلْمِ وَالْغَضَبِ وَالْعَدْلِ وَالْعِزَّةِ وَالْخَالِقِيَّةِ وَالرَّازِقِيَّةِ إِلَخْ، وَكَمَالُ الْحَيَاةِ يَسْتَلْزِمُ الِاتِّصَافَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ وَبِغَيْرِهَا مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ.
وَالْحَيَاةُ فِي الْخَلْقِ قِسْمَانِ: حِسِّيَّةٌ وَمَعْنَوِيَّةٌ، فَالْأُولَى: الْحَيَاةُ النَّبَاتِيَّةُ، وَالْحَيَاةُ الْحَيَوَانِيَّةُ، وَلِكُلٍّ مِنْهَا صِفَاتٌ لَازِمَةٌ لَهَا أَعْلَاهَا فِي الْحَيَاةِ الثَّانِيَةِ حَيَاةُ الْإِنْسَانِ الَّتِي مِنْ خَوَاصِّهَا الْعِلْمُ وَالْإِرَادَةُ وَالْقُدْرَةُ وَالسَّمْعُ وَالْبَصَرُ وَالْكَلَامُ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا يَفْقِدُهُ بِالْمَوْتِ. وَالثَّانِيَةُ الْحَيَاةُ الْعَقْلِيَّةُ وَالْعِلْمِيَّةُ وَالرُّوحِيَّةُ الدِّينِيَّةُ. وَمِنَ الشَّوَاهِدِ الْقُرْآنِيَّةِ عَلَى هَذِهِ الْحَيَاةِ قَوْلُهُ تَعَالَى:(لِيُنْذَرَ مَنْ كَانَ حَيًّا)(36: 70) وَقَوْلُهُ: (اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ)(8: 28) وَكَمَالُ هَذِهِ الْحَيَاةِ لِلْبَشَرِ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي الْآخِرَةِ وَإِنَّمَا يَكُونُ الِاسْتِعْدَادُ لَهُ فِي الدُّنْيَا بِتَزْكِيَةِ النَّفْسِ بِالْعِلْمِ وَالْعَمَلِ.
وَحَيَاةُ الْخَالِقِ تَعَالَى أَعْلَى وَأَكْمَلُ مِنْ حَيَاةِ جَمِيعِ خَلْقِهِ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالْمَلَائِكَةِ
وَهِيَ لَا تُشْبِهُهَا (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) . وَإِنَّمَا نَفْهَمُ مِنْ إِطْلَاقِهَا اللُّغَوِيِّ مَعَ التَّنْزِيهِ أَنَّهَا الصِّفَةُ الذَّاتِيَّةُ الْوَاجِبَةُ الْأَزَلِيَّةُ الْأَبَدِيَّةُ الَّتِي يَلْزَمُهَا اتِّصَافُهُ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ، بِدُونِهَا، فَهِيَ لَا يَتَوَقَّفُ تَعَقُّلُهَا عَلَى غَيْرِهَا مِنَ الصِّفَاتِ، وَيَتَوَقَّفُ تَعَقُّلُ جَمِيعِ الصِّفَاتِ عَلَيْهَا، وَعَبَّرَ عَنْهَا بَعْضُهُمْ بِأَنَّهَا تُصَحِّحُ لَهُ الِاتِّصَافَ بِصِفَاتِ الْمَعَانِي.
وَأَمَّا " الْقَيُّومُ " فَأَحْسَنُ مَا قِيلَ فِي تَفْسِيرِهَا فِي مُعْجَمِ (لِسَانِ الْعَرَبِ) وَهُوَ الْقَائِمُ (أَيِ الثَّابِتُ الْمُتَحَقِّقُ) بِنَفْسِهِ مُطْلَقًا لَا بِغَيْرِهِ وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يَقُومُ بِهِ كُلُّ مَوْجُودٍ حَتَّى لَا يُتَصَوَّرَ وُجُودُ شَيْءٍ وَلَا دَوَامُ وَجُودِهِ إِلَّا بِهِ اهـ. وَسَبَقَهُ إِلَى مِثْلِهِ غَيْرُهُ. وَقَوْلُهُمْ: " الْقَائِمُ بِنَفْسِهِ " بِمَعْنَى قَوْلِ الْمُتَكَلِّمِينَ " وَاجِبُ الْوُجُودِ " أَيِ الَّذِي وُجُودُهُ ثَابِتٌ لِذَاتِهِ غَيْرُ مُسْتَمَدٍّ مِنْ وُجُودٍ آخَرَ فَهُوَ يَسْتَلْزِمُ الْقِدَمَ الَّذِي لَا أَوَّلَ لَهُ، وَالْبَقَاءَ
الَّذِي لَا آخِرَ لَهُ (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ) وَقَوْلُهُمُ: الَّذِي يَقُومُ بِهِ كُلُّ مَوْجُودٍ، مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَا وُجُودَ لِشَيْءٍ غَيْرِهِ ابْتِدَاءً وَلَا بَقَاءَ إِلَّا بِهِ، فَكُلُّ وُجُودٍ سِوَاهُ مُسْتَمَدٌّ مِنْهُ وَبَاقٍ بِبَقَائِهِ إِيَّاهُ (إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ) (35: 41) وَمَنْ كَانَ هَذَا وَصْفُهُ كَانَ بِالضَّرُورَةِ قَادِرًا مُرِيدًا عَلِيمًا حَكِيمًا، فَإِذَا كَانَتِ الْحَيَاةُ تُصَحِّحُ لِصَاحِبِهَا الِاتِّصَافَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ وَغَيْرِهَا وَتَدُلُّ عَلَيْهَا بِقَيْدِ الْكَمَالِ دَلَالَةَ الْتِزَامٍ، فَالْقَيُّومِيَّةُ تَدُلُّ عَلَيْهَا دَلَالَةً بِغَيْرِ قَيْدٍ.
وَلِجَمْعِ هَذَيْنِ الِاسْمَيْنِ الْكَرِيمَيْنِ هَذِهِ الْمَعَانِي وَغَيْرَهَا مِنْ مَعَانِي الْكَمَالِ الْأَعْلَى كَانَ الْقَوْلُ بِأَنَّهُمَا مَعَ اسْمِ الْجَلَالَةِ - مَا يُعَبَّرُ عَنْهُ بِالِاسْمِ الْأَعْظَمِ - هُوَ الْقَوْلَ الرَّاجِحَ الْمُخْتَارَ عِنْدَنَا، وَإِنَّمَا فَسَّرْنَا الِاسْمَيْنِ الْكَرِيمَيْنِ هُنَا وَذِكْرُهُمَا اسْتِطْرَادِيٌّ لَا يَدْخُلُ فِي تَفْسِيرِ الْفَاتِحَةِ؛ لِأَنَّ أَكْثَرَ الْقُرَّاءِ لَا يَفْهَمُ مَعَانِيَهُمَا الَّتِي يَدُلُّ عَلَيْهَا لَفْظُهُمَا بِطُرُقِ الدَّلَالَةِ الثَّلَاثِ: الْمُطَابَقَةُ وَالتَّضَمُّنُ وَالِالْتِزَامُ.
وَأَمَّا صِفَتَا الرُّبُوبِيَّةِ وَالرَّحْمَةِ فَهُمَا الصِّفَتَانِ الدَّالَّتَانِ عَلَى أَنَّ اللهَ تَعَالَى هُوَ الْمَالِكُ الْمُدَبِّرُ لِأُمُورِ الْعَالَمِ كُلِّهَا، وَعَلَى أَنَّ رَحْمَتَهُ تَعَالَى تَغَلِبُ غَضَبَهُ، وَإِحْسَانَهُ الَّذِي هُوَ أَثَرُ رَحْمَتِهِ يَغْلِبُ انْتِقَامَهُ، وَمَعْنَى الِانْتِقَامِ لُغَةً: الْجَزَاءُ عَلَى السَّيِّئَاتِ، فَإِذَا كَانَ جَزَاءٌ عَلَى السَّيِّئَةِ بِمِثْلِهَا كَانَ انْتِقَامَ حَقٍّ وَعَدْلٍ، وَإِنْ كَانَ بِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ كَانَ انْتِقَامَ بَاطِلٍ وَجَوْرٍ، وَاللهُ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنِ الْبَاطِلِ وَالْجَوْرِ (وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا) (18: 49) بَلْ يَتَجَاوَزُ عَنْ بَعْضِ السَّيِّئَاتِ، وَيُضَاعِفُ جَزَاءَ الْحَسَنَاتِ (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ) (25: 42) ، (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنِ كَثِيرٍ) (30: 42) ، (إِنَّ اللهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا) (4: 40) وَالْآيَاتُ فِي الْجَزَاءِ عَلَى السَّيِّئَةِ بِمِثْلِهَا وَعَلَى الْحَسَنَةِ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا مَعْرُوفَةٌ، وَكَذَا آيَةُ الْمُضَاعَفَةِ سَبْعِمِائَةَ ضِعْفٍ وَمَا شَاءَ اللهُ تَعَالَى.
فَمِنْ شَأْنِ الرَّبِّ الْمَالِكِ لِلْعِبَادِ الْمُدَبِّرِ لِأُمُورِهِمُ الْمُرَبِّي لَهُمْ أَنْ يُجَازِيَ كُلَّ عَامِلٍ بِعَمَلِهِ،
وَيَنْتَقِمَ لِلْمَظْلُومِ مِنْ ظَالِمِهِ، وَالْجَزَاءُ بِالْعَدْلِ مُخِيفٌ لِأَكْثَرِ النَّاسِ بَلْ لِجَمِيعِ النَّاسِ، فَإِنَّهُ مَا مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَيُقَصِّرُ فِيمَا يَجِبُ عَلَيْهِ لِرَبِّهِ وَلِنَفْسِهِ وَلِأَهْلِهِ وَلِوَلَدِهِ بَلْهَ مَنْ دُونَهُمْ حَقًّا عَلَيْهِ وَمَكَانَةً عِنْدَهُ، وَمِنْ حَقِّهِمْ أَنْ يَغْلِبَ الْخَوْفُ عَلَى الرَّجَاءِ فِي
قُلُوبِهِمْ، وَلِذَلِكَ قَرَنَ سُبْحَانَهُ صِفَةَ الرُّبُوبِيَّةِ بِصِفَةِ الرَّحْمَةِ، وَعَبَّرَ عَنْهَا بِاسْمَيْنِ لَا بَاسِمٍ وَاحِدٍ: اسْمِ الرَّحْمَنِ الدَّالِّ عَلَى مُنْتَهَى الْكَمَالِ فِي اتِّصَافِهِ بِهَا، وَاسْمِ الرَّحِيمِ الدَّالِّ عَلَى أَنَّهَا مِنَ الصِّفَاتِ النَّفْسِيَّةِ الْمَعْنَوِيَّةِ مَعَ تَعَلُّقِهَا بِالْحَقِّ تَعَلُّقًا تَنْجِيزِيًّا كَقَوْلِهِ تَعَالَى:(إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا)(4: 29)، (وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا) (33: 34) وَبِهَذَا التَّفْسِيرِ ضَمَمْنَا فِي التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الِاسْمَيْنِ مَا قَالَهُ الْمُحَقِّقُ ابْنُ الْقَيِّمِ إِلَى مَا قَالَهُ شَيْخُنَا رَحِمَهُمَا اللهُ.
وَأَمَّا دَلَالَةُ صِفَتَيِ الرُّبُوبِيَّةِ وَالرَّحْمَةِ عَلَى جَمِيعِ مَعَانِي صِفَاتِ الْأَفْعَالِ الْإِلَهِيَّةِ فَظَاهِرٌ؛ فَإِنَّ رَبَّ الْعِبَادِ هُوَ الَّذِي يُسْدِي إِلَيْهِمْ كُلَّ مَا يَتَعَلَّقُ بِخَلْقِهِمْ وَرِزْقِهِمْ وَتَدْبِيرِ شُئُونِهِمْ مِنْ فِعْلٍ دَلَّتْ عَلَيْهِ أَسْمَاؤُهُ الْحُسْنَى كَالْخَالِقِ الْبَارِئِ الْمُصَوِّرِ الْقَهَّارِ الْوَهَّابِ الرَّزَّاقِ الْفَتَّاحِ الْقَابِضِ الْبَاسِطِ الْخَافِضِ الرَّافِعِ الْمُعِزِّ الْمُذِلِّ الْحَكَمِ الْعَدْلِ اللَّطِيفِ الْخَبِيرِ الْحَلِيمِ الرَّقِيبِ الْمُقِيتِ الْبَاعِثِ الشَّهِيدِ الْمُحْصِي الْمُبْدِئِ الْمُعِيدِ الْمَحْيِي الْمُمِيتِ الْمُقَدِّمِ الْمُؤَخَّرِ الْمُغْنِي الْمَانِعِ الضَّارِّ النَّافِعِ وَأَمْثَالِهَا. وَالرَّحْمَنُ فِي ذَاتِهِ الرَّحِيمُ بِعِبَادِهِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ تَوَّابًا غَفُورًا عَفُوًّا رَءُوفًا شَكُورًا حَلِيمًا وَهَّابًا.
إِذَا عَلِمْنَا هَذَا تَجَلَّتْ لَنَا حِكْمَةُ وَصْفِ اللهِ تَعَالَى فِي أَوَّلِ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ بِالرُّبُوبِيَّةِ وَالرَّحْمَةِ الدَّالَّتَيْنِ عَلَى جَمِيعِ صِفَاتِ الْأَفْعَالِ دُونَ الْحَيَاةِ وَالُقَيُّومِيَّةِ الدَّالَّتَيْنِ عَلَى صِفَاتِ الذَّاتِ وَغَيْرِهَا، وَهِيَ - وَاللهُ أَعْلَمُ بِمُرَادِهِ - أَنَّ الْفَاتِحَةَ يُنْظَرُ فِيهَا مِنْ وَجْهَيْنِ (أَحَدُهُمَا) : مَا دَلَّ عَلَيْهِ اسْمُهَا هَذَا؛ أَعْنِي كَوْنَهَا فَاتِحَةً وَمَبْدَأً لِلْقُرْآنِ (وَثَانِيهُمَا) : أَنَّهَا قَدْ شُرِعَتْ لِلْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَوَاتِ كُلَّ يَوْمٍ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا يُنَاسِبُهُ الْبَدْءُ بِذِكْرِ رُبُوبِيَّةِ اللهِ وَرَحْمَتِهِ.
ذَلِكَ بِأَنَّ الْقُرْآنَ كَمَا قَالَ اللهُ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ (هُدًى لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ)(2: 2 - 3) إِلَخْ. الْآيَاتِ. فَهُمُ الَّذِينَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ، وَهُمُ الَّذِينَ يَتَدَبَّرُونَهُ وَيَتَّعِظُونَ بِهِ، وَهُمُ (الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ) (21: 49) فَالْمُنَاسِبُ فِي حَقِّهِمْ أَنْ تَكُونَ السُّورَةُ الْأُولَى وَهِيَ الْمَثَانِي الَّتِي يُثَنُّونَهَا دَائِمًا فِي صَلَاتِهِمْ وَفِي بَدْءِ أَوْرَادِهِمُ الْقُرْآنِيَّةِ الْمُسَمَّاةِ بِالْخَتَمَاتِ مَبْدُوءَةً بِذِكْرِ الصِّفَتَيْنِ الْجَامِعَتَيْنِ لِمَعَانِي الصِّفَاتِ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِتَدْبِيرِ اللهِ سُبْحَانَهُ لِشُئُونِهِمْ، وَبِعَدْلِهِ فِي الْحُكْمِ بَيْنَهُمْ فِيمَا يَخْتَصِمُونَ فِيهِ، وَبِمُجَازَاتِهِمْ عَلَى أَعْمَالِهِمْ، وَبِرَحْمَتِهِ لَهُمْ وَإِحْسَانِهِ إِلَيْهِمُ
الدَّالَّتَيْنِ عَلَى مَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ مِنْ شُكْرِهِ وَتَخْصِيصِهِ بِالْعِبَادَةِ وَالِاسْتِعَانَةِ، وَالتَّوَجُّهِ إِلَيْهِ فِي طَلَبِ كَمَالِ الْهِدَايَةِ، وَهَاتَانِ الصِّفَتَانِ هُمَا الرُّبُوبِيَّةُ وَالرَّحْمَةُ.
فَبَدْءُ فَاتِحَةِ الْقُرْآنِ بِذِكْرِهِمَا فِي الْبَسْمَلَةِ ثُمَّ أَثْنَاءَ السُّورَةِ مُرْشِدٌ لِمَا ذُكِرَ، مُذَكِّرٌ لِلْمُصَلِّي وَلِلتَّالِي بِهِ. وَكَذَا بَدْءُ كُلِّ سُورَةٍ بِالْبَسْمَلَةِ الَّتِي لَمْ يُوصَفِ اسْمُ الذَّاتِ (اللهُ) فِيهَا بِغَيْرِ الرَّحْمَةِ الْكَامِلَةِ الشَّامِلَةِ، هُوَ إِعْلَامٌ مِنْهُ سُبْحَانَهُ بِأَنَّهُ أَنْزَلَهُ رَحْمَةً لِلْعَالِمِينَ، كَمَا قَالَ مُخَاطِبًا لِمَنْ أَنْزَلَهُ
عَلَيْهِ: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)(21: 107) وَلِذَلِكَ لَمْ تَنْزِلِ الْبَسْمَلَةُ فِي أَوَّلِ سُورَةِ التَّوْبَةِ الَّتِي فَضَحَتْ آيَاتُهَا الْمُنَافِقِينَ، وَبُدِئَتْ بِنَبْذِ عُهُودِ الْمُشْرِكِينَ، وَشُرِعَ فِيهَا الْقِتَالُ بِصِفَةٍ أَعَمُّ مِمَّا أَنْزَلَهُ فِيمَا قَبْلَهَا مِنْ أَحْكَامِهِ.
وَهَذَا الَّذِي شَرَحْنَاهُ يُفَنِّدُ زَعْمَ بَعْضِ الْمُتَعَصِّبِينَ الْغُلَاةِ فِي ذَمِّ الْإِسْلَامِ بِالْهَوَى الْبَاطِلِ أَنَّ رَبَّ الْمُسْلِمِينَ رَبٌّ غَضُوبٌ مُنْتَقِمٌ قَهَّارٌ، وَدِينَهُمْ دِينُ رُعْبٍ وَخَوْفٍ، بِخِلَافِ دِينِ النَّصْرَانِيَّةِ الَّذِي يُسَمِّي الرَّبَّ أَبًا لِلْإِعْلَامِ بِأَنَّهُ يُعَامِلُ عِبَادَهُ كَمُعَامَلَةِ الْأَبِ لِأَوْلَادِهِ، وَقَدْ أَشَارَ شَيْخُنَا إِلَى هَذَا الزَّعْمِ وَفَنَّدَهُ فِي تَفْسِيرِ اسْمِ الرَّبِّ. وَسَنَذْكُرُ فِي فَائِدَةٍ أُخْرَى الْمُقَابَلَةَ بَيْنَ صَلَاةِ الْمُسْلِمِينَ بِقِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ وَصَلَاةِ النَّصَارَى بِالصِّيغَةِ الْمَعْرُوفَةِ عِنْدَهُمْ بِالصَّلَاةِ الرَّبَّانِيَّةِ، وَثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّ الرَّبَّ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنَ الْأُمِّ بِوَلَدِهَا الرَّضِيعِ، وَأَنَّ جَمِيعَ مَا أَوْدَعَهُ فِي قُلُوبِ خَلْقِهِ مِنَ الرَّحْمَةِ جُزْءٌ مِنْ مِائَةِ جُزْءٍ مِنْ رَحْمَتِهِ تبارك وتعالى، وَيَجِدُ الْقَارِئُ تَفْصِيلَ الْقَوْلِ فِي سَعَةِ الرَّحْمَةِ الْإِلَهِيَّةِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ عز وجل:(وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ)(7: 156) مِنْ سُورَةِ الْأَعْرَافِ.
تَفْسِيرُ صِفَةِ الرَّحْمَةِ عَلَى مَذْهَبِ السَّلَفِ
مَا نَقَلْنَاهُ عَنْ شَيْخِنَا فِي مَعْنَى الرَّحْمَةِ (ص 38) . تَبِعَ فِيهِ مُتَكَلِّمِي الْأَشَاعِرَةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَمُفَسِّرِيهِمْ كَالزَّمَخْشَرِيِّ وَالْبَيْضَاوِيِّ ذُهُولًا. وَمُحَصَّلُهُ أَنَّ الرَّحْمَةَ لَيْسَتْ مِنْ صِفَاتِ الذَّاتِ أَوْ صِفَاتِ الْمَعَانِي الْقَائِمَةِ بِذَاتِهِ تَعَالَى لِاسْتِحَالَةِ مَعْنَاهَا اللُّغَوِيِّ عَلَيْهِ فَيَجِبُ تَأْوِيلُهَا بِلَازِمِهَا وَهُوَ الْإِحْسَانُ فَتَكُونُ مِنْ صِفَاتِ الْأَفْعَالِ كَالْخَالِقِ الرَّزَّاقِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُمْكِنُ تَأْوِيلُهَا بِإِرَادَةِ الْإِحْسَانِ فَتَرْجِعُ إِلَى صِفَةِ الْإِرَادَةِ فَلَا تَكُونُ صِفَةً مُسْتَقِلَّةً. وَهَذَا الْقَوْلُ مِنْ فَلْسَفَةِ الْمُتَكَلِّمِينَ الْبَاطِلَةِ الْمُخَالَفَةِ لِهَدْيِ السَّلَفِ الصَّالِحِ.
وَالتَّحْقِيقُ: أَنَّ صِفَةَ الرَّحْمَةِ كَصِفَةِ الْعِلْمِ وَالْإِرَادَةِ وَالْقُدْرَةِ وَسَائِرِ مَا يُسَمِّيهِ الْأَشَاعِرَةُ صِفَاتِ الْمَعَانِي وَيَقُولُونَ إِنَّهَا صِفَاتٌ قَائِمَةٌ بِذَاتِهِ تَعَالَى خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ. فَإِنَّ مَعَانِيَ هَذِهِ الصِّفَاتِ كُلِّهَا بِحَسْبِ مَدْلُولِهَا اللُّغَوِيِّ وَاسْتِعْمَالِهَا فِي الْبَشَرِ مُحَالٌ عَلَى اللهِ تَعَالَى إِذِ الْعِلْمُ بِحَسْبَ مَدْلُولِهِ اللُّغَوِيِّ هُوَ صُورَةُ الْمَعْلُومَاتِ فِي الذِّهْنِ، الَّتِي اسْتَفَادَهَا مِنْ إِدْرَاكِ الْحَوَاسِّ أَوْ مِنَ الْفِكْرِ، وَهِيَ بِهَذَا الْمَعْنَى مُحَالٌ عَلَى اللهِ تَعَالَى، فَإِنَّ عِلْمَهُ تَعَالَى قَدِيمٌ بِقِدَمِهِ غَيْرُ عَرَضٍ مُنْتَزَعٍ مِنْ صُوَرِ الْمَعْلُومَاتِ. وَكَذَلِكَ يُقَالُ فِي سَمْعِهِ تَعَالَى وَبَصَرِهِ وَقَدْ عَدُّوهُمَا مِنْ صِفَاتِ الْمَعَانِي الْقَائِمَةِ بِنَفْسِهِ، وَالرَّحْمَةُ مِثْلُهَا فِي هَذَا.
فَقَاعِدَةُ السَّلَفِ فِي جَمِيعِ الصِّفَاتِ الَّتِي وَصَفَ اللهُ تَعَالَى بِهَا نَفْسَهُ فِي كِتَابِهِ وَعَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ أَنْ نُثْبِتَهَا لَهُ وَنُمِرَّهَا كَمَا جَاءَتْ مَعَ التَّنْزِيهِ عَنْ صِفَاتِ الْخَلْقِ الثَّابِتِ عَقْلًا وَنَقْلًا بِقَوْلِهِ عز وجل (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) فَنَقُولُ: إِنَّ لِلَّهِ عِلْمًا حَقِيقِيًّا هُوَ وَصْفٌ لَهُ، وَلَكِنَّهُ لَا يُشْبِهُ عِلْمَنَا، وَإِنَّ لَهُ سَمْعًا حَقِيقِيًّا هُوَ وَصْفٌ لَهُ لَا يُشْبِهُ سَمْعَنَا، وَإِنَّ لَهُ رَحْمَةً حَقِيقِيَّةً هِيَ وَصْفٌ لَهُ لَا تُشْبِهُ رَحْمَتَنَا الَّتِي هِيَ انْفِعَالٌ فِي النَّفْسِ، وَهَكَذَا نَقُولُ فِي سَائِرِ صِفَاتِهِ تَعَالَى فَنَجْمَعُ بِذَلِكَ بَيْنَ النَّقْلِ وَالْعَقْلِ،
وَأَمَّا التَّحَكُّمُ بِتَأْوِيلِ بَعْضِ الصِّفَاتِ وَجَعْلِ إِطْلَاقِهَا مِنَ الْمَجَازِ الْمُرْسَلِ. أَوِ الِاسْتِعَارَةِ التَّمْثِيلِيَّةِ كَمَا قَالُوا فِي الرَّحْمَةِ وَالْغَضَبِ وَأَمْثَالِهِمَا دُونَ الْعِلْمِ وَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَأَمْثَالِهِمَا، فَهُوَ تَحَكُّمٌ فِي صِفَاتِ اللهِ وَإِلْحَادٌ فِيهَا، فَأَمَّا أَنْ تُجْعَلَ كُلُّهَا مِنْ بَابِ الْحَقِيقِيَّةِ مَعَ الِاعْتِرَافِ بِالْعَجْزِ عَنْ إِدْرَاكِ كُنْهِ هَذِهِ الْحَقِيقَةِ وَالِاكْتِفَاءِ بِالْإِيمَانِ بِمَعْنَى الصِّفَةِ الْعَامَّةِ مَعَ التَّنْوِيهِ عَنِ التَّشْبِيهِ، وَإِمَّا أَنْ تُجْعَلَ كُلُّهَا مِنْ بَابِ الْمَجَازِ اللُّغَوِيِّ بِاعْتِبَارِ أَنَّ وَاضِعَ اللُّغَةِ وَضَعَ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ لِصِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ فَاسْتَعْمَلَهَا الشَّرْعُ فِي الصِّفَاتِ الْإِلَهِيَّةِ الْمُنَاسِبَةِ لَهَا مَعَ الْعِلْمِ بِعَدَمِ شَبَهِهَا بِهَا مِنْ بَابِ التَّجَوُّزِ.
وَقَدْ عَبَّرَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ الْغَزَالِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى عَنْ هَذَا الْمَعْنَى أَفْصَحَ تَعْبِيرٍ، فَقَالَ فِي كِتَابِ الشُّكْرِ مِنَ الْإِحْيَاءِ: إِنَّ اللهَ عز وجل فِي جَلَالِهِ وَكِبْرِيَائِهِ صِفَةٌ يَصْدُرُ عَنْهَا الْخَلْقُ وَالِاخْتِرَاعُ وَتِلْكَ الصِّفَةُ أَعْلَى وَأَجَلُّ مِنْ أَنْ تَلْمَحَهَا عَيْنُ وَاضِعِ اللُّغَةِ حَتَّى تُعَبِّرَ عَنْهَا بِعِبَارَةٍ تَدُلُّ عَلَى كُنْهِ جَلَالِهَا وَخُصُوصِ حَقِيقَتِهَا، فَلَمْ يَكُنْ لَهَا فِي الْعَالَمِ عِبَارَةٌ لِعُلُوِّ شَأْنِهَا وَانْحِطَاطِ رُتْبَةِ وَاضِعِي اللُّغَاتِ عَنْ أَنْ يَمْتَدَّ طَرَفُ فَهْمِهِمْ إِلَى
مَبَادِئِ إِشْرَاقِهَا، فَانْخَفَضَتْ عَنْ ذُرْوَتِهَا أَبْصَارُهُمْ كَمَا تَنْخَفِضُ أَبْصَارُ الْخَفَافِيشِ عَنْ نُورِ الشَّمْسِ، لَا لِغُمُوضٍ فِي نُورِ الشَّمْسِ، وَلَكِنْ لِضَعْفِ أَبْصَارِ الْخَفَافِيشِ، فَاضْطُرَّ الَّذِينَ فُتِحَتْ أَبْصَارُهُمْ لِمُلَاحَظَةِ جَلَالِهَا إِلَى أَنْ يَسْتَعِيرُوا مِنْ حَضِيضِ عَالَمِ الْمُتَنَاطِقِينَ بِاللُّغَاتِ عِبَارَةً تُفْهِمُ مِنْ مَبَادِئِ حَقَائِقِهَا شَيْئًا ضَعِيفًا جِدًّا، فَاسْتَعَارُوا لَهَا اسْمَ الْقُدْرَةِ فَتَجَاسَرْنَا بِسَبَبِ اسْتِعَارَتِهِمْ عَلَى النُّطْقِ فَقُلْنَا: إِنَّ لِلَّهِ تَعَالَى صِفَةً هِيَ الْقُدْرَةُ، عَنْهَا يَصْدُرُ الْخَلْقُ وَالِاخْتِرَاعُ اهـ.
وَقَدْ رَجَعَ الْإِمَامُ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ شَيْخُ الْمُتَكَلِّمِينَ وَالنُّظَّارِ إِلَى مَذْهَبِ السَّلَفِ فِي نِهَايَةِ أَمْرِهِ، وَصَرَّحَ فِي آخِرِ كُتُبِهِ وَهُوَ (الْإِبَانَةُ) بِذَلِكَ، وَأَنَّهُ مُتَّبِعٌ لِلْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ شَيْخِ السُّنَّةِ وَالْمُدَافِعِ عَنْهَا رحمهم الله أَجْمَعِينَ.
مُعَارَضَةٌ نَصْرَانِيَّةٌ سَخِيفَةٌ، لِلْفَاتِحَةِ الشَّرِيفَةِ
عَرَفَ كُلٌّ مَنْ ذَاقَ طَعْمَ الْبَلَاغَةِ الْعَرَبِيَّةِ مِنْ مُؤْمِنٍ وَكَافِرٍ أَنَّ الْقُرْآنَ أَبْلَغُ الْكَلَامِ وَأَفْصَحُهُ، لَمْ يُكَابِرْ فِي ذَلِكَ مُكَابِرٌ، وَلَمْ يُجَادِلْ فِيهِ مُجَادِلٌ، وَأَنَّ الْفَاتِحَةَ مِنْ أَعْلَاهُ فَصَاحَةً وَبَلَاغَةً وَجَمْعًا لِلْمَعَانِي الْكَثِيرَةِ فِي الْأَلْفَاظِ الْقَلِيلَةِ، وَاشْتِمَالًا عَلَى مُهِمَّاتِ الدِّينِ مِنْ صِفَاتِ اللهِ الَّتِي تَجْذِبُ قَلْبَ مِنْ تَدَبَّرَهَا إِلَى حُبِّهِ، وَتُنْطِقُ لِسَانَهُ بِحَمْدِهِ، وَتُعْلِي هِمَّتَهُ بِتَوْحِيدِهِ. وَتُهَذِّبُ نَفْسَهُ بِمَعَانِي أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، وَإِحَاطَةِ رُبُوبِيَّتِهِ وَمِلْكِهِ، وَتُذَكِّرُهُ يَوْمَ الدِّينِ الَّذِي يُجْزَى فِيهِ عَلَى عَمَلِهِ، وَتُوَجِّهُ وَجْهَهُ إِلَى السَّيْرِ عَلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ، وَفِي مُعَامَلَةِ اللهِ وَمُعَامَلَةِ خَلْقِهِ، وَتُذَكِّرُهُ بِالْقُدْوَةِ الصَّالِحَةِ فِي ذَلِكَ بِإِضَافَةِ الصِّرَاطِ الَّذِي يَتَحَرَّى الِاسْتِقَامَةَ عَلَيْهِ، وَيَسْأَلُ اللهَ تَوْفِيقَهُ دَائِمًا لَهُ، إِلَى مَنْ أَسْبَغَ اللهُ عَلَيْهِمْ نِعَمَهُ، وَمَنَحَهُمْ رِضْوَانُهُ، وَجَعَلَهُمْ هُدَاةَ خَلْقِهِ بِأَقْوَالِهِمْ،
وَأُسْوَتَهُمُ الْحَسَنَةَ فِي أَفْعَالِهِمْ، وَمُثُلَ الْكَمَالِ فِي آدَابِهِمْ وَأَخْلَاقِهِمْ، مِنَ النَّبِيَّيْنِ وَالصَّدِيقَيْنِ، وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ، وَتُحَذِّرُهُ مِنْ شَرَارِ الْخَلْقِ الَّذِينَ يُؤْثِرُونَ الْبَاطِلَ عَلَى الْحَقِّ، وَيُفَضِّلُونَ الشَّرَّ عَلَى الْخَيْرِ، عَلَى عِلْمٍ مِنْهُمْ بِذَلِكَ. وَهُمُ الْمَغْضُوبُ عَلَيْهِمْ - أَوْ عَلَى جَهْلٍ بِهِ كَالَّذِينِ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا، وَهُمُ الضَّالُّونَ. وَهَذَا التَّحْذِيرُ يَتَضَمَّنُ حَثَّ
الْمُسْلِمِ الْمُتَعَبِّدِ بِالْفَاتِحَةِ الْمُكَرِّرِ لَهَا فِي صَلَاتِهِ عَلَى الْعِنَايَةِ بِتَكْمِيلِ نَفْسِهِ بِتَحَرِّي الْتِزَامِ الْحَقِّ وَعَمَلِ الْخَيْرِ، بِأَحْكَامِ الْعِلْمِ وَتَرْبِيَةِ النَّفْسِ وَالتَّمَرُّنِ عَلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ.
هَذِهِ السُّورَةُ الْجَلِيلَةُ الَّتِي ذَكَّرْنَاكَ أَيُّهَا الْقَارِئُ بِمُجْمَلٍ مِمَّا فَصَّلْنَاهُ فِي تَفْسِيرِهَا يَزْعُمُ أَحَدُ دُعَاةِ النَّصْرَانِيَّةِ فِي هَذَا الْعَصْرِ أَنَّهَا بِمَعْزِلٍ مِنَ الْبَلَاغَةِ بِأَنَّ مَا بَعْدَ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ فِيهَا " حَشْوٌ وَتَحْصِيلُ حَاصِلٍ " وَمَا قَبْلَهُ يُمْكِنُ اخْتِصَارُهُ بِمَا لَا يُضَيِّعُ شَيْئًا مِنْ مَعْنَاهُ، كَمَا فَعَلَهُ بَعْضُهُمْ، قَالَ هَذَا الْقَوْلَ دَاعِيَةٌ مِنَ الْمُبَشِّرِينَ الْمَأْجُورِينَ مِنْ قِبَلِ جَمْعِيَّاتِ التَّبْشِيرِ الْإِنْكِلِيزِيَّةِ وَالْأَمِيرِكَانِيَّةِ فِي كِتَابٍ لَفَّقَهُ فِي إِبْطَالِ إِعْجَازِ الْقُرْآنِ بِزَعْمِهِ، بَلْ أَنْكَرَ بَلَاغَتَهُ مِنْ أَصْلِهَا؛ قَالَ:
" وَمَا أَحْسَنَ قَوْلِ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ لَوْ قَالَ: الْحَمْدُ لِلرَّحْمَنِ، رَبِّ الْأَكْوَانِ، الْمَلِكِ الدَّيَّانِ، لَكَ الْعِبَادَةُ وَبِكَ الْمُسْتَعَانُ، اهْدِنَا صِرَاطَ الْإِيمَانِ، لَأَوْجَزَ وَجَمَعَ كَلَّ الْمَعْنَى وَتَخَلَّصَ مِنْ ضَعْفِ التَّأْلِيفِ وَالْحَشْوِ وَالْخُرُوجِ عَنِ الرَّدِيءِ كَمَا بَيْنَ الرَّحِيمِ وَنَسْتَعِينُ " أهـ.
أَقُولُ لَقَدْ كَانَ خَيْرًا لِهَذَا الْمُتَعَصِّبِ الْمَأْجُورِ لِإِضْلَالِ عَوَامِّ الْمُسْلِمِينَ عَلَى شَرْطِ أَلَّا يَذْكُرَ اسْمَهُ فِي كُتَيِّبِهِ، وَلَا يَفْضَحَ نَفْسَهُ بَيْنَ قَوْمِهِ، أَنْ يَخْتَصِرَ لِمُسْتَأْجِرِيهِ آلِهَتَهُمْ وَكُتُبَهُمُ الَّتِي صَدَّتْ جَمِيعَ مُسْتَقِلِّي الْفِكْرِ مِنْ أَقْوَامِهِمْ وَشُعُوبِهِمْ عَنْ دِينِهِمْ بَلْ صَدَّتْ بَعْضَهُمْ عَنْ كُلِّ دِينٍ، فَإِنَّ اخْتِصَارَ الدَّرَارِيِّ السَّبْعِ فِي السَّمَاءِ، أَهْوَنُ مِنَ اخْتِصَارِ آيَاتِ الْفَاتِحَةِ السَّبْعِ فِي الْأَرْضِ. وَحَسْبُ الْعَالَمِ مِنْ فَضِيحَتِهِ إِيرَادُ سَخَافَتِهِ هَذِهِ وَتَشْهِيرُهُ بِهَا لَوْ كَانَ حَيًّا يَمْشِي بَيْنَ النَّاسِ.
وَأَمَّا الْعَامِّيُّ الْجَاهِلُ، الَّذِي قَدْ يَغْتَرُّ بِقَوْلِ كُلِّ قَائِلٍ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ فِي الطَّعْنِ بِغَيْرِ دِينِهِ، فَرُبَّمَا يَحْتَاجُ إِلَى التَّنْبِيهِ لِبَعْضِ فَضَائِحِ هَذَا الِاخْتِصَارِ، وَإِنْ كَانَتْ لَا تَخْفَى عَلَى أُولِي الْأَبْصَارِ وَنَكْتَفِي مِنْهُ بِمَا يَلِي:
(1)
إِنَّ أَوَّلَ شَيْءٍ اخْتَصَرَهُ هَذَا الْجَاهِلُ الْمُتَعَصِّبُ وَجَعَلَ ذِكْرَهُ مَطْعَنًا فِي فَاتِحَةِ الْقُرْآنِ اسْمُ الْجَلَالَةِ الْأَعْظَمِ (اللهُ) الَّذِي لَا يُغْنِي عَنْهُ سَرْدُ جَمِيعِ أَسْمَاءِ اللهِ الْحُسْنَى! فَإِنَّهُ هُوَ اسْمُ الذَّاتِ الْمُلَاحَظُ مَعَهُ اتِّصَافُ تِلْكَ الذَّاتِ بِجَمِيعِ صِفَاتِ الْكَمَالِ إِجْمَالًا.
(2)
أَنَّهُ اخْتَصَرَ اسْمَ الرَّحِيمِ وَقَدْ بَيَّنَّا فَائِدَتَهُ وَأَنَّ اسْمَ الرَّحْمَنِ لَا يُغْنِي عَنْهُ،
وَأَنَّى لِمِثْلِهِ أَنْ يَعْلَمَهُ؟ وَيُرَاجَعُ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا فِيمَا تَقَدَّمَ.
(3)
أَنَّهُ اسْتَبْدَلَ الْأَكْوَانَ بِالْعَالَمِينَ وَلَيْسَ فِي هَذَا اخْتِصَارٌ، وَإِنَّمَا فِيهِ اسْتِبْدَالُ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَأَوْلَى، فَإِنَّ الْأَكْوَانَ جَمْعُ كَوْنٍ، وَهُوَ فِي الْأَصْلِ مَصْدَرٌ لَا يُجْمَعُ،
وَلَهُ مَعَانٍ لَا يَصِحُّ إِضَافَةُ اسْمِ الرَّبِّ إِلَيْهَا، مِنْهَا الْحَدَثُ وَالصَّيْرُورَةُ وَالْكَفَالَةُ، وَيُطْلِقُهُ عَرَبُ الْجَزِيرَةِ عَلَى الْحَرْبِ لَعَلَّهُمْ لَا يَسْتَعْمِلُونَهُ فِي غَيْرِهَا، وَأَمَّا الْعَالَمُونَ فَجَمْعُ عَالَمٍ، وَفِي اشْتِقَاقِهِ التَّذْكِيرُ بِكَوْنِهِ عَلَامَةً وَدَلِيلًا عَلَى وُجُودِ خَالِقِهِ، وَفِي جَمْعِهِ جَمْعَ الْعُقَلَاءِ تَذْكِيرٌ لِلْقَارِئِ بِمَا فِي كَلِمَةِ رَبٍّ مِنْ مَعْنَى تَرْبِيَتِهِ جل جلاله وَعَمَّ نَوَالُهُ لِلْأَحْيَاءِ وَلَا سِيَّمَا النَّاسُ، وَكَوْنُهُمْ يَشْكُرُونَهُ عَلَيْهَا بِقَدْرِ اسْتِعْمَالِ عُقُولِهِمْ، وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْضُ الْأَعْلَامِ: إِنَّ لَفْظَ الْعَالَمِينَ عَامٌّ مُسْتَعْمَلٌ هُنَا فِي الْخَاصِّ، وَهُوَ عَالَمُ الْبَشَرِ، وَرَاجِعْ سَائِرَ تَفْسِيرِهِ الْمُتَقَدِّمِ.
(4)
أَنَّهُ اسْتَبْدَلَ كَلِمَةَ (الدَّيَّانِ) بِكَلِمَةِ (يَوْمِ الدِّينِ) وَهِيَ لَا تَقُومُ مَقَامَهَا، وَلَا تُفِيدُ مَا فِيهَا مِنَ الْمَعَانِي الْمَطْلُوبَةِ لِذَاتِهَا، فَإِنَّ لِلدَّيَّانِ فِي اللُّغَةِ مَعَانِيَ مِنْهَا الْقَاضِي وَالْحَاسِبُ أَوِ الْمُحَاسِبُ وَالْقَاهِرُ. وَغَايَةُ مَا يُفِيدُهُ وَصْفُ الرَّبِّ بِأَنَّهُ حَاكِمٌ يَدِينُ عِبَادَهُ وَيَجْزِيهِمْ. وَأَمَّا يَوْمُ الدِّينِ: فَإِنَّهُ اسْمٌ لِيَوْمٍ مُعَيَّنٍ مَوْصُوفٍ فِي كِتَابِ اللهِ بِأَوْصَافٍ عَظِيمَةٍ هَائِلَةٍ، يُحَاسِبُ اللهُ فِيهِ الْخَلَائِقَ وَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ وَيَجْزِيهِمْ، وَالْإِيمَانُ بِهَذَا الْيَوْمِ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الدِّينِ، وَإِضَافَةُ مَلِكٍ وَمَالِكٍ إِلَيْهِ تُفِيدُ أَنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ لَهُ وَحْدَهُ فَلَا يَمْلِكُ أَحَدٌ لِأَحَدٍ فِيهِ شَيْئًا مِنْ نَفْعٍ وَلَا مِنْ كَشْفِ ضُرٍّ كَمَا تَقَدَّمَ تَفْصِيلُهُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ - فَاسْتِحْضَارُ هَذِهِ الْمَعَانِي فِي النَّفْسِ لَهُ مِنَ التَّأْثِيرِ الْمُقَوِّي لِعَقِيدَةِ التَّوْحِيدِ الْمُرَغِّبِ فِي الْعَمَلِ الصَّالِحِ الْمُرَهِّبِ الزَّاخِرِ عَنِ الشَّرِّ، مَا لَيْسَ لِاسْمِ الدَّيَّانِ وَحْدَهُ، وَيَكْفِي الْإِنْسَانَ فِي الْجَزْمِ بِهَذَا مُشَاوَرَةُ فِكْرِهِ، وَمُرَاجَعَةُ وِجْدَانِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ مِنْ فُنُونِ الْبَلَاغَةِ شَيْئًا، وَهَلْ لِهَذَا الْمُبَشِّرِ الْمُتَعَصِّبِ فِكْرٌ وَوِجْدَانٌ يَهْدِيَانِهِ إِلَى مَا يَجْهَلُ مِنْ بَلَاغَةِ الْقُرْآنِ؟
(5، 6) أَنَّهُ اخْتَصَرَ قَوْلَهُ تَعَالَى: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) بِقَوْلِهِ هُوَ: لَكَ الْعِبَادَةُ وَبِكَ الْمُسْتَعَانُ. وَهُوَ أَغْرَبُ مَا جَاءَ بِهِ وَسَمَّاهُ إِيجَازًا، فَإِنَّهُ اسْتَبْدَلَ أَرْبَعًا بِأَرْبَعٍ، وَلَكِنَّهَا أَطْوَلُ مِنْهَا بِزِيَادَةِ حَرْفٍ، وَتَنْقُصُ عَنْهَا فِي الْمَعْنَى، فَأَيْنَ الْإِيجَازُ؟ إِنَّهُ مَفْقُودٌ لَفْظًا وَمَعْنًى.
إِذَا أَرَادَ بِقَوْلِهِ: لَكَ الْعِبَادَةُ - أَنَّهَا كُلَّهَا لَهُ تَعَالَى فِي الْوَاقِعِ وَنَفْسِ الْأَمْرِ، فَالْجُمْلَةُ غَيْرُ صَحِيحَةٍ؛ لِأَنَّ الَّذِينَ لَا يَعْبُدُونَهُ وَحْدَهُ مِنَ الْبَشَرِ هُمُ الْأَكْثَرُونَ. وَمِنْهُمُ النَّصَارَى قَوْمُ الطَّاعِنِ فِي دِينِ التَّوْحِيدِ وَكِتَابِ التَّوْحِيدِ الْأَعْظَمِ (الْقُرْآنِ) الْمُبَدِّلِينَ لِآيَةِ التَّوْحِيدِ الْبَلِيغَةِ. وَإِنْ أَرَادَ أَنَّ الْعِبَادَةَ مُسْتَحَقَّةٌ لِلَّهِ تَعَالَى وَحْدَهُ فَالْمَعْنَى صَحِيحٌ، لَكِنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقَارِئَ، وَلَا وَاضِعَ الْجُمْلَةِ مِنَ الْقَائِمَيْنِ بِهَذَا الْحَقِّ لَهُ تَعَالَى. وَأَمَّا " إِيَّاكَ نَعْبُدُ " فَإِنَّهَا تُفِيدُ عَرْضَ عِبَادَةِ الْقَارِئِ مَعَ عِبَادَةِ جَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُوَحِّدِينَ عَلَيْهِ جل جلاله، وَتُقَرِّبُهُمْ إِلَيْهِ بِأَنَّهُمْ يَعْبُدُونَهُ وَلَا يَعْبُدُونَ غَيْرَهُ.
وَأُحِيلُكَ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ تَأْثِيرِ هَذَا وَذَاكَ عَلَى الْوِجْدَانِ الَّذِي ذَكَّرْتُكَ بِهِ فِي النَّقْدِ الَّذِي قَبْلَهُ، دَعْ مَا فِي عَرْضِ الْمُؤْمِنِ عِبَادَتَهُ وَاسْتِعَانَتَهُ عَلَى رَبِّهِ فِي ضِمْنِ عِبَادَةِ جَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ وَاسْتِعَانَتِهِمْ
مِنْ مُلَاحَظَةِ أُخُوَّةِ الْإِيمَانِ وَتَكَافُلِ أَهْلِهِ، وَمِنْ هَضْمِ الْفَرْدِ لِنَفْسِهِ، وَرَجَاءِ الْقَبُولِ فِي ضِمْنِ الْجَمَاعَةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُعْلَمُ مِنْ تَفْسِيرِ الْآيَةِ.
وَمِثْلُ هَذَا يُقَالُ فِي مَسْأَلَةِ الِاسْتِعَانَةِ، وَيُمْكِنُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى وَمِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ، وَمِنْهُ اخْتِيَارُهُ الْمَصْدَرَ الْمِيمِيَّ الَّذِي هُوَ صِيغَةُ اسْمِ الْمَفْعُولِ (الْمُسْتَعَانِ) عَلَى الْمَصْدَرِ الْأَصْلِيِّ وَهُوَ الِاسْتِعَانَةُ الْمُنَاسِبِ لِلَفْظِ الْعِبَادَةِ، وَمِنْ جِهَةِ ارْتِبَاطِهِ بِمَا بَعْدَهُ، فَإِنَّ طَلَبَنَا لِلْهِدَايَةِ مِنَ الِاسْتِعَانَةِ الَّتِي أَسْنَدْنَاهَا إِلَى أَنْفُسِنَا.
(7)
اسْتِبْدَالُهُ " صِرَاطَ الْإِيمَانِ " بِالصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، وَهَذَا أَعَمُّ مِنْهُ وَأَشْمَلُ؛ لِأَنَّهُ يَشْمَلُ الْإِيمَانَ وَالْإِسْلَامَ وَالْإِحْسَانَ، مِنَ الْعَقَائِدِ وَالْعِبَادَاتِ وَالْآدَابِ، مَعَ وَصْفِهِ بِالْمُسْتَقِيمِ الَّذِي لَا عِوَجَ فِيهِ. فَإِنَّ بَعْضَ الطُّرُقِ الْمُوَصِّلَةِ إِلَى الْمَقَاصِدِ الَّتِي يُسَمَّى سَالِكُهَا مُهْتَدِيًا إِلَى مَقْصِدِهِ فِي الْجُمْلَةِ، قَدْ يَكُونُ فِيهَا عِوَجٌ يَعُوقُ هَذَا السَّالِكَ، وَالْمُسْتَقِيمُ هُوَ أَقْرَبُ مُوَصِّلٍ بَيْنَ طَرَفَيْنِ فَسَالِكُهُ يَصِلُ إِلَى مَقْصِدِهِ فِي أَسْرَعِ وَقْتٍ، كَذَلِكَ الطُّرُقُ الْمَعْنَوِيَّةُ، مِنْهَا الْمُوَصِّلُ إِلَى الْغَايَةِ وَغَيْرُ الْمُوُصِّلِ، وَمِنَ الْمُوَصِّلِ مَا يُوَصِّلُ بِسُرْعَةٍ لِعَدَمِ الْعَائِقِ، وَمَا يَعْتَرِي سَالِكَهُ الْمَوَانِعَ وَاقْتِحَامَ لْعَقَبَاتِ وَاتِّقَاءَ الْعَثَرَاتِ.
(8)
أَنَّ وَصْفَ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ بِكَوْنِهِ الصِّرَاطَ الَّذِي سَلَكَهُ خِيَارُ عِبَادِ اللهِ الْمُفْلِحِينَ، مِنَ النَّبِيَّيْنِ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ، مُذَكِّرٌ لِقَارِئِهِ بِأُولَئِكَ
الْأَئِمَّةِ الْوَارِثِينَ، الَّذِينَ يَجِبُ التَّأَسِّي بِهِمْ، وَالسَّعْيُ لِلِانْتِظَامِ فِي سِلْكِهِمْ، وَالتَّصْرِيحُ بِكَوْنِهِ غَيْرَ صِرَاطِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ مِنَ الْمُعَانِدِينَ لِلْحَقِّ، وَغَيْرِ الضَّالَّيْنِ الزَّائِغِينَ عَنِ الْقَصْدِ، مُذَكِّرٌ لِلْقَارِئِ بِوُجُوبِ اجْتِنَابِ سُبُلِهِمْ، لِئَلَّا يَتَرَدَّى فِي هَاوِيَتِهِمْ.
أَيْنَ مِنْ هَذِهِ الْمَقَاصِدِ السَّامِيَةِ الْهَادِيَةِ إِلَى تَزْكِيَةِ النَّفْسِ وَإِعْدَادِهَا لِسَعَادَتَيِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، صِيغَةُ الصَّلَاةِ فِي مِلَّةِ هَذَا الْمُخْتَصِرِ الْمُسْتَأْجَرِ، وَهِيَ كَمَا فِي إِنْجِيلِ مَتَّى (أَبَانَا الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ، لِيَتَقَدَّسَ اسْمُكَ، لِيَأْتِ مَلَكُوتُكَ، لِتَكُنْ مَشِيئَتُكَ كَمَا فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ عَلَى الْأَرْضِ، خُبْزُنَا كَفَافُنَا أَعْطِنَا الْيَوْمَ، وَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا كَمَا نَغْفِرُ نَحْنُ أَيْضًا لِلْمُذْنِبِينَ إِلَيْنَا، وَلَا تُدْخِلْنَا فِي تَجْرِبَةٍ، وَلَكِنْ نَجِّنَا مِنَ الشِّرِّيرِ آمِينْ)(6: 9 - 13) أهـ. زَادَ فِي نُسَخَةِ الْأَمِيرْكَانِ: (لِأَنَّ لَكَ الْمُلْكَ وَالْقُوَّةَ وَالْمَجْدَ إِلَى الْأَبَدِ) وَجَعَلُوا هَذِهِ الزِّيَادَةَ بَيْنَ عَلَامَتَيِ الْكَلَامِ الدَّخِيلِ هَكَذَا () فَمَنْ ذَا الَّذِي زَادَهَا عَلَى كَلَامِ الْمَسِيحِ؟
وَقَدْ يَقُولُ لَهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِأَنَّ هَذِهِ الصِّيغَةَ مَنْقُولَةٌ نَقْلًا صَحِيحًا عَنِ الْمَسِيحِ عليه السلام، أَوْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ نَفْسُهُ: إِنَّهَا صَلَاةٌ لَيْسَ فِيهَا مِنَ الثَّنَاءِ عَلَى اللهِ تَعَالَى مَا فِي فَاتِحَةِ الْمُسْلِمِينَ وَلَا بَعْضِهِ، وَطَلَبُ تَقْدِيسِ اسْمِ الْأَبِ وَإِتْيَانِ مَلَكُوتِهِ تَحْصِيلُ حَاصِلٍ، فَهُوَ لَغْوٌ لَا يَلِيقُ بِالْعَاقِلِ،
وَذِكْرُهُ بِصِيغَةِ الْأَمْرِ بِاللَّامِ غَيْرُ لَائِقٍ - إِنْ لَمْ نَقُلْ فِي انْتِقَادِهِ مَا هُوَ أَشَدُّ مِنْ ذَلِكَ - وَأَبْعَدُ مِنْ ذَلِكَ عَنِ اللِّيَاقَةِ وَالْأَدَبِ مَعَ الرَّبِّ تبارك وتعالى طَلَبُ كَوْنِ مَشِيئَتِهِ عَلَى الْأَرْضِ كَمَشِيئَتِهِ فِي السَّمَاءِ. وَكَوْنُهَا بِصِيغَةِ الْأَمْرِ بِاللَّامِ أَيْضًا، فَمَشِيئَتُهُ تَعَالَى نَافِذَةٌ فِي جَمِيعِ خَلْقِهِ مِنْ سَمَائِهِ وَأَرْضِهِ بِالضَّرُورَةِ، فَلَا مَعْنَى لِطَلَبِهَا، وَطَلَبِ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ فِيهَا إِنْ أُرِيدَ بِهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، فَهُوَ تَحَكُّمٌ لَا يَخْفَى مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ.
وَأَمَّا طَلَبُ الْخُبْزِ الْكَفَافِ فِي كُلِّ يَوْمٍ بِصِيغَةِ الْحَصْرِ فَهُوَ يُفِيدُ أَنَّ كُلَّ هَمِّهِمْ وَكُلَّ مَطْلَبِهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ وَلَوْ لِدُنْيَاهُمْ هُوَ الْخَبْزُ الَّذِي يَكْفِيهِمْ، فَأَيْنَ هَذَا الْمَطْلَبُ مَنْ طَلَبِ الْهِدَايَةِ إِلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ الْمُوَصِّلِ إِلَى سَعَادَتَيِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ عَلَى أَكْمَلِ وَجْهٍ، لِكَوْنِهِ نَفْسَ صِرَاطِ خِيَارِ النَّاسِ دُونَ شِرَارِهِمْ.
وَأَمَّا مَطْلَبُ الْمَغْفِرَةِ - فَهُوَ عَلَى كَوْنِهِ يَلِيقُ أَنْ يُطْلَبَ مِنْهُ تَعَالَى - يُنْتَقَدُ مِنْهُ تَشْبِيهُهَا بِمَغْفِرَةِ الطَّالِبِ لِلْمُذْنِبِ الْمُسِيءِ إِلَيْهِ مِنْ وَجْهَيْنِ:
(أَحَدُهُمَا) أَنَّ مَغْفَرَةَ اللهِ لِعَبْدِهِ أَجَلُّ وَأَعْظَمُ وَأَعَمُّ مِنْ مَغْفِرَةِ الْعَبْدِ لِمِثْلِهِ.
(ثَانِيهِمَا) أَنَّ الَّذِي يَغْفِرُ لِجَمِيعِ الْمُسِيئِينَ إِلَيْهِ نَادِرٌ، وَمِنَ الْمُشَاهَدِ أَنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ يَجْزُونَ عَلَى السَّيِّئَةِ إِمَّا بِمِثْلِهَا، وَإِمَّا بِأَكْثَرَ مِنْهَا، فَكَيْفَ يُكَلَّفُ هَؤُلَاءِ بِمُخَاطَبَةِ رَبِّهِمْ بِالْكَذِبِ عَلَيْهِ، الَّذِي حَاصِلُهُ أَنَّهُمْ يَطْلُبُونَ أَلَّا يَغْفِرَ لَهُمْ، لِأَنَّهُمْ لَا يَغْفِرُونَ لِلْمُسِيئِينَ إِلَيْهِمْ.
قَدْ يَقُولُونَ: نَعَمْ نَحْنُ نَلْتَزِمُ هَذَا؛ لِأَنَّ دِينَنَا يُوجِبُ عَلَيْنَا أَنْ نَغْفِرَ لِجَمِيعِ مَنْ أَذْنَبَ وَأَسَاءَ إِلَيْنَا، وَنَعْتَقِدُ أَنَّ رَبَّنَا لَا يَغْفِرُ لَنَا إِذَا لَمْ نَغْفِرْ لَهُمْ؛ لِأَنَّ مَنْ عَلَّمَنَا هَذِهِ الصَّلَاةَ قَالَ بَعْدَهَا:(فَإِنَّهُ إِنْ غَفَرْتُمْ لِلنَّاسِ زَلَّاتِهِمْ يَغْفِرْ لَكُمْ أَيْضًا أَبُوكُمُ السَّمَاوِيُّ، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرُوا لِلنَّاسِ زَلَّاتِهِمْ لَا يَغْفِرْ لَكُمْ أَبُوكُمْ أَيْضًا زَلَّاتِكُمْ)(مَتَّى 6: 14) .
فَنَقُولُ: هَذَا التَّعْبِيرُ يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ مَغْفِرَةِ جَمِيعِ الذُّنُوبِ لِجَمِيعِ النَّاسِ عَامَّةً كَانَتْ أَوْ خَاصَّةً، فَأَيْنَ مِنْكُمْ يَا مَعْشَرَ النَّصَارَى مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ؟ وَهَلْ يُوجَدُ فِي الْأَلْفِ أَوِ الْأُلُوفِ مِنْكُمْ وَاحِدٌ كَذَلِكَ؟ أَلَسْنَا نَرَى أَكْثَرَكُمْ وَمَنْ تَعُدُّونَهُمْ أَرْقَاكُمْ وَتَفْتَخِرُونَ بِهِمْ كَالْإِفْرِنْجِ لَا يَغْفِرُونَ لِأَحَدٍ أَدْنَى زَلَّةٍ، بَلْ لَا يَكْتَفُونَ بِعِقَابِ مَنْ يُسِئُ إِلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ إِذَا كَانَ مِنْ غَيْرِهِمْ بِمِثْلِ ذَنْبِهِ، وَإِنَّمَا يُضَاعِفُونَ لَهُ الْعِقَابَ أَضْعَافًا، بَلْ يَنْتَقِمُونَ مِنْ أُمَّتِهِ كُلِّهَا إِذَا كَانَتْ ضَعِيفَةً لَا يُمْكِنُهَا أَنْ تَصُدَّهُمْ بِالْقُوَّةِ، فَهُمْ لَا يَمْنَعُهُمْ مِنَ الْجَزَاءِ عَلَى السَّيِّئَةِ بِأَضْعَافِهَا مِنَ السَّيِّئَاتِ وَلَا مِنَ ابْتِدَاءِ الظُّلْمِ وَالْعُدْوَانِ إِلَّا الْعَجْزُ.
وُجُوبُ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ فِي الصَّلَاةِ، وَالْبَسْمَلَةُ مِنْهَا
فِي وُجُوبِ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ فِي الصَّلَاةِ أَحَادِيثُ قَوْلِيَّةٌ صَحِيحَةٌ صَرِيحَةٌ، وَجَرَى عَلَيْهَا الْعَمَلُ مِنْ أَوَّلِ الْإِسْلَامِ إِلَى الْيَوْمِ، وَإِنْ تَنَازَعَ بَعْضُ أَهْلِ الْخِلَافِ وَالْجَدَلِ فِي تَسْمِيَةِ هَذَا الْوَاجِبِ فَرْضًا وَعَدِّهِ شَرْطًا، وَأَصَحُّ مَا وَرَدَ وَأَصْرَحُهُ فِيهِ مَا رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ كُلُّهُمْ مِنْ حَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:(لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ) وَفِي لَفْظٍ رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ (لَا تُجْزِئُ صَلَاةُ مَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ) وَهُوَ تَفْسِيرٌ لِلَفْظِ الْجَمَاعَةِ، فَإِنَّ نَفْيَ الصَّلَاةِ فِيهِ نَفْيُ صِحَّتِهَا
وَوَجْهُهُ: أَنَّ الْحَقِيقَةَ الْمُؤَلَّفَةَ مِنْ عِدَّةِ أَرْكَانٍ ذَاتِيَّةٍ تَنْتَفِي بِانْتِفَاءِ رُكْنٍ مِنْهَا، كَقَوْلِكَ: لَا وُضُوءَ لِمَنْ لَمْ يَغْسِلْ يَدَيْهِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ، وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى الْعَمَلِ بِهَذَا، فَلَمْ يُصَلِّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَلَا خُلَفَاؤُهُ وَأَصْحَابُهُ وَلَا التَّابِعُونَ وَلَا غَيْرُهُمْ مِنَ الْخُلَفَاءِ وَأَئِمَّةِ الْعِلْمِ صَلَاةً بِدُونِ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ فِيهَا، وَإِنَّمَا بَحَثَ الْحَنَفِيَّةُ فِي تَسْمِيَةِ قِرَاءَتِهَا فَرْضًا وَعَدِّهَا رُكْنًا بِنَاءً عَلَى اصْطِلَاحَاتٍ لَهُمْ رَدَّهَا الْجُمْهُورُ بِأَدِلَّةٍ صَحِيحَةٍ لَا مَحَلَّ لِتَلْخِيصِهَا هُنَا وَأَجَابُوا عَنْ شُبُهَاتِهِمُ النَّقْلِيَّةِ بِأَجْوِبَةٍ سَدِيدَةٍ، وَأَقْوَاهَا قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم لِلْمُسِيءِ صِلَاتِهِ:" ثُمَّ اقْرَأْ مَا تَيَسَّرَ مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ " قَالُوا فِي الْجَوَابِ عَنْهُ: إِنَّهُ ثَبَتَ رِوَايَةٌ أُخْرَى أَنَّهُ قَالَ لَهُ: " ثُمَّ اقْرَأْ بِأُمِّ الْقُرْآنِ " فَهَذَا مُفَسِّرٌ لِمَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ، وَأَنَّ الْفَاتِحَةَ هِيَ الَّتِي كَانَتْ مُتَيَسِّرَةً لِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُلَقِّنُونَهَا كُلَّ مَنْ يَدْخُلُ فِي الْإِسْلَامِ، وَقَالَ بَعْضُهُمُ: الْمُرَادُ بِمَا يَتَيَسَّرُ مِنْهُ هُنَا مَا زَادَ عَنِ الْفَاتِحَةِ، وَفِي الْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي قَتَادَةَ:" أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقْرَأُ الْفَاتِحَةَ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ " وَالْأَحَادِيثُ الْمُصَرِّحَةُ بِأَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى أُمَّ الْقُرْآنِ وَسُورَةَ كَذَا، وَفِي الثَّانِيَةِ بَعْدَ أُمِّ الْقُرْآنِ كَذَا فِي صَلَاةِ كَذَا، كَثِيرَةٌ.
وَأَمَّا كَوْنُ الْبَسْمَلَةِ آيَةً فِي الْفَاتِحَةِ، فَأَقْوَى الْحُجَجِ الْمُثْبِتَةِ لَهُ: كِتَابَتُهَا فِي الْمُصْحَفِ الْإِمَامِ الرَّسْمِيِّ الَّذِي وَزَّعَ نُسَخَهُ الْخَلِيفَةُ الثَّالِثُ عَلَى الْأَمْصَارِ بِرَأْيِ الصَّحَابَةِ وَأَجْمَعَتْ عَلَيْهِ الْأُمَّةُ، وَكَذَا جَمِيعُ الْمَصَاحِفِ الْمُتَوَاتِرَةِ إِلَى الْيَوْمِ، وَالْخَطُّ حُجَّةٌ عَلَيْهِ، كَمَا قَالَ الْعَلَّامَةُ الْعَضُدُ، وَعَلَيْهِ جَمِيعُ شُعُوبِ الْعِلْمِ وَالْمَدَنِيَّةِ فِي هَذَا الْعَصْرِ، لَا حُجَّةَ عِنْدَهُمْ أَقْوَى مِنْ حُجَّةِ الْكِتَابَةِ الرَّسْمِيَّةِ، ثُمَّ إِجْمَاعِ الْقُرَّاءِ عَلَى قِرَاءَتِهَا فِي أَوَّلِ الْفَاتِحَةِ. وَإِنْ زَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهَا آيَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ، فَإِنَّ هَذَا رَأْيٌ، وَالْعِبْرَةُ بِالْعَمَلِ، وَهُوَ إِذَا كَانَ عَامًّا مُطَّرِدًا مِنْ أَقْوَى الْحُجَجِ. عَلَى أَنَّ تَوَاتُرَهَا عَنْ وَاحِدٍ مِنْهُمْ تَقُومُ بِهِ الْحُجَّةُ عَلَى بَاقِيهِمْ وَعَلَى سَائِرِ النَّاسِ، فَإِنَّهُ إِثْبَاتٌ بِالتَّوَاتُرِ لَا يُعَارِضُهُ نَفْيٌ مَا. وَقَدْ كُنَّا ذَكَرْنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ وَآرَاءَ أَهْلِ الْخِلَافِ فِيهَا وَنَزِيدُهَا إِيضَاحًا فَنَقُولُ:
وَقَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ آحَادِيَّةٌ فِي إِثْبَاتِ ذَلِكَ وَنَفْيِهِ تَرَتَّبَ عَلَيْهَا اخْتِلَافُ الْفُقَهَاءِ الَّذِينَ جَعَلُوا الْمَسْأَلَةَ مَسْأَلَةَ مَذَاهِبَ، يَنْصُرُ كُلُّ حِزْبٍ مِنْهُمْ أَهْلَ الْمَذْهَبِ الَّذِي يُنْسَبُونَ إِلَيْهِ
(كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) وَلَوْلَا ذَلِكَ لَاتَّفَقُوا؛ لِأَنَّ لِإِثْبَاتِ
الْبَسْمَلَةِ فِي أَوَّلِ الْفَاتِحَةِ فِي جَمِيعِ الْمَصَاحِفِ الْمَجْمَعِ عَلَيْهَا الْمُتَوَاتِرَةِ حُجَّةً قَطْعِيَّةً لَا تُعَارُضَ بِأَحَادِيثِ الْآحَادِ وَإِنْ صَحَّ سَنَدُهَا.
وَأَصْرَحُ الْأَحَادِيثِ الَّتِي اسْتَدَلُّوا بِهَا عَلَى كَوْنِ الْبَسْمَلَةِ لَيْسَتْ آيَةً مِنَ الْفَاتِحَةِ مَا رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: " مَنْ صَلَّى صَلَاةً لَمْ يَقْرَأْ فِيهَا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ فَهِيَ خِدَاجٌ " يَقُولُهَا ثَلَاثًا - أَيْ كَلِمَةَ " فَهِيَ خِدَاجٌ " أَيْ نَاقِصَةٌ غَيْرُ تَامَّةٍ كَالنَّاقَةِ تَلِدُ لِغَيْرِ التَّمَامِ - فَقِيلَ لِأَبِي هُرَيْرَةَ: إِنَّا نَكُونُ وَرَاءَ الْإِمَامِ؟ فَقَالَ: اقْرَأْ بِهَا فِي نَفْسِكَ، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:" قَالَ اللهُ عز وجل: قَسَمْتُ الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ، فَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ: (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) قَالَ اللهُ: حَمِدَنِي عَبْدِي، فَإِذَا قَالَ: (الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) قَالَ اللهُ: أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي. فَإِذَا قَالَ: (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) قَالَ: مَجَّدَنِي عَبْدِي. وَقَالَ مَرَّةً: فَوَّضَ إِلَيَّ عَبْدِي. وَإِذَا قَالَ (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) قَالَ: هَذَا بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ. فَإِذَا قَالَ: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ) قَالَ: هَذَا لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ ".
قَالَ النَّافُونَ: إِنَّ الْحَدِيثَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْبَسْمَلَةَ لَيْسَتْ مِنَ الْفَاتِحَةِ؛ لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ مِنْهَا لَذُكِرَتْ فِي الْحَدِيثِ، وَهُوَ اسْتِدْلَالٌ سَلْبِيٌّ لَا يُعَارِضُ الْقَطْعِيَّ الْمُتَوَاتِرَ وَهُوَ إِثْبَاتُهَا فِي الْمُصْحَفِ وَإِجْمَاعُ الْقُرَّاءِ عَلَى قِرَاءَتِهَا عِنْدَ الْبَدْءِ بِالْخَتَمَاتِ، وَثُبُوتُ التَّوَاتُرِ بِذَلِكَ، عَلَى أَنَّ عَدَمَ ذِكْرِهَا فِي الْحَدِيثِ قَدْ يَكُونُ لِسَبَبٍ اقْتَضَى ذَلِكَ. وَمِمَّا يَخْطُرُ عَلَى الْبَالِ بَدَاهَةً: أَنَّهُ كَمَا اكْتَفَى مِنْ قِسْمَةِ الصَّلَاةِ بِالْفَاتِحَةِ دُونَ سَائِرِ التِّلَاوَةِ وَالْأَذْكَارِ وَالْأَفْعَالِ اكْتَفَى مِنَ الْفَاتِحَةِ بِمَا لَا يُشَارِكُهَا فِيهِ غَيْرُهَا مِنَ السُّوَرِ، إِذِ الْبَسْمَلَةُ آيَةٌ مِنْ كُلِّ سُورَةٍ غَيْرَ (بَرَاءَةَ) عَلَى التَّحْقِيقِ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ خَطُّ الْمُصْحَفِ، وَثَمَّ سَبَبٌ آخَرُ لِعَدَمِ ذِكْرِ الْبَسْمَلَةِ فِي الْقِسْمَةِ، وَهُوَ أَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا إِلَّا الثَّنَاءُ عَلَى اللهِ تَعَالَى بِوَصْفِهِ بِالرَّحْمَةِ، وَهُوَ مَعْنًى مُكَرَّرٌ فِي الْفَاتِحَةِ وَذُكِرَ فِي الْقِسْمَةِ.
وَالْعُمْدَةُ فِي عَدَمِ الْمُعَارَضَةِ أَنَّ دَلَالَةَ الْحَدِيثِ ظَنِّيَّةٌ سَلْبِيَّةٌ، وَإِثْبَاتَ الْبَسْمَلَةِ إِيجَابِيٌّ وَقَطْعِيٌّ كَمَا تَقَدَّمَ، وَإِذَا كَانَ مِنْ عِلَلِ الْحَدِيثِ الْمَانِعَةِ مِنْ وَصْفِهِ بِالصِّحَّةِ: مُخَالَفَةُ رَاوِيهِ لِغَيْرِهِ مِنَ
الثِّقَاتِ فَمُخَالَفَةُ الْقَطْعِيِّ مِنَ الْقُرْآنِ الْمُتَوَاتِرِ أَوْلَى بِسَلْبِ وَصْفِ الصِّحَّةِ عَنْهُ. عَلَى أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ هُوَ الْمُعَارَضُ بِالْأَحَادِيثِ الْمُثْبِتَةِ لِكَوْنِ الْبَسْمَلَةِ مِنَ الْفَاتِحَةِ.
وَاسْتَدَلُّوا أَيْضًا بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمَرْفُوعِ عِنْدَ أَحْمَدَ وَأَصْحَابِ السُّنَنِ قَالَ: " إِنَّ
سُورَةً مِنَ الْقُرْآنِ ثَلَاثُونَ آيَةً شَفَعَتْ لِرِجْلٍ حَتَّى غُفِرَ لَهُ، وَهِيَ:" تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمَلِكُ " قَالُوا: وَإِنَّمَا هِيَ ثَلَاثُونَ بِدُونِ الْبَسْمَلَةِ. وَأُجِيبُ بِمِثْلِ مَا قُلْنَا آنِفًا مِنْ أَنَّ عَدَدَ آيَاتِ السُّوَرِ بِاعْتِبَارِ مَا هُوَ خَاصٌّ بِالسُّورَةِ وَهُوَ مَا دُونُ الْبَسْمَلَةِ. وَيُؤَيِّدُهُ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مِنْ أَنَّ سُورَةَ الْكَوْثَرِ ثَلَاثُ آيَاتٍ. وَقَدْ رَوَى أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ قَالَ: " بَيْنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ يَوْمٍ بَيْنَ أَظْهُرِنَا فِي الْمَسْجِدِ إِذْ أَغْفَى إِغْفَاءَةً، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ مُبْتَسِمًا، فَقُلْنَا: مَا أَضْحَكَكَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ فَقَالَ: نَزَلَتْ عَلَيَّ آنِفًا سُورَةٌ، فَقَرَأَ:(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ) . وَهَذَا الْحَدِيثُ نَاطِقٌ بِأَنَّ الْبَسْمَلَةَ مِنْ سُورَةِ الْكَوْثَرِ مَعَ عَدَمِ عَدِّهَا مِنْ آيَاتِهَا لِمَا ذَكَرْنَا، فَكَوْنُهَا آيَةً مِنَ الْفَاتِحَةِ أَوْلَى وَهُوَ أَصَحُّ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي سُورَةِ الْمُلْكِ؛ لِأَنَّ الْبُخَارِيَّ أَعَلَّهُ بِأَنَّ عَبَّاسًا الْحَشَمِيَّ رَاوِيَهُ لَا يُعْرَفُ سَمَاعُهُ مِنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.
وَاسْتَدَلُّوا بِالْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي عَدَمِ قِرَاءَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَخُلَفَائِهِ لَهَا فِي الصَّلَاةِ وَأَصْرَحُهَا قَوْلُ عَبْدِ اللهِ بْنِ مُغَفَّلٍ: " صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَمَعَ أَبِي بَكْرٍ، وَمَعَ عُمَرَ وَمَعَ عُثْمَانَ. فَلَمْ أَسْمَعْ أَحَدًا مِنْهُمْ يَقُولُهَا " يَعْنِي الْبَسْمَلَةَ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ النَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ عَنِ ابْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ مُغَفَّلٍ وَهُوَ مَجْهُولٌ، فَقَدْ كَانَ لَهُ سَبْعَةُ أَوْلَادٍ وَهَذِهِ عِلَّةٌ تَمْنَعُ صِحَّةَ الْحَدِيثِ. قَالُوا: وَقَدْ تَفَرَّدَ بِهِ الْحَرِيرِيُّ وَقِيلَ: إِنَّهُ قَدِ اخْتَلَطَ بِآخِرِهِ. وَقَدْ يُفَسَّرُ بِمَا تَرَى فِيمَا قَالُوهُ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي بَعْدَهُ.
وَفِي مَعْنَاهُ حَدِيثُ أَنَسٍ فِي إِحْدَى الرِّوَايَاتِ قَالَ: " صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَعُثْمَانَ فَلَمْ أَسْمَعْ أَحَدًا مِنْهُمْ يَقْرَأُ: (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ. قَالَ فِي الْمُنْتَقَى: وَفِي لَفْظٍ " صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَخَلْفَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ فَكَانُوا لَا يَجْهَرُونَ بِبَسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ". رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ بِإِسْنَادٍ عَلَى شَرْطِ الصَّحِيحِ. وَلِأَحْمَدَ وَمُسْلِمٍ: " صَلَّيْتُ خَلْفَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم
وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ، وَكَانُوا يَسْتَفْتِحُونَ بِالْحَمْدِ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا يَذْكُرُونَ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فِي أَوَّلِ قِرَاءَةٍ وَلَا آخِرِهَا ". وَلِعَبْدِ اللهِ بْنِ أَحْمَدَ فِي مُسْنَدِ أَبِيهِ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ قَالَ:" صَلَّيْتُ خَلْفَ رَسُولِ اللهِ وَخَلَفَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ فَلَمْ يَكُونُوا يَسْتَفْتِحُونَ الْقِرَاءَةَ بِبَسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ " قَالَ شُعْبَةُ قُلْتُ لِقَتَادَةَ: أَنْتَ سَمِعْتَ مَنْ أَنِسٍ؟ قَالَ: نَعَمْ نَحْنُ سَأَلْنَاهُ عَنْهُ. وَلِلنَّسَائِيِّ عَنْ مَنْصُورِ بْنِ زَازَانَ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: " صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَلَمْ يُسْمِعْنَا قِرَاءَةَ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وَصَلَّى بِنَا أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ فَلَمْ نَسْمَعْهَا مِنْهُمَا " اهـ.
قَالَ الشَّوْكَانِيُّ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ: وَرِوَايَةُ " فَكَانُوا لَا يَجْهَرُونَ " أَخْرَجَهَا أَيْضًا ابْنُ حِبَّانَ وَالدَّارَقُطْنِيُّ، وَالطَّحَاوِيُّ وَالطَّبَرَانِيُّ. وَفِي لَفْظٍ لِابْنِ خُزَيْمَةَ:" كَانُوا يُسِرُّونَ " - وَقَوْلُهُ: " كَانُوا يَسْتَفْتِحُونَ بِالْحَمْدِ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ " هَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَإِنَّمَا انْفَرَدَ مُسْلِمٌ بِزِيَادَةِ: " لَا يَذْكُرُونَ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ " وَقَدْ أُعِلَّ هَذَا اللَّفْظُ بِالِاضْطِرَابِ وَفُسِّرَ بِأَنَّ جَمَاعَةً مِنْ أَصْحَابِ شُعْبَةَ رَوَوْهُ عَنْهُ بِهِ، وَجَمَاعَةً رَوَوْهُ عَنْهُ بِلَفْظِ:" فَلَمْ أَسْمَعْ أَحَدًا مِنْهُمْ قَرَأَ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ". ثُمَّ نَقَلَ عَنِ الْحَافِظِ أَنَّ بَعْضَهُمْ رَوَاهُ بِاللَّفْظَيْنِ وَقَدْ خَرَّجَ كُلَّ رِوَايَةٍ.
أَقُولُ: وَقَدْ جَمَعُوا بَيْنَ الرِّوَايَاتِ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالِاسْتِفْتَاحِ بِالْحَمْدِ لِلَّهِ الِاسْتِفْتَاحُ بِهَذِهِ السُّورَةِ فَقَدْ صَحَّ التَّعْبِيرُ عَنْهَا فِي حَدِيثٍ آخَرَ بِجُمْلَةِ: " الْحَمْدُ لِلَّهِ ". وَبِأَنَّ عَدَمَ سَمَاعِهَا سَبَبُهُ عَدَمُ الْجَهْرِ بِهَا، وَقَدْ يَكُونُ لَهُ سَبَبٌ آخَرُ وَهُوَ الْبُعْدُ عَنْ أَوَّلِ الصَّفِّ. وَمِنَ الْعَادَةِ أَنْ يَكُونَ صَوْتُ الْقَارِئِ خَافِتًا فِي أَوَّلِ الْقِرَاءَةِ. وَسَبَبٌ ثَالِثٌ وَهُوَ اشْتِغَالُ الْمَأْمُومِ عِنْدَ السَّمَاعِ بِالتَّحَرُّمِ وَدُعَاءِ الِافْتِتَاحِ.
وَقَدْ عُورِضَ وَأُعِلَّ حَدِيثُ أَنَسٍ عَلَى اضْطِرَابِ مَتْنِهِ بِمَا يَأْتِي عَنْهُ مِنْ مُخَالَفَتِهِ لَهُ فِي صِفَةِ قِرَاءَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَبِمَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَصَحَّحَهُ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، قَالَ: سَأَلْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ: " أَكَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَسْتَفْتِحُ بِالْحَمْدِ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، أَوْ بِبَسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ؟ فَقَالَ: إِنَّكَ سَأَلْتِنِي عَنْ شَيْءٍ مَا أَحْفَظُهُ وَمَا سَأَلَنِي عَنْهُ أَحَدٌ قَبْلَكَ فَقُلْتُ: أَكَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلَّى فِي النَّعْلَيْنِ؟ قَالَ: نَعَمْ ". قَالُوا: وَعُرُوضُ النِّسْيَانِ فِي مِثْلِ هَذَا غَيْرُ مُسْتَنْكَرٍ فَقَدْ حَكَى الْحَازِمِيُّ عَنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ حَضَرَ جَامِعًا
وَحَضَرَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ التَّمْيِيزِ الْمُوَاظِبِينَ فِي ذَلِكَ الْجَامِعِ، فَسَأَلَهُمْ عَنْ حَالِ إِمَامِهِمْ فِي الْجَهْرِ وَالْإِخْفَاتِ قَالَ: - وَكَانَ صَيِّتًا يَمْلَأُ صَوْتُهُ الْجَامِعَ - فَاخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَجْهَرُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ يَخْفِتُ أهـ.
أَقُولُ: وَلَمْ يَخْتَلِفْ هَؤُلَاءِ الْمُصَلُّونَ فِي صَلَاةٍ وَاحِدَةٍ، بَلْ فِي جَمِيعِ الصَّلَوَاتِ، وَسَبَبُ ذَلِكَ الْغَفْلَةُ وَالنَّاسُ عُرْضَةٌ لَهَا، وَلَا سِيَّمَا الْغَفْلَةُ عَنْ أَوَّلِ صَلَاةِ الْإِمَامِ. إِذْ يَكُونُ الْمَأْمُومُونَ مَشْغُولِينَ بِمِثْلِ مَا يَشْغَلُهُ مِنَ الدُّخُولِ فِيهَا وَقِرَاءَةِ دُعَاءِ الِافْتِتَاحِ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا.
وَأَمَّا أَحَادِيثُ إِثْبَاتِ كَوْنِ الْبَسْمَلَةِ مِنَ الْفَاتِحَةِ، فَمِنْهَا: مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: سُئِلَ أَنَسٌ " كَيْفَ كَانَتْ قِرَاءَةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؟ فَقَالَ كَانَتْ مَدًّا، ثُمَّ قَرَأَ: بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. وَيُمِدُّ بِالرَّحْمَنِ وَبِالرَّحِيمِ ". وَرَوَى عَنْهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ طَرِيقَيْنِ " أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَجْهَرُ بِالْبَسْمَلَةِ ".
وَمِنْهَا: حَدِيثُ أُمِّ سَلَمَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رضي الله عنها أَنَّهَا سُئِلَتْ عَنْ قِرَاءَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: " كَانَ يُقَطِّعُ قِرَاءَتَهُ آيَةً آيَةً: (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ بِهَذَا اللَّفْظِ وَغَيْرُهُمَا.
وَمِنْهَا مَا رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ نُعَيْمٍ الْمُجَمِّرِ. قَالَ: " صَلَّيْتُ وَرَاءَ أَبِي هُرَيْرَةَ فَقَرَأَ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. ثُمَّ قَرَأَ بِأُمِّ الْقُرْآنِ ". وَفِيهِ يَقُولُ إِذَا سَلَّمَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنِّي لِأَشْبَهُكُمْ صَلَاةً بِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ". وَقَدْ صَحَّحَ هَذَا الْحَدِيثَ ابْنُ خُزَيْمَةَ وَابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ، قَالَ: عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ وَأَقَرَّهُ الْحَافِظُ الذَّهَبِيُّ. وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: صَحِيحُ الْإِسْنَادِ وَلَهُ شَوَاهِدُ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْخَطِيبُ فِيهِ: ثَابِتٌ صَحِيحٌ لَا يَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ تَعْلِيلٌ، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ حَدِيثَانِ آخَرَانِ بِمَعْنَاهُ، وَثَّقَ بَعْضُهُمْ جَمِيعَ رِجَالِهِمَا وَتَكَلَّمَ بَعْضُهُمْ فِي بَعْضِهِمْ.
وَمِنْهَا: حَدِيثُ عَلِيٍّ رضي الله عنه سُئِلَ عَنِ السَّبْعِ الْمَثَانِي فَقَالَ: (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) قِيلَ: إِنَّمَا هِيَ سِتٌّ فَقَالَ: (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) . وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَإِسْنَادُهُ كُلُّهُمْ ثِقَاتٌ لَمْ يَطْعَنُوا فِي أَحَدٍ مِنْهُمْ، وَلَهُ حَدِيثَانِ آخَرَانِ عَنْهُ وَعَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ فِي إِثْبَاتِ جَهْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِالْبَسْمَلَةِ فِي صِلَاتِهِ قَدْ تَكَلَّمُوا فِي سَنَدِهَا.
وَمِنْهَا حَدِيثُ أَنَسٍ: " سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَجْهَرُ بِبِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ " رَوَاهُ الْحَاكِمُ وَقَالَ: وَرُوَاتُهُ عَنْ آخِرِهِمْ ثِقَاتٌ، وَأَقَرَّهُ الْحَافِظُ الذَّهَبِيُّ.
وَقَدْ أَوْرَدَ الشَّوْكَانِيُّ فِي نِيلِ الْأَوْطَارِ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ الصَّحِيحَةَ وَغَيْرَهَا مِنَ الرِّوَايَاتِ الضَّعِيفَةِ الْأَسَانِيدِ الصَّحِيحَةِ الْمُتُونِ، وَذَكَرَ حَمْلَ الرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةِ مِنَ أَحَادِيثِ النَّفْيِ الْمُعَارِضَةِ لَهَا عَلَى عَدَمِ الْجَهْرِ بِالْبَسْمَلَةِ مِنْ بَابِ حَمْلِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ وَهُوَ تَرْكُ الْجَهْرِ، ثُمَّ قَالَ:
" إِذَا كَانَ مُحَصِّلُ أَحَادِيثِ نَفْيِ الْبَسْمَلَةِ هُوَ نَفْيُ الْجَهْرِ بِهَا، فَمَتَى وُجِدَتْ رِوَايَةٌ فِيهَا إِثْبَاتُ الْجَهْرِ قُدِّمَتْ عَلَى نَفْيِهِ. قَالَ الْحَافِظُ - ابْنُ حَجْرٍ - لَا بِمُجَرَّدِ تَقْدِيمِ رِوَايَةِ الْمُثْبِتِ عَلَى النَّافِي - أَيْ كَمَا هِيَ الْقَاعِدَةُ - لِأَنَّ أَنَسًا يَبْعُدُ جِدًّا أَنْ يَصْحَبَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مُدَّةَ عَشْرِ سِنِينَ وَيَصْحَبُ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ خَمْسًا وَعِشْرِينَ سَنَةً فَلَا يَسْمَعُ مِنْهُمُ الْجَهْرَ بِهَا فِي صَلَاةٍ وَاحِدَةٍ، بَلْ لِكَوْنِ أَنْسٍ اعْتَرَفَ بِأَنَّهُ لَا يَحْفَظُ هَذَا الْحُكْمَ، كَأَنَّهُ لِبُعْدِ عَهِدِهِ بِهِ لَمْ يَذْكُرْ مِنْهُ إِلَّا الْجَزْمَ بِالِافْتِتَاحِ بِالْحَمْدِ لِلَّهِ جَهْرًا، فَلَمْ يَسْتَحْضِرِ الْجَهْرَ بِالْبَسْمَلَةِ، فَيَتَعَيَّنُ الْأَخْذُ بِحَدِيثِ مَنْ أَثْبَتَ الْجَهْرَ أهـ.
أَقُولُ: وَقَدْ تَقَدَّمَ نَصُّ الرِّوَايَةِ عَنْهُ بِنِسْيَانِ هَذَا الْحُكْمِ آنِفًا فَعُدَّ حَدِيثُهُ مُضْطَرِبًا لَا يُحْتَجُّ بِهِ.
قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ بَعْدَ سَرْدِهِ رِوَايَاتِ حَدِيثِهِ فِي الِاسْتِذْكَارِ: هَذَا الِاضْطِرَابُ لَا تَقُومُ مَعَهُ حُجَّةٌ. وَقَدْ سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ أَنَسٌ فَقَالَ: كَبِرَتْ سِنِّي وَنَسِيتُ. أهـ
وَقَدْ رَوَى الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ وَالْأَوْسَطِ فِي سَبَبِ تَرْكِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِلْجَهْرِ بِالْبَسْمَلَةِ فِي الصَّلَاةِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ " أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَجْهَرُ بِبَسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ يَهْزَءُونَ بِمُكَاءٍ وَتَصْدِيَةٍ، وَيَقُولُونَ: مُحَمَّدٌ يَذْكُرُ إِلَهَ الْيَمَامَةِ - وَكَانَ مُسَيْلِمَةُ الْكَذَّابُ يُسَمَّى رَحْمَنَ - فَأَنْزَلَ اللهُ (وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ) فَتُسْمِعَ الْمُشْرِكِينَ فَيَهْزَءُوا بِكَ (وَلَا تُخَافِتْ بِهَا) عَنْ أَصْحَابِكَ فَلَا تُسْمِعَهُمْ. وَقَدْ قَالَ فِي مَجْمَعِ الزَّوَائِدِ: إِنَّ رِجَالَهُ مُوَثَّقُونَ. وَقَالَ الْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ. فَبَقِيَ ذَلِكَ إِلَى يَوْمِنَا هَذَا عَلَى ذِكْرِ الرَّسْمِ وَإِنْ زَالَتِ الْعِلَّةُ. وَجَمَعَ بِهِ الْقُرْطُبِيُّ بَيْنَ الرِّوَايَاتِ.
وَقَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي زَادِ الْمَعَادِ: " إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَجْهَرُ بِبَسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ تَارَةً وَيُخْفِتُهَا أَكْثَرَ مِمَّا جَهَرَ بِهَا إِلَخْ ". وَهَذَا الْقَوْلُ مَعْقُولٌ، وَإِذَا صَحَّ أَنَّ سَبَبَهُ مَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ وَاعْتَمَدَهُ الْقُرْطُبِيُّ وَالنَّيْسَابُورِيُّ وَالْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ يَكُونُ تَرْكُ الْجَهْرِ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ بِمَكَّةَ وَأَوَائِلِ الْهِجْرَةِ، وَالْجَهْرُ فِيمَا بَعْدَهُ، وَقَدْ عَلِمْتَ مَا فِي حَدِيثَيْ أَنَسٍ وَأَبِي قَتَادَةَ الْمُخَالِفَيْنِ لِهَذَا.
وَلَا يَغُرَّنَّ أَحَدًا قَوْلُ الْعُلَمَاءِ إِنَّ مُنْكِرَ الْبَسْمَلَةِ مِنَ الْفَاتِحَةِ أَوْ مِنْ كُلِّ سُورَةٍ لَا يُكَفُّرُ وَمُثْبِتَهَا لَا يُكَفُّرُ فَيَظُنُّ أَنَّ سَبَبَ هَذَا عَدَمُ ثُبُوتِهَا بِالدَّلِيلِ الْقَطْعِيِّ، كَلَّا إِنَّهَا ثَابِتَةٌ وَلَكِنَّ مُنْكِرَهَا لَا يُكَفَّرُ لِتَأْوِيلِهِ الدَّلِيلَ الْقَطْعِيَّ بِشُبَهِ الْمُعَارَضَةِ الَّتِي تَقَدَّمَتْ وَبَيَّنَّا ضَعْفَهَا، وَسَنَزِيدُهُ بَيَانًا وَالشُّبْهَةُ تَدْرَأُ حَدَّ الرِّدَّةِ.
وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ أَنَّ اخْتِلَافَ الرِّوَايَاتِ الْآحَادِيَّةِ فِي الْإِسْرَارِ بِالْبَسْمَلَةِ وَالْجَهْرِ بِهَا قَوِيٌّ، وَأَمَّا الِاخْتِلَافُ فِي كَوْنِهَا مِنَ الْفَاتِحَةِ أَوْ لَيْسَتْ مِنْهَا فَضَعِيفٌ جِدًّا جِدًّا وَإِنْ قَالَ بِهِ بَعْضُ كِبَارِ الْعُلَمَاءِ ذُهُولًا عَنْ رَسْمِ الْمُصْحَفِ الْإِمَامِ الْقَطْعِيِّ الْمُتَوَاتِرِ وَالْقِرَاءَاتِ الْمُتَوَاتِرَةِ الَّتِي لَا يَصِحُّ أَنْ تُعَارَضَ بِرِوَايَاتٍ أُحَادِيَّةٍ، أَوْ بِنَظَرِيَّاتٍ جَدَلِيَّةٍ، وَأَصْحَابُ الْجَدَلِ يَجْمَعُونَ بَيْنَ الْغَثِّ وَالسَّمِينِ وَبَيْنَ الضِّدَّيْنِ وَالنَّقِيضَيْنِ، وَصَاحِبُ الْحَقِّ مِنْهُمْ يَشْتَبِهُ بِغَيْرِهِ، وَرُبَّمَا يَظْهَرُ عَلَيْهِ الْمُبْطِلُ بِخِلَابَتِهِ، إِذَا كَانَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ.
وَقَدْ ذَكَرَ الرَّازِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ سَبْعَ عَشْرَةَ حُجَّةً عَلَى إِثْبَاتِ كَوْنِ الْبَسْمَلَةِ مِنَ الْفَاتِحَةِ مِنْهَا الْقَوِيَّةُ وَالضَّعِيفَةُ، وَتَصَدَّى لَهُ الْأُلُوسِيُّ مُحَاوِلًا دَحْضَهَا تَعَصُّبًا لِمَذْهَبِهِ الَّذِي تَنَحَّلَهُ فِي الْكِبَرِ إِذْ كَانَ شَافِعِيًّا فَتَحَوَّلَ حَنَفِيًّا تَقَرُّبًا إِلَى الدَّوْلَةِ وَصَرَّحَ بِهَذَا التَّعَصُّبِ إِذْ قَالَ هُنَا:" عَلَى الْمَرْءِ نُصْرَةُ مَذْهَبِهِ وَالذَّبُّ عَنْهُ " إِلَخْ. وَهَذِهِ كُبْرَى زَلَّاتِهِ الْمُثْبِتَةِ لِعَدَمِ اسْتِقْلَالِهِ بِعَدَمِ طَلَبِهِ الْحَقَّ
لِذَاتِهِ، حَتَّى إِنَّهُ مَارَى فِي حُجَّةٍ لِإِثْبَاتِ الْبَسْمَلَةِ فِي أَوَّلِهَا بِخَطِّ الْمُصْحَفِ الْمُتَوَاتِرِ فَجَعَلَهَا دَلِيلًا عَلَى كَوْنِهِ مِنَ الْقُرْآنِ دُونَ كَوْنِهَا مِنَ الْفَاتِحَةِ، وَهُوَ مِنْ تَمَحُّلِ الْجَدَلِ، فَلَا مَعْنَى لِكَوْنِهَا آيَةً مُسْتَقِلَّةً فِي الْقُرْآنِ أُلْحِقَتْ بِسُورِهِ كُلِّهَا إِلَّا وَاحِدَةً وَلَيْسَتْ فِي شَيْءٍ مِنْهَا وَلَا فِي فَاتِحَتِهِ الَّتِي اقْتَدَوْا بِهَا فِي بَدْءِ كُتُبِهِمْ كُلِّهَا، إِنَّهُ لَقَوْلٌ وَاهٍ تُبْطِلُهُ عِبَادَتُهُمْ وَسِيرَتُهُمْ، وَيَنْبِذُهُ ذَوْقُهُمْ، لَوْلَا فِتْنَةُ الرِّوَايَاتِ وَالتَّقْلِيدِ. فَتُعَارُضُ الرَّاوِيَاتِ اغْتَرَّ بِهِ أَفْرَادٌ مُسْتَقِلُّونَ، وَبِالتَّقْلِيدِ فُتِنَ كَثِيرُونَ، وَلِلَّهِ فِي خَلْقِهِ شُئُونٌ.
عَلَى أَنَّ الْأَلُوسِيَّ حَكَّمَ وِجْدَانَهُ وَاسْتَفْتَى قَلْبَهُ فِي بَعْضِ فُرُوعِ الْمَسْأَلَةِ، فَأَفْتَاهُ بِوُجُوبِ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ وَالْبَسْمَلَةِ فِي الصَّلَاةِ، وَخَانَهُ فِي كَوْنِهَا آيَةً مِنْهَا، وَأَوْرَدَ فِي حَاشِيَةِ تَفْسِيرِهِ عَلَى ذَلِكَ إِشْكَالًا اسْتَكْبَرَهُ جِدَّ الِاسْتِكْبَارِ وَمَا هُوَ بِكَبِيرٍ، فَنَحْنُ نَذْكُرُ عِبَارَتَيْهِ، وَنُقَفِّي عَلَيْهِمَا بِالرَّدِّ عَلَيْهِ. قَالَ فِي تَفْسِيرِهِ " رُوحُ الْمَعَانِي ":
" وَبِالْجُمْلَةِ يَكَادُ أَنْ يَكُونَ اعْقِتَادُ كَوْنِ الْبَسْمَلَةِ جُزْءًا مِنْ سُورَةِ (1) مِنَ الْفُطْرِيَّاتِ! ! كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى مَنْ سَلِمَ لَهُ وُجْدَانَهُ (! !) فَهِيَ آيَةٌ مِنَ الْقُرْآنِ مُسْتَقِلَّةٌ وَلَا يَنْبَغِي لِمَنْ وَقَفَ عَلَى الْأَحَادِيثِ أَنْ يَتَوَقَّفَ فِي قُرْآنِيَّتِهَا. أَوْ يُنْكِرَ وُجُوبَ قِرَاءَتِهَا وَيَقُولَ بِسُنِّيَّتِهَا، فَوَاللهِ لَوْ مُلِئَتْ لِيَ الْأَرْضُ ذَهَبًا لَا أَذْهَبُ إِلَى هَذَا الْقَوْلِ وَإِنْ أَمْكَنَنِي بِفَضْلِ اللهِ تَوْجِيهَهُ (! !) كَيْفَ وَكُتُبُ الْأَحَادِيثِ مَلْأَى بِمَا يَدُلُّ عَلَى خِلَافِهِ. وَهُوَ الَّذِي صَحَّ عِنْدِي عَنِ الْإِمَامِ - يَعْنِي إِمَامَهُ الْجَدِيدَ أَبَا حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى - وَالْقَوْلُ بِأَنَّهُ لَمْ يَنُصَّ بِشَيْءٍ لَيْسَ بِشَيْءٍ، وَكَيْفَ لَا يَنُصُّ إِلَى آخَرِ عُمْرِهِ فِي مِثْلِ هَذَا الْأَمْرِ الْخَطِيرِ الدَّائِرِ عَلَيْهِ أَمْرُ الصَّلَاةِ مِنْ صِحَّتِهَا أَوِ اسْتِكْمَالِهَا، وَيُمْكِنُ أَنْ يُنَاطَ بِهِ بَعْضُ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، وَأُمُورِ الدِّيَانَاتِ كَالطَّلَاقِ وَالْحَلِفِ وَالْعِتْقِ. وَهُوَ الْإِمَامُ الْأَعْظَمُ، وَالْمُجْتَهِدُ الْأَقْدَمُ، رضي الله عنه "؟
وَكَتَبَ فِي حَاشِيَتِهِ عِنْدَ قَوْلِهِ: فَهِيَ آيَةٌ مِنَ الْقُرْآنِ مُسْتَقِلَّةٌ مَا نَصَّهُ:
اسْتَشْكَلَ بَعْضُهُمُ الْإِثْبَاتَ وَالنَّفْيَ، فَإِنَّ الْقُرْآنَ لَا يَثْبُتُ بِالظَّنِّ وَلَا يُنْفَى بِهِ. وَهُوَ إِشْكَالٌ كَالْجَبَلِ الْعَظِيمِ (؟) وَأُجِيبَ عَنْهُ أَنَّ حُكْمَ الْبَسْمَلَةِ فِي ذَلِكَ حُكْمُ الْحُرُوفِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا بَيْنَ الْقُرَّاءِ السَّبْعَةِ قَطْعِيَّةُ الْإِثْبَاتِ وَالنَّفْيِ مَعًا (! !) وَلِهَذَا قَرَأَ بَعْضُهُمْ بِإِثْبَاتِهَا وَبَعْضُهُمْ بِإِسْقَاطِهَا، وَإِنِ اجْتَمَعَتِ الْمَصَاحِفُ عَلَى الْإِثْبَاتِ، فَإِنَّ مِنَ الْقِرَاءَاتِ مَا جَاءَ عَلَى خِلَافِ خَطِّهَا كَالصِّرَاطِ وَمُصَيْطِرٍ فَإِنَّهُمَا قُرِئَا بِالسِّينِ وَلَمْ يُكْتُبَا إِلَّا بِالصَّادِ (وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ) تُقْرَأُ بِالظَّاءِ
وَلَمْ تُكْتَبْ إِلَّا بِالضَّادِ فَفِي
الْبَسْمَلَةِ التَّخْيِيرُ، وَتَتَحَتَّمُ قِرَاءَتُهَا فِي الْفَاتِحَةِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ احْتِيَاطِيًّا (! !) وَخُرُوجًا مِنْ عُهْدَةِ الصَّلَاةِ الْوَاجِبَةِ بِيَقِينٍ لِتَوَقُّفِ صِحَّتِهَا عَلَى مَا أَسْمَاهُ الشَّرْعَ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ فَافْهَمْ، وَاللهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ " اهـ
أَقُولُ: نَعَمْ. إِنَّ اللهَ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ، وَقَدْ وَفَّقَ لِعِلْمِهِ أُولِي الْأَلْبَابِ، وَهُمُ (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبَابِ) دُونَ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ مِنْهُ مَا وَافَقَ رِوَايَةَ فُلَانٍ وَرَأْيَ فُلَانٍ، وَيُوجِبُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ نَصْرَهُ وَلَوْ بِتَأْوِيلِ مَا مَضَتْ بِهِ السُّنَّةُ الْعَمَلِيَّةُ وَثَبَتَ بِنَصِّ الْقُرْآنِ، وَلَوْلَا عَصَبِيَّةُ الْمَذَاهِبِ عِنْدَ الْمُقَلِّدِينَ، وَالْغُرُورُ بِظَوَاهِرِ بَعْضِ الرِّوَايَاتِ عِنْدَ الْأَثَرِيِّينَ، لَمَا اخْتَلَفَ أَحَدٌ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَنَحْمَدُ اللهَ تَعَالَى أَنَّ اخْتِلَافَهُمْ فِيهَا قَوْلِيٌّ جَدَلِيٌّ لَا عَمَلِيٌّ.
سُبْحَانَ اللهِ! مَا أَعْجَبَ صُنْعَ اللهِ فِي عُقُولِ الْبَشَرِ! أَيَقُولُ السَّيِّدُ مَحْمُودٌ الْأَلُوسِيُّ الْعَالِمُ الذَّكِيُّ النَّزَّاعُ إِلَى اسْتِقْلَالِ الْفِكْرِ فِي كَثِيرٍ مِنْ مَسَائِلِ التَّفْسِيرِ. وَبِالرَّغْمِ مِنْ رِضَائِهِ بِمَهَانَةِ جَهَالَةِ التَّقْلِيدِ: إِنَّ اسْتِشْكَالَ الْجَمْعِ بَيْنَ الْإِثْبَاتِ وَالنَّفْيِ الْقَطْعِيَّيْنِ فِي مَسْأَلَةِ الْبَسْمَلَةِ " إِشْكَالٌ كَالْجَبَلِ الْعَظِيمِ "؟ ثُمَّ يَرْضَى بِالْجَوَابِ عَنْهُ بِمَا يُقَرِّرُ بِهِ الْجَمْعَ بَيْنَ الْإِثْبَاتِ وَالنَّفْيِ الْقَطْعِيَّيْنِ.
سُبْحَانَ اللهِ! إِنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ هُوَ التَّنَاقُضُ الْحَقِيقِيُّ الَّذِي يَعَزُّ إِيرَادُ مِثَالٍ لِلْمُحَالِ الْعَقْلِيِّ مِثْلِهِ، فَكَيْفَ يَصْدُرُ الْقَوْلُ بِهِ عَنْ عَالِمٍ أَوْ عَنْ عَاقِلٍ؟
إِنَّ الْإِشْكَالَ الَّذِي نَظَرَ إِلَيْهِ الْمُفَسِّرُ بِعَيْنَيِ التَّقْلِيدِ الْعَمْيَاوَيْنِ فَرَآهُ كَالْجَبَلِ الْعَظِيمِ، هُوَ فِي نَفْسِهِ صَغِيرٌ حَقِيرٌ ضَئِيلٌ قَمِيءٌ خَفِيٌّ كَالذَّرَّةِ مِنَ الْهَبَاءِ، أَوْ كَالْجُزْءِ لَا يَتَجَزَّأُ مِنْ حَيْثُ كَوْنُهُ لَا يُرَى وَلَا يَثْبُتُ إِلَّا بِطَرِيقَةِ الْفَرْضِ، أَوْ كَالْعَدَمِ الْمَحْضِ.
وَالْجَوَابُ الْحَقُّ: أَنَّهُ لَمْ يَنْفِ أَحَدٌ مِنَ الْقُرَّاءِ كَوْنَ الْبَسْمَلَةِ مِنَ الْفَاتِحَةِ نَفْيًا حَقِيقِيًّا بِرِوَايَةٍ مُتَوَاتِرَةٍ عَنِ الْمَعْصُومِ صلى الله عليه وسلم تُصَرِّحُ بِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنَ الْفَاتِحَةِ - كَمَا يَقُولُ بَعْضُ النَّاسِ بِشُبْهَةِ عَدَمِ رِوَايَةِ الْقُرَّاءِ لَهَا، وَشُبَهِ تَعَارُضِ الرِّوَايَاتِ الْآحَادِيَّةِ الَّتِي ذَكَرْنَا أَقْوَاهَا وَالْمَخْرَجَ مِنْهَا - أَوْ لَيْسَتْ إِلَّا جُزْءَ آيَةٍ مِنْ سُورَةِ النَّمْلِ، كَمَا زَعَمَ مَنْ لَا شُبْهَةَ لَهُمْ عَلَى النَّفْيِ تَسْتَحِقُّ أَنْ يُجَابَ عَنْهَا.
وَإِنَّمَا أَثْبَتَ بَعْضُ الْقُرَّاءِ بِالرِّوَايَاتِ الْمُتَوَاتِرَةِ: أَنَّ الْبَسْمَلَةَ آيَةٌ مِنَ الْفَاتِحَةِ وَبَعْضُهُمْ لَمْ يَرْوِ ذَلِكَ بِأَسَانِيدِهِ الْمُتَوَاتِرَةِ، وَعَدَمُ نَقْلِ الْإِثْبَاتِ لِلشَّيْءِ لَيْسَ نَفْيًا لِذَلِكَ الشَّيْءِ، لَا رِوَايَةً وَلَا دِرَايَةً. وَأَعَمُّ مِنْ هَذَا، مَا قَالَ الْعُلَمَاءُ، مِنْ أَنَّ بَيْنَ عَدَمِ إِثْبَاتِ الشَّيْءِ وَبَيْنَ إِثْبَاتِ عَدَمِهِ بَوْنًا بَعِيدًا كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ. وَلَوْ فَرَضْنَا أَنَّ بَعْضَهُمْ رَوَى التَّصْرِيحَ بِالنَّفْيِ لِجَزَمْنَا بِأَنَّ رِوَايَتَهُ بَاطِلَةٌ سَبَبُهَا أَنَّ بَعْضَ رِجَالِ سَنَدِهَا اشْتَبَهَ عَلَيْهِ عَدَمُ الْإِثْبَاتِ بِإِثْبَاتِ النَّفْيِ، إِذْ يَسْتَحِيلُ عَقْلًا
أَنْ يَكُونَ الْأَمْرَانِ الْمُتَنَاقِضَانِ قَطْعِيَّيْنِ مَعًا، وَرِوَايَةُ الْإِثْبَاتِ لَا يُمْكِنُ الطَّعْنُ فِيهَا، وَنَاهِيكَ وَقَدْ عُزِّزَتْ بِخَطِّ الْمُصْحَفِ الَّذِي هُوَ بِتَوَاتُرِهِ خَطًّا وَتَلْقِينًا أَقْوَى مِنْ جَمِيعِ الرِّوَايَاتِ الْقَوْلِيَّةِ وَأَعْصَى عَلَى التَّأْوِيلِ وَالِاحْتِمَالِ، وَأَمَّا الْقَوْلُ بِأَنَّهَا آيَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ بَيْنَ كُلِّ سُورَتَيْنِ لِلْفَصْلِ بَيْنَهُمَا مَا عَدَا الْفَصْلَ بَيْنَ سُورَتَيِ الْأَنْفَالِ وَبَرَاءَةٍ، فَمَا هُوَ إِلَّا رَأْيٌ لِلْجَمْعِ بَيْنَ الرِّوَايَاتِ الْآحَادِيَّةِ الظَّنِّيَّةِ الْمُتَعَارِضَةِ، وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بِغَيْرِهِ مِمَّا لَا إِشْكَالَ فِيهِ، إِذْ لَوْ كَانَتِ الْبَسْمَلَةُ لِلْفَصْلِ بَيْنَ السُّورِ لَمْ تُوضَعْ فِي أَوَّلِ الْفَاتِحَةِ وَلَمْ تُحْذَفْ مِنْ أَوَّلِ بَرَاءَةٍ لِلْعِلَّةِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا عَنْهُمْ فِي هَذَا الْبَحْثِ فَهِيَ لَا تَتَحَقَّقُ إِلَّا إِذَا كَانَتِ الْبَسْمَلَةُ مِنَ السُّورَةِ، وَرَدَّ عَلَى ذَلِكَ مَا أَوْرَدْنَاهُ مِنَ الْمَعَانِي وَالْحِكَمِ فِي بَدْءِ الْقُرْآنِ بِهَا، وَمَا صَحَّ مَرْفُوعًا مِنْ كَوْنِهَا هِيَ السَّبْعَ الْمَثَانِيَ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ الَّذِي نَقَلَهُ الْأَلُوسِيُّ وَارْتَضَاهُ فَلَا يُسْتَغْرَبُ صُدُورُهُ وَلَا إِقْرَارُهُ مِمَّنْ يُثْبِتُ الْجَمْعَ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ الْمَنْطِقِيَّيْنِ وَيَفْتَخِرُ بِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ تَوْجِيهُ مَا يَعْتَقِدُ بُطْلَانَهُ عَلَى أَنَّهُ جَوَابٌ عَنْ إِشْكَالٍ غَيْرِ وَارِدٍ، وَبِعِبَارَةٍ أُخْرَى لَيْسَ جَوَابًا عَنْ إِشْكَالٍ إِذْ لَا إِشْكَالَ. وَالْخِلَافُ بَيْنَ الْقُرَّاءِ فِي مِثْلِ السِّرَاطِ وَالصِّرَاطِ، وَمُسَيْطِرٍ وَمُصَيْطِرٍ، وَضَنِينٍ، وَظَنِينٍ، لَيْسَ خِلَافًا بَيْنَ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ كَمَسْأَلَةِ الْبَسْمَلَةِ بَلْ هِيَ قِرَاءَاتٌ ثَابِتَةٌ بِالتَّوَاتُرِ، فَأَمَّا ضَنِينٌ وَظَنِينٌ فَهُمَا قِرَاءَتَانِ مُتَوَاتِرَتَانِ - كَمَالِكٍ وَمَلِكٍ فِي الْفَاتِحَةِ - كُتِبَتْ قِرَاءَةُ الضَّادِ فِي مُصْحَفِ أُبَيٍّ وَهُوَ الَّذِي وُزِّعَ فِي الْأَمْصَارِ وَقَرَأَ بِهَا الْجُمْهُورُ، وَقِرَاءَةُ الظَّاءِ فِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَقَرَأَ بِهَا ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَالْكِسَائِيُّ وَلِكُلٍّ مِنْهُمَا مَعْنًى وَلَيْسَتَا مِنْ قَبِيلِ تَسْهِيلِ الْقِرَاءَةِ لِقُرْبِ الْمَخْرَجِ كَمَا سَيَأْتِي فِي بَيَانِ الْفَرْقِ بَيْنَ مَخْرَجَيِ الْحَرْفَيْنِ قَرِيبًا، وَأَمَّا السِّرَاطُ وَالصِّرَاطُ وَمُسَيْطِرٌ وَمُصَيْطِرٌ فَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا إِلَّا تَفْخِيمُ السِّينِ وَتَرْقِيقُهُ وَبِكُلٍّ مِنْهُمَا نَطَقَ بَعْضِ الْعَرَبِ وَثَبَتَ بِهِ النَّصُّ فَهُوَ مِنْ قَبِيلِ مَا
صَحَّ مِنْ تَحْقِيقِ الْهَمْزَةِ وَتَسْهِيلِهَا، وَمِنَ الْإِمَالَةِ وَعَدَمِهَا، فَلَا تَنَافِيَ بَيْنَ هَذِهِ الْقِرَاءَاتِ فَنُعِدُّ إِثْبَاتَ إِحْدَاهَا نَفْيًا لِمُقَابَلَتِهَا كَمَا هُوَ بَدِيهِيٌّ. عَلَى أَنَّ خَطَّ الْمُصْحَفِ أَقْوَى الْحُجَجِ فَلَوْ فَرَضْنَا تَعَارُضَ هَذِهِ الْقِرَاءَاتِ لَكَانَ هُوَ الْمُرَجَّحَ، وَلَكِنْ لَا تَعَارُضَ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
نَكْتَفِي بِهَذَا رَدًّا لِمَا فِي كَلَامِ الْأَلُوسِيِّ وَأَمْثَالِهِ مِنَ الْخَطَأِ، فَإِنَّ غَيْرَهُ لَا يَعْنِينَا فِي مَوْضُوعِنَا وَلَا سِيَّمَا مَا رَجَّحَهُ عَنْ إِمَامِهِ وَخَالَفَ فِيهِ غَيْرَهُ، وَعَلَّلَهُ بِإِطْلَاقِهِمْ عَلَيْهِ لَقَبَ الْإِمَامِ الْأَعْظَمِ، وَزِيَادَتِهِ هُوَ عَلَيْهِمْ لَقَبَ الْمُجْتَهِدِ الْأَقْدَمِ، مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّ عُلَمَاءَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعَيْنِ أَقْدَمُ مِنْهُ اجْتِهَادًا، وَأَنَّ هَذِهِ الْأَلْقَابَ وَإِنْ صَحَّ مَعْنَاهَا لَا تَقْتَضِي عَدَمَ الْخَطَأِ وَلَا عَدَمَ النِّسْيَانِ وَلَا إِهْمَالَ بَعْضِ الْمَسَائِلِ الْمُهِمَّةِ. وَنَحْنُ يَسُرُّنَا أَنْ يَصِحَّ مَا ذَكَرَهُ، وَأَنْ يُخْطِئَ مَا أَنْكَرَهُ، فَإِنَّ مِنَ الْمَصَائِبِ أَنْ يُوجَدَ فِي الْمُسْلِمِينَ عَالِمٌ يُنْكِرُ مَا ثَبَتَ فِي خَطِّ الْمُصْحَفِ الْمُتَوَاتِرِ كِتَابَةً وَرِوَايَةً. وَقَدْ نَقَلَ الرَّازِيُّ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ لَيْسَ لَهُ نَصٌّ فِي الْمَسْأَلَةِ، وَإِنَّمَا قَالَ: يَقْرَأُ الْبَسْمَلَةَ وَيُسِرُّ بِهَا، وَلَمْ يَقُلْ إِنَّهَا آيَةٌ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ أَمْ لَا. (قَالَ الرَّازِيُّ) : وَسُئِلَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ عَنْ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ؟
فَقَالَ: مَا بَيْنَ الدَّفَّتَيْنِ كَلَامُ اللهِ، قَالَ (أَيِ السَّائِلِ لَهُ) : فَلِمَ تُسِرُّهُ؟ قَالَ: فَلَمْ يُجِبْنِي.
وَقَالَ الْكَرْخِيُّ: لَا أَعْرِفُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ بِعَيْنِهَا لِمُتَقَدِّمِي أَصْحَابِنَا، إِلَّا أَنَّ أَمْرَهُمْ بِإِخْفَائِهَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنَ السُّورَةِ.
وَقَالَ بَعْضُ فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ: تَوَرَّعَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ عَنِ الْوُقُوعِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ؛ لِأَنَّ الْخَوْضَ فِي أَنَّ الْبَسْمَلَةَ مِنَ الْقُرْآنِ أَوْ لَيْسَتْ مِنْهُ أَمْرٌ عَظِيمٌ، فَالْأَوْلَى السُّكُوتُ عَنْهُ اهـ.
أَقُولُ: مِنَ الْخَطَأِ الْبَيِّنِ الِاسْتِدْلَالُ بِأَمْرِ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ بِإِخْفَاءِ الْبَسْمَلَةِ عَلَى كَوْنِهَا لَيْسَتْ مِنَ الْقُرْآنِ، مَعَ الْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ مَا بَيْنَ دَفَّتَيِ الْمُصْحَفِ قُرْآنٌ مُنَزَّلٌ مِنَ اللهِ. عَلَى أَنَّ الرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةَ فِي الْأَحَادِيثِ فِيهَا الْجَهْرُ بِالْبَسْمَلَةِ وَالْإِسْرَارُ، وَرِوَايَاتُ الْجَهْرِ أَقْوَى وَأَبْعَدُ عَنِ التَّعْلِيلِ وَالتَّأْوِيلِ.
وَصَفْوَةُ الْقَوْلِ: أَنَّ دَلَالَةَ الْمُصْحَفِ أَقْوَى الدَّلَالَاتِ، تَرْجُحُ عَلَى كُلِّ مَا عَارَضَهَا مِنَ الرِّوَايَاتِ، وَدَلَالَتُهَا قَطْعِيَّةٌ، تُؤَيِّدُهَا الرِّوَايَاتُ الْمُتَوَاتِرَةُ فِي إِثْبَاتِهَا، وَالْإِجْمَاعُ الْعَمَلِيُّ عَلَى قِرَاءَتِهَا، وَلَا يُنَافِيهَا عَدَمُ رِوَايَةِ بَعْضِهِمْ لَهَا. فَالْمَسْأَلَةُ قَطْعِيَّةٌ فِي نَفْسِهَا، وَإِنَّمَا جَعَلُوهَا اجْتِهَادِيَّةً بِاخْتِلَافِ الرِّوَايَاتِ الْآحَادِيَّةِ فِي قِرَاءَتِهَا، وَقَدْ عَلِمْتَ مَا فِيهَا وَاللهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ.
فَضْلُ الْفَاتِحَةِ وَكَوْنُهَا هِيَ السَّبْعَ الْمَثَانِيَ
قَالَ اللهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْحِجْرِ مُخَاطِبًا خَاتَمَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ: (وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ)(15: 87) وَقَدْ ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ وَالْآثَارِ الصَّحِيحَةِ عَنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعَيْنِ: أَنَّ السَّبْعَ الْمَثَانِيَ هِيَ سُورَةُ الْفَاتِحَةِ، وَمَعْنَى كَوْنِهَا مَثَانِيَ: أَنَّهَا تُثَنَّى وَتُعَادُ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ مِنَ الصَّلَاةِ لِفَرْضِيَّتِهَا فِيهَا كَمَا تَقَدَّمَ، وَقِيلَ مَعْنَاهُ: أَنَّهَا يُثْنَى فِيهَا عَلَى اللهِ تَعَالَى بِمَا أَمَرَهُ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ:
فَأَمَّا الْحَدِيثُ الْمَرْفُوعُ فِي تَفْصِيلِهَا وَكَوْنِهَا هِيَ الْمُرَادَةَ بِالسَّبْعِ الْمَثَانِي فَهُوَ مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي مَوَاضِعَ مِنْ صَحِيحِهِ، وَأَصْحَابُ السُّنَنِ عَنْ أَبِي سَعِيدِ بْنِ الْمُعَلَّى، وَرَوَى نَحْوَهُ مَالِكٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ. ذَكَرَ أَبُو سَعِيدِ بْنُ الْمُعَلَّى: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ وَهُمَا فِي الْمَسْجِدِ: " لَأُعَلِّمَنَّكَ سُورَةً هِيَ أَعْظَمُ السُّوَرِ فِي الْقُرْآنِ قَبْلَ أَنْ نَخْرُجَ مِنَ الْمَسْجِدِ - وَفِي رِوَايَةٍ: قَبْلَ أَنْ أَخْرَجَ - (قَالَ) : أَخَذَ بِيَدِي فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ قُلْتُ لَهُ: أَلَمْ تَقُلْ " لَأُعَلِّمَنَّكَ سُورَةً هِيَ أَعْظَمُ سُورَةٍ فِي الْقُرْآنِ؟ " فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، هِيَ السَّبْعُ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنُ الْعَظِيمُ الَّذِي أُوتِيتُهُ " وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: " أَتُحِبُّ أَنْ أُعَلِّمَكَ سُورَةً لَمْ تَنْزِلْ فِي التَّوْرَاةِ وَلَا الْإِنْجِيلِ وَلَا فِي الْفُرْقَانِ مِثْلُهَا؟ قَالَ أُبَيٌّ: ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِي يُحَدِّثُنِي وَأَنَا أَتَبَاطَأُ مَخَافَةَ أَنْ يَبْلُغَ الْبَابَ قَبْلَ أَنْ يَنْقَضِيَ الْحَدِيثُ وَلَمَّا سَأَلَهُ عَنِ السُّورَةِ قَالَ: " كَيْفَ نَقْرَأُ فِي الصَّلَاةِ؟ " فَقَرَأْتُ عَلَيْهِ أُمَّ الْكِتَابِ فَقَالَ: " إِنَّهَا السَّبْعُ الْمَثَانِي
وَالْقُرْآنُ الْعَظِيمُ الَّذِي أُوتِيتُهُ ". وَفِيهِ إِزَالَةُ إِشْكَالٍ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدِ بْنِ الْمُعَلَّى، وَهُوَ أَنَّ ظَاهِرَهُ يُوهِمُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَعْرِفُ الْفَاتِحَةَ مَعَ أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ وَقَبْلَهُ فَهُوَ مِنَ الْأَنْصَارِ - وَقَدْ عُلِمَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ الْمُرَادَ بِتَعْلِيمِهِ هَذِهِ السُّورَةَ تَعْلِيمُهُ مَا فِيهَا مِنَ الْفَضِيلَةِ عَلَى غَيْرِهَا، وَكَوْنُهَا هِيَ الْمُرَادَةَ بِآيَةِ سُورَةِ الْحِجْرِ. وَأَمَّا عَطْفُ الْقُرْآنِ عَلَى " سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي " فَهُوَ مِنْ عَطْفِ الْكُلِّ عَلَى الْجُزْءِ أَوِ الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ، وَقِيلَ فِي تَوْجِيهِهِ غَيْرُ ذَلِكَ.
وَقَدْ تَعَلَّقَ بِرِوَايَةِ " الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ هِيَ السَّبْعُ الْمَثَانِي " مَنْ قَالُوا: إِنَّ الْبَسْمَلَةَ لَيْسَتْ مِنَ الْفَاتِحَةِ. وَعَكَسَ الْآخَرُونَ قَائِلِينَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْجُمْلَةِ الْأُولَى لَفْظُهَا عَلَى أَنَّهُ اسْمُ
السُّورَةِ وَإِلَّا مَا صَحَّ قَوْلُهُ: هِيَ السَّبْعُ الْمَثَانِي؛ لِأَنَّهَا آيَةٌ وَاحِدَةٌ، وَإِنَّمَا السَّبْعُ الْمَثَانِي: هِيَ آيَاتُ الْفَاتِحَةِ السَّبْعُ، وَهِيَ لَيْسَتْ سَبْعًا إِلَّا بِالْبَسْمَلَةِ آيَةً مِنْهَا، فَكَوْنُهَا مِنْهَا ثَابِتٌ بِالْقُرْآنِ أَيْ بِآيَةِ سُورَةِ الْحِجْرِ، كَمَا فَسَّرَهَا أَعْلَمُ النَّاسِ بِهِ وَهُوَ الرَّسُولُ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللهُ عَلَيْهِ، وَكِبَارُ أَصْحَابِهِ وَالتَّابِعَيْنِ وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى تَسْمِيَتِهَا بِالْحَمْدِ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، إِذْ لَا يَصِحُّ مَعْنَاهُ إِلَّا بِذَلِكَ.
وَأَمَّا الْآثَارُ فَقَدْ فَصَّلَهَا السُّيُوطِيُّ فِي الدُّرِّ الْمَنْثُورِ، وَأَجْمَلَهَا الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ مَعَ بَيَانِ دَرَجَةِ أَسَانِيدِهَا بِقَوْلِهِ: وَقَدْ رَوَى الطَّبَرِيُّ بِإِسْنَادَيْنِ جَيِّدَيْنَ عَنْ عُمَرَ ثُمَّ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: السَّبْعُ الْمَثَانِي فَاتِحَةُ الْكِتَابِ - زَادَ عَنْ عُمَرَ " تُثَنَّى فِي كُلِّ رَكْعَةٍ " " وَبِإِسْنَادٍ مُنْقَطِعٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مِثْلَهُ، وَبِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ قَرَأَ الْفَاتِحَةَ، ثُمَّ قَالَ:(وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ) قَالَ: هِيَ فَاتِحَةُ الْكِتَابِ، وَبِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْآيَةُ السَّابِعَةُ وَمِنْ طَرِيقِ جَمَاعَةٍ مِنَ التَّابِعَيْنِ: السَّبْعُ الْمَثَانِي فَاتِحَةُ الْكِتَابِ. وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي جَعْفَرٍ الرَّازِيِّ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ قَالَ: السَّبْعُ الْمَثَانِي فَاتِحَةُ الْكِتَابِ: قُلْتُ لِلرَّبِيعِ: إِنَّهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّهَا السَّبْعُ الطُّوَلُ (جَمْعُ طُولَى مُؤَنَّثِ أَطْوَلَ) قَالَ: لَقَدْ أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَمَا نَزَلَ مِنَ الطُّوَلِ شَيْءٌ. اهـ.
يَقُولُ مُحَمَّدٌ رَشِيدٌ: يَعْنِي أَنَّ سُورَةَ الْحِجْرِ الَّتِي فِيهَا هَذِهِ الْآيَةُ قَدْ نَزَلَتْ بِمَكَّةَ قَبْلَ السُّوَرِ السَّبْعِ الطُّوَلِ وَهُنَّ: الْبَقَرَةُ، وَآلُ عِمْرَانَ، وَالنِّسَاءُ، وَالْمَائِدَةُ - الْمَدَنِيَّاتُ - وَالْأَنْعَامُ وَالْأَعْرَافُ، وَيُونُسُ - الْمَكِّيَّاتُ - كَذَا قَالَ بَعْضُهُمْ فِي السَّابِعَةِ: إِنَّهَا سُورَةُ يُونُسَ، قَالَ آخَرُونَ: هِيَ الْأَنْفَالُ، وَبَرَاءَةٌ - وَعَدَّهُمَا سُورَةً وَاحِدَةً - وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الرَّاوِيَ نَسِيَ السَّابِعَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَالْقَوْلُ بِأَنَّهَا السَّبْعُ الطُّوَلُ، رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَالطَّبَرِيُّ وَالْحَاكِمُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِإِسْنَادٍ قَوِيٍّ كَمَا قَالَ الْحَافِظُ. وَلَا حَاجَةَ إِلَى التَّفْصِيلِ فِيهِ فَإِنَّهُ مَرْدُودٌ لِمُخَالَفَتِهِ لِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الْمَرْفُوعِ، وَلَا قَوْلَ لِأَحَدٍ مِنْ قَوْلِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم، وَمِنْهُ يُعْلَمُ أَنَّ قُوَّةَ الْإِسْنَادِ لَا قِيمَةَ لَهَا تُجَاهَ الدَّلِيلِ الْقَوِيِّ عَلَى بُطْلَانِ مَتْنِ الرِّوَايَةِ.
اسْتِدْرَاكٌ عَلَى تَفْسِيرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَالضَّالِّينَ
وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ تَفْسِيرُ (الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) بِالْيَهُودِ، وَ (الضَّالِّينَ) بِالنَّصَارَى، رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَصَحَّحَهُ غَيْرُهُمْ، وَنَقَلْنَا عَنْ شَيْخِنَا الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ (ص 55) عَزْوَهُ إِلَى بَعْضِهِمْ، أَيْ بَعْضِ الْمُفَسِّرِينَ وَهُوَ يُرِيدُ أَنَّ بَعْضَ الْمُفَسِّرِينَ اخْتَارَ أَنَّ هَذَا هُوَ الْمَعْنَى الْمُرَادُ، وَهُوَ لَمْ يَكُنْ يَجْهَلُ أَنَّ هَذَا رُوِيَ مَرْفُوعًا، وَلَكِنَّهُ كَانَ يَعْلَمُ ـ مَعَ هَذَا ـ أَنَّ أَكْثَرَ الْمُفَسِّرِينَ فَسَّرُوا اللَّفْظَيْنِ بِمَا يَدُلَّانِ عَلَيْهِ لُغَةً حَتَّى بَعْضَ أَهْلِ الْحَدِيثِ مِنْهُمْ، وَكَأَنَّهُمْ لَمْ يَرَوْا أَنَّ الْحَدِيثَ صَحِيحٌ، فَقَدْ قَالَ الْبَغَوِيُّ الْمُلَقَّبُ بِمُحْيِي السُّنَّةِ فِي تَفْسِيرِهِ (مَعَالِمِ التَّنْزِيلِ) بَعْدَ تَفْسِيرِهِمَا بِمَدْلُولِهِمَا اللُّغَوِيِّ، " قِيلَ: الْمَغْضُوبُ عَلَيْهِمْ هُمُ الْيَهُودُ، وَالضَّالُّونَ هُمُ النَّصَارَى؛ لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى حَكَمَ عَلَى الْيَهُودِ بِالْغَضَبِ فَقَالَ:(مَنْ لَعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ) وَحَكَمَ عَلَى النَّصَارَى بِالضَّلَالِ فَقَالَ: (وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ) وَقَالَ سَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللهِ: غَيْرُ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ بِالْبِدْعَةِ، وَلَا الضَّالِّينَ عَنِ السُّنَّةِ اهـ.
فَعَبَّرَ عَنْ هَذَا الْقَوْلِ بِقِيلِ الدَّالِّ عَلَى ضَعْفِهِ عِنْدَهُ وَلَمْ يَسْتَدِلَّ عَلَيْهِ بِالْحَدِيثِ.
وَقَالَ الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ: غَيْرُ صِرَاطِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ، وَهُمُ الَّذِينَ فَسَدَتْ إِرَادَتُهُمْ فَعَلِمُوا الْحَقَّ وَعَدَلُوا عَنْهُ، وَلَا صِرَاطِ الضَّالِّينَ، وَهُمُ الَّذِينَ فَقَدُوا الْعِلْمَ، فَهُمْ هَائِمُونَ فِي الضَّلَالَةِ لَا يَهْتَدُونَ إِلَى الْحَقِّ، وَأَكَّدَ الْكَلَامَ بِـ " لَا " لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ ثَمَّ مَسْلَكَيْنِ فَاسِدَيْنِ وَهُمَا: طَرِيقَةُ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى. اهـ.
وَبَعْدَ كَلَامٍ طَوِيلٍ فِي إِعْرَابِ " غَيْرِ " وَ " لَا " إِنَّمَا جِيئَ بِـ " لَا " لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى (الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) وَلِلْفَرْقِ بَيْنَ الطَّرِيقَتَيْنِ لِتُجْتَنَبَ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا، فَإِنَّ طَرِيقَةَ أَهْلِ الْإِيمَانِ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى الْعِلْمِ بِالْحَقِّ وَالْعَمَلِ بِالْحَقِّ وَالْعَمَلِ بِهِ، وَالْيَهُودُ فَقَدُوا الْعَمَلَ وَالنَّصَارَى فَقَدُوا الْعِلْمَ، وَلِهَذَا كَانَ الْغَضَبُ لِلْيَهُودِ، وَالضَّلَالُ لِلنَّصَارَى ـ وَاسْتَشْهَدَ بِالْآيَتَيْنِ اللَّتَيْنِ اسْتَشْهَدَ بِهِمَا الْبَغَوِيُّ، ثُمَّ ذَكَرَ
الْحَدِيثَ وَرِوَايَاتِهِ وَهُوَ عِنْدَ أَحْمَدَ وَالتِّرْمِذِيِّ وَكَذَا ابْنِ حِبَّانَ مِنْ طَرِيقِ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ، قَالَ التِّرْمِذِيُّ، حَسَنٌ غَرِيبٌ، لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِهِ، وَسِمَاكٌ ضَعَّفَهُ جَمَاعَةٌ وَوَثَّقَهُ آخَرُونَ، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ تَغَيَّرَ فِي آخِرِ عُمْرِهِ بَلْ خَرِفَ، فَمَا رَوَاهُ فِي هَذِهِ الْحَالِ فَلَا جِدَالَ فِي رَدِّهِ بِالِاتِّفَاقِ، وَأَخْرَجَهُ
ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ أَيْضًا بِسَنَدٍ، قَالَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ، إِنَّهُ حَسَنٌ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: إِنَّهُ لَا يَعْرِفُ فِي تَفْسِيرِهِمَا بِمَا ذَكَرَ خِلَافًا يَعْنِي الْمَأْثُورَ، وَمَعَ هَذَا نَقُولُ: إِنَّ مَا ذَكَرَهُ الْمُحَقِّقُونَ مِنَ الْوُجُوهِ الْأُخْرَى لَا يُعَدُّ مُخَالَفَةً لِلْمَأْثُورِ الَّذِي هُوَ مِنْ قَبِيلِ تَفْسِيرِ الْعَامِّ بِبَعْضِ أَفْرَادِهِ، مِنْ قَبِيلِ التَّمْثِيلِ لَا التَّخْصِيصِ، وَلَا الْحَصْرِ بِالْأَوْلَى.
(التَّأْمِينُ بَعْدَ الْفَاتِحَةِ)
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " إِذَا أَمَّنَ الْإِمَامُ فَأَمِّنُوا فَإِنَّ مَنْ وَافَقَ تَأْمِينُهُ تَأْمِينَ الْمَلَائِكَةِ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ " وَقَالَ ابْنُ شِهَابٍ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: آمِينَ. رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ، إِلَّا أَنَّ التِّرْمِذِيَّ لَمْ يَذْكُرْ قَوْلَ ابْنِ شِهَابٍ، وَفِي رِوَايَةٍ:" إِذَا قَالَ الْإِمَامُ: (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ) فَقُولُوا: آمِينَ، فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ تَقُولُ: آمِينَ، وَإِنَّ الْإِمَامَ يَقُولُ: آمِينَ، فَمَنْ وَافَقَ تَأْمِينُهُ تَأْمِينَ الْمَلَائِكَةِ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ " رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: " كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا تَلَا (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ) قَالَ: آمِينَ. حَتَّى يَسْمَعَ مَنْ يَلِيهِ مِنَ الصَّفِّ الْأَوَّلِ " رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ وَقَالَ: " حَتَّى يَسْمَعَهَا أَهْلُ الصَّفِّ الْأَوَّلِ فَيَرْتَجَّ بِهَا الْمَسْجِدُ " وَعَنْ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ قَالَ: " سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَرَأَ (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ) فَقَالَ: آمِينَ. يَمُدُّ بِهَا صَوْتَهُ، رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ. اهـ (مُنْتَقَى الْأَخْبَارِ) .
وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ كُلُّهَا صَحِيحَةٌ وَأَخْرَجَهَا غَيْرُ مَنْ ذُكِرَ، وَزَادَ أَبُو دَاوُدَ فِي الْأَخِيرِ مِنْهَا " وَرَفَعَ بِهَا صَوْتَهُ " قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ: وَسَنَدُهُ صَحِيحٌ، وَخَطَّأَ ابْنَ الْقَطَّانِ فِي إِعْلَانِهِ إِيَّاهُ بِجَهَالَةِ حُجْرِ بْنِ عَنْبَسٍ وَقَالَ: إِنَّهُ ثِقَةٌ مَعْرُوفٌ، قِيلَ: إِنَّ لَهُ صُحْبَةً.
وَهُنَالِكَ أَحَادِيثُ أُخْرَى فِي الْمَسْأَلَةِ تَبْلُغُ مَعَ هَذِهِ سَبْعَةَ عَشَرَ حَدِيثًا، وَهَذِهِ أَصَحُّهَا.
قَالَ الشَّوْكَانِيُّ فِي نَيْلِ الْأَوْطَارِ عِنْدَ شَرْحِ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الْأَوَّلِ: وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ التَّأْمِينِ. قَالَ الْحَافِظُ: وَهَذَا الْأَمْرُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ لِلنَّدْبِ، وَحَكَى ابْنُ بَزِيزَةَ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ وُجُوبَهُ عَمَلًا بِظَاهِرِ الْأَمْرِ، وَأَوْجَبَتْهُ الظَّاهِرِيَّةُ عَلَى كُلِّ مَنْ يُصَلِّي، وَالظَّاهِرُ مِنَ الْحَدِيثِ وُجُوبُهُ عَلَى الْمَأْمُومِ فَقَطْ، لَكِنْ لَا مُطْلَقًا بَلْ مُقَيِّدًا بِأَنْ يُؤَمِّنَ الْإِمَامُ، وَأَمَّا الْإِمَامُ وَالْمُنْفَرِدُ فَمَنْدُوبٌ فَقَطْ.
(قَالَ) : وَحَكَى الْمَهْدِيُّ فِي الْبَحْرِ عَنِ الْعِتْرَةِ جَمِيعًا، أَنَّ التَّأْمِينَ بِدْعَةٌ ـ وَقَدْ عَرَفْتُ ثُبُوتَهُ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه مِنْ فِعْلِهِ وَرِوَايَتِهِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي كُتُبِ أَهْلِ الْبَيْتِ وَغَيْرِهِمْ ـ عَلَى أَنَّهُ قَدْ حَكَى السَّيِّدُ الْعَلَّامَةُ الْإِمَامُ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْوَزِيرُ عَنِ الْإِمَامِ الْمَهْدِيِّ.
مُحَمَّدِ بْنِ الْمُطَهِّرِ وَهُوَ أَحَدُ أَئِمَّتِهِمُ الْمَشَاهِيرِ أَنَّهُ قَالَ فِي كِتَابِهِ (الرِّيَاضُ النَّدِيَّةُ) : إِنَّ رُوَاةَ التَّأْمِينِ جَمٌّ غَفِيرٌ، قَالَ: وَهُوَ مَذْهَبُ زَيْدِ بْنِ عَلِيٍّ وَأَحْمَدَ بْنِ عِيسَى. اهـ.
وَقَدِ اسْتَدَلَّ صَاحِبُ الْبَحْرِ عَلَى أَنَّ التَّأْمِينَ بِدْعَةٌ بِحَدِيثِ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ السُّلَمِيِّ " إِنَّ هَذِهِ صَلَاتُنَا لَا يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ " وَلَا شَكَّ أَنَّ أَحَادِيثَ التَّأْمِينِ خَاصَّةٌ وَهَذَا عَامٌّ، وَإِنْ كَانَتْ أَحَادِيثُهُ الْوَارِدَةُ عَنْ جَمْعٍ مِنَ الصَّحَابَةِ لَا يَقْوَى بَعْضُهَا عَلَى تَخْصِيصِ حَدِيثٍ وَاحِدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ ـ مَعَ أَنَّهَا مُنْدَرِجَةٌ تَحْتَ تِلْكَ الْعُمُومَاتِ الْقَاضِيَةِ بِمَشْرُوعِيَّةِ مُطْلَقِ الدُّعَاءِ فِي الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّ التَّأْمِينَ دُعَاءٌ، فَلَيْسَ فِي الصَّلَاةِ تَشَهُّدٌ، وَقَدْ أَثْبَتَهُ الْعِتْرَةُ، فَمَا هُوَ جَوَابُهُمْ فِي إِثْبَاتِهِ فَهُوَ الْجَوَابُ فِي إِثْبَاتِ ذَلِكَ. عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِكَلَامِ النَّاسِ فِي الْحَدِيثِ هُوَ تَكْلِيمُهُمْ؛ لِأَنَّهُ اسْمُ مَصْدَرِ كَلَّمَ لَا تَكَلَّمَ وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ السَّبَبُ الْمَذْكُورُ فِي الْحَدِيثِ.
وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ السَّبَبُ الْمَذْكُورُ فِي الْحَدِيثِ: هُوَ أَنَّ مُعَاوِيَةَ بْنَ الْحَكَمِ السُّلَمِيَّ شَمَّتَ عَاطِسًا فِي الصَّلَاةِ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَرَمَاهُ الْقَوْمُ بِأَبْصَارِهِمْ فَقَالَ: وَا ثُكْلَ أُمَّاهُ، مَالَكُمْ تَنْظُرُونَ إِلَيَّ؟ إِلَخْ. وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ: أَنَّ التَّأْمِينَ فِي الصَّلَاةِ مَشْرُوعٌ بِنَصِّ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الصَّرِيحَةِ، فَلَا وَجْهَ لِمَنْعِهِ بِعُمُومِ أَحَادِيثَ أُخْرَى لَا تُنَافِيهَا، وَلَوْ عَارَضَتْهَا لَوَجَبَ تَرْجِيحُهَا عَلَيْهَا.
وَاخْتُلِفَ فِي مَوْضِعِهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَأْمُومِ، هَلْ هُوَ بَعْدَ قَوْلِ الْإِمَامِ:(وَلَا الضَّالِّينَ) أَمْ عِنْدَ قَوْلِهِ: " آمِينَ "؟ وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ فِي ذَلِكَ تَعَارُضًا، وَهُوَ غَفْلَةٌ
عَنْ كَوْنِ الْإِمَامِ إِنَّمَا يُؤَمِّنُ بَعْدَ قَوْلِهِ: (وَلَا الضَّالِّينَ) كَمَا صُرِّحَ بِهِ فِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ وَالنَّسَائِيِّ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فَمَعْنَى الْحَدِيثَيْنِ مُتَّفِقٌ، وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم:" إِذَا أَمَّنَ الْإِمَامُ فَأَمِّنُوا " مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ مِنْ شَأْنِ الْإِمَامِ أَنْ يُؤَمِّنَ عَقِبَ إِتْمَامِ الْفَاتِحَةِ اتِّبَاعًا لِلسُّنَّةِ فَلَا مَفْهُومَ لِلشَّرْطِ فِيهِ.
(فَائِدَةٌ فِي مَخْرَجَيِ الضَّادِ وَالظَّاءِ وَحُكْمُ تَحْرِيفِ الْأَوَّلِ)
قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ: وَالصَّحِيحُ مِنْ مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ يُغْتَفَرُ الْإِخْلَالُ بِتَحْرِيرِ مَا بَيْنَ الضَّادِ وَالظَّاءِ لِقُرْبِ مَخْرَجَيْهِمَا، وَذَلِكَ أَنَّ الضَّادَ مَخْرَجُهَا مَنْ أَوَّلِ حَافَّةِ اللِّسَانِ وَمَا يَلِيهَا مِنَ الْأَضْرَاسِ، وَمَخْرَجُ الظَّاءِ مِنْ طَرَفِ اللِّسَانِ وَأَطْرَافِ الثَّنَايَا الْعُلْيَا، وَلِأَنَّ كُلًّا مِنَ الْحَرْفَيْنِ مِنَ الْحُرُوفِ الْمَجْهُورَةِ وَمِنَ الْحُرُوفِ الرِّخْوَةِ وَمِنَ الْحُرُوفِ الْمُطْبِقَةِ، فَلِهَذَا كُلِّهِ اغْتُفِرَ اسْتِعْمَالُ أَحَدِهِمَا مَكَانَ الْآخَرِ لِمَنْ لَا يُمَيِّزُ ذَلِكَ، وَاللهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا الْحَدِيثُ:" أَنَا أَفْصَحُ مَنْ نَطَقَ بِالضَّادِ " فَلَا أَصْلَ لَهُ. اهـ.
وَأَقُولُ: إِنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ الْأَمْصَارِ الْعَرَبِيَّةِ قَدْ أَرَادُوا الْفِرَارَ مِنْ جَعْلِ الضَّادِ ظَاءً، كَمَا يَفْعَلُ التُّرْكُ وَغَيْرُهُمْ مِنَ الْأَعَاجِمِ، فَجَعَلُوهَا أَقْرَبَ إِلَى الطَّاءِ مِنْهَا إِلَى الضَّادِ حَتَّى الْقُرَّاءُ الْمُجَوِّدُونَ مِنْهُمْ،
إِلَّا أَهْلَ الْعِرَاقِ وَأَهْلَ تُونُسَ فَهُمْ عَلَى مَا نَعْلَمُ أَفْصَحُ أَهْلِ الْأَمْصَارِ نُطْقًا بِالضَّادِ، وَإِنَّنَا نَجِدُ أَعْرَابَ الشَّامِ وَمَا حَوْلَهَا يَنْطِقُونَ بِالضَّادِ فَيَحْسَبُهَا السَّامِعُ ظَاءً لِشِدَّةِ قُرْبِهَا مِنْهَا وَشَبَهِهَا بِهَا. وَهَذَا هُوَ الْمَحْفُوظُ عَنْ فُصَحَاءِ الْعَرَبِ الْأَوَّلِينَ حَتَّى اشْتَبَهَ نَقَلَةُ الْعَرَبِيَّةِ عَنْهُمْ فِي مُفْرَدَاتٍ كَثِيرَةٍ قَالُوا: إِنَّهَا سُمِعَتْ بِالْحَرْفَيْنِ وَجَمَعَهَا بَعْضُهُمْ فِي مُصَنَّفٍ مُسْتَقِلٍّ، وَالْأَشْبَهُ أَنَّهُ قَدِ اشْتَبَهَ عَلَيْهِمْ أَدَاؤُهَا مِنْهُمْ فَلَمْ يُفَرِّقُوا، وَالْفَرْقُ ظَاهِرٌ وَلَكِنَّهُ غَيْرُ بَعِيدٍ.
وَقَدْ قُرِئَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ التَّكْوِيرِ: (وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ) بِكُلٍّ مِنَ الضَّادِ وَالظَّاءِ، وَالضَّنِينُ: الْبَخِيلُ، وَالظَّنِينُ: الْمُتَّهَمُ، وَفَائِدَتُهُمَا نَفْيُ كُلٍّ مِنَ الْبُخْلِ وَالتُّهْمَةِ. وَالْمَعْنَى: مَا هُوَ بِبَخِيلٍ فِي تَبْلِيغِهِ فَيَكْتُمَ، وَلَا بِمُتَّهَمٍ فَيَكْذِبَ، قَالَ فِي الْكَشَّافِ: وَهُوَ فِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللهِ بِالظَّاءِ، وَفِي مُصْحَفِ أُبَيٍّ بِالضَّادِ، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ بِهِمَا. وَإِتْقَانُ الْفَصْلِ بَيْنَ الضَّادِ وَالظَّاءِ وَاجِبٌ، وَمَعْرِفَةُ مَخْرَجَيْهِمَا مِمَّا لَا بُدَّ
مِنْهُ لِلْقَارِئِ، فَإِنَّ أَكْثَرَ الْعَجَمِ لَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْحَرْفَيْنِ، وَإِنْ فَرَّقُوا فَفَرْقًا غَيْرُ صَوَابٍ وَبَيْنَهُمَا بَوْنٌ بَعِيدٌ، فَإِنَّ مَخْرَجَ الضَّادِ مِنْ أَصْلِ حَافَّةِ اللِّسَانِ وَمَا يَلِيهَا مِنَ الْأَضْرَاسِ مِنْ يَمِينِ اللِّسَانِ وَيَسَارِهِ، وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه أَضْبَطَ: يَعْمَلُ بِكِلْتَا يَدَيْهِ، وَكَانَ يُخْرِجُ الضَّادَ مِنْ جَانِبَيْ لِسَانِهِ، وَهِيَ أَحَدُ الْأَحْرُفِ الشَّجَرِيَّةِ أُخْتُ الْجِيمِ وَالشِّينِ، وَأَمَّا الظَّاءُ فَمَخْرَجُهَا مِنْ طَرَفِ اللِّسَانِ وَأُصُولِ الثَّنَايَا الْعُلْيَا. وَهِيَ أَحَدُ الْأَحْرُفِ الذَّوْلَقِيَّةِ، أُخْتُ الذَّالِ وَالثَّاءِ، وَلَوِ اسْتَوَى الْحَرْفَانِ لَمَا ثَبَتَتْ فِي هَذِهِ الْكَلِمَةِ قِرَاءَتَانِ اثْنَتَانِ، وَاخْتِلَافٌ بَيْنَ جَبَلَيْنِ مِنْ جِبَالِ الْعِلْمِ وَالْقِرَاءَةِ. وَلَمَا اخْتَلَفَ الْمَعْنَى وَالِاشْتِقَاقُ وَالتَّرْكِيبُ. اهـ.
وَأَقُولُ: صَدَقَ أَبُو الْقَاسِمَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي تَحْقِيقِهِ هَذَا كُلِّهِ إِلَّا قَوْلَهُ: إِنَّ الْبَوْنَ بَيْنَ الْحَرْفَيْنِ بَعِيدٌ، فَالْفَرْقُ ثَابِتٌ وَلَكِنَّهُ قَرِيبٌ، وَهُوَ يَحْصُلُ بِإِخْرَاجِ طَرَفِ اللِّسَانِ بِالظَّاءِ بَيْنَ الثَّنَايَا كَأُخْتَيْهِ الثَّاءِ وَالذَّالِ، وَلَا شِرْكَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمَا إِلَّا فِي هَذَا.
(التَّوَسُّعُ فِي الِاسْتِنْبَاطِ مِنْ مَعْنَى الْفَاتِحَةِ)
إِنَّ مَا أَوْرَدْنَاهُ فِي تَفْسِيرِ الْفَاتِحَةِ مِنْ تَلْخِيصٍ لِمَا فَهِمْنَاهُ مِنْ دُرُوسِ شَيْخِنَا وَمِمَّا قَرَأْنَاهُ فِي الْكُتُبِ، ثُمَّ مَا زِدْنَاهُ عَلَيْهِ فِي أَصْلِهِ وَفِي هَذِهِ الْفَوَائِدِ الزَّوَائِدِ، فَالْغَرَضُ مِنْهُ التَّفَقُّهُ فِي مَعَانِي الْقُرْآنِ وَالِاهْتِدَاءُ بِهِ، وَقَدِ اقْتَصَدْنَا فِيهِ، فَاقْتَصَرْنَا عَلَى مَا لَا يَشْغَلُ الْقَارِئَ عَنِ الْمَقْصِدِ، وَقَدْ أَطَالَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ فِي اسْتِطْرَادَاتٍ عَدِيدَةٍ، وَمَسَائِلَ مُسْتَنْبَطَةٍ مِنْ لَوَازِمَ لِلْمَعَانِي قَرِيبَةٍ أَوْ بَعِيدَةٍ، وَلَكِنَّهَا تَشْغَلُ مُرِيدَ الِاهْتِدَاءِ بِالْقُرْآنِ، وَأَطَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي أَوَّلِ كِتَابِهِ " مَدَارِجِ السَّالِكِينَ " الْقَوْلَ فِي اسْتِنْبَاطِ الْمَسَائِلِ مِنْهَا مِنْ طَرِيقِ الدَّلَالَاتِ الثَّلَاثَةِ: الْمُطَابَقَةُ، وَالتَّضَمُّنُ، وَالِالْتِزَامُ، وَأَخَذَ فِي الثَّالِثَةِ بِاللُّزُومِ الْبَيِّنِ بِالْمَعْنَى الْأَعَمِّ وَبِالْمَعْنَى الْأَخَصِّ بِاللُّزُومِ غَيْرِ الْبَيِّنِ أَيْضًا، بَلْ سَمَّى كِتَابَهُ " مَدَارِجَ السَّالِكِينَ، بَيْنَ مَنَازِلِ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ " وَأَجْمَلَ ذَلِكَ.
بِقَوْلِهِ: فِي خُطْبَةِ الْكِتَابِ، إِنَّهُ يُنَبِّهُ " عَلَى بَعْضِ مَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ السُّورَةُ مِنْ هَذِهِ الْمَطَالِبِ، وَمَا تَضَمَّنَتْهُ مِنَ الرَّدِّ عَلَى جَمِيعِ طَوَائِفِ أَهْلِ الْبِدَعِ وَالضَّلَالِ، وَمَا تَضَمَّنَتْهُ مِنْ: مَنَازِلِ السَّائِرِينَ، وَمَقَامَاتِ الْعَارِفِينَ، وَالْفَرْقِ بَيْنَ وَسَائِلِهَا وَغَايَاتِهَا، وَمَوَاهِبِهَا
وَكَسْبِيَّاتِهَا، وَبَيَانِ أَنَّهُ لَا يَقُومُ غَيْرُ هَذِهِ السُّورَةِ مَقَامَهَا وَلَا يَسُدُّ مَسَدَّهَا، وَلِذَلِكَ لَمْ يَنْزِلْ فِي التَّوْرَاةِ وَلَا فِي الْإِنْجِيلِ وَلَا فِي الْقُرْآنِ مِثْلُهَا " اهـ.
وَمِمَّا ذَكَرَهُ فِي تَفْصِيلِ ذَلِكَ: فُصُولٌ فِي الرَّدِّ عَلَى أَهْلِ الْوَحْدَةِ، وَالْمَجُوسِ، وَالْقَدَرِيَّةِ، وَالْجَهْمِيَّةِ، وَالْجَبْرِيَّةِ، وَمُنْكِرِي النُّبُوَّاتِ، وَالْقَائِلِينَ بِقِدَمِ الْعَالَمِ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ الْمُسْتَنْبَطَاتِ، وَمُسْتَنْبَطَاتِ الرَّازِيِّ: أَنَّ أَكْثَرَ تِلْكَ فِي الْمُصْطَلَحَاتِ الْعَرَبِيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ وَالْكَلَامِيَّةِ وَالْفِقْهِيَّةِ، وَأَكْثَرَ هَذِهِ فِي الْمَقَاصِدِ الرُّوحِيَّةِ التَّعَبُّدِيَّةِ لِتِلْكَ الْمُصْطَلَحَاتِ وَالْعُلُومِ، فَهِيَ تَزِيدُ قَارِئَهَا دِينًا وَإِيمَانًا وَتَقْوَى، وَلَكِنْ لَا يَصِحُّ أَنْ يُسَمَّى شَيْءٌ مِنْهُمَا تَفْسِيرًا لِلْفَاتِحَةِ، وَلَوْ كُنَّا نَعُدُّهُ تَفْسِيرًا لَاقْتَبَسْنَاهُ أَوْ لَخَّصْنَاهُ فِي هَذِهِ الْفَوَائِدِ.
وَلِلصُّوفِيَّةِ مَنَازِعُ فِيهَا أَبْعَدُ عَنِ اللُّغَةِ وَالنَّقْلِ وَالْعَقْلِ مِنْ كُلِّ ذَلِكَ، جَرَّأَتْ مِثْلَ الدَّجَّالِ مِيرْزَا غُلَامْ أَحْمَدَ الْقَادَيَانِيَّ، الَّذِي ادَّعَى النُّبُوَّةَ وَالْوَحْيَ فِي هَذَا الْعَصْرِ، وَزَعَمَ أَنَّهُ الْمَسِيحُ الَّذِي يَنْتَظِرُهُ أَهْلُ الْمِلَلِ فِي آخِرِ الزَّمَانِ - جَرَّأَتْهُ عَلَى ادِّعَاءِ دَلَالَةِ الْبَسْمَلَةِ عَلَى دَعْوَاهُ الْبَاطِلَةِ! ! وَقَدْ فَنَّدْنَا شُبْهَةَ أَمْثَالِ هَؤُلَاءِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى:(مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ)(6: 38) .
وَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُ الْمُعَاصِرِينَ مَذْهَبًا أَبْعَدَ مِنْ هَذَا وَذَاكَ فِي تَفْسِيرِ الْفَاتِحَةِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْقُرْآنِ، فَهُوَ يَرَى أَنَّ تَفْسِيرَ لَفْظِ الْعَالَمِينِ ـ مَثَلًا ـ يَقْتَضِي بَيَانَ كُلِّ مَا وَصَلَ إِلَيْهِ عِلْمُ الْبَشَرِ مِنْ مَدْلُولِ هَذَا اللَّفْظِ، وَأَنَّ تَفْسِيرَ لَفْظَيِ (الرَّحْمَنِ) وَ (الرَّحِيمِ) يَقْتَضِي بَيَانَ كُلِّ مَا يُعْرَفُ مِنْ نِعَمِ اللهِ وَإِحْسَانِهِ بِخَلْقِهِ وَإِلَى خَلْقِهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، فَاتِّبَاعُ هَذَا الْمَذْهَبِ فِي تَفْسِيرِ الْفَاتِحَةِ أَوْ آيَةٍ أَوْ كَلِمَةٍ مِنْهَا لَا يَكْمُلُ إِلَّا بِكِتَابَةِ أُلُوفٍ مِنَ الْمُجَلَّدَاتِ يُدَوَّنُ فِيهَا كُلُّ مَا وَصَلَ إِلَيْهِ عِلْمُ جَمِيعِ عُلَمَاءِ الْأَرْضِ فِي أَعْيَانِ الْعَالَمِ، وَصِفَاتِهَا وَأَحْوَالِهَا مِنْ أَدْنَى الْحَشَرَاتِ إِلَى أَرْقَى الْبَشَرِ مِنْ حُكَمَاءِ الصِّدِّيقِينِ، وَالْأَنْبِيَاءِ الْمُرْسَلِينَ، وَإِنْ عُدَّ مِثْلُ هَذَا مِنَ التَّفْسِيرِ إِضْلَالٌ عَنِ الْقُرْآنِ، وَإِنَّمَا يَحْسُنُ فِي التَّفْسِيرِ تَذْكِيرُ الْمُؤْمِنِ بِأَلَا يَغْفُلَ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَالتَّفَكُّرِ فِي آيَاتِهِ وَرَحْمَتِهِ وَنِعَمِهِ فِي كُلِّ نَوْعٍ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ، عِنْدَ النَّظَرِ فِيهَا، وَالتَّفَكُّرِ فِي آيَاتِ اللهِ الدَّالَّةِ عَلَيْهَا.
وَنَزَعَ بَعْضُ الدَّجَّالِينَ وَالْمُخَرِّفِينَ مَنْزَعًا آخَرَ سَبَقَهُمْ إِلَيْهِ الْيَهُودَ، وَهُوَ اسْتِنْبَاطُ الْمَعَانِي مِنْ أَعْدَادِ حُرُوفِ الْهِجَاءِ بِحِسَابِ الْجُمَّلِ، قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الْقُرْآنَ يَدُلُّ عَلَى
قِيَامِ السَّاعَةِ سَيَكُونُ فِي سَنَةِ 1407 لِلْهِجْرَةِ، وَهُوَ عَدَدُ حُرُوفِ " بَغْتَةً " مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى:(لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً) وَلِهَؤُلَاءِ فِي الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ فِي أَوَائِلِ السُّورِ وَفِي أَعْدَادِهَا ضَلَالَاتٌ لَا نُضَيِّعُ الْوَقْتَ بِكِتَابَتِهَا، فَلِدَلَالَةِ الْأَلْفَاظِ عَلَى الْمَعَانِي طُرُقٌ فِي اللُّغَةِ لَا تَخْرُجُ عَنْهَا، وَلَيْسَ هَذَا مِنْهَا.
مَا يَنْبَغِي تَدَبُّرُهُ وَاسْتِحْضَارُهُ مِنْ مَعَانِي الْفَاتِحَةِ وَغَيْرِهَا فِي الصَّلَاةِ
إِذَا قُمْتَ أَيُّهَا الْمُسْلِمُ إِلَى الصَّلَاةِ فَوَجِّهْ كُلَّ قَلْبِكَ فِيهَا إِلَى اسْتِحْضَارِ كُلِّ مَا يَتَحَرَّكُ بِهِ لِسَانُكَ مِنْ ذِكْرٍ وَتِلَاوَةٍ.
فَإِذَا قُلْتَ: " اللهُ أَكْبَرُ " فَحَسِبَكَ أَنْ تَذْكُرَ فِي قَلْبِكَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى أَعْظَمُ مَنْ كُلِّ عَظِيمٍ، وَأَكْبَرُ مَنْ كُلِّ شَيْءٍ، فَلَا يَصِحُّ أَنْ يَشْغَلَكَ عَنِ الصَّلَاةِ لَهُ أَوْ فِيهَا شَيْءٌ دُونَهُ، وَكُلُّ شَيْءٍ دُونَهُ.
وَإِذَا قَرَأْتَ مَا وَرَدَ فِي ذِكْرِ الِافْتِتَاحِ فَلَا تَشْغَلْ نَفْسَكَ بِغَيْرِ مَعْنَاهُ وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَإِذَا اسْتَعَذْتَ بِاللهِ تَعَالَى قَبْلَ الْقِرَاءَةِ عَمَلًا بِعُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى:(فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ)(16:98) فَتَصَوَّرْ مِنْ مَعْنَى صِيغَةِ الِاسْتِعَاذَةِ أَنَّكَ تَلْجَأُ إِلَى اللهِ تَعَالَى وَتَعْتَصِمُ بِهِ مِنْ وَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ الشَّاغِلَةِ عَنِ الصَّلَاةِ وَمَا يَجِبُ فِيهَا مِنَ التَّدَبُّرِ لِكِتَابِهِ وَالْخُشُوعِ وَالْإِخْلَاصِ لَهُ تَعَالَى.
وَإِذَا قَرَأْتَ الْبَسْمَلَةَ فَاسْتَحْضِرَ مِنْ مَعْنَاهَا:إِنَّنِي أُصَلِّي (بِسْمِ اللهِ) وَلِلَّهِ الَّذِي شَرَعَ الصَّلَاةَ وَأَقْدَرَنِي عَلَيْهَا (الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) ذِي الرَّحْمَةِ الْعَامَّةِ الَّتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ وَالْخَاصَّةِ بِمَنْ شَاءَ مِنْ عِبَادِهِ الْمُخْلِصِينَ.
وَإِذَا قُلْتَ: (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) فَاسْتَحْضِرْ مِنْ مَعْنَاهَا أَنَّ كُلَّ ثَنَاءٍ جَمِيلٍ بِالْحَقِّ فَهُوَ لِلَّهِ تَعَالَى اسْتِحْقَاقًا وَفِعْلًا، مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ الرَّبُّ خَالِقُ الْعَالَمِينَ وَمُدَبِّرُ جَمِيعِ أُمُورِهِمْ (الرَّحْمَنِ) فِي نَفْسِهِ (الرَّحِيمِ) بِخَلْقِهِ (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) ذِي الْمُلْكِ وَالتَّصَرُّفِ دُونَ غَيْرِهِ يَوْمَ مُحَاسَبَةِ الْخَلْقِ وَمُجَازَاتِهِمْ بِأَعْمَالِهِمْ فَلَا يُرْجَى غَيْرُهُ، وَإِذَا قُلْتَ:(إِيَّاكَ نَعْبُدُ) إِلَخْ فَتَذَكَّرْ أَنَّكَ تُخَاطِبُ هَذَا الرَّبَّ الْعَظِيمَ كِفَاحًا بِمَا يَجِبُ أَنْ
تَكُونَ صَادِقًا فِيهِ، وَمَعْنَاهُ نَعْبُدُكَ وَحْدَكَ دُونَ سِوَاكَ بِدُعَائِكَ وَالتَّوَجُّهِ إِلَيْكَ (وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) نَطْلُبُ مَعُونَتَكَ وَحْدَكَ عَلَى عِبَادَتِكَ وَعَلَى جَمِيعِ شُئُونِنَا، بِالْعِلْمِ بِمَا أَعْطَيْتَنَا مِنَ الْأَسْبَابِ، وَبِالتَّوَكُّلِ عَلَيْكَ وَحْدَكَ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْهَا (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) دُلَّنَا وَأَوْصِلْنَا بِتَوْفِيقِكَ وَمَعُونَتِكَ إِلَى طَرِيقِ الْحَقِّ فِي الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ، الَّذِي لَا عِوَجَ فِيهِ وَلَا زَلَلَ (صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) بِالْإِيمَانِ الصَّحِيحِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ وَثَمَرَتِهِمَا وَهِيَ سَعَادَةُ الدَّارَيْنِ، وَتَذَكَّرْ إِجْمَالًا أُولَئِكَ الْمُنْعَمَ عَلَيْهِمْ " مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ " وَأَنَّ حَظَّكَ مِنْ هَذِهِ الْهِدَايَةِ لِصِرَاطِهِمْ إِنَّمَا يَكُونُ بِالتَّأَسِّي وَالِاقْتِدَاءِ بِهِمْ فِي الدُّنْيَا، وَمُرَافَقَتِهِمْ فِي الْآخِرَةِ، وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا " (صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) فَضْلًا وَإِحْسَانًا مِنْكَ (غَيْرِ الْمَغْضُوبَ عَلَيْهِمْ) بِإِيثَارِهِمُ الْبَاطِلَ عَلَى الْحَقِّ، وَتَرْجِيحِهِمُ
الشَّرَّ عَلَى الْخَيْرِ (وَلَا الضَّالِّينَ) عَنْ طَرِيقِ الْحَقِّ وَالْخَيْرِ بِجَهْلِهِمْ (الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا) .
وَأَنْصَحُ لَكَ أَيُّهَا التَّالِي لِلْقُرْآنِ فِي الصَّلَاةِ وَفِي غَيْرِ الصَّلَاةِ، أَنْ تَقْرَأَهُ عَلَى مُكْثٍ وَتَمَهُّلٍ، بِخُشُوعٍ وَتَدَبُّرٍ، وَأَنْ تَقِفَ عَلَى رُءُوسِ الْآيَاتِ، وَتُعْطِيَ الْقِرَاءَةَ حَقَّهَا مِنَ التَّجْوِيدِ وَالنَّغَمَاتِ، مَعَ اجْتِنَابِ التَّكَلُّفِ وَالتَّطْرِيبِ، وَاتِّقَاءِ الِاشْتِغَالِ بِالْأَلْفَاظِ عَنِ الْمَعَانِي، فَإِنَّ قِرَاءَةَ آيَةٍ وَاحِدَةٍ مَعَ التَّدَبُّرِ وَالْخُشُوعِ، خَيْرٌ لَكَ مِنْ قِرَاءَةِ خَتْمَةٍ مَعَ الْغَفْلَةِ، وَمِنَ الْمُجَرَّبَاتِ: أَنَّ تَغْمِيضَ الْعَيْنَيْنِ فِي الصَّلَاةِ يُثِيرُ الْخَوَاطِرَ، وَلِذَلِكَ كَانَ مَكْرُوهًا، وَأَنَّ رَفْعَ الصَّوْتِ الْمُعْتَدِلِ فِي الصَّلَاةِ الْجَهْرِيَّةِ وَلَا سِيَّمَا صَلَاةُ اللَّيْلِ يَطْرُدُ الْغَفْلَةَ، وَيُوقِظُ رَاقِدَ الْخَشْيَةِ، وَإِعْطَاءَ كُلِّ أُسْلُوبٍ حَقَّهُ مِنَ الْأَدَاءِ وَالصَّوْتِ يُعِينُ عَلَى الْفَهْمِ، وَيَسْتَفِيضُ مَا غَاضَ بِطُولِ الْغَفْلَةِ مِنْ شَآبِيبِ الدَّمْعِ.
(رَاجِعْ بَحْثَ تَأْثِيرِ التِّلَاوَةِ فِي أَوَّلِ تَفْسِيرِ سُورَةِ الْأَعْرَافِ فِي الْكَلَامِ عَلَى الْحُرُوفِ الْمُفْرَدَةِ)
(سُورَةُ الْبَقَرَةِ 2)
جَمِيعُهَا مَدَنِيَّةٌ بِالْإِجْمَاعِ، وَمِنْهَا آيَةٌ نَزَلَتْ عَلَى مَا قِيلَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، وَرُوِيَ أَنَّهَا آخَرُ آيِ الْقُرْآنِ نُزُولًا وَهِيَ (وَاتَّقَوْا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ)(281) إِلَخْ وَمُعْظَمُهَا نَزَلَ فِي أَوَّلِ الْهِجْرَةِ، وَهِيَ أَطْوَلُ جَمِيعِ سُوَرِ الْقُرْآنِ، فَآيَاتُهَا مِائَتَانِ وَثَمَانُونَ وَسَبْعُ آيَاتٍ، أَوْ سِتٌّ، وَعَلَيْهِ عَدُّ الْمَصَاحِفِ الْمَشْهُورَةِ الْآنَ، وَلَا حَاجَةَ إِلَى بَيَانِ التَّنَاسُبِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْفَاتِحَةِ، وَإِنْ كَانَ التَّنَاسُبُ ظَاهِرًا، فَإِنَّهَا لَمْ تُوضَعْ بَعْدَهَا لِأَجْلِهِ، وَإِنَّمَا وُضِعَتْ فِي أَوَّلِ الْقُرْآنِ بَعْدَ فَاتِحَتِهِ (الَّتِي كَانَتْ فَاتِحَتَهُ بِمَا لَهَا مِنَ الْخَصَائِصِ الَّتِي بَيَّنَّاهَا فِي تَفْسِيرِهَا) لِأَنَّهَا أَطْوَلُ سُورَةٍ وَتَلِيهَا بَقِيَّةُ السَّبْعِ الطِّوَالِ بِتَقْدِيمِ الْمَدَنِيِّ مِنْهَا عَلَى الْمَكِّيِّ، لَا الطُّولَى فَالطُّولَى، فَإِنَّ الْأَنْعَامَ أَطْوَلُ مِنَ الْمَائِدَةِ وَهِيَ بَعْدَهَا، وَالْأَعْرَافَ أَطْوَلُ مِنَ الْأَنْعَامِ وَقَدْ أُخِّرَتْ عَنْهَا، وَقُدِّمَتِ الْأَنْفَالُ عَلَى التَّوْبَةِ وَهِيَ أَقْصَرُ مِنْهَا، وَكِلْتَاهُمَا مَدَنِيَّتَانِ، وَإِنَّمَا رُوعِيَ الطُّولُ فِي تَرْتِيبِ سُوَرِ الْقُرْآنِ فِي الْجُمْلَةِ لَا فِي كُلِّ الْأَفْرَادِ، وَرُوعِيَ التَّنَاسُبُ أَيْ تَرْتِيبُ ذَلِكَ، وَيَرَاهُ الْقَارِئُ فِي مَحَلِّهِ مِنْ كُلٍّ مِنْهَا، ثُمَّ مُزِجَ الْمَدَنِيُّ بِالْمَكِّيِّ فِي سَائِرِ السُّوَرِ؛ لِأَنَّ اخْتِلَافَ أُسْلُوبِهِمَا وَمَسَائِلِهِمَا أَدْنَى إِلَى تَنْشِيطِ الْقَارِئِ، وَأَنْأَى بِهِ عَنِ الْمَلَلِ مِنَ التِّلَاوَةِ، وَهَذَا مِنْ خَصَائِصِ الْقُرْآنِ.
وَقَدْ رَأَيْنَا أَنْ نَسْتَدْرِكَ قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي تَفْسِيرِهَا مَا فَاتَنَا مِنْ آخِرِهِ مِنْ تَلْخِيصِ مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ مِنَ الدَّعْوَةِ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَمَا فِيهَا مِنَ الْعَقَائِدِ وَالْأَحْكَامِ، وَقَوَاعِدِ الدِّينِ وَأُصُولِ التَّشْرِيعِ، فَنَقُولُ:
(خُلَاصَةُ سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَمَا فِيهَا مِنْ دَعْوَةِ الْإِسْلَامِ وَأَحْكَامِهِ وَقَوَاعِدِهِ)
دَعْوَةُ الْإِسْلَامِ الْعَامَّةُ:
بَدَأَ اللهُ عز وجل سُورَةَ الْبَقَرَةِ بِدَعْوَةِ الْقُرْآنِ، وَكَوْنِهِ حَقًّا لَا مَجَالَ فِيهِ لِشَكٍّ وَلَا ارْتِيَابٍ، وَجَعَلَ النَّاسَ تُجَاهَ هِدَايَتِهِ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ:
1 -
الْمُؤْمِنُونَ وَهُمْ قِسْمَانِ: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ بِمُجَرَّدِ الْفِطْرَةِ وَيُقِيمُونَ رُكْنَيِ الدِّينِ: الْبَدَنِيِّ الرُّوحِيِّ، وَالْمَالِيِّ الِاجْتِمَاعِيِّ، وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِهِ بِتَأْثِيرِ إِيمَانِهِمْ بِمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كُتُبِ الرُّسُلِ، إِذْ يَرَوْنَهُ أَكْمَلَ مِنْهَا هِدَايَةً وَأَصَحَّ رِوَايَةً، وَأَقْوَى دَلَالَةً. ثُمَّ فَصَّلَ هَذِهِ الْأُصُولَ لِلْإِيمَانِ فِي آيَةِ (لَيْسَ الْبِرَّ)(177) إِلَخْ. وَآيَةِ (لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ)(284) إِلَخْ. وَكَذَلِكَ الْآيَةُ 285.
2 -
الْكَافِرُونَ الرَّاسِخُونَ فِي الْكُفْرِ وَطَاعَةِ الْهَوَى، وَالَّذِينَ فَقَدُوا الِاسْتِعْدَادَ لِلْإِيمَانِ وَالْهُدَى.
-
الْمُنَافِقُونَ الَّذِينَ يُظْهِرُونَ غَيْرَ مَا يُخْفُونَ، وَيَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ (فَهَذِهِ آيَاتُهَا الْأَوْلَى إِلَى الْآيَةِ 20) وَقَفَّى عَلَى هَذَا بِدَعْوَةِ النَّاسِ جَمِيعًا إِلَى عِبَادَةِ رَبِّهِمْ وَحْدَهُ، وَعَدَمِ اتِّخَاذِ الْأَنْدَادِ لَهُ، الَّذِينَ يُحَبُّونَ مِنْ جِنْسِ حُبِّهِ، وَيُذْكُرُونَ مَعَهُ فِي مَقَامَاتِ ذِكْرِهِ، وَيُشْرَكُونَ مَعَهُ فِي مُخِّ الْعِبَادَةِ - الدُّعَاءِ - أَوْ يُدْعَوْنَ مِنْ دُونِهِ (انْظُرِ الْآيَتَيْنِ 21 و22 وَآيَاتِ الْإِسْلَامِ فِي قِصَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ، وَوَصِيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَيَعْقُوبَ لِأَبْنَائِهِمْ مِنْ 124 - 141 كَمَا يَأْتِي، وَالْآيَاتِ الَّتِي سَنُشِيرُ إِلَيْهَا فِي خِطَابِ أُمَّةِ الْإِجَابَةِ مِنْ 163 - 172) .
ثُمَّ ثَنَّى دَعْوَةَ التَّوْحِيدِ بِدَعْوَةِ الْوَحْيِ وَالرِّسَالَةِ، وَاحْتَجَّ عَلَى حَقِّيَّةِ هَذِهِ الدَّعْوَةِ بِهَذَا الْكِتَابِ الْمُنَزَّلِ عَلَى عَبْدِهِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، بِتَحَدِّي النَّاسِ كَافَّةً بِالْإِتْيَانِ بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ، مَعَ التَّصْرِيحِ الْقَطْعِيِّ بِعَجْزِهِمْ أَجْمَعِينَ، وَرَتَّبَ عَلَى هَذَا إِنْذَارَ الْكَافِرِينَ بِالنَّارِ، وَتَبْشِيرَ الْمُؤْمِنِينَ بِجَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ، وَقَفَّى عَلَى هَذَا بِبَيَانِ بَعْضِ الْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ عَلَى الْإِيمَانِ، وَبِخُلَاصَةِ النَّشْأَةِ الْآدَمِيَّةِ، وَعَدَاوَةِ الشَّيْطَانِ لِلْإِنْسَانِ. وَتَمَّ ذَلِكَ بِالْآيَةِ (39) .
ثُمَّ خَصَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِالدَّعْوَةِ، تَالِيًا عَلَيْهِمْ مَا لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُهُ مُحَمَّدٌ لَوْلَا وَحْيُهُ تَعَالَى لَهُ، فَذَكَّرَهُمْ بِنِعَمِهِ، وَأَمْرَهُمْ أَنْ يُؤْمِنُوا بِمَا أَنْزَلَهُ عَلَى خَاتَمِ رُسُلِهِ، وَنَهَاهُمْ أَنْ يَكُونَ الْمُعَاصِرُونَ لَهُ مِنْهُمْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ، وَحَاجَّهُمْ فِي الدِّينِ بِتَذْكِيرِهِمْ بِأَيَّامِ اللهِ، وَبِأَهَمِّ الْوَقَائِعِ الَّتِي كَانَتْ لِسَلَفِهِمْ مَعَ كَلِيمِهِ، مِنْ كُفْرٍ وَإِيمَانٍ، وَطَاعَةٍ وَعِصْيَانٍ، ثُمَّ بِالتَّذْكِيرِ لَهُمْ وَلِلْعَرَبِ بِهَدْيِ جَدِّهِمْ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ وَبِنَائِهِ لِبَيْتِ اللهِ الْحَرَامِ مَعَ وَلَدِهِ إِسْمَاعِيلَ وَدُعَائِهِمَا إِيَّاهُ تَعَالَى أَنْ يَبْعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ،
وَبِأَنَّ عُلَمَاءَهُمْ يَعْرِفُونَ أَنَّ مُحَمَّدًا هُوَ الرَّسُولُ الَّذِي دَعَا بِهِ إِبْرَاهِيمُ وَبَشَّرَ بِهِ مُوسَى كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَبِأَنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ يَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ، أَيْ وَالْفَرِيقُ الْآخَرُ يُؤْمِنُونَ بِهِ، وَيَعْتَرِفُونَ بِوَعْدِ اللهِ لِإِبْرَاهِيمَ ثُمَّ لِمُوسَى بِقِيَامِ نَبِيٍّ مِنْ أَبْنَاءِ إِخْوَتِهِمْ مِثْلِهِ.
بُدِئَ هَذَا السِّيَاقُ بِالْآيَةِ 40 مِنَ السُّورَةِ (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ) إِلَخْ. وَانْتَهَى بِالْآيَةِ 142 مِنْهَا، وَتَخَلَّلَهُ بَعْضُ الْآيَاتِ الْمُوَجَّهَةِ لِلْمُؤْمِنِينَ لِلِاعْتِبَارِ بِمَا فِيهِ مِنْ شُئُونِ أَهْلِ الْكِتَابِ السَّابِقِينَ وَالْحَاضِرِينَ مِنَ الْيَهُودِ بِالتَّفْصِيلِ وَمِنَ النَّصَارَى بِالْإِجْمَالِ، إِذْ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْهُمْ مُجَاوِرًا وَلَا مُخَالِطًا لِلْمُسْلِمِينَ فِي تِلْكَ الْحَالِ، فَإِنَّ نُزُولَ الْبَقَرَةِ كَانَ فِي أَوَّلِ عَهْدِ الْهِجْرَةِ. وَمَا تَقَدَّمَ يُنَاهِزُ نِصْفَ السُّورَةِ، وَهُوَ شَطْرُهَا الْخَاصُّ بِأُمَّةِ الدَّعْوَةِ، وَالشَّطْرُ الثَّانِي قَدْ وُجِّهَ لِأُمَّةِ الْإِجَابَةِ.
خِطَابُ أُمَّةِ الْإِجَابَةِ بِمَوْضُوعِ الدَّعْوَةِ الْعَامِّ:
كَانَ الِانْتِقَالُ مِنْ خِطَابِ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ أُمَّةِ الدَّعْوَةِ إِلَى خِطَابِ أَهْلِ الْقُرْآنِ مِنْ أُمَّةِ الْإِجَابَةِ بِذِكْرِ مَا هُوَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ قَوْمِ مُوسَى وَقَوْمِ مُحَمَّدٍ مِنْ نَسَبِ إِبْرَاهِيمَ وَالِاتِّفَاقِ عَلَى فَضْلِهِ وَهِدَايَتِهِ، وَكَانَ الْعَرَبُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَعْتَرِفُونَ بِذَلِكَ إِجْمَالًا كَالْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ يَذْكُرُ أَوَّلَ مَسْأَلَةٍ عَمَلِيَّةٍ
اخْتَلَفَ فِيهَا الْقَوْمَانِ وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْقِبْلَةِ، فَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي بِمَكَّةَ إِلَى الْكَعْبَةِ الْمُشَرَّفَةِ مِنْ جِهَةِ الشَّمَالِ حَيْثُ تَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ فِي بِلَادِ الشَّامِ، وَهُوَ قِبْلَةُ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَلَمَّا هَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ تَعَذَّرَ الْجَمْعُ بَيْنَ اسْتِقْبَالِ الْكَعْبَةِ الَّتِي هِيَ فِي جَنُوبِهَا، وَبَيْتِ الْمَقْدِسِ الَّذِي هُوَ فِي شَمَالِهَا، فَأَعْطَى اللهُ خَاتَمَ رُسُلِهِ سُؤْلَهُ بِأَمْرِهِ بِالتَّوَجُّهِ إِلَى الْكَعْبَةِ وَحْدَهَا، وَمَسْأَلَةُ الْقِبْلَةِ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ وَخَصَائِصِهَا الدِّينِيَّةِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ، حَتَّى إِنَّ النَّصَارَى - وَهُمْ فِي الْأَصْلِ مَعَ رَسُولِهِمْ (عِيسَى الْمَسِيحِ عليه السلام) مِنْ أَتْبَاعِ شَرِيعَةِ التَّوْرَاةِ - قَدْ مَيَّزُوا أَنْفُسَهُمْ دُونَ الْيَهُودِ بِابْتِدَاعِ قِبْلَةٍ خَاصَّةٍ بِهِمْ غَيْرَ قِبْلَةِ عِيسَى رَسُولِهِمُ الَّذِي اتَّخَذُوهُ إِلَهًا لَهُمْ، وَهِيَ صَخْرَةُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ.
بَعْدَ تَأْكِيدِ أَمْرِ الْقِبْلَةِ، وَأَنَّهُ مِنْ إِتْمَامِ النِّعْمَةِ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ، بَيَّنَ وَظَائِفَ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم وَهِيَ كَمَا فِي دُعَاءِ إِبْرَاهِيمَ تَبْلِيغُ الْقُرْآنِ وَتَرْبِيَةُ الْأُمَّةِ، وَتَعْلِيمُهَا الْكِتَابَ
وَالْحِكْمَةَ، وَمَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ مِنَ الْقَضَاءِ وَالسِّيَاسَةِ وَأُمُورِ الدَّوْلَةِ، فَقَالَ تَعَالَى:(كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ)(151) ثُمَّ أَمَرَهُمْ بِذِكْرِهِ وَشُكْرِهِ تَعَالَى، وَبِالِاسْتِعَانَةِ بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ عَلَى النُّهُوضِ بِمُهِمَّاتِ الْأُمُورِ، وَذَكَرَ التَّطْوَافَ وَالسَّعْيَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ لِمُنَاسَبَةٍ اقْتَضَاهَا الْمَقَامُ، وَلَعَنَ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللهُ مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى بَعْدَ تَبْيِينِهِ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ، وَاسْتَثْنَى مَنْ تَابَ وَأَصْلَحَ وَبَيَّنَ وَأَنَابَ، وَسَجَّلَ اللَّعْنَةَ عَلَى مَنْ مَاتَ عَلَى كُفْرِهِ، وَكَوْنِهِمْ خَالِدِينَ فِي النَّارِ لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابَ.
ثُمَّ ذَكَرَ الْأَسَاسَ الْأَعْظَمَ لِلدِّينِ، تَوْحِيدَ الْإِلَهِيَّةِ، بِتَخْصِيصِ الْخَالِقِ سُبْحَانَهُ بِالْعُبُودِيَّةِ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى:(وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ)(163) وَقَرَنَ ذَلِكَ بِالتَّذْكِيرِ بِآيَاتِهِ الْكَثِيرَةِ الدَّالَّةِ عَلَيْهِ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا ثُمَّ ذَكَرَ مَا يُقَابِلُ هَذَا التَّوْحِيدَ مُقَابَلَةَ التَّضَادِّ، وَهُوَ الشِّرْكُ بِاتِّخَاذِ الْأَنْدَادِ، وَالِاعْتِمَادِ فِيهِ عَلَى تَقْلِيدِ الْآبَاءِ وَالْأَجْدَادِ، وَشَنَّعَ عَلَى الْمُقَلِّدِينَ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ غَيْرَ اللهِ تَعَالَى مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَجَرَّدَهُمْ مِنْ حِلْيَةِ الْعَقْلِ. وَشَبَّهَهُمْ بِالصُّمِّ وَالْبُكْمِ الْعُمْيِ. وَانْتَهَى هَذَا بِالْآيَةِ (171) .
ثُمَّ أَوْجَبَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ الْأَكْلَ مِنْ أَجْنَاسِ جَمِيعِ الطَّيِّبَاتِ، وَأَمَرَهُمْ بِالشُّكْرِ لَهُ عَلَيْهَا، وَحَصَرَ مُحَرَّمَاتِ الطَّعَامِ عَلَيْهِمْ فِي الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ، وَاسْتَثْنَى مَنِ اضْطُرَّ إِلَيْهَا، وَإِنَّمَا ذَكَرَ هَذَا فِي سِيَاقِ كُلِّيَّاتِ الدِّينِ الْمُجْمَلَةِ لِإِبْطَالِ مَا كَانَ عَلَيْهِ الْمُشْرِكُونَ وَأَهْلُ الْكِتَابِ مِنَ التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ فِيهَا الَّذِي هُوَ حَقُّ اللهِ تَعَالَى بِتَحْكِيمِ الْأَهْوَاءِ، وَقَفَّى عَلَى هَذَا كُلِّهِ بِوَعِيدِ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللهُ، إِيذَانًا بِوُجُوبِ الدَّعْوَةِ وَبَيَانِ الْحَقِّ عَلَى كُلِّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ، وَتَحْذِيرًا مِمَّا وَقَعَ بَيْنَ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنَ الِاخْتِلَافِ وَالشِّقَاقِ وَالتَّحْرِيفِ وَالنِّسْيَانِ لِحَظٍّ عَظِيمٍ مِمَّا أَنْزَلَهُ اللهُ.
وَخَتَمَ هَذَا السِّيَاقَ الْعَامَّ بِبَيَانِ أُصُولِ الْبِرِّ وَمَجَامِعِهِ فِي الْآيَةِ الْمُعْجِزَةِ الْجَامِعَةِ لِكُلِّيَّاتِ الْعَقَائِدِ وَالْآدَابِ وَالْأَعْمَالِ (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ)(177) إِلَخْ.
وَقَفَّى عَلَيْهِ بِسِيَاقٍ طَوِيلٍ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْفَرْعِيَّةِ بُدِئَ بِأَحْكَامِ الْقِصَاصِ فِي الْقَتْلَى مِنَ (الْآيَةِ 178) وَانْتَهَى بِأَحْكَامِ الْقِتَالِ وَمَا تَقْتَضِيهِ مِنْ أُمُورِ الِاجْتِمَاعِ
وَقَوَاعِدِهِ فِي آخِرِ الْجُزْءِ الثَّانِي مِنْ تَجْزِئَةِ الْقُرْآنِ الثَّلَاثِينِيَّةِ وَسَنَذْكُرُ أَنْوَاعَهَا.
ثُمَّ عَادَ الْكَلَامُ عَلَى بَدْئِهِ فِي الْعَقَائِدِ الْعَامَّةِ مِنَ الرِّسَالَةِ وَالتَّوْحِيدِ وَحُجَجِهِ وَالْبَعْثِ، وَفِي الْأَحْكَامِ وَالْآدَابِ الْعَامَّةِ الَّتِي هِيَ سِيَاجُ الدِّينِ وَنِظَامُ الدُّنْيَا، وَرَأْسُهَا الْإِنْفَاقُ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَهِيَ طَرِيقُ الْحَقِّ وَالْخَيْرِ وَسَعَادَةُ الدَّارَيْنِ، وَالْإِخْلَاصُ فِيهِ وَفِي سَائِرِ الْأَعْمَالِ، ثُمَّ عَادَ إِلَى الْأَحْكَامِ الْفَرْعِيَّةِ الْعَمَلِيَّةِ إِلَى مَا قَبْلَ خَتْمِ السُّورَةِ كُلِّهَا بِالدُّعَاءِ الْمَعْرُوفِ، وَهَاكَ بَيَانَ مَا فِي السُّورَةِ مِنْ أَنْوَاعِ أَحْكَامِ الْفُرُوعِ الْعَمَلِيَّةِ:
خِطَابُ أُمَّةِ الْإِجَابَةِ بِالْفُرُوعِ الْعَمَلِيَّةِ:
كَانَتِ الْأَحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ الْعَمَلِيَّةُ مِنْهَا تَنْزِلُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ اسْتِعْدَادِ الْأُمَّةِ لَهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْعِبَادَاتِ، وَعِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَيْهَا فِي الْعَمَلِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُعَامَلَاتِ، وَالْمَذْكُورُ مِنْهَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ أَنْوَاعٌ، نُلَخِّصُهَا فِيمَا يَلِي:
1 -
إِقَامَةُ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ بِمَدْحِ أَهْلِهِمَا فِي (الْآيَةِ 3) وَالْأَمْرِ بِهِمَا فِي (الْآيَةِ 110) .
2 -
تَحْرِيمُ السِّحْرِ، وَكَوْنُهُ فِتْنَةً وَكُفْرًا أَوْ مُسْتَلْزِمًا لِلْكُفْرِ (الْآيَةَ 102) .
3 -
أَحْكَامُ الْقِصَاصِ فِي الْقَتْلَى، وَهُوَ الْمُسَاوَاةُ فِيهَا وَحِكْمَتُهُ (الْآيَتَانِ 178 و179) .
4 -
الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ (الْآيَاتِ 180 - 182) .
5 -
أَحْكَامُ الصِّيَامِ مُفَصَّلَةً، وَقَدْ نَزَلَتْ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ لِلْهِجْرَةِ (الْآيَاتِ 183 - 187) .
6 -
تَحْرِيمُ أَكْلِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ، وَالْإِدْلَاءِ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِلِاسْتِعَانَةِ بِهِمْ عَلَى أَكْلِ فَرِيقٍ مِنْهَا بِالْإِثْمِ، كَمَا هُوَ الْفَاشِي فِي هَذِهِ الْأَزْمِنَةِ (الْآيَةَ 188) .
7 -
جَعْلُ الْأَشْهُرِ الْهِلَالِيَّةِ هِيَ الْمُعْتَمَدَ عَلَيْهَا فِي الْمَوَاقِيتِ الدِّينِيَّةِ لِلنَّاسِ، وَمِنْهَا الصِّيَامُ وَالْحَجُّ (الْآيَةَ 189) ، وَمُدَّةُ الْإِيلَاءِ (الْآيَةَ 226) ، وَعِدَّةُ النِّسَاءِ (الْآيَةَ 228) .
8 -
أَحْكَامُ الْقِتَالِ وَكَوْنُهُ ضَرُورَةً مُقَيِّدَةً بِقِتَالِ مَنْ يُقَاتِلُنَا وَيُهَدِّدُ حُرِّيَّةَ دِينِنَا دُونَ غَيْرِهِمْ وَبِتَحْرِيمِ الِاعْتِدَاءِ فِيهِ، وَغَايَتُهُ مَنْعُ الْفِتْنَةِ فِي الدِّينِ وَهُوَ الْإِكْرَاهُ فِيهِ، وَالتَّعْذِيبُ وَالْإِيذَاءُ لِلصَّدِّ عَنْهُ، وَالْمُرَادُ مَا يُسَمَّى فِي عُرْفِ هَذَا الْعَصْرِ بِحُرِّيَّةِ الِاعْتِقَادِ وَالْوِجْدَانِ، وَمِنْهُ أَحْكَامُ الْقِتَالِ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ (الْآيَاتِ 190 - 194، 216 - 218 ثُمَّ 244 - 252) .
9 -
الْأَمْرُ بِإِنْفَاقِ الْمَالِ فِي سَبِيلِ اللهِ؛ لِأَنَّهُ وَسِيلَةٌ لِلْوِقَايَةِ مِنَ التَّهْلُكَةِ، وَهَذَا يَتَنَاوَلُ الْإِنْفَاقَ
لِلِاسْتِعْدَادِ لِلْقِتَالِ الَّذِي يُرْجَى أَنْ يَكُونَ سَبَبًا لِلسِّلْمِ وَمَنْعِ الْقِتَالِ، وَالسَّلَامَةِ مِنَ الْهَلَاكِ، وَيَتَنَاوَلُ غَيْرَ ذَلِكَ كَمَنْعِ الْعُدْوَانِ الْعَامِّ وَالْخَاصِّ، وَالنُّظُمِ الضَّارَّةِ بِالِاجْتِمَاعِ (الْآيَةَ 195) ثُمَّ الْأَمْرُ بِالْإِنْفَاقِ لِأَجْلِ السَّلَامَةِ مِنْ هَلَاكِ الْآخِرَةِ (فِي الْآيَةِ 254) ثُمَّ التَّرْغِيبُ فِي الْإِنْفَاقِ وَالْوَعْدُ بِمُضَاعَفَةِ الْأَجْرِ عَلَيْهِ بِسَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ وَأَكْثَرَ، وَبَيَانُ شَرْطِ قَبُولِهِ وَآدَابِهِ، وَضَرْبِ الْأَمْثَالِ لِلْإِخْلَاصِ وَلِلرِّيَاءِ فِيهِ فِي سِيَاقٍ طَوِيلٍ (الْآيَاتِ 261 - 274) .
10 -
أَحْكَامُ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ (الْآيَاتِ 196 - 203) .
11 -
النَّفَقَاتُ وَالْمُسْتَحِقُّونَ لَهَا مِنَ النَّاسِ (الْآيَاتِ 215 و219 و273) .
12 -
تَحْرِيمُ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ تَحْرِيمًا ظَنَّيًّا اجْتِهَادِيًّا رَاجِحًا غَيْرَ قَطْعِيٍّ تَمْهِيدًا لِلتَّحْرِيمِ الصَّرِيحِ بِالنَّصِّ الْقَطْعِيِّ (الْآيَةَ 219) .
13 -
مُعَامَلَةُ الْيَتَامَى وَمُخَالَطَتُهُمْ فِي الْمَعِيشَةِ (الْآيَةَ 220) .
14 -
تَحْرِيمُ إِنْكَاحِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُشْرِكَاتِ، وَإِنْكَاحِ الْمُشْرِكِينَ الْمُؤْمِنَاتِ (الْآيَةَ 221) .
15 -
تَحْرِيمُ إِتْيَانِ النِّسَاءِ فِي الْمَحِيضِ، وَفِي غَيْرِ مَكَانِ الْحَرْثِ، وَوُجُوبُ إِتْيَانِهِنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَ اللهُ بِأَيِّ صِفَةٍ كَانَتْ (الْآيَتَانِ 222 و223) .
16 -
بَعْضُ أَحْكَامِ الْأَيْمَانِ بِاللهِ، كَجَعْلِهَا مَانِعَةً مِنَ الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَالْإِصْلَاحِ، وَعَدَمِ الْمُؤَاخَذَةِ بِيَمِينِ اللَّغْوِ (الْآيَتَانُ 224 و225) .
17 -
حُكْمُ الْإِيلَاءِ مِنَ النِّسَاءِ (الْآيَتَانِ 226 و227) .
18 -
أَحْكَامُ الزَّوْجِيَّةِ مِنَ الطَّلَاقِ وَالرَّضَاعَةِ وَالْعِدَّةِ وَخِطْبَةِ الْمُعْتَدَّةِ وَنَفَقَتِهَا وَمُتْعَةِ الْمُطَلَّقَةِ (الْآيَاتِ 228 - 237 و241) .
19 -
حَظْرُ الرِّبَا وَالْأَمْرُ بِتَرْكِ مَا بَقِيَ مِنْهُ وَالِاكْتِفَاءُ بِرُءُوسِ الْأَمْوَالِ مِنْهُ وَإِيجَابُ إِنْظَارِ الْمُعْسِرِ، أَيْ إِمْهَالُهُ إِلَى مَيْسَرَةٍ (الْآيَاتِ 275 - 280) .
20 -
أَحْكَامُ الدَّيْنِ مِنْ كِتَابَةٍ وَإِشْهَادٍ وَشَهَادَةٍ وَحُكْمِ النِّسَاءِ وَالرِّجَالِ فِيهَا وَالرِّهَانِ وَوُجُوبِ أَدَاءِ الْأَمَانَةِ وَتَحْرِيمِ كِتْمَانِ الشَّهَادَةِ (الْآيَتَانُ 282 و283) .
21 -
خَاتِمَةُ الْأَحْكَامِ الْعَمَلِيَّةِ: الدُّعَاءُ الْعَظِيمُ فِي خَاتِمَةِ السُّورَةِ.
(الْأُصُولُ وَالْقَوَاعِدُ الشَّرْعِيَّةُ الْعَامَّةُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ)
(الْقَاعِدَةُ الْأُولَى) إِنَّ اتِّبَاعَ هَدْيِ اللهِ الْمُنَزَّلِ عَلَى رُسُلِهِ وَهُوَ الدِّينُ مُوجِبٌ لِلسَّعَادَةِ بِأَنَّ أَصْحَابَهُ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ، وَهَذَا وَعْدٌ يَشْمَلُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ لِإِطْلَاقِهِ، وَلَكِنَّهُ فِي الدُّنْيَا إِضَافِيٌّ مُطَّرِدٌ فِي الْأُمَمِ، وَإِضَافِيٌّ مُقَيِّدٌ غَيْرُ مُطَّرِدٍ فِي الْأَفْرَادِ، وَفِي الْآخِرَةِ حَقِيقِيٌّ مُطَّرِدٌ لِلْجَمِيعِ، وَمُوجِبٌ لِشَقَاءِ مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ بَعْدَ بُلُوغِ دَعْوَتِهِ عَلَى وَجْهِهَا عَلَى نِسْبَةِ مُقَابَلِهِ فِي الدَّارَيْنِ وَالشَّاهِدُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى لِآدَمَ وَمَنْ مَعَهُ:(قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى) الْآيَةَ 38 وَالَّتِي بَعْدَهَا 39. وَرَاجِعْ مَعْنَاهُمَا فِي سُورَةِ طه (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يْشَقَى) (20: 123) الْآيَةَ وَمَا بَعْدَهَا إِلَى (128) فَهِيَ مُوَضِّحَةٌ لِمَا أَرَدْنَا هُنَا.
(الْقَاعِدَةُ الثَّانِيَةُ) قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ) الْآيَةَ 40، وَهِيَ مُقَيِّدَةٌ لِسَعَادَةِ الدِّينِ بِأَنَّهَا تَحْصُلُ بِإِقَامَتِهِ، فَاللهُ يَقُولُ:(وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) فِي بَابِ الْإِطْلَاقِ، وَيَقُولُ فِي بَابِ التَّقْيِيدِ:(إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرُكُمْ) وَهَذَا شَاهِدٌ عَلَى التَّقَيُّدِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِي الْقَاعِدَةِ الْأُولَى، وَمِثْلُهُ (فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) رَاجِعِ الْآيَاتِ 84 - 86.
(الْقَاعِدَةُ الثَّالِثَةُ) قَوْلُهُ تَعَالَى: (أَتَأْمَرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ) وَهِيَ صَرِيحَةٌ فِي أَنَّ هَذَا مُخَالِفٌ لِلْمَنْقُولِ الشَّرْعِيِّ وَهُوَ الْكِتَابُ، وَلِلْمَعْقُولِ الْفِطْرِيِّ، إِذْ لَا يَخْفَى عَلَى عَاقِلٍ قُبْحُ عَمَلِ مَنْ يَأْمُرُ غَيْرَهُ بِالْخَيْرِ وَهُوَ يَتْرُكُهُ، أَوْ يَنْهَاهُ عَنْ فِعْلِ مَا يَضُرُّهُ مِنَ الشَّرِّ وَهُوَ يَفْعَلُهُ، وَأَنَّهُ يُقِيمُ بِذَلِكَ الْحُجَّةَ عَلَى نَفْسِهِ، وَلَا يَكُونُ أَهْلًا لَأَنْ يُمْتَثَلُ أَمْرُهُ وَنَهْيُهُ.
(الْقَاعِدَةُ الرَّابِعَةُ) قَوْلُهُ تَعَالَى فِي مَقَامِ الْإِنْكَارِ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ: (أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ) صَرِيحٌ فِي وُجُوبِ تَرْجِيحِ الْأَعْلَى عَلَى الْأَدْنَى وَإِيثَارِ الْخَيْرِ عَلَى الشَّرِّ وَالْإِرْشَادِ إِلَى طَلَبِ مَا هُوَ خَيْرٌ وَأَفْضَلُ مِمَّا يُقَابِلُهُ، وَفِي طَلَبِ الْمَعَالِي وَالْكَمَالِ فِي أُمُورِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَفِي مَعْنَاهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:(وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مِنْ سَفِهَ نَفْسَهُ)(: 130) .
(الْقَاعِدَةُ الْخَامِسَةُ) قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا) الْآيَةَ 62 صَرِيحٌ فِي أَنَّ أُصُولَ دِينِ اللهِ تَعَالَى عَلَى أَلْسِنَةِ جَمِيعِ رُسُلِهِ هَذِهِ الثَّلَاثَةُ: الْإِيمَانُ بِاللهِ، وَالْإِيمَانُ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا فِيهِ مِنَ الْجَزَاءِ، وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ. وَمِنْهُ مَا ذُكِرَ فِي الْآيَةِ 83 مِنْ مِيثَاقِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَثَمَرَةُ الْإِيمَانِ مَنُوطَةٌ بِالثَّلَاثَةِ.
(الْقَاعِدَةُ السَّادِسَةُ) أَنَّ الْجَزَاءَ عَلَى الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ مَعًا؛ لِأَنَّ الدِّينَ إِيمَانٌ وَعَمَلٌ.
وَمِنَ الْغُرُورِ أَنْ يَظُنَّ الْمُنْتَمِي إِلَى دِينِ نَبِيٍّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، أَنَّهُ يَنْجُو مِنَ الْخُلُودِ فِي النَّارِ بِمُجَرَّدِ الِانْتِمَاءِ، وَالشَّاهِدُ عَلَيْهِ مَا حَكَاهُ اللهُ لَنَا عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ غُرُورِهِمْ بِدِينِهِمْ وَمَا رَدَّ بِهِ عَلَيْهِمْ حَتَّى لَا نَتَّبِعَ سُنَنَهُمْ فِيهِ، وَهُوَ:(وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً) الْآيَاتِ 80 - 82 وَمَا حَكَاهُ عَنِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى جَمِيعًا مِنْ قَوْلِهِمْ: (وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ) إِلَخِ الْآيَتَيْنِ 111 و112، وَلَكِنَّنَا قَدِ اتَّبَعْنَا سُنَنَهُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ مِصْدَاقًا لِمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ. وَإِنَّمَا نَمْتَازُ عَلَيْهِمْ بِأَنَّ الْمُتَّبِعِينَ لَهُمْ بَعْضُ الْأُمَّةِ لَا كُلُّهَا. وَبِحِفْظِ نَصِّ كِتَابِنَا كُلِّهِ وَضَبْطِ سُنَّةِ نَبِيِّنَا فِي بَيَانِهِ، وَبِأَنَّ حُجَّةَ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْهُدَى مِنَّا قَائِمَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
(الْقَاعِدَةُ السَّابِعَةُ) أَنَّ شَرْطَ الْإِيمَانِ: الْإِذْعَانُ النَّفْسِيُّ لِكُلِّ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ الَّذِي يَلْزَمُهُ الْعَمَلُ عِنْدَ انْتِفَاءِ الْمَانِعِ، وَمَأْخَذُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:(وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ) الْآيَةَ 83 إِلَى آخَرِ الْآيَةِ 86 وَقَوْلُهُ: (أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا) الْآيَةَ 100، فَمَنْ تَرَكَ بَعْضَ الْعَمَلِ بِجَهَالَةٍ فَهُوَ فَاسِقٌ إِلَى أَنْ يَتُوبَ، وَمَنْ تَرَكَهُ لِعَدَمِ الْإِذْعَانِ لَهُ كَانَ كَافِرًا بِهِ، وَالْكُفْرُ بِالْبَعْضِ كَالْكُفْرِ بِالْكُلِّ، وَالشَّاهِدُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى:(أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ) الْآيَةَ.
وَلَيْسَ هَذَا مِنَ الْكُفْرِ الْعَمَلِيِّ الَّذِي لَا يَخْرُجُ بِهِ صَاحِبُهُ مِنَ الْمِلَّةِ الَّذِي اسْتَشْهَدُوا لَهُ بِحَدِيثِ: ((لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ) إِلَخْ كَمَا قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ؛ لِأَنَّ هَذَا النَّوْعَ هُوَ مِنْ عَمَلِ الْأَفْرَادِ الَّذِي تَغْلِبُهُمْ عَلَيْهِ دَاعِيَةٌ طَبِيعِيَّةٌ كَالشَّهْوَةِ وَالْغَضَبِ. وَمَا نَحْنُ فِيهِ عِبَارَةٌ عَنْ عَدَمِ الْعَمَلِ بِالشَّرْعِ الْإِلَهِيِّ لِعَدَمِ الْإِذْعَانِ لَهُ، كَاسْتِبَاحَةِ قَتْلِ فَرِيقٍ مِنَ الْأُمَّةِ وَنَفْيِ فَرِيقٍ آخَرَ مِنْ وَطَنِهِ بِمَحْضِ اتِّبَاعِ الْهَوَى وَالطَّمَعِ فِي عَرَضِ الدُّنْيَا، لَا بِجَهَالَةٍ عَارِضَةٍ يُغْلَبُ فِيهَا الْفَرْدُ عَلَى أَمْرِهِ ثُمَّ يَثُوبُ إِلَيْهِ رُشْدُهُ فَيَتُوبُ إِلَى رَبِّهِ.
(الْقَاعِدَةُ الثَّامِنَةُ) النَّسْخُ أَوِ الْإِنْسَاءُ لِلْآيَاتِ الْإِلَهِيَّةِ الَّتِي يُؤَيِّدُ اللهُ بِهَا رُسُلَهُ كَمَا يَقْتَضِيهِ سِيَاقُ قَوْلِهِ تَعَالَى: (مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا) اقْرَأْهَا وَمَا بَعْدَهَا (106 و107) أَوْ لِلْآيَاتِ التَّشْرِيعِيَّةِ كَمَا فَهِمَ الْجُمْهُورُ. كِلَاهُمَا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ بِجَعْلِ الْبَدَلِ خَيْرًا مِنَ الْأَصْلِ، أَوْ مِثْلَهُ عَلَى الْأَقَلِّ، وَتَكُونُ الْخَيْرِيَّةُ فِي الْمِثْلِ التَّنْوِيعُ وَكَثْرَةُ الْآيَاتِ.
(الْقَاعِدَةُ التَّاسِعَةُ) قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ)(120)
آيَةٌ لِلنَّبِيِّ كَاشِفَةٌ عَنْ حَالِ أَهْلِ الْمِلَّتَيْنِ فِي عَصْرِهِ، وَلَا تَزَالُ مُطَّرِدَةً فِي أُمَّتِهِ مِنْ بَعْدِهِ، وَقَدِ اغْتَرَّ زُعَمَاءُ بَعْضِ الشُّعُوبِ الْإِسْلَامِيَّةِ فَحَاوَلُوا إِرْضَاءَ بَعْضِ الدُّوَلِ بِمَا دُونَ اتِّبَاعِ مِلَّتِهِمْ مِنَ الْكُفْرِ فَلَمْ يَرْضَوْا عَنْهُمْ، وَلَوِ اتَّبَعُوا مِلَّتَهُمْ لَاشْتَرَطُوا أَنْ يَتْبَعُوهُمْ فِي فَهْمِهَا وَصُوَرِ الْعَمَلِ بِهَا، حَتَّى لَا يَبْقَى لَهُمْ أَدْنَى اسْتِقْلَالٍ فِي دِينِهِمْ وَلَا فِي أَنْفُسِهِمْ.
(الْقَاعِدَةُ الْعَاشِرَةُ) أَنَّ الْوِلَايَةَ الْعَامَّةَ الشَّرْعِيَّةَ حَقُّ أَهْلِ الْإِيمَانِ وَالْعَدْلِ، وَأَنَّ اللهَ تَعَالَى لَنْ يَعْهَدَ بِإِمَامَةِ النَّاسِ وَتَوَلِّي أُمُورِهِمْ لِلظَّالِمِينَ، فَكُلُّ حَاكِمٍ ظَالِمٍ فَهُوَ نَاقِضٌ لِعَهْدِ اللهِ تَعَالَى.
رَاجِعْ قَوْلَ اللهِ تَعَالَى فِي إِبْرَاهِيمَ عليه السلام بَعْدَ ابْتِلَائِهِ مِمَّا ظَهَرَ بِهِ اسْتِحْقَاقُهُ لِلْإِمَامَةِ: (قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ)(: 124) .
(الْقَاعِدَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ) أَنَّ الْإِيمَانَ الْحَقَّ وَالِاعْتِصَامَ بِدِينِ اللهِ تَعَالَى الْمُنَزَّلَ كَمَا أَنْزَلَهُ يَقْتَضِي الْوَحْدَةَ وَالْاتْفَاقَ، وَتَرْكَ الِاهْتِدَاءِ بِهِ يُوَرِّثُ الِاخْتِلَافَ وَالشِّقَاقَ، وَشَوَاهِدُهُ مِنَ السُّورَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى:(فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ)(137) وَقَوْلُهُ: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ)(176) وَقَوْلُهُ: (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ)(213) إِلَخْ.
(الْقَاعِدَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ) الِاسْتِعَانَةُ عَلَى النُّهُوضِ بِمُهِمَّاتِ الْأُمُورِ بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ قَالَ تَعَالَى: (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ)(45) .
وَقَوْلُهُ عز وجل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ)(: 153) .
وَهَذِهِ قَاعِدَةٌ جَلِيلَةٌ رَاجِعْ تَفْصِيلَهَا فِي تَفْسِيرِنَا لِلْآيَتَيْنِ وَأَمْثَالِهِمَا.
(الْقَاعِدَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ) بُطْلَانُ التَّقْلِيدِ لِلْآبَاءِ وَالْأَجْدَادِ وَالْمَشَايِخِ وَالْمُعَلِّمِينَ وَالرُّؤَسَاءِ؛ لِأَنَّهُ جَهْلٌ وَعَصَبِيَّةٌ جَاهِلِيَّةٌ، وَالشَّوَاهِدُ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَغَيْرِهَا عَدِيدَةٌ أَظْهَرُهَا هُنَا مَا حَكَاهُ اللهُ تَعَالَى لَنَا عَنْ تَبَرُّؤِ الْمَتْبُوعِينَ مِنَ الْأَتْبَاعِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي الْآيَتَيْنِ (166 و167) وَقَوْلِهِ عز وجل:(وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ وَمَثَلُ)(170) وَإِنَّ فِي تَحْرِيمِ التَّقْلِيدِ وَتَصْرِيحِ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ بِأَنَّ اللهَ تَعَالَى لَا يَقْبَلُهُ وَلَا يَعْذُرُ صَاحِبَهُ فِي الْآخِرَةِ لَتَأْكِيدًا شَدِيدًا لِإِيجَابِ الْعِلْمِ الِاسْتِقْلَالِيِّ الِاسْتِدْلَالِيِّ فِي الدِّينِ، وَهُوَ لَا يَقْتَضِي الِاجْتِهَادَ الْمُطْلَقَ فِي جَمِيعِ مَسَائِلِ التَّشْرِيعِ، أَعْنِي - الِاسْتِنْبَاطَ الْعَامَّ بِوَضْعِ الْأَحْكَامِ لِكُلِّ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْأَفْرَادُ وَالْحُكَّامُ - وَإِنَّ فِي إِطْلَاقِ مُقَلِّدَةِ الْمُصَنِّفِينَ مِنْ خَلْفِ الْقُرُونِ الْوُسْطَى الْقَوْلَ بِإِيجَابِ تَقْلِيدِ الْمُجْتَهِدِينَ فِي أُمُورِ الدِّينِ، وَتَحْرِيمِ الْأَخْذِ بِالدَّلِيلِ فِيهِ - لِاشْتِرَاطِهِمْ فِيهِ اسْتِعْدَادَ كُلِّ مُسْتَدِلٍّ مُسْتَقِلٍّ لِلتَّشْرِيعِ - لَافْتِيَاتًا عَلَى دِينِ اللهِ، وَنَسْخًا لِكِتَابِ اللهِ، وَشَرْعًا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ، خُلَاصَتُهُ تَحْرِيمُ الْعِلْمِ وَإِيجَابُ الْجَهْلِ، وَهَذَا مُنْتَهَى الْإِفْسَادِ لِلْفِطْرَةِ وَالْعَقْلِ، وَهُوَ أَقْطَعُ الْمُدَى لِأَوْصَالِ الْإِسْلَامِ، وَأَفْعَلُ
الْمَعَاوِلِ فِي هَدْمِ قَوَاعِدِ الْإِيمَانِ، وَعِلَّةُ الْعِلَلِ لِانْتِشَارِ الْبِدَعِ الَّتِي ذَهَبَتْ بِهِدَايَةِ الدِّينِ، وَاسْتَبْدَلَتْ بِهَا الْخُرَافَاتِ وَدَجَلَ الدَّجَّالِينَ.
(الْقَاعِدَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ) إِبَاحَةُ جَمِيعِ طَيِّبَاتِ الْمَطْعَمِ الطَّبِيعِيَّةِ بِحَسَبِ أَفْرَادِهَا وَإِيجَابُ الْأَكْلِ مِنْهَا بِحَسَبِ جِنْسِهَا، وَامْتِنَاعُ التَّحْرِيمِ الدِّينِيِّ الْعَامِّ لِمَا لَمْ يُحَرِّمِ اللهُ تَعَالَى مِنْهَا، وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى:(يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا)(168) وَقَوْلُهُ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ)(172) الْآيَةَ. وَقَوْلُهُ بَعْدَهَا: (إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ)(173) فَحَصَرَ الْمُحَرَّمَاتِ فِي هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ، وَمِثْلُهُ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ وَالنَّحْلِ مِنَ السُّوَرِ الْمَكِّيَّةِ، وَفِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ الْمَدَنِيَّةِ تَفْصِيلٌ فِي الْمَيْتَةِ بِجَعْلِ الْمُنْخَنِقَةِ وَالْمَوْقُوذَةِ وَالْمُتَرَدِّيَةِ وَالنَّطِيحَةِ وَأَكِيلَةِ السَّبُعِ مِنْهَا، إِذَا مَاتَتْ بِذَلِكَ وَلَمْ تُدْرَكْ تَذْكِيَتُهَا، وَقَيَّدَتْ آيَةُ الْأَنْعَامِ الدَّمَ بِالْمَسْفُوحِ.
(الْقَاعِدَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ) إِبَاحَةُ الْمُحَرَّمَاتِ لِلْمُضْطَرِّ إِلَيْهَا، بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ بَاغٍ لَهَا وَلَا عَادٍ فِيهَا بِتَجَاوُزِ قَدْرِ الضَّرُورَةِ أَوِ الْحَاجَةِ مِنْهَا، وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي تَتِمَّةِ الْآيَةِ الْأَخِيرَةِ
مِنْ شَوَاهِدِ الْقَاعِدَةِ الَّتِي قَبْلَ هَذِهِ: (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) وَلَيْسَتِ الْقَاعِدَةُ مَقْصُورَةً عَلَى مُحَرَّمَاتِ الْمَطَاعِمِ بَلْ عَامَّةٌ لِكُلِّ مَا يَتَحَقَّقُ الِاضْطِرَارُ إِلَيْهِ لِأَجْلِ الْحَيَاةِ وَاتِّقَاءِ الْهَلَاكِ، وَلَمْ يُعَارِضْهُ مِثْلُهُ أَوْ مَا هُوَ أَقْوَى مِنْهُ، فَالزِّنَا لَيْسَ مِمَّا يَضْطَرُّ النَّاسُ إِلَيْهِ، لِذَلِكَ كَمَا قَالَ الْعُلَمَاءُ، وَمَنِ اضْطُرَّ إِلَى رَغِيفِ مُضْطَرٍّ مِثْلِهِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُرَجِّحَ نَفْسَهُ عَلَى صَاحِبِ الْيَدِ وَهُوَ مَالِكُ الرَّغِيفِ.
(الْقَاعِدَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ) بِنَاءُ الدِّينِ عِبَادَاتِهِ وَغَيْرِهَا عَلَى أَسَاسِ الْيُسْرِ، وَرَفْعِ الْحَرَجِ وَالْعُسْرِ - كَمَا عَلَّلَ سُبْحَانَهُ بِهِ رُخْصَةَ الْفِطْرِ فِي رَمَضَانَ بِقَوْلِهِ:(يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) وَمِثْلُهُ تَعْلِيلُ رُخْصَةِ التَّيَمُّمِ بِرَفْعِ الْحَرَجِ كَمَا فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ، وَهَذِهِ الْقَاعِدَةُ أَوْسَعُ مِمَّا قَبْلَهَا؛ لِأَنَّ هَذِهِ فِي تَرْكِ الْوَاجِبِ، إِلَى بَدَلٍ عَاجِلٍ أَوْ آجِلٍ، وَتِلْكَ فِي اسْتِبَاحَةِ الْمُحَرَّمِ وَلَوْ مُؤَقَّتًا، فَإِنَّ تَرْكَ الْوَاجِبَاتِ أَهْوَنُ مِنْ فِعْلِ الْمَنْهِيَّاتِ، لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:(فَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَأَتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ، وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَدَعُوهُ) رَوَاهُ الشَّيْخَانِ، وَهَذَا اللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ وَهُوَ مِنْ أَثْنَاءِ حَدِيثٍ. وَسَبَبُ هَذَا أَنَّ التَّرْكَ أَهْوَنُ عَلَى غَيْرِ الْمُضْطَرِّ مِنَ الْفِعْلِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُهُ.
(الْقَاعِدَةُ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ) عَدَمُ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ، وَهَذَا أَصْلٌ لِلَّتَيْنِ قَبْلَهَا وَالنَّصُّ فِيهَا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي آخِرِ الْآيَةِ مِنَ السُّورَةِ:(لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا)(286) وَوُسْعُ الْإِنْسَانِ مَا لَا حَرَجَ فِيهِ عَلَيْهِ وَلَا عُسْرَ؛ لِأَنَّهُ ضِدُّ الضِّيقِ، وَلِذَلِكَ كَانَتْ هَذِهِ أَوْسَعَ مِمَّا قَبْلَهَا وَأَصْلًا لَهُمَا، فَاللهُ لَمْ يُكَلِّفْنَا فِي دِينِهِ وَشَرْعِهِ مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ، وَلَا يَدْخُلُ فِي وُسْعِنَا امْتِثَالُهُ بِغَيْرِ عُسْرٍ وَلَا حَرَجٍ فَإِذَا عَرَضَ الْعُسْرُ
عُرُوضًا بِأَسْبَابِهِ الْعَادِيَّةِ كَالِاضْطِرَارِ لِأَكْلِ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ الْمَسْفُوحِ، وَكَالْمَرَضِ وَالسَّفَرِ اللَّذَيْنِ يَشُقُّ فِيهِمَا الصَّوْمُ، وَاسْتِعْمَالُ الْمَاءِ فِي الْغُسْلِ وَالْوُضُوءِ، لَوْ يَضُرُّ تُرِكَ الْأَوَّلُ بِنِيَّةِ الْقَضَاءِ، وَالثَّانِي إِلَى التَّيَمُّمِ الْمُبِيحِ لِلصَّلَاةِ، وَلَا تُتْرَكُ الصَّلَاةُ نَفْسُهَا لِعُسْرِ أَحَدِ شُرُوطِهَا وَعَدَمِ عُسْرِهَا فِي نَفْسِهَا، وَهِيَ لَا تَعْسُرُ مِنْ حَيْثُ هِيَ تَوَجُّهٌ إِلَى اللهِ تَعَالَى وَمُنَاجَاةٌ لَهُ بِكِتَابِهِ وَذِكْرِهِ وَدُعَائِهِ، فَإِنْ شَقَّ عَلَى الْمُصَلِّي بَعْضُ أَفْعَالِهَا كَالْقِيَامِ اسْتَبْدَلَ بِهِ الْقُعُودَ، فَإِنْ شَقَّ عَلَيْهِ الْقُعُودُ صَلَّى مُضْطَجِعًا أَوْ مُسْتَلْقِيًا.
(الْقَاعِدَةُ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ) حَظْرُ التَّعَرُّضِ لِلْهَلَكَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَلَا تُلْقُوا
بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) (195) فَلَا يَجُوزُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا سِيَّمَا جَمَاعَتُهُمْ أَنْ يَتَعَمَّدُوا إِلْقَاءَ أَنْفُسِهِمْ إِلَى الْهَلَاكِ بِسَعْيِهِمْ وَاخْتِيَارِهِمْ، وَيَلْزَمُهُ وُجُوبُ اجْتِنَابِ أَسْبَابِ التَّهْلُكَةِ مِنْ فِعْلِيَّةٍ وَتَرْكِيَّةٍ - وَبِتَعْبِيرِ الْمُنَاطَقَةِ مِنْ سَلْبِيَّةٍ وَإِيجَابِيَّةٍ - وَيَدُلُّ عَلَيْهِ ذِكْرُ هَذَا النَّهْيِ عَقِبَ الْأَمْرِ بِالْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللهِ لِمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الدِّفَاعُ مِنَ النَّفَقَاتِ الْكَثِيرَةِ، وَلَا سِيَّمَا فِي هَذَا الْعَصْرِ الَّذِي تَعَدَّدَتْ فِيهِ آلَاتُ الْقِتَالِ وَوَسَائِلُهُ وَعَظُمَتْ نَفَقَاتُهَا فَصَارَتِ الْأُمَمُ الْعَزِيزَةُ تُنْفِقُ الْمَلَايِينَ مِنَ الْجُنَيْهَاتِ عَلَى وَسَائِلِ الْحَرْبِ الْبَرِّيَّةِ وَالْبَحْرِيَّةِ وَالْجَوِّيَّةِ، وَفُرُوعُ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ كَثِيرَةٌ.
(الْقَاعِدَةُ التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ) إِتْيَانُ الْبُيُوتِ مِنْ أَبْوَابِهَا لَا مِنْ ظُهُورِهَا، أَيْ طَلَبُ الْأَشْيَاءِ بِأَسْبَابِهَا دُونَ غَيْرِهَا، فَلَا تُجْعَلُ الْعَادَةُ عِبَادَةً، وَلَا الْعِبَادَةُ عَادَةً، وَلَا تُطْلَبُ فُنُونُ الدُّنْيَا مِنْ نُصُوصِ الدِّينِ (أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِأَمْرِ دُنْيَاكُمْ) كَمَا قَالَ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ، وَأَصْلُ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى:(وَلَيْسَ الْبِرَّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأَتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا)(189) فَلِلزِّرَاعَةِ وَالتِّجَارَةِ وَالصِّنَاعَةِ وَفُنُونِ الْحَرْبِ وَآلَاتِهِ وَأَسْلِحَتِهِ أَبْوَابٌ لَا يَصِلُ إِلَيْهَا إِلَّا مَنْ يَدْخُلُ مِنْهَا، وَلِعَقَائِدِ الدِّينِ وَعِبَادَاتِهِ وَآدَابِهِ وَحَلَالِهِ وَحَرَامِهِ أَبْوَابٌ مَعْرُوفَةٌ مِنْ كِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ، وَلِأُصُولِ تَشْرِيعِهِ السِّيَاسِيِّ أَبْوَابٌ مِنَ النُّصُوصِ وَالِاجْتِهَادِ مَعْرُوفَةٌ أَيْضًا، فَمَا اعْتِيدَ فِي هَذِهِ الْقُرُونِ الْأَخِيرَةِ مِنْ قِرَاءَةِ صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ فِي الْمَسْجِدِ لِأَجْلِ النَّصْرِ عَلَى الْأَعْدَاءِ مُخَالِفٌ لِهَذِهِ الْقَاعِدَةِ، وَلَيْسَ مِنَ الْمُخَالِفِ لَهَا الدُّعَاءُ وَتَوَجُّهُ الْمُقَاتِلَةِ إِلَى اللهِ لِنَصْرِهِمْ بَعْدَ إِعْدَادِ مَا اسْتَطَاعُوا مِنَ الْقُوَّةِ لِعَدُوِّهِمْ، فَإِنَّ الدُّعَاءَ مِنْ أَسْبَابِ الْقُوَّةِ الْمَعْنَوِيَّةِ.
(الْقَاعِدَةُ الْعِشْرُونَ) حُرِّيَّةُ الدِّينِ وَالِاعْتِقَادِ وَمَنْعُ الِاضْطِهَادِ الدِّينِيِّ وَلَوْ بِالْقِتَالِ حَتَّى يَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ وَمَنْعُ الْإِكْرَاهِ عَلَى الدِّينِ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى:(وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةً وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ)(193) .
الْفِتْنَةُ: اضْطِهَادُ الْإِنْسَانِ لِأَجْلِ دِينِهِ بِالتَّعْذِيبِ وَالْقَتْلِ وَالنَّفْيِ كَمَا فَعَلَ الْمُشْرِكُونَ بِالْمُسْلِمِينَ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ، وَلِذَلِكَ قَالَ فِي آيَاتِ الْقِتَالِ الَّتِي نَزَلَتْ قَبْلَ هَذِهِ فِي سُورَةِ الْحَجِّ:(أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ)(22: 39 - 40) إِلَخْ.
وَلِذَلِكَ مَهَّدَ لِهَذِهِ الْغَايَةِ هُنَا بِقَوْلِهِ قَبْلَهَا (وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ)(: 191) ثُمَّ قَفَّى عَلَيْهَا بِقَوْلِهِ: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا)(217) الْآيَةَ.
وَأَمَّا النَّهْيُ عَنِ الْإِكْرَاهِ فِي الدِّينِ حَتَّى الْإِسْلَامِ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ)(256) وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي تَفْسِيرِهَا مَا رَوَاهُ الْمُحَدِّثُونَ وَمُصَنِّفُو التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ مِنْ سَبَبِ نُزُولِهَا.
وَمُلَخَّصُهُ: أَنَّهُ كَانَ لَدَى بَنِي النَّضِيرِ مِنْ يَهُودِ الْمَدِينَةِ أَوْلَادٌ مِنْ أَبْنَاءِ الصَّحَابَةِ رَبَّوْهُمْ وَهَوَّدُوهُمْ، فَلَمَّا أُمِرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِإِجْلَائِهِمْ لِتَوَاتُرِ إِيذَائِهِمْ أَرَادَ الْمُسْلِمُونَ أَنْ يَأْخُذُوا أَبْنَاءَهُمْ مِنْهُمْ وَيُكْرِهُوهُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ فَنَزَلَتِ الْآيَةُ. فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:((قَدْ خَيَّرَ اللهُ أَصْحَابَكُمْ، فَإِنِ اخْتَارُوهُمْ فَهُمْ مِنْهُمْ، وَإِنِ اخْتَارُوكُمْ فَهُمْ مِنْكُمْ)) .
وَمَعَ هَذِهِ النُّصُوصِ لَا يَزَالُ يُوجَدُ حَتَّى فِي الْمُسْلِمِينَ مَنْ يُصَدِّقُ افْتِرَاءَ أَعْدَاءِ الْإِسْلَامِ بِأَنَّهُ قَامَ بِالسَّيْفِ وَالْإِكْرَاهِ عَلَى الدِّينِ، وَأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم هُوَ الَّذِي كَانَ يَبْدَأُ الْمُشْرِكِينَ بِالْقِتَالِ.
(الْقَاعِدَةُ الْحَادِيَةُ وَالْعِشْرُونَ) أَنَّ الْقِتَالَ شُرِّعَ فِي الْإِسْلَامِ لِمَصْلَحَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثٍ:
" الْأُولَى " الدِّفَاعُ عَنِ الْمُسْلِمِينَ وَأَوْطَانِهِمْ، فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ أَخْرَجُوا النَّبِيَّ وَمَنْ كَانَ آمَنَ مَعَهُ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ ثُمَّ بَدَءُوهُمْ بِالْقِتَالِ وَسَاعَدَهُمْ عَلَيْهِمْ أَهْلُ الْكِتَابِ، وَمَا زَالُوا يَبْدَءُونَهُمْ وَيُقَاتِلُونَهُمْ حَتَّى عَجَزُوا، وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى:(وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ)(190) .
" الثَّانِيَةُ " تَأْمِينُ حُرِّيَّةِ الدِّينِ وَمَنْعُ الِاضْطِهَادِ فِيهِ وَهُوَ قَوْلُهُ: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ)(193) هَذَا مَا نَزَلَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ.
" الثَّالِثَةُ " مَا فِي سُورَةِ التَّوْبَةِ مِنْ تَأْمِينِ سُلْطَانِ الْإِسْلَامِ وَسِيَادَتِهِ بِدَفْعِ الْمُخَالِفِينَ لَهُ لِلْجِزْيَةِ.
(الْقَاعِدَةُ الثَّانِيَةُ وَالْعِشْرُونَ) أَنَّ مِنْ شَأْنِ الْمُسْلِمِينَ طَلَبَ مَا هُوَ أَثَرٌ لَازِمٌ لِلْإِسْلَامِ مِنْ سَعَادَةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ مَعًا - كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْقَاعِدَةِ الْأَوْلَى - وَإِنَّمَا تَتَحَقَّقُ
الْغَايَاتُ وَلَوَازِمُ الْأُمُورِ بِطَلَبِهَا وَالسَّعْيِ لَهَا.
فَلَيْسَ مِنْ هَدْيِهِ أَنْ يَتْرُكَ الْمُسْلِمُونَ الدُّنْيَا وَمَعَايِشَهَا وَسِيَاسَتَهَا وَيَكُونُوا فُقَرَاءَ أَذِلَّاءَ تَابِعِينَ لِلْمُخَالِفِينَ لَهُمْ مِنَ الْأَقْوِيَاءِ، وَلَا أَنْ يَكُونُوا كَالْأَنْعَامِ لَا هَمَّ لَهُمْ إِلَّا فِي شَهَوَاتِهِمُ الْبَدَنِيَّةِ، وَكَالْوُحُوشِ الَّتِي يَفْتَرِسُ قَوِيُّهَا ضَعِيفَهَا. وَهَذَا الْجَمْعُ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ مُقْتَضَى الْفِطْرَةِ، وَالْإِسْلَامُ دِينُ الْفِطْرَةِ.
وَذَلِكَ هُوَ مَا أَرْشَدَنَا اللهُ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ: (فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَالَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)(: 200، 201) إِلَخْ.
(الْقَاعِدَةُ الثَّالِثَةُ وَالْعِشْرُونَ) أَنَّ الْأَحْكَامَ الِاجْتِهَادِيَّةَ الَّتِي لَمْ تَثْبُتْ بِالنَّصِّ الْقَطْعِيِّ الصَّرِيحِ رِوَايَةً وَدَلَالَةً لَا تُجْعَلُ تَشْرِيعًا عَامًّا إِلْزَامِيًّا بَلْ تُفَوَّضُ إِلَى اجْتِهَادِ الْأَفْرَادِ فِي الْعِبَادَاتِ الشَّخْصِيَّةِ وَالتَّحْرِيمِ الدِّينِيِّ الْخَاصِّ بِهِمْ، وَإِلَى اجْتِهَادِ أُولِي الْأَمْرِ مِنَ الْحُكَّامِ وَأَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ فِي الْأُمُورِ السِّيَاسِيَّةِ وَالْقَضَائِيَّةِ وَالْإِدَارِيَّةِ، وَمَأْخَذُهُ الْآيَةُ (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا) (219) وَوَجْهُهُ: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ بِضَرْبٍ مِنَ الِاجْتِهَادِ فِي الِاسْتِدْلَالِ، وَهُوَ أَنَّ مَا كَانَ إِثْمُهُ وَضَرَرُهُ أَكْبَرَ مِنْ نَفْعِهِ فَهُوَ مُحَرَّمٌ يَجِبُ اجْتِنَابُهُ، وَذَلِكَ مَا فَهِمَهُ بَعْضُ الصَّحَابَةِ فَامْتَنَعُوا مِنَ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ، وَلَكِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُلْزِمِ الْأُمَّةَ هَذَا، بَلْ أَقَرَّ مَنْ تَرَكَهُمَا وَمَنْ لَمْ يَتْرُكْهُمَا عَلَى اجْتِهَادِهِمَا إِلَى أَنْ نَزَلَ النَّصُّ الْقَطْعِيُّ الصَّرِيحُ بِتَحْرِيمِهِمَا وَالْأَمْرُ بِاجْتِنَابِهِمَا فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ فَحِينَئِذٍ بَطَلَ الِاجْتِهَادُ فِيهِمَا، وَأَهْرَقَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ مَا كَانَ عِنْدَهُ مِنَ الْخَمْرِ وَصَارَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُعَاقِبُ مَنْ شَرِبَهَا.
وَبِنَاءً عَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ كَانَ يَعْذِرُ كُلُّ أَحَدٍ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ مَنْ خَالَفَهُ أَوْ خَالَفَ بَعْضَ الْأَخْبَارِ وَالْآثَارِ الِاجْتِهَادِيَّةِ غَيْرِ الْقَطْعِيَّةِ رِوَايَةً وَدَلَالَةً، وَلَمْ يُوجِبُوا عَلَى أَحَدٍ أَنْ يَتْبَعَ أَحَدًا فِي اجْتِهَادِهِ كَمَا يَفْعَلُ الْخَلَفُ الْمُقَلِّدُونَ.
وَبِنَاءً عَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ لَمْ يَقْبَلِ الْإِمَامُ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى - مِنَ الْمَنْصُورِ أَوَّلًا، وَلَا مِنْ هَارُونَ الرَّشِيدِ ثَانِيًا أَنْ يَحْمِلَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الْعَمَلِ بِكُتُبِهِ وَلَا بِالْمُوَطَّأِ الَّذِي هُوَ أَصَحُّ مَا رَوَاهُ مِنَ الْأَخْبَارِ الْمَرْفُوعَةِ وَآثَارِ الصَّحَابَةِ، وَوَاطَأَهُ عَلَيْهِ جُمْهُورٌ مِنْ عُلَمَاءِ عَصْرِهِ.
(الْقَاعِدَةُ الرَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ - إِلَى السَّابِعَةِ وَالْعِشْرِينَ) بِنَاءُ أُمُورِ الزَّوْجِيَّةِ وَالْبُيُوتِ وَتَرْبِيَةِ الْأَوْلَادِ عَلَى أَرْبَعِ دَعَائِمَ:
1 -
قِيَامُ النِّسَاءِ بِالْأُمُورِ الَّتِي تَقْتَضِيهَا وَظِيفَتُهُنَّ كَالرَّضَاعَةِ وَغَيْرُهَا مِنْ أُمُورِ تَرْبِيَةِ الْأَطْفَالِ، وَيَقُومُ الزَّوْجُ بِالنَّفَقَةِ كُلِّهَا.
2 -
أَلَّا يُكَلَّفَ كُلٌّ مِنْهُمَا مَا لَيْسَ فِي وُسْعِهِ مِمَّا يَدْخُلُ فِي حُدُودِ وَظِيفَتِهِ وَالْوَاجِبِ عَلَيْهِ.
3 -
لَا يُضَارُّ أَحَدٌ مِنْهُمَا بِالْوَلَدِ، وَلَا بِغَيْرِهِ بِالْأَوْلَى، وَالْمُضَارَّةُ دُونَ تَكْلِيفِ مَا لَيْسَ فِي الْوُسْعِ.
4 -
إِبْرَامُ الْأُمُورِ غَيْرِ الْقَطْعِيَّةِ بِالتَّرَاضِي وَالتَّشَاوُرِ.
وَهَذِهِ الْقَوَاعِدُ ظَاهِرَةٌ صَرِيحَةٌ فِي الْآيَةِ: (وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا)(233) وَلَوْ عَمِلَ الْمُسْلِمُونَ بِهَذِهِ الْقَوَاعِدِ وَأَمْثَالِهَا مِنْ أَحْكَامِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ لَكَانُوا أَسْعَدَ الْأُمَمِ فِي بُيُوتِهِمْ، وَلَمَا وُجِدَ مِنْ أَعْدَائِهِمْ وَلَا مِنْ زَنَادِقَتِهِمْ مَنْ يَهْذِي بِإِسْنَادِ ظُلْمِ النِّسَاءِ إِلَى الْإِسْلَامِ، أَوْ حَاجَةِ الْمُسْلِمِينَ إِلَى تَقْلِيدِ غَيْرِهِمْ فِي شَيْءٍ مِنْ إِصْلَاحِ الْبُيُوتِ (الْعَائِلَاتِ) .
(الْقَاعِدَةُ الثَّامِنَةُ وَالْعِشْرُونَ) جَعْلُ سَدِّ ذَرَائِعِ الْفَسَادِ وَالشَّرِّ وَتَقْرِيرِ الْمَصَالِحِ وَإِقَامَةِ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ فِي تَنَازُعِ النَّاسِ بَعْضِهِمْ مَعَ بَعْضٍ مَنَاطًا لِلتَّشْرِيعِ، وَأَصْلًا مِنْ أُصُولِ الْأَحْكَامِ الِاجْتِهَادِيَّةِ، وَذَلِكَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى عَلَّلَ بِهِ شَرْعَهُ لِلْقِتَالِ، وَمِنَّتَهُ عَلَى نَبِيِّهِ دَاوُدَ وَجُنْدِهِ بِالنَّصْرِ عَلَى عَدُوِّهِمْ، وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ إِيتَائِهِ الْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ إِذْ قَالَ:(فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللهِ النَّاسِ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ)(251) وَفِي مَعْنَاهُ تَعْلِيلُ الْإِذْنِ لِلْمُسْلِمِينَ فِي الْقِتَالِ أَوَّلَ مَرَّةٍ بِآيَاتِ سُورَةِ الْحَجِّ الَّتِي اسْتَشْهَدْنَا بِهَا فِي الْقَاعِدَةِ الْعِشْرِينَ (وَلَوْلَا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيرًا)
(22: 40) وَمَا هُنَا أَعَمُّ؛ لِأَنَّهُ يَشْمَلُ دَرْءَ هَذِهِ الْمَفْسَدَةِ فِي الدِّينِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْفَسَادِ الدِّينِيِّ وَالدُّنْيَوِيِّ، وَهُوَ الْمُتَأَخِّرُ فِي النُّزُولِ.
(الْقَاعِدَةُ التَّاسِعَةُ وَالْعِشْرُونَ) أَنَّ الْإِيمَانَ بِلِقَاءِ اللهِ تَعَالَى فِي الْآخِرَةِ، وَالِاعْتِصَامَ بِالصَّبْرِ - الَّذِي هُوَ مِنْ أَرْكَانِ الْبِرِّ وَكَمَالِهِ مِنْ ثَمَرَاتِ الْإِيمَانِ - سَبَبَانِ مِنْ أَسْبَابِ نَصْرِ الْعَدَدِ الْقَلِيلِ عَلَى الْعَدَدِ الْكَثِيرِ وَذَلِكَ قَوْلُهُ عز وجل:(قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ)(249) .
(الْقَاعِدَةُ الثَّلَاثُونَ) تَحْرِيمُ أَكْلِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ فِي (الْآيَةِ 188) وَهِيَ أَصْلٌ لِكُلِّ الْمُحَرَّمَاتِ، وَمِنْ أَدِلَّتِهَا تَعْلِيلُ تَحْرِيمِ الرِّبَا بَعْدَ الْأَمْرِ بِتَرْكِ مَا كَانَ بَاقِيًا لِأَصْحَابِهِ مِنْهُ لَدَى الْمَدَنِيِّينَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:(وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ)(279) فَإِنَّ الَّذِي كَانَ يُقْرِضُ الْمُحْتَاجَ بِالرِّبَا إِلَى أَجَلٍ كَانَ يَقُولُ لَهُ إِذَا حَلَّ الْأَجَلُ: إِمَّا أَنْ تَقْضِيَ وَإِمَّا أَنْ تُرْبِيَ. فَإِنْ لَمْ يَجِدْ مَا يَقْضِي بِهِ أَنْسَأَ لَهُ فِي الدَّيْنِ إِلَى أَجَلٍ آخَرَ بِمِثْلِ الرِّبَا الْأَوَّلِ فَإِذَا حَلَّ الْأَجَلُ الثَّانِي قَالَ لَهُ: إِمَّا أَنْ تَقْضِيَ وَإِمَّا أَنْ تُرْبِيَ - وَهَلُمَّ جَرَّا - فَكُلُّ مَا يَأْخُذُهُ مِنْ هَذِهِ الزِّيَادَاتِ
بَاطِلٌ لَا مُقَابِلَ لَهُ وَهُوَ ظُلْمٌ، وَأَمَّا الْعُقُودُ وَالْمُعَامَلَاتُ الَّتِي لَا ظُلْمَ فِيهَا بِأَكْلِ مَالِ أَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ بِالْبَاطِلِ فَلَيْسَتْ مِنَ الرِّبَا.
(الْقَاعِدَةُ الْحَادِيَةُ وَالثَّلَاثُونَ) أَنَّ عَمَلَ كُلِّ إِنْسَانٍ لَهُ أَوْ عَلَيْهِ لَا يُجْزَى إِلَّا بِهِ وَلَا يُجْزَى بِهِ سِوَاهُ، فَلَا يَنْفَعُهُ عَمَلُ غَيْرِهِ وَلَا يَضُرُّهُ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي خَاتِمَةِ هَذِهِ السُّورَةِ:(لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ)(286) وَيُعَزِّزُهَا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الَّتِي وَرَدَ أَنَّهَا آخِرُ آيَةٍ نَزَلَتْ مِنَ الْقُرْآنِ، وَأَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِوَضْعِهَا بَعْدَ آيَاتِ الرِّبَا مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ وَهِيَ:(وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ)(281) وَإِنْ لَمْ تَرِدْ بِصِيغَةِ الْحَصْرِ، وَفِيهِ آيَاتٌ كَثِيرَةٌ، فَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ مِنْ قَوَاعِدِ الْعَقَائِدِ فِي بَعْضِ السُّوَرِ الْمَكِّيَّةِ الَّتِي نَزَلَتْ قَبْلَهَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ النَّجْمِ:(أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى)(53: 38 - 39) إِلَخْ وَكَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ: (وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى)(6: 164) وَيَجِدُ الْقَارِئُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ مِنَ الْجُزْءِ الثَّامِنِ مَا يُؤَيِّدُ هَذِهِ الْقَاعِدَةَ مِنَ الشَّوَاهِدِ وَمَا جَعَلُوهُ مُعَارِضًا لَهَا مُخَصِّصًا لِعُمُومِهَا
مِنَ انْتِفَاعِ الْمَيِّتِ وَالْحَيِّ بِعَمَلِ غَيْرِهِ وَمَا يَصِحُّ مِنْهُ وَمَا لَا يَصِحُّ، وَكَوْنِ الصَّحِيحِ مِنْهُ لَا يُنَافِي عُمُومَ الْقَاعِدَةِ.
(الْقَاعِدَةُ الثَّانِيَةُ وَالثَّلَاثُونَ) بَيَانُ بُطْلَانِ الشَّفَاعَةِ الْوَثَنِيَّةِ الَّتِي كَانَتْ أَسَاسَ شِرْكِ الْعَرَبِ وَمَنْ قَبْلَهُمْ، وَهِيَ التَّقَرُّبُ إِلَى اللهِ بِالدُّعَاءِ وَغَيْرِهِ، لِيَشْفَعُوا لَهُمْ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى فَيَكْشِفَ مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ، وَيُؤْتِيَهُمْ مَا طَلَبُوا مِنْ نَفْعٍ، وَزَادَ عَلَيْهِمْ مُشْرِكُو أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُؤْمِنُونَ بِالْبَعْثِ الِاعْتِمَادَ عَلَى الشُّفَعَاءِ بِالنَّجَاةِ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ، قَالَ تَعَالَى:(وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللهِ)(10: 18) الْآيَةَ. وَقَدْ نَفَى اللهُ تَعَالَى هَذِهِ الشَّفَاعَةَ بِقَوْلِهِ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ خِطَابًا لِهَذِهِ الْأُمَّةِ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ)(254) وَقَوْلِهِ فِي خِطَابِ بَنِي إِسْرَائِيلَ: (وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ)(48) وَفِي مَعْنَاهَا (آيَةُ 123) وَأَمَّا الشَّفَاعَةُ الثَّابِتَةُ فِي الْأَحَادِيثِ فَهِيَ غَيْرُ هَذِهِ وَلَا تُنَافِي التَّوْحِيدَ، وَكَوْنُ الشَّفَاعَةِ لِلَّهِ جَمِيعًا سَيَأْتِي بَيَانُهَا.
(الْقَاعِدَةُ الثَّالِثَةُ وَالثَّلَاثُونَ) بِنَاءُ أُصُولِ الدِّينِ فِي الْعَقَائِدِ وَحِكْمَةِ التَّشْرِيعِ عَلَى إِدْرَاكِ الْعَقْلِ لَهَا وَاسْتِبَانَتِهِ لِمَا فِيهَا مِنَ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ وَمَصَالِحِ الْعِبَادِ، وَسَدِّ ذَرَائِعِ الْفَسَادِ، وَالشَّاهِدُ عَلَيْهِ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَى تَوْحِيدِهِ بِآيَاتِهِ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا:(إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) - إِلَى قَوْلِهِ: - (لِآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)(164) ثُمَّ قَوْلُهُ
فِي إِبْطَالِ التَّقْلِيدِ: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوْ لَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ)(170) وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى بَعْدَ ذِكْرِ طَائِفَةٍ مِنَ الْأَحْكَامِ الْعَمَلِيَّةِ (كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ)(242) .
(يَقُولُ مُحَمَّدٌ رَشِيدٌ) : هَذَا مَا فَتَحَ اللهُ بِهِ عَلَيَّ بِتَصَفُّحِ صَحَائِفِ السُّورَةِ دُونَ تِلَاوَتِهَا وَيُمْكِنُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ بِالتَّأَمُّلِ فِيهَا وَتُدَبُّرِهَا، وَإِنَّمَا وَعَدْنَا بِتَلْخِيصِهَا بِالْإِجْمَالِ دُونَ التَّفْصِيلِ، وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ.
(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ)
(الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ)
(الم) هُوَ وَأَمْثَالُهُ أَسْمَاءٌ لِلسُّوَرِ الْمُبْتَدَأَةِ بِهِ، وَلَا يَضُرُّ وَضْعُ الِاسْمِ الْوَاحِدِ كَـ (الم) لِعِدَّةِ سُوَرٍ؛ لِأَنَّهُ مِنَ الْمُشْتَرَكِ الَّذِي يُعَيِّنُ مَعْنَاهُ اتِّصَالُهُ بِمُسَمَّاهُ، وَحِكْمَةُ التَّسْمِيَةِ وَالِاخْتِلَافِ فِي (الم) وَ (المص) نُفَوِّضُ الْأَمْرَ إِلَى الْمُسَمِّي سبحانه وتعالى ((وَيَسَعُنَا فِي ذَلِكَ مَا وَسِعَ صَحَابَةَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَتَابِعِيهِمْ، وَلَيْسَ مِنَ الدِّينِ فِي شَيْءٍ أَنْ يَتَنَطَّعَ مُتَنَطِّعٌ فَيَخْتَرِعَ مَا يَشَاءُ مِنَ الْعِلَلِ الَّتِي قَلَّمَا يَسْلَمُ مُخْتَرِعُهَا مِنَ الزَّلَلِ)) .
هَذَا مُلَخَّصُ مَا قَالَهُ شَيْخُنَا الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ، وَأَقُولُ الْآنَ:
أَوَّلًا - إِنَّ هَذِهِ الْحُرُوفَ تُقْرَأُ مُقَطَّعَةً بِذِكْرِ أَسْمَائِهَا لَا مُسَمَّيَاتِهَا، فَنَقُولُ: أَلِفْ، لَامْ، مِيمْ، سَاكِنَةَ الْأَوَاخِرِ؛ لِأَنَّهَا غَيْرُ دَاخِلَةٍ فِي تَرْكِيبِ الْكَلَامِ فَتُعْرَبُ بِالْحَرَكَاتِ.
ثَانِيًا - إِنَّ عَدَمَ إِعْرَابِهَا يُرَجِّحُ أَنَّ حِكْمَةَ افْتِتَاحِ بَعْضِ السُّوَرِ الْمَخْصُوصَةِ بِهَا لِلتَّنْبِيهِ لِمَا يَأْتِي بَعْدَهَا مُبَاشَرَةً مِنْ وَصْفِ الْقُرْآنِ وَالْإِشَارَةِ إِلَى إِعْجَازِهِ؛ لِأَنَّ الْمَكِّيَّ مِنْهَا كَانَ يُتْلَى عَلَى الْمُشْرِكِينَ لِلدَّعْوَةِ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَمِثْلُ هَذِهِ السُّورَةِ وَمَا بَعْدَهَا لِدَعْوَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَيْهِ وَإِقَامَةِ الْحُجَجِ عَلَيْهِمْ بِهِ، وَسَيَأْتِي تَوْضِيحُ ذَلِكَ بِالتَّفْصِيلِ فِي تَفْسِيرِ أَوَّلِ سُورَةِ (المص - الْأَعْرَافِ) .
ثَالِثًا - اقْتَصَرَ عَلَى جَعْلِ حِكْمَتِهَا الْإِشَارَةُ إِلَى إِعْجَازِ الْقُرْآنِ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ عُلَمَاءِ اللُّغَةِ وَفُنُونِهَا: كَالْفَرَّاءِ، وَقُطْرُبٍ، وَالْمُبَرِّدِ، وَالزَّمَخْشَرِيِّ، وَبَعْضِ عُلَمَاءِ الْحَدِيثِ: كَشَيْخِ الْإِسْلَامِ أَحْمَدَ تَقِيِّ الدِّينِ بْنِ تَيْمِيَّةَ، وَالْحَافِظِ الْمِزِّيِّ، وَأَطَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي بَيَانِهِ وَتَوْجِيهِهِ بِمَا يُرَاجَعُ فِي كَشَّافِهِ، وَفِي تَفْسِيرِ الْبَيْضَاوِيِّ وَغَيْرِهِ.
رَابِعًا - إِنَّ أَضْعَفَ مَا قِيلَ فِي هَذِهِ الْحُرُوفِ وَأَسْخَفَهُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا الْإِشَارَةُ بِأَعْدَادِهَا فِي حِسَابِ الْجُمَّلِ إِلَى مُدَّةِ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَوْ مَا يُشَابِهُ ذَلِكَ، وَرَوَى ابْنُ إِسْحَاقَ
حَدِيثًا فِي ذَلِكَ عَنْ بَعْضِ
الْيَهُودِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ ضَعِيفٌ مِنْ رِوَايَةِ الْكَلْبِيِّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ.
خَامِسًا - يَقْرُبُ مِنْ هَذَا مَا عُنِيَ بِهِ بَعْضُ الشِّيعَةِ مِنْ حَذْفِ الْمُكَرَّرِ مِنْ هَذِهِ الْحُرُوفِ وَصِيَاغَةِ جُمَلٍ مِمَّا بَقِيَ مِنْهَا فِي مَدْحِ عَلِيٍّ الْمُرْتَضَى - كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ - أَوْ تَفْضِيلِهِ وَتَرْجِيحِ خِلَافَتِهِ، وَقُوبِلُوا بِجُمَلٍ أُخْرَى مِثْلِهَا تَنْقُضُ ذَلِكَ كَمَا وَضَّحْنَاهُ فِي مَقَالَاتِنَا (الْمُصْلِحُ وَالْمُقَلِّدُ) .
سَادِسًا - إِنَّهُ لَا يَزَالُ يُوجَدُ فِي النَّاسِ - حَتَّى عُلَمَاءِ التَّارِيخِ وَاللُّغَاتِ مِنْهُمْ - مَنْ يَرَى أَنَّ فِي هَذِهِ الْحُرُوفِ رُمُوزًا إِلَى بَعْضِ الْحَقَائِقِ الدِّينِيَّةِ وَالتَّارِيخِيَّةِ سَتُظْهِرُهُ الْأَيَّامُ.
(ذَلِكَ الْكِتَابُ) الْكِتَابُ بِمَعْنَى الْمَكْتُوبِ: وَهُوَ اسْمُ جِنْسٍ لِمَا يُكْتَبُ، وَالْمُرَادُ بِالْكِتَابِ هَذِهِ الرُّقُومُ وَالنُّقُوشُ ذَاتُ الْمَعَانِي، وَالْإِشَارَةُ تُفِيدُ التَّعْيِينَ الشَّخْصِيَّ أَوِ النَّوْعِيَّ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ هُنَا نَوْعًا مِنْ أَنْوَاعِ الْكُتُبِ، بَلِ الْمُرَادُ كِتَابٌ مَعْرُوفٌ مَعْهُودٌ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِوَصْفِهِ، وَذَلِكَ الْعَهْدُ مَبْنِيٌّ عَلَى صِدْقِ الْوَعْدِ مِنَ اللهِ بِأَنَّهُ يُؤَيِّدُهُ بِكِتَابٍ (تَامٍّ كَامِلٍ كَافِلٍ لِطُلَّابِ الْحَقِّ بِالْهِدَايَةِ وَالْإِرْشَادِ فِي جَمِيعِ شُئُونِ الْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ) فَأَشَارَ بِذَلِكَ إِلَيْهِ، وَلَا يَضُرُّ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا (كُلُّهُ وَقْتَ نُزُولِ أَمْثَالِ هَذِهِ الْإِشَارَةِ، فَقَدْ يَكْفِي فِي صِحَّتِهَا وُجُودُ الْبَعْضِ، وَقَدْ كَانَ نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ جُمْلَةٌ عَظِيمَةٌ قَبْلَ نُزُولِ أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ وَأَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِكِتَابَتِهَا فَكُتِبَتْ وَحُفِظَتْ، فَالْإِشَارَةُ إِلَيْهَا إِشَارَةٌ إِلَيْهِ) بَلْ يَكْفِي فِي صِحَّةِ الْإِشَارَةِ أَنْ يُشَارَ إِلَى سُورَةِ الْبَقَرَةِ نَفْسِهَا؛ لِأَنَّهُ يَصِحُّ فِيهَا وَصْفُ (هُدًى لِلْمَتَّقِينَ) وَالْأَوَّلُ أَشْبَهُ، وَالْإِشَارَةُ إِلَى الْكِتَابِ كُلِّهِ عِنْدَ نُزُولِ بَعْضِهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ اللهَ تَعَالَى مُنْجِزٌ وَعْدَهُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِإِكْمَالِ الْكِتَابِ كُلِّهِ.
وَمِنْ حِكْمَةِ الْإِشَارَةِ إِلَيْهِ بِهَذَا الْكِتَابِ (أَيِ الْمَكْتُوبِ الْمَرْقُومِ) أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِكِتَابَتِهِ دُونَ غَيْرِهِ فَهُوَ الْكِتَابُ وَحْدَهُ، وَلَا يَضُرُّ أَنَّهُ عِنْدَ النُّزُولِ لَمْ يَكُنْ مَكْتُوبًا بِالْفِعْلِ، لِأَنَّكَ تَقُولُ: أَنَا أُمْلِي كِتَابًا، أَوْ هَلُمَّ أُمْلِ عَلَيْكَ كِتَابًا، وَالْإِشَارَةُ الْبَعِيدَةُ بِالْكَافِ يُرَادُ بِهَا بُعْدُ مَرْتَبَتِهِ فِي الْكَمَالِ، وَعُلُوُّهُ عَنْ مُتَنَاوَلِ قَرِيحَةِ شَاعِرٍ أَوْ مَقُولِ خَطِيبٍ قَوَّالٍ، وَالْبَعْدُ وَالْقُرْبُ فِي الْخِطَابِ الْإِلَهِيِّ إِنَّمَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى
الْمَخْلُوقِينَ، وَلَا يُقَالُ: إِنَّ شَيْئًا بَعِيدًا عَنْهُ تَعَالَى أَوْ قَرِيبًا مِنْهُ فِي الْمَكَانِ الْحِسِّيِّ؛ لِأَنَّ كُلَّ الْأَشْيَاءِ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ تَعَالَى سَوَاءٌ، وَإِنَّمَا الْقُرْبُ مِنْهُ وَالْبُعْدُ عَنْهُ تَعَالَى مَعْنَوِيٌّ، وَهُوَ أَقْرَبُ إِلَيْنَا مِنْ أَنْفُسِنَا بِعِلْمِهِ.
(لَا رَيْبَ فِيهِ) الرَّيْبُ وَالرِّيبَةُ: الشَّكُّ وَالظِّنَّةُ (التُّهْمَةُ) وَالْمَعْنَى: أَنَّ ذَلِكَ الْكِتَابُ مُبَرَّأٌ مِنْ وَصَمَاتِ الْعَيْبِ فَلَا شَكَّ فِيهِ، وَلَا رِيبَةَ تَعْتَرِيهِ، لَا مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ تَعَالَى،
وَلَا فِي كَوْنِهِ هَادِيًا مُرْشِدًا، وَيَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ فِي قُوَّةِ آيَاتِهِ وَنُصُوعِ بَيِّنَاتِهِ، بِحَيْثُ لَا يَرْتَابُ عَاقِلٌ مُنْصِفٌ وَغَيْرُ مُتَعَنِّتٍ وَلَا مُتَعَسِّفٍ فِي كَوْنِهِ هِدَايَةً مُفَاضَةً مِنْ سَمَاءِ الْحَقِّ.
مُهْدَاةً إِلَى الْخَلْقِ، عَلَى لِسَانِ أُمِّيٍّ لَمْ يَسْبِقْ لَهُ قَبْلَهُ الِاشْتِغَالُ بِشَيْءٍ مِنْ عُلُومِهِ، وَلَا الْإِتْيَانُ بِكَلَامٍ يَقْرُبُ مِنْهُ فِي بَلَاغَتِهِ، وَلَا أُسْلُوبِهِ حَتَّى بَعْدَ نُبُوَّتِهِ - وَلِهَذَا قَالَ فِيمَا يَأْتِي قَرِيبًا (وَإِن كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأَتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) (: 23) وَحَاصِلُهُ: أَنَّهُ كَذَلِكَ فِي كُلٍّ مِنْ نَظْمِهِ وَأُسْلُوبِهِ وَبَلَاغَتِهِ، وَمِنْ مَعَانِيهِ وَعُلُومِهِ وَتَأْثِيرِهِ فِي الْهِدَايَةِ - لَا يُمْكِنُ أَنْ تُوَجَّهَ إِلَيْهِ الشُّبْهَةُ، أَوْ تَحُومَ الرِّيبَةُ، سَوَاءٌ أَشَكَّ فِي ذَلِكَ أَحَدٌ بِجَهَالَتِهِ وَعَمَى بَصِيرَتِهِ، أَوْ بِتَكَلُّفِهِ ذَلِكَ عِنَادًا أَوْ تَقْلِيدًا أَمْ لَا.
(هُدًى لِلْمُتَّقِينَ) خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ وَالْهُدَى: مَصْدَرٌ فِي الْأَصْلِ كَالتُّقَى وَالسُّرَى، وَالْمُرَادُ بِالْهِدَايَةِ هُنَا: الدَّلَالَةُ عَلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ مَعَ الْمَعُونَةِ الْخَاصَّةِ وَالْأَخْذِ بِالْيَدِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ الْمُرَادِ مِنِ (اهْدِنَا الصِّرَاطَ) لِأَنَّ كَوْنَهُ هَادِيًا لِلْمُتَّقِينَ بِالْفِعْلِ غَيْرُ كَوْنِهِ هَادِيًا - دَالًّا - لِسَائِرِ النَّاسِ مِنْ غَيْرِ مُرَاعَاةِ أَخْذِهِمْ بِدَلَالَتِهِ، وَاسْتِقَامَتِهِمْ عَلَى طَرِيقَتِهِ، وَكَلِمَةُ (الْمُتَّقِينَ) مِنَ الِاتِّقَاءِ، وَالِاسْمُ: التَّقْوَى، وَأَصْلُ الْمَادَّةِ: وَقَى يَقِي، وَالْوِقَايَةُ مَعْرُوفَةُ الْمَعْنَى، وَهُوَ: الْبُعْدُ أَوِ التَّبَاعُدُ عَنِ الْمُضِرِّ أَوْ مُدَافَعَتُهُ، وَلَكِنْ نَجِدْ هَذَا الْحَرْفَ مُسْتَعْمَلًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى اللهِ تَعَالَى كَقَوْلِهِ:(وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ - وَاتَّقُوا اللهَ - فَاتَّقُوا اللهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) فَمَعْنَى اتِّقَاءِ اللهِ
تَعَالَى اتِّقَاءُ عَذَابِهِ وَعِقَابِهِ، وَإِنَّمَا تُضَافُ التَّقْوَى إِلَى اللهِ تَعَالَى تَعْظِيمًا لِأَمْرِ عَذَابِهِ وَعِقَابِهِ، وَإِلَّا فَلَا يُمْكِنُ لِأَحَدٍ أَنْ يَتَّقِيَ ذَاتَ اللهِ تَعَالَى وَلَا تَأْثِيرَ قُدْرَتِهِ، وَلَا الْخُضُوعَ الْفِطْرِيَّ لِمَشِيئَتِهِ.
وَمُدَافَعَةُ عَذَابِ اللهِ تَعَالَى تَكُونُ بِاجْتِنَابِ مَا نَهَى وَاتِّبَاعِ مَا أَمَرَ، وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِالْخَوْفِ مِنَ الْعَذَابِ وَمِنَ الْمُعَذِّبِ، فَالْخَوْفُ يَكُونُ ابْتِدَاءً مِنَ الْعَذَابِ وَفِي الْحَقِيقَةِ مِنْ مَصْدَرِهِ، فَالْمُتَّقِي: هُوَ مَنْ يَحْمِي نَفْسَهُ مِنَ الْعِقَابِ، وَلَا بُدَّ فِي ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُ نَظَرٌ وَرُشْدٌ يَعْرِفُ بِهِمَا أَسْبَابَ الْعِقَابِ وَالْآلَامِ فَيَتَّقِيهَا.
وَأَقُولُ الْآنَ: إِنَّ الْعِقَابَ الْإِلَهِيَّ الَّذِي يَجِبُ عَلَى النَّاسِ اتِّقَاؤُهُ قِسْمَانِ: دُنْيَوِيٌّ وَأُخْرَوِيٌّ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا يُتَّقَى بِاتِّقَاءِ أَسْبَابِهِ، وَهِيَ نَوْعَانِ: مُخَالَفَةُ دِينِ اللهِ وَشَرْعِهِ، وَمُخَالَفَةُ سُنَّتِهِ فِي نِظَامِ خَلْقِهِ.
فَأَمَّا عِقَابُ الْآخِرَةِ فَيُتَّقَى بِالْإِيمَانِ الصَّحِيحِ الْخَالِصِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَاجْتِنَابِ مَا يُنَافِي ذَلِكَ مِنَ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي وَالرَّذَائِلِ، وَذَلِكَ مُبَيَّنٌ فِي كِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَفْضَلُ مَا يُسْتَعَانُ بِهِ عَلَى فَهْمِهِمَا وَاتِّبَاعِهِمَا سِيرَةُ السَّلَفِ الصَّالِحِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعَيْنِ وَالْأَئِمَّةِ الْأَوَّلِينَ مِنْ آلِ الرَّسُولِ وَعُلَمَاءِ الْأَمْصَارِ.
وَأَمَّا عِقَابُ الدُّنْيَا فَيَجِبُ أَنْ يُسْتَعَانَ عَلَى اتِّقَائِهِ بِالْعِلْمِ بِسُنَنِ اللهِ تَعَالَى فِي هَذَا الْعَالَمِ، وَلَا سِيَّمَا سُنَنُ اعْتِدَالِ الْمِزَاجِ وَصِحَّةِ الْأَبْدَانِ - وَأَمْثِلَتُهَا ظَاهِرَةٌ - وَسُنَنُ الِاجْتِمَاعِ الْبَشَرِيِّ.
فَاتِّقَاءُ الْفَشَلِ وَالْخِذْلَانِ فِي الْقِتَالِ يَتَوَقَّفُ عَلَى مَعْرِفَةِ نِظَامِ الْحَرْبِ وَفُنُونِهَا، وَإِتْقَانِ آلَاتِهَا وَأَسْلِحَتِهَا الَّتِي ارْتَقَتْ فِي هَذَا الْعَصْرِ ارْتِقَاءً عَجِيبًا، وَهُوَ الْمُشَارُ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:(وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ)(8: 60) كَمَا يَتَوَقَّفُ عَلَى أَسْبَابِ الْقُوَّةِ الْمَعْنَوِيَّةِ مِنِ اجْتِمَاعِ الْكَلِمَةِ وَاتِّحَادِ الْأُمَّةِ وَالصَّبْرِ وَالثَّبَاتِ وَالتَّوَكُّلِ عَلَى اللهِ وَاحْتِسَابِ الْأَجْرِ عِنْدَهُ (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ)(8: 45 - 46) وَنَحْنُ نُبَيِّنُ مَعْنَى التَّقْوَى فِي الْقُرْآنِ فِي كُلِّ مَوْضُوعٍ بِمَا يُنَاسِبُهُ كَالتَّقْوَى فِي الْأَكْلِ مِنَ الطَّيِّبَاتِ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ: (5: 88) وَمِثْلُهُ فِي سِيَاقِ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ مِنْهَا (الْآيَةَ 90) وَغَيْرِ ذَلِكَ فَيُرَاجَعُ كُلُّ شَيْءٍ فِي مَوْضِعِهِ.
وَقَالَ شَيْخُنَا فِي بَيَانِ الْمُرَادِ بِهَؤُلَاءِ الْمُتَّقِينَ مَا مَعْنَاهُ:
كَانَ مِنَ الْجَاهِلِينَ مَنْ مَقَتَ عِبَادَةَ الْأَصْنَامِ وَأَدْرَكَ أَنَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يُرْضِيهِ الْخُضُوعُ لَهَا، وَأَنَّ الْإِلَهَ الْحَقَّ يُحِبُّ الْخَيْرَ وَيُبْغِضُ الشَّرَّ. فَكَانَ مِنْهُمْ مَنِ اعْتَزَلَ النَّاسَ لِذَلِكَ، وَكَانُوا لَا يَعْرِفُونَ مِنْ عِبَادَةِ اللهِ إِلَّا الِالْتِجَاءَ وَالِابْتِهَالَ وَتَعْظِيمَ جَانِبِ الرُّبُوبِيَّةِ، وَذَلِكَ مَا كَانَ يُسَمَّى صَلَاةً فِي لِسَانِهِمْ، وَبَعْضَ الْخَيْرَاتِ الَّتِي يَهْتَدِي إِلَيْهَا الْعَقْلُ فِي مُعَامَلَاتِ الْخَلْقِ.
وَكَانَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ وَصَفَهُمُ اللهُ تَعَالَى بِمِثْلِ قَوْلِهِ: (مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ)(3: 113 - 114) وَبِقَوْلِهِ: (وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ)(5: 82، 83) فَأَمْثَالُ هَؤُلَاءِ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ هُمُ الْمُرَادُ بِالْمُتَّقِينَ وَلَا حَاجَةَ إِلَى تَخْصِيصِ مَا جَاءَ فِي وَصْفِهِمْ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْهُمْ بَعْدَ الْإِسْلَامِ أَوْ بِالْمُسْلِمِينَ، بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الَّذِينَ كَانَ فِي قُلُوبِهِمُ اشْمِئْزَازٌ مِمَّا عَلَيْهِ أَقْوَامُهُمْ، وَفِي نُفُوسِهِمْ شَيْءٌ مِنَ التَّشَوُّفِ إِلَى هِدَايَةٍ يَهْتَدُونَ بِهَا، وَيَشْعُرُونَ بِاسْتِعْدَادِهِمْ لَهَا إِذَا جَاءَهُمْ شَيْءٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ تَعَالَى، فَالْمُتَّقُونَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِذَنْ هُمُ الَّذِينَ سَلِمَتْ فِطْرَتُهُمْ فَأَصَابَتْ عُقُولُهُمْ ضَرْبًا مِنَ الرَّشَادِ، وَوُجِدَ فِي أَنْفُسِهِمْ شَيْءٌ مِنَ الِاسْتِعْدَادِ لِتَلَقِّي نُورِ الْحَقِّ يَحْمِلُهُمْ عَلَى تَوَقِّي سُخْطِ اللهِ تَعَالَى وَالسَّعْيِ فِي مَرْضَاتِهِ بِحَسَبِ مَا وَصَلَ إِلَيْهِ عِلْمُهُمْ، وَأَدَّاهُمْ إِلَيْهِ نَظَرُهُمْ وَاجْتِهَادُهُمْ.
(الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ)
الْإِيمَانُ: هُوَ التَّصْدِيقُ الْجَازِمُ الْمُقْتَرِنُ بِإِذْعَانِ النَّفْسِ وَقَبُولِهَا وَاسْتِسْلَامِهَا، وَآيَتُهُ الْعَمَلُ بِمَا يَقْتَضِيهِ الْإِيمَانُ عِنْدَ عَدَمِ الصَّارِفِ الَّذِي يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ دَرَجَاتِ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْيَقِينِ، وَالْغَيْبُ: مَا غَابَ عِلْمُهُ عَنْهُمْ، كَذَاتِ اللهِ تَعَالَى وَمَلَائِكَتِهِ وَالدَّارِ
الْآخِرَةِ. وَإِقَامَةُ الصَّلَاةِ: الْإِتْيَانُ بِهَذِهِ الْعِبَادَةِ الرُّوحِيَّةِ الْبَدَنِيَّةِ عَلَى أَكْمَلِ وَجْهٍ مُمْكِنٍ. وَلِلصَّلَاةِ صُورَةٌ وَرُوحٌ، فَصُورَتُهَا عِبَادَةُ الْأَعْضَاءِ، وَرُوحُهَا عِبَادَةُ الْقَلْبِ - كَمَا يُعْلَمُ مِمَّا يَأْتِي - وَجُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ فِي الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْعَرَبِ أَوْ مُطْلَقًا، وَمَا بَعْدَهَا فِيمَنْ أَسْلَمَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ خَاصَّةً، وَفَسَّرَهُمَا شَيْخُنَا تَفْسِيرًا هُوَ أَقْرَبُ إِلَى مَدْلُولِ النَّظْمِ، وَإِنْ كَانَ أَبْعَدَ عَنِ الرِّوَايَاتِ فَقَالَ مَا مِثَالُهُ:
النَّاسُ قِسْمَانِ: مَادِّيٌّ لَا يُؤْمِنُ إِلَّا بِالْحِسِّيَاتِ، وَغَيْرُ مَادِّيٍّ يُؤْمِنُ بِمَا لَا يُدْرِكُهُ الْحِسُّ، أَيْ بِمَا غَابَ عَنِ الْمَشَاعِرِ مَتَى أَرْشَدَ إِلَيْهِ الدَّلِيلُ أَوِ الْوِجْدَانُ السَّلِيمُ. وَلَا شَكَّ أَنَّ الْإِيمَانَ بِاللهِ وَمَلَائِكَتِهِ - وَهِيَ جُنُودٌ غَائِبَةٌ لَهَا مَزَايَا وَخَوَاصُّ يَعْلَمُهَا سبحانه وتعالى وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ: إِيمَانٌ بِالْغَيْبِ. وَمَنْ لَا يُؤْمِنُ بِاللهِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَهْتَدِيَ بِالْقُرْآنِ، وَمَنْ يَتَصَدَّى لِهِدَايَتِهِ لَا بُدَّ لَهُ أَنْ يُقِيمَ الْحُجَّةَ الْعَقْلِيَّةَ عَلَى أَنَّ لِهَذَا الْعَالَمِ إِلَهًا مُتَّصِفًا بِصِفَاتِ الْكَمَالِ الَّتِي لَا تَتَحَقَّقُ الْأُلُوهِيَّةُ إِلَّا بِهَا ثُمَّ يُقْنِعُهُ بِأَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ هِدَايَةٌ مِنْ لَدُنْهُ تَعَالَى. لِذَلِكَ وَصَفَ اللهُ الْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يَهْتَدُونَ بِالْقُرْآنِ بِقَوْلِهِ:
(الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) وَالْإِيمَانُ بِالْغَيْبِ: هُوَ الِاعْتِقَادُ بِمَوْجُودٍ وَرَاءَ الْمَحْسُوسِ، وَقَدْ كَتَبَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي صَاحِبِهِ مَا نَصَّهُ:
(وَصَاحِبُ هَذَا الِاعْتِقَادِ وَاقِفٌ عَلَى طَرِيقِ الرَّشَادِ وَقَائِمٌ عَلَى أَوَّلِ النَّهْجِ، لَا يَحْتَاجُ إِلَّا إِلَى مَنْ يَدُلُّهُ عَلَى الْمَسْلَكِ، وَيَأْخُذُهُ بِيَدِهِ إِلَى الْغَايَةِ، فَإِنَّ مَنْ يَعْتَقِدُ بِأَنَّ وَرَاءَ الْمَحْسُوسَاتِ مَوْجُودَاتٍ يُصَدِّقُ بِهَا الْعَقْلُ - وَإِنْ كَانَتْ لَا يَأْتِي عَلَيْهَا الْحِسُّ - إِذَا أَقَمْتَ لَهُ الدَّلِيلَ عَلَى وُجُودِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْمُسْتَعْلِي عَنِ الْمَادَّةِ وَلَوَاحِقِهَا، الْمُتَّصِفِ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ، سَهُلَ عَلَيْهِ التَّصْدِيقُ وَخَفَّ عَلَيْهِ النَّظَرُ فِي جَلِيِّ الْمُقَدِّمَاتِ وَخَفِيِّهَا، وَإِذَا جَاءَ الرَّسُولُ بِوَصْفِ الْيَوْمِ الْآخِرِ أَوْ بِذِكْرِ عَالَمٍ مِنَ الْعَوَالِمِ الَّتِي اسْتَأْثَرَ اللهُ بِعِلْمِهَا، كَعَالَمِ الْمَلَائِكَةِ - مَثَلًا - لَمْ يَشُقَّ عَلَى نَفْسِهِ تَصْدِيقُ مَا جَاءَ بِهِ الْخَبَرُ بَعْدَ ثُبُوتِ النُّبُوَّةِ، لِهَذَا جَعَلَ اللهُ سُبْحَانَهُ هَذَا الْوَصْفَ فِي مُقَدِّمَةِ أَوْصَافِ الْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يَجِدُونَ فِي الْقُرْآنِ هُدًى لَهُمْ.
(وَأَمَّا مَنْ لَا يَعْرِفُ مِنَ الْمَوْجُودِ إِلَّا الْمَحْسُوسَ وَيَظُنُّ أَنْ لَا شَيْءَ وَرَاءَ الْمَحْسُوسَاتِ وَمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ، فَنَفْسُهُ تَنْفِرُ مِنْ ذِكْرِ مَا وَرَاءَ مَشْهُودِهِ أَوْ مَا يُشْبِهُ مَشْهُوُدَهُ،
وَقَلَّمَا تَجِدُ السَّبِيلَ إِلَى قَلْبِهِ إِذَا بَدَأْتَهُ بِدَعْوَاكَ، نَعَمْ قَدْ تُوصِلُكَ الْمُجَاهَدَةُ بَعْدَ مُرُورِ الزَّمَانِ فِي إِيرَادِ الْمُقَدِّمَاتِ الْبَعِيدَةِ، وَالْأَخْذِ بِهِ فِي الطُّرُقِ الْمُخْتَلِفَةِ، إِلَى تَقْرِيبِهِ مِمَّا تَطْلُبُ، وَلَكِنْ هَيْهَاتَ أَنْ يَنْصُرَكَ الصَّبْرُ، أَوْ يُخْضِعَهُ الْقَهْرُ حَتَّى يَتِمَّ لَكَ مِنْهُ الْأَمْرُ، فَمِثْلُ هَذَا إِذَا عُرِضَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ نَبَا عَنْهُ سَمْعُهُ، وَلَمْ يَجْمُلْ مِنْ نَفْسِهِ وَقْعُهُ، فَكَيْفَ يَجِدُ فِيهِ هِدَايَةً أَوْ مُنْقِذًا مِنْ غَوَايَةٍ؟) .
(وَلَمَّا كَانَ الْإِيمَانُ بِالْغَيْبِ عِنْدَ النَّاسِ عَلَى ذَلِكَ الِاسْتِسْلَامِ التَّقْلِيدِيِّ الَّذِي لَمْ يَأْخُذْ مِنَ النَّفْسِ إِلَّا مَا أَخَذَ اللَّفْظُ مِنَ اللِّسَانِ، وَلَيْسَ لَهُ أَثَرٌ فِي الْأَفْعَالِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقَعْ تَحْتَ نَظَرِ الْعَقْلِ، وَلَمْ يَلْحَظْهُ وُجْدَانُ الْقَلْبِ، بَلْ أُغْلِقَتْ عَلَيْهِ خِزَانَةُ الْوَهْمِ، وَمِثْلُ هَذَا الَّذِي يُسَمُّونَهُ إِيمَانًا لَا يُفِيدُ فِي إِعْدَادِ الْقَلْبِ لِلِاهْتِدَاءِ بِالْقُرْآنِ، لَمَّا كَانَ هَذَا شَأْنَهُمْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنَا بِبَيَانٍ يُشْعِرُ بِحَقِيقَةِ مَا أَرَادَهُ تَعَالَى مِنْ مَعْنَى الْإِيمَانِ) فَذَكَرَ عَلَامَاتِ الْمُؤْمِنِينَ بِالْغَيْبِ الَّذِينَ يَنْتَفِعُونَ بِهِدَايَةِ الْقُرْآنِ بِالْجُمَلِ الْآتِيَةِ، قَالَ:(وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ) إِلَخْ، الصَّلَاةُ: إِظْهَارُ الْحَاجَةِ وَافْتِقَارٌ إِلَى الْمَعْبُودِ بِالْقَوْلِ أَوِ الْعَمَلِ أَوْ كِلَيْهِمَا، وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِمُ ((الصَّلَاةُ مَعْنَاهَا الدُّعَاءُ)) لِأَنَّ إِظْهَارَ الْحَاجَةِ إِلَى الْعَظِيمِ الْكَرِيمِ وَلَوْ بِالْفِعْلِ فَقَطِ الْتِمَاسٌ لِلْحَاجَةِ وَاسْتِدْرَارٌ لِلنِّعْمَةِ، أَوْ طَلَبٌ لِدَفْعِ النِّقْمَةِ، أَرَأَيْتُمْ أُولَئِكَ الَّذِينَ يَقِفُونَ بَيْنَ أَيْدِي الْمُلُوكِ نَاكِسِي رُءُوسِهِمْ حَانِيِي ظُهُورِهِمْ، وَتَارَةً يَقَعُونَ عَلَى أَقْدَامِهِمْ يُقَبِّلُونَهَا، أَلَيْسَ الْبَاعِثَ عَلَى هَذَا الْعَمَلِ إِمَّا خَوْفٌ مِنْ عُقُوبَةٍ يَطْلُبُونَ بِهِ دَفْعَهَا، وَإِمَّا حَذَرٌ عَلَى نِعْمَةٍ يَتَوَقَّوْنَ سَلْبَهَا وَرَفْعَهَا، فَيَلْتَمِسُونَ بَقَاءَهَا وَيَرْجُونَ زِيَادَتَهَا وَنَمَاءَهَا؟ .
هَذِهِ الصَّلَاةُ كَانَتْ تُوجَدُ عِنْدَ بَعْضِ الْجَاهِلِيِّينَ وَهُمُ الَّذِينَ كَانُوا يُعْرَفُونَ بِالْحَنِيفِيِّينَ وَالْحُنَفَاءِ، وَعِنْدَ بَعْضِ أَهْلِ الْكِتَابِ. وَكَتَبَ الْأُسْتَاذُ فِي وَصْفِهَا مَا نَصُّهُ:
(وَالصَّلَاةُ بِالْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرْنَاهُ قَدْ ظَهَرَ فِي الْإِسْلَامِ فِي أَفْضَلِ أَشْكَالِهِ وَهُوَ تِلْكَ الصَّلَاةُ الَّتِي فَرَضَهَا اللهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّ هَذِهِ الْأَقْوَالَ وَالْأَفْعَالَ الْمُفْتَتَحَةَ بِالتَّكْبِيرِ وَالْمُخْتَتَمَةَ بِالتَّسْلِيمِ عَلَى النَّحْوِ الَّذِي جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ الْمُتَوَاتِرَةُ مِنْ أَفْضَلِ مَا يُعَبَّرُ بِهِ عَنِ الْإِحْسَاسِ بِالْحَاجَةِ إِلَى الْمَعْبُودِ، وَشُعُورِ الْأَنْفُسِ بِعَظَمَتِهِ لَوْ أَقَامَهَا الْمُصَلُّونَ وَأَتَوْا بِهَا عَلَى وَجْهِهَا) وَلِذَلِكَ قَالَ: (وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ) وَلَمْ يَقُلْ: يُصَلُّونَ،
وَفَرْقٌ بَيْنَهُمَا، فَإِنَّ الصَّلَاةَ مَتَى حُدِّدَتْ بِكَيْفِيَّةٍ مَخْصُوصَةٍ يُقَالُ لِمَنْ يُؤَدِّيهَا بِتِلْكَ الْكَيْفِيَّةِ: إِنَّهُ صَلَّى، وَإِنْ كَانَ عَمَلُهُ هَذَا خَلْوًا مِنْ مَعْنَى الصَّلَاةِ وَقِوَامِهَا الْمَقْصُودِ مِنَ الْهَيْئَةِ الظَّاهِرَةِ، فَاحْتِيجَ إِلَى لَفْظٍ يَدُلُّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى الَّذِي بِهِ قِوَامُ الصَّلَاةِ، وَهُوَ مَا عَبَّرَ عَنْهُ الْقُرْآنُ بِلَفْظِ الْإِقَامَةِ. وَقَدْ قَالُوا: إِنَّ إِقَامَةَ الصَّلَاةِ عِبَارَةٌ عَنِ الْإِتْيَانِ بِجَمِيعِ حُقُوقِهَا مِنْ كَمَالِ الطَّهَارَةِ وَاسْتِيفَاءِ الْأَرْكَانِ وَالسُّنَنِ. وَهُوَ لَا يَعْدُو
وَصْفَ الصُّورَةِ الظَّاهِرَةِ، وَإِنَّمَا قِوَامُ الصَّلَاةِ الَّذِي يَحْصُلُ بِالْإِقَامَةِ: هُوَ التَّوَجُّهُ إِلَى اللهِ تَعَالَى وَالْخُشُوعُ الْحَقِيقِيُّ لَهُ، وَالْإِحْسَاسُ بِالْحَاجَةِ إِلَيْهِ تَعَالَى.
وَكَتَبَ شَيْخُنَا عِنْدَ تَفْسِيرِ الصَّلَاةِ هُنَا بِمَا تَقَدَّمَ أَخْذًا عَنْهُ مَا نَصُّهُ:
(فَإِذَا خَلَتْ صُورَةُ الصَّلَاةِ مِنْ هَذَا الْمَعْنَى لَمْ يَصْدُقْ عَلَى الْمُصَلِّي أَنَّهُ أَقَامَ الصَّلَاةَ، فَإِنَّهُ قَدْ هَدَمَهَا بِإِخْلَائِهَا مِنْ عِمَادِهَا، وَقَتَلَهَا بِسَلْبِهَا رُوحَهَا، وَمِنْ غَرِيبِ مَزَاعِمِ مَنْ يُسَمُّونَ أَنْفُسَهُمْ بِالْمُسْلِمِينَ: أَنَّ حُضُورَ الْقَلْبِ فِي جَمِيعِ أَجْزَاءِ الصَّلَاةِ وَاسْتِشْعَارِ الْخَشْيَةِ مِنْ أَصْعَبِ مَا تَتَجَشَّمُهُ النَّفْسُ، بَلْ يَكَادُ مُسْتَحِيلًا لِغَلَبَةِ الْخَوَاطِرِ عَلَى ذِهْنِ الْمُصَلِّي.
هَذَا - وَأَخْشَى أَنْ يَكُونَ هَذَا جُحُودًا لِمَعْنَى الصَّلَاةِ وَإِنَّمَا عَرَضَ لَهُمْ هَذَا الْوَهْمُ الْبَاطِلُ مِنْ شِدَّةِ الْغَفْلَةِ وَاسْتِحْكَامِ الْعِلَّةِ، وَإِنِّي أَدُلُّهُمْ عَلَى طَرِيقَةٍ لَوْ أَخَذُوا بِهَا لَشُغِلُوا بِمَعْنَى الصَّلَاةِ حَتَّى عَنِ الصَّلَاةِ نَفْسِهَا، تِلْكَ الطَّرِيقَةُ: هِيَ أَلَّا يَنْطِقَ الْمُصَلِّي بِلَفْظٍ إِلَّا وَهُوَ يَسْتَوْرِدُ مَعْنَاهُ عَلَى ذِهْنِهِ، فَإِذَا قَالَ (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) يَسْتَحْضِرُ مَعْنَى الْحَمْدِ وَإِضَافَتَهُ إِلَى ذَاتِ اللهِ تَعَالَى، مَعَ وَصْفِهِ بِالرُّبُوبِيَّةِ لِجَمِيعِ الْأَكْوَانِ الْعُلْوِيَّةِ وَالسُّفْلِيَّةِ، وَإِذَا قَالَ مِثْلَ (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) تَصَوَّرَ مَعْنَى الْمُلْكِ وَتَعَلُّقَهُ بِذَلِكَ الْيَوْمِ يَوْمِ الْجَزَاءِ، وَهَكَذَا - فَإِذَا أَخَذَ الْمُصَلِّيَ عَلَى نَفْسِهِ أَنْ يَتَصَوَّرَ الْمَعَانِيَ مِنْ أَلْفَاظِهَا الَّتِي يَنْطِقُ بِهَا فَقَدْ أَقَامَ الصَّلَاةَ، أَمَّا وَهُوَ يَنْطِقُ وَلَا يَفْقَهُ، وَلَا يَلْحَظُ بِذِهْنِهِ مَعْنَى لَفْظِ مَا يَقُولُ، فَكَيْفَ يَزْعُمُ أَنَّهُ يُصَلِّي، فَضْلًا عَنْ أَنَّهُ يُقِيمُ الصَّلَاةَ؟) .
(وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) أَقُولُ: الرِّزْقُ فِي اللُّغَةِ: النَّصِيبُ وَالْعَطَاءُ، وَيُطْلَقُ عَلَى الْحِسِّيِّ وَالْمَعْنَوِيِّ، كَالْمَالِ وَالْوَلَدِ وَالْعِلْمِ وَالتَّقْوَى، وَيُخَصُّ بِأُمُورِ الْمَعَاشِ بِقَرِينَةٍ حَالِيَّةٍ أَوْ لَفْظِيَّةٍ، وَقَالَ عُلَمَاءُ أَهْلِ السُّنَّةِ: الرِّزْقُ مَا انْتُفِعَ بِهِ حَلَالًا كَانَ أَوْ حَرَامًا، وَخَصَّهُ
الْمُعْتَزِلَةُ بِالْحَلَالِ، وَنَفَاقُ الشَّيْءِ: كَنَفَادِهِ، وَأَنْفَقَهُ: جَعَلَهُ يَنْفُقُ بِصَرْفِهِ وَإِخْرَاجِهِ مِنْ يَدِهِ، وَقَالَ الْجُمْهُورُ: إِنَّ الْإِنْفَاقَ هُنَا يَشْمَلُ النَّفَقَةَ الْوَاجِبَةَ عَلَى الْأَهْلِ وَالْوَلَدِ وَذِي الْقُرْبَى وَصَدَقَةَ التَّطَوُّعِ، إِذِ الْآيَةُ نَزَلَتْ قَبْلَ فَرْضِ الزَّكَاةِ الْمُعَيَّنَةِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى:(وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ) يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّفَقَةَ الْمَشْرُوعَةَ تَكُونُ بَعْضَ مَا يَمْلِكُ الْإِنْسَانُ لَا كُلَّ مَا يَمْلِكُ - فَهُوَ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الِاقْتِصَادِ، وَالْإِنْفَاقُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَظْهَرُ آيَاتِ الْإِيمَانِ الصَّحِيحِ، وَقَالَ شَيْخُنَا شَارِحًا ذَلِكَ عَلَى طَرِيقَتِهِ بِمَا مِثَالُهُ:
هَذَا الْوَصْفُ مِنْ أَقْوَى أَمَارَاتِ الْإِيمَانِ بِالْغَيْبِ؛ لِأَنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ يَأْتُونَ بِضُرُوبِ الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ كَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ، وَمَتَى عَرَضَ لَهُمْ مَا يَقْتَضِي بَذْلَ شَيْءٍ مِنَ الْمَالِ لِلَّهِ تَعَالَى يُمْسِكُونَ وَلَا تَسْمَحُ أَنْفُسُهُمْ بِالْبَذْلِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالْإِنْفَاقِ هُنَا مَا يَكُونُ عَلَى الْأَهْلِ وَالْوَلَدِ، وَلَا مَا يُسَمُّونَهُ بِالْجُودِ وَالْكَرَمِ، كَقِرَى الضُّيُوفِ ابْتِغَاءَ عِوَضٍ كَالشُّهْرَةِ وَالْجَاهِ، أَوِ الْأُنْسِ بِالْأَصْحَابِ؛ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ آثَارِ الْإِيمَانِ بِالْغَيْبِ، وَإِنَّمَا هُوَ الْإِنْفَاقُ النَّاشِئُ عَنْ شُعُورٍ بِأَنَّ اللهَ تَعَالَى هُوَ الَّذِي رَزَقَهُ وَأَنْعَمَ عَلَيْهِ بِهِ، وَأَنَّ الْفَقِيرَ الْمَحْرُومَ عَبْدُ اللهِ مِثْلُهُ، وَأَنَّهُ حُرِمَ مِنْ سَعَةِ
الْعَيْشِ لِضَعْفٍ أَوْ حِرْمَانٍ مِنَ الْأَسْبَابِ الَّتِي تُوَصِّلُ إِلَى الرِّزْقِ (أَوْ عَنْ إِحْسَاسٍ بِأَنَّ مَصْلَحَةً مِنْ مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ وَمَنْفَعَةً مِنْ مَنَافِعِهِمُ الْعَامَّةِ لَا تَقُومُ أَوْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِمْ إِلَّا بِبَذْلِ الْمَالِ، وَقَدْ أَوْجَبَ اللهُ عَلَى مَنْ أُوتِيَ الْمَالَ أَنْ يُنْفِقَ مِنْهُ فِي ذَلِكَ السَّبِيلِ وَهُوَ أَفْضَلُ سُبُلِ اللهِ) فَمَنْ يَجِدُ مِنْ نَفْسِهِ دَاعِيَةً لِبَذْلِ أَحَبِّ الْأَشْيَاءِ إِلَيْهِ - وَهُوَ مَالُهُ - ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللهِ تَعَالَى وَقِيَامًا بِشُكْرِهِ، وَرَحْمَةً لِأَهْلِ الْعَوَزِ وَالْبَائِسِينَ مِنْ خَلْقِهِ، فَهُوَ لَا شَكَّ مُسْتَعِدٌّ لِقَبُولِ هِدَايَةِ الْقُرْآنِ أَتَمَّ الِاسْتِعْدَادَ، حَتَّى إِذَا مَا دُعِيَ إِلَيْهِ لَبَّى وَأَجَابَ، وَأَسْلَمَ إِلَى اللهِ تَعَالَى وَأَنَابَ.
فَهَذَا بَيَانُ حَالِ الْفِرْقَةِ الْأَوْلَى مِمَّنْ يَهْتَدِي بِالْقُرْآنِ فِعْلًا، وَيَشْمَلُهَا لَفْظُ الْمُتَّقِينَ بِالْمَعْنَى السَّابِقِ، وَكَانَ مِنْهُمْ بَعْضُ الْعَرَبِ الْحُنَفَاءِ، وَبَعْضُ أَهْلِ الْكِتَابِ الصُّلَحَاءِ كَمَا سَبَقَ بَيَانُهُ، وَالْمُرَادُ مِنْ كَوْنِ الْقُرْآنِ هُدًى لِهَذِهِ الْفِرْقَةِ أَنَّهَا مُسْتَعِدَّةٌ لِقَبُولِهِ، وَمُهَيَّأَةٌ لِلِاسْتِرْشَادِ بِهِ؛ لِأَنَّ الْإِيمَانَ الْإِجْمَالِيَّ بِاللهِ وَبِحَيَاةٍ أُخْرَى بَعْدَ هَذِهِ الْحَيَاةِ يُوَفَّى النَّاسُ فِيهَا أُجُورَهُمْ بِحَسَبِ أَعْمَالِهِمُ الْبَدَنِيَّةِ وَالنَّفْسِيَّةِ، وَاتِّقَاءَ مَا يَحُولُ دُونَ
السَّعَادَةِ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ بِحَسَبِ الِاجْتِهَادِ النَّاقِصِ وَالتَّعْلِيمِ الَّذِي لَمْ يَقْتَنِعْ بِهِ الْعَقْلُ، وَلَمْ تَسْكُنْ إِلَيْهِ النَّفْسُ، وَقَدْ هَيَّأَهُمْ لِقَبُولِ الْقُرْآنِ وَأَنْ يَقْتَبِسُوا مِنْ نُورِهِ مَا يَذْهَبُ بِظُلُمَاتِ الْجَهْلِ وَالْحَيْرَةِ، وَيَمْنَحُ الْأَرْوَاحَ مَا تَتَشَوَّفُ إِلَيْهِ بِمُقْتَضَى الْفِطْرَةِ.
وَبَعْدَ أَنَّ بَيَّنَ حَالَ هَذِهِ الْفِرْقَةِ الَّتِي يَكُونُ الْكِتَابُ هُدًى لَهَا (يُخْرِجُهَا مِنْ ظُلُمَاتِ الشَّكِّ إِلَى نُورِ الْيَقِينِ، وَيَنْكُبُ بِهَا عَنْ مَهَابِّ رِيَاحِ الْفِكْرِ إِلَى مُسْتَقَرِّ السِّكِّينَةِ وَمُسْتَكَنِّ الطُّمَأْنِينَةِ، بِمَا تَتَعَرَّفُهُ النَّفْسُ مِنْ جَانِبِ الْقُدُسِ) عَطَفَ عَلَيْهَا بَيَانَ حَالِ الْفِرْقَةِ الَّتِي اهْتَدَتْ بِهِ فِعْلًا، وَصَارَ إِمَامًا لَهَا تَتْبَعُهُ فِي جَمِيعِ أَعْمَالِهَا، دُونَ أَنْ تَغْمُضَ عَيْنُهَا عَنْهُ بَعْدَ أَنْ أَضَاءَ لَهَا مَا أَضَاءَ مِنْهُ، فَقَالَ عَزَّ مِنْ قَائِلٍ:
(وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ)
أَقُولُ: رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُؤْمِنِينَ هُنَا مَنْ يُؤْمِنُ بِالنَّبِيِّ وَالْقُرْآنِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَبِالْمُؤْمِنِينَ فِيمَا قَبْلَهَا مَنْ يُؤْمَنُ مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَآخَرُونَ، وَعَنْ مُجَاهِدٍ وَأَبِي الْعَالِيَةِ وَالرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ وَقَتَادَةَ: أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْآيَتَيْنِ قِسْمٌ وَاحِدٌ، وَهُوَ كُلُّ مُؤْمِنٍ، وَإِنَّمَا تَعَدَّدَ مَا يُؤْمِنُونَ بِهِ، فَالْعَطْفُ فِيهِمَا عَطْفُ الصِّفَاتِ لَا عَطْفُ الْمَوْصُوفِينَ، وَثَمَّ قَوْلٌ ثَالِثٌ شَاذٌّ، وَهُوَ: أَنَّ الْآيَتَيْنِ فِي مُؤْمِنِي أَهْلِ الْكِتَابِ، وَقَدْ بَيَّنَّا قَوْلَ شَيْخِنَا وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ. وَالْمُرَادُ عَلَى كُلِّ رَأْيٍ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى:
(وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ) الْإِيمَانُ التَّفْصِيلِيُّ بِكُلِّ مَا أَنْزَلَهُ اللهُ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ:(وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ) فَيَكْفِي فِيهِ الْإِيمَانُ الْإِجْمَالِيُّ، وَقَالَ شَيْخُنَا مَا مِثَالُهُ:
هَذِهِ هِيَ الطَّبَقَةُ الثَّانِيَةُ مِنَ الْمُتَّقِينَ، وَأُعِيدَ لَفْظُ (الَّذِينَ) لِتَحْقِيقِ التَّمَايُزِ بَيْنَ الطَّبَقَتَيْنِ، وَهَذِهِ الطَّبَقَةُ أَرْقَى مِنَ الطَّبَقَةِ الْأُولَى؛ لِأَنَّ أَوْصَافَهَا تَقْتَضِي الْأَوْصَافَ الَّتِي أُجْرِيَتْ عَلَى تِلْكَ وَزِيَادَةً، فَالْقُرْآنُ يَكُونُ هُدًى لَهَا بِالْأَوْلَى، وَمَعْنَى كَوْنِهِ هُدًى لَهَا: أَنَّهُ يَكُونُ إِمَامَهَا فِي أَعْمَالِهَا وَأَحْوَالِهَا، لَا تَحِيدُ عَنِ النَّهْجِ الَّذِي نَهَجَهُ لَهَا، كَمَا ذَكَرْنَا.
مَا كُلُّ مَنْ أَظْهَرَ الْإِيمَانَ بِمَا ذُكِرَ مُهْتَدٍ بِالْقُرْآنِ، فَالْمُؤْمِنُونَ بِالْقُرْآنِ عَلَى ضُرُوبٍ شَتَّى، وَنَرَى بَيْنَنَا كَثِيرِينَ مِمَّنْ إِذَا سُئِلَ عَنِ الْقُرْآنِ قَالَ: هُوَ كَلَامُ اللهِ وَلَا شَكَّ، وَلَكِنْ إِذَا عُرِضَتْ أَعْمَالُهُ وَأَحْوَالُهُ عَلَى الْقُرْآنِ نَرَاهَا مُبَايِنَةً لَهُ كُلَّ الْمُبَايَنَةِ، الْقُرْآنُ يَنْهَى عَنِ الْغِيبَةِ وَالنَّمِيمَةِ وَالْكَذِبِ، وَهُوَ يَغْتَابُ وَيَسْعَى بِالنَّمِيمَةِ وَلَا يَتَأَثَّمُ مِنَ الْكَذِبِ، الْقُرْآنُ يَأْمُرُ بِالْفِكْرِ وَالتَّدَبُّرِ، وَهُوَ كَمَا وَصَفَ الْقُرْآنُ الْمُكَذِّبِينَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى فِيهِمْ:(الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ)(51: 11) لَا يُفَكِّرُ فِي أَمْرِ آخِرَتِهِ، وَلَا فِي مُسْتَقْبَلِهِ وَلَا مُسْتَقْبَلِ أُمَّتِهِ، وَلَا يَتَدَبَّرُ الْآيَاتِ وَالنُّذُرَ، وَلَا الْحَوَادِثَ وَالْعِبَرَ.
إِنَّ الْمُؤْمِنَ الْمُوقِنَ الْمَذْكُورَ فِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ هُوَ الَّذِي يُزَيِّنُ أَعْمَالَهُ وَأَخْلَاقَهُ بِاسْتِكْمَالِ مَا هُدِيَ إِلَيْهِ مِنَ الْقُرْآنِ دَائِمًا، وَيَجْعَلُهُ مِعْيَارًا يَعْرِضُ عَلَيْهِ تِلْكَ الْأَعْمَالَ وَالْأَخْلَاقَ، لِيَتَبَيَّنَ: هَلْ هُوَ مُهْتَدٍ بِهِ أَمْ لَا؟ مِثَالُ ذَلِكَ: الصَّلَاةُ. يَصِفُهَا الْقُرْآنُ بِأَنَّهَا تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ، وَقَالَ فِي الْمُصَلِّينَ:(إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا إِلَّا الْمُصَلِّينَ)(70: 19 - 22) .
فَبَيِّنَ أَنَّ الصَّلَاةَ تَقْتَلِعُ الصِّفَاتِ الذَّمِيمَةَ الرَّاسِخَةَ الَّتِي تَكَادُ تَكُونُ فِطْرِيَّةً، فَمَنْ لَمْ تَنْهَهُ صِلَاتُهُ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ، وَلَمْ تَقْتَلِعْ مِنْ نَفْسِهِ جُذُورَ الْجُبْنِ وَالْهَلَعِ، وَتَصْطَلِمُ جَرَاثِيمَ الْبُخْلِ وَالطَّمَعِ، فَلْيَعْلَمْ أَنَّهُ لَيْسَ مُصَلِّيًا فِي عُرْفِ الْقُرْآنِ، وَلَا مُسْتَحِقًّا لِمَا وَعَدَ عِبَادَهُ الرَّحْمَنُ.
أَمَّا لَفْظُ " الْإِنْزَالِ " فَالْمُرَادُ بِهِ مَا وَرَدَ مِنْ جَانِبِ الرُّبُوبِيَّةِ الرَّفِيعِ الْأَعْلَى، وَأَوْحَى إِلَى الْعِبَادِ مِنَ الْإِرْشَادِ الْإِلَهِيِّ الْأَسْمَى، وَسُمِّيَ إِنْزَالًا لِمَا فِي جَانِبِ الْأُلُوهِيَّةِ مِنْ ذَلِكَ الْعُلُوِّ، عُلُوِّ الرَّبِّ عَلَى الْمَرْبُوبِ، وَالْخَالِقِ عَلَى الْمَخْلُوقِينَ، الَّذِينَ لَا يَخْرُجُونَ بِالتَّكْرِيمِ وَالِاصْطِفَاءِ عَنْ كَوْنِهِمْ عَبِيدًا خَاضِعِينَ، وَقَدْ سَمَّى الْقُرْآنُ غَيْرَ الْوَحْيِ مِنْ إِسْدَاءِ النِّعَمِ الْإِلَهِيَّةِ إِنْزَالًا فَقَالَ:(وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ)(: 57: 25) فَنَكْتَفِ بِهَذَا مِنْ مَعْنَى الْإِنْزَالِ، وَهُوَ مَا يَفْهَمُهُ كُلُّ عَرَبِيٍّ، مِنْ حَضَرٍ وَبَدْوٍ.
وَأَقُولُ الْآنَ: إِنَّنِي كُنْتُ اكْتَفَيْتُ بِهَذَا الْقَدْرِ فِي تَفْسِيرِ الْإِنْزَالِ تَحَامِيًا لِمَا فِي الْمَسْأَلَةِ مِنْ خِلَافٍ وَجِدَالٍ، وَلَكِنَّنِي عُدْتُ فِي التَّفْسِيرِ إِلَى فَصْلِ الْمَقَالِ فِي مَسَائِلِ النِّزَاعِ، فَأَزِيدُ عَلَيْهِ أَنَّ إِنْزَالَ الْحَدِيدِ فِيهِ أَقْوَالٌ أُخْرَى لِلسَّلَفِ وَالْخَلْفِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
(وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ)(39 - 6) أَوْضَحُهَا أَنَّ الْمُرَادَ إِنْزَالُ الْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهَا، وَقِيلَ: إِنَّ الْحَدِيدَ نُزِّلَ مِنَ الْجَنَّةِ مَعَ آدَمَ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْإِنْزَالَ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ: هُوَ نَقْلُ الشَّيْءِ مِنْ مَكَانٍ عَالٍ إِلَى مَا دُونَهُ، وَيُطْلَقُ الْعُلُوُّ مَجَازًا فِي الْأُمُورِ الْمَعْنَوِيَّةِ، فَهُوَ عُلُوُّ مَكَانٍ وَعُلُوُّ مَكَانَةٍ، وَمِنَ الثَّانِي:(وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لِعَالٍ فِي الْأَرْضِ)(10: 83) .
وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ عُلُوَّ الْمَكَانِ الْحِسِّيِّ أَمْرٌ نِسْبِيٌّ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ مَوْقِعِ النَّاسِ مِنَ الْأَشْيَاءِ، وَالْجِهَاتُ كُلُّهَا أُمُورٌ نِسْبِيَّةٌ لَا حَقِيقِيَّةٌ، وَأَنَّ اللهَ سبحانه وتعالى فَوْقَ جَمِيعِ خَلْقِهِ بَائِنٌ مِنْهُمْ، بِلَا تَشْبِيهٍ وَلَا تَمْثِيلٍ، وَلَا مُتَّصِلٌ بِشَيْءٍ وَلَا حَالٌ فِيهِ، مُسْتَوٍ عَلَى عَرْشِهِ بِالْمَعْنَى الَّذِي أَرَادَهُ، وَهَذَا وَجْهُ تَسْمِيَةِ مَا يَأْتِي مِنْ لَدُنْهُ إِنْزَالًا، فَمَلَكُ الْوَحْيِ كَانَ يَتَلَقَّى الْوَحْيَ مِنْهُ عز وجل وَيَنْزِلُ بِهِ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ فَيَتَلَقَّاهُ مِنْهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَلَا نَعْلَمُ صِفَةَ تَلَقِّي الْمَلَكِ عَنِ اللهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ مِنَ الْغَيْبِ الَّذِي نُؤْمِنُ بِهِ مُجْمَلًا كَمَا بُلِّغْنَاهُ، وَلَا صِفَةَ تَلَقِّي النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ جِبْرِيلَ؛ لِأَنَّهُ مِنْ شَأْنِ النُّبُوَّةِ وَلَسْنَا بِأَنْبِيَاءَ، وَهُوَ مِنَ الصِّلَةِ بَيْنَ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، وَلَكِنَّ اللهَ وَصَفَ لَنَا تَكْلِيمَهُ لِلْبَشَرِ بِقَوْلِهِ:(وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ)(42: 51) الْآيَةَ - وَقَوْلِهِ: (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ)(26: 193 - 195) وَوَصَفَهُ لَنَا رَسُولُهُ صلى الله عليه وسلم فِي جَوَابِهِ لِمَنْ سَأَلَهُ عَنْهُ - وَهُوَ الْحَارِثُ بْنُ هَاشِمٍ الْمَخْزُومِيُّ - فَقَالَ: ((أَحْيَانًا يَأْتِينِي مِثْلَ صَلْصَلَةِ الْجَرَسِ وَهُوَ أَشَدُّهُ عَلَيَّ فَيَفْصِمُ عَنِّي وَقَدْ وَعَيْتُ مَا قَالَ، وَأَحْيَانًا يَتَمَثَّلُ لِي الْمَلَكُ رَجُلًا فَيُكَلِّمُنِي فَأَعِي مَا يَقُولُ)) رَوَاهُ الشَّيْخَانِ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ رضي الله عنها. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى:
(وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) أَمَّا لَفْظُ (الْآخِرَةِ) فَقَدْ وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرًا وَالْمُرَادُ بِهِ الْحَيَاةُ الْآخِرَةُ أَوِ الدَّارُ الْآخِرَةُ حَيْثُ الْجَزَاءُ عَلَى الْأَعْمَالِ، وَيَتَضَمَّنُ كُلَّ مَا وَرَدَتْ بِهِ النُّصُوصُ الْقَطْعِيَّةُ مِنَ الْحِسَابِ وَالْجَزَاءِ بِالْجَنَّةِ وَبِالنَّارِ.
وَأَمَّا الْيَقِينُ: فَهُوَ الِاعْتِقَادُ الْمُطَابِقُ الْوَاقِعِ الَّذِي لَا يَقْبَلُ الشَّكَّ وَلَا الزَّوَالَ، فَهُوَ اعْتِقَادَانِ: اعْتِقَادُ أَنَّ الشَّيْءَ كَذَا، وَاعْتِقَادُ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ إِلَّا كَذَا.
وَأَقُولُ الْآنَ: هَذَا مَا قَالَهُ شَيْخُنَا فِي الدَّرْسِ، وَهُوَ عُرْفُ عُلَمَاءِ الْمَعْقُولِ مِنَ الْمَنْطِقِيِّينَ وَالْمُتَكَلِّمِينَ، وَقَدْ جَارَيْنَاهُ عَلَيْهِ فِي مَوَاضِعَ، وَأَمَّا الْيَقِينُ فِي اللُّغَةِ: فَهُوَ
الِاعْتِقَادُ الْجَازِمُ فِي غَيْرِ الْحِسِّيَّاتِ وَالضَّرُورِيَّاتِ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ، فَالْجَزْمُ بِخَبَرِ الصَّادِقِ وَاعْتِقَادِ الْمَبْنِيِّ عَلَى الْأَدِلَّةِ وَالْأَمَارَاتِ يُسَمَّى يَقِينًا إِذَا كَانَ ثَابِتًا لَا شَكَّ فِيهِ.
وَفِي لِسَانِ الْعَرَبِ أَنَّ الْيَقِينَ: الْعِلْمُ وَإِزَاحَةُ الشَّكِّ وَتَحْقِيقُ الْأَمْرِ، وَهُوَ نَقِيضُ الشَّكِّ. وَالْعِلْمُ: نَقِيضُ الْجَهْلِ اهـ.
فَالْإِيمَانُ الشَّرْعِيُّ يُشْتَرَطُ فِيهِ الْيَقِينُ اللُّغَوِيُّ فَقَطْ، وَهُوَ التَّصْدِيقُ الْجَازِمُ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ وَلَا تَرَدُّدَ، وَلَا مُلَاحَظَةَ طَرَفٍ رَاجِحٍ عَلَى طَرَفٍ مَرْجُوحٍ، فَإِنَّ هَذَا هُوَ الظَّنُّ. وَالْيَقِينُ الْمَنْطِقِيُّ أَكْمَلُ، وَهُوَ مَا بَنَى عَلَيْهِ شَيْخُنَا مَا يَأْتِي مَبْسُوطًا لَا مُلَخَّصًا، قَالَ مَا مَعْنَاهُ:
(وَصَفَهُمْ بِأَنَّهُمْ مُوقِنُونَ بِالْآخِرَةِ لِأَنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ بِالْقُرْآنِ، وَلَمْ يَصِفْ بِهَذَا الْوَصْفِ الطَّائِفَةَ الْأَوْلَى لِأَنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ تُؤْمِنُ بِالْغَيْبِ وَتَتَوَجَّهُ إِلَى اللهِ تَعَالَى بِالصَّلَاةِ الْمَخْصُوصَةِ بِهَا وَتُنْفِقُ مِمَّا رَزَقَهَا اللهُ، فَذَلِكَ لَا يُنَافِي أَنَّهَا فِي حَيْرَةٍ مِنْ أَمْرِ الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ، وَكَذَلِكَ كَانَتْ قَبْلَ الْإِيمَانِ بِالْقُرْآنِ، وَكَانَ مِنْ هِدَايَةِ الْقُرْآنِ لَهَا: أَنْ خَرَجَ بِهَا مِنْ غَمَرَاتِ تِلْكَ الْحَيْرَةِ) .
(وَلَا يُعْتَدُّ بِمَا دُونَ الْيَقِينِ فِي الْإِيمَانِ وَقَدْ قَالَ اللهُ تَعَالَى فِي اعْتِقَادِ قَوْمٍ: (وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا)(53: 28) وَإِذَا لَمْ يَكُنِ الظَّانُّ مُوقِنًا وَعَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فِي اعْتِقَادِهِ، فَمَا حَالُ مَنْ هُوَ دُونَهُ مِنَ الشَّاكِينَ وَالْمُرْتَابِينَ؟ وَيُعْرَفُ الْيَقِينُ فِي الْإِيمَانِ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ بِآثَارِهِ فِي الْأَعْمَالِ) .
(إِنَّنَا نَرَى الرَّجُلَ يَأْتِي إِلَى الْمَحْكَمَةِ بِدَعْوَى زُورٍ يُرِيدُ أَنْ يَأْكُلَ بِهَا حَقَّ أَخِيهِ بِالْبَاطِلِ أَوْ يُجَامِلَ آخَرَ بِشَهَادَةِ زُورٍ، أَوْ يَنْتَقِمَ بِهَا مِنْ ثَالِثٍ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ مُزَوِّرٌ وَمُبْطِلٌ، فَيُقَالُ لَهُ: اتَّقِ اللهَ إِنَّ أَمَامَكَ يَوْمًا يَعَضُّ الظَّالِمُ فِيهِ عَلَى يَدَيْهِ فَيَقُولُ: أَعُوذُ بِاللهِ، أَنَا أَعْلَمُ أَنَّ أَمَامِي يَوْمًا، وَأَنَّ أَمَامِي شِبْرًا مِنَ الْأَرْضِ - يَعْنِي الْقَبْرَ - وَالدُّنْيَا لَا تُغْنِي عَنِ الْآخِرَةِ، وَيَحْلِفُ الْيَمِينَ الْغَمُوسَ بِاسْمِ اللهِ تَعَالَى أَنَّهُ مُحِقٌّ فِي دَعْوَاهُ أَوْ فِي شَهَادَتِهِ، ثُمَّ يُظْهِرُ التَّحْقِيقُ أَنَّهُ مُزَوِّرٌ، وَيُضْطَرُّ إِلَى الِاعْتِرَافِ وَالْإِقْرَارِ بِذَلِكَ، فَكَأَنَّ الْإِيمَانَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ عِنْدَهُ خَيَالٌ يَلُوحُ فِي ذِهْنِهِ عِنْدَمَا يُرِيدُ الْخِلَابَةَ وَالْخِدَاعَ لِأَجْلِ أَكْلِ الْحُقُوقِ أَوْ إِرْضَاءِ الْهَوَى، وَلَا يَظْهَرُ لَهُ أَثَرٌ فِي أَعْمَالِهِ وَأَحْوَالِهِ كَأَثَرِ الِاعْتِقَادِ بِبَعْضِ الْمَشَايِخِ الْمَيِّتِينَ، كَمَا بَيَّنَّا ذَلِكَ مِنْ قَبْلُ) .
(فَمِثْلُ هَذَا الْإِيمَانِ - وَإِنْ تَعَارَفَ النَّاسُ عَلَى تَسْمِيَتِهِ تِلْكَ - لَيْسَ مِنَ الْإِيمَانِ الَّذِي يَقُومُ عَلَى ذَلِكَ الْمَعْنَى مِنَ الْإِيقَانِ، وَيَظْهَرُ أَثَرُهُ فِي الْجَوَارِحِ وَالْأَرْكَانِ) .
ثُمَّ قَالَ بَعْدَ كَلَامٍ فِي آثَارِ الْيَقِينِ: الْيَقِينُ إِيمَانُكَ بِالشَّيْءِ، وَالْإِحْسَاسُ بِهِ مِنْ طَرِيقِ وِجْدَانِكَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، بِأَنْ يَكُونَ قَدْ بَلَغَ بِكَ الْعِلْمُ بِهِ أَنْ صَارَ مَالِكًا لِنَفْسِكَ مُصَرِّفًا لَهَا فِي أَعْمَالِهَا، وَلَا يَكُونُ الْعِلْمُ مُحَقَّقًا لِلْإِيمَانِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ حَتَّى تَكُونَ قَدْ أَصَبْتَهُ مِنْ إِحْدَى طَرِيقَتَيْنِ:
(الْأَوْلَى) النَّظَرُ الصَّحِيحُ فِيمَا يُحْتَاجُ فِيهِ إِلَى النَّظَرِ، كَالْإِيقَانِ بِوُجُودِ اللهِ وَرِسَالَةِ الرُّسُلِ، وَذَلِكَ بِتَلْخِيصِ الْمُقَدَّمَاتِ، وَالْوُصُولِ بِهَا إِلَى حَدِّ الضَّرُورِيَّاتِ، فَأَنْتَ بَعْدَ الْوُصُولِ إِلَى مَا وَصَلْتَ إِلَيْهِ كَأَنَّكَ رَاءٍ مَا اسْتَقَرَّ رَأْيُكَ عَلَيْهِ.
(وَالطَّرِيقُ الْأُخْرَى) خَبَرُ الصَّادِقِ الْمَعْصُومِ بَعْدَ أَنْ قَامَتِ الدَّلَائِلُ عَلَى صِدْقِهِ وَعِصْمَتِهِ عِنْدَكَ، وَلَا يَكُونُ الْخَبَرُ طَرِيقًا لِلْيَقِينِ حَتَّى تَكُونَ سَمِعْتَ الْخَبَرَ مِنْ نَفْسِ الْمَعْصُومِ صلى الله عليه وسلم، أَوْ جَاءَكَ عَنْهُ مِنْ طَرِيقٍ لَا تَحْتَمِلُ الرِّيَبَ، وَهِيَ طَرِيقُ التَّوَاتُرِ دُونَ سِوَاهَا، فَلَا يَنْبُوعَ لِلْيَقِينِ بَعْدَ طُولِ الزَّمَنِ بَيْنَنَا وَبَيْنَ النُّبُوَّةِ إِلَّا سَبِيلُ الْمُتَوَاتِرَاتِ الَّتِي لَمْ يَخْتَلِفْ أَحَدٌ فِي وُقُوعِهَا، فَالْإِيقَانُ بِالْمُغَيَّبَاتِ كَالْآخِرَةِ وَأَحْوَالِهَا وَالْمَلَأِ الْأَعْلَى وَأَوْصَافِهِ، وَصِفَاتِ اللهِ الَّتِي لَا يَهْتَدِي إِلَيْهَا النَّظَرُ لَا يُمْكِنُ تَحْصِيلُهُ إِلَّا مِنَ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ، وَهُوَ الْحَقُّ الَّذِي جَاءَنَا مِنَ اللهِ لَا رَيْبَ فِيهِ، فَعَلَيْنَا أَنْ نَقِفَ عِنْدَمَا أَنْبَأَ بِهِ مِنْ غَيْرِ خَلْطٍ وَلَا زِيَادَةٍ وَلَا قِيَاسٍ.
وَأَكَّدَ الْإِيقَانَ بِالْآخِرَةِ بِقَوْلِهِ: (هُمْ) اهْتِمَامًا بِشَأْنِهِ وَلِيُبَيِّنَ أَنَّ الْإِيقَانَ بِالْآخِرَةِ خَاصَّةٌ مِنْ خَوَاصِّ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقُرْآنِ وَبِمَا أُنْزِلَ قَبْلَهُ مِنَ الْكُتُبِ لَا يُشْرِكُهُمْ فِيهِ سِوَاهُمْ، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْمُوقِنُ بِهِ مِنْ أَحْوَالِ الْآخِرَةِ قَطْعِيًّا، فَهَذِهِ الْإِضَافَاتُ الَّتِي أَضَافُوهَا عَلَى أَخْبَارِ الْغَيْبِ وَخَلَقُوا لَهَا الْأَحَادِيثَ، بَلْ أَضَافُوا إِلَيْهَا أَيْضًا أَقْوَالَ أَهْلِ الْكِتَابِ وَأَشْيَاءَ أُخْرَى نَسَبُوهَا إِلَى السَّلَفِ، وَبَعْضَ
غَرَائِبَ جَاءَتْ عَلَى لِسَانِ الْمُنْتَسِبِينَ لِلتَّصَوُّفِ لَا تَدْخُلُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْيَقِينُ، بَلِ الْجَهْلُ بِالْكَثِيرِ مِنْهَا خَيْرٌ مِنَ الْعِلْمِ بِهِ، فَإِنَّمَا الْوَصْفُ الَّذِي يَمْتَازُ بِهِ أَهْلُ الْقُرْآنِ هُوَ الْيَقِينُ، وَلَا يَكُونُ الْيَقِينُ إِلَّا حَيْثُ يَكُونُ الْقَطْعُ، وَأَمَّا الظَّنُّ: فَهُوَ وَصْفُ مَنْ عَابَهُمُ الْقُرْآنُ وَأَزْرَى بِهِمْ، فَلَا عَلَاقَةَ لَهُ بِأَحْوَالِهِمْ.
(أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)
هَاهُنَا إِشَارَتَانِ، وَالْمُشَارُ إِلَيْهِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَاحِدٌ، وَهُوَ مَا فِي الْآيَتَيْنِ السَّابِقَتَيْنِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُؤْمِنِينَ مِنْهُمْ، وَكَرَّرَ الْإِشَارَةَ لِلْإِعْلَامِ بِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ تَحَقُّقِ الْوَصْفَيْنِ لِتَحَقُّقِ الْحُكْمِ بِأَنَّهُمْ عَلَى هُدًى وَأَنَّهُمْ هُمُ الْمُفْلِحُونَ، كَذَا قَالَ بَعْضُهُمْ وَهُوَ تَكَلُّفٌ ظَاهِرٌ، وَكَذَا قَوْلُهُمْ: إِنَّ تَنْكِيرَ (هُدًى) هُنَا لِلتَّعْظِيمِ. وَشَيْخُنَا قَدْ جَعَلَ الْإِشَارَتَيْنِ لِنَوْعَيِ الْمُؤْمِنِينَ الْمَذْكُورِينَ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ بِأُسْلُوبِ اللَّفِّ وَالنَّشْرِ الْمُرَتَّبِ.
قَالَ: إِنَّ الْإِشَارَةَ الْأُولَى:
قَالَ: (أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ) فِي هَذِهِ الْآيَةِ لِلْفِرْقَةِ الْأُولَى: وَهُمُ الَّذِينَ يَنْتَظِرُونَ
الْحَقَّ، لِأَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ مِنْهُ - كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ تَنْكِيرُ (هُدًى) الدَّالُّ عَلَى النَّوْعِ - وَيَنْتَظِرُونَ بَيَانًا مِنَ اللهِ تَعَالَى لِيَأْخُذُوا بِهِ، وَلِذَلِكَ تَقَبَّلُوهُ عِنْدَمَا جَاءَهُمْ، فَقَدْ أَشْعَرَ اللهُ قُلُوبَهُمُ الْهِدَايَةَ بِمَا آمَنُوا بِهِ مِنَ الْغَيْبِ، وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ بِالْمَعْنَى الَّذِي سَبَقَ، وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللهُ.
وَأَمَّا الْفِرْقَةُ الثَّانِيَةُ: وَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ بِمَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم فَعَلَى هُدًى تُشْرَكُ فِيهِ تِلْكَ الْفِرْقَةُ الْأَوْلَى، لَكِنْ عَلَى وَجْهٍ أَكْمَلَ؛ لِأَنَّهَا مُؤْمِنَةٌ بِالْقُرْآنِ وَعَامِلَةٌ بِهِ، وَقَوْلُهُ (عَلَى هُدًى) تَعْبِيرٌ يُفِيدُ التَّمَكُّنَ مِنَ الشَّيْءِ كَتَمَكُّنِ الْمُسْتَقِرِّ عَلَيْهِ، كَقَوْلِهِمْ:" رَكِبَ هَوَاهُ " وَلَقَدْ كَانَ أَفْرَادُ تِلْكَ الْفِرْقَةِ (أَيِ الْأُولَى) عَلَى بَصِيرَةٍ وَتَمَكُّنٍ مِنْ نَوْعِ الْهُدَى الَّذِي كَانُوا عَلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ هَذَا غَيْرَ كَافٍ لِإِسْعَادِهِمْ وَفَلَاحِهِمْ، فَهُوَ كَافٍ لِإِعْدَادِهِمْ وَتَأْهِيلِهِمْ لَهُمَا بِالْإِيمَانِ التَّفْصِيلِيِّ الْمُنَزَّلِ، وَلِذَلِكَ قَبِلُوهُ عِنْدَمَا بَلَغَتْهُمْ دَعْوَتُهُ.
وَإِلَى الْفِرْقَةِ الثَّانِيَةِ وَقَعَتِ الْإِشَارَةُ الثَّانِيَةُ:
(وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ، وَهُمُ الْمُفْلِحُونَ بِالْفِعْلِ لِاتِّصَافِهِمْ بِالْإِيمَانِ الْكَامِلِ بِالْقُرْآنِ، وَبِمَا تَقَدَّمَهُ مِنَ
الْكُتُبِ السَّمَاوِيَّةِ وَالْيَقِينِ بِالْآخِرَةِ - لَا مُطْلَقِ الْإِيمَانِ بِالْغَيْبِ إِجْمَالًا - وَيُرْشِدُ إِلَى التَّغَايُرِ بَيْنِ مَرْجِعِ الْإِشَارَتَيْنِ تَرْكُ ضَمِيرِ الْفَصْلِ (هُمْ) فِي الْأُولَى وَذِكْرُهُ فِي الثَّانِيَةِ، وَلَوْ كَانَ الْمُشَارُ إِلَيْهِ وَاحِدًا لَذَكَرَ الْفَصْلَ فِي الْأَوْلَى؛ لِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ بِالْقُرْآنِ هُمُ الَّذِينَ عَلَى الْهُدَى الصَّحِيحِ التَّامِّ، فَهُوَ خَاصٌّ بِهِمْ دُونَ سِوَاهُمْ، لَكِنَّهُ اكْتَفَى عَنِ التَّنْصِيصِ عَلَى تَمَكُّنِهِمْ مِنَ الْهُدَى بِحَصْرِ الْفَلَاحِ فِيهِمْ، وَمَادَّةُ الْفَلْحِ تُفِيدُ فِي الْأَصْلِ مَعْنَى الشَّقِّ وَالْقَطْعِ، وَمِثْلُهَا مَادَّةُ الْفَلْجِ بِالْجِيمِ وَالْفَلْخِ بِالْخَاءِ وَالْفَلْذِ وَالْفَلْعِ وَالْفَلْغِ وَالْفَلْقِ وَالْفَلِّ وَالْفَلْمِ، وَيُطْلَقُ الْفَلَاحُ وَالْفَلْجُ عَلَى الْفَوْزِ بِالْمَطْلُوبِ، وَلَكِنْ لَا يُقَالُ: أَفْلَحَ الرَّجُلُ إِذَا فَازَ بِمَرْغُوبِهِ عَفْوًا مِنْ غَيْرِ تَعَبٍ وَلَا مُعَانَاةٍ، بَلْ لَا بُدَّ فِي تَحْقِيقِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ لِهَذِهِ الْمَادَّةِ مِنَ السَّعْيِ إِلَى الرَّغِيبَةِ وَالِاجْتِهَادِ لِإِدْرَاكِهَا، فَهَؤُلَاءِ مَا كَانُوا مُفْلِحِينَ إِلَّا بِالْإِيمَانِ بِمَا أُنْزِلَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِهِ، وَبِاتِّبَاعِ هَذَا الْإِيمَانِ بِامْتِثَالِ الْأَوَامِرِ وَاجْتِنَابِ النَّوَاهِي الَّتِي نِيطَ بِهَا الْوَعْدُ وَالْوَعِيدُ فِيمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ صلى الله عليه وسلم مَعَ الْيَقِينِ بِالْجَزَاءِ عَلَى جَمِيعِ ذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ، وَيُدْخَلُ فِي هَذَا كُلِّهِ تَرْكُ الْكَذِبِ وَالزُّورِ وَتَزْكِيَةُ النَّفْسِ مِنْ سَائِرِ الرَّذَائِلِ كَالشَّرِّ وَالطَّمَعِ وَالْجُبْنِ وَالْهَلَعِ وَالْبُخْلِ وَالْجَوْرِ وَالْقَسْوَةِ، وَمَا يَنْشَأُ عَنْ هَذِهِ الصِّفَاتِ مِنَ الْأَفْعَالِ الذَّمِيمَةِ، وَارْتِكَابِ الْفَوَاحِشِ وَالْمُنْكَرَاتِ وَالِانْغِمَاسِ فِي ضُرُوبِ اللَّذَّاتِ، كَمَا يَدْخُلُ فِيهِ الْفَضَائِلُ الَّتِي هِيَ أَضْدَادُ هَذِهِ الرَّذَائِلِ الْمَتْرُوكَةِ، وَجَمِيعُ مَا سَمَّاهُ الْقُرْآنُ عَمَلًا صَالِحًا مِنَ الْعِبَادَاتِ وَحُسْنِ الْمُعَامَلَةِ مَعَ النَّاسِ (وَالسَّعْيُ فِي تَوْفِيرِ مَنَافِعِهِمُ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ مَعَ الْتِزَامِ الْعَدْلِ وَالْوُقُوفِ عِنْدَ مَا حَدَّهُ الشَّرْعُ الْقَوِيمُ، وَالِاسْتِقَامَةِ عَلَى صِرَاطِهِ الْمُسْتَقِيمِ) .
وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ أَنَّ الْإِيمَانَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: هُوَ الْإِيمَانُ بِالدِّينِ الْإِسْلَامِيِّ جُمْلَةً وَتَفْصِيلًا، فَمَا عُلِمَ مِنْ ذَلِكَ بِالضَّرُورَةِ وَلَمْ يُخَالِفْ فِيهِ مُخَالِفٌ يُعْتَدُّ بِهِ، فَلَا يَسَعُ أَحَدًا جَهْلُهُ، فَالْإِيمَانُ بِهِ إِيمَانٌ، وَالْإِسْلَامُ لِلَّهِ بِهِ إِسْلَامٌ، وَإِنْكَارُهُ خُرُوجٌ مِنَ الْإِسْلَامِ، وَهُوَ الَّذِي يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَعْقِدَ الِارْتِبَاطِ الْإِسْلَامِيِّ وَوَاسِطَةَ الْوَحْدَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ، وَمَا كَانَ دُونَ ذَلِكَ فِي الثُّبُوتِ وَدَرَجَةِ الْعِلْمِ فَمَوْكُولٌ إِلَى اجْتِهَادِ الْمُجْتَهِدِينَ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ مَثَارَ اخْتِلَافٍ فِي الدِّينِ. زَادَ الْأُسْتَاذُ هُنَا بِخَطِّهِ عِنْدَ قَوْلِنَا: اجْتِهَادِ الْمُجْتَهِدِينَ مَا نَصَّهُ:
(أَوْ ذَوْقِ الْعَارِفِينَ أَوْ ثِقَةِ النَّاقِلِينَ بِمَنْ نَقَلُوا عَنْهُ لِيَكُونَ مُعْتَمَدَهُمْ فِيمَا يَعْتَقِدُونَ بَعْدَ التَّحَرِّي وَالتَّمْحِيصِ، وَلَيْسَ لِهَؤُلَاءِ أَنْ يُلْزِمُوا غَيْرَهُمْ مَا ثَبَتَ عِنْدَهُمْ، فَإِنَّ ثِقَةَ النَّاقِلِ بِمَنْ يَنْقُلُ عَنْهُ حَالَةٌ خَاصَّةٌ بِهِ لَا يُمْكِنُ لِغَيْرِهِ أَنْ يَشْعُرَ بِهَا حَتَّى يَكُونَ لَهُ مَعَ الْمَنْقُولِ عَنْهُ فِي الْحَالِ مِثْلُ مَا لِلنَّاقِلِ مَعَهُ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ عَارِفًا بِأَحْوَالِهِ وَأَخْلَاقِهِ وَدَخَائِلِ نَفْسِهِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يَطُولُ شَرْحُهُ، وَتَحْصُلُ الثِّقَةُ لِلنَّفْسِ بِمَا يَقُولُ الْقَائِلُ) .
وَأَقُولُ: مَعْنَى هَذَا أَنَّ بَعْضَ أَحَادِيثِ الْآحَادِ تَكُونُ حُجَّةً عَلَى مَنْ ثَبَتَتْ عِنْدَهُ وَاطْمَأَنَّ قَلْبُهُ بِهَا، وَلَا تَكُونُ حُجَّةً عَلَى غَيْرِهِ يَلْزَمُهُ الْعَمَلُ بِهَا، وَلِذَلِكَ لَمْ يَكُنِ الصَّحَابَةُ رضي الله عنهم يَكْتُبُونَ جَمِيعَ مَا سَمِعُوا مِنَ الْأَحَادِيثِ، وَيَدْعُونَ إِلَيْهَا مَعَ دَعْوَتِهِمْ إِلَى اتِّبَاعِ الْقُرْآنِ وَالْعَمَلِ بِهِ وَبِالسُّنَّةِ الْعَمَلِيَّةِ الْمُتَّبَعَةِ الْمُبَيِّنَةِ لَهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْ بَيَانِ السُّنَّةِ، كَصَحِيفَةِ عَلِيٍّ - كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ - الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى بَعْضِ الْأَحْكَامِ: كَالدِّيَةِ، وَفِكَاكِ الْأَسِيرِ، وَتَحْرِيمِ الْمَدِينَةِ كَمَكَّةَ، وَلَمْ يَرْضَ الْإِمَامُ مَالِكٌ مِنَ الْخَلِيفَتَيْنِ: الْمَنْصُورِ، وَالرَّشِيدِ أَنْ يَحْمِلَا النَّاسَ عَلَى الْعَمَلِ بِكُتُبِهِ حَتَّى (الْمُوَطَّأِ)، وَإِنَّمَا يَجِبُ الْعَمَلُ بِأَحَادِيثِ الْآحَادِ عَلَى مَنْ وَثِقَ بِهَا: رِوَايَةً، وَدَلَالَةً، وَعَلَى مَنْ وَثِقَ بِرِوَايَةِ أَحَدٍ وَفَهْمِهِ لِشَيْءٍ مِنْهَا أَنْ يَأْخُذَهُ عَنْهُ، وَلَكِنْ لَا يَجْعَلُ ذَلِكَ تَشْرِيعًا عَامًّا، وَأَمَّا ذَوْقُ الْعَارِفِينَ، فَلَا يَدْخُلُ شَيْءٌ مِنْهُ فِي الدِّينِ، وَلَا يُعَدُّ حُجَّةً شَرْعِيَّةً بِالْإِجْمَاعِ، إِلَّا مَا كَانَ مِنَ اسْتِفْتَاءِ الْقَلْبِ فِي الشُّبَهَاتِ، وَالِاحْتِيَاطِ فِي تَعَارُضِ الْبَيِّنَاتِ.
(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤَمِنُونَ خَتَمَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ)
قَالَ الْأُسْتَاذُ: كَانَ الَّذِي تَقَدَّمَ بَيَانًا مِنَ اللهِ تَعَالَى لِصِنْفَيْنِ مِنَ النَّاسِ لَهُمْ فِي الْقُرْآنِ هِدَايَةٌ وَلِنُفُوسِهِمْ إِلَى الِاهْتِدَاءِ بِهِ انْبِعَاثٌ.
(الْأَوَّلُ مِنَ الصِّنْفَيْنِ) : أُولَئِكَ الَّذِينَ يُبَلِّغُهُمْ لِأَوَّلِ مَرَّةٍ، وَهُمْ مِمَّنْ يَخْشَى اللهَ وَيَهَابُ سُلْطَانَهُ، وَفِي أُصُولِ اعْتِقَادِهِمُ الْإِيمَانُ بِمَا وَرَاءَ الْحِسِّ عَلَى مَا تَقَدَّمَ.
(وَالثَّانِي) : أُولَئِكَ الَّذِينَ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِهِ
(وَهَذَا الصِّنْفُ قَدْ يَجْتَمِعُ مَعَ الَّذِي قَبْلَهُ فِيمَنْ كَانُوا مُتَّقِينَ مُؤْمِنِينَ بِالْغَيْبِ، ثُمَّ آمَنُوا بِالنَّبِيِّ وَبِمَا جَاءَ بِهِ، وَقَدْ يَفْتَرِقُ الصِّنْفَانِ فِيمَنْ بَقِيَ إِلَى الْيَوْمِ وَلَمْ تَبْلُغْهُ الدَّعْوَةُ، وَهُوَ عَلَى تِلْكَ الْأَوْصَافِ، وَمِنَ الْوَلَدِ مِنْ آبَاءٍ مُؤْمِنِينَ ثُمَّ صَدَقَ إِيمَانُهُ بَعْدَ أَنْ بَلَغَ رُشْدَهُ وَمَلَكَ عَقْلَهُ) .
أَمَّا هَاتَانِ الْآيَتَانِ فَقَدْ بَيَّنَتَا حَالَ طَائِفَةٍ ثَالِثَةٍ مِنَ النَّاسِ، وَهُمُ الْكَافِرُونَ، ثُمَّ يُبَيِّنُ قَوْلُهُ تَعَالَى:(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ) إِلَخْ، حَالَ طَائِفَةٍ أُخْرَى أَخَصَّ مِنْهَا وَهُمُ الْمُنَافِقُونَ الَّذِينَ يَظْهَرُ مِنْ أَقْوَالِهِمْ وَفِي بَعْضِ أَفْعَالِهِمْ أَنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ، وَلَكِنَّهُمْ فِي حَقِيقَةِ أَمْرِهِمْ كَافِرُونَ، بَلْ شَرٌّ مِنَ الْكَافِرِينَ (فَهَذِهِ أَقْسَامٌ أَرْبَعَةٌ يَنْقَسِمُ إِلَيْهَا النَّاسُ إِذَا بَلَغَهُمُ الْقُرْآنُ وَنَظَرُوا فِيهِ، وَدُعُوا إِلَى الْإِيمَانِ بِهِ وَالْأَخْذِ بِهَدْيِهِ) .
بَيِّنَ اللهُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ أَنَّهُ إِذَا كَانَ يُوجَدُ فِي النَّاسِ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِالْقُرْآنِ، فَلَيْسَ هَذَا عَيْبًا وَتَقْصِيرًا فِي هِدَايَةِ الْكِتَابِ، وَإِنَّمَا الْعَيْبُ فِيهِمْ لَا فِي الْكِتَابِ؛ لِأَنَّهُ هِدَايَةٌ كَسَائِرِ الِهَدَايَاتِ الطَّبِيعِيَّةِ الَّتِي أَعْرَضَ النَّاسُ وَعَمُوا عَنْهَا (كَهِدَايَةِ الْعَقْلِ وَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَنَحْوِهَا مِمَّا أَكْرَمَ اللهُ بِهِ هَذَا النَّوْعَ الْبَشَرِيَّ، وَقَدْ يَحْكُمُ الرَّجُلُ بِأَنَّ فِي الْعَمَلِ مَضَرَّةٌ تَلْحَقُ بِهِ، وَمَعَ ذَلِكَ يَعْدِلُ عَنْ حُكْمِهِ انْتِهَازًا لِلَذَّةٍ زَيَّنَهَا لَهُ حِسُّهُ أَوْ وَهْمُهُ، وَيَأْتِي ذَلِكَ الْعَمَلُ عَلَى مَا يُعْلَمُ مِنْ سُوءِ مَغَبَّتِهِ، فَاحْتِقَارُ الرَّجُلِ لِعَقْلِ نَفْسِهِ لَا يَعُدُّ عَيْبًا فِي تِلْكَ الْمَوْهِبَةِ الْإِلَهِيَّةِ، وَلَا يَحُطُّ مِنْ شَأْنِ النِّعْمَةِ فِيهَا.
انْظُرْ إِلَى رَجُلٍ يُغْمِضُ عَيْنَيْهِ وَيَمْشِي فِي طَرِيقٍ لَا يَعْرِفُهَا فَيَسْقُطُ فِي حُفْرَةٍ وَتَتَحَطَّمُ عِظَامُهُ، هَلْ يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ قَدْرِ بَصَرِهِ، وَيَبْخَسُ مِنْ حَقِّ اللهِ تَعَالَى فِي الْإِحْسَانِ بِهِ عَلَى هَذَا الَّذِي لَمْ يُرِدْ أَنْ يَسْتَعْمِلَهُ فِيمَا خُلِقَ لَهُ؟) فَفِي الْكَلَامِ تَسْلِيَةٌ لِأَهْلِ الْحَقِّ، وَسَيِّدُهُمْ هُوَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَهُوَ تَسْلِيَةٌ لَهُ أَوَّلًا وَبِالْأَوْلَى.
قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) أَقُولُ: هَذَا بَيَانٌ لِحَالِ الْقِسْمِ الثَّانِي مِنْ أَقْسَامِ النَّاسِ تُجَاهَ هِدَايَةِ الْقُرْآنِ، وَقَدْ قَطَعَهُ وَفَصَّلَهُ مِمَّا قَبْلَهُ، فَلَمْ يَعْطِفْهُ عَلَيْهِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى مَا بَيْنَهُمَا مِنْ طُولِ شُقَّةِ الِانْفِصَالِ وَعَدَمِ الْمُشَارَكَةِ فِي شَيْءٍ مَا، بِخِلَافِ الْقِسْمِ الثَّالِثِ الْآتِي، فَإِنَّ لَهُمْ حَظًّا مِنْهُ فِي الدُّنْيَا وَلِمَنْ يَتُوبُ مِنْهُمْ حَظٌّ فِي الْآخِرَةِ أَيْضًا.
وَالْكَفْرُ فِي اللُّغَةِ: سَتْرُ الشَّيْءِ وَتَغْطِيَتُهُ وَإِخْفَاؤُهُ، وَلِذَلِكَ وُصِفَ بِهِ اللَّيْلُ وَالْبَحْرُ
وَالزُّرَّاعُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ)(57: 20) لِأَنَّهُمْ يُغَطُّونَ الْحَبَّ بِالتُّرَابِ - وَفِعْلُهُ مِنْ بَابِ نَصَرَ، وَقَالَ الْفَارَابِيُّ وَتَبِعَهُ الْجَوْهَرِيُّ مِنْ بَابِ ضَرَبَ، وَهُوَ خَطَأٌ كَمَا فِي الْمِصْبَاحِ - وَمِنَ الْمَجَازِ: كُفْرُ النِّعْمَةِ بِعَدَمِ شُكْرِهَا وَذِكْرِهَا تَنْوِيهًا بِهَا، وَكَذَا الْكُفْرُ بِاللهِ أَوْ بِوَحْدَانِيَّتِهِ وَصِفَاتِهِ، أَوْ كُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَمَا جَاءُوا بِهِ عَنِ اللهِ تَعَالَى، أَيْ إِنْكَارُهُ وَعَدَمُ التَّصْدِيقِ بِهِ وَالْإِذْعَانِ لَهُ، وَلَا سِيَّمَا الشِّرْكُ فِي عِبَادَتِهِ، كُلُّ ذَلِكَ مِنْ ضُرُوبِ السِّتْرِ وَالتَّغْطِيَةِ السَّلْبِيَّةِ فِي الْأُمُورِ الْمَعْنَوِيَّةِ، فَهُوَ مَجَازُ لُغَةٍ، وَحَقِيقَةٌ شَرْعِيَّةٌ فِي مَعْنَاهُ الشَّرْعِيِّ الْمُشَارِ إِلَيْهِ آنِفًا، وَالْمُرَادُ بِالَّذِينِ كَفَرُوا هُنَا مَنْ عَلِمَ اللهُ تَعَالَى أَنَّ الْكُفْرَ رَسَخَ فِي قُلُوبِهِمْ حَتَّى فَقَدُوا الِاسْتِعْدَادَ لِلْإِيمَانِ.
وَقَالَ شَيْخُنَا: الْكُفْرُ هُنَا عِبَارَةٌ عَنْ جُحُودِ مَا صَرَّحَ الْكِتَابُ الْمُنَزَّلُ أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللهِ أَوْ جُحُودُ الْكِتَابِ نَفْسِهِ، أَوِ النَّبِيِّ الَّذِي جَاءَ بِهِ، وَبِالْجُمْلَةِ: مَا عُلِمَ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ (بَعْدَمَا بَلَغَتِ الْجَاحِدَ رِسَالَةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بَلَاغًا صَحِيحًا، وَعُرِضَتْ عَلَيْهِ الْأَدِلَّةُ عَلَى صِحَّتِهَا لِيَنْظُرَ فِيهَا فَأَعْرَضَ عَنْ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ وَجَحَدَهُ عِنَادًا أَوْ تَسَاهُلًا أَوِ اسْتِهْزَاءً، نَعْنِي بِذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يَسْتَمِرَّ فِي النَّظَرِ حَتَّى يُؤْمِنَ وَلَمْ نَسْمَعْ أَنَّ أَحَدًا مِنَ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - كَفَّرَ أَحَدًا بِمَا وَرَاءَ هَذَا، فَمَا عَدَاهُ مِنَ الْأَفَاعِيلِ وَالْأَقَاوِيلِ الْمُخَالِفَةِ لِبَعْضِ مَا أُسْنِدَ إِلَى الدِّينِ وَلَمْ يَصِلِ الْعِلْمُ بِأَنَّهُ مِنْهُ إِلَى حَدِّ الضَّرُورَةِ - أَيْ لَمْ يَكُنْ سَنَدُهُ قَطْعِيًّا كَسَنَدِ الْكِتَابِ - فَلَا يُعَدُّ مُنْكِرُهُ كَافِرًا إِلَّا إِذَا قَصَدَ بِالْإِنْكَارِ تَكْذِيبَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَمَتَى كَانَ لِلْمُنْكِرِ سَنَدٌ مِنَ الدِّينِ يَسْتَنِدُ إِلَيْهِ فَلَا يُكَفَّرُ (وَإِنْ ضَعُفَتْ شُبْهَتُهُ فِي الِاسْتِنَادِ إِلَيْهِ مَا دَامَ صَادِقَ النِّيَّةِ فِيمَا يَعْتَقِدُ، وَلَمْ يَسْتَهِنْ بِشَيْءٍ مِمَّا ثَبَتَ بِالْقَطْعِ وُرُودُهُ عَنِ الْمَعْصُومِ صلى الله عليه وسلم) .
وَقَدْ تَجَرَّأَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ عَلَى تَكْفِيرِ مَنْ يَتَأَوَّلُ بَعْضَ الظَّنِّيَّاتِ، أَوْ يُخَالِفُ شَيْئًا مِمَّا سَبَقَ الِاجْتِهَادُ فِيهِ، أَوْ يُنْكِرُ بَعْضَ الْمَسَائِلِ الْخِلَافِيَّةِ، فَجَرَّءُوا النَّاسَ عَلَى هَذَا الْأَمْرِ الْعَظِيمِ، حَتَّى صَارُوا يُكَفِّرُونَ مَنْ يُخَالِفَهُمْ فِي بَعْضِ الْعَادَاتِ، وَإِنْ كَانَتْ مِنَ الْبِدَعِ الْمَحْظُورَاتِ (ثُمَّ هُمْ عَلَى عَقَائِدِ الْكَافِرِينَ، وَأَخْلَاقِ الْمُنَافِقِينَ، وَيَعْمَلُونَ أَعْمَالَ الْمُشْرِكِينَ، وَيَصِفُونَ أَنْفُسَهُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ) .
الْكَافِرُونَ أَقْسَامٌ:
(مِنْهُمْ) مَنْ يَعْرِفُ الْحَقَّ وَيُنْكِرُهُ عِنَادًا، وَهَؤُلَاءِ هُمُ الْأَقَلُّونَ
وَلَا ثَبَاتَ لَهُمْ وَلَا قِوَامَ، وَكَانَ مِنْهُمْ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَالْيَهُودِ لَمْ يَلْبَثُوا أَنِ انْقَرَضُوا.
قَالَ الْأُسْتَاذُ: كُنْتُ قُلْتُ فِي هَذَا الْمَعْنَى كَلِمَةً جَدِيرَةً بِأَنْ تُحْفَظَ وَهِيَ: " إِنَّ جُحُودَ الْحَقِّ مَعَ الْعِلْمِ بِهِ كَالْيَقِينِ فِي الْعِلْمِ، كِلَاهُمَا قَلِيلٌ فِي النَّاسِ ".
(وَمِنْهُمْ) مَنْ لَا يَعْرِفُ الْحَقَّ وَلَا يُرِيدُ وَلَا يُحِبُّ أَنْ يَعْرِفَهُ، وَهُمُ الَّذِينَ قَالَ اللهُ تَعَالَى فِيهِمْ:(إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ)(8: 22 - 23) فَهَؤُلَاءِ كُلَّمَا صَاحَ بِهِمْ صَائِحُ الْحَقِّ فَزِعُوا وَنَفَرُوا، وَأَعْرَضُوا وَاسْتَكْبَرُوا، فَفِي أَنْفُسِهِمْ شُعُورٌ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّهُمْ يَجِدُونَ فِيهَا زَلْزَلَةً، كُلَّمَا لَاحَ لَهُمْ شُعَاعُهُ يَحْجُبُونَهُ عَنْ أَعْيُنِهِمْ بِأَيْدِيهِمْ، وَسَبَبُ ذَلِكَ: أَنَّهُمْ لَمْ يَسْتَعْمِلُوا أَنْظَارَهُمْ فِي فَهْمِ الْحَقِّ، وَيَخَافُونَ لَوِ اسْتَعْمَلُوهَا أَنْ يَنْقُصَهُمْ شَيْءٌ مِمَّا يَظُنُّونَهُ خَيْرًا، وَيَتَوَهَّمُونَهُ مَعْقُودًا بِعَقَائِدِهِمُ الَّتِي وَجَدُوا عَلَيْهَا آبَاءَهُمْ وَسَادَاتِهِمْ.
(وَمِنْهُمْ) : مَنْ مَرِضَتْ نَفْسُهُ وَاعْتَلَّ وِجْدَانُهُ فَلَا يَذُوقُ لِلْحَقِّ لَذَّةً، وَلَا تَجِدُ نَفْسُهُ فِيهِ رَغْبَةً، بَلِ انْصَرَفَ عَنْهُ إِلَى هُمُومٍ أُخَرَ مَلَكَتْ قَلْبَهُ وَأَسَرَتْ فُؤَادَهُ، كَالْهُمُومِ الَّتِي غَلَبَتْ أَغْلَبَ النَّاسِ الْيَوْمَ عَلَى دِينِهِمْ وَعُقُولِهِمْ، وَهِيَ مَا اسْتَغْرَقَتْ كُلَّ مَا تَوَفَّرَ لَدَيْهِمْ مِنْ عَقْلٍ وَإِدْرَاكٍ، وَاسْتَنْفَدَتْ كُلَّ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ حَوْلٍ وَقُوَّةٍ فِي سَبِيلِ كَسْبِ مَالٍ أَوْ تَوْفِيرِ لَذَّةٍ جُسْمَانِيَّةٍ، أَوْ قَضَاءِ شَهْوَةٍ وَهْمِيَّةٍ، فَعَمِيَ عَلَيْهِمْ كُلُّ سَبِيلٍ سِوَى سُبُلِ مَا اسْتُهْلِكُوا فِيهِ، فَإِذَا عُرِضَ عَلَيْهِمْ حَقٌّ، أَوْ نَادَاهُمْ إِلَيْهِ مُنَادٍ، رَأَيْتَهُمْ لَا يَفْهَمُونَ مَا يَقُولُ الدَّاعِي، وَلَا يُمَيِّزُونَ بَيْنَ مَا يَدْعُو إِلَيْهِ وَبَيْنَ مَا هُمْ عَلَيْهِ، فَيَكُونُ حَظُّ الْحَقِّ مِنْهُمُ الِاسْتِهْزَاءَ وَالِاسْتِهَانَةَ بِأَمْرِهِ، فَإِذَا وَعَدَهُمْ أَوْ أَوْعَدَهُمُ النَّذِيرُ، قَالُوا: لَا نُصَدِّقُ وَلَا نُكَذِّبُ حَتَّى نَنْتَهِيَ إِلَى ذَلِكَ الْمَصِيرِ، وَهَذَا الْقِسْمُ كَالَّذِي قَبْلَهُ كَثِيرُ الْعَدَدِ فِي النَّاسِ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ، وَخُصُوصًا فِي الْأُمَمِ الَّتِي يَفْشُو فِيهَا الْجَهْلُ، وَتَنْطَمِسُ مِنْ أَفْرَادِهَا أَعْيُنُ الْفِطْرَةِ، وَتَنْضُبُ مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَنَابِيعُ الْفَضَائِلِ، فَيُصْبِحُونَ كَالْبَهَائِمِ السَّائِمَةِ، لَا هَمَّ لَهُمْ إِلَّا فِيمَا يَمْلَأُ بُطُونَهُمْ أَوْ يُدَاعِبُ أَوْهَامَهُمْ،
وَيَصِحُّ جَمْعُ هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ تَحْتَ قِسْمٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ قِسْمُ الْمُعْرِضِينِ الْجَاحِدِينَ الْجَاهِلِينَ، وَالْقِسْمُ الْأَوَّلُ هُوَ قِسْمُ الْمُعَانِدِينَ الْمُكَابِرِينَ.
فَكُلٌّ مِنْ هَذِهِ الْفِرَقِ: (سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ) الْإِنْذَارُ: الْإِخْبَارُ وَالْإِعْلَامُ بِالشَّيْءِ الْمُقْتَرِنِ بِالتَّخْوِيفِ مِمَّا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ فِعْلٍ يَتَضَمَّنُ ذَمَّهُ وَطَلَبَ تَرْكِهِ، أَوْ تَرْكٍ لِأَمْرٍ يَتَضَمَّنُ مَدْحَهُ وَطَلَبَ فِعْلِهِ نَصًّا أَوِ اقْتِضَاءً، وَالسَّوَاءُ: اسْمُ مَصْدَرٍ بِمَعْنَى الِاسْتِوَاءِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَلَمْ يَدْخُلُوا فِي قِسْمِ الْمُسْتَعِدِّينَ لِلْإِيمَانِ لِرُسُوخِهِمْ فِي الْكُفْرِ، يَسْتَوِي
الْإِنْذَارُ وَعَدَمُهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِمْ فِي الْوَاقِعِ، فَالَّذِي يُعْرِضُ عَنِ النُّورِ مَعَ الْعِلْمِ بِهِ وَيُغْمِضُ عَيْنَيْهِ كَيْلَا يَرَاهُ بُغْضًا لَهُ لِذَاتِهِ أَوْ تَأَذِّيًا بِهِ، أَوْ عِنَادًا وَعَدَاوَةً لِمَنْ دَعَاهُ إِلَيْهِ مَاذَا يُفِيدُهُ النُّورُ؟
وَمَاذَا يَعِيبُ النُّورَ مِنْ إِعْرَاضِهِ؟ وَالَّذِي لَا يَعْرِفُ النُّورَ وَلَا يُحِبُّ أَنْ يَعْرِفَهُ؛ لِأَنَّ فَسَادَ طَبِيعَتِهِ وَخُبْثَ تَرْبِيَتِهِ أَنْآهُ عَنْهُ وَأَبْعَدَهُ، وَجَعَلَهُ يَأْلَفُ الظُّلْمَةَ كَالْخُفَّاشِ (أَوْ أَفْسَدَ الْجَهْلُ وُجْدَانَهُ فَأَصْبَحَ لَا يُمَيِّزُ بَيْنَ نُورٍ وَظُلْمَةٍ، وَلَا بَيْنَ نَافِعٍ وَضَارٍّ، وَلَا بَيْنَ لَذِيذٍ وَمُؤْلِمٍ، مَاذَا عَسَاهُ يُفِيدُهُ النُّورُ مَهْمَا سَطَعَ أَوْ يُؤَثِّرُ فِيهِ الضَّوْءُ مَهْمَا ارْتَفَعَ؟) .
(لَا يُؤْمِنُونَ) أَقُولُ: هَذِهِ جُمْلَةٌ مُفَسِّرَةٌ لِتَسَاوِي الْإِنْذَارِ وَعَدَمِهِ فِي حَقِّهِمْ لَا فِي حَقِّهِ صلى الله عليه وسلم وَحَقِّ دُعَاةِ دِينِهِ، فَهُمْ يَدْعُونَ كُلَّ كَافِرٍ إِلَى دِينِ اللهِ الْحَقِّ، لِأَنَّهُمْ لَا يُمَيِّزُونَ بَيْنَ الْمُسْتَعِدِّ لِلْإِيمَانِ وَغَيْرِ الْمُسْتَعِدِّ لَهُ إِذْ هُوَ أَمَرٌ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللهُ تَعَالَى.
ثُمَّ وَصَفَ سُبْحَانَهُ فَقْدَهُمْ لِهَذَا الِاسْتِعْدَادَ، وَرُسُوخَهُمْ فِي الْكُفْرِ الَّذِي لَمْ يَبْقَ
مَعَهُ مَحَلٌّ لِغَيْرِهِ بِهَذَا التَّعْبِيرِ الْبَلِيغِ (خَتَمَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ) .
قَالَ الرَّاغِبُ: الْخَتْمُ وَالطَّبْعُ يُقَالُ عَلَى وَجْهَيْنِ:
(الْأَوَّلُ) : مَصْدَرُ خَتَمْتُ وَطَبَعْتُ، وَهُوَ تَأْثِيرُ الشَّيْءِ كَنَقْشِ الْخَاتَمِ وَالطَّابِعِ.
(الثَّانِي) : الْأَثَرُ الْحَاصِلُ عَنِ النَّقْشِ، وَيَتَجَوَّزُ بِذَلِكَ تَارَةً فِي الِاسْتِيثَاقِ مِنَ الشَّيْءِ وَالْمَنْعِ مِنْهُ اعْتِبَارًا بِمَا يَحْصُلُ مِنَ الْمَنْعِ بِالْخَتْمِ عَلَى الْكُتُبِ وَالْأَبْوَابِ نَحْوَ:(خَتَمَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ)(وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ) - إِلَى أَنْ قَالَ - فَقَوْلُهُ: (خَتَمَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ) . . . إِشَارَةٌ إِلَى مَا أَجْرَى اللهُ بِهِ الْعَادَةَ أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا تَنَاهَى فِي اعْتِقَادِ بَاطِلٍ وَارْتِكَابِ مَحْظُورٍ - وَلَا يَكُونُ مِنْهُ تَلَفُّتٌ بِوَجْهٍ إِلَى الْحَقِّ - يُورِثُهُ ذَلِكَ هَيْئَةً تُمَرِّنُهُ عَلَى اسْتِحْسَانِ الْمَعَاصِي، وَكَأَنَّمَا يُخْتَمُ بِذَلِكَ عَلَى قَلْبِهِ، وَعَلَى ذَلِكَ (أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ) (16: 108) اهـ.
الْمُرَادُ مِنْهُ.
وَأَقُولُ: إِنَّ مُرَادَهُ أَنَّ هَذَا التَّعْبِيرَ مَثَلٌ لِمَنْ تَمَكَّنَ الْكُفْرُ فِي قُلُوبِهِمْ حَتَّى فَقَدُوا الدَّوَاعِيَ وَالْأَسْبَابَ الَّتِي تَعْطِفُهُمْ إِلَى النَّظَرِ وَالْفِكْرِ فِي أَدِلَّةِ الْإِيمَانِ وَمَحَاسِنِهِ (خَتَمَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ) فَلَا يَدْخُلُهَا غَيْرُ مَا رَسَخَ فِيهَا، (وَعَلَى سَمْعِهِمْ) فَلَا يَسْمَعُونَ آيَاتِ اللهِ الْمُنَزَّلَةَ سَمَاعَ تَأَمُّلٍ وَتَفَقُّهٍ، وَقَوْلُهُ:(وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ) جُمْلَةٌ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ (خَتَمَ) وَالْغِشَاوَةُ: مَا يُغَطَّى بِهِ الشَّيْءُ، وَمَعْنَى هَذِهِ الْمَادَّةِ: غَ شِ يَ - التَّغْطِيَةُ. وَالْمُرَادُ: أَنَّ أَبْصَارَهُمْ لَا تُدْرِكُ آيَاتِ اللهِ الْمُبْصِرَةَ الدَّالَّةَ عَلَى الْإِيمَانِ، فَكُلٌّ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ لَا يُرْجَى إِيمَانُهُ، وَقَدْ أُسْنِدَ الْخَتْمُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ إِلَى اللهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ بَيَانٌ لِسُنَّتِهِ تَعَالَى فِي أَمْثَالِهِمْ، وَعُبِّرَ عَنْهُ بِالْمَاضِي لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُ أَمْرٌ قَدْ فُرِغَ مِنْهُ، وَهُوَ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ مَجْبُورُونَ عَلَى الْكُفْرِ، وَلَا عَلَى مَنْعِ اللهِ تَعَالَى إِيَّاهُمْ مِنْهُ بِالْقَهْرِ، وَإِنَّمَا هُوَ تَمْثِيلٌ لِسُنَّتِهِ تَعَالَى فِي تَأْثِيرِ تَمَرُّنِهِمْ عَلَى الْكُفْرِ وَأَعْمَالِهِ فِي قُلُوبِهِمْ بِأَنَّهُ اسْتَحْوَذَ عَلَيْهَا
وَمَلَكَ أَمْرَهَا حَتَّى لَمْ يَعُدْ فِيهَا اسْتِعْدَادٌ لِغَيْرِهِ، كَمَا تَقَدَّمَ مِثْلُهُ عَنِ الرَّاغِبِ، وَيُوَضِّحُ مَا قُلْنَاهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْمُنَافِقِينَ:(ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ)(63: 3) وَقَوْلُهُ فِي الْيَهُودِ مِنْ سُورَةِ النِّسَاءِ: (فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكَفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللهِ وَقَتْلِهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا
يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا) (4: 155) فَذَكَرَ أَنَّ الطَّبْعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ إِنَّمَا هُوَ بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ وَتِلْكَ الْمَعَاصِي الَّتِي أَسْنَدَهَا إِلَيْهِمْ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْجَاثِيَةِ:(أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ)(45: 23) فَقَدْ ذَكَرَ مِنْ فِعْلِهِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ: أَنَّهُ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ، وَمَنْ صَارَ هَوَاهُ مَعْبُودَهُ لَا يُفِيدُ مَعَهُ شَيْءٌ.
وَقَدْ صَرَّحَ هُنَا بِأَنَّ الْغِشَاوَةَ عَلَى بَصَرِهِ مِنْ جَعْلِ اللهِ تَعَالَى، وَلَمْ يُصَرِّحْ فِي آيَةِ الْبَقَرَةِ الَّتِي نُفَسِّرُهَا، وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ، وَلِشَيْخِنَا الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ دَقَائِقُ فِي هَذِهِ التَّعْبِيرَاتِ ادَّخَرَهَا اللهُ تَعَالَى لَهُ وَهِيَ مَعَ هَذَا تُغْنِيكَ عَنْ تَمَارِي الْأَشْعَرِيَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ فِي الْآيَاتِ تَعَصُّبًا لِمَذَاهِبِهِمْ وَقَالَ:
يَقُولُونَ: إِنَّ الْخَتْمَ وَالطَّبْعَ وَالرَّيْنَ أَلْفَاظٌ تَجْرِي عَلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ: تَغْطِيَةُ الشَّيْءِ وَالْحَيْلُولَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَدْخُلَهُ وَيَمَسَّهُ، وَالْقُلُوبُ مُرَادٌ بِهَا الْعُقُولُ. وَالْمُرَادُ بِالسَّمْعِ: الْأَسْمَاعُ، وَإِفْرَادُهُ لِأَنَّ أَصْلَهُ مَصْدَرٌ، وَمِنْ شَأْنِ الْمَصَادِرِ أَلَّا تُجْمَعَ، وَقَدْ لُوحِظَ هُنَا الْأَصْلُ، وَالْأَبْصَارُ: الْعُيُونُ الَّتِي تُدْرِكُ الْمُبْصَرَاتِ مِنَ الْأَشْكَالِ وَالْأَلْوَانِ.
(قَالَ) : وَأَنَا أَرَى فِي مَسْأَلَةِ هَذَا الْجَمْعِ وَالْإِفْرَادِ رَأْيًا آخَرَ، إِذْ لَوْ صَحَّ مَا قِيلَ فَإِنَّ الْبَصَرَ أَيْضًا مَصْدَرٌ فَلِمَاذَا جَمَعَهُ؟ وَالَّذِي أَرَاهُ أَنَّ الْعَقْلَ لَهُ وُجُوهٌ كَثِيرَةٌ فِي إِدْرَاكِ الْمَعْقُولَاتِ، فَلَيْسَ النَّاسُ فِيهِ سَوَاءً فَجَمَعَ لِاخْتِلَافِ النَّاسِ فِيهِ، وَأَنْوَاعُ تَصَرُّفِهِمْ فِي وُجُوهِهِ بِخِلَافِ السَّمْعِ، فَإِنَّ أَسْمَاعَ النَّاسِ تَتَسَاوَى فِي إِدْرَاكِ الْمَسْمُوعَاتِ، فَلَا تَتَشَعَّبُ تَشَعُّبَ الْعُقُولِ فِي إِدْرَاكِ الْمَعْقُولَاتِ، وَأَمَّا الْأَبْصَارُ: فَهِيَ مِثْلُ الْعُقُولِ فِي التَّشَعُّبِ، وَأَعْظَمُ مَعِينٍ لِلْعُقُولِ فِي إِدْرَاكِهَا؛ لِأَنَّ أَنْوَاعَ الْمُبْصِرَاتِ كَثِيرَةٌ فَتُعْطِي لِلْعَقْلِ مَوَادَّ كَثِيرَةً، وَالسَّمْعُ لَا يُدْرِكُ إِلَّا الصَّوْتَ، وَلَيْسَ فِي الْكَلَامِ عِنْدَ النَّقْلِ طَرِيقٌ مِنْ طُرُقِ الْعِلْمِ الْيَقِينِيِّ إِلَّا التَّوَاتُرُ (بِخِلَافِ مَا نَقْطَعُ فِيهِ بِالضَّرُورَةِ مِنْ طَرِيقِ الْعَقْلِ وَالْبَصَرِ، فَهُوَ كَثِيرٌ، فَالْأَوَّلِيَّاتُ كَالْحُكْمِ أَنَّ الْجُزْءَ أَصْغَرُ مِنَ الْكُلِّ
وَأَنَّ النَّقِيضَيْنِ لَا يَجْتَمِعَانِ وَلَا يَرْتَفِعَانِ، وَالْقَضَايَا الَّتِي
قِيَاسَاتُهَا مَعَهَا مِنَ الْمَعْقُولَاتِ الْمَحْضَةِ، وَالتَّجْرِيبِيَّاتِ وَالْحَدْسِيَّاتِ يَشْتَرِكُ فِيهَا الْعَقْلُ وَالْبَصَرُ، وَالْقِسْمُ الْأَعْظَمُ مِنَ الْمُشَاهَدَاتِ سَبِيلُ الْإِدْرَاكِ فِيهِ الْبَصَرُ، فَالْعُقُولُ وَالْأَبْصَارُ بِمَنْزِلَةِ يَنَابِيعَ كَثِيرَةٍ تَنْبَجِسُ مِنْ كُلٍّ مِنْهَا عُيُونٌ لِلْعَلَمِ مُخْتَلِفَةٌ، بِخِلَافِ السَّمْعِ فَإِنَّهُ يَنْبُوعٌ وَاحِدٌ لَا اخْتِلَافَ فِيمَا يَصْدُرُ عَنْهُ) فَالْحَاصِلُ: أَنَّ الْعُقُولَ وَالْأَبْصَارَ تَتَصَرَّفُ فِي مُدْرَكَاتٍ كَثِيرَةٍ فَكَأَنَّهَا صَارَتْ بِذَلِكَ كَثِيرَةً فَجُمِعَتْ، وَأَمَّا السَّمْعُ فَلَا يُدْرِكُ إِلَّا شَيْئًا وَاحِدًا فَأُفْرِدَ.
سَأَلَهُ سَائِلٌ: كَيْفَ هَذَا، وَقَدْ قَالُوا: إِنَّ السَّمْعَ أَفْضَلُ مِنَ الْبَصَرِ؟ فَقَالَ: أَنَا لَا أَتَكَلَّمُ فِي التَّفْضِيلِ، ذَلِكَ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ، وَإِنَّمَا أَشْرَحُ مَوْجُودًا وَأُبَيِّنُ مُنَاسَبَةَ اللَّفْظِ لَهُ، (وَإِنَّ الْمُشَاهَدَةَ قَاضِيَةٌ بِأَنَّ الْعَقْلَ لَا مُنْتَهَى لِتَصَرُّفِهِ، وَبِأَنَّ أَقَلَّ مَا قِيلَ فِي الْبَصَرِ: إِنَّهُ يُدْرِكُ الْأَلْوَانَ، وَالْأَشْكَالَ، وَالْمَقَادِيرَ. وَالسَّمْعُ: لَا يُدْرِكُ إِلَّا الْأَصْوَاتَ فَقَطْ، كَمَا أَنَّ الذَّوْقَ لَا يُحِسُّ إِلَّا بِالْمَذُوقَاتِ وَحْدَهَا، وَإِنْ كَانَ مَا يَصِلُ مِنْ طَرِيقِ السَّمْعِ قَدْ يَتَضَمَّنُ حِكَايَةً عَنْ مَعْقُولٍ أَوْ مُبْصِرٍ، وَلَكِنَّ وُرُودَهُ عَلَى الْحِكَايَةِ لَا يُغَيِّرُ مِنْ حَقِيقَتِهِ، فَهُوَ مَعْقُولٌ أَوْ مُبْصَرٌ، فَمَنْ ذَكَرَ لَكَ بُرْهَانًا عَلَى حَقِيقَةٍ عِلْمِيَّةٍ فَإِنَّمَا تَسْمَعُ مِنْهُ الْأَصْوَاتِ وَالْحُرُوفَ، وَأَمَّا فَهْمُكَ الْمُقَدَّمَاتِ وَوُصُولُكَ مِنْهَا إِلَى النَّتَائِجِ فَهُوَ مِنْ طَرِيقِ عَقْلِكَ لَا مِنْ طَرِيقِ سَمْعِكَ، فَإِنْ كَانَ حَدِيثُ الْأَفْضَلِيَّةِ يَسْتَنِدُ إِلَى أَنَّ جَمِيعَ الْمُدْرَكَاتِ قَدْ يُمْكِنُ أَنْ يُعَبَّرَ عَنْهَا بِالْكَلَامِ - وَهُوَ مَسْمُوعٌ - فَقَدْ بَيَّنَّا لَكَ مَا فِيهِ، وَيُعَارِضُهُ أَنَّ جَمِيعَ ضُرُوبِ الْكَلَامِ يَصِحُّ أَنْ تُكْتَبُ، وَطَرِيقُ فَهْمِهَا مِنَ الرَّقْمِ
إِنَّمَا هُوَ الْبَصَرُ، وَالْحَقُّ: أَنَّ الْمُعَوَّلَ عَلَيْهِ فِي تَعَدُّدِ الطَّرِيقِ لَيْسَ مَا يَكُونُ مِنْ قَبِيلِ الْحِكَايَةِ، بَلْ مَا يَكُونُ مِنْ طَبِيعَةِ الْقُوَّةِ) .
وَأَمَّا انْطِبَاقُ الْكَلَامِ عَلَى تِلْكَ الْأَقْسَامِ السَّابِقَةِ وَبَيَانُ حِرْمَانِهِمْ وَكَوْنِهِمْ كَمَا وُصِفُوا - فَهُوَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الطَّائِفَةِ الَّتِي عَانَدَتِ الْحَقَّ وَهِيَ تَعْرِفُهُ - ظَاهِرٌ، لِأَنَّهُمْ لَمَّا عَانَدُوا الْحَقَّ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْتِ عَلَى أَيْدِيهِمْ (فَقَدْ طُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ بِطَابَعِ ذَلِكَ الْعِنَادِ نَفْسِهِ، فَإِنَّهُ قَدْ حِيلَ بَيْنَ عُقُولِهِمْ وَإِدْرَاكِ مَا يَصِيرُونَ إِلَيْهِ بِالْإِصْرَارِ عَلَى الْبَاطِلِ مِنْ ضَعْفِ أَمْرٍ وَفَسَادِ حَالٍ فِي الدُّنْيَا، وَشَقَاءٍ وَخُلُودٍ فِي نَكَالِ الْآخِرَةِ، ثُمَّ هُمْ قَدْ حُجِبُوا بِهِ عَنْ إِدْرَاكِ مَا يَتْبَعُ) ذَلِكَ الْحَقَّ مِنَ الْمَعَارِفِ وَالْحَقَائِقِ الْأُخْرَى، فَقَدْ خُتِمَ عَلَى قُلُوبِهِمْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا حُجِبُوا عَنْهُ.
وَأَمَّا الْخَتْمُ عَلَى سَمْعِهِمْ، فَلِأَنَّهُمْ صَمُّوا عَنْ سَمَاعِ الْحَقِّ وَاسْتِمَاعِ الْقَوْلِ لِفَهْمِهِ، فَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ فَهْمِ الْحَقِّ فَهُوَ لَمْ يَسْمَعْ إِلَّا صَوْتًا لَمْ يَنْفُذْ شَيْءٌ مِنْ مَعْنَاهُ إِلَى مَوْضِعِ الْإِدْرَاكِ الْحَقِيقِيِّ مِنْهُ، فَقَدْ خُتِمَ عَلَى سَمْعِهِ فَلَا يَنْفُذُ إِلَيْهِ شَيْءٌ يَنْتَفِعُ بِهِ.
وَأَمَّا الْأَبْصَارُ فَإِنَّمَا كَانَتْ عَلَيْهَا غِشَاوَاتٌ عِنْدَ هَؤُلَاءِ الْجَاحِدِينَ؛ لِأَنَّ فَائِدَةَ الْبَصَرِ: هِيَ التَّوَقِّي مِنَ الْخَطَرِ، وَالْعِبْرَةُ بِمَا يُبْصَرُ، فَمَنْ لَمْ يَنْظُرْ فِي الْآيَاتِ الْكَوْنِيَّةِ الَّتِي تَقَعُ تَحْتَ بَصَرِهِ كُلَّ يَوْمٍ كَأَنَّهُ لَمْ يُبْصِرْ شَيْئًا مِنْهَا، فَقَدْ ضُرِبَ عَلَى بَصَرِهِ بِغِشَاوَةٍ، (وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْقِسْمَيْنِ الْآخَرَيْنِ اللَّذَيْنِ جُمِعَا تَحْتَ قِسْمٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ قِسْمُ الْمُعْرِضِينَ الْجَاحِدِينَ الْجَاهِلِينَ كَمَا سَبَقَ، فَالْخَتْمُ عَلَى الْقُلُوبِ وَالسَّمْعِ وَالْأَبْصَارِ ظَاهِرٌ، لِأَنَّهُمْ لَمْ يَنْتَفِعُوا بِشَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْقُوَى حَتَّى فِي فَهْمِ مَا يُعْرَضُ عَلَيْهِمْ، وَرُؤْيَةِ مَا يَقَعُ تَحْتَ حَوَاسِّهِمْ) وَالْكَلَامُ كُلُّهُ ضَرْبٌ مِنَ التَّمْثِيلِ يَعْرِفُهُ اللِّسَانُ وَتَعْهَدُهُ اللُّغَةُ، وَالْمَعْنَى هُوَ مَا بَيَّنَّا وَاللهُ أَعْلَمُ. (وَلَمَّا كَانَ حَدِيثُ الْخَتْمِ تَمْثِيلًا لِفَقْدِ حَقِيقَةِ الْفَهْمِ وَالْحِرْمَانِ مِنْ فَوَائِدِ تِلْكَ الْمَوَاهِبِ الْإِلَهِيَّةِ - مَوَاهِبِ الْعَقْلِ وَالسَّمْعِ وَالْإِبْصَارِ - كَانَ إِسْنَادُهُ إِلَى اللهِ تَأْكِيدًا لِمَعْنَى الْحِرْمَانِ، وَتَقْدِيرًا لِمُصِيبَةِ الْخُسْرَانِ؛ لِأَنَّ مَا خُتِمَ بِيَدِ اللهِ لَا تَفُضُّهُ يَدٌ سِوَاهُ) .
وَأَمَّا النُّكْتَةُ فِي اسْتِعْمَالِ الْخَتْمِ مَعَ الْقُلُوبِ وَالسَّمْعِ، وَالْغِشَاوَةِ مَعَ الْبَصَرِ: فَهِيَ أَنَّ الْخَتْمَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَكُونَ عَلَى الْمَكْنُونِ الْمَسْتُورِ، وَهَكَذَا مَوْضِعُ حِسِّ السَّمْعِ، وَمَوْضِعُ الْإِدْرَاكِ مِنَ الْعَقْلِ، وَالْأَسْمَاعُ فِي ظَاهِرِ الْخِلْقَةِ، وَأَمَّا الْبَصَرُ فَالْحَاسَّةُ مِنْهُ
ظَاهِرَةٌ مُنْكَشِفَةٌ (قَالَ) : وَمِثْلُ هَذِهِ الدَّقَائِقِ هِيَ الْمُرَادَةُ بِقَوْلِ صَاحِبِ التَّلْخِيصِ: " وَلِكُلِّ كَلِمَةٍ مَعَ صَاحِبَتِهَا مَقَامٌ ".
(وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) أَقُولُ: الْعَذَابُ اسْمٌ لِمَا يُؤْلِمُ وَيَذْهَبُ بِعُذُوبَةِ الْحَيَاةِ مِنْ ضَرْبٍ وَوَجَعٍ وَجُوعٍ وَظَمَأٍ. قَالَ الرَّاغِبُ: وَاخْتُلِفَ فِي أَصْلِهِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ مِنْ قَوْلِهِمْ: عَذَبَ الرَّجُلُ إِذَا تَرَكَ الْمَأْكَلَ (زَادَ غَيْرُهُ: مِنْ شِدَّةِ الْعَطَشِ) وَالنَّوْمَ، فَهُوَ عَاذِبٌ وَعَذُوبٌ، فَالتَّعْذِيبُ فِي الْأَصْلِ: هُوَ حَمْلُ الْإِنْسَانِ أَنْ يُعَذَّبَ، أَيْ يَجُوعُ وَيَسْهَرُ، وَقِيلَ: أَصْلُهُ مِنَ الْعَذْبِ، فَعَذَّبْتُهُ: أَزَلْتُ عَذْبَ حَيَاتِهِ، عَلَى بِنَاءِ: مَرَّضْتُهُ وَقَذَيْتُهُ، وَقِيلَ أَصْلُ التَّعْذِيبِ: إِكْثَارُ الضَّرْبِ بِعَذْبَةِ السَّوْطِ أَيْ طَرَفِهِ اهـ.
وَقَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: الْعَذَابُ كَالنَّكَالِ بِنَاءً وَمَعْنًى، تَقُولُ: أَعْذَبَ عَنِ الشَّيْءِ وَنَكَلَ عَنْهُ إِذَا أَمْسَكَ، وَمِنْهُ الْمَاءُ الْعَذْبُ؛ لِأَنَّهُ يَقْمَعُ الْعَطَشَ وَيَرْدَعُهُ، وَلِذَلِكَ يُسَمَّى نُقَاخًا وَفُرَاتًا ثُمَّ اتَّسَعَ فَأُطْلِقَ عَلَى كُلِّ أَلَمٍ فَادِحٍ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عِقَابًا يَرْدَعُ الْجَانِيَ عَنِ الْمُعَاوَدَةِ إِلَخْ.
وَالْعَظِيمُ: ضِدُّ الْحَقِيرِ، فَهُوَ فَوْقَ الْكَبِيرِ الَّذِي هُوَ ضِدُّ الصَّغِيرِ، وَتَنْكِيرُ الْعَذَابِ هُنَا
لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّهُ نَوْعٌ مِنْهُ مُبْهَمٌ مَجْهُولٌ عِنْدَ أَهْلِ الدُّنْيَا، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ عَذَابُ الْآخِرَةِ الَّتِي هِيَ مِنْ عَالَمِ الْغَيْبِ.
وَقَالَ شَيْخُنَا تَبَعًا لِلْجُمْهُورِ: التَّنْكِيرُ فِيهِ لِلتَّعْظِيمِ وَالتَّهْوِيلِ، وَوَصْفُهُ مَعَ ذَلِكَ بِعَظِيمٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ بَالِغٌ حَدَّ الْعَظَمَةِ كَمًّا وَكَيْفًا، فَهُوَ شَدِيدُ الْإِيلَامِ وَطَوِيلُ الزَّمَانِ، وَهَلْ هَذَا الْعَذَابُ فِي الدُّنْيَا أَمْ فِي الْآخِرَةِ؟ قَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى (لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (5: 41) فَيُؤْخَذُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ وَمِنْ آيَاتٍ أُخْرَى: أَنَّ الْإِعْرَاضَ عَنْ هَدْيِ الْإِسْلَامِ، وَمَا أَرْشَدَ إِلَيْهِ مِنْ إِصْلَاحِ الْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ جَزَاؤُهُ الضَّنْكُ وَفَقْدُ الْعِزَّةِ وَالسُّلْطَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْعَذَابُ الْعَظِيمُ فِي الْعُقْبَى.
وَهُنَا سَأَلَهُ سَائِلٌ: هَلِ الْآيَةُ نَصٌّ فِي التَّكْلِيفِ بِالْمُحَالِ؟ فَقَالَ: لَا، وَأَنَا لَا أُحِبُّ أَنْ أَحْشُرَ الْمَسَائِلَ الْخِلَافِيَّةَ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ، بَلْ أُحِبُّ أَنْ أُبَيِّنَ الْمَعْنَى الَّذِي كَانَ يَفْهَمُهُ الصَّحَابَةُ - رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُمْ -، وَمَا كَانَ يَخْطُرُ عَلَى بَالِ أَحَدٍ مِنْهُمُ التَّكْلِيفُ بِالْمُحَالِ، عَلَى أَنَّ الِاتِّفَاقَ وَاقِعٌ بَيْنِ الْأَئِمَّةِ بَلْ بَيْنَ الْأُمَّةِ عَلَى أَنَّ التَّكْلِيفَ
بِالْمُحَالِ غَيْرُ وَاقِعٍ، وَأَنَّ اللهَ لَا يُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْكِتَابِ وَتَضَافَرَتْ عَلَيْهِ الْأَحَادِيثُ النَّبَوِيَّةُ، فَمَا بَقِيَ مِنْ مَوَاضِعِ الْخِلَافِ لَا يَمَسُّ نُصُوصَ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ الَّذِي (لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) (41: 42) .
(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ يُخَادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ)
قَدَّمْنَا أَنَّ الْكَلَامَ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ فِي الْقُرْآنِ وَأَقْسَامِ النَّاسِ بِإِزَائِهِ، وَذَكَرْنَا مِنْهُمْ ثَلَاثَ فِرَقٍ - فِرْقَتَانِ لَهُمَا فِيهِ هُدًى:
(إِحْدَاهُمَا) : الْمُتَّقُونَ وَبُيِّنَ حَالُهُمْ بِقَوْلِهِ: (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ)(2: 3) إِلَخْ، وَمِنْهُمُ الَّذِينَ كَانُوا يُدْعَوْنَ الْحَنِيفِيِّينَ، وَالْمُنْصِفُونَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ كَانُوا يَنْتَظِرُونَ إِشْرَاقَ نُورِ الْحَقِّ لِيَهْتَدُوا بِهِ كَمَا تَقَدَّمَ.
(الثَّانِيَةُ) : هِيَ الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ)(2: 4) إِلَخْ، وَهُمْ كُلُّ مَنْ آمَنَ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَغَيْرِهِمْ عَلَى التَّحْقِيقِ.
وَبَيَّنَّا أَنَّهُ يُوجَدُ بِإِزَاءِ هَاتَيْنِ الطَّائِفَتَيْنِ طَائِفَتَانِ أُخْرَيَانِ لَا تُرْجَى هِدَايَتُهُمَا بِالْقُرْآنِ:
الْأُولَى مِنْهُمَا: هِيَ الْمَشْرُوحُ حَالُهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ)(2: 6) إِلَخْ. وَهِيَ كَمَا قَدَّمْنَا تَنْقَسِمُ إِلَى قِسْمَيْنِ: جَاحِدِينَ لَا يَسْمَعُونَ، وَمُعَانِدِينَ يَعْرِفُونَ الْحَقَّ وَلَا يُذْعِنُونَ.
وَهَذِهِ الْآيَاتُ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِ تَفْسِيرِهَا الْآنَ هِيَ الْمُبَيِّنَةُ لِحَالِ الْفِرْقَةِ الرَّابِعَةِ، وَهِيَ فِرْقَةٌ مِنَ النَّاسِ تُوجَدُ فِي كُلِّ آنٍ وَفِي كُلِّ عَصْرٍ، وَلَيْسَتِ الْآيَاتُ كَمَا قِيلَ فِي أُولَئِكَ النَّفَرِ مِنَ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ كَانُوا فِي عَصْرِ التَّنْزِيلِ، وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى فِي بَيَانِ حَالِهِمْ:(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ)(2: 8) وَلَمْ يَقُلْ عَنْهُمْ إِنَّهُمْ يَقُولُونَ مَعَ ذَلِكَ: " وَآمَنَّا بِكَ يَا مُحَمَّدُ " وَمَا كَانَ الْقُرْآنُ لِيَعْتَنِيَ بِأُولَئِكَ النَّفَرِ - الَّذِينَ
لَمْ يَلْبَثُوا أَنِ انْقَرَضُوا - كُلَّ هَذِهِ الْعِنَايَةِ، وَيُطِيلَ فِي بَيَانِ حَالِهِمْ أَكْثَرَ مِمَّا أَطَالَ فِي الْأَصْنَافِ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ هُمْ سَائِرُ النَّاسِ.
نَعَمْ: إِنَّ الْآيَاتِ عَلَى عُمُومِهَا تَتَنَاوَلُ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ فِي عَصْرِ التَّأْوِيلِ تَنَاوُلًا أَوَّلِيًّا، وَتَصِفُ حَالَهُمْ وَصْفًا مُطَابِقًا، وَهِيَ مَعَ ذَلِكَ عِبْرَةٌ عَامَّةٌ شَامِلَةٌ لِمَنْ مَضَى وَلِمَنْ يَجِيءُ مِنْ هَذَا الصِّنْفِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَقَدْ كَانَ وَيَكُونُ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ وَالْمَجُوسِ وَمِنْ كُلِّ طَائِفَةٍ تَدَّعِي أَنَّهَا عَلَى دِينٍ، وَلَمْ يَحْكِ عَنْهُمْ دَعْوَى الْإِيمَانِ بِالْأَنْبِيَاءِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ - مَعَ أَنَّ مِنْهُمُ الَّذِينَ يَدَّعُونَ ذَلِكَ - لِأَنَّ الْإِيمَانَ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ يَتَضَمَّنُ ذَلِكَ، فَهُوَ إِنَّمَا يُعْرَفُ مِنْ قِبَلِ الْأَنْبِيَاءِ، وَهَذَا مِنْ ضُرُوبِ إِيجَازِ الْقُرْآنِ الَّتِي بَلَغَتْ حَدَّ الْإِعْجَازِ.
قَدْ يُقَالُ: كَانَ فِي أُولَئِكَ الْقَوْمِ مَنْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ كَمُنَافِقِي الْيَهُودِ، فَلِمَ كَذَّبَهُمْ وَنَفَى عَنْهُمُ الْإِيمَانَ نَفْيًا مُطْلَقًا مُؤَكَّدًا بِدُخُولِ الْبَاءِ فِي خَبَرِ " مَا " فَقَالَ:(وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ) أَيْ بِدَاخِلِينَ فِي جَمَاعَةِ الْمُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ أَلْبَتَّةَ، وَهُوَ أَبْلَغُ مَنْ نَفْيِ فِعْلِ الْإِيمَانِ الْمُطَابِقِ لِلَفْظِهِمْ وَالْمُقَيَّدِ بِالْإِيمَانِ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ؟ وَالْجَوَابُ: أَنَّ اعْتِقَادَهُمُ التَّقْلِيدِيَّ الضَّعِيفَ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَثَرٌ فِي أَخْلَاقِهِمْ وَلَا فِي أَعْمَالِهِمْ، فَلَوْ حُصِّلَ مَا فِي صُدُورِهُمْ وَمُحِّصَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ، وَعُرِفَتْ مَنَاشِئُ الْأَعْمَالِ مِنْ نُفُوسِهِمْ، لَوُجِدَ أَنَّ مَا كَانَ لَهُمْ مِنْ عَمَلٍ صَالِحٍ كَصَلَاةٍ وَصَدَقَةٍ فَإِنَّمَا مَبْعَثُهُ رِئَاءُ النَّاسِ وَحُبُّ السُّمْعَةِ، وَهُمْ مِنْ وَرَاءِ ذَلِكَ مُنْغَمِسُونَ فِي الشُّرُورِ، كَالْإِفْسَادِ وَالْكَذِبِ وَالْغِشِّ وَالْخِيَانَةِ وَالطَّمَعِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الرَّذَائِلِ الَّتِي حَكَاهَا عَنْهُمُ الْكِتَابُ وَنَقَلَهَا رُوَاةُ السُّنَّةِ، وَهَذِهِ الْأَعْمَالُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ كَمَا يُحِبُّ وَيَرْضَى أَنْ يُؤْمَنَ بِهِ، وَهُوَ أَنْ يَشْعُرَ الْمُؤْمِنُ بِعَظِيمِ سُلْطَانِهِ، وَيَعْلَمَ أَنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ مُطَّلِعٌ عَلَى سِرِّهِ وَإِعْلَانِهِ؛ لِأَنَّهُ مُهَيْمِنٌ عَلَى
السَّرَائِرِ، وَعَالِمٌ بِمَا فِي الضَّمَائِرِ، فَيُرْضِيهِ بِظَاهِرِهِ وَبَاطِنِهِ. بَلْ كَانُوا يَكْتَفُونَ بِبَعْضِ ظَوَاهِرِ الْعِبَادَاتِ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ يُرْضُونَ اللهَ تَعَالَى بِذَلِكَ، وَلِذَلِكَ قَالَ فِيهِمْ:
(يُخَادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا) أَقُولُ: الْخَدْعُ: أَنْ تُوهِمَ غَيْرَكَ خِلَافَ مَا تُخْفِيهِ مِنَ الْمَكْرُوهِ لَهُ لِتُنْزِلَهُ عَمَّا هُوَ بِصَدَدِهِ، مِنْ قَوْلِهِمْ: خَدَعَ الضَّبُّ إِذَا تَوَارَى فِي جُحْرِهِ، وَضَبٌّ خَادِعٌ، إِذَا أَوْهَمَ الصَّائِدَ إِقْبَالَهُ عَلَيْهِ، ثُمَّ خَرَجَ مِنْ بَابٍ آخَرَ،
وَأَصْلُهُ: الْإِخْفَاءُ.
هَذَا مَا حَرَّرَهُ الْبَيْضَاوِيُّ، وَقَدْ جَعَلَهُ الرَّاغِبُ أَعَمَّ، فَلَمْ يَعْتَبِرْ فِيمَا يُخْفِيهِ الْخَادِعُ أَنْ يَكُونَ مَكْرُوهًا، وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يَمْتَنِعُ إِسْنَادُهُ إِلَى اللهِ تَعَالَى وَإِلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَهُوَ مَا تَدُلُّ عَلَيْهِ صِيغَةُ الْمُشَارَكَةِ (يُخَادِعُونَ) وَقَالُوا: إِنَّهُ مُحَالٌ عَلَى اللهِ وَغَيْرُ لَائِقٍ بِالْمُؤْمِنِينَ بَلْ يُسْتَقْبَحُ؛ لِأَنَّهُ عَمَلُ الْمُنَافِقِينَ، وَقَدْ جَاءَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ) (4: 142) وَلَمَّا كَانَ إِخْفَاءُ شَيْءٍ عَنِ اللهِ تَعَالَى مُحَالًا فَسَّرُوا مُخَادَعَتَهُمْ لِلَّهِ هُنَا وَهُنَاكَ بِأَنَّهُ خِدَاعٌ فِي الصُّورَةِ لَا فِي الْحَقِيقَةِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ شَرَعَ أَنْ يُعَامَلُوا مُعَامَلَةَ الْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّهُمْ لَا يُجْزَوْنَ جَزَاءَهُمْ فِي الْآخِرَةِ، بَلْ يَكُونُونَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ، فَمُعَامَلَتُهُمُ الظَّاهِرَةُ غَيْرُ جَزَائِهِمُ الْمُغَيَّبِ عَنْهُمْ فِي الْآخِرَةِ، كَمَا أَنَّ عَمَلَهُمُ الظَّاهِرَ غَيْرُ كُفْرِهِمُ الْخَفِيِّ فِي أَنْفُسِهِمْ، فَالْجَزَاءُ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ، وَلَكِنَّ عَمَلَهُمْ خِدَاعٌ، وَمُقَابَلَةُ حَقِّ صُورَتِهِ صُورَةُ الْخِدَاعِ، وَلَكِنَّهُ لَا غِشَّ فِيهِ؛ لِأَنَّ النُّصُوصَ صَرِيحَةٌ فِي كُفْرِ الْمُنَافِقِينَ.
وَالتَّحْقِيقُ: أَنَّ فِعْلَ الْمُشَارَكَةِ هُنَا خَاصٌّ بِالْفَاعِلِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ فِعْلُهُ وَهُمُ الْمُنَافِقُونَ، وَصِيغَةُ " فَاعِلٍ " لَا تَطَّرِدُ فِيهَا الْمُشَارِكَةُ بِالْفِعْلِ كَعَاقَبْتُ اللِّصَّ، وَقَدْ تَكُونُ مُقَدَّرَةً أَوْ بِاعْتِبَارِ الشَّأْنِ أَوِ الْقَصْدِ، وَمِنَ التَّكَلُّفِ قَوْلُ بَعْضِهِمْ: إِنَّهُ عَبَّرَ عَنْ مُخَادَعَتِهِمْ لِلرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم بِمُخَادَعَةِ اللهِ تَعَالَى.
وَقَالَ شَيْخُنَا: الْعَمَلُ الظَّاهِرُ الَّذِي لَا يَصْدُقُهُ الْبَاطِنُ إِذَا قُصِدَ بِهِ إِرْضَاءُ آخَرَ يُسَمَّى فِي اللُّغَةِ: مُدَاجَاةً، وَمُدَارَاةً، وَمُخَادَعَةً، فَإِنْ كَانَ يُقْصَدُ بِهِ الْمُخَادَعَةُ فَظَاهِرٌ، وَإِلَّا فَيَكْفِي لِصِحَّةِ الْإِطْلَاقِ أَنَّ الْعَمَلَ عَمَلُ الْمُخَادِعِ لَا عَمَلُ الطَّائِعِ الْخَاضِعِ، وَهَذَا مُرَادُ الْقُرْآنِ مِنْ مُخَادَعَةِ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ هُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ الْمُؤْمِنِينَ بِاللهِ إِيمَانًا نَاقِصًا، لَمْ يَقْدُرُوا اللهَ فِيهِ حَقَّ قَدْرِهِ، وَيَسْتَحِيلُ أَنْ يَقْصِدَ الْمُؤْمِنُ بِاللهِ تَعَالَى مُخَادَعَتَهُ، وَلَكِنَّهُمْ لِجَهْلِهِمْ بِاللهِ ظَنُّوا بِهِ مَا يُسَوِّغُ وَصْفَهُمْ بِمَا ذَكَرَ عَنْهُمْ.
قَالَ تَعَالَى: (وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ) أَقُولُ: وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو (وَمَا يُخَادِعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ) وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى مَا قُلْنَا آنِفًا فِي صِيغَةِ " فَاعِلٍ " وَالْمُشَارَكَةُ هُنَا لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّهُمْ هُمُ الْخَادِعُونَ الْمَخْدُوعُونَ، وَقِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ (يَخْدَعُونَ) نَصٌّ فِي أَنَّ مُخَادَعَتَهُمْ
لِلَّهِ وَالْمُؤْمِنِينَ لَا تَأْثِيرَ لَهَا فِيهِمَا، فَهِيَ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِمَا صُورِيَّةٌ، وَفِي الْحَقِيقَةِ: أَنَّ الْقَوْمَ يَخْدَعُونَ أَنْفُسَهُمْ؛ لِأَنَّ ضَرَرَ عَمَلِهِمْ خَاصٌّ بِهِمْ، وَعَاقِبَتَهُ وَبَالٌ عَلَيْهِمْ
وَحْدَهُمْ.
وَقَالَ الْأُسْتَاذُ فِي الدَّرْسِ فِيهَا مَا مِثَالُهُ:
إِذَا رَجَعَ الْإِنْسَانُ إِلَى نَفْسِهِ، وَأَصْغَى لِمُنَاجَاةِ سِرِّهِ يَجِدُ عِنْدَمَا يَهُمُّ بِعَمَلِ شَيْءٍ أَنَّ فِي قَلْبِهِ طَرِيقَيْنِ، وَفِي نَفْسِهِ خَصْمَيْنِ مُخْتَصِمَيْنِ، أَحَدُهُمَا: يَأْمُرُهُ بِالْعَمَلِ وَسُلُوكِ الطَّرِيقِ الْأَعْوَجِ، وَآخَرُ: يَنْهَاهُ عَنِ الْعِوَجِ وَيَأْمُرُهُ بِالِاسْتِقَامَةِ عَلَى الْمَنْهَجِ، وَلَا يَتَرَجَّحُ عِنْدَهُ بَاعِثُ الشَّرِّ، وَلَا يُجِيبُ دَاعِيَ السُّوءِ، إِلَّا إِذَا خَدَعَ نَفْسَهُ بَعْدَ الْمُشَاوَرَةِ وَالْمُذَاكَرَةِ الْمَطْلُوبَةِ فِيهَا، وَصَرَفَهَا عَنِ الْحَقِّ وَزَيَّنَ لَهَا الْبَاطِلَ، وَهَذِهِ الشُّئُونُ النَّفْسِيَّةُ فِي غَايَةِ الْخَفَاءِ، تَكُونُ الْمُنَازَعَةُ ثُمَّ الْمُخَادَعَةُ ثُمَّ التَّرْجِيحُ وَيَمُرُّ ذَلِكَ كُلُّهُ كَلَمْحِ الْبَصَرِ، وَرُبَّمَا لَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهِ الْإِنْسَانُ بِفِكْرِهِ، وَلِذَلِكَ قَالَ:(وَمَا يَشْعُرُونَ) فَإِنَّ الشُّعُورَ هُوَ إِدْرَاكُ مَا خَفِيَ.
أَقُولُ: قَالَ الرَّاغِبُ بَعْدَ ذِكْرِ الشَّعْرِ - بِفَتْحِ الشِّينِ وَسُكُونِ الْعَيْنِ وَفَتْحِهَا - مِنْ مُفْرَدَاتِهِ وَشَعَرْتُ أَصَبْتُ الشَّعْرَ، وَمِنْهُ اسْتُعِيرَ شَعَرْتُ كَذَا أَيْ عَلِمْتُ عِلْمًا هُوَ فِي الدِّقَّةِ كَإِصَابَةِ الشَّعْرِ، وَمِنْهُ يُسَمَّى الشَّاعِرُ شَاعِرًا لِفِطْنَتِهِ وَدِقَّةِ مَعْرِفَتِهِ، فَالشِّعْرُ فِي الْأَصْلِ اسْمٌ لِلْعِلْمِ الدَّقِيقِ فِي قَوْلِهِمْ: لَيْتَ شِعْرِي. وَصَارَ فِي التَّعَارُفِ اسْمًا لِلْمَوْزُونِ الْمُقَفَّى مِنَ الْكَلَامِ اهـ.
أَقُولُ: وَيُنَاسِبُ هَذَا الشِّعَارُ - بِالْكَسْرِ - لِلْكِسَاءِ الْبَاطِنِ الَّذِي يَمَسُّ شَعْرَ الْإِنْسَانِ، وَالْمَعْرُوفُ فِي كُتُبِ اللُّغَةِ أَنَّ شَعَرَ بِهِ - كَنَصَرَ وَكَرُمَ - يَشْعُرُ شِعْرًا - بِالْكَسْرِ وَالْفَتْحِ - وَشُعُورًا مَعْنَاهُ عَلِمَ بِهِ وَفَطَنَ لَهُ وَأَدْرَكَهُ، وَالْفِطْنَةُ تَتَعَلَّقُ بِالْأُمُورِ الدَّقِيقَةِ.
وَأَطْلَقَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: أَنَّ الشُّعُورَ إِدْرَاكُ الْمَشَاعِرِ أَيِ الْحَوَاسِّ الْخَمْسِ، وَالتَّحْقِيقُ: أَنَّهُ إِدْرَاكُ مَا دَقَّ مِنْ حِسِّيٍّ وَعَقْلِيٍّ، فَلَا تَقُولُ: شَعَرْتُ بِحَلَاوَةِ الْعَسَلِ، وَبِصَوْتِ الصَّاعِقَةِ، وَبِأَلَمِ كَيَّةِ النَّارِ، وَإِنَّمَا تَقُولُ: أَشْعُرُ بِحَرَارَةِ مَا فِي بَدَنِي، وَبِمُلُوحَةٍ أَوْ مَرَارَةٍ فِي هَذَا الْمَاءِ إِذَا كَانَتْ قَلِيلَةً، وَبِهَيْنَمَةٍ وَرَاءَ الْجِدَارِ، وَمَا وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ هَذَا الْحَرْفِ يَدُلُّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى، أَيْ إِدْرَاكُ مَا فِيهِ دِقَّةٌ وَخَفَاءٌ.
فَمَعْنَى نَفْيِ الشُّعُورِ عَنِ الْمُنَافِقِينَ فِي مُخَادَعَتِهِمُ اللهَ تَعَالَى: أَنَّهُمْ يَجْرُونَ فِي كَذِبِهِمْ وَتَلْبِيسِهِمْ وَرِيَائِهِمْ عَلَى مَا أَلِفُوا وَتَعَوَّدُوا، فَلَا يُحَاسِبُونَ أَنْفُسَهُمْ عَلَيْهِ وَلَا يُرَاقِبُونَ اللهَ فِيهِ، وَمَا كُلُّهُمْ يُؤْمِنُونَ بِوُجُودِ اللهِ وَإِحَاطَةِ عِلْمِهِ، وَمَنْ يُؤْمِنُ بِوُجُودِهِ لَمْ يَتَرَبَّ عَلَى خَشْيَتِهِ وَمُرَاقَبَتِهِ، وَلَا يُفَكِّرْ فِيمَا يُرْضِيهِ وَفِيمَا يُغْضِبُهُ، فَهُوَ يَعْمَلُ عَمَلَ الْمُخَادِعِ لَهُ
وَمَا يَشْعُرُ بِذَلِكَ، وَأَمَّا مُخَادَعَتُهُمْ لِلْمُؤْمِنِينَ فَظَاهِرَةٌ، لِأَنَّهُمُ اتَّخَذُوهُمْ أَعْدَاءً وَهُمْ عَاجِزُونَ عَنْ إِظْهَارِ عَدَاوَاتِهِمْ، فَأَعْمَالُهُمُ الَّتِي يَقْصِدُونَ بِهَا إِرْضَاءَ الْمُؤْمِنِينَ كُلُّهَا خِدَاعٌ وَرِيَاءٌ.
وَقَدْ فَصَّلَ شَيْخُنَا سِرَّ مُخَادَعَتِهِمْ وَفَلْسَفَتَهَا بِبَيَانٍ عِلْمِيٍّ جَلِيٍّ، فَقَالَ مَا مَعْنَاهُ: هَؤُلَاءِ الْمَغْرُورُونَ إِذَا عَرَضَ زَاجِرُ الدِّينِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ شَهَوَاتِهِمْ قَامَ لَهُمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ مَا يُسَهِّلُ لَهُمْ أَمْرَهُ مِنْ أَمَلٍ فِي الْغُفْرَانِ، أَوْ تَأْوِيلٍ إِلَى غَيْرِ الْمُرَادِ، أَوْ تَحْرِيفٍ إِلَى مَا يُخَالِفُ الْقَصْدَ مِنَ الْخِطَابِ، وَذَلِكَ بِمَا رَسَخَ فِي نُفُوسِهِمْ مِنْ مَلَكَاتِ السُّوءِ، الْمُغَشَّاةِ بِصُوَرٍ مِنَ الْعَقَائِدِ الْمُلَوِّنَةِ مِمَّا قَدْ يَتَجَلَّى لِلْأَعْيُنِ فِيمَا يُسَمُّونَهُ إِيمَانًا وَمَا هُمْ فِي الْحَقِيقَةِ بِمُؤْمِنِينَ، وَإِنَّمَا هُمْ خَادِعُونَ مَخْدُوعُونَ، وَلَكِنَّهُمْ لَمَّا عُمِّيَ عَلَيْهِمْ مِنْ أَمْرِ أَنْفُسِهِمْ لَا يَشْعُرُونَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَمُرُّ فِي أَنْفُسِهِمْ وَهُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ.
وَفَرْقٌ ظَاهِرٌ بَيْنَ مَا تَسْتَحْضِرُهُ النَّفْسُ مِنَ الْمَعْلُومَاتِ وَتَسْتَعْرِضُهُ عِنْدَمَا تَسْأَلُ عَنْهُ، وَمَا هُوَ رَاسِخٌ فِيهَا مِنْ تِلْكَ الْمَعْلُومَاتِ، بِصَيْرُورَتِهِ مَلَكَةً فِي النَّفْسِ مُتَصَرِّفَةً فِي الْإِرَادَةِ، بَاعِثَةً لَهَا عَلَى الْعَمَلِ، فَمِنَ الْعُلُومِ مَا هُوَ ثَابِتٌ فِي النَّفْسِ مُمْتَزِجٌ بِهَا (عَلَى النَّحْوِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فَيَتْبَعُ امْتِزَاجَهُ هَذَا تَمَكُّنُ مَلِكَاتٍ أُخَرَ تَصْدُرُ عَنْهَا الْأَعْمَالُ، وَهِيَ مَا يُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْأَخْلَاقِ وَالصِّفَاتِ كَالْكَرَمِ وَالشَّجَاعَةِ وَنَحْوِهِمَا فَإِنَّهَا إِنَّمَا تَنْطَبِعُ فِي النَّفْسِ تَبَعًا لِلْعِلْمِ الَّذِي يُلَائِمُهَا) وَهُوَ الْعِلْمُ الْحَقِيقِيُّ الَّذِي تَصْدُرُ عَنْهُ الْأَعْمَالُ، وَرُبَّمَا يَغْفُلُ الْإِنْسَانُ عَنْهُ وَلَا يُلَاحِظُهُ عِنْدَمَا يَعْمَلُ، وَفَرْقٌ بَيْنَ مُلَاحَظَةِ الْعَلَمِ وَاسْتِحْضَارِهِ وَبَيْنَ وُجُودِهِ وَتَحَقُّقِهِ فِي نَفْسِهِ.
وَمِنَ الْعُلُومِ مَا يُلَاحِظُ الْإِنْسَانُ أَنَّهُ عِنْدَهُ، فَهُوَ صُورَةٌ عِنْدَ النَّفْسِ تَسْتَحْضِرُهُ عِنْدَ الْمُنَاسَبَةِ وَيَغِيبُ عَنْهَا عِنْدَ عَدَمِهَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَشْرَبْهُ الْقَلْبُ وَلَمْ يَمْتَزِجْ بِالنَّفْسِ فَيَصِيرَ صِفَةً مِنْ صِفَاتِهَا الرَّاسِخَةِ الَّتِي لَا تُزَايِلُهَا (وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الْعِلْمِ يَتَعَلَّقُ بِمَا تَعَلَّقَ بِهِ النَّوْعُ الْأَوَّلُ، كَعِلْمِ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ الَّذِي يُحَصِّلُهُ طَلَبَةُ الْفِقْهِ الْإِسْلَامِيِّ مَثَلًا، وَكَعِلْمِ مَزَايَا الْفَضِيلَةِ وَرَزَايَا الرَّذِيلَةِ الَّذِي يُخَزِّنُهُ طُلَّابُ عُلُومِ الْآدَابِ وَالْأَخْلَاقِ، وَالنُّظَّارُ فِي كُتُبِ الْأَوَاخِرِ وَالْأَوَائِلِ، لِتَعْزِيزِ مَادَّةِ الْعِلْمِ، وَتَوْسِيعِ مَجَالِ الْقَوْلِ، وَتَوْفِيرِ الْقُدْرَةِ عَلَى حُسْنِ الْمَنْطِقِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَهَذَا الْعِلْمُ كَالْأَدَاةِ الْمُنْفَصِلَةِ عَنِ الْعَامِلِ، يَبْقَى فِي خِزَانَةِ الْخَيَالِ، تَسْتَحْضِرُهُ النَّفْسُ عِنْدَمَا تَدْفَعُهَا الشَّهْوَةُ إِلَى تَزْيِينِ
ظَاهِرِ الْمَقَالِ، لَا إِلَى تَحْسِينِ بَاطِنِ الْحَالِ، وَلَنْ يَكُونَ لِهَذَا الضَّرْبِ مِنَ الْعِلْمِ أَدْنَى أَثَرٍ فِي عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِ صَاحِبِهِ وَتَسْمِيَتُهُ عِلْمًا؛ لِأَنَّهُ يَدْخُلُ فِي تَعْرِيفِهِ الْعَامِّ:" صُورَةٌ مِنَ الشَّيْءِ حَاضِرَةٌ عِنْدَ النَّفْسِ " وَعِنْدَ التَّدْقِيقِ لَا تَرْتَفِعُ بِهِ مَنْزِلَتُهُ إِلَى أَنْ يَنْدَرِجَ فِي مَعْنَى الْعِلْمِ (الْحَقِيقِيِّ) فَاسْتِحْضَارُ هَذَا الْعِلْمِ كَاسْتِحْضَارِ الْكِتَابِ وَاللَّوْحِ وَإِدْرَاكِ مَا فِيهِ، ثُمَّ الذُّهُولِ عَنْهُ وَنِسْيَانِهِ عِنْدَ الِاشْتِغَالِ بِشَيْءٍ آخَرَ.
فَهَؤُلَاءِ - الَّذِينَ يَخْدَعُونَ أَنْفُسَهُمْ وَيُخَادِعُونَ اللهَ تَعَالَى - عِنْدَهُمْ عِلْمٌ حَقِيقِيٌّ تَنْبَعِثُ عَنْهُ أَعْمَالُهُمْ، وَإِنْ كَانَ بَاطِلًا فِي نَفْسِهِ، وَهُوَ تَصْدِيقُهُمْ بِمَا فِي شَهَوَاتِهِمْ مِنَ الْمَصْلَحَةِ لِذَوَاتِهِمْ، وَهُوَ الَّذِي رَجَّحَ عِنْدَهُمُ اخْتِيَارَ مَا فِيهِ قَضَاؤُهَا وَالِانْصِبَابَ إِلَى مَا تَدْعُو إِلَيْهِ، وَهُوَ مَا أَنْسَاهُمْ مَا كَانُوا خَزَّنُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مِنْ صُوَرِ الِاعْتِقَادَاتِ الدِّينِيَّةِ، فَأَبْعَدَهُمْ ذَلِكَ عَنِ الِاعْتِقَادِ الْحَقِيقِيِّ الَّذِي يُعْتَدُّ بِهِ، وَجَعَلَهُ رَسْمًا مَخْزُونًا فِي الْخَيَالِ لَا أَثَرَ لَهُ فِي الْأَفْعَالِ، يَدْعُونَهُ بِأَلْسِنَتِهِمْ،
وَتُكَذِّبُهُمْ فِي دَعْوَاهُمْ أَعْمَالُهُمْ وَأَحْوَالُهُمْ، وَلِذَلِكَ نَسَبَهُمْ إِلَى الدَّعْوَى الْقَوْلِيَّةِ وَلَمْ يَقُلْ فِيهِمْ مَا قَالَ فِي ذَلِكَ الْفَرِيقِ الْأَوَّلِ:(الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ)(2: 3) فَإِنَّهُ هُنَاكَ ذَكَرَ إِيمَانَهُمْ وَقَفَّى عَلَيْهِ بِذِكْرِ الْعَمَلِ الَّذِي يَشْهَدُ لَهُ، وَمِنْ هُنَا يُعْلَمُ مَا الْإِيمَانُ الَّذِي يَعْتَدُّ بِهِ الْقُرْآنُ، وَهُوَ يَظْهَرُ لِمَنْ يَقْرَأُ لِيُحَاسِبَ بِهِ نَفْسَهُ، وَيَزِنُ إِيمَانَهُ وَأَعْمَالَهُ بِمَا حَكَمَ بِهِ عَلَى إِيمَانِ مَنْ قَبْلَهُ وَأَعْمَالِهِمْ، لَا لِمَنْ يَقْرَؤُهُ عَلَى أَنَّهُ قِصَّةٌ تَارِيخِيَّةٌ مَاتَ مَنْ يَحْكِي عَنْهُمْ، وَاسْتَثْنَى الْقَارِئُ نَفْسَهُ مِمَّنْ حُكِمَ عَلَيْهِمْ فِيهَا.
فَإِنْ كَانَ مَاتَ مَنْ كَانُوا سَبَبَ النُّزُولِ فَالْقُرْآنُ حَيٌّ لَا يَمُوتُ، يَنْطَبِقُ حُكْمُهُ وَيَحْكُمُ سُلْطَانُهُ عَلَى النَّاسِ فِي كُلِّ زَمَانٍ (فَكُلٌّ مُؤْمِنٌ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَعَ ذَلِكَ يَصْدُرُ فِي عَمَلِهِ عَنْ شَهَوَاتِهِ، وَلَا يَمْنَعُهُ إِيمَانُهُ عَنْ رُكُوبِ خَطِيئَاتِهِ، فَاعْتِقَادُهُ إِنَّمَا هُوَ خَيَالٌ، لَا يَعْلُو عَنْ لَفْظٍ فِي مَقَالٍ، وَدَعْوَى عِنْدَ جِدَالٍ، فَإِذَا رَكَنَ إِلَى هَذَا الْمُعْتَقَدِ فَهُوَ خَادِعٌ لِنَفْسِهِ مُخَادِعٌ لِرَبِّهِ، يَظُنُّ أَنَّ عَلَّامَ الْغُيُوبِ لَا يَنْظُرُ إِلَى مَا فِي الْقُلُوبِ) .
(فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) عُهِدَ عِنْدَ الْعَرَبِ التَّعْبِيرُ عَنِ الْعُقُولِ بِالْقُلُوبِ، وَالْمَرَضُ هُوَ مَا يَطْرَأُ عَلَى الْعُقُولِ فَيُضْعِفُ تَعَلُّقَهَا وَإِدْرَاكَهَا، وَالشَّكُّ وَالْوَهْمُ مِنْ أَعْرَاضِ هَذَا الْمَرَضِ، فَهُوَ ظُلْمَةٌ تَعْرِضُ لِلْعَقْلِ فَتَقِفُ بِشُعَاعِهِ أَنْ يَنْفُذَ إِلَى مَا وَرَاءِ التَّكَالِيفِ وَالْأَحْكَامِ مِنَ الْأَسْرَارِ وَالْحِكَمِ. وَهَذَا النُّفُوذُ: هُوَ الْفِقْهُ فِي الدِّينِ الَّذِي يَسُوقُ النَّفْسَ
إِلَى الْأَخْذِ بِهِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، وَقَدْ عَبَّرَ الْقُرْآنُ عَنْ فَقْدِ أَمْثَالِ هَؤُلَاءِ لِهَذَا بِقَوْلِهِ:(لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا)(7: 179) وَرُبَّمَا كَانَ التَّعْبِيرُ عَنِ الْعُقُولِ بِالْقُلُوبِ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَقَامِ؛ لِأَنَّ الْقَلْبَ يَظْهَرُ فِيهِ أَثَرُ الْوُجْدَانِ الَّذِي هُوَ السَّائِقُ إِلَى الْأَعْمَالِ (يَظْهَرُ لَكَ ذَلِكَ بِمَا تَجِدُهُ مِنَ اضْطِرَابِ قَلْبِكَ عِنْدَ اشْتِدَادِ الْخَوْفِ أَوِ اشْتِدَادِ الْفَرَحِ، فَإِنَّكَ تُحِسُّ بِزِيَادَةِ ضَرَبَاتِهِ وَشِدَّةِ نَبَضَاتِهِ) فَصُورَةُ الِاعْتِقَادِ إِذَا تَنَاوَلَهَا الْعَقْلُ مِنْ طَرِيقِ التَّقْلِيدِ وَالتَّسْلِيمِ فَجَعَلَهَا فِي زَاوِيَةٍ مِنْ زَوَايَا الدِّمَاغِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهَا سُلْطَانٌ عَلَى الْقَلْبِ وَلَا تَأْثِيرٌ فِي الْوِجْدَانِ، وَاعْتِقَادٌ لَا يَصْحَبُهُ هَذَا السُّلْطَانُ وَلَا يَصْدُرُ عَنْهُ هَذَا التَّأْثِيرُ، لَا يَعْتَدُّ اللهُ تَعَالَى بِهِ وَلَا يَسْتَفِيدُ الْإِنْسَانُ مِنْهُ - كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا - فَمَنْ لَمْ يَطْرُقِ الْإِيمَانُ قَلَبَهُ بِقُوَّةِ الْبُرْهَانِ وَلَمْ يَحْلُ مَذَاقُهُ مِنْهُ فِي الْوُجْدَانِ، بِحَيْثُ يَكُونُ هُوَ الْمُصَرِّفَ لَهُ فِي أَعْمَالِهِ، لَا يَنْفَعُهُ إِيمَانُهُ إِلَّا إِذَا تَمَرَّنَ عَلَى الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ عَنْ فَهْمٍ وَإِخْلَاصٍ، حَتَّى يَحْدُثَ لِقَلْبِهِ الْوِجْدَانُ الصَّالِحُ، فَأَهْلُ الْيَقِينِ يَبْعَثُهُمْ يَقِينُهُمْ عَلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَأَهْلُ التَّقْلِيدِ تُلْحِقُهُمْ أَعْمَالُهُمُ الصَّالِحَةُ بِأَهْلِ الْيَقِينِ فِي الِانْتِفَاعِ بِإِيمَانِهِمْ، وَهَذَا الْفَرِيقُ الَّذِي تَحْكِي عَنْهُ الْآيَاتُ وَتَصِفُهُ بِالْكَذِبِ وَالْخِدَاعِ، قَدْ فَقَدَ الْأَمْرَيْنِ مَعًا، وَلَا صِحَّةَ لِلْقَلْبِ إِلَّا بِهِمَا، فَمَنْ فَقَدَهُمَا مَرِضَ وَلَا يَلْبَثُ مَرَضُهُ أَنْ يَقْتُلَهُ.
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ مَا مَعْنَاهُ: وَلِضَعْفِ الْعَقْلِ أَسْبَابٌ:
مِنْهَا: مَا هُوَ فِطْرِيٌّ كَمَا هُوَ حَالُ أَهْلِ الْبَلَهِ وَالْعَتَهِ، وَهُوَ الَّذِي لَا يُكَلَّفُ صَاحِبُهُ وَلَا يُلَامُ.
وَمِنْهَا: مَا يَكُونُ مِنْ فَسَادِ التَّرْبِيَةِ الْعَقْلِيَّةِ كَمَا هُوَ حَالُ الْمُقَلِّدِينَ الَّذِينَ لَا يَسْتَعْمِلُونَ عُقُولَهُمْ، وَإِنَّمَا يَكْتَفُونَ بِمَا عَلَيْهِ قَوْمُهُمْ مِنَ الْأَوْهَامِ وَالْخَيَالَاتِ، وَيَرَيْنُ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا يَكْسِبُونَهُ مِنَ السَّيِّئَاتِ، وَمَا يَكُونُونَ عَلَيْهِ مِنَ التَّقَالِيدِ وَالْعَادَاتِ، وَلَا يَعْتَنُونَ بِمَا أَمَرَ اللهُ بِهِ مِنْ تَمْزِيقِ هَذِهِ الْحُجُبِ وَإِزَالَةِ هَذِهِ السُّحُبِ، لِلْوُقُوفِ عَلَى مَا وَرَاءَهَا مِنْ مُخَدِّرَاتِ الْعِرْفَانِ وَنُجُومِ الْفُرْقَانِ وَشُمُوسِ الْإِيمَانِ، بَلْ يَكْتَفُونَ بِمَا حَكَى الله عَنْهُمْ فِي قَوْلِهِ:(إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ)(43: 23) حَتَّى يَجِيءَ الْيَوْمُ الَّذِي يَقُولُونَ فِيهِ:
(رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَ)(33: 67) .
وَأَقُولُ: إِنَّ الْمَرَضَ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ: خُرُوجُ الْبَدَنِ عَنِ اعْتِدَالِ مِزَاجِهِ وَصِحَّةِ أَعْضَائِهِ فَيَخْتَلُّ بِهِ بَعْضُ وَظَائِفِهَا وَأَعْمَالِهَا، وَتَعْرِضُ الْآلَامُ لَهَا، وَيُطْلَقُ مَجَازًا
عَلَى اخْتِلَالِ مِزَاجِ النَّفْسِ، وَمَا يُخِلُّ بِكَمَالِهَا مِنْ نِفَاقٍ وَجَهْلٍ، وَارْتِيَابٍ وَشَكٍّ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ فَسَادِ الِاعْتِقَادِ الْحَقِّ، وَاضْطِرَابِ حُكْمِ الْعَقْلِ وَفَسَادِ الْخَلْقِ، وَالْمَرَضُ هُنَا مِنَ النَّوْعِ الثَّانِي كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا، وَخَصَّهُ شَيْخُنَا بِمُنَافِقِي الْيَهُودِ، فَقَالَ مَا مَعْنَاهُ: كَانَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ قَبْلَ مَجِيءِ النَّذِيرِ وَبَيَانِ الرُّشْدِ مِنَ الْغَيِّ عِنْدَمَا كَانُوا فِي فَتْرَةٍ حَظُّهُمْ مِنَ الْكُتُبِ قِرَاءَةُ أَلْفَاظِهَا، وَمِنَ الْأَعْمَالِ إِقَامَةُ صُوَرِهَا.
(فَزَادَهُمُ اللهُ مَرَضًا) بَعْدَ مَا جَاءَهُمُ الْبُرْهَانُ الْمُنِيرُ بِبَعْثَةِ الْبَشِيرِ النَّذِيرِ، وَوَجَدُوا مِنْهُ زَعْزَعَةً فِي أَنْفُسِهِمْ، وَلَكِنْ أَخَذَتْهُمُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَأَبَوُا الْإِيمَانَ، وَنَبَوَا عَنِ الْقُرْآنِ (وَزَادَ تَمَسُّكُهُمْ بِمَا كَانُوا عَلَيْهِ وَاشْتَدَّ حِرْصُهُمْ عَلَيْهِ) فَكَانَ شُعَاعُ النُّورِ الَّذِي جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ عَمًى فِي أَعْيُنِهِمْ، وَمَرَضًا عَلَى مَرَضِهِمْ.
(وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) أَيْ عَذَابٌ مُؤْلِمٌ فَوْقَ هَذِهِ الْأَمْرَاضِ، وَ " أَلِيمٌ " صِيغَةُ فَعِيلٍ مِنْ أَلَمَ يَأْلَمُ فَهُوَ أَلِيمٌ، وُصِفَ بِهِ الْعَذَابُ نَفْسُهُ.
(بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ)(فِي دَعْوَاهُمُ الْإِيمَانَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، فَإِنَّهُمْ لَمْ يُصَدِّقُوا بِأَعْمَالِهِمْ مَا يَزْعُمُونَهُ مِنْ حَالِهِمْ) .
أَقُولُ: وَأَمَّا مَرَضُ مُنَافِقِي الْمَدِينَةِ مِنَ الْعَرَبِ فَهُوَ الشَّكُّ فِي نُبُوَّتِهِ صلى الله عليه وسلم كَمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَغَيْرِهِمَا، وَعَنِ الْأَوَّلِ: أَنَّهُ النِّفَاقُ، وَعَنْ بَعْضِ تَلَامِيذِهِ: الرِّيَاءُ، وَحَسْبُكَ فِي زِيَادَةِ مَرَضِهِمْ قَوْلُهُ تَعَالَى:(وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا) إِلَى قَوْلِهِ (وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ)(9: 124 - 125) .
أَقُولُ: قَرَأَ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ (يَكْذِبُونَ) بِالتَّخْفِيفِ أَيْ بِسَبَبِ كَذِبِهِمْ،
وَقَرَأَ الْبَاقُونَ (يُكَذِّبُونَ) بِالتَّشْدِيدِ، أَيْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِسَبَبِ تَكْذِيبِهِمُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، وَالْحِكْمَةُ فِي الْقِرَاءَتَيْنِ: إِثْبَاتُ جَمْعِهِمْ لِلرَّذِيلَتَيْنِ، أَيِ الْكَذِبِ فِي دَعْوَى الْإِيمَانِ وَتَكْذِيبِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَالثَّانِيَةُ سَبَبُ الْأُولَى، وَهُمْ إِنَّمَا كَانُوا يُكَذِّبُونَهُ فِي أَنْفُسِهِمْ، وَفِيمَا بَيْنَهُمْ إِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ، وَالْعَذَابُ عُقُوبَةٌ عَلَيْهِمَا مَعًا، أَيْ عَلَى التَّكْذِيبِ وَهُوَ الْكُفْرُ، وَعَلَى الْكَذِبِ فِي دَعْوَى الْإِيمَانِ وَهُوَ النِّفَاقُ، وَهَؤُلَاءِ فِي بَاطِنِهِمْ شَرٌّ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا عِنَادًا مِنْ رُؤَسَاءِ قُرَيْشٍ، فَإِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يُكَذِّبُونَهُ صلى الله عليه وسلم وَإِنَّمَا كَانُوا يَجْحَدُونَ جُحُودَ اسْتِكْبَارٍ، قَالَ تَعَالَى:(فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللهِ يَجْحَدُونَ)(6: 33) .
قَالَ شَيْخُنَا: وَالْقِرَاءَةُ الْأُولَى هِيَ الْمَشْهُورَةُ وَالْعَذَابُ فِيهَا مَقْرُونٌ بِالْكَذِبِ لَا بِالتَّكْذِيبِ. وَقَدْ يُقَالُ: لِمَ جُعِلَ الْعَذَابُ جَزَاءَ الْكَذِبِ دُونَ الْكُفْرِ؟ وَالْجَوَابُ: أَنَّ الْكُفْرَ دَاخِلٌ فِي هَذَا الْكَذِبِ، وَإِنَّمَا اخْتِيرَ لَفْظُ الْكَذِبِ فِي التَّعْبِيرِ لِلتَّحْذِيرِ عَنْهُ، وَبَيَانِ فَظَاعَتِهِ وَعِظَمِ جُرْمِهِ، وَلِبَيَانِ أَنَّ الْكُفْرَ مِنْ مُشْتَمَلَاتِهِ وَيَنْتَهِي إِلَيْهِ فِي غَايَاتِهِ، وَلِذَلِكَ حَذَّرَ الْقُرْآنُ مِنْهُ أَشَدَّ التَّحْذِيرِ، وَتَوَعَّدَ عَلَيْهِ أَسْوَأَ الْوَعِيدِ، وَمَا فَشَا الْكَذِبُ فِي قَوْمٍ إِلَّا فَشَتْ فِيهِمْ كُلُّ جَرِيمَةٍ وَكَبِيرَةٍ؛ لِأَنَّهُ يَنْشَأُ مِنْ دَنَاءَةِ النَّفْسِ وَضَعْفِ الْحَيَاءِ وَالْمُرُوءَةِ، وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ لَا يَتْرُكُ قَبِيحًا إِلَّا بِالْعَجْزِ عَنْهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ تَعَالَى مِنْ عَمَلِهِ وَمِنْهُ. اهـ. بِالْمَعْنَى، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ السُّؤَالَ لَا يَرِدُ إِلَّا عَلَى قِرَاءَةِ التَّشْدِيدِ.
(وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ)
تَنْطِقُ هَذِهِ الْآيَاتُ بِأَنَّ مَا عَلَيْهِ هَذَا الصِّنْفُ مِنَ الْغُرُورِ بِمَا عِنْدَهُ مِنَ التَّقَالِيدِ قَدْ سُوِّلَ لَهُ الْبَاطِلُ وَزُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا، وَشُوِّهَ فِي نَظَرِهِ كُلُّ حَقٍّ لَمْ يَأْتِهِ عَلَى لِسَانِ رُؤَسَائِهِ وَمُقَلِّدِيهِ بِنَصِّهِ التَّفْصِيلِيِّ فَهُوَ يَرَاهُ قَبِيحًا، وَقَدْ صَوَّرَتِ الْآيَاتُ هَذَا الْغُرُورَ بِمَا حَكَتْهُ عَنْ بَعْضِ أَفْرَادِهِ وَهُوَ:
(وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ) بِمَا تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ مِنْ آمَنَ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا، وَتُنَفِّرُونَ النَّاسَ عَنِ اتِّبَاعِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَالْأَخْذِ بِمَا جَاءَ بِهِ مِنَ الْإِصْلَاحِ الَّذِي
يَجْتَثُّ أُصُولَ الْفَسَادِ وَيَصْطَلِمُ جَرَاثِيمَ الْإِدَادِ، وَيُحْيِي مَا أَمَاتَتْهُ الْبِدَعُ مِنْ إِرْشَادِ الدِّينِ، وَيُقِيمُ مَا قَوَّضَتْهُ التَّقَالِيدُ مِنْ سُنَنِ الْمُرْسَلِينَ.
(قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ) بِالتَّمَسُّكِ بِمَا اسْتَنْبَطَهُ الرُّؤَسَاءُ، وَمَا كَانَ عَلَيْهِ الْأَحْبَارُ وَالْعَرْفَاءُ مِنْ تَعَالِيمِ الْأَنْبِيَاءِ، فَإِنَّهُمْ أَعْرَفُ بِسُنَّتِهِمْ، وَأَدْرَى بِطَرِيقَتِهِمْ، فَكَيْفَ نَدَعُ مَا تَلَقَّيْنَاهُ مِنْهُمْ وَنَذَرُ مَا يُؤْثِرُهُ آبَاؤُنَا وَشُيُوخُنَا عَنْهُمْ وَنَأْخُذُ بِشَيْءٍ جَدِيدٍ وَطَارِفٍ لَيْسَ لَهُ تَلِيدٌ؟
هَكَذَا شَأْنُ كُلِّ مُفْسِدٍ يَدَّعِي أَنَّهُ مُصْلِحٌ فِي نَفْسِ إِفْسَادِهِ، فَإِنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ إِفْسَادِهِ عَارِفًا أَنَّهُ مُضِلٌّ - وَإِنَّمَا يَكُونُ كَذَلِكَ إِذَا كَانَ إِفْسَادُهُ لِغَيْرِهِ لِعَدَاوَةٍ مِنْهُ لَهُ - فَإِنَّمَا يَدَّعِي ذَلِكَ لِتَبْرِئَةِ نَفْسِهِ مِنْ وَصْمَةِ الْإِفْسَادِ بِالتَّمْوِيهِ وَالْمُوَارَبَةِ، وَإِنْ كَانَ مَسُوقًا إِلَى الْإِفْسَادِ بِسُوءِ التَّقْلِيدِ الْأَعْمَى الَّذِي لَا مِيزَانَ فِيهِ لِمَعْرِفَةِ الْإِصْلَاحِ مِنَ الْإِفْسَادِ إِلَّا الثِّقَةُ بِالرُّؤَسَاءِ الْمُقَلِّدِينَ، فَهُوَ يَدَّعِيهِ عَنِ اعْتِقَادٍ وَلَا يُرِيدُ أَنْ يَفْهَمَ غَيْرَ مَا تَلَقَّاهُ عَنْهُمْ، وَإِنْ كَانَ أَثَرُ تَقْلِيدِهِمْ وَالسَّيْرُ عَلَى طَرِيقَتِهِمْ مُفْسِدًا لِلْأُمَّةِ فِي الْوَاقِعِ وَنَفْسِ الْأَمْرِ؛ لِأَنَّ الْوُجُودَ وَالْحَقِيقَةَ الْوَاقِعَةَ لَا قِيمَةَ لَهُمَا وَلَا اعْتِبَارَ فِي نَظَرِ الْمُقَلِّدِينَ، بَلْ هُمْ لَا يَعْرِفُونَ مَنَاشِئَ الْفَسَادِ وَمَصَادِرَ الْخَلَلِ وَلَا مَزَالِقَ الزَّلَلِ، لِأَنَّهُمْ عَطَّلُوا نَظَرَهُمُ الَّذِي يُمَيَّزُ ذَلِكَ، وَأَرَادُوا أَنْ يُوقِعُوا غَيْرَهُمْ بِهَذِهِ الْمَهَالِكِ، بِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ الْإِسْلَامِ الدَّاعِي إِلَى الْوَحْدَةِ وَالِالْتِئَامِ، فَكَانَ ذَلِكَ مِنْهُمْ دُعَاءً إِلَى الْفُرْقَةِ وَالِانْفِصَامِ، وَالثَّبَاتِ عَلَى عِبَادَةِ الْمَلَائِكَةِ أَوِ الْبَشَرِ أَوِ الْأَصْنَامِ، وَأَيُّ إِفْسَادٍ فِي الْأَرْضِ أَعْظَمُ مِنَ التَّنْفِيرِ عَنِ اتِّبَاعِ الْحَقِّ، وَعَنِ الِاعْتِصَامِ بِدِينٍ فِيهِ سَعَادَةُ الدَّارَيْنِ، وَالْأَرْضُ إِنَّمَا تَفْسُدُ وَتَصْلُحُ بِأَهْلِهَا؟
وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى:
(أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ) فَابْتَدَأَ الْكَلَامَ الْمُؤَكَّدَ لِإِثْبَاتِ إِفْسَادِهِمْ بِكَلِمَةِ " أَلَا " الَّتِي يُرَادُ بِهَا التَّنْبِيهُ وَالْإِيقَاظُ وَتَوْجِيهُ النَّظَرِ، وَتَدُلُّ عَلَى اهْتِمَامِ الْمُتَكَلِّمِ بِمَا يَحْكِيهِ بَعْدَهَا.
(وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ) بِأَنَّ هَذَا إِفْسَادٌ غَرَزَ فِي طَبَائِعِهِمْ بِمَا تَمَكَّنَ فِيهَا مِنَ الشُّبْهَةِ بِتَقْلِيدِ رُؤَسَائِهِمُ الَّذِينَ أُشْرِبُوا عَظَمَتَهُمْ، وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مُعَانِدِينَ وَلَا مُرَائِينَ، وَأَنَّهُمْ عَلَى اعْتِقَادٍ ضَعِيفٍ لَا يَشْهَدُ لَهُ الْعَمَلُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ (يُخَادِعُونَ اللهَ) .
وَإِذَا كَانَتِ الْآيَاتُ فِي وَصْفِ طَائِفَةٍ مِنَ النَّاسِ تُوجَدُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ - كَمَا قَدَّمْنَا - فَلْيُحَاسِبْ بِهَا نَفْسَهُ كُلُّ مُسْلِمٍ يَعْتَقِدُ أَنَّ الْقُرْآنَ إِمَامُهُ وَأَنَّ فِيهِ هُدًى لَهُ، فَإِنَّهَا حُجَّةٌ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ يَدَّعُونَ الْإِسْلَامَ بِالْقَوْلِ وَيَعْمَلُونَ بِخِلَافِ مَا جَاءَ بِهِ وَيَتَّبِعُونَ غَيْرَ سَبِيلِهِ.
وَأَقُولُ الْآنَ: هَذِهِ جُمْلَةُ مَا قَرَّرَهُ شَيْخُنَا فِي الدَّرْسِ وَاضِعًا نُصْبَ عَيْنَيْهِ مُنَافِقِي الْيَهُودِ، وَلَا سِيَّمَا فُقَهَائِهِمُ الَّذِينَ كَانُوا مُجَاوِرِينَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الْمَدِينَةِ، وَشِدَّةُ الشَّبَهِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ فُقَهَاءِ السُّوءِ وَلَا سِيَّمَا فُقَهَاءِ عَصْرِنَا هَذَا، وَلِذَلِكَ نَبَّهَ لِعُمُومِ الْآيَاتِ وَشُمُولِهَا
لَهُمْ عَوْدًا عَلَى بَدْءٍ، وَإِنَّمَا مُرَادُهُ بِنَفْيِ الرِّيَاءِ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ مَا قَالُوا هُنَا،
وَهُوَ لَا يَنْفِي رِيَاءَهُمْ فِي غَيْرِهِ مِنْ أَقْوَالِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ، وَقَدْ كَانَ لِأُولَئِكَ الْأَحْبَارِ وَالرُّؤَسَاءِ مِنَ الْإِفْسَادِ غَيْرُ مَا ذُكِرَ، وَمِنْهُ إِغْرَاءُ الْمُشْرِكِينَ بِقِتَالِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالْمُؤْمِنِينَ وَوَعْدُهُمْ بِمُسَاعَدَتِهِمْ عَلَيْهِ، وَهَذَا إِفْسَادٌ كَبِيرٌ فِي الْأَرْضِ، وَكَانُوا يَسْتَبِيحُونَهُ بِأَنَّهُ تَوَسُّلٌ إِلَى حِفْظِ سُلْطَتِهِمْ وَرِيَاسَتِهِمُ الْمُهَدَّدَةِ بِاتِّبَاعِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم.
وَلَمْ يَذْكُرْ فِيمَا كَتَبْتُ عَنْهُ رَأْيَهُ فِيمَنْ سَأَلَهُمْ وَقَالَ لَهُمْ مَا ذُكِرَ وَأَجَابُوهُ بِهَذَا الْجَوَابِ، هَلْ هُوَ اللهُ تَعَالَى أَوِ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم أَوِ الْمُؤْمِنُونَ؟ وَهِيَ الِاحْتِمَالَاتُ الَّتِي ذَكَرَهَا الْمُفَسِّرُونَ - وَزَادَ بَعْضُهُمْ رَابِعًا: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ بَعْضُهُمْ سَأَلَ بَعْضًا لِمَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ اخْتِلَافِ الْحَالِ وَتَبَايُنِ الْآرَاءِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِيهِمْ:(تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى)(59: 14) فَأَيُّ مَانِعٍ لِنَهْيِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ عَنْ نَكْثِ مَا عَاهَدَهُمْ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ إِقْرَارِهِمْ عَلَى دِينِهِمْ وَحِفْظِ أَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ بِأَلَّا يُؤَلِّبُوا عَلَيْهِ الْمُشْرِكِينَ وَلَا يُسَاعِدُوهُمْ عَلَيْهِ، وَأَنْ يَقُولُوا لِلنَّاكِثِينَ الْمُفْسِدِينَ: إِنَّ الْحَرْبَ فَسَادٌ عَظِيمٌ لَا يُؤْمَنُ أَنْ يَتَعَدَّى إِلَيْنَا شَرُّهَا فَيَطِيرَ مِنْ شَرَرِهَا مَا نَحْتَرِقُ بِهِ، فَدَعُوا تَأْلِيبَ قَوْمِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ. ثُمَّ أَيُّ مَانِعٍ يَمْنَعُ أَنْ يُجِيبَهُمْ أُولَئِكَ الْمُفْسِدُونَ كَكَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ:
(إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ) بِمُسَاعَدَةِ قَوْمِهِ عَلَيْهِ لِأَنَّنَا نَخْشَى مِنْهُ مَا لَا نَخْشَى مِنْهُمْ، فَقَدْ عِشْنَا مَعَهُمْ أَجْيَالًا لَمْ يُنَازِعْنَا مِنْهُمْ أَحَدٌ فِي صِحَّةِ دِينِنَا، لِأَنَّهُمْ لَا يَدْعُونَ إِلَى شِرْكِهِمْ وَلَا يَحْتَقِرُونَ مَا نَحْنُ عَلَيْهِ مِنَ الدِّينِ، بَلْ يَرَوْنَنَا فَوْقَهُمْ فِي الْعِلْمِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُعْطِينَا أَوْلَادَهُ لِنُرَبِّيَهُمْ وَلَا يَكْرَهُونَ أَنْ نُلَقِّنَهُمْ دِينَنَا. وَأَمَّا مُحَمَّدٌ فَيَقُولُ: إِنَّنَا ضَلَلْنَا عَنْ دِينِنَا نَفْسِهِ، وَيَعِيبُنَا بِتَحْرِيفِ سَلَفِنَا وَخَلَفِنَا لِكِتَابِنَا، وَبِمَا كَانَ مِنْ مَخَازِي تَارِيخِنَا كَقَتْلِ الْأَنْبِيَاءِ وَنَكْثِ الْعُهُودِ، وَأَكْلِ السُّحْتِ، فَإِذَا كَانَ لَهُ الْغَلَبُ عَلَى مُشْرِكِي قَوْمِهِ، لَا نَأْمَنُ أَنْ يُبْقِيَ لَنَا دِينَنَا وَمَكَانَتَنَا السَّامِيَةَ فِي بِلَادِ الْعَرَبِ، وَإِنْ هُوَ حَفِظَ عَهْدَهُ لَنَا، وَلَمْ يَغْدِرْ فَيُقَاتِلْنَا فَكَيْفَ إِذَا هُوَ غَدَرَ بِنَا وَقَاتَلَنَا بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ قَوْمِهِ؟ .
هَذَا أَقْرَبُ إِلَى الْمَعْقُولِ مِمَّا قَالَهُ الْمُفَسِّرُونَ فِي السُّؤَالِ وَالسَّائِلِ، وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ لَعَلَّهُ أَقْوَى.
وَهُوَ أَنَّ السُّؤَالَ وَالْجَوَابَ مَفْرُوضٌ وَفَرْضٌ، وَالْمُرَادُ بَيَانُ حَالِهِمْ فِي هَذَا الْأَمْرِ وَمَا تَنْطَوِي عَلَيْهِ جَوَانِحُهُمْ بِصِيغَةِ السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ الَّتِي هِيَ أَقْوَى أَسَالِيبِ الْكَلَامِ تَنْبِيهًا لِلْأَذْهَانِ، وَتَوْجِيهًا لَهَا إِلَى الْإِحَاطَةِ بِمَعَانِي الْكَلَامِ، وَلِذَلِكَ يَسْتَعْمِلُهَا الْعُلَمَاءُ
فِي بَيَانِ مُهِمَّاتِ الْمَسَائِلِ وَحَلِّ عَوِيصِ الْمَشَاكِلِ، وَيَقُولُونَ: إِذَا قِيلَ كَذَا قُلْنَا كَذَا، وَإِنْ سُئِلْنَا عَنْ هَذَا أَجَبْنَا بِكَذَا، وَأَمَّا الْفَرْقُ بَيْنَ الشَّرْطَيْنِ فِي مِثْلِ هَذَا الْأُسْلُوبِ فَالْبَلَاغَةُ تَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ السُّؤَالُ بِإِذَا عَمَّا كَانَ سَبَبُهُ قَوِيًّا مِنْ شَأْنِهِ أَلَّا يُسْكَتَ عَنْهُ، وَيُصَدَّرَ بِإِنْ إِذَا كَانَ سَبَبُهُ ضَعِيفًا وَلَكِنَّهُ مُحْتَمَلٌ، فَيُجَابَ عَنْهُ احْتِيَاطًا.
ثُمَّ أَقُولُ: إِنَّ مَا تَقَدَّمَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ السُّؤَالَ وَالْجَوَابَ فِي بَيَانِ حَالِ مُنَافِقِي الْيَهُودِ - وَهُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدَ شَيْخِنَا - وَقَدْ وَرَدَ فِي التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ جَعْلُهُ فِي بَيَانِ حَالِ مُنَافِقِي الْمَدِينَةِ مِنَ الْعَرَبِ
كَعَبْدِ اللهِ بْنِ أُبَيٍّ ابْنِ سَلُولٍ وَحِزْبِهِ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ بِالتَّشْكِيكِ فِي الدِّينِ، وَبِتَفْرِيقِ كَلِمَةِ الْمُؤْمِنِينَ كَمَا فَعَلُوا فِي غَزْوَةِ أُحُدٍ ثُمَّ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، فَكَانَ هَذَا شَأْنَهُمْ وَإِنْ كَانَتِ الْغَزْوَتَانِ بَعْدَ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ، وَرُوِيَ تَفْسِيرُ إِفْسَادِهِمْ بِالْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي، وَمَا قُلْنَاهُ مِنْهُ وَلَكِنَّهُ أَخَصُّ وَهُوَ الْمُتَبَادَرُ، وَدَعْوَاهُمْ: أَنَّ هَذَا إِصْلَاحٌ كَدَعْوَاهُمُ الْإِيمَانَ، وَكُلُّ مُفْسِدٍ وَضَالٍّ يُسَمِّي إِفْسَادَهُ وَضَلَالَهُ بِأَسْمَاءٍ حَسَنَةٍ، كَمَا يُسَمُّونَ الشِّرْكَ بِاللهِ فِي زَمَانِنَا بِدُعَاءِ غَيْرِهِ: تَوَسُّلًا. . .
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ: إِنَّمَا نُرِيدُ الْإِصْلَاحَ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ.
ثُمَّ صَوَّرَتِ الْآيَاتُ ذَلِكَ الْجَهْلَ وَالْغُرُورَ فِي الْفَرِيقَيْنِ بِصُورَةٍ أُخْرَى أَشَدَّ تَشْوِيهًا مِمَّا قَبْلَهَا؛ لِأَنَّ تِلْكَ صُورَتُهُمْ فِي عَمَلِهِمْ، وَهَذِهِ صُورَتُهُمْ فِي جَوْهَرِ إِيمَانِهِمْ، وَهِيَ:
(وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ) الَّذِينَ تَعْتَقِدُونَ كَمَالَهُمْ وَتَرَوْنَ تَعْظِيمَهُمْ وَإِجْلَالَهُمْ: كَإِبْرَاهِيمَ، وَمُوسَى، وَعِيسَى، وَأَتْبَاعِهِمْ، الَّذِينَ كَانَ الْإِيمَانُ رَاسِخًا فِي جَنَابِهِمْ، وَمُؤَثِّرًا فِي وِجْدَانِهِمْ، وَمُصَرِّفًا لِأَبْدَانِهِمْ، أَوْ كَعَبْدِ اللهِ بْنِ سَلَامٍ وَأَمْثَالِهِ مِنْ عُلَمَائِكُمْ،
(قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ) أَقُولُ: الْمُرَادُ بِالسَّفَهِ: الطَّيْشُ وَخِفَّةُ الْعَقْلِ وَضَعْفُ الرَّأْيِ وَمِنْ لَوَازِمِهِ سُوءُ التَّصَرُّفِ، وَمِنْهُ قِيلَ: زِمَامٌ سَفِيهٌ: كَثِيرُ الِاضْطِرَابِ لِمَرَحِ النَّاقَةِ وَمُنَازَعَتِهَا إِيَّاهُ، وَثَوْبٌ سَفِيهٌ: رَدِيءُ النَّسْجِ، وَاسْتُعْمِلَ فِي خِفَّةِ النَّفْسِ لِنُقْصَانِ الْعَقْلِ، وَفِي الْأُمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَالْأُخْرَوِيَّةِ فَقِيلَ: سَفِهَ نَفْسَهُ، وَيَعْنُونَ بِالسُّفَهَاءِ أَتْبَاعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الْوَاقِفِينَ عِنْدَ مَا كَانَ عَلَيْهِ، الْمُعْرِضِينَ عَنْ غَيْرِ مَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ، لِمَا تَضَمَّنَهُ الْأَمْرُ مِنَ الشَّهَادَةِ لَهُمْ بِأَنَّهُمْ فِي إِيمَانِهِمْ كَأَتْبَاعِ أُولَئِكَ
الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، وَهُمْ سَلَفُ الْيَهُودِ الَّذِينَ كَانَ الْكَلَامُ مَعَهُمْ، وَكَانُوا يَفْتَخِرُونَ بِمَا يَتَنَاقَلُونَهُ مِنْ سِيرَتِهِمْ فَرَدَّ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ:
(أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ) أَيْ وَحْدَهُمْ دُونَ مَنْ عَرَّضُوا بِهِمْ؛ لِأَنَّ لَهُمْ سَلَفًا صَالِحًا تَرَكُوا الِاقْتِدَاءَ بِهِمْ، زَعْمًا أَنَّ الْمُتَأَخِّرَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ عَلَى هَدْيِ الْمُتَقَدِّمِ؛ لِأَنَّهُ يَصْعُبُ أَوْ يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ اللَّحَاقُ بِهِ، وَاحْتِذَاءُ عَمَلِهِ، لِعُلُوِّهِ فِي الدَّرَجَةِ، وَبُعْدِهِ فِي الْمَنْزِلَةِ، وَأَنَّ حَظَّهُمْ مِنْ سَلَفِهِمُ انْتِظَارُ شَفَاعَتِهِمْ، وَإِنْ لَمْ يَسِيرُوا عَلَى سُنَّتِهِمْ، فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَجْدَرُ بِلَقَبِ السَّفِيهِ، أَهُمْ أُولَئِكَ الْيَهُودُ الَّذِينَ لَهُمْ أُسْوَةٌ صَالِحَةٌ وَلَكِنَّهُمْ لَا يَهْتَدُونَ بِهَا وَهَذِهِ حَالُهُمْ مِنْ سُوءِ الْعَقِيدَةِ وَقُبْحِ الْعَمَلِ؟
أَمْ مَنْ لَا سَلَفَ لَهُ إِلَّا عَبَدَةُ الْأَوْثَانِ، وَقَلْبُهُ مَعَ ذَلِكَ مُطَمْئِنٌّ بِالْإِيمَانِ، وَأَعْمَالُهُ تَشْهَدُ لَهُ بِالْإِحْسَانِ، كَالصَّحَابَةِ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللهُ بِنُورِ الْإِسْلَامِ فَكَانُوا كَأَتْبَاعِ أُولَئِكَ الْأَنْبِيَاءِ الْكِرَامِ، بَلْ رُبَّمَا سَبَقُوهُمْ بِالْفَضَائِلِ، وَزَادُوا عَلَيْهِمْ فِي الْفَوَاضِلِ؟ لَا شَكَّ أَنَّ أُولَئِكَ الْمُفْسِدِينَ بَعْدَ مَا تَقَدَّمَ لَهُمْ مِنْ سَلَفٍ صَالِحٍ، وَدِينٍ قَيِّمٍ، هُمُ السُّفَهَاءُ دُونَ هَؤُلَاءِ الْعُقَلَاءِ.
(وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ) أَنَّ السَّفَهَ مَحْصُورٌ فِيهِمْ وَمَقْصُورٌ عَلَيْهِمْ، وَإِنَّمَا عِنْدُهُمْ شُعُورٌ مَا
بِأَنَّهُمْ رَكِبُوا هَوَاهُمْ وَلَمْ يَتَّبِعُوا هَدْيَ سَلَفِهِمْ وَلَا هُدَاهُمْ، يَنْتَحِلُونَ لَهُ الْعِلَلَ الضَّعِيفَةَ وَيَتَمَحَّلُونَ لَهُ الْأَعْذَارَ السَّخِيفَةَ، فَهُوَ لَمْ يَصِلْ إِلَى حَدِّ الْعِلْمِ الَّذِي تَتَكَيَّفُ بِهِ النَّفْسُ، وَيَكْفِي فِي إِثْبَاتِ سَفَهِهِمْ أَنَّهُمْ يَعْرِفُونَ حُسْنَ حَالِ سَلَفِهِمْ، وَيَعْتَرِفُونَ بِهِ، وَلَكِنْ لَا يَقْتَدُونَ بِهِمْ وَلَا يَقْتَفُونَ أَثَرَهُمْ، وَإِنَّمَا يَعْتَمِدُونَ فِي نَجَاتِهِمْ وَسَعَادَتِهِمْ عَلَى تِلْكَ الْأَمَانِيِّ وَالتَّعِلَّاتِ، كَقَوْلِهِمْ:(لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ)(3: 24) وَقَوْلِهِمْ (نَحْنُ أَبْنَاءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ)(5: 18) وَشَعْبُهُ وَأَصْفِيَاؤُهُ، وَلَا يَصِحُّ نَفْيُ الشُّعُورِ عَنْهُمْ فِي هَذَا الْمَقَامِ مَعَ ذَلِكَ الِاعْتِرَافِ وَإِنَّمَا هُوَ نَفْيُ الْعِلْمِ الْكَامِلِ الَّذِي يُزِيلُ الشُّبَهَ وَيَذْهَبُ بِالْعِلَلِ، وَيَبْعَثُ عَلَى الِاقْتِدَاءِ بِالْعَمَلِ.
وَهَذَا أَيْضًا حُجَّةٌ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ اللَّابِسِينَ لِبَاسَ الْإِسْلَامِ وَهُمْ مِنْ هَذَا الصِّنْفِ، يَعْتَقِدُونَ كَمَالَ سَلَفِهِمْ، وَلَا يَقْتَدُونَ بِهِمْ، وَإِنَّمَا يَطْمَعُونَ فِي سَعَادَةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ بِانْتِسَابِهِمْ إِلَى أُولَئِكَ السَّلَفِ الْعِظَامِ، وَلِكَوْنِهِمْ مِنْ أُمَّةِ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام وَهِيَ خَيْرُ الْأُمَمِ بِشَهَادَةِ اللهِ فِي الْقِدَمِ، وَلَكِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ أَنَّهَا فَضُلَتْ سِوَاهَا
بِكَوْنِهَا أُمَّةً وَسَطًا تَقُومُ عَلَى جَادَّةِ الِاعْتِدَالِ فِي الْعَقَائِدِ وَالْأَخْلَاقِ وَالْأَعْمَالِ، وَتَسْعَى فِي إِصْلَاحِ الْبَشَرِ بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، كَمَا سَيَأْتِي فِي تَفْسِيرِ (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا) (2: 143) وَتَفْسِيرِ (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ)(3: 110) وَلَيْسَ عِنْدَ هَؤُلَاءِ السُّفَهَاءِ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الصِّفَاتِ، إِلَّا الْأَمَانِيُّ وَالتَّعِلَّاتُ.
وَأَزِيدُ فِي هَذَا السِّيَاقِ الَّذِي شَرَحْتُ بِهِ قَوْلَ شَيْخِنَا فِي الدَّرْسِ: تَذْكِيرُ هَؤُلَاءِ مَرْضَى الْقُلُوبِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَالَّذِينَ اتَّبَعُوا سُنَنَ مَنْ قَبْلَهُمْ فِي هَذَا كَمَا اتَّبَعُوهُمْ فِي غَيْرِهِ ((شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ)) كَمَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ الصَّحِيحَيْنِ - أَزْيَدُ فِيهِ تَذْكِيرَهُمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي أَهْلِ الْكِتَابِ الْآتِي فِي هَذِهِ السُّورَةِ:(لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ)(2: 78) وَقَوْلِهِ فِيهِمْ وَفِي أَفْضَلِ سَلَفِ هَذِهِ الْأُمَّةِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم رضي الله عنهم: (لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا)(4: 123) الْآيَاتِ.
ثُمَّ أَقُولُ: إِنَّ جَرَيَانَ هَذَا السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ فِي مُنَافِقِي الْعَرَبِ أَظْهَرُ مِمَّا قَبْلَهُ - فَعَبْدُ اللهِ بْنُ أُبَيِّ ابْنِ سَلُولٍ وَأَصْحَابُهُ مِنْ مُنَافِقِي الْمَدِينَةِ، كَانُوا أَبْعَدَ عَنِ الْإِيمَانِ وَأَدْنَى إِلَى مُخَادَعَةِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَالْمُؤْمِنِينَ مِنْ مُنَافِقِي الْيَهُودِ فِي أَنْفُسِهِمْ وَقَوْمِهِمْ وَمَعَ الْمُؤْمِنِينَ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُمْ كَانُوا يَعُدُّونَ الْمُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ سُفَهَاءَ الْأَحْلَامِ، فِي اتِّبَاعِهِمْ لِلرَّسُولِ - عَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَأَزْكَى السَّلَامِ -، أَمَّا الْمُهَاجِرُونَ مِنْهُمْ، فَلِأَنَّهُمْ عَادَوْا قَوْمَهُمْ وَأَقَارِبَهُمْ وَهَجَرُوا وَطَنَهُمْ وَتَرَكُوا دِيَارَهُمْ لِيَكُونُوا تَابِعِينَ لَهُ، وَأَمَّا الْأَنْصَارُ، فَلِأَنَّهُمْ شَارَكُوا الْمُهَاجِرِينَ فِي دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ. وَكَوْنُ هَذَا مِنَ السَّفَهِ عِنْدَ الْمُؤْمِنِ بِهَذَا الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم وَمَا جَاءَ بِهِ ظَاهِرٌ جَلِيٌّ - وَلِذَلِكَ نُفِيَ عَنْهُمُ الشُّعُورُ بِأَنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ دُونَ الْمُؤْمِنِينَ، وَيُؤَيِّدُ مَا قُلْتُهُ: مَا حَكَاهُ اللهُ تَعَالَى
عَنْهُمْ فِي سُورَتِهِمْ بِقَوْلِهِ: (هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ)(63: 7) .
هَذَا - وَإِنَّنَا أَشَرْنَا إِلَى نُكْتَةِ اخْتِلَافِ التَّعْبِيرِ فِي نَفْيِ الشُّعُورِ عَنِ الْمُنَافِقِينَ فِي مَوْضِعَيْنِ، وَنَفْيِ الْعِلْمِ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ. وَأَزِيدُ عَلَيْهِ فِي نُكْتَةِ نَفْيِ الْعِلْمِ الْآنَ مَا يُنَبِّهُ الْأَذْهَانَ إِلَى دِقَّةِ التَّعْبِيرِ فِي الْقُرْآنِ، وَهُوَ أَنَّ أَمْرَ الْإِيمَانِ لَا يَتَحَقَّقُ
إِلَّا بِالْعِلْمِ الْيَقِينِي، فَمَوْضُوعُهُ عِلْمِيٌّ، ثُمَّ إِنَّ ثَمَرَتَهُ السَّعَادَةُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَلَا يُدْرِكُ ذَلِكَ إِلَّا مَنْ عَلِمَ حَقِيقَتَهُ، فَنُفِيَ عَنْهُمُ الْعِلْمُ بِأَنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ فِيمَا رَمَوْا بِهِ الْمُؤْمِنِينَ بِالسَّفَاهِ بِشُبْهَةِ أَنَّهُمْ أَخْطَئُوا مَصْلَحَتَهُمْ وَمَصْلَحَةَ قَوْمِهِمُ الْأَنْصَارِ وَمَصْلَحَةَ أُمَّتِهِمُ الْعَرَبِيَّةِ فِي اتِّبَاعِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؛ لِأَنَّ عَدَمَ الْعِلْمِ بِذَلِكَ سَبَبُهُ عَدَمُ الْعِلْمِ بِكُنْهِ الْإِيمَانِ وَعَاقِبَتِهِ، وَمَنْ جَهِلَ الْمَلْزُومَ كَانَ بِلَوَازِمِهِ أَجْهَلَ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ مَا الْإِيمَانُ حَتَّى يَعْلَمُوا أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ سُفَهَاءُ غَاوُونَ، أَوْ عُقَلَاءُ رَاشِدُونَ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ عَلَى الشَّيْءِ فَرْعٌ عَنْ تَصَوُّرِهِ، وَهُمْ جَاهِلُونَ بِهِ وَيَجْهَلُونَ أَنَّهُمْ جَاهِلُونَ.
وَمِنْ مَبَاحِثِ الْأَدَاءِ فِي الْآيَاتِ: مَا فِي اجْتِمَاعِ الْهَمْزَتَيْنِ مِنْ آخَرِ " السُّفَهَاءِ " وَأَوَّلِ " أَلَا " مِنْ قِرَاءَةِ تَحْقِيقِهِمَا بِالنُّطْقِ بِهِمَا مَعًا وَقِرَاءَتَيْ تَحْقِيقِ الْأُولَى وَتَلْيِينِ الثَّانِيَةِ وَعَكْسِهِ، وَقِرَاءَةِ بَعْضِهِمْ بِهَمْزَةٍ وَاحِدَةٍ، وَكَذَلِكَ أَمْثَالُهَا مِنْ كُلِّ هَمْزَتَيْنِ فِي كَلِمَتَيْنِ.
(وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ)
الْآيَاتُ الَّتِي تَقَدَّمَتْ فِي وَصْفِ هَذَا الصِّنْفِ مِنَ النَّاسِ - الَّذِي قُلْنَا إِنَّهُ يُوجَدُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ وَمِلَّةٍ وَفِي كُلِّ عَصْرٍ - كَانَتْ عَامَّةً تَصَوِّرُ حَالَ أَفْرَادِهِ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ، وَكَانَ أُسْلُوبُهَا ظَاهِرًا فِي الْعُمُومِ كَقَوْلِهِ:(يُخَادِعُونَ) إِلَخْ، وَقَوْلِهِ:(وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ) كَذَا - (قَالُوا) كَيْتَ وَكَيْتَ، وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى:(وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا) الْآيَةَ، فَهُوَ وَصْفٌ قَدْ يَخْتَصُّ بِبَعْضِ أَفْرَادِ هَذَا الصِّنْفِ مِمَّنْ كَانَ فِي عَصْرِ التَّنْزِيلِ، جَاءَ بَعْدَ الْأَوْصَافِ الْعَامَّةِ وَحُكِيَ بِصِيغَةِ الْمَاضِي،
لِيَكُونَ كَالتَّصْرِيحِ بِتَوْبِيخِ تِلْكَ الْفِئَةِ مِنْ هَذَا الصِّنْفِ، الَّتِي بَلَغَتْ مِنَ التَّهَتُّكِ فِي النِّفَاقِ وَالْفَسَادِ فِي الْأَخْلَاقِ أَنْ تَظْهَرَ بِوَجْهَيْنِ، وَتَتَكَلَّمَ بِلِسَانَيْنِ، وَمَا بَلَغَ كُلُّ أَفْرَادِ الصِّنْفِ هَذَا الْمَبْلَغَ مِنَ الْفَسَادِ وَالضَّعْفِ.
وَلِهَذِهِ الْخُصُوصِيَّةِ فِي الْآيَةِ قَالَ بَعْضُ الْوَاهِمِينَ: إِنَّ جَمِيعَ تِلْكَ الْآيَاتِ فِي مُنَافِقِي ذَلِكَ الْعَصْرِ، وَقَدْ مَرَّ تَفْنِيدُهُ فَلَا نُعِيدُهُ. عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْفِئَةَ أَيْضًا تُوجَدُ فِي كُلِّ عَصْرٍ وَزَمَانٍ يَكُونُ فِيهِ لِأَهْلِ الْحَقِّ قُوَّةٌ وَسُلْطَانٌ، وَالْحِكَايَةُ عَنْهَا بِصِيغَةِ الْمَاضِي وَالْوَاقِعِ لَا تُنَافِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ " إِذَا " تَدُلُّ عَلَى الْمُسْتَقْبَلِ، فَمَعْنَى الْفِعْلِ مُسْتَقْبَلٌ، وَإِنَّمَا اخْتِيرَتْ صِيغَةُ الْمَاضِي لِتَوْبِيخِ أُولَئِكَ الْأَفْرَادِ وَإِيذَائِهِمْ بِأَنَّ بِضَاعَةَ النِّفَاقِ وَالْمُدَاجَاةِ لَا تَرُوجُ فِي سُوقِ الْمُؤْمِنِينَ؛ لِأَنَّهَا مُزْجَاةٌ، وَأَنَّ اسْتِهْزَاءَهُمْ مَرْدُودٌ إِلَيْهِمْ وَوَبَالَهُ عَائِدٌ عَلَيْهِمْ.
كَانَ أُولَئِكَ النَّفَرُ يُدْهِنُونَ فِي دِينِهِمْ، فَإِذَا لَقُوا الْمُؤْمِنِينَ قَالُوا: آمَنَّا بِمَا أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ.
(وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ) مِنْ دُعَاةِ الْفِتْنَةِ وَعُمَّالِ الْإِفْسَادِ وَأَنْصَارِ الْبَاطِلِ الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ الْحَقِّ بِمَا يُقِيمُونَ أَمَامَهُ مِنْ عَقَبَاتِ الْوَسَاوِسِ وَالْأَوْهَامِ، وَمَا يُلْقُونَ فِيهِ مِنْ أَشْوَاكِ الْمَعَايِبِ وَتَضَارِيسِ الْمَذَامِّ، وَقَالَ مُفَسِّرُنَا (الْجَلَالُ) : إِنَّهُمُ الرُّؤَسَاءُ. وَالصَّوَابُ مَا قُلْنَا، وَكَمْ مِنْ رَئِيسٍ مَغْمُولٍ، لِمَا فِي نَفْسِهِ مِنَ الضَّعْفِ وَالْخُمُولِ، لَا يَنْصُرُ اعْتِقَادَهُ وَإِنْ كَانَ مُعْتَرِفًا بِأَنَّ فِيهِ رَشَادَهُ، وَفِي عِزَّتِهِ عِزَّهُ وَإِسْعَادَهُ، وَكَمْ مِنْ مَرْءُوسٍ شَدِيدِ الْعَزِيمَةِ قَوِيِّ الشَّكِيمَةِ يَكُونُ لَهُ فِي نَصْرِ مَلَّتِهِ، وَالْمُدَافَعَةِ عَنْ أُمَّتِهِ، مَا يَعْجِزُ عَنْهُ الرُّؤَسَاءُ، وَلَا يَأْتِي عَلَى أَيْدِي الْأُمَرَاءِ.
وَلِلذُّبَابَةِ فِي الْجُرْحِ الْمُمِدِّ يَدٌ تَنَالُ مَا قَصَّرَتْ عَنْهُ يَدُ الْأَسَدِ
(قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ) أَيْ إِنَّا مَعَكُمْ عَلَى عَقِيدَتِكُمْ وَعَمَلِكُمْ، وَإِنَّمَا نَسْتَهْزِئُ بِالْمُسْلِمِينَ وَدِينِهِمْ، فَكَشَفَ الْقُرْآنُ عَنْ هَذَا التَّلَوُّنِ وَهَذِهِ الذَّبْذَبَةِ، وَقَابَلَهُمْ عَلَيْهَا بِمَا هَدَمَ بُنْيَانَهُمْ وَفَضَحَ بُهْتَانَهُمْ، فَقَالَ:(اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) أَصْلُ الِاسْتِهْزَاءِ: الِاسْتِخْفَافُ وَعَدَمُ الْعِنَايَةِ بِالشَّيْءِ فِي النَّفْسِ وَإِنْ أَظْهَرَ الْمُسْتَخِفُّ الِاسْتِحْسَانَ وَالرِّضَا تَهَكُّمًا، وَهَذَا الْمَعْنَى مُحَالٌ عَلَى اللهِ تَعَالَى، وَالْمُحَالُ بِذَاتِهِ يَصِحُّ إِطْلَاقُ لَازِمِهِ، وَالْمُسْتَهْزِئُ بِإِنْسَانٍ فِي نَحْوِ مَدْحٍ لِعِلْمِهِ وَاسْتِحْسَانٍ لِعَمَلِهِ مَعَ اعْتِقَادِ قُبْحِهِ غَيْرُ مُبَالٍ بِهِ وَلَا مُعْتَنٍ بِعِلْمِهِ وَلَا بِعَمَلِهِ، حَيْثُ لَمْ يُرْجِعْهُ عَنْهُ وَلَمْ يُكْرِهْهُ عَلَيْهِ، وَيَلْزَمُهُ اسْتِرْسَالُ الْمُسْتَهْزَأِ بِهِ فِي عَمَلِهِ الْقَبِيحِ، فَمَعْنَى (
اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) (أَنَّهُ يُمْهِلُهُمْ فَتَطُولُ عَلَيْهِمْ نِعْمَتُهُ، وَتُبْطِئُ عَنْهُمْ نِقْمَتُهُ) ثُمَّ يُسْقِطُ مِنْ أَقْدَارِهِمْ وَيَسْتَدْرِجُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ.
(وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ) وَالْعَمَهُ: عَمَى الْقَلْبِ وَظُلْمَةُ الْبَصِيرَةِ، وَأَثَرُهُ الْحَيْرَةُ وَالِاضْطِرَابُ، وَعَدَمُ الِاهْتِدَاءِ لِلصَّوَابِ.
أَقُولُ: هَذَا مُلَخَّصُ سِيَاقِ الدَّرْسِ، وَقَالَ الرَّاغِبُ: الْعَمَهُ: التَّرَدُّدُ فِي الْأَمْرِ مِنَ التَّحَيُّرِ، يُقَالُ: عَمَهَ فَهُوَ عَمِهٌ، وَعَامِهٌ، وَجَمْعُهُ: عُمُّهٌ (بِالتَّشْدِيدِ) اهـ.
وَالِاسْتِهْزَاءُ: فِعْلُ الْهَزْءِ - بِسُكُونِ الزَّايِ وَضَمِّهَا - وَقَصْدُهُ بِالْعَمَلِ، وَهُوَ اسْمٌ مَنْ هَزِئْتُ بِهِ وَمِنْهُ، وَفِي لُغَةٍ هَزَأْتُ، فَهُوَ مِنْ بَابَيْ تَعِبَ وَنَفَعَ - وَاسْتَهْزَأْتُ بِهِ، أَيِ اسْتَخْفَفْتُ بِهِ وَسَخِرْتُ مِنْهُ.
وَقَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: وَالِاسْتِهْزَاءُ السُّخْرِيَةُ وَالِاسْتِخْفَافُ، يُقَالُ: هَزَأْتُ بِهِ وَاسْتَهْزَأْتُ بِمَعْنًى - كَأَجَبْتُ وَاسْتَجَبْتُ، وَأَصْلُهُ الْخِفَّةُ، وَمِنَ الْهُزُؤِ: وَهُوَ الْقَتْلُ السَّرِيعُ، يُقَالُ: هَزَأَ فُلَانٌ إِذَا مَاتَ، وَنَاقَتُهُ تَهْزَأُ بِهِ، أَيْ تُسْرِعُ وَتَخِفُّ، وَقَالَ الرَّاغِبُ: الْهَزْءُ مَزْحٌ فِي خُفْيَةٍ، وَقَدْ يُقَالُ لِمَا هُوَ كَالْمَزْحِ، ثُمَّ قَالَ: وَالِاسْتِهْزَاءُ ارْتِيَادُ الْهُزُؤِ وَإِنْ كَانَ قَدْ يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ تَعَاطِي الْهُزُؤِ كَالِاسْتِجَابَةِ فِي كَوْنِهَا ارْتِيَادًا لِلْإِجَابَةِ وَإِنْ كَانَ يَجْرِي مَجْرَى الْإِجَابَةِ، ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذِكْرِ آيَاتٍ مِنَ الشَّوَاهِدِ: وَالِاسْتِهْزَاءُ مِنَ اللهِ فِي الْحَقِيقَةِ لَا يَصِحُّ كَمَا لَا يَصِحُّ مِنَ اللهِ اللهْوُ وَاللَّعِبُ - تَعَالَى الله عَنْهُ - وَقَوْلُهُ: (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ) أَيْ يُجَازِيهِمْ جَزَاءَ الْهُزُؤِ، وَمَعْنَاهُ: أَنَّهُ أَمْهَلَهُمْ مُدَّةً ثُمَّ أَخَذَهُمْ مُغَافَصَةً (أَيْ مُفَاجَأَةً عَلَى غِرَّةٍ) فَسَمَّى إِمْهَالَهُ إِيَّاهُمُ اسْتِهْزَاءً مِنْ حَيْثُ إِنَّهُمُ اغْتَرُّوا بِهِ اغْتِرَارَهُمْ بِالْهُزُؤِ فَيَكُونُ ذَلِكَ كَالِاسْتِدْرَاجِ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ اهـ.
وَأَشْهَرُ الْأَقْوَالِ: إِنَّ مَعْنَاهُ يُجَازِيهِمْ بِالْعِقَابِ عَلَى اسْتِهْزَائِهِمْ أَوْ يُعَامِلُهُمْ مُعَامَلَةَ الْمُسْتَهْزِئِ بِهِمْ (يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا)(57: 13) الْآيَةَ. وَقَالَ تَعَالَى: (إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ) - إِلَى قَوْلِهِ - (فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ)(83: 29 - 35) وَقِيلَ: إِنَّ اسْتِهْزَاءَهُ تَعَالَى بِهِمْ إِجْرَاؤُهُ أَحْكَامَ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِمْ فِي الدُّنْيَا كَمَا مَرَّ فِي خِدَاعِهِ لَهُمْ.
وَالطُّغْيَانُ: مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ فِي الْعِصْيَانِ، مَأْخُوذٌ مِنْ طُغْيَانِ الْمَاءِ، وَهُوَ تَجَاوُزُ
فَيَضَانِهِ الْحَدَّ الْمَأْلُوفَ.
وَالْمَدُّ: الزِّيَادَةُ فِي الشَّيْءِ مُتَّصِلَةٌ بِهِ، يُقَالُ: مَدَّ الْبَحْرُ زَادَ وَارْتَفَعَ مَاؤُهُ وَانْبَسَطَ وَمَدَّهُ اللهُ، قَالَ تَعَالَى:(وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ)(31: 27) وَمَدُّ الْبَحْرِ يُقَابِلُهُ الْجَزْرُ، وَهُوَ: انْحِسَارُ مَائِهِ عَنِ السَّاحِلِ وَنُقْصَانُ امْتِدَادِهِ، وَيُسَمَّى السَّيْلُ مَدًّا مِنْ قَبِيلِ التَّسْمِيَةِ بِالْمَصْدَرِ، وَمِنْهُ الْمُدَّةُ مِنَ الزَّمَانِ، وَالْمَدَدُ - بِالتَّحْرِيكِ - لِلْجَيْشِ، يُقَالُ مَدَّهُ وَأَمَدَّهُ. قَالَ تَعَالَى:(قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُنْدًا)(19: 75) وَسَيَأْتِي مَزِيدُ بَيَانٍ لِهَذَا الْمَعْنَى فِي تَفْسِيرِ
قَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ الْأَنْعَامِ: (وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ)(6: 110) وَالْمَعْنَى: أَنَّ سُنَّةَ اللهِ تَعَالَى فِي الَّذِينَ وَصَلُوا إِلَى هَذِهِ الْغَايَةِ مِنْ فَسَادِ الْفِطْرَةِ هُوَ مَا بَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ فِيهِمْ: (أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى) الْمُشَارُ إِلَيْهِمْ بِأُولَئِكَ هُمُ الَّذِينَ بَيَّنَتْ حَالَهُمُ الْآيَاتُ السَّابِقَةُ بِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ: (آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ) إِلَخْ، وَهُوَ صَرِيحٌ فِي أَنَّ طُغْيَانَهُمْ وَعَمَهَهُمْ مِنْ كَسْبِهِمْ، وَلَمْ يُجْبَرُوا عَلَيْهِ بِخَلْقِ رَبِّهِمْ، قَالَ الْأُسْتَاذُ: وَقَدْ فَسَّرُوا (اشْتَرَوْا) بِاسْتَبْدَلُوا وَهُوَ غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّ بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ فَصْلًا فِي الْمَعْنَى، وَكُلَّنَا نَعْتَقِدُ - وَالْحَقُّ مَا نَعْتَقِدُ - أَنَّ الْقُرْآنَ فِي أَعْلَى دَرَجِ الْبَلَاغَةِ لَا يَخْتَارُ لَفْظًا عَلَى لَفْظٍ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَقُومَ مَقَامَهُ، وَلَا يُرَجِّحَ أُسْلُوبًا عَلَى أُسْلُوبٍ يُمْكِنُ تَأْدِيَةُ الْمُرَادِ بِهِ إِلَّا لِحِكْمَةٍ فِي ذَلِكَ وَخُصُوصِيَّةٍ لَا تُوجَدُ فِي غَيْرِ مَا اخْتَارَهُ وَرَجَّحَهُ، وَوَجْهُ اخْتِيَارِهِ ((اشْتَرَوْا)) عَلَى اسْتَبْدَلُوا أَنَّ الْأَوَّلَ أَخَصُّ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الِاسْتِبْدَالَ لَا يَكُونُ شِرَاءً إِلَّا إِذَا كَانَ فِيهِ فَائِدَةٌ يَقْصِدُهَا الْمُسْتَبْدَلُ مِنْهُ سَوَاءٌ كَانَتِ الْفَائِدَةُ حَقِيقِيَّةً أَوْ وَهْمِيَّةً.
ثَانِيهِمَا: أَنَّ الشِّرَاءَ يَكُونُ بَيْنَ مُتَبَايِعِينَ بِخِلَافِ الِاسْتِبْدَالِ، فَإِذَا أَخَذْتَ ثَوْبًا مِنْ ثِيَابِكَ بَدَلَ آخَرَ، يُقَالُ: إِنَّكَ اسْتَبْدَلْتَ ثَوْبًا بِثَوْبٍ، فَالْمَعْنَى الَّذِي تُؤَدِّيهِ الْآيَةُ: أَنَّ أُولَئِكَ الْقَوْمَ اخْتَارُوا الضَّلَالَةَ عَلَى الْهُدَى لِفَائِدَةٍ لَهُمْ بِإِزَائِهَا يَعْتَقِدُونَ الْحُصُولَ عَلَيْهَا مِنَ النَّاسِ، فَهُوَ مُعَاوَضَةٌ بَيْنَ طَرَفَيْنِ يُقْصَدُ بِهَا الرِّبْحُ، وَهَذَا هُوَ مَعْنَى الِاشْتِرَاءِ وَالشِّرَاءِ، وَمَثَلُهُمَا الْبَيْعُ وَالِابْتِيَاعُ، وَلَا يُؤَدِّيهِ مُطْلَقُ الِاسْتِبْدَالِ.
ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَ عِنْدَهُمْ كُتُبٌ سَمَاوِيَّةٌ فِيهَا مَوَاعِظُ وَأَحْكَامٌ، وَفِيهَا بِشَارَةٌ بِأَنَّ اللهَ
يُرْسِلُ إِلَيْهِمْ نَبِيًّا يُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ، وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَ التَّقَالِيدِ، وَأَغْلَالَ التَّقَيُّدِ بِإِرَادَةِ الْعَبِيدِ، وَيَرْعَى جَمِيعَ الْأُمَمِ بِقَضِيبٍ مِنْ حَدِيدٍ، فَيُرْجِعُ لِلْعُقُولِ نِعْمَةُ الِاسْتِقْلَالِ، وَيَجْعَلُ إِرَادَةَ الْأَفْرَادِ هِيَ الْمُصَرِّفَةَ لِلْأَعْمَالِ فَكَانَ عِنْدَهُمْ بِذَلِكَ حَظٌّ مِنْ هِدَايَةِ الْعَقْلِ وَالْمَشَاعِرِ وَهِدَايَةِ الدِّينِ وَالْكِتَابِ، وَلَكِنْ نَجَمَتْ فِيهِمُ الْأَحْدَاثُ وَالْبِدَعُ، وَتَحَكَّمَتْ فِيهِمُ الْعَادَاتُ وَالتَّقَالِيدُ، وَعَلَا سُلْطَانُ ذَلِكَ كُلِّهِ عَلَى سُلْطَانِ الدِّينِ، فَضَلَّ الرُّؤَسَاءُ فِي فَهْمِهِ بِتَحْكِيمِ تَقَالِيدِهِمْ فِي أَحْكَامِهِ وَعَقَائِدِهِ بِضُرُوبٍ مِنَ التَّحْرِيفِ وَالتَّأْوِيلِ، وَأَهْمَلَ الْمَرْءُوسُونَ الْعَقْلَ وَالنَّظَرَ فِي الْكِتَابِ بِحَظْرِ الرُّؤَسَاءِ وَأَثَرَتِهِمْ، فَكَانَ الْجَمِيعُ عَلَى ضَلَالَةٍ فِي اسْتِعْمَالِ الْعَقْلِ وَفِي فَهْمِ الْكِتَابِ بَعْدَ أَنْ كَانَا هِدَايَتَيْنِ مَمْنُوحَتَيْنِ لَهُمْ لِإِسْعَادِهِمْ، وَكَانَتِ الْمُعَاوَضَةُ عِنْدَ الْفَرِيقَيْنِ فِي ذَلِكَ بِالْمَنَافِعِ الدُّنْيَوِيَّةِ: لِلرُّؤَسَاءِ الْمَالُ وَالْجَاهُ وَالتَّعْظِيمُ وَالتَّكْرِيمُ بِاسْمِ الدِّينِ، وَلِلْمَرْءُوسِينَ الِاسْتِعَانَةُ بِجَاهِ رُؤَسَاءِ الدِّينِ عَلَى مَصَالِحِهِمْ وَمَنَافِعِهِمْ، وَرَفْعِ أَثْقَالِ التَّكَالِيفِ بِفَتَاوَى التَّأْوِيلِ وَالتَّحْرِيفِ، هَكَذَا اسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى - وَهُوَ الْعَقْلُ وَالدِّينُ - رَغْبَةً فِي الْحُطَامِ،
وَطَمَعًا فِي الْجَاهِ الْكَاذِبِ (فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ) فِي الدُّنْيَا، إِذَ لَمْ تُثْمِرْ لَهُمْ ثَمَرَةً حَقِيقِيَّةً، بَلْ خَسِرُوا وَخَابُوا بِإِهْمَالِهِمُ الصَّحِيحَ الَّذِي لَا تَقُومُ الْمَصَالِحُ وَلَا تُحْفَظُ الْمَنَافِعُ إِلَّا بِهِ، وَإِسْنَادُ الرِّبْحِ إِلَى التِّجَارَةِ عَرَبِيٌّ فِي غَايَةِ الْفَصَاحَةِ؛ لِأَنَّ الرِّبْحَ: هُوَ النَّمَاءُ فِي التَّجْرِ، وَهَذِهِ الْمُعَاوَضَةُ هِيَ الَّتِي مِنْ شَأْنِهَا أَنْ تُثْمِرَ الرِّبْحَ، فَإِسْنَادُهُ إِلَيْهَا نَفْيًا أَوْ إِثْبَاتًا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ لَا يَحْتَاجُ إِلَى التَّأْوِيلِ (كَأَنَّهُ قِيلَ: فَلَمْ يَكُنْ نَمَاءٌ فِي تِجَارَتِهِمْ، عَلَى أَنَّ ذَلِكَ التَّأْوِيلَ - الْمَعْرُوفَ مِنْ أَنَّ إِسْنَادَ الرِّبْحِ إِلَى التِّجَارَةِ؛ لِأَنَّهَا سَبَبُهُ وَالْوَسِيلَةُ إِلَيْهِ، وَأَنَّ الْعِبَارَةَ مِنَ الْمَجَازِ الْعَقْلِيِّ - تَأْوِيلٌ يَتَّفِقُ مَعَ الْبَلَاغَةِ وَلَا يُنَافِيهَا، وَلَا زَالَ الْمَجَازُ الْعَقْلِيُّ مِنْ أَفْضَلِ مَا يُزَيِّنُ الْبُلَغَاءُ بِهِ كَلَامَهُمْ، وَيُبَلِّغُونَ بِهِ مَا يَشَاءُونَ مِنْ تَفْخِيمِ مَعَانِيهِمْ) .
(وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ) فِي دِينِهِمْ، لِأَنَّهُمْ لَمْ يَأْخُذُوهُ عَلَى وَجْهِهِ، وَلَمْ يَفْهَمُوهُ حَقَّ فَهْمِهِ، أَوْ مَا كَانُوا مُهْتَدِينَ فِي هَذِهِ التِّجَارَةِ، لِأَنَّهُمْ بَاعُوا فِيهَا مَا وَهَبَهُمُ اللهُ مِنَ الْهُدَى وَالنُّورِ بِظُلُمَاتِ التَّقَالِيدِ وَضَلَالَاتِ الْأَهْوَاءِ وَالْبِدَعِ الَّتِي زَجُّوا أَنْفُسَهُمْ فِيهَا، أَوْ مَا كَانُوا مُهْتَدِينَ فِي طَوْرٍ مِنَ الْأَطْوَارِ وَلَا مَسَّ الرُّشْدُ قُلُوبَهُمْ فِي وَقْتٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ لِأَنَّهُمْ نَشَئُوا عَلَى التَّقْلِيدِ الْأَعْمَى مِنْ أَوَّلِ وَهْلَةٍ وَلَمْ يَسْتَعْمِلُوا عُقُولَهُمْ قَطُّ فِي فَهْمِ
أَسْرَارِهِ وَاقْتِبَاسِ أَنْوَارِهِ، وَلَا يَذْهَبْنَ الْوَهْمُ إِلَى أَنَّ اشْتِرَاءَ الضَّلَالَةِ بِالْهُدَى يُفِيدُ أَنَّهُمْ كَانُوا مُهْتَدِينَ، ثُمَّ تَرَكُوا الْهُدَى لِلضَّلَالَةِ، فَيَتَنَاقَضَ أَوَّلُ الْآيَةِ مِنْ آخِرِهَا، إِذْ لَيْسَ كُلُّ مَنْ مُنِحَ الْهُدَى يَأْخُذُ بِهِ فَيَكُونُ مُهْتَدِيًا، وَهَؤُلَاءِ حُمِّلُوهُ فَبَاعُوهُ وَلَمْ يَحْمِلُوهُ، وَيَنْظُرُ إِلَى هَذَا الِاشْتِرَاءِ، وَيُشْبِهُهُ الِاسْتِحْبَابُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:(وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى)(41: 17) وَاللهُ أَعْلَمُ.
وَمِنْ مَبَاحِثِ الْأَدَاءِ قِرَاءَةُ حَمْزَةَ وَالْكِسَائِيِّ (الْهُدَى) بِالْإِمَالَةِ، أَيْ جَعْلِ مَدِّهَا بَيْنَ الْأَلِفِ وَالْيَاءِ، وَهِيَ لُغَةُ بَنِي تَمِيمٍ، وَعَدَمُ الْإِمَالَةِ لُغَةُ قُرَيْشٍ وَهِيَ الْفُصْحَى، وَلَمَّا كَانَ يَعْسُرُ عَلَى لِسَانِ مَنِ اعْتَادَهَا تَرْكُهَا أَذِنَ اللهُ تَعَالَى بِهَا فِيمَا أَقْرَأَ جِبْرِيلُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم.
(مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ)
أَقُولُ: الْمَثَلُ بِفُتْحَتَيْنِ وَالْمِثْلُ بِالْكَسْرِ، وَالْمَثِيلُ كَالشَّبَهِ وَالشِّبْهِ وَالشَّبِيهِ وَزْنًا وَمَعْنًى فِي الْجُمْلَةِ، وَهُوَ مِنْ مَثُلَ الشَّيْءُ مُثُولًا إِذَا انْتَصَبَ بَارِزًا فَهُوَ مَاثِلٌ، وَمَثَلُ الشَّيْءِ - بِالتَّحْرِيكِ - صِفَتُهُ الَّتِي تُوَضِّحُهُ وَتَكْشِفُ عَنْ حَقِيقَتِهِ، أَوْ مَا يُرَادُ بَيَانُهُ مِنْ نُعُوتِهِ وَأَحْوَالِهِ، وَيَكُونُ حَقِيقَةً وَمَجَازًا، وَأَبْلَغُهُ: تَمْثِيلُ الْمَعَانِي الْمَعْقُولَةِ بِالصُّوَرِ الْحِسِّيَّةِ وَعَكْسُهُ، وَمِنْهُ الْأَمْثَالُ الْمَضْرُوبَةُ وَتُسَمَّى الْأَمْثَالَ السَّائِرَةَ، وَسَيَأْتِي تَحْقِيقُ مَعْنَاهَا فِي تَفْسِيرِ:(إِنَّ اللهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا) وَمِنْهُ مَا يُسَمِّيهِ
الْبَيَانِيُّونَ الِاسْتِعَارَةَ التَّمْثِيلِيَّةَ، وَهُوَ خَاصٌّ بِالْمَجَازِ، وَالتَّمْثِيلُ: أَمْثَلُ أَسَالِيبِ الْبَلَاغَةِ وَأَشَدُّهَا تَأْثِيرًا فِي النَّفْسِ وَإِقْنَاعًا لِلْعَقْلِ، قَالَ تَعَالَى:(وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ)(29: 43) وَمَا رَأَيْتُ أَحَدًا مِنْ عُلَمَاءِ الْبَلَاغَةِ وَفَّاهُ حَقَّهُ مِنَ الْبَيَانِ الْمُقْنِعِ إِلَّا إِمَامَهُمُ الشَّيْخَ عَبَدَ الْقَاهِرِ الْجُرْجَانِيَّ فِي كِتَابِهِ (أَسْرَارِ الْبَلَاغَةِ) وَهَاكَ مَا كُنْتُ كَتَبْتُ فِي تَفْسِيرِ هَذَا الْمَثَلِ ثُمَّ مَا بَعْدَهُ إِجْمَالًا ثُمَّ تَفْصِيلًا، مُقْتَبِسًا مَعَانِيهِ مِنْ دُرُوسِ أُسْتَاذِنَا الْإِمَامِ:
هَذَا مَثَلٌ مِنْ مَثَلَيْنِ ضَرَبَهُمَا اللهُ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ لِلصِّنْفِ الثَّالِثِ مِنَ النَّاسِ: الَّذِينَ قَرَعَ الْقُرْآنُ أَبْوَابَ قُلُوبِهِمْ، وَكَانَ مِنْ عِنَايَةِ اللهِ تَعَالَى فِي بَيَانِ حَالِهِ أَنْ
قَفَّى عَلَى ذَلِكَ التَّفْصِيلِ فِي شَرِّ فِرْقَةٍ وَأَطْوَارِهِمْ بِضَرْبِ الْمَثَلِ الَّذِي يُقْصَدُ بِهِ تَجَلِّي الْمَعْنَى فِي أَتَمِّ مَجَالِيهِ، وَتَأَثُّرُ النُّفُوسِ بِمَا أَوْدَعَ فِيهِ، نَاهِيكَ بِمَا فِي التَّنَقُّلِ فِي الْأَسَالِيبِ مِنْ تَوْجِيهِ الذِّهْنِ إِلَى سَابِقِ الْقَوْلِ وَدَعْوَةِ الْفِكْرِ إِلَى مُرَاجَعَةِ مَا مَضَى مِنْهُ، وَلَوْلَا أَنَّ بَلَاءَ هَذَا الصِّنْفِ عَظِيمٌ، وَدَاءَهُ دَفِينٌ، وَعِلَاجَهُ مُتَعَسِّرٌ - لِأَنَّهُ مُتَوَلِّدٌ مِنَ الدَّوَاءِ الَّذِي كَانَ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ فِيهِ الصِّحَّةُ وَنِعْمَةُ الْعَافِيَةِ - لِمَا كَانَ مِنَ الْبَلَاغَةِ وَلَا مِنَ الْحِكْمَةِ أَنْ يُعْنَى بِشَأْنِهِ كُلَّ هَذِهِ الْعِنَايَةِ، كَمَا قُلْنَا فِي تَزْيِيفِ رَأْيِ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الْكَلَامَ فِي تِلْكَ الشِّرْذِمَةِ مِنَ الْمُنَافِقِينَ فِي عَصْرِ التَّنْزِيلِ.
ضَرَبَ اللهُ تَعَالَى لِهَذَا الصِّنْفِ فِي مَجْمُوعِهِ مَثَلَيْنِ، وَيُنْبِئَانِ بِانْقِسَامِهِ إِلَى فَرِيقَيْنِ، خِلَافًا لِمَا فِي أَكْثَرِ التَّفَاسِيرِ فِي أَنَّ الْمَثَلَيْنِ لِفَرِيقٍ وَاحِدٍ، وَأَنَّ مَعْنَاهُمَا وَمَوْضُوعَهُمَا وَاحِدٌ.
(الْأَوَّلُ) : مَنْ آتَاهُمُ اللهُ دِينًا وَهِدَايَةً عَمِلَ بِهَا سَلَفُهُمْ فَجَنَوْا ثَمَرَهَا، وَصَلَحَ حَالُهُمْ بِهَا أَيَّامَ كَانُوا مُسْتَقِيمِينَ عَلَى الطَّرِيقَةِ، آخِذِينَ بِإِرْشَادِ الْوَحْيِ، وَاقِفِينَ عِنْدَ حُدُودِ الشَّرِيعَةِ، وَلَكِنَّهُمُ انْحَرَفُوا عَنْ سُنَنِ سَلَفِهِمْ فِي الْأَخْذِ بِهَا ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، وَلَمْ يَنْظُرُوا فِي حَقَائِقِ مَا جَاءَهُمْ بَلْ ظَنُّوا أَنَّ مَا كَانَ عِنْدَ سَلَفِهِمْ مِنْ نِعْمَةٍ وَسَعَادَةٍ إِنَّمَا كَانَ أَمْرًا خُصُّوا بِهِ، أَوْ خَيْرًا سِيقَ إِلَيْهِمْ، لِظَاهِرِ قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ امْتَازُوا بِهِ عَنْ غَيْرِهِمْ مِمَّنْ لَمْ يَأْخُذْ بِدِينِهِمْ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الْعَمَلُ لَمْ يُخَالِطْ سَرَائِرَهُمْ، وَلَمْ تَصْلُحْ بِهِ ضَمَائِرُهُمْ، فَأَخَذُوا بِتَقَالِيدَ وَعَادَاتٍ لَمْ تَدَعْ فِي نُفُوسِهِمْ مَجَالًا لِغَيْرِهَا، وَلِذَلِكَ لَمْ يَتَفَكَّرُوا قَطُّ فِي كَوْنِهِمْ أَحْرَى بِالتَّمَتُّعِ بِتِلْكَ السَّعَادَةِ وَالسِّيَادَةِ مِنْ سَلَفِهِمْ؛ لِأَنَّ حِفْظَ الْمَوْجُودِ أَيْسَرُ مِنْ إِيجَادِ الْمَفْقُودِ، بَلْ لَمْ يُبِيحُوا لِأَنْفُسِهِمْ فَهُمَ الْكِتَابِ الَّذِي اقْتَدَى مِنْ قَبْلِهِمْ بِمَا فِيهِ شُمُوسُ الْعِرْفَانِ وَنُجُومُ الْفُرْقَانِ، لِزَعْمِهِمْ: أَنَّ فَهْمَهُ لَا يَرْتَقِي إِلَيْهِ إِلَّا أَفْرَادٌ مِنْ رُؤَسَاءِ الدِّينِ، يُؤْخَذُ بِأَقْوَالِهِمْ مَا وَجَدُوا، وَبِكُتُبِهِمْ إِذَا فَقَدُوا.
فَمَثَلُ هَذَا الْفَرِيقِ مِنَ الصِّنْفِ الْمَخْذُولِ - فِي فَقْدِهِ لِمَا كَانَ عِنْدَهُ مِنْ نُورِ الْهِدَايَةِ الدِّينِيَّةِ، وَحِرْمَانِهِ مِنَ الِاهْتِدَاءِ بِهَا بِالْمَرَّةِ، وَانْطِمَاسِ الْآثَارِ دُونَهَا عِنْدَهُ - مَثَلُ مَنِ اسْتَوْقَدَ نَارًا إِلَخْ.
وَالْوَجْهُ فِي التَّمْثِيلِ: أَنَّ مَنْ يَدَّعِي الْإِيمَانَ بِكِتَابٍ نَزَلَ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِ قَدْ طَلَبَ بِذَلِكَ الْإِيمَانِ أَنْ تُوقَدَ لَهُ نَارٌ يَهْتَدِي بِهَا فِي الشُّبَهَاتِ، وَيَسْتَضِيئُ
بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الرِّيَبِ وَالْمُشْكِلَاتِ، وَيُبْصِرُ عَلَى ضَوْئِهَا مَا قَدْ يَهْجُمُ عَلَيْهِ مِنْ مُفْتَرِسَةِ الْأَهْوَاءِ وَالشَّهَوَاتِ، فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ بِمَا أُودِعَتْهُ مِنَ الْهُدَى وَالرَّشَادِ، وَكَادَ بِالنَّظَرِ فِيهَا يَمْشِي عَلَى هِدَايَةٍ وَسَدَادٍ هَجَمَتْ عَلَيْهِ مِنْ نَفْسِهِ ظُلْمَةُ
التَّقْلِيدِ الْخَبِيثِ، وَعَصَبَ عَيْنَيْهِ شَيْطَانُ الْغُرُورِ، فَذَهَبَ عَنْهُ ذَلِكَ النُّورُ، وَأَطْبَقَ عَلَيْهِ جَوُّ الضَّلَالَةِ بَلْ طَفِئَ فِيهِ نُورُ الْفِطْرَةِ، وَتَعَطَّلَتْ قُوَى الشُّعُورِ بِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ، فَهُمْ بِمَنْزِلَةِ الْأَعْمَى الْأَصَمِّ الَّذِي لَا يُبْصِرُ وَلَا يَسْمَعُ.
وَأَمَّا الْفَرِيقُ الثَّانِي فَقَدْ ضَرَبَ اللهُ لَهُ الْمَثَلَ فِي قَوْلِهِ: (أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ) إِلَخْ، وَهُوَ الَّذِي بَقِيَ لَهُ بَصِيصٌ مِنَ النُّورِ، فَلَهُ نَظَرَاتٌ تَرْمِي إِلَى مَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْهِدَايَةِ أَحْيَانًا، وَلِمَعَانِي التَّنْزِيلِ لَمَعَانٌ يَسْطَعُ عَلَى نَفْسِهِ الْفَيْنَةَ بَعْدَ الْفَيْنَةِ، وَيَأْتَلِقُ فِي نَظَرِهِ الْحِينَ بَعْدَ الْحِينِ عِنْدَمَا تُحَرِّكُهُ الْفِطْرَةُ، أَوْ تَدْفَعُهُ الْحَوَادِثُ لِلنَّظَرِ فِيمَا بَيْنَ يَدَيْهِ، وَلَكِنَّهُ مِنَ التَّقَالِيدِ وَالْبِدَعِ فِي ظُلُمَاتٍ حَوَالِكَ، وَمِنَ الْخَبْطِ فِيهَا عَلَى حَالٍ لَا تَخْلُو مِنَ الْمَهَالِكِ، وَهُوَ فِي تَخَبُّطِهِ يَسْمَعُ قَوَارِعَ الْإِنْذَارِ الْإِلَهِيِّ وَيَبْرُقُ فِي عَيْنَيْهِ نُورُ الْهِدَايَةِ، فَإِذَا أَضَاءَ لَهُ ذَلِكَ الْبَرْقُ السَّمَاوِيُّ سَارَ، وَإِذَا انْصَرَفَ عَنْهُ بِشُبَهِ الضَّلَالَاتِ الْغَرَّارَةِ قَامَ وَتَحَيَّرَ لَا يَدْرِي أَيْنَ يَذْهَبُ، ثُمَّ إِنَّهُ لَيُعْرِضُ عَنْ سَمَاعِ نُذُرِ الْكِتَابِ وَدُعَاةِ الْحَقِّ كَمَنْ يَضَعُ إِصْبَعَيْهِ فِي أُذُنَيْهِ حَتَّى لَا يَسْمَعَ إِرْشَادَ الْمُرْشِدِ، وَلَا نُصْحَ النَّاصِحِ، يَخَافُ مِنْ تِلْكَ الْقَوَارِعِ أَنْ تَقْتُلَهُ، وَمِنْ صَوَاعِقِ النُّذُرِ أَنْ تُهْلِكَهُ.
هَذَا هُوَ شَأْنُ فَرِيقَيْ هَذَا الصِّنْفِ بِمَا يُشِيرُ إِلَيْهِ الْمَثَلَانِ إِجْمَالًا، وَفِي تَفْسِيرِ الْآيَاتِ تَفْصِيلُ مَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ.
قَالَ تَعَالَى: (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا) الْعَرَبُ تَسْتَعْمِلُ لَفْظَ " الَّذِي " فِي الْجَمْعِ كَلَفْظَيْ " مَا " وَ " مِنْ " وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا)(9: 69) وَإِنْ شَاعَ فِي " الَّذِي " الْإِفْرَادُ؛ لِأَنَّ لَهُ جَمْعًا، وَقَدْ رُوعِيَ فِي قَوْلِهِ " اسْتَوْقَدَ " لَفْظُهُ، وَفِي قَوْلِهِ:(ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ) مَعْنَاهُ، وَالْفَصِيحُ فِيهِ مُرَاعَاةُ اللَّفْظِ أَوَّلًا، وَمُرَاعَاةُ الْمَعْنَى آخِرًا. وَالتَّفَنُّنُ فِي إِرْجَاعِ الضَّمَائِرِ مُتَفَرِّعَةً ضَرْبٌ مِنِ اسْتِعْمَالِ الْبُلَغَاءِ يُقَرِّرُ الْمَعْنَى فِي الذِّهْنِ وَيَهَبُهُ فَضْلَ تَمَكُّنٍ وَتَأْكِيدٍ بِمَا يَحْدُثُ فِيهِ مِنَ الرَّوِيَّةِ وَالتَّوَجُّهِ إِلَى الْإِحَاطَةِ بِمَعَانِي الْمُخْتَلِفَاتِ.
أَقُولُ: اسْتَوْقَدَ النَّارَ: طَلَبَ وَقُودَهَا بِفِعْلِهِ أَوْ فِعْلِ غَيْرِهِ، وَقَالُوا: إِنَّهُ بِمَعْنَى أَوْقَدَهَا وَيَرْجِعُ إِلَى الْأَوَّلِ بِأَنَّهُ طَلَبَ بِإِضْرَامِهَا وَإِيرَائِهَا أَنْ تَقِدَ، يُقَالُ: وَقَدَتِ النَّارُ تَقِدُ وَتَوَقَّدَتْ وَاتَّقَدَتْ وَاسْتَوْقَدَتْ - لَازِمٌ - وَمَعْنَى الْجُمْلَةِ فِي مُنَافِقِي الْيَهُودِ قَدْ تَقَدَّمَ آنِفًا بِالْإِجْمَالِ، - وَسَيَجِيءُ تَفْصِيلُهُ - وَأَمَّا مُنَافِقُو الْعَرَبِ الَّذِينَ قَالَ تَعَالَى فِيهِمْ مِنْ سُورَتِهِمْ:(ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا)(63: 3) الْآيَةَ. فَيُقَالُ فِيهِمْ: مَثَلُهُمْ وَصِفَتُهُمْ فِي إِسْلَامِهِمْ أَوَّلًا وَكُفْرِهِمْ آخِرًا كَمَثَلِ فَرِيقٍ مِنَ النَّاسِ أَوْقَدَ نَارًا لِيَنْتَفِعَ بِهَا فِي لَيْلَةٍ حَالِكَةِ الظَّلَامِ، وَيُبْصِرُ مَا حَوْلَهُ مِمَّا عَسَاهُ يَضُرُّهُ لِيَتَّقِيَهُ أَوْ يَنْفَعَهُ لِيَجْتَنِيَهُ (فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ) يُقَالُ: ضَاءَتِ النَّارُ وَالشَّمْسُ وَأَضَاءَتْ - لَازِمٌ - وَيُقَالُ: ضَاءَ الْمَكَانُ وَأَضَاءَتْهُ النَّارُ، أَيْ أَظْهَرَتْهُ بِضَوْئِهَا، قَالَ الْعَبَّاسُ رضي الله عنه فِي النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:
وَأَنْتَ لَمَّا ظَهَرْتَ أَشْرَقَتِ الْأَرْ ضُ وَضَاءَتْ بِنُورِكَ الْأُفُقُ
وَالْمَعْنَى الْمُتَبَادَرُ: فَلَمَّا أَضَاءَتِ النَّارُ مَا حَوْلَهُ مِنَ الْأَمْكِنَةِ وَالْأَشْيَاءِ وَتَمَكَّنَ مِنَ الِانْتِفَاعِ بِهَا وَالِاسْتِضَاءَةِ بِنُورِهَا (ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ) بِإِطْفَاءِ نَارِهِمْ بِنَحْوِ مَطَرٍ شَدِيدٍ نَزَلَ عَلَيْهَا، أَوْ عَاصِفٍ مِنَ الرِّيحِ جَرَفَهَا وَبَدَّدَهَا، وَهَذَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَثَلِ، وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَضْرُوبِ فِيهِمُ الْمَثَلُ مِنَ الْعَرَبِ، فَالنُّورُ نُورُ الْإِسْلَامِ الَّذِي أَضَاءَ قُلُوبَ مَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الْمُخْلِصِينَ (أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ) (39: 22) وَذَهَابُهُ فِي الدُّنْيَا مَا عَرَضَ لَهُمْ مِنَ الشَّكِّ أَوِ الْجَزْمِ بِالْكُفْرِ حَتَّى لَمْ يَعُودُوا يُدْرِكُونَ مَنَافِعَهُ وَفَضَائِلَهُ، وَأَمَّا ذَهَابُهُ بَعْدَهَا فَأَوَّلُهُ الْمَوْتُ، فَإِنَّ الْمُنَافِقَ يَرَى بِالْمَوْتِ أَوْ قُبَيْلَ خُرُوجِ رُوحِهِ مَنْزِلَتَهُ بَعْدَهَا، وَبَعْدَهُ ظُلْمَةُ الْقَبْرِ أَيْ حَيَاةُ الْبَرْزَخِ، وَبَعْدَهَا مَوْقِفُ الْحِسَابِ وَالْجَزَاءِ (يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللهِ وَغَرَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ) (57: 13 - 14) إِلَخْ. الْآيَةِ التَّالِيَةِ (15) ، وَفِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ أَصْدَقُ بَيَانٍ لِلْمُرَادِ مِنْ ذَهَابِ اللهِ بِنُورِهِمْ، وَكَوْنِهِ لَيْسَ إِجْبَارًا لَهُمْ عَلَى الْكُفْرِ، وَلَا عِبَارَةً عَنْ سَلْبِهِمُ التَّمَكُّنَ مِنَ الْإِيمَانِ، وَإِنَّمَا هُوَ تَعْبِيرٌ عَنْ سُنَّةِ اللهِ تَعَالَى فِي عَاقِبَةِ فِتْنَتِهِمْ لِأَنْفُسِهِمْ إِلَخْ.
وَقَالَ شَيْخُنَا فِي تَطْبِيقِ الْمَثَلِ عَلَى الْيَهُودِ وَأَمْثَالِهِمْ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ مَا مَعْنَاهُ: اسْتَوْقَدُوا بِفِطْرَتِهِمُ السَّلِيمَةِ نَارَ الْهِدَايَةِ الْإِلَهِيَّةِ بِتَصْدِيقِهِمْ، فَلَمَّا أَضَاءَتْ لَهُمْ بُرُوقُهَا وَوَضَحَ لَهُمْ طَرِيقُهَا، فَاجَأَتْهُمُ التَّقَالِيدُ الْمَوْرُوثَةُ، وَبَاغَتَتْهُمُ الْعَادَاتُ الْمَأْلُوفَةُ، وَشَغَلَهُمْ مَا يَتَوَهَّمُونَهُ فِيهَا مِنَ الْمَنَافِعِ وَالْفَوَائِدِ، وَمَا يَتَوَقَّعُونَهُ فِي الْإِعْرَاضِ عَنْهَا مِنَ الْمَصَارِعِ وَالْمَفَاسِدِ عَنِ الِاسْتِعَانَةِ بِذَلِكَ الضَّوْءِ عَلَى سُلُوكِ ذَلِكَ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، وَالتَّفْرِقَةِ بَيْنَ نَهَارِهِ الْمُشْرِقِ وَظُلُمَاتِ لَيْلِهَا الْبَهِيمِ، بَلِ اسْتَبْدَلُوا هَذَا الدَّيْجُورَ بِذَلِكَ الضِّيَاءِ وَالنُّورِ، وَهَذَا هُوَ مَعْنَى ذَهَابِ نُورِهِمْ، وَإِنَّمَا قَالَ:(ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ) وَلَمْ يُقَلْ: ذَهَبَ نُورُهُمْ، أَوْ أَذْهَبَ اللهُ نُورَهُمْ، لِلْإِشْعَارِ بِأَنَّ اللهَ تَعَالَى كَانَ مَعَهُمْ بِمَعُونَتِهِ وَتَوْفِيقِهِ عِنْدَمَا اسْتَوْقَدُوا النَّارَ فَأَضَاءَتْ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا قَائِمِينَ عَلَى سَبِيلِ فِطْرَتِهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسُ عَلَيْهَا، مُعْتَقِدِينَ صِحَّةَ شَرِيعَتِهِ الَّتِي دَعَا النَّاسَ إِلَيْهَا، وَبِأَنَّهُ تَخَلَّى عَنْهُمْ عِنْدَمَا نَكَبُوا عَنْ تِلْكَ السَّبِيلِ، وَعَافُوا ذَلِكَ الْمَوْرِدَ السَّلْسَبِيلَ.
وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُسْتَوْقِدَ الْمُسْتَرْشِدَ تَكُونُ لَهُ حَالَةٌ مَعَ اللهِ تَعَالَى مَرْضِيَةٌ فِي التَّوَجُّهِ إِلَيْهِ وَقَصْدِ اتِّبَاعِ هُدَاهُ، وَالِاسْتِضَاءَةِ بِنُورِهِ الَّذِي وَهَبَهُ إِيَّاهُ، فَإِذَا أَعْرَضَ عَنْهُ وَكَلَهُ اللهُ إِلَى نَفْسِهِ وَذَهَبَ بِنُورِهِ، وَإِذَا ذَهَبَ النُّورُ لَا يَبْقَى إِلَّا الظُّلْمَةُ، وَمَا كَانَ هَؤُلَاءِ فِي ظُلْمَةٍ وَاحِدَةٍ وَلَكِنَّهَا ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ، مُتَعَدِّدَةٌ بِتَعَدُّدِ أَنْوَاعِ التَّقَالِيدِ الَّتِي فُتِنُوا بِهَا، وَبِتَعَدُّدِ أَنْوَاعِ الْهِدَايَةِ الَّتِي أَعْرَضُوا عَنْهَا، وَلِذَلِكَ قَالَ:
(وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ) شَيْئًا. حَذَفَ مَفْعُولَ يُبْصِرُونَ إِيذَانًا بِالْعُمُومِ، أَيْ لَا يُبْصِرُونَ مَسْلَكًا مِنْ مَسَالِكِ الْهِدَايَةِ وَلَا يَرَوْنَ طَرِيقًا مِنْ طُرُقِهَا لِأَنَّهُ صَرَفَ عِنَايَتَهُ عَنْهُمْ بِتَرْكِهِمْ سُنَّتَهُ وَإِهْمَالِهِمْ هِدَايَتَهُ وَوَكَلَهُمْ إِلَى أَنْفُسِهِمْ، وَيَا وَيْلَ مَنْ وَكَلَهُ اللهُ إِلَى نَفْسِهِ وَحَرَمَهُ تَوْفِيقَهُ، نَسْأَلُ اللهَ الْعَافِيَةَ.
هَذَا الْمَثَلُ مَضْرُوبٌ لِفَرِيقٍ لَا تُرْجَى هِدَايَتُهُ؛ لِأَنَّهُ سَدَّ عَلَى نَفْسِهِ جَمِيعَ أَبْوَابِ الْهِدَايَةِ فَلَا يَثِقُ بِعُقَلِهِ وَلَا بِحَوَاسِّهِ وَلَا بِوِجْدَانِهِ إِذَا خَالَفَتْ تَقَالِيدَهُ، وَعَدَمُ الْإِبْصَارِ بِذَهَابِ النُّورِ غَيْرُ كَافٍ لِتَمْثِيلِ هَذَا الْيَأْسِ وَالْحِرْمَانِ لِجَوَازِ أَنْ يَلُوحَ بَارِقٌ أَوْ يَذَرَ شَارِقٌ أَوْ يَصِيحَ طَارِقٌ، فَتَكُونَ الْهِدَايَةُ وَتَنْكَشِفَ الْغَوَايَةُ، وَلِذَلِكَ عَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:(صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ) أَيْ أَنَّهُمْ فَقَدُوا مَنْفَعَةَ السَّمْعِ الَّذِي يُؤَدِّي إِلَى النَّفْسِ مَا يُلْقِيهِ
الْمُرْشِدُونَ إِلَيْهَا مِنَ الْحُجَجِ الْقَاطِعَةِ، وَالدَّلَائِلِ النَّاصِعَةِ، فَلَا يُصِيخُونَ إِلَى وَعْظِ وَاعِظٍ، وَلَا يُصْغُونَ لِتَنْبِيهِ مُنَبِّهٍ ((فَمَا أَضْيَعَ الْبُرْهَانَ عِنْدَ الْمُقَلِّدِ)) بَلْ لَا يَسْمَعُونَ وَإِنْ أَصَاخُوا، وَلَا يَفْقَهُونَ وَإِنْ سَمِعُوا، فَكَأَنَّهُمْ صُمٌّ لَمْ يَسْمَعُوا وَفَقَدُوا مَنْفَعَةَ الِاسْتِرْشَادِ بِالْقَوْلِ وَطَلَبِ الْحِكْمَةِ مِنْ مَعَاهِدِهَا، فَلَا يَسْأَلُونَ بَيَانًا، وَلَا يَطْلُبُونَ بُرْهَانًا، وَفَقَدُوا خَيْرَ مَنَافِعِ الْإِبْصَارِ وَهُوَ نَظَرُ الِاسْتِفَادَةِ وَالِاعْتِبَارِ، فَلَا يَرَوْنَ مَا يَحِلُّ بِهِمْ مِنَ الْفِتَنِ فَيَنْزَجِرُوا، وَلَا يُبْصِرُونَ مَا تَنْقَلِبُ بِهِ أَحْوَالُ الْأُمَمِ فَيَعْتَبِرُوا، (فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ) عَنْ ضَلَالَتِهِمْ، وَلَا يَخْرُجُونَ مِنْ ظُلُمَاتِهِمْ؛ لِأَنَّ مَنْ وَقَعَ فِي أَرْضِ فَلَاةٍ فِي لَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ وَفَقَدَ فِيهَا جَمِيعَ حَوَاسِّهِ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَسْمَعَ صَوْتًا يَهْتَدِي بِهِ، وَلَا أَنْ يَصِيحَ هُوَ لِيُنْقِذَهُ مَنْ يَسْمَعُهُ، وَلَا أَنْ يَرَى بَارِقًا يَؤُمُّهُ وَيَقْصِدُهُ، فَهُوَ لَا يَرْجِعُ مِنْ تِيهِهِ بَلْ يَظَلُّ يَعُمُّهُ فِي الظُّلُمَاتِ حَتَّى يَفْتَرِسَهُ سَبُعٌ ضَارٍ، أَوْ يَصِلَ إِلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ، فَيَنْهَارَ بِهِ فِي شَرِّ قَرَارِهِ (وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ)
(أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)
هَذَا هُوَ مَثَلُ الْفَرِيقِ الثَّانِي مِنْ هَذَا الصِّنْفِ مِنَ النَّاسِ، الَّذِي كَانَ أَفْرَادُهُ وَلَا يَزَالُونَ فِتْنَةً لِلْبَشَرِ، وَمَرَضًا فِي الْأُمَمِ وَحُجَّةً عَلَى الدِّينِ، لِأَنَّهُمْ بِغُرُورِهِمْ بِتَقَالِيدِهِمُ الَّتِي اكْتَفَوْا بِهَا مِنْ دِينِهِمُ الْمَوْرُوثِ، يَعْبَثُونَ بِعُقُولِهِمْ، وَيَلْهُونَ بِخَيَالَاتِهِمْ، وَيَجْنُونَ عَلَى مَشَاعِرِهِمْ وَمَدَارِكِهِمْ فَيُضَعِّفُونَهَا، وَيُصَارِعُونَ الْفِطْرَةَ الْإِلَهِيَّةَ فَيَصْرَعُونَهَا، حَتَّى يَكُونَ بَعْضُهُمْ كَالْجَمَادَاتِ (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ) كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْمَثَلِ الْأَوَّلِ، وَيَأْلَفُ الْبَعْضُ الْآخَرُ الظُّلْمَةَ بِطُولِ التَّقْلِيدِ، وَيَكُونُ أَفْرَادُهُ فِي نُورِ الْبُرْهَانِ كَالْخَفَافِيشِ فِي نُورِ الشَّمْسِ وَلَكِنَّهُمْ أَمْثَلُ مِنَ الْفَرِيقِ الَّذِي ضُرِبَ لَهُ الْمَثَلُ الْأَوَّلُ؛
لِأَنَّ فِيهِمْ بَقِيَّةً مِنَ الرَّجَاءِ وَرَمَقًا مِنَ الْحَيَاةِ، يُوَجِّهُهُمْ إِلَى الِاقْتِبَاسِ مِنْ نُورِ الْهِدَايَةِ كُلَّمَا أَضَاءَتْ لَهُمْ بُرُوقُهَا، وَالْمَشْيِ فِي الْجَادَّةِ كُلَّمَا اسْتَبَانُوا طَرِيقَهَا، وَلَكِنْ تَحُولُ دُونَ ذَلِكَ ظُلُمَاتُ التَّقَالِيدِ الْعَارِضَةُ، وَتَقِفُ فِي السَّبِيلِ عَقَبَاتُ الْبِدَعِ الْمُعَارِضَةُ، وَقَدْ يُعِدُّهُمْ لِاسْتِمَاعِ قَوَارِعِ الْآيَاتِ الَّتِي تُنْذِرُهُمْ بِمَا حَرَّفُوا، وَصَوَادِعِ الْحُجَجِ الَّتِي تُبَيِّنُ لَهُمْ كَيْفَ انْحَرَفُوا، وَلَا يَصُدُّهُمْ عَنْهَا إِلَّا أَنَّهَا تُزْعِجُهُمْ إِلَى تَرْكِ مَا صَنَّفُوا وَأَلَّفُوا، وَهَجْرِ مَا أَحَبُّوا وَأَلِفُوا، وَعَدَمِ الْمُبَالَاةِ بِسُنَّةِ الْآبَاءِ، وَقِلَّةِ الِاحْتِفَالِ بِعَظَمَةِ الرُّؤَسَاءِ، فَهُمْ يَتَرَاوَحُونَ بَيْنَ الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ، مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ أَهْلِ الْجَحُودِ وَأَهْلِ الْيَقِينِ (لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ) ، وَلَا يَنْقَطِعُ مِنْهُمُ الْأَمَلُ، حَتَّى يَنْقَطِعَ بِهِمُ الْأَجَلُ.
أَلَا تَرَاهُمْ عِنْدَمَا يَقْرَعُ أَسْمَاعَهُمْ مِنْ كِتَابِ رَبِّهِمْ مَا يُبَيِّنُ فَسَادَ سِيرَتِهِمْ، وَالْتِوَاءَ طَرِيقَتِهِمْ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي النَّعْيِ عَلَى أَمْثَالِهِمْ، وَحِكَايَةِ مَا لَمْ يَرْضَهُ مِنْ أَقْوَالِهِمْ:(بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ)(43: 22) إِلَخْ: وَقَوْلِهِ فِي بَيَانِ نَدَمِهِمْ عَلَى التَّقْلِيدِ، عِنْدَمَا يَحُلُّ بِهِمُ الْوَعِيدُ:(رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَ)(33: 67) يَأْخُذُهُمُ الزِّلْزَالُ، وَيَتَوَلَّاهُمُ الِاضْطِرَابُ وَالْقَلَقُ، وَتَنْشَقُّ لَهُمُ الظُّلْمَةُ عَنْ فَلَقٍ، وَيَلْمَعُ فِي نُفُوسِهِمْ نُورُ الْهِدَايَةِ الْفِطْرِيَّةِ فَيَمْشُونَ فِيهِ خُطُوَاتٍ، ثُمَّ تُحِيطُ بِهِمُ الظُّلُمَاتُ وَيَنْقَطِعُ بِهِمُ الطَّرِيقُ كَمَا أَلْمَعْنَا آنِفًا، وَأَسْبَابُ غَلَبَةِ الظُّلُمَاتِ عَلَى النُّورِ: هِيَ مُوَافَقَةُ مَا عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ، وَالْإِخْلَادُ إِلَى الْهَوَى، وَتَفْضِيلُ عَرَضِ هَذَا الْأَدْنَى، وَانْتِظَارُ الْمَغْفِرَةِ وَلَوْ بِمَا تَأَوَّلُوهُ فِي مَعْنَى الشَّفَاعَةِ، وَتَمَنِّي الرِّبْحِ مِنْ غَيْرِ بِضَاعَةٍ (يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ) (7: 169) بَلْ هُوَ عِنْدَهُمْ مَدْرُوسٌ بِجَدَلِيَّاتِ النَّحْوِ وَالْكَلَامِ، وَلَكِنَّهُ دَارِسُ الصُّوَى وَالْأَعْلَامِ الْمَنْصُوبَةِ لِهِدَايَةِ الْقُلُوبِ وَالْأَحْلَامِ، وَمَقْرُوءٌ بِالتَّجْوِيدِ وَالْأَنْغَامِ، وَلَكِنَّهُ مَتْرُوكُ الْحُكْمِ وَالْأَحْكَامِ، يَقْرَءُونَهُ لِكَسْبِ الْحُطَامِ لَا لِمَعْرِفَةِ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، وَلَا يَتْلُونَهُ لِإِصْلَاحِ الْقَلْبِ وَاللِّسَانِ بِتَزْكِيَةِ النَّفْسِ وَتَغْذِيَةِ الْإِيمَانِ، وَيَكْتُبُونَهُ لِشِفَاءِ الْأَبْدَانِ مِنَ الْأَسْقَامِ
لَا لِشِفَاءِ مَا فِي الصُّدُورِ مِنَ الْأَوْهَامِ وَالْآثَامِ، وَلَوْ كَانَ لَهُ أَنْصَارٌ يَدْعُونَ إِلَيْهِ، وَهُدَاةٌ يَعْتَصِمُونَ بِهِ وَيُعَوِّلُونَ عَلَيْهِ، لَتَبَدَّدَتِ الظُّلُمَاتُ أَمَامَ الْأَنْوَارِ، وَمَحَتْ آيَةَ اللَّيْلِ آيَةُ النَّهَارِ.
تِلْكَ الْإِرْشَادَاتُ الْإِلَهِيَّةُ بِمَنْزِلَةِ الْمَطَرِ الَّذِي يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ، وَالزِّلْزَالُ وَالِاضْطِرَابُ الَّذِي أَشَرْنَا إِلَيْهِ بِمَنْزِلَةِ الرَّعْدِ، وَاسْتِبَانَةُ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ الَّذِي يَلْمَعُ فِي أَنْفُسِهِمْ مِنْ ذَلِكَ كَالْبَرْقِ، وَالْعَادَاتِ وَالتَّقَالِيدِ وَالشَّهَوَاتِ وَالْخَوْفِ مِنْ ذَمِّ الْجَمَاهِيرِ عِنْدَ الْعَمَلِ بِمَا يُخَالِفُهُمْ كَالظُّلُمَاتِ الَّتِي تَصُدُّ عَنْ سُلُوكِ الطَّرِيقِ بَلْ تُعَمِّيهِ عَلَى طَالِبِهِ وَتَحْجُبُهُ عَنْهُ، وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى فِي تَمْثِيلِ حَالِ هَذَا الْفَرِيقِ:(أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ) أَيْ قَوْمٍ نَزَلَ بِهِمْ صَيِّبٌ، وَوَصَفَهُ بِأَنَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ الصَّيِّبَ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنَ السَّمَاءِ لِلْإِشْعَارِ بِأَنَّهُ أَمْرٌ لَا يَمْلِكُونَ دَفْعَهُ وَلَيْسَ مِلَاكُهُ فِي أَيْدِيهِمْ، وَمِنَ الْمَعْهُودِ عِنْدَ بُلَغَاءِ الْعَرَبِ التَّعْبِيرُ عَمَّا يُلِمُّ بِالنَّاسِ مِمَّا لَا دَافِعَ لَهُ بِأَنَّهُ نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ. وَلَا جَرَمَ أَنَّ تِلْكَ السَّوَانِحَ الَّتِي تَسْنَحُ فِي الْأَفْكَارِ، وَالْإِلْهَامَاتِ الْإِلَهِيَّةَ لِأَصْحَابِ الْفِطْرَةِ الذَّكِيَّةِ الَّتِي يَكُونُ مِنْ أَثَرِهَا مَا أَشَارَ إِلَيْهِ الْمَثَلُ وَتَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ، هِيَ أَمْرٌ وَهَبِيٌّ وَاقِعٌ مَالَهُ مِنْ دَافِعٍ.
قَالَ تَعَالَى فِي وَصْفِ الصَّيِّبِ: (فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ) الظُّلُمَاتُ: هِيَ ظُلْمَةُ اللَّيْلِ وَظُلْمَةُ السُّحُبِ وَظُلْمَةُ الصَّيِّبِ نَفْسِهِ، وَالرَّعْدُ: هُوَ الصَّوْتُ الْمَعْرُوفُ الَّذِي يُسْمَعُ فِي السَّحَابِ عِنْدَ اجْتِمَاعِهِ أَحْيَانًا، وَالْبَرْقُ: هُوَ الضَّوْءُ الَّذِي يَلْمَعُ فِي السَّحَابِ فِي الْغَالِبِ، وَقَدْ يَلْمَعُ مِنَ الْأُفُقِ حَيْثُ لَا سَحَابَ، وَقَالَ مُفَسِّرُنَا الْجَلَالُ السُّيُوطِيُّ: إِنَّ الرَّعْدَ مَلَكٌ أَوْ صَوْتُهُ، وَالْبَرْقَ سَوْطُهُ يَسُوقُ بِهِ السَّحَابَ، كَأَنَّ الْمَلَكَ جِسْمٌ مَادِّيٌّ؛ لِأَنَّ الصَّوْتَ الْمَسْمُوعَ بِالْآذَانِ مِنْ خَصَائِصِ الْأَجْسَامِ، وَكَأَنَّ السَّحَابَ حِمَارٌ بَلِيدٌ لَا يَسِيرُ إِلَّا إِذَا زُجِرَ بِالصُّرَاخِ الشَّدِيدِ وَالضَّرْبِ الْمُتَتَابِعِ، وَمَا ذَكَرْنَاهُ هُوَ الَّذِي كَانَ يَفْهَمُهُ الْعَرَبُ مِنَ اللَّفْظَيْنِ، وَهُوَ الَّذِي يَفْهَمُهُ النَّاسُ الْيَوْمَ، وَلَا يَجُوزُ صَرْفُ الْأَلْفَاظِ عَنْ مَعَانِيهَا الْحَقِيقِيَّةِ إِلَّا بِدَلِيلٍ صَحِيحٍ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا صُرِفَتْ عَنْ مَعَانٍ مِنْ عَالَمِ الشَّهَادَةِ الَّذِي يَعْرِفُهُ الْوَاضِعُونَ وَالْمُتَكَلِّمُونَ إِلَى مَعَانٍ مِنْ عَالَمِ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا اللهُ تَعَالَى وَمَنْ أَعْلَمَهُمُ اللهُ تَعَالَى إِيَّاهَا بِالْوَحْيِ، وَلَكِنَّ أَكْثَرَ الْمُفَسِّرِينَ وَلِعُوا بِحَشْوِ تَفَاسِيرِهِمْ بِالْمَوْضُوعَاتِ الَّتِي نَصَّ الْمُحَدِّثُونَ عَلَى كَذِبِهَا، كَمَا وَلِعُوا بِحَشْوِهَا بِالْقِصَصِ وَالْإِسْرَائِيلِيَّاتِ الَّتِي تَلَقَّفُوهَا مِنْ أَفْوَاهِ الْيَهُودِ وَأَلْصَقُوهَا بِالْقُرْآنِ لِتَكُونَ بَيَانًا لَهُ وَتَفْسِيرًا، وَجَعَلُوا ذَلِكَ مُلْحَقًا بِالْوَحْيِ، وَالْحَقُّ الَّذِي لَا مِرْيَةَ فِيهِ: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِلْحَاقُ شَيْءٍ بِالْوَحْيِ غَيْرَ مَا تَدُلُّ
عَلَيْهِ أَلْفَاظُهُ وَأَسَالِيبُهُ، إِلَّا مَا ثَبَتَ بِالْوَحْيِ عَنِ الْمَعْصُومِ الَّذِي جَاءَ بِهِ ثُبُوتًا لَا يُخَالِطُهُ الرَّيْبُ.
أَقُولُ: هَذَا مَا قَالَهُ الْأُسْتَاذُ فِي الرَّعْدِ وَالْبَرْقِ رَدًّا عَلَى الْجَلَالِ فِيمَا تَبِعَ فِيهِ مَا رُوِيَ فِي التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعَيْنِ وَلَا يَصَحُّ مِنْهُ شَيْءٌ، وَأَمْثِلَةُ مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ مِنْ سُؤَالِ الْيَهُودِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، وَقَدْ رَأَيْنَا السُّيُوطِيَّ لَمْ يَذْكُرْ مِنْ هَذِهِ
الرِّوَايَاتِ شَيْئًا فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ مِنْ كِتَابِهِ (الدُّرُّ الْمَنْثُورُ) الْمُخَصَّصُ لِنَقْلِ الْمَأْثُورِ، وَكَذَلِكَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَكَأَنَّ هَذَا عَدَّهُ مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ مَعَ عَدَمِ صِحَّةِ الرِّوَايَةِ فِيهِ، وَفَسَّرَهُمَا الْبَغَوِيُّ بِمَفْهُومِهِمَا اللُّغَوِيِّ، فَقَالَ فِي الرَّعْدِ: هُوَ الصَّوْتُ الَّذِي يُسْمَعُ مِنَ السَّحَابِ وَفِي الْبَرْقِ: هُوَ النَّارُ الَّتِي تَخْرُجُ مِنْهُ، ثُمَّ قَالَ: قَالَ عَلِيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ: الرَّعْدُ اسْمُ مَلَكٍ يَسُوقُ السَّحَابَ. وَالْبَرْقُ: لَمَعَانُ سَوْطٍ مِنْ نُورٍ يَزْجُرُ بِهِ الْمَلَكُ السَّحَابَ.
وَقِيلَ: الصَّوْتُ زُجْرُ السَّحَابِ، وَقِيلَ: تَسْبِيحُ الْمَلَكِ، وَقِيلَ: الرَّعْدُ نُطْقُ الْمَلِكِ وَالْبَرْقُ ضَحِكُهُ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الرَّعْدُ اسْمُ الْمَلَكِ وَيُقَالُ لِصَوْتِهِ أَيْضًا رَعْدٌ، وَالْبَرْقُ اسْمُ مَلَكٍ يَسُوقُ السَّحَابَ، وَقَالَ شَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ: الرَّعْدُ مَلَكٌ يُزْجِي السُّحُبَ فَإِذَا تَبَدَّدَتْ ضَمَّهَا، فَإِذَا اشْتَدَّ غَضَبُهُ طَارَتْ مِنْ فِيهِ النَّارُ فَهِيَ الصَّوَاعِقُ، وَقِيلَ: الرَّعْدُ انْخِرَاقُ الرِّيحِ بَيْنَ السَّحَابِ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ. اهـ. وَلَمْ يَذْكُرِ الْحَدِيثَ الْمَرْفُوعَ؛ لِأَنَّهُ أَضْعَفُ عِنْدَهُ مِمَّا ذَكَرَهُ فِيمَا يَظْهَرُ.
أَقُولُ: وَلَا شَكَّ عِنْدِي فِي أَنَّ هَذِهِ الْأَقْوَالَ كُلَّهَا مِمَّا كَانَ يُذِيعُهُ مِثْلُ كَعْبِ الْأَحْبَارِ وَوَهَبِ بْنِ مُنَبِّهٍ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعَيْنِ، وَلَوْ صَحَّ فِي حَدِيثٍ مَرْفُوعٍ بِسَمَاعٍ صَحِيحٍ لَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ لَمَا وَقَعَ فِيهِ مِثْلُ هَذَا الْخِلَافِ، وَلَأَمْكَنَ حَمْلُهُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ وَالْإِشَارَةَ إِلَى أَنَّ هَذِهِ الْمَظَاهِرَ الْكَوْنِيَّةَ تَقَعُ بِفِعْلِ مَلَكٍ مُوَكَّلٍ بِالسَّحَابِ، وَلَكِنْ لَا حَاجَةَ إِلَى ذَلِكَ مَعَ عَدَمِ صِحَّةِ شَيْءٍ فِي الْمَسْأَلَةِ، وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ عَالَمِ الْغَيْبِ، وَهُمْ لَا يَرَاهُمُ النَّاسُ إِلَّا إِذَا تَمَثَّلُوا لِنَبِيٍّ أَوْ وَلِيٍّ عَلَى سَبِيلِ الْمُعْجِزَةِ أَوِ الْإِرْهَاصِ، كَتَمَثُّلِ الرُّوحِ لِلسَّيِّدَةِ مَرْيَمَ عليها السلام، وَرُؤْيَةِ الصَّحَابَةِ لِجِبْرِيلَ فِي حَضْرَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِصُورَةِ رَجُلٍ يَسْأَلُ عَنِ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ وَالْإِحْسَانِ، وَالْبَرْقُ مِنْ عَالَمِ الشَّهَادَةِ لَا مِنْ عَالَمِ الْغَيْبِ.
وَقَوْلُ الْبَغَوِيِّ: وَقِيلَ: الرَّعْدُ انْخِرَاقُ الرِّيحِ بَيْنَ السَّحَابِ، يُرِيدُ بِهِ قَوْلَ
فَلَاسِفَةِ الْيُونَانِ الَّذِي اغْتَرَّ بِهِ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ، قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: وَالرَّعْدُ صَوْتٌ يُسْمَعُ مِنَ السَّحَابِ.
وَالْمَشْهُورُ أَنَّ سَبَبَهُ اضْطِرَابُ أَجْرَامِ السَّحَابِ وَاصْطِكَاكُهَا إِذَا حَدَتْهَا الرِّيحُ مِنَ الِارْتِعَادِ. اهـ.
وَهُوَ قَوْلٌ بَاطِلٌ. وَالسَّحَابُ: بُخَارٌ لَا يُحْدِثُ اضْطِرَابُهُ صَوْتًا.
وَقَالَ تَعَالَى فِي أَصْحَابِ الصَّيِّبِ: (يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ) الصَّاعِقَةُ هِيَ مَا كَانَ يَعْرِفُهُ الْعَرَبُ وَيَعْرِفُهُ كُلُّ وَاحِدٍ، وَهِيَ مَا يَنْزِلُ فِي أَثْنَاءِ الْمَطَرِ وَالْبَرْقِ وَالرَّعْدِ فَيَصْعَقُ مَا يَنْزِلُ بِهِ، بِأَنْ يَهْلِكَ أَوْ يَلْحَقَهُ ضَرَرٌ، وَمَا تَفْسِيرُنَا لِلْبَرْقِ وَالرَّعْدِ وَالصَّاعِقَةِ مَعَ كَوْنِهَا مَعْرُوفَةً لِكُلِّ النَّاسِ إِلَّا لِأَنَّ الْمُفَسِّرِينَ صَرَفُوا أَفْهَامَهُمْ عَنِ الْمَعْرُوفِ إِلَى غَيْرِهِ، كَمَا حُكِيَ عَنْ (أَرِسْطُو) حَكِيمِ قُدَمَاءِ الْيُونَانِ أَنَّ تَلَامِيذَهُ سَأَلُوهُ عَنْ تَعْرِيفِ الْحَرَكَةِ، فَقَامَ وَمَشَى، وَمَا أَنْطَقَهُمْ بِالسُّؤَالِ عَنْهَا عَلَى بَدَاهَتِهَا إِلَّا أَنَّهُمُ اعْتَادُوا أَنْ يَسْمَعُوا مِنَ الْفَلَاسِفَةِ أَقْوَالًا فِي الْأُمُورِ الْجَلِيَّةِ تَجْعَلُهَا غَامِضَةً خَفِيَّةً.
أَمَّا حَقِيقَةُ الْبَرْقِ وَالرَّعْدِ وَالصَّاعِقَةِ وَأَسْبَابُ حُدُوثِهَا فَلَيْسَ مِنْ مَبَاحِثِ الْقُرْآنِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ عِلْمِ الطَّبِيعَةِ - أَيِ الْخَلِيقَةِ - وَحَوَادِثِ الْجَوِّ الَّتِي فِي اسْتِطَاعَةِ النَّاسِ مَعْرِفَتُهَا بِاجْتِهَادِهِمْ وَلَا تَتَوَقَّفُ عَلَى الْوَحْيِ، وَإِنَّمَا تُذْكَرُ الظَّوَاهِرُ الطَّبِيعِيَّةُ فِي الْقُرْآنِ لِأَجْلِ الِاعْتِبَارِ وَالِاسْتِدْلَالِ، وَصَرْفِ الْعَقْلِ إِلَى الْبَحْثِ الَّذِي يَقْوَى بِهِ الْفَهْمُ وَالدِّينُ، وَالْعِلْمُ بِالْكَوْنِ يَنْمَى وَيَضْعُفُ فِي النَّاسِ وَيَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الزَّمَانِ. فَقَدْ كَانَ النَّاسُ يَعْتَقِدُونَ فِي بَعْضِ الْأَزْمِنَةِ أَنَّ الصَّوَاعِقَ تَحْدُثُ مِنْ أَجْسَامٍ مَادِّيَّةٍ، لِمَا كَانَ يَشُمُّونَهُ فِي مَحَلِّ نُزُولِهَا مِنْ رَائِحَةِ الْكِبْرِيتِ وَغَيْرِهِ، وَرَجَعُوا عَنْ هَذَا الِاعْتِقَادِ فِي زَمَنٍ آخَرَ مُلَاحِظِينَ أَنَّ تِلْكَ الرَّائِحَةَ لَا تَكُونُ دَائِمًا فِي مَحَلِّ الصَّاعِقَةِ، وَقَدْ ظَهَرَ فِي هَذَا الزَّمَانِ أَنَّ فِي الْكَوْنِ سَيَّالًا يُسَمُّونَهُ الْكَهْرَبَاءَ، مِنْ آثَارِهِ مَا تَرَوْنَ مِنَ التِّلِغْرَافِ وَالتِّلِيفُونِ وَالتُّرَامْوَايْ، وَهَذِهِ الْأَضْوَاءُ السَّاطِعَةُ فِي الْبُيُوتِ وَالْأَسْوَاقِ، مِنْ غَيْرِ شُمُوعٍ وَلَا زَيْتٍ وَلَا ذُبَالٍ، وَإِنَّمَا تَكُونُ بِاتِّصَالِ سِلْكَيْنِ دَقِيقَيْنِ كَالْخُيُوطِ الَّتِي تُخَاطُ بِهَا الثِّيَابُ، أَحَدُهُمَا: يَحْمِلُ أَوْ يُوَصِّلُ السَّيَّالَ الْكَهْرَبَائِيَّ الَّذِي يُسَمُّونَهُ الْمُوجَبَ، وَالْآخَرُ: يُوَصِّلُ السَّيَّالِ الْمُسَمَّى بِالسَّالِبِ، وَبِاتِّصَالُ السِّلْكَيْنِ يَتَوَلَّدُ النُّورُ مِنْ تَلَاقِي السَّيَّالَيْنِ، وَبِانْقِطَاعِهِمَا أَوِ الْفَصْلِ بَيْنَهُمَا يَنْفَصِلُ السَّيَّالَانِ، فَيَنْقَطِعُ الضَّوْءُ مِنَ الْمَصَابِيحِ وَالْحَرَكَةِ مِنَ الْآلَاتِ،
وَالْكَهْرَبَائِيَّةِ مَوْجُودَةٌ فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَالْبَرْقُ فِي السَّحَابِ يَتَوَلَّدُ مِنَ اتِّصَالِ نَوْعَيْهَا: الْمُوجَبِ، وَالسَّالِبِ بِقُدْرَةِ اللهِ تَعَالَى، كَمَا يَتَوَلَّدُ فِي الْأَرْضِ بِعَمَلِ الْإِنْسَانِ، وَقَدِ اسْتَنْزَلَ بَعْضُ عُلَمَاءِ الْكَهْرَبَائِيَّةِ قَبَسَ الصَّاعِقَةِ مِنَ السَّحَابِ إِلَى الْأَرْضِ، وَالصَّاعِقَةُ مِنْ أَثَرِ الْكَهْرَبَائِيَّةِ، وَهِيَ تَفْرِيغُ السَّحَابِ طَائِفَةً مِنْهَا فِي مَكَانٍ لِجَاذِبٍ فِي الْأَرْضِ يَجْذِبُهُ، وَكَثِيرًا مَا حَصَلَ الصَّعْقُ لِعُمَّالِ التِّلِغْرَافِ، لِمَا بَيْنَ السَّحَابِ وَالْأَسْلَاكِ مِنَ الْجَاذِبِيَّةِ، وَمَعْرِفَةُ النَّاسِ بِالسَّبَبِ الْحَقِيقِيِّ لِلصَّوَاعِقِ هَدَاهُمْ إِلَى حِفْظِ الْأَبْنِيَةِ الشَّاهِقَةِ مِنْهَا بِاتِّخَاذِ الْقَضِيبِ الْمَعْرُوفِ الَّذِي يُسَمَّى قَضِيبَ الصَّاعِقَةِ، فَلَا تَنْزِلُ الصَّوَاعِقُ عَلَى بِنَاءٍ رُفِعَ فَوْقَهُ هَذَا الْقَضِيبُ، وَلَا مَجَالَ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ لِلتَّطْوِيلِ فِي أَمْثَالِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ الطَّبِيعِيَّةِ؛ لِأَنَّهَا تُطْلَبُ مِنْ فُنُونِهَا الْخَاصَّةِ بِهَا، فَلْنَعُدْ إِلَى بَيَانِ الْمَثَلِ.
اسْتَحْضِرْ حَالَ قَوْمٍ مُشَاةٍ فِي فَلَاةٍ مِنَ الْأَرْضِ نَزَلَ عَلَيْهِمْ بَعْدَ مَا أَقْبَلَ ظَلَامُ اللَّيْلِ صَيِّبٌ مِنَ السَّمَاءِ قَصَفَتْ رُعُودُهُ، وَلَمَعَتْ بُرُوقُهُ، وَتَصَوَّرْ كَيْفَ يَهْوُونَ بِأَصَابِعِهِمْ إِلَى آذَانِهِمْ كُلَّمَا حَدَثَ قَاصِفٌ مِنَ الرَّعْدِ لِيَدْفَعُوا شِدَّةَ وَقْعِهِ بِسَدِّ مَنَافِذِ السَّمْعِ بِرُءُوسِ الْأَنَامِلِ، وَعَبَّرَ عَنِ الْأَنَامِلِ بِالْأَصَابِعِ هَذَا التَّعْبِيرَ الْمَجَازِيَّ اللَّطِيفَ لِلْإِشْعَارِ بِشِدَّةِ عِنَايَتِهِمْ بِسَدِّ آذَانِهِمْ، وَمُبَالَغَتِهِمْ فِي إِدْخَالِ أَنَامِلِهِمْ فِي صَمَالِيخِهَا، كَأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يُحَاوِلُ بِمَا دَهَمَهُ مِنَ الْخَوْفِ أَنْ يَغْرِسَ إِصْبَعَهُ كُلَّهَا فِي أُذُنِهِ حَتَّى لَا يَكُونَ لِلصَّوْتِ مَنْفَذٌ إِلَى سَمْعِهِ، لِمَا يَحْذَرُهُ عَلَى نَفْسِهِ مِنَ الْمَوْتِ الزُّؤَامِ، وَمُعَاجَلَةِ الْحِمَامِ، وَهَذَا هُوَ الْجُبْنُ الْخَالِعُ، وَمُنْتَهَى حُدُودِ الْحَمَاقَةِ؛ لِأَنَّ سَدَّ الْآذَانِ لَيْسَ مِنْ أَسْبَابِ الْوِقَايَةِ
مِنْ أَخْذِ الصَّاعِقَةِ وَنُزُولِ الْمَوْتِ، وَالْمَوْتُ: فَقْدُ الْحَيَاةِ بِمُفَارَقَةِ الرَّوْحِ لِلْبَدَنِ، وَخَلْقُ اللهِ لَهُ عِبَارَةٌ عَنْ تَقْدِيرِهِ، أَوْ عَنْ قَبْضِهِ لِلرُّوحِ وَتَوَفِّيهِ لِلنَّفْسِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (وَاللهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ) يُرْشِدُنَا فِي أَثْنَاءِ شَرْحِ الْمَثَلِ وَتَقْرِيرِهِ إِلَى حَالِ مَنْ ضُرِبَ فِيهِمُ الْمَثَلُ لِئَلَّا يُذْهِلَنَا مَا نَتَصَوَّرُهُ مَنْ حَالِ الْمُشَبَّهِ بِهِ عَنْ حَالِ الْمُشَبَّهِ الْمَقْصُودِ بِالذَّاتِ، وَهُوَ أَنَّ التَّصَامُمَ وَالْهُرُوبَ مِنْ سَمَاعِ آيَاتِ الْحَقِّ، وَالْحَذَرَ مِنْ صَوَاعِقِ بَرَاهِينِهِ السَّاطِعَةِ أَنْ تَذْهَبَ بِتَقَالِيدِهِمُ الَّتِي يَرَوْنَ حَيَاتَهُمُ الْمَلِيَّةَ مُرْتَبِطَةً بِهَا لَا يُفِيدُهُمْ شَيْئًا؛ لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى مُحِيطٌ بِهِمْ، وَمُطَّلِعٌ عَلَى سَرَائِرِهِمْ وَعَالَمٌ بِمَا فِي
ضَمَائِرِهِمْ، وَقَادِرٌ عَلَى أَخْذِهِمْ أَيْنَمَا كَانُوا، وَفِي أَيِّ طَرِيقٍ سَلَكُوا، فَلَا يَهْرُبُونَ مِنْ بُرْهَانٍ إِلَّا وَيُفَاجِئُهُمْ بِرِهَانٌ آخَرُ، كَالْغَرِيقِ يَدْفَعُهُ مَوْجٌ وَيَتَلَقَّاهُ مَوْجٌ حَتَّى يَقْذِفَ بِهِ إِلَى سَاحِلِ النَّجَاةِ، أَوْ يَدْفَعُهُ إِلَى هَاوِيَةِ الْعَدَمِ، وَلِهَذَا قَالَ:(مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ) وَلَمْ يَقُلْ: مُحِيطٌ بِهِمْ، أَقُولُ: فَوَضْعُ الِاسْمِ الْمُظْهَرِ مَوْضِعَ الْمُضْمَرِ لِلْإِيذَانِ بِأَنَّهُمْ إِنَّمَا كَانُوا كَذَلِكَ بِكُفْرِهِمْ وَأَنَّ ذَلِكَ يَرِدُ فِي أَمْثَالِهِمْ. وَالْمُرَادُ بِالْإِحَاطَةِ هُنَا إِحَاطَةُ الْقُدْرَةِ. فَمَنْ لَمْ يُمِتْهُ بِأَخْذِ الصَّاعِقَةِ أَمَاتَهُ بِغَيْرِهَا، تَنَوَّعَتِ الْأَسْبَابُ وَالْمَوْتُ وَاحِدٌ. وَالْمُحِيطُ بِالشَّيْءِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَفُوتَهُ وَيَنْفَلِتَ مِنْ قَبْضَتِهِ.
(يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا) إِذَا لَمَعَ الْبَرْقُ بِشِدَّةٍ مُفَاجِئًا مَنْ هُوَ فِي ظُلْمَةٍ فَإِنَّهُ يُؤَثِّرُ فِي بَصَرِهِ تَأْثِيرًا يَكَادُ يَخْطَفُهُ، وَالْخَطْفُ: هُوَ الْأَخْذُ بِسُرْعَةٍ، وَلَكِنَّهُ يَتَبَيَّنُ بِهِ جُزْءًا مِنَ الطَّرِيقِ فَيَمْشِي فِيهِ خُطُوَاتٍ ثُمَّ يَعْتَكِرُ عَلَيْهِ الظَّلَامُ وَتَسْتَحْوِذُ عَلَيْهِ الْمَخَاوِفُ وَالْأَوْهَامُ فَيَقِفُ فِي مَكَانِهِ، أَوْ يَعُودُ الْبَرْقُ إِلَى لَمَعَانِهِ، وَيُحَاكِي هَذَا مِنْ حَالِ الْمُمَثَّلِ بِهِمْ أَنَّهُ عِنْدَ مَا يَدْعُوهُمُ الدَّاعِي إِلَى أَصْلِ الدِّينِ، وَيُوَضِّحُ لَهُمْ سَبَبَ مَا هُمْ فِيهِ مِنَ الْبَلَاءِ الْمُبِينِ، وَيَتْلُو عَلَيْهِمُ الْآيَاتِ الْبَيِّنَةَ، وَيُقِيمُ لَهُمُ الْحُجَجَ الْقَيِّمَةَ عَلَى أَنَّهُمْ تَنْكَبُّوا الصِّرَاطَ السَّوِيَّ وَأُصِيبُوا بِالدَّاءِ الدَّوِيِّ، يَظْهَرُ لَهُمُ الْحَقُّ فَيَعْزِمُونَ عَلَى اتِّبَاعِهِ، وَتَسِيرُ أَفْكَارُهُمْ فِي نُورِهِ بَعْضَ خُطُوَاتٍ، وَلَكِنْ لَا يَعْتِمُونَ أَنْ تَعَوُدَ إِلَيْهِمْ عَتَمَةُ التَّقْلِيدِ وَظُلْمَةُ الشَّهَوَاتِ، وَغُبْسَةُ الْأَهْوَاءِ وَالشُّبَهَاتِ. فَتُقَيِّدُ الْفِكْرَ وَإِنْ لَمْ تُقِفْ سَيْرَهُ وَإِنَّمَا تَعُودُ بِهِ إِلَى الْحَيْرَةِ - كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ الْكَلَامِ ثُمَّ يَتَكَرَّرُ النَّظَرُ فِي تَضَاعِيفِهَا بِطَرِيقِ الِالْتِفَاتِ وَالْإِلْمَامِ. وَفِيهِ: أَنَّهُمْ عَلَى سُوءِ الْحَالِ وَخَطَرِ الْمَآلِ لَمْ تَنْقَطِعْ مِنْهُمُ الْآمَالُ، كَمَا انْقَطَعَتْ مِنْ أَصْحَابِ الْمَثَلِ الْأَوَّلِ الَّذِينَ وُصِفُوا بِالصُّمِّ الْبُكْمِ الْعُمْيِ وَلِذَلِكَ قَالَ فِيهِمْ:(وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ) حَتَّى لَا يَنْجَعَ فِيهِمْ وَعْظُ وَاعِظٍ، وَلَا تُفِيدَهُمْ هِدَايَةُ هَادٍ، وَلَمْ يَقُلْ: إِنَّهُ ذَهَبَ بِنُورِهِمْ كَمَا ذَهَبَ بِنُورِ أُولَئِكَ وَسَلَبَهُمْ كُلَّ أَنْوَاعِ الْهُدَى وَالرَّشَادِ فَوَقَعَ الْيَأْسُ مِنْ رُجُوعِهِمْ إِلَى الْحَقِّ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلَوْ شَاءَ اللهُ) إِلَخْ رُجُوعٌ إِلَى بَيَانِ حَالِ مَنْ ضُرِبَ فِيهِمُ الْمَثَلُ لَا مِنْ تَتِمَّةِ الْمَثَلِ، وَقَدْ
كَنَّى عَنْهُمْ بِالضَّمِيرِ هُنَا؛ لِأَنَّ الْمَثَلَ قَدْ تَمَّ بَعْدَ مَا ذَكَرَهُمْ فِي قَوْلِهِ: (وَاللهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ) بِالْوَصْفِ الَّذِي اقْتَضَى التَّمْثِيلَ، هَذَا مَا قَالَهُ شَيْخُنَا، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْنِ لِلْمُفَسِّرِينَ، وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهُ تَتِمَّةً لِلْمَثَلِ نَفْسِهِ، وَالْمَقْصُودُ مَنْ ضُرِبَ
فِيهِمُ الْمَثَلُ، عَلَى أَنَّ كُلًّا مِنَ الْمَعْنَيَيْنِ صَحِيحٌ لَا يُنَافِي الْآخَرَ، وَكَلَامُ بَعْضِهِمْ يَمْنَعُ الْجَمْعَ، فَقَدْ قَالَ الْبَغَوِيُّ: وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمُ الظَّاهِرَةِ، كَمَا ذَهَبَ بِأَسْمَاعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمُ الْبَاطِنَةِ اهـ.
وَهُوَ خَطَأٌ بَيَانِيٌّ فَإِنَّ الْبَاطِنَةَ هِيَ الْمَقْصُودُ مِنَ الظَّاهِرَةِ بِأُسْلُوبِ التَّشْبِيهِ الْبَلِيغِ وَهُوَ الِاسْتِعَارَةُ. وَمَعَ هَذَا فَقَدْ جَعَلَهُ شَيْخُنَا فِي صِنْفٍ مِنْهُمْ غَيْرِ الْمَوْصُوفِينَ بِقَوْلِهِ: (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ) وَكَلَامُهُ أَظْهَرُ.
(إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) لَيْسَ عِنْدِي عَنْ أُسْتَاذِنَا شَيْءٌ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ، وَمَعْنَاهَا وَاضِحٌ لَا يَحْتَاجُ إِلَى تَفْسِيرٍ، وَلَكِنْ قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ " قَدِيرٌ " بِمَعْنَى قَادِرٍ، وَمِثْلُهُ كُلُّ صِيغَةِ مُبَالَغَةٍ فِي أَسْمَائِهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ لَا تَفَاوُتَ فِيهَا، وَفِيهِ أَنَّ الْمُبَالَغَةَ فِي الْكَلَامِ، لِأَجْلِ التَّأْثِيرِ فِي الْإِفْهَامِ، فَقَوْلُهُ:" عَلَّامُ الْغُيُوبِ " أَبْلَغُ مِنْ قَوْلِهِ: " عَالِمُ الْغَيْبِ " وَلِكُلٍّ مِنْهُمَا مَوْقِعٌ، وَهَاهُنَا لَمَّا هَدَّدَ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّهُ لَوْ شَاءَ أَنْ يَذْهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ لَذَهَبَ بِهَا، عَلَّلَهُ بِأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، لِلْإِعْلَامِ بِأَنَّ تَعَلُّقَ مَشِيئَتِهِ يَتَّصِلُ بِهِ تَعَلَّقُ قُدْرَتِهِ، فَمَا شَاءَ كَانَ قَطْعًا؛ لِأَنَّهُ لَا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ، وَتَأْثِيرُ الْأَسْبَابِ فِي مُسَبِّبَاتِهَا مَنُوطٌ بِمَشِيئَتِهِ تَعَالَى.
(تَنْبِيهٌ صَادِعٌ فِي تَطْبِيقِ الْقُرْآنِ عَلَى مَا هُوَ وَاقِعٌ)
(وَظُهُورُ مَعَانِي الْأَمْثَالِ الْمَضْرُوبَةِ لِلْمُنَافِقِينَ، فِي كَثِيرٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ وَالْعَامَّةِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) عَقَّبَ الْأُسْتَاذُ تَفْسِيرَ هَذِهِ الْآيَاتِ بِتَنْبِيهٍ ارْتَاعَ لَهُ الْخَامِلُ وَالنَّبِيهُ، ذَلِكَ أَنَّهُ بَيَّنَ أَنَّ الْقُرْآنَ هَادٍ وَمُرْشِدٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَأَنَّ مَعَانِيَهُ عَامَّةٌ شَامِلَةٌ، فَلَا يَعِدُ وَيُوعِدُ وَيَعِظُ وَيُرْشِدُ أَشْخَاصًا مَخْصُوصِينَ، وَإِنَّمَا نِيطَ وَعْدُهُ وَوَعِيدُهُ وَتَبْشِيرُهُ وَإِنْذَارُهُ بِالْعَقَائِدِ وَالْأَخْلَاقِ وَالْعَادَاتِ وَالْأَعْمَالِ الَّتِي تُوجَدُ فِي الْأُمَمِ وَالشُّعُوبِ، فَلَا يَغْتَرَّنَّ أَحَدٌ بِقَوْلِ بَعْضِ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ نَزَلَتْ فِي الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ كَانُوا فِي عَصْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَيَتَوَهَّمُ أَنَّهَا لَا تَتَنَاوَلُهُ وَإِنْ كَانَتْ مُنْطَبِقَةً عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَّخِذِ الْقُرْآنَ إِمَامًا وَهَادِيًا، وَلَمْ يَسْتَعْمِلْ عَقْلَهُ وَمَشَاعِرَهُ فِيمَا خُلِقَتْ لَهُ بَلِ اكْتَفَى
عَنْ ذَلِكَ بِتَقْلِيدِ آبَائِهِ وَمُعَاصِرِيهِ فِي كُلِّ مَا هُمْ فِيهِ، ذَكَرَ ذَلِكَ عِنْدَ بَيَانِ وَجْهِ الِاتِّصَالِ بَيْنَ الْآيَاتِ السَّابِقَةِ وَمَا بَعْدَهَا، فَقَالَ بَعْدَ تِلَاوَةِ الْآيَةِ التَّالِيَةِ مَا مَعْنَاهُ:
(يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ)
فِي النَّاسِ الْمُنَادُونَ هُنَا وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ: آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ ذَلِكَ الْإِيمَانَ الَّذِي يَمْلِكُ الْقَلْبَ وَيَصْرِفُ النَّفْسَ فِي الْأَعْمَالِ، وَهُوَ الْمَقْبُولُ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى، وَإِنَّمَا هُمْ آخِذُونَ بِتَقَالِيدَ ظَاهِرِيَّةٍ لَيْسَ لَهَا ذَلِكَ الْأَثَرُ الصَّالِحُ فِي أَخْلَاقِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ، فَهُمْ يُخَادِعُونَ اللهَ تَعَالَى بِالتَّلَبُّسِ بِبَعْضِ صُوَرِ الْعِبَادَاتِ وَالْأَقْوَالِ وَ ((إِنَّ اللهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ)) وَالْكَلَامُ عَلَى هَذَا لَا يَزَالُ فِي الصِّنْفِ الرَّابِعِ مِنْ أَصْنَافِ الْبَشَرِ الْمُخَاطَبِينَ بِالْقُرْآنِ كَمَا تَقَدَّمَ، فَلَا حَاجَةَ إِلَى بَيَانِ وَجْهِ الِاتِّصَالِ بَيْنَ الْآيَاتِ.
(الْوَجْهُ الثَّانِي) : - وَهُوَ الرَّاجِحُ - أَنَّ الْخِطَابَ عَامٌّ لِلنَّاسِ كَافَّةً، وَوَجْهُ الِاتِّصَالِ بَيْنَ الْآيَاتِ عَلَى هَذَا أَنَّهُ لَمَّا بَيَّنَ تَعَالَى فِي أَصْنَافِ النَّاسِ هَذَا الصِّنْفَ الَّذِي احْتَقَرَ أَفْرَادُهُ نِعَمَ اللهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ، وَاسْتَعْظَمُوهَا وَأَكْبَرُوهَا عَلَى مَنْ قَبْلَهُمْ، فَحَرَمُوا أَنْفُسَهُمْ مِنْ أَجَلِّ الْمَزَايَا الْإِنْسَانِيَّةِ، وَأَجَّلُوا سَلَفَهُمْ حَتَّى رَفَعُوهُمْ إِلَى مَرْتَبَةِ الرُّبُوبِيَّةِ، خَاطَبَ النَّاسَ عَامَّةً بِأَنْ يَعْبُدُوهُ مُلَاحَظِينَ مَعْنَى الرُّبُوبِيَّةِ وَالْخَالِقِيَّةِ الَّتِي تَشْمَلُهُمْ وَمَنْ قَبْلَهُمْ مِنَ السَّلَفِ، فَتَنْظِمُهُمْ جَمِيعًا فِي سِلْكِ الْعُبُودِيَّةِ لِلْخَالِقِ تَعَالَى شَأْنُهُ، وَلَا يَكُونُ كَذَلِكَ الصِّنْفُ الْخَاسِرُ الْكَفُورُ بِنِعَمِ الْمَشَاعِرِ وَالْعَقْلِ وَهِدَايَةِ الدِّينِ، إِذَا لَمْ يَسْتَعْمِلُوا عُقُولَهُمْ فِي فَهْمِ مَا أُنْزِلَ عَلَيْهِمْ، بَلِ اكْتَفَوْا بِتَقْلِيدِ بَعْضِ
رُؤَسَائِهِمْ وَعُلَمَائِهِمْ، زَاعِمِينَ أَنَّهُ لَا يَقْوَى عَلَى فَهْمِ كِتَابِ اللهِ تَعَالَى غَيْرُهُمْ، كَأَنَّ اللهَ تَعَالَى أَنْزَلَ كُتُبَهُ وَخَاطَبَ بِهَا نَفَرًا مَعْدُودِينَ فِي وَقْتٍ مَحْدُودٍ وَلَمْ يَجْعَلْهُ هِدَايَةً عَامَّةً لِلْأُمَّةِ، وَإِنَّمَا أَلْزَمَ سَائِرَ النَّاسِ فِي سَائِرِ الْأَوْقَاتِ الِاكْتِفَاءَ بِاتِّبَاعِ أُولَئِكَ الرُّؤَسَاءِ وَأَتْبَاعِهِمْ وَأَتْبَاعِ أَتْبَاعِهِمْ وَهَلُمَّ جَرَّا، ثُمَّ تَرَكُوا أَتْبَاعَهُمُ اتِّكَالًا عَلَى شَفَاعَتِهِمْ، وَاكْتِفَاءً بِالِانْتِسَابِ إِلَيْهِمْ، وَزَعْمًا أَنَّ اللهَ أَعْطَاهُمْ مَا لَا يُعْطِي مِثْلَهُ لِأَحَدٍ سِوَاهُمْ وَإِنْ عَمِلُوا مِثْلَ عَمَلِهِمْ، تَعَالَى الله عَنِ الظُّلْمِ وَالْمُحَابَاةِ، وَهُوَ ذُو الرَّحْمَةِ الَّتِي لَا تَنْتَهِي وَذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ.
هَذَا النِّدَاءُ الْإِلَهِيُّ الْمُشْعِرُ بِأَنَّ نِسْبَةَ النَّاسِ الْأَوَّلِينَ إِلَى اللهِ تَعَالَى كَنِسْبَةِ الْآخَرِينَ وَاحِدَةٌ، هُوَ الْخَالِقُ وَهُمُ الْمَخْلُوقُونَ، وَهُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِلْعِبَادَةِ وَهُمُ الْمَأْمُورُونَ بِهَا أَجْمَعُونَ، حُجَّةٌ عَلَيْنَا وَعَلَى جَمِيعِ مَنِ اسْتَنَّ بِسُنَّةِ ذَلِكَ الصِّنْفِ مِنْ قَبْلِنَا.