الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(قَالَ شَيْخُنَا) : وَأَخُصُّ طُلَّابَ عُلُومِ الدِّينِ بِالذِّكْرِ، فَيَنْبَغِي لِلطَّالِبِ أَنْ يُوَجِّهَ نَفْسَهُ إِلَى فَهْمِ الْقُرْآنِ، وَيَحْمِلَهَا عَلَى الِاهْتِدَاءِ بِهِ، فَإِذَا هُوَ فَعَلَ ذَلِكَ تَظْهَرُ عَلَيْهِ آدَابُ الْإِسْلَامِ الَّتِي أَشَارَ إِلَيْهَا الرَّسُولُ عليه الصلاة والسلام بِقَوْلِهِ:((أَدَّبَنِي رَبِّي فَأَحْسَنَ تَأْدِيبِي)) وَإِنَّمَا كَانَ أَدَبَهُ الْقُرْآنُ، وَمَنِ اشْتَغَلَ بِهَذَا حَقَّ الِاشْتِغَالِ، وَصَلَ إِلَى مَعْرِفَةِ أَمْرَاضِ
الْمُسْلِمِينَ الْحَاضِرَةِ، وَمَنَابِعِ الْبِدَعِ الَّتِي فَشَتْ فِيهِمْ، وَمَثَارَاتِ الْفِتَنِ الَّتِي فَرَّقَتْهُمْ، وَيَعْرِفُ عِلَاجَ ذَلِكَ، وَأَنَّ مَنْ ذَاقَ حَلَاوَةَ الْقُرْآنِ لَا يَنْظُرُ فِي كِتَابٍ وَلَا يَتَلَقَّى عِلْمًا، إِلَّا مَا يَفْتَحُ لَهُ بَابَ الْفَهْمِ فِي الْقُرْآنِ أَوْ مَا يَفْتَحُ لَهُ بَابَهُ الْقُرْآنُ فَيَجِدُهُ مِرْآتَهُ، وَمَا عَدَا ذَلِكَ مُبْعِدٌ عَنْهُ، وَالْبُعْدُ عَنِ الْقُرْآنِ هُوَ عَيْنُ الْبُعْدِ عَنِ اللهِ تَعَالَى، وَذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ.
كُلُّ مَا أَمَرَنَا بِهِ الْقُرْآنُ وَأَرْشَدَنَا إِلَى النَّظَرِ فِيهِ فَالِاشْتِغَالُ بِهِ اشْتِغَالٌ بِالْقُرْآنِ، فَإِذَا قَالَ:(يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) فَذَلِكَ تَنْبِيهٌ وَإِرْشَادٌ إِلَى الِاعْتِبَارِ بِمَا فِي خَلْقِنَا مِنَ الْحِكَمِ وَالْأَسْرَارِ، وَيَنْبَغِي لَنَا الْبَحْثُ عَنْهَا كَمَا قَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى:
(وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ) (51: 20،
21)
وَإِلَى الِاعْتِبَارِ بِتَارِيخِ مَنْ قَبْلَنَا، كَمَا قَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى:(قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ)(30: 42) وَأَمْثَالُ ذَلِكَ كَثِيرٌ.
لَا يَتَّعِظُ الْإِنْسَانُ بِالْقُرْآنِ فَتَطْمَئِنَّ نَفْسُهُ بِوَعْدِهِ، وَتَخْشَعَ لِوَعِيدِهِ، إِلَّا إِذَا عَرَفَ مَعَانِيَهُ، وَذَاقَ حَلَاوَةَ أَسَالِيبِهِ، وَلَا يَأْتِي هَذَا إِلَّا بِمُزَاوَلَةِ الْكَلَامِ الْعَرَبِيِّ الْبَلِيغِ مَعَ النَّظَرِ فِي بَعْضِ النَّحْوِ، كَنَحْوِ ابْنِ هِشَامٍ وَبَعْضِ فُنُونِ الْبَلَاغَةِ كَبَلَاغَةِ عَبْدِ الْقَاهِرِ، وَبَعْدَ ذَلِكَ يَكُونُ لَهُ ذَوْقٌ
فِي فَهْمِ اللُّغَةِ يُؤَهِّلُهُ لِفَهْمِ الْقُرْآنِ. قَالَ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيُّ: مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ يُمْكِنُهُ أَنْ يَفْهَمَ شَيْئًا مِنْ بَلَاغَةِ الْقُرْآنِ بِدُونِ أَنْ يُمَارِسَ الْبَلَاغَةَ بِنَفْسِهِ فَهُوَ كَاذِبٌ مُبْطِلٌ.
فَهَلْ يَصْلُحُ لِمُسْلِمٍ بَلَغَ وَرَشَدَ وَطَلَبَ الْعِلْمَ أَلَّا يَجْعَلَ الْقُرْآنَ إِمَامَهُ وَيَتَّخِذَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ، وَيَهْتَدِي بِهِ فِي ظُلُمَاتِ الْبِدَعِ؟ .
أَمَامَنَا عَقَبَتَانِ كَئُودَانِ لَا نَرْتَقِي عَمَّا نَحْنُ فِيهِ إِلَّا بِاقْتِحَامِهِمَا، وَهُمَا الْكَسَلُ وَتَسْجِيلُ الْقُصُورِ عَلَى أَنْفُسِنَا بِجَهْلِ قِيمَةِ نِعَمِ اللهِ تَعَالَى عَلَيْنَا. وَصَاحِبُ هَاتَيْنِ الْخُلَّتَيْنِ يَمْقُتُ كُلَّ مَنْ يُرْشِدُهُ إِلَى الْخَيْرِ وَيَهْدِيهِ لِلْحَقِّ؛ لِأَنَّهُ يُكَلِّفُهُ ضِدَّ طَبْعِهِ، فَلَا يَرَى مَهْرَبًا مِنَ الِاعْتِرَافِ بِضَلَالِهِ وَغَيِّهِ، إِلَّا بِالْقَدْحِ فِي مُرْشِدِهِ وَنَاصِحِهِ.
عَلَى كُلٍّ مِنَّا أَنْ يَنْظُرَ فِي نَفْسِهِ وَيَنْظُرَ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَيَزِنَ بِهِ مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنَ الْعَقَائِدِ وَالْأَخْلَاقِ وَالْأَعْمَالِ. فَإِنْ رَجَحَ بِهِ مِيزَانُهُ فَهُوَ مُسْلِمٌ حَقِيقِيٌّ فَلْيَحْمَدِ اللهَ تَعَالَى. وَإِلَّا فَلْيَسْعَ فِيمَا يَكُونُ بِهِ الرُّجْحَانُ.
لَا بُدَّ لَنَا مِنَ النَّظَرِ الطَّوِيلِ وَالْفِكْرِ الْقَوِيمِ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ، فَمَنْ لَمْ يَتَفَكَّرْ لَمْ يَهْتَدِ إِلَى الْحَقِّ.
وَمَنْ لَمْ يَهْتَدِ إِلَيْهِ فَهُوَ ضَالٌّ. فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ!
هَذَا مَا تَذَكَّرْنَاهُ مِنَ التَّنْبِيهِ الَّذِي قُلْنَا إِنَّ الْأُسْتَاذَ قَفَّى بِهِ عَلَى تَفْسِيرِ الْآيَاتِ الَّتِي وَرَدَتْ فِي صِنْفَيِ الْمُنَافِقِينَ وَمَرْضَى الْقُلُوبِ بِإِزَاءِ الْقُرْآنِ، وَوَصَلَ بِهِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ قَوْلِهِ تَعَالَى:(يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ) الْآيَاتِ. وَهَاكَ تَفْسِيرَهَا بِالتَّفْصِيلِ.
(يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ) أَقُولُ: إِنَّ اللهَ تَعَالَى قَدِ افْتَتَحَ هَذِهِ السُّورَةَ بِذِكْرِ كِتَابِهِ الْقُرْآنِ وَكَوْنِهِ حَقًّا لَا رَيْبَ فِيهِ. وَذَكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ أَصْنَافَ الْبَشَرِ تُجَاهَهُ مِنَ الْمُهْتَدِينَ بِهِ بِالْقُوَّةِ وَبِالْفِعْلِ، وَمِنَ الْكَافِرِينَ الَّذِينَ فَقَدُوا الِاسْتِعْدَادَ لِلْهُدَى، وَمِنَ الْمُنَافِقِينَ الْمُذَبْذَبِينَ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ، وَفِيهِ مَا يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ مُتَفَاوِتُونَ، مِنْهُمُ الْمُسْتَعِدُّ لِلْإِخْلَاصِ فِي الْإِيمَانِ وَمَنْ فَقَدَ الِاسْتِعْدَادَ لَهُ، وَحِكْمَةُ بَيَانِ حَالِ الْمَيْئُوسِ مِنْ إِيمَانِهِمْ أَنَّهُمْ لَيْسُوا حُجَّةً عَلَى هِدَايَةِ الْقُرْآنِ بَلْ هُوَ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ.
بَعْدَ هَذَا التَّمْهِيدِ جَاءَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَالْآيَاتُ الْأَرْبَعُ بَعْدَهَا مُصَرِّحَاتٍ بِدَعْوَةِ جَمِيعِ النَّاسِ إِلَى دِينِ اللهِ تَعَالَى الْحَقِّ بِبَيَانِ أُصُولِهِ وَأُسُسِهِ وَهِيَ:
(1)
تَوْحِيدُ الْأُلُوهِيَّةِ بِعِبَادَةِ اللهِ تَعَالَى وَحْدَهُ. مَعَ مُلَاحَظَةِ تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ.
(2)
الْقُرْآنُ آيَتُهُ الْكُبْرَى وَدِينُهُ التَّفْصِيلِيُّ.
(3)
نُبُوَّةُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم الْمُرْسَلِ بِهَذَا الْقُرْآنِ.
(4)
الْجَزَاءُ فِي الْآخِرَةِ عَلَى الْكُفْرِ وَأَعْمَالِهِ بِالنَّارِ. وَعَلَى الْإِيمَانِ وَأَعْمَالِهِ بِالْجَنَّةِ.
تَقَدَّمَ تَحْقِيقُ مَعْنَى الْعِبَادَةِ وَمَعْنَى الرَّبِّ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْفَاتِحَةِ. وَبَدْءُ الدَّعْوَةِ بِالْأَمْرِ بِعِبَادَةِ اللهِ تَعَالَى وَحْدَهُ هُوَ سُنَّةُ جَمِيعِ الْمُرْسَلِينَ قَالَ تَعَالَى: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ)(16: 36) فَكَانَ كُلُّ رَسُولٍ يَبْدَأُ دَعْوَتَهُ بِقَوْلِهِ: (يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ) وَذَلِكَ أَنَّ جَمِيعَ تِلْكَ الْأُمَمِ كَانَتْ تُؤْمِنُ بِأَنَّ اللهَ خَالِقَ الْخَلْقِ، هُوَ رَبُّهُمْ وَمُدَبِّرُ أُمُورِهِمْ، وَإِنَّمَا كَانَ كُفْرُهُمُ الْأَعْظَمُ بِعِبَادَةِ غَيْرِ اللهِ تَعَالَى بِالدُّعَاءِ الَّذِي هُوَ رُكْنُ الْعِبَادَةِ الْأَعْظَمِ فِي وِجْدَانِ جَمِيعِ الْبَشَرِ، وَبِغَيْرِ الدُّعَاءِ وَالِاسْتِغَاثَةِ مِنَ الْعِبَادَاتِ الْعُرْفِيَّةِ، كَالتَّقَرُّبِ إِلَى الْمَعْبُودِ بِالنُّذُورِ وَذَبْحِ الْقَرَابِينَ أَوِ الطَّوَافِ وَالتَّمَسُّحِ بِهِ إِنْ كَانَ جِسْمًا أَوْ تِمْثَالًا لِمَلِكٍ أَوْ بَشَرٍ أَوْ حَيَوَانٍ أَوْ قَبْرًا لِإِنْسَانٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ يُنْكِرُ الْبَعْثَ أَيْضًا، وَلَمَّا كَانَ الْمُخَاطَبُونَ بِالدَّعْوَةِ هُنَا أَوَّلًا وَبِالذَّاتِ فِي ضِمْنِ الدَّعْوَةِ الْعَامَّةِ، وَهُمُ الْيَهُودُ وَالْعَرَبُ فِي الْمَدِينَةِ وَمَا حَوْلَهَا يُؤْمِنُونَ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ وَوَحْدَانِيَّتِهِ وَيَعْبُدُونَ غَيْرَهُ إِمَّا بِدُعَائِهِ مَعَ اللهِ أَوْ مِنْ دُونِ اللهِ، وَإِمَّا بِجَعْلِهِ شَارِعًا يَتْبَعُونَهُ فِيمَا يُصْدِرُهُ مِنْ أَحْكَامِ التَّعَبُّدِ أَوِ الْحَرَامِ وَالْحَلَالِ - لَمَّا كَانُوا كَذَلِكَ، احْتَجَّ عَلَى دَعْوَتِهِمْ إِلَى تَوْحِيدِ اللهِ تَعَالَى بِالتَّعْبِيرِ بِلَفْظِ " رَبٍّ " مُضَافًا إِلَيْهِمْ فَقَالَ:(اعْبُدُوا رَبَّكُمُ) وَوَصَفَهُ بِمَا يَدُلُّ عَلَى انْفِرَادِهِ بِالرُّبُوبِيَّةِ مِنَ الصِّفَاتِ الْمُسَلَّمَةِ عِنْدَهُمْ وَهِيَ الْخَلْقُ وَالتَّكْوِينُ وَالرِّزْقُ فَقَالَ: (الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) إِلَى آخَرِ الْآيَةِ التَّالِيَةِ - أَيْ إِذَا كَانَ رَبُّكُمْ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَخَلَقَ مَنْ قَبْلَكُمْ، وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ لِرِزْقِكُمْ وَمَنَافِعِكُمْ، فَيَجِبُ أَنْ تَعْبُدُوهُ وَحْدَهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِعِبَادَتِهِ أَحَدًا مِنْ خَلْقِهِ فَتَجْعَلُونَهُ مُسَاوِيًا لَهُ، وَتُفَضِّلُونَهُ عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَفْضِيلًا مَنْ نَوْعِ تَفْضِيلِ الْخَالِقِ عَلَى الْمَخْلُوقِ وَالرَّبِّ عَلَى الْمَرْبُوبِ. وَهَاكَ تَفْصِيلَ ذَلِكَ بِمَا كَتَبْتُهُ مِنْ سِيَاقِ دَرْسِ شَيْخِنَا مُفَصِّلًا لَهُ تَفْصِيلًا:
يَقُولُ تَعَالَى: (يَاأَيُّهَا النَّاسُ) الَّذِينَ يَدَّعُونَ الْإِيمَانَ بِاللهِ قَوْلًا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ يَمَسَّ الْإِيمَانُ الْحَقُّ سَوَادَ قُلُوبِهِمْ، وَلَا كَانَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى أَرْوَاحِهِمْ، وَيَدَّعُونَ الْإِيمَانَ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَمْ يَسْتَعِدُّوا لَهُ بِتَهْذِيبِ أَنْفُسِهِمْ وَإِصْلَاحِ أَعْمَالِهِمْ، وَإِنَّمَا يَأْتُونَ بِبَعْضِ صُوَرِ الْعِبَادَاتِ بِحُكْمِ الْعَادَاتِ الْمَوْرُوثَةِ. وَقُلُوبُهُمْ مَشْغُولَةٌ عَنِ اللهِ الَّذِي لَا تُفِيدُ الْعِبَادَةُ عِنْدَهُ إِلَّا بِالتَّوَجُّهِ إِلَيْهِ وَابْتِغَاءِ مَرْضَاتِهِ، وَالشُّعُورِ بِعَظَمَتِهِ وَجَلَالِهِ، فَهُمْ يُخَادِعُونَ اللهَ بِهَذِهِ الظَّوَاهِرِ الَّتِي لَا مَعْنَى لَهَا، وَالصُّوَرِ الَّتِي لَا رُوحَ فِيهَا، وَإِنَّمَا يَخْدَعُونَ فِي
الْحَقِيقَةِ أَنْفُسَهُمْ؛ لِأَنَّ أَعْمَالَهُمْ هَذِهِ لَا تُفِيدُهُمْ فِي الدُّنْيَا عَزَّةٌ وَسَعَادَةٌ وَلَا تُنْجِيهِمْ فِي الْآخِرَةِ.
وَيَا أَيُّهَا النَّاسُ الَّذِينَ لَمْ يُرْزَءُوا بِهَذَا الْخِذْلَانِ، وَلَمْ يُبْتَلَوْا بِهَذَا الِافْتِتَانِ، سَوَاءٌ كَانُوا مِنْ أَهْلِ الْكُفْرِ أَوْ مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ، (اعْبُدُوا رَبَّكُمُ) جَمِيعًا عِبَادَةَ خُشُوعٍ وَإِخْلَاصٍ وَأَدَبٍ وَحُضُورٍ، كَأَنَّكُمْ تَنْظُرُونَ إِلَيْهِ وَتَرَوْنَهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا تَرَوْنَهُ فَإِنَّهُ يَرَاكُمْ، وَيَنْظُرُ دَائِمًا إِلَى مَحَلِّ الْإِخْلَاصِ مِنْكُمْ وَهُوَ قُلُوبُكُمْ، وَاسْتَعِينُوا عَلَى إِشْعَارِ نُفُوسِكُمْ هَذَا الْخُشُوعَ وَالْحُضُورَ
وَالْإِخْلَاصَ فِي الْعِبَادَةِ بِاسْتِحْضَارِ مَعْنَى الرُّبُوبِيَّةِ، فَإِنَّهُ هُوَ رَبُّكُمُ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ فِيمَا لَا تَعْلَمُونَ (وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (16: 78) وَغَذَّاكُمْ بِنِعَمِهِ، وَنَمَّاكُمْ بِكَرَمِهِ، كَمَا فَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ بِسَلَفِكُمُ الصَّالِحِ فَشَكَرُوهُ وَعَبَدُوهُ وَحْدَهُ مُقِرِّينَ بِهَذِهِ التَّرْبِيَةِ، وَمُعَظِّمِينَ لِهَذِهِ الْمِنَّةِ، فَلْيَدَعْ ذَلِكَ الصِّنْفُ احْتِقَارَ النِّعَمِ الَّتِي هُوَ فِيهَا وَالِاقْتِصَارُ عَلَى تَعْظِيمِ نِعْمَةِ اللهِ عَلَى السَّلَفِ فَقَطْ. فَإِنَّ هَذَا الرَّبَّ الْعَظِيمَ (الَّذِي خَلَقَكُمْ) وَ (خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) قَدْ رَبَّاكُمْ كَمَا رَبَّى سَلَفَكُمْ، وَوَهَبَكُمْ مِنَ الْهِدَايَاتِ مِثْلَمَا وَهَبَهُمْ، فَمَنْ شَكَرَ مِنْهُمْ وَمِنْكُمْ زَادَهُ نِعَمًا، وَمَنْ كَفَرَ بِهَذِهِ النِّعَمِ جَعَلَهَا عَلَيْهِ نِقَمًا، لِيَكُونَ عِبْرَةً وَمَثَلًا لِلْآخَرِينَ، وَذَلِكَ مِنْ رَحْمَتِهِ بِالْعَالَمِينَ، وَقَدْ أَقْسَمَ تَعَالَى عَلَى ذَلِكَ فِي كِتَابِهِ الْمَجِيدِ فَقَالَ:(لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ)(14: 7) وَفِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ، وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ أَنَابَ.
هَكَذَا أَمَرَ اللهُ تَعَالَى عِبَادَهُ أَجْمَعِينَ بِأَنْ يَعْبُدُوهُ وَحْدَهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ، وَأَرْشَدَهُمْ بِإِعْلَامِهِ إِيَّاهُمْ أَنَّهُ سَاوَى بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَنْ قَبْلَهُمْ فِي الْمَوَاهِبِ الْخَلْقِيَّةِ إِلَى الِاسْتِقْلَالِ بِالْعَمَلِ وَقَدَرَ نِعْمَتَهُ عَلَيْهِمْ قَدْرَهَا، لِيَعْلَمُوا أَنَّ كُلَّ النِّعَمِ الَّتِي تُكْتَسَبُ بِالشُّكْرِ - وَهِيَ مَا عَدَا النُّبُوَّةَ - مَقْدُورَةٌ لَهُمْ، كَمَا كَانَتْ مَقْدُورَةً لِمَنْ قَبْلَهُمْ، وَأَنَّهُمْ إِذَا زَادُوا عَلَى سَلَفِهِمْ شُكْرًا يُزَادُونَ نِعَمًا، وَمَا الشُّكْرُ إِلَّا اسْتِعْمَالُ الْمَوَاهِبِ وَالنِّعَمِ فِيمَا وُهِبَتْ لِأَجْلِهِ، فَالَّذِينَ يَقُولُونَ: إِنَّنَا لَا نَقْدِرُ عَلَى فَهْمِ الدِّينِ بِأَنْفُسِنَا مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ لِأَنَّ عُقُولَنَا وَأَفْهَامَنَا ضَعِيفَةٌ، وَإِنَّمَا عَلَيْنَا أَنْ نَأْخُذَ بِقَوْلِ مَنْ قَبْلَنَا مِنْ آبَائِنَا؛ لِأَنَّ عُقُولَهُمْ كَانَتْ أَقْوَى، وَكَانُوا عَلَى فَهْمِ الدِّينِ أَقْدَرَ، بَلْ لَا يُمْكِنُ
أَنْ يَفْهَمُهُ غَيْرُهُمْ، أُولَئِكَ كَافِرُونَ بِنِعْمَةِ الْعَقْلِ، وَغَيْرُ مُهْتَدِينَ بِهَذِهِ الْآيَةِ النَّاطِقَةِ بِالْمُسَاوَاةِ فِي الْمَوَاهِبِ وَسِعَةِ الرَّحْمَةِ وَالْفَضْلِ، وَكَذَلِكَ الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ وُسَطَاءَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ اللهِ تَعَالَى لِأَجْلِ التَّقْرِيبِ إِلَيْهِ زُلْفَى بِغَيْرِ مَا شَرَعَهُ لَهُمْ مِنَ الدِّينِ، وَمَا جَاءَ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ - عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، وَهُمُ الْوَسَائِلُ فِي الْهِدَايَةِ وَالْإِرْشَادِ، أَوْ لِأَجْلِ الشَّفَاعَةِ لَهُمْ عِنْدَهُ لِيَنَالُوا جَزَاءَ مَا شَرَعَهُ مِنَ الدِّينِ، مِنْ غَيْرِ طَرِيقِ الْعَمَلِ بِهِ وَاتِّبَاعِ الْمُرْسَلِينَ - قَدِ احْتَقَرُوا نِعَمَ اللهِ تَعَالَى وَلَمْ يَهْتَدُوا بِهَذِهِ الْآيَةِ، لِأَنَّهُمْ قَدْ جَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا يَبْغُونَ أَنْ يَنَالُوا بِأَشْخَاصِهِمْ مَا حَكَمَ اللهُ بِأَنْ يَطْلُبَهُ النَّاسُ بِإِيمَانِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ، فَجَعَلُوا هَؤُلَاءِ الْأَنْدَادَ شُرَكَاءَ لِلَّهِ يُغْنُونَهُمْ عَنْ شَرِيعَتِهِ، شَعَرُوا بِذَلِكَ أَمْ لَمْ يَشْعُرُوا.
يَقُولُ تَعَالَى لِجَمِيعِ عِبَادِهِ مَا مَعْنَاهُ: اعْبُدُونِي مُلَاحِظِينَ مَعْنَى الرُّبُوبِيَّةِ وَالْمُسَاوَاةِ فِي الْمَوَاهِبِ الْخَلْقِيَّةِ الَّتِي تُؤَهِّلُكُمْ لِلسَّعَادَةِ الْحَقِيقِيَّةِ (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) فَإِنَّ الْعِبَادَةَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ هِيَ الَّتِي تُعِدُّكُمْ لِلتَّقْوَى، وَيُرْجَى بِهَا بُلُوغُ الْكَمَالِ الْقُصْوَى.
قَالَ الْأُسْتَاذُ: الشَّائِعُ أَنَّ " لَعَلَّ " لِلتَّرَجِّي فِي ذَاتِهَا، وَإِذَا وَقَعَتْ فِي كَلَامِ اللهِ تَعَالَى يَكُونُ مَعْنَاهَا التَّحْقِيقُ، وَغَرَضُ الْقَائِلِينَ بِهَذَا تَنْزِيهُ اللهِ سُبْحَانَهُ عَنِ التَّرَجِّي بِمَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ
الْآتِي، وَلَكِنَّهُ رَمْيٌ لِلْكَلَامِ بِدُونِ بَيَانٍ، وَحَقِيقَتُهُ أَنَّ " لَعَلَّ " لِلتَّرَجِّي وَلَكِنَّهَا تُسْتَعْمَلُ لِلْإِعْدَادِ وَالتَّهْيِئَةِ لِلشَّيْءِ وَفِي هَذَا مَعْنَى التَّرَجِّي، فَحَيْثُ وَقَعَتْ " لَعَلَّ " فِي الْقُرْآنِ فَالْمُرَادُ بِهَا هَذَا الْمَعْنَى الْأَخِيرُ كَمَا فَسَّرْنَاهُمَا بِهِ آنِفًا، وَهُوَ يَسْتَلْزِمُ التَّحْقِيقَ (لِأَنَّ الْإِعْدَادَ بِمَا تَأْتِي " لَعَلَّ " بَعْدَهُ أَمْرٌ مُحَقَّقٌ لَا رِيبَةَ فِيهِ) فَإِنَّ الْعِبَادَةَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي أَرْشَدَتْ إِلَيْهِ الْآيَةُ مِنْ مُلَاحَظَةِ مَعْنَى الرُّبُوبِيَّةِ إِلَخْ مَا تَقَدَّمَ شَرْحُهُ، تَطْبَعُ فِي النَّفْسِ مَلَكَةَ خَشْيَةِ اللهِ وَتَعْظِيمَهُ وَمُرَاقَبَتَهُ، وَتُعْلِي هِمَّةَ الْعَابِدِ وَتُقَوِّي عَزِيمَتَهُ وَإِرَادَتَهُ، فَتَزْكُو نَفْسُهُ وَتَنْفِرُ مِنَ الْمَعَاصِي وَالرَّذَائِلِ، وَتَأْلَفُ الطَّاعَاتِ وَالْفَضَائِلَ، وَهَذِهِ هِيَ التَّقْوَى. وَإِذَا قُلْنَا: إِنَّ الرَّجَاءَ مُتَعَلِّقٌ بِالنَّاسِ فَالْإِعْدَادُ فِيهِ ظَاهِرٌ وَمُتَحَقِّقٌ، إِذْ لَوْ لَمْ يَخْلُقْهُمْ مُسْتَعِدِّينَ لِلتَّقْوَى لَمَا اتَّقَاهُ مِنْهُمْ أَحَدٌ.
وَمَعْنَى التَّرَجِّي فِي أَصْلِ اللُّغَةِ: تَوَقُّعُ حُصُولِ الشَّيْءِ الْقَرِيبِ بِحُصُولِ سَبَبِهِ وَالِاسْتِعْدَادِ لَهُ، سَوَاءٌ كَانَ الِاسْتِعْدَادُ كَسْبِيًّا أَوْ طَبِيعِيًّا فَاسْتَعْمَلْنَا " لَعَلَّ " الْمُعَبِّرَةَ عَنِ التَّوَقُّعِ فِي سَبَبِهِ وَهُوَ الِاسْتِعْدَادُ أَوِ الْإِعْدَادُ الَّذِي هُوَ جَعْلُ الْمَرْءِ مُسْتَعِدًّا،
وَالتَّعْبِيرُ عَنِ الْمُسَبَّبِ بِلَفْظِ السَّبَبِ شَائِعٌ فِي اسْتِعْمَالِ اللُّغَةِ، وَقَدْ عَدُّوا التَّرَجِّيَ وَالتَّمَنِّيَ مِنَ الْأَخْبَارِ وَصِيَغُهُمَا صِيَغُ إِنْشَاءٍ فَقَطْ.
وَأَقُولُ: إِنَّ مَا ذَكَرَهُ مِنَ الْإِعْدَادِ صَحِيحٌ وَلَكِنَّهُ غَيْرُ مُطَّرِدٍ، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ التَّرَجِّيَ عِبَارَةٌ عَنْ كَوْنِ الشَّيْءِ مَأْمُولًا بِمَا يُذْكَرُ مِنْ سَبَبِهِ غَيْرَ مَقْطُوعٍ بِهِ لِذَاتِهِ بَلْ يَتْبَعُ قُوَّةَ أَسْبَابِهِ مَعَ انْتِفَاءِ الْمَوَانِعِ وَيَتَعَلَّقُ تَارَةً بِالْمُتَكَلِّمِ، وَتَارَةً بِالْمُخَاطَبِ، وَتَارَةً بِالْمُتَكَلَّمِ عَنْهُ، وَتَارَةً بِغَيْرِهِمَا، فَتَأَمَّلْ قَوْلَهُ تَعَالَى:(لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا)(65: 1) وَقَوْلَهُ حِكَايَةً عَنْ قَوْمِ مُوسَى: (لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ)(26: 40) وَقَوْلَهُ: (وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَاهَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ)(40: 36) إِلَخْ. وَقَوْلَهُ لِمُوسَى وَهَارُونَ: (فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى)(20: 44) وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ هَذَا مَقْطُوعٌ بِعَدَمِ وُقُوعِهِ عِنْدَ اللهِ، وَلَكِنَّ الرَّجَاءَ فِيهِ مُتَعَلِّقٌ بِمُوسَى وَهَارُونَ أَيْ (فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا) رَاجِينَ بِهِ أَنْ يَتَذَكَّرَ أَوْ يَخْشَى لَا قَوْلًا غَلِيظًا مُنَفِّرًا. وَتَأْتِي " لَعَلَّ " لِلْإِشْفَاقِ وَإِفَادَةِ التَّحْذِيرِ مِنْ أَمْرٍ وَقَعَتْ أَسْبَابُهُ فَكَانَ بِهَا مَظِنَّةُ الْوُقُوعِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى لِرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم:(فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ)(18: 6) الْآيَةَ، وَقَوْلَهُ:(فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ)(11: 12) الْآيَةَ.
لَمَّا ذَكَّرَ اللهُ عِبَادَهُ بِنِعْمَةِ الْإِيجَادِ وَنِعْمَةِ الْمُسَاوَاةِ فِي الْمَوَاهِبِ الَّتِي تَقْتَضِي التَّقْوَى وَعَدَمَ إِطْرَاءِ السَّلَفِ بِرَفْعِهِمْ إِلَى مَقَامِ الرُّبُوبِيَّةِ كَمَا وَقَعَ مِنَ الَّذِينَ (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ)(9: 31) ذَكَّرَهُمْ ثَانِيًا بِبَعْضِ خَصَائِصِ الرُّبُوبِيَّةِ الَّتِي تَقْتَضِي الِاخْتِصَاصَ بِالْعُبُودِيَّةِ، فَقَالَ:(الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا) بِمَا مَهَّدَهَا وَجَعَلَهَا صَالِحَةً لِلِافْتِرَاشِ وَالْإِقَامَةِ عَلَيْهَا وَالِارْتِفَاقِ بِهَا، أَيْ فَهُوَ الْقَادِرُ عَلَى جَلَائِلِ الْفِعَالِ، الْعَظِيمُ الَّذِي يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ وَالْإِجْلَالَ.
الْمُنْعِمُ بِجَمِيعِ النِّعَمِ، الْجَدِيرُ بِأَعْلَى مَرَاتِبِ الشُّكْرِ، جَعَلَ الْأَرْضَ بِقُدْرَتِهِ فِرَاشًا لِأَجْلِ مَنْفَعَتِكُمْ
(وَالسَّمَاءَ بِنَاءً) مُتَمَاسِكًا لِكَيْلَا تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ فَتَسْحَقَكُمْ. السَّمَاءُ: مَجْمُوعُ مَا فَوْقَنَا مِنَ الْعَالَمِ.
وَالْبِنَاءُ: وَضْعُ شَيْءٍ عَلَى شَيْءٍ بِحَيْثُ يَتَكَوَّنُ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ بِصُورَةٍ مَخْصُوصَةٍ، وَقَدْ كَوَّنَ اللهُ السَّمَاءَ بِنِظَامٍ كَنِظَامِ الْبِنَاءِ، وَسَوَّى أَجْرَامَهَا عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ الْمُشَاهَدَةِ وَأَمْسَكَهَا بِسُنَّةِ الْجَاذِبِيَّةِ فَلَا تَقَعُ عَلَى الْأَرْضِ، وَلَا يَصْطَدِمُ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ، إِلَّا إِذَا جَاءَ يَوْمُ الْوَعِيدِ
وَبَطَلَ نِظَامُ هَذَا الْعَالَمِ لِيَعُودَ فِي خَلْقٍ جَدِيدٍ، وَالْوَاجِبُ مُلَاحَظَتُهُ فِي هَذَا الْمَقَامِ، هُوَ تَصَوُّرُ قُدْرَةِ اللهِ تَعَالَى وَعَظَمَتِهِ، وَسَعَةِ فَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ.
ثُمَّ بَعْدَ أَنِ امْتَنَّ بِنِعْمَةِ الْإِيجَادِ وَنِعْمَةِ الْفِرَاشِ وَالْمِهَادِ، وَنِعْمَةِ السَّمَاءِ الَّتِي هِيَ كَالْبِنَاءِ، ذَكَرَ نِعْمَةَ الْإِمْدَادِ، الَّذِي تُحْفَظُ بِهِ هَذِهِ الْأَجْسَادُ، وَهِيَ مَادَّةُ الْغِذَاءِ، الَّتِي بِهَا النُّمُوُّ وَالْبَقَاءُ، فَقَالَ:(وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ) الثَّمَرَاتُ: مَا يَحْصُلُ مِنَ النَّبَاتِ نَجْمًا كَانَ أَوْ شَجَرًا، يُصْلِحُ الزَّارِعُ وَالْغَارِسُ الْأَرْضَ، وَيَبْذُرُ الْبَذْرَ، وَيَغْرِسُ الْفَسِيلَ، وَيَتَعَاهَدُ ذَلِكَ بِالسَّقْيِ وَالْعَزْقِ، فَيَكُونُ لَهُ كَسْبٌ فِي رِزْقِهِ، وَلَكِنَّهُ لَيْسَ لَهُ كَسْبٌ فِي إِنْزَالِ الْمَطَرِ الَّذِي يُسْقَى بِهِ، وَلَا فِي تَغْذِيَةِ النَّبَاتِ بِمَاءِ الْمَطَرِ أَوِ النَّهْرِ الْمُجْتَمِعِ مِنَ الْمَطَرِ، وَبِأَجْزَاءِ الْأَرْضِ وَعَنَاصِرِهَا الْأُخَرِ، وَلَا فِي تَوَلُّدِ خَلَايَاهُ الَّتِي بِهَا نُمُوُّهُ وَلَا فِي إِثْمَارِهِ إِذَا أَثْمَرَ، إِنَّمَا كُلُّ ذَلِكَ بِيَدِ اللهِ الْقَدِيرِ. فَعَلَيْنَا أَنْ نَتَفَكَّرَ فِي ذَلِكَ لِنَزْدَادَ تَعْظِيمًا لَهُ وَإِجْلَالًا فَلَا نَعْبُدَ مَعَهُ أَحَدًا.
وَبَعْدَ أَنْ عَرَّفْنَا اللهَ تَعَالَى بِأَنْفُسِنَا، وَبِنِعْمَتِهِ عَلَيْنَا وَعَلَى سَلَفِنَا. وَبَعْدَ أَنْ عَرَفْنَا ذَاتَهُ الْكَرِيمَةَ بِآثَارِ رَحِمْتِهِ وَمِنَنِهِ الْعَظِيمَةِ، وَصِرْنَا جَدِيرِينَ بِأَنْ نَعْرِفَ أَنَّ الْعَبْدَ عَبْدٌ فَلَا يُعْبَدُ وَأَنَّ الرَّبَّ رَبٌّ فَلَا يُشْرَكُ بِهِ وَلَا يُجْحَدُ، قَالَ تَفْرِيعًا وَتَرْتِيبًا عَلَى مَا سَبَقَ:(فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا) مِنْ سَلَفِكُمُ الْمَخْلُوقِينَ مِثْلَكُمْ تَطْلُبُونَ مِنْهُمْ مَا لَا يُطْلَبُ إِلَّا مِنْهُ وَهُوَ كُلُّ مَا تَعْجِزُونَ عَنْهُ وَلَا يَصِلُ كَسْبُكُمْ إِلَيْهِ، لَا تَفْعَلُوا ذَلِكَ فَإِنَّهُمْ فِي الْخَلْقِ وَالْعُبُودِيَّةِ مِثْلُكُمْ.
الْأَنْدَادُ: جَمْعُ نِدٍّ بِكَسْرِ النُّونِ، وَفُسِّرَ بِالشَّرِيكِ، وَهُوَ فِي اللُّغَةِ: الْمُضَارِعُ وَالْكُفْءُ يُقَالُ: فُلَانٌ نِدُّ فُلَانٍ وَمِنْ أَنْدَادِ فُلَانٍ، أَيْ يُضَارِعُهُ وَيُمَاثِلُهُ وَلَوْ فِي بَعْضِ الشُّئُونِ. وَالْأَنْدَادُ الَّذِينَ اتُّخِذُوا فِي جَانِبِ اللهِ هُمُ الَّذِينَ خَضَعَ النَّاسُ لَهُمْ وَصَمَدُوا إِلَيْهِمْ فِي بَعْضِ الْحَاجَاتِ، لِمَعْنًى يَعْتَقِدُهُ فِيهِمُ الْخَاضِعُونَ الْمُخَاطَبُونَ بِتَرْكِ الْأَنْدَادِ أَوَّلًا وَبِالذَّاتِ، وَهُمْ مُشْرِكُو الْعَرَبِ وَأَهْلُ الْكِتَابِ، فَالْعَرَبُ كَانَتْ تُسَمِّي ذَلِكَ الْخُضُوعَ وَالصُّمُودَ عِبَادَةً، إِذْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ وَحْيٌ يَنْهَاهُمْ عَنْ عِبَادَةِ غَيْرِ اللهِ فَيَتَحَامَوْا هَذَا اللَّفْظَ " الْعِبَادَةَ " وَيَسْتَبْدِلُوا بِهِ لَفْظَ التَّعْظِيمِ أَوِ التَّوَسُّلِ مَثَلًا تَأْوِيلًا لِظَاهِرِ نَصِّ التَّنْزِيلِ. وَأَمَّا أَهْلُ الْكِتَابِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَنْدَادًا وَأَرْبَابًا فَكَانُوا يُؤَوِّلُونَ فَلَا يُسَمُّونَ
هَذَا الِاتِّخَاذَ عِبَادَةً وَلَا أُولَئِكَ الْمُعَظَّمِينَ آلِهَةً أَوْ أَنْدَادًا أَوْ أَرْبَابًا.
وَفَرْقٌ بَيْنَ الِاتِّخَاذِ بِالْفِعْلِ وَالتَّسْمِيَةِ بِالْقَوْلِ. وَالْجَمِيعُ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ لَا خَالِقَ إِلَّا اللهُ، وَلَا رَازِقَ إِلَّا اللهُ، وَإِنَّمَا كَانُوا يُسَمُّونَ دُعَاءَهُمْ غَيْرَ اللهِ وَالتَّقَرُّبَ إِلَيْهِ تَوَسُّلًا وَاسْتِشْفَاعًا، وَيُسَمُّونَ تَشْرِيعَهُمْ
لَهُمُ الْعِبَادَاتِ وَتَحْلِيلَهُمْ لَهُمُ الْمُنْكَرَاتِ، وَتَحْرِيمَهُمْ عَلَيْهِمْ بَعْضَ الطَّيِّبَاتِ، فِقْهًا وَاسْتِنْبَاطًا مِنَ التَّوْرَاةِ، إِلَّا أَنَّ مِنَ النَّصَارَى مَنْ لَا يَتَحَامَوْنَ التَّصْرِيحَ بِعِبَادَةِ السَّيِّدَةِ مَرْيَمَ وَبَعْضِ الْقِدِّيسِينَ اسْتِعْمَالًا لِلَّفْظِ فِي مَدْلُولِهِ اللُّغَوِيِّ.
وَصُوَرُ الْعِبَادَةِ تَخْتَلِفُ عِنْدَ الْأُمَمِ اخْتِلَافًا عَظِيمًا، وَأَعْلَاهَا عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ الْأَرْكَانُ الْخَمْسَةُ وَالدُّعَاءُ. وَقَالُوا: كُلُّ عَمَلٍ مَحْظُورٍ تَحْسُنُ فِيهِ النِّيَّةُ لِلَّهِ تَعَالَى فَهُوَ عِبَادَةٌ، كَأَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي يَجْعَلُ جَمِيعَ الْأَعْمَالِ عِبَادَةً هُوَ التَّوَجُّهُ إِلَى اللهِ تَعَالَى وَحْدَهُ وَابْتِغَاءُ مَرْضَاتِهِ، وَلَهَا عِنْدُ أَهْلِ الْكِتَابِ صُوَرٌ أُخْرَى، وَالْمُؤَوِّلُونَ يَخُصُّونَ هَذِهِ الصُّوَرَ بِاللهِ تَعَالَى، وَإِذَا ابْتَدَعُوا صُورَةً فِيهَا مَعْنَى الْعِبَادَةِ يُسَمُّونَهَا بَاسِمٍ آخَرَ يَسْتَحِلُّونَهَا بَلْ يَسْتَحِبُّونَهَا بِهِ، وَلَكِنَّهُمْ لَا يَخْرُجُونَ بِالتَّسْمِيَةِ أَوِ التَّأْوِيلِ عَنْ حَيِّزِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْدَادًا كَمَا ذَكَرَ اللهُ عَنْهُمْ فِي قَوْلِهِ:(اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ)(9: 31) وَلَمْ يَكُنْ مِنْهُمْ سِوَى التَّوَسُّلِ بِهِمْ وَالْأَخْذِ فِي الدِّينِ بِقَوْلِهِمْ تَقْلِيدًا لَهُمْ بِدُونِ فَهْمٍ لِمَا جَاءَ عَلَى لِسَانِ الْوَحْيِ، كَمَا صَحَّ ذَلِكَ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم.
وَقُدَمَاءُ الْفُرْسِ جَعَلُوا لِلَّهِ نِدًّا فِي الْخَلْقِ وَالْإِيجَادِ، فَقَالُوا: إِنَّ لِلْخَيْرِ إِلَهًا هُوَ الْإِلَهُ الْأَوَّلُ. وَإِنَّ لِلشَّرِّ إِلَهًا يُضَادُّهُ، وَلَيْسَ النَّهْيُ فِي الْآيَةِ عَنْ هَذَا النِّدِّ الشَّرِيكِ؛ لِأَنَّ الْمُخَاطَبِينَ لَا يَدِينُونَ بِهِ كَمَا قُلْنَا وَتَدُلُّ عَلَيْهِ الْآيَاتُ الْكَثِيرَةُ.
لِذَلِكَ وَصَلَ النَّهْيُ بِقَوْلِهِ عز وجل: (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أَيْ وَالْحَالُ أَنَّكُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّهُ لَا نِدَّ لَهُ لِأَنَّكُمْ إِذَا سُئِلْتُمْ: مَنْ خَلَقَكُمْ وَخَلَقَ مَنْ قَبْلَكُمْ؟ تَقُولُونَ اللهُ، وَإِذَا سُئِلْتُمْ: مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ؟ تَقُولُونَ: اللهُ. فَلِمَاذَا تَسْتَغِيثُونَ إِذَنْ بِغَيْرِ اللهِ وَتَدْعُونَ غَيْرَ اللهِ؟ وَمِنْ أَيْنَ أَتَيْتُمْ بِهَذِهِ الْوَسَائِطِ الَّتِي لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ وَادَّعَيْتُمْ أَنَّهُمْ شُفَعَاؤُكُمْ عِنْدَ اللهِ؟ وَمِنْ أَيْنَ جَاءَكُمْ أَنَّ التَّقَرُّبَ وَالتَّوَسُّلَ إِلَى اللهِ يَكُونُ بِغَيْرِ مَا شَرَعَهُ مِنَ الدِّينِ حَتَّى قُلْتُمْ: (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ)(39: 3) .
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَخَلَقَ وَسَائِطَكُمْ وَشُفَعَاءَكُمْ،
وَأَعَدَّكُمْ جَمِيعًا لِلتَّقْوَى الَّتِي تُقَرِّبُكُمْ إِلَيْهِ زُلْفَى، وَسَاوَى بَيْنَكُمْ فِي أَنْوَاعِ الْمَوَاهِبِ إِلَّا أَنَّهُ خَصَّ الْأَنْبِيَاءَ عليهم السلام بِالْوَحْيِ لِيُعَلِّمُوكُمْ مَا أَخْطَأَ نَظَرُكُمْ وَرَأْيُكُمْ فِيهِ، فَعَلَيْكُمْ أَنْ تَهْتَدُوا بِمَا جَاءُوا بِهِ، فَإِنَّ صَدَّ الْمَرْءُوسِينَ عَنْ تَرْكِ تَقَالِيدِهِمْ وَاتِّبَاعِ الْوَحْيِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ فِيهِ وَلَا نُقْصَانٍ مِنْهُ خَوَّفَهُمُ الرُّؤَسَاءَ.
فَقَدْ آثَرُوا رُؤَسَاءَهُمْ عَلَى اللهِ وَجَعَلُوهُمْ لَهُ أَنْدَادًا، وَإِنَّ صَدَّ الرُّؤَسَاءِ عَنْ هَذَا الِاتِّبَاعِ تَوَقُّعُ زَوَالِ الْمَنْفَعَةِ وَالْجَاهِ لَدَى الْمَرْءُوسِينَ فَقَدِ اتَّخَذُوهُمْ أَنْدَادًا، فَالنِّدُّ: هُوَ الْمُكَافِئُ وَالْمِثْلُ، وَأَنْتُمْ بِتَرْكِكُمُ الْحَقَّ لِخَوْفِهِمْ وَرَجَائِهِمْ تُفَضِّلُونَهُمْ عَلَى اللهِ تَعَالَى وَتَجْعَلُونَهُ أَقَلَّ الْأَنْدَادِ تَعْظِيمًا، فَفِرُّوا - رَحِمَكُمُ اللهُ - إِلَى اللهِ، وَلَا تَخَافُوا غَيْرَهُ وَلَا تَرْجُوا سِوَاهُ، فَعَارٌ عَلَى مَنْ يَعْرِفُ اللهَ أَنْ يُؤْثِرَ رِضَاءَ أَحَدٍ عَلَى رِضَاهُ، لَا فَرْقَ بَيْنَ رَئِيسٍ وَمَرْءُوسٍ، وَتَابِعٍ وَمَتْبُوعٍ، بَلْ هَذَا لَا يَقَعُ مِنْ مُؤْمِنٍ حَقِيقِيٍّ؛ لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى يَقُولُ:(فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)(3: 175) .
(وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ)
قُلْنَا:إِنَّ الْكَلَامَ مِنْ أَوَّلِ سُورَةٍ فِي الْقُرْآنِ وَتَفْصِيلِ أَحْوَالِ النَّاسِ فِي الْإِيمَانِ بِهِ، وَعَدَمِهِ، وَهَذِهِ الْآيَةُ دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ الْخُرُوجِ عَنْ هَذَا الْمَوْضُوعِ فِي كُلِّ مَا تَقَدَّمَ، فَالْآيَاتُ مُتَّصِلٌ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ كَحَبَّاتٍ مِنَ الْجَوْهَرِ نُظِمَتْ فِي سِلْكٍ وَاحِدٍ، فَإِنَّهُ بَعْدَ مَا ذَكَرَ الْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يَهْتَدُونَ بِالْقُرْآنِ وَعَلَامَاتِهِمْ، وَبَيْنَ خَصَائِصِهِمْ وَصِفَاتِهِمْ، وَذَكَرَ الْجَاحِدِينَ الْمُعَانِدِينَ، وَمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْعَمَى عَنْ جَلِيَّةِ الْحَقِّ الْمُبِينِ وَمَا رُزِئُوا بِهِ مِنَ الصَّمَمِ الْمَعْنَوِيِّ حَتَّى لَا يَسْمَعُوا الْحُجَجَ وَالْبَرَاهِينَ، وَمَا أُصِيبُوا بِهِ مِنَ الْبُكْمِ بِالنِّسْبَةِ لِقَوْلِ الْحَقِّ أَوْ سُؤَالِ الْمُرْشِدِينَ، ثُمَّ ذَكَرَ الْمُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ فَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ، وَذَكَرَ فِرَقَهُمْ وَأَصْنَافَهُمْ، وَبَيَّنَ خَلَائِقَهُمْ وَأَوْصَافَهُمْ، وَضَرَبَ لَهُمُ الْأَمْثَالَ، وَنَضَلَهُمْ فِي مَيْدَانِ الْجِدَالِ بِسِهَامِ الْحُجَجِ النَّافِذَةِ وَسُيُوفِ
الْبَرَاهِينِ الْقَاطِعَةِ، بَعْدَ هَذَا كُلِّهِ تَحَدَّاهُمْ بِالْكِتَابِ الَّذِي يَدْعُو إِلَيْهِ، وَيُنَاضِلُ عَنْهُ وَيُكَافِحُ دُونَهُ (ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ) فَقَالَ:
(وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) أَيْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عَلَيْكُمْ - بَعْدَ أَنْ تَنْسَلُّوا مِنْ مَضَايِقِ الْوَسَاوِسِ، وَتَتَسَلَّلُوا مِنْ مَآزِقِ الْهَوَاجِسِ وَتَنْزِعُوا مَا طَوَّقَكُمْ بِهِ التَّقْلِيدُ مِنَ الْقَلَائِدِ، وَتَكْسِرُوا مَقَاطِرَ مَا وَرِثْتُمْ مِنَ الْعَوَائِدِ - أَنْ تُهْرَعُوا إِلَى الْحَقِّ فَتَطْلُبُوهُ بِبُرْهَانِهِ، وَأَنْ تُبَادِرُوا إِلَى مَا دُعِيتُمْ إِلَيْهِ فَتَأْخُذُوهُ بِرُبَّانِهِ، فَإِنْ خَفِيَ عَلَيْكُمُ الْحَقُّ بِذَاتِهِ، فَهَذِهِ آيَةٌ مِنْ أَظْهَرِ آيَاتِهِ، وَهِيَ عَجْزُكُمْ عَنِ الْإِتْيَانِ بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِ سُوَرِ الْقُرْآنِ مِنْ رَجُلٍ أُمِّيٍّ مِثْلِ الَّذِي جَاءَكُمْ بِهِ، وَهُوَ عَبْدُنَا وَرَسُولُنَا مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم، وَإِنْ عَجَزْتُمْ عَنِ الْإِتْيَانِ بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ تُسَاوِي سُورَةً فِي هِدَايَتِهَا، وَتُضَارِعُهَا فِي أُسْلُوبِهَا وَبَلَاغَتِهَا - وَأَنْتُمْ فُرْسَانُ الْبَلَاغَةِ، وَعَصْرُكُمْ أَرْقَى عُصُورِ الْفَصَاحَةِ، وَقَدِ اشْتُهِرَ كَثِيرُونَ مِنْكُمْ بِالسَّبْقِ فِي هَذَا الْمَيْدَانِ وَلَمْ يَكُنْ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم مِمَّنْ يُسَابِقُكُمْ مِنْ قَبْلِ هَذَا الْبُرْهَانِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُؤْتَ هَذَا الِاسْتِعْدَادَ بِنَفْسِهِ، وَلَمْ يَتَمَرَّنْ عَلَيْهِ أَوْ يَتَكَلَّفْهُ لِمُبَارَاةِ أَهْلِهِ - فَاعْلَمُوا أَنَّ مَا جَاءَ بِهِ بَعْدَ أَرْبَعِينَ سَنَةً فَأَعْجَزَكُمْ بَعْدَ سَبْقِكُمْ لَمْ يَكُنْ إِلَّا بِوَحْيٍ إِلَهِيٍّ، وَإِمْدَادٍ سَمَاوِيٍّ، لَمْ يَسْمُ عَقْلُهُ إِلَى عِلْمِهِ، وَلَا بَيَانُهُ إِلَى أُسْلُوبِهِ وَنَظْمِهِ.
وَعَبَّرَ عَنْ كَوْنِ الرَّيْبِ بِـ ((إِنَّ)) لِلْإِيذَانِ بِأَنَّ مِنْ شَأْنِ هَذَا التَّنْزِيلِ أَنْ لَا يُرْتَابَ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ فِيهِ ظَاهِرٌ بِذَاتِهِ، يَتَلَأْلَأُ نُورُهُ فِي كُلِّ آيَةٍ مِنْ آيَاتِهِ، وَلَكِنْ:
إِذَا لَمْ تَكُنْ لِلْمَرْءِ عَيْنٌ صَحِيحَةٌ
…
فَلَا غَرْوَ أَنْ يَرْتَابَ وَالصُّبْحُ مُسْفِرُ
وَالتَّنْزِيلُ: مِنْ مَادَّةِ النُّزُولِ كَالْإِنْزَالِ وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ، إِلَّا أَنَّ صِيغَةَ ((التَّفْعِيلِ)) الدَّالَّةَ عَلَى التَّدْرِيجِ أَوِ التَّكْثِيرِ تُفِيدُ أَنَّ الْقُرْآنَ نَزَلَ نُجُومًا مُتَفَرِّقَةً وَهُوَ الْوَاقِعُ، وَصِيغَةُ أَنْزَلَ لَا تُنَافِيهِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (مِنْ مِثْلِهِ) فِيهِ وَجْهَانِ:
(أَحَدُهُمَا) أَنَّ الضَّمِيرَ فِي ((مِثْلِهِ)) لِلْقُرْآنِ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: (مِمَّا نَزَّلْنَا) .
(وَالثَّانِي) أَنَّهُ لِعَبْدِنَا، قَالَ شَيْخُنَا: وَهُوَ أَرْجَحُ، بِدَلِيلِ " مِنَ " الدَّاخِلَةِ عَلَى " مِثْلِهِ " الدَّالَّةِ عَلَى النُّشُوءِ، أَيْ فَإِنْ كَانَ أَحَدٌ مِمَّنْ يُمَاثِلُ الرَّسُولَ بِالْأُمِّيَّةِ يَقْدِرُ عَلَى الْإِتْيَانِ بِسُورَةٍ فَلْيَفْعَلْ.
قَالَ تَعَالَى: (وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ) الَّذِينَ يَشْهَدُونَ لَكُمْ أَنَّكُمْ أَتَيْتُمْ بِسُورَةٍ مَنْ مِثْلِهِ، وَهَؤُلَاءِ الشُّهَدَاءُ هُمْ غَيْرُ اللهِ تَعَالَى بِالضَّرُورَةِ، أَيِ ادْعُوا كُلَّ مَنْ تَعْتَمِدُونَ عَلَيْهِ لِيَشْهَدَ لَكُمْ (مِنْ دُونِ اللهِ) أَوِ ادْعُوَا كُلَّ أَحَدٍ غَيْرَ اللهِ تَعَالَى لِيُؤَيِّدَ دَعْوَاكُمْ، كَمَا أَيَّدَ اللهُ تَعَالَى دَعْوَةَ عَبْدِهِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، وَانْظُرُوا هَلْ يُغْنِيكُمْ دُعَاؤُكُمْ شَيْئًا (إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) فِي دَعْوَاكُمْ (أَنَّ عِنْدَكُمْ فِيهِ رَيْبًا، وَإِنَّمَا يَصْدُقُ الْمُرْتَابُ فِي رَيْبِهِ إِذَا خَفِيَتِ الْحُجَّةُ، وَغَلَبَتِ الشُّبْهَةُ، وَكَانَ جَادًّا فِي النَّظَرِ، فَهُوَ يَقُولُ: إِنْ كُنْتُمْ صَدَقْتُمْ فِي أَنَّكُمْ مُرْتَابُونَ فَلَدَيْكُمْ مَا يُمَحِّصُ الْحَقَّ فَجِدُّوا فِي الْفِكْرِ، وَلَا تَتَوَانَوْا فِي النَّظَرِ، وَتَدَبَّرُوا هَذَا الْكِتَابَ، وَهَا هُوَ ذَا مَعْرُوضٌ عَلَيْكُمْ، وَائْتُوا بِسُورَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ مِثْلِ مَا جَاءَ بِهِ هَذَا النَّبِيُّ الْأُمِّيُّ، فَإِذَا أَمْكَنَ لَكُمْ ذَلِكَ فَلِخَاطِرِ الرَّيْبِ أَنْ يَمُرَّ بِنُفُوسِكُمْ، وَإِلَّا فَمَا وَجْهُ إِعْرَاضِكُمْ عَنْ دَعْوَتِهِ، وَإِبْطَائِكُمْ عَنْ تَلْبِيَتِهِ؟) .
(أَقُولُ) : هَذَا مُحَصِّلُ سِيَاقِ الْأُسْتَاذِ فِي الدَّرْسِ، وَقَدْ قَرَأَهُ بَعْدَ كِتَابَتِنَا لَهُ، وَكَتَبَ الْعِبَارَةَ الْأَخِيرَةَ لِإِيضَاحِهِ بِخَطِّهِ بَعْدَ طَبْعِ التَّفْسِيرِ فِي الْمَنَارِ، وَتَرْجِيحُهُ كَوْنَ الضَّمِيرِ فِي مِثَالِهِ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم خَاصٌّ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَهُوَ لَا يُنَافِي الْعَجْزَ عَنِ الْإِتْيَانِ بِسُورَةٍ مِثْلِ سُوَرِ الْقُرْآنِ مِنْ غَيْرِ الْأُمِّيِّينَ، وَرَجَّحَ الْجُمْهُورُ الْأَوَّلَ، لِمُوَافَقَةِ الْآيَاتِ الْأُخْرَى فِي هَذَا التَّحَدِّي.
وَأَوَّلُ مَا نَزَلَ فِي هَذَا الْمَعْنَى: قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ: (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا)(17: 88)
ثُمَّ نَزَلَ بَعْدَهَا آيَةُ يُونُسَ (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَائْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوَا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)(10: 38) ثُمَّ آيَةُ هُودٍ (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَائْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرِيَاتٍ وَادْعُوَا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ
دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ 11: 13) وَهَذِهِ السُّوَرُ الثَّلَاثُ نَزَلَتْ بِمَكَّةَ مُتَتَابِعَاتٍ كَمَا رَوَاهُ الْعُلَمَاءُ لِهَذَا الشَّأْنِ، وَلَكِنْ فِي رِوَايَةٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ سُورَةَ يُونُسَ مَدَنِيَّةٌ، وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى هِيَ الْمُوَافَقَةُ لِقَوْلِ الْجُمْهُورِ وَلِأُسْلُوبِهَا فَإِنَّهُ أُسْلُوبُ السُّوَرِ الْمَكِّيَّةِ.
وَقَالَ بَعْضُ عُلَمَاءِ الْكَلَامِ: إِنَّ اللهَ تَعَالَى تَحَدَّى النَّاسَ أَوَّلًا بِالْقُرْآنِ فِي جُمْلَتِهِ فِي آيَةِ الْإِسْرَاءِ، ثُمَّ تَحَدَّاهُمْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ فِي آيَةِ هُودٍ، ثُمَّ تَحَدَّاهُمْ بِسُورَةٍ وَاحِدَةٍ مِثْلِهِ فِي آيَةِ يُونُسَ، وَكُلُّ ذَلِكَ بِمَكَّةَ، ثُمَّ بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ فِي آيَةِ الْبَقَرَةِ بِالْمَدِينَةِ، وَهَذَا تَرْتِيبٌ مَعْقُولٌ لَوْ سَاعَدَ عَلَيْهِ تَارِيخُ النُّزُولِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ التَّحَدِّيَ فِي سُورَتَيْ يُونُسَ وَهُودٍ خَاصٌّ بِبَعْضِ أَنْوَاعِ الْإِعْجَازِ، وَهُوَ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْأَخْبَارِ كَقَصَصِ الرُّسُلِ مَعَ أَقْوَامِهِمْ وَهُوَ مِنْ أَخْبَارِ الْغَيْبِ الْمَاضِيَةِ الَّتِي لَمْ يَكُنْ لِمَنْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ عِلْمٌ بِهَا وَلَا قَوْمِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى عَقِبَ قِصَّةِ نُوحٍ مِنْ سُورَةِ هُودٍ:(تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا)(11: 49) كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ الْقَصَصِ عَقِبَ قِصَّةِ مُوسَى: (وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ)(28: 44) إِلَى آخَرِ الْآيَةِ 46، وَكَمَا قَالَ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ عَقِبَ قِصَّةِ مَرْيَمَ:(ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ)(3: 44) الْآيَةَ.
وَلَعَلَّ وَجْهَ التَّحَدِّي بِعَشْرِ سُوَرٍ مُفْتَرِيَاتٍ دُونَ سُورَةٍ وَاحِدَةٍ، هُوَ إِرَادَةُ نَوْعٍ خَاصٍّ مِنْ أَنْوَاعِ الْإِعْجَازِ وَهُوَ الْإِتْيَانُ بِالْخَبَرِ الْوَاحِدِ بِأَسَالِيبَ مُتَعَدِّدَةٍ مُتَسَاوِيَةٍ فِي الْبَلَاغَةِ وَإِزَالَةِ شُبْهَةٍ تَخْطُرُ بِالْبَالِ، بَلْ بَعْضُ النَّاسِ أَوْرَدَهَا عَلَى الْإِعْجَازِ بِالْبَلَاغَةِ وَالْأُسْلُوبِ، وَهِيَ أَنَّ الْجُمْلَةَ أَوِ السُّورَةَ الْمُشْتَمِلَةَ عَلَى الْقِصَّةِ يُمْكِنُ التَّعْبِيرُ عَنْهَا فِي اللُّغَةِ بِعِبَارَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ تُؤَدِّي الْمَعْنَى، وَلَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ عِبَارَةٌ مِنْهَا يَنْتَهِي إِلَيْهَا حُسْنُ الْبَيَانِ، مَعَ السَّلَامَةِ مِنْ كُلِّ عَيْبٍ لَفْظِيٍّ أَوْ مَعْنَوِيٍّ يَحِلُّ بِالْفَهْمِ أَوِ التَّأْثِيرِ الْمَطْلُوبِ، فَمَنْ سَبَقَ إِلَى هَذِهِ الْعِبَارَةِ أَعْجَزَ غَيْرَهُ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهَا؛ لِأَنَّ تَأْلِيفَ الْكَلَامِ فِي اللُّغَةِ لَا يَحْتَمِلُ ذَلِكَ. وَمِنَ الْأَمْثَالِ الَّتِي وَضَّحُوا بِهَا هَذِهِ الشُّبْهَةَ قَوْلُهُ تَعَالَى:(وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ) قَالُوا إِنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ تَحْتَمِلُ بِالتَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ بِضْعَةُ تَرَاكِيبَ أَفْصَحُهَا وَأَبْلَغُهَا وَأَسْلَمُهَا مِنَ الضَّعْفِ وَالْإِبْهَامِ تَرْكِيبُ
الْآيَةِ، وَلَكِنَّ الْقُرْآنَ عَبَّرَ عَنْ بَعْضِ الْمَعَانِي وَبَعْضِ الْقِصَصِ بِعِبَارَاتٍ مُخْتَلِفَةِ الْأُسْلُوبِ وَالنَّظْمِ مِنْ مُخْتَصَرٍ وَمُطَوَّلٍ، وَالتَّحَدِّي بِمِثْلِهِ لَا يَظْهَرُ فِي قِصَّةٍ مُخْتَرَعَةٍ مُفْتَرَاةٍ بَلْ لَا بُدَّ مِنَ التَّعَدُّدِ الَّذِي يَظْهَرُ فِيهِ التَّعْبِيرُ عَنِ الْمَعْنَى الْوَاحِدِ وَالْقِصَّةِ الْوَاحِدَةِ بِأَسَالِيبَ مُخْتَلِفَةٍ وَتَرَاكِيبَ مُتَعَدِّدَةٍ، كَمَا نَرَى فِي سُورَةٍ فَتَحَدَّاهُمْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ فِي هِدَايَتِهَا وَبَلَاغَتِهَا وَأُسْلُوبِهَا وَاشْتِمَالِهَا عَلَى الْحِكَمِ وَالْعِبَرِ وَالْأُسْوَةِ الْحَسَنَةِ الْمُعِينَةِ عَلَى التَّرْبِيَةِ وَالتَّهْذِيبِ كَمَا هُوَ شَأْنُ الْقُرْآنِ فِي قَصَصِهِ،
كَأَنَّهُ يَقُولُ أَدَعُ لَكُمْ مَا فِي سُورِ الْقَصَصِ مِنَ الْأَخْبَارِ عَنِ الْغَيْبِ، وَأَتَحَدَّاكُمْ أَنْتُمْ وَسَائِرَ الَّذِينَ تَسْتَطِيعُونَ الِاسْتِعَانَةَ بِهِمْ عَلَى الْإِتْيَانِ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِ سُوَرِ الْقُرْآنِ فِي قَصَصِهَا، مَعَ السَّمَاحِ لَكُمْ بِجَعْلِهَا قَصَصًا مُفْتَرَاةً مِنْ حَيْثُ مَوْضُوعُهَا، فَإِنْ جِئْتُمْ بِهِ مِثْلَ سُوَرِهِ الْقَصَصِيَّةِ فِي سَائِرِ مَزَايَاهَا اللَّفْظِيَّةِ وَالْمَعْنَوِيَّةِ، فَأَنَا أَعْتَرِفُ لَكُمْ بِدَحْضِ حُجَّتِي عَلَيْكُمْ.
وَأَمَّا اكْتِفَاؤُهُ فِي سُورَةِ يُونُسَ بَعْدَهَا بِالتَّحَدِّي بِسُورَةٍ وَاحِدَةٍ فِي مَقَامِ الرَّدِّ عَلَى قَوْلِهِمْ " افْتَرَاهُ " فَلِأَنَّهُ لَمْ يُقَيِّدْهُ بِكَوْنِهَا مُفْتَرَاةً، لَا مِنْ بَابِ التَّخْفِيفِ عَلَيْهِمْ بِالْوَاحِدَةِ بَعْدَ عَجْزِهِمْ عَنِ الْعَشْرِ، فَيَدْخُلُ فِيهِ خَبَرُ الْغَيْبِ وَالْتِزَامُ الصِّدْقِ.
فَعُلِمَ مِنْ هَذَا التَّفْصِيلِ أَنَّ التَّحَدِّيَ بِإِعْجَازِ الْقُرْآنِ لِذَاتِهِ فِي جُمْلَتِهِ، وَالتَّحَدِّيَ بِبَعْضِ أَنْوَاعِ إِعْجَازِهِ فِي عَشْرِ سُورٍ مِثْلِهِ، وَبِسُورَةٍ مِثْلِهِ، كِلَاهُمَا ثَابِتٌ فِي السُّوَرِ الْمَكِّيَّةِ قَبْلَ نُزُولِ آيَةِ الْبَقَرَةِ وَسُورَتِهَا بَعْدَ الْهِجْرَةِ فِي الْمَدِينَةِ الْمُنَوَّرَةِ، وَلَمَّا كَانَ كُفَّارُ الْمَدِينَةِ الَّذِينَ يُوَجَّهُ إِلَيْهِمُ الِاحْتِجَاجُ أَوَّلًا وَبِالذَّاتِ هُمُ الْيَهُودُ - وَهُمْ يَعُدُّونَ أَخْبَارَ الرُّسُلِ فِي الْقُرْآنِ غَيْرَ دَالَّةٍ عَلَى عِلْمِ الْغَيْبِ - تَحَدَّاهُمْ بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي أُمِّيَّتِهِ، لِيَشْمَلَ ذَلِكَ وَغَيْرَهُ مَعَ بَقَاءِ التَّحَدِّي الْمُطْلَقِ بِسُورَةٍ وَاحِدَةٍ مِثْلِهِ عَلَى إِطْلَاقِهِ غَيْرِ مُقَيَّدٍ بِكَوْنِهِ مِنْ مِثْلِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، وَسَيَأْتِي بَحْثُ وُجُوهِ هَذَا الْإِعْجَازِ قَرِيبًا.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا) إِلَخْ أَيْ فَإِنْ لَمْ تَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ، وَتَجْتَثُّوا دَلِيلَهُ مِنْ أَصْلِهِ، وَمَا أَنْتُمْ بِفَاعِلِينَ؛ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ فِي طَاقَةِ الْمَخْلُوقِينَ، فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِأَمْثَالِكُمْ مِنَ الْكَافِرِينَ، الَّذِينَ يَجْحَدُونَ الْحَقَّ بَعْدَ الْبُرْهَانِ الْمُبِينِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى:(وَلَنْ تَفْعَلُوا) جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الشَّرْطِ وَجَوَابِهِ وَهِيَ مَقْصُودَةٌ هُنَا فِي ذَاتِهَا لِمَا فِيهَا مِنْ تَقْوِيَةِ الدَّلِيلِ وَتَقْرِيرِ عَجْزِهِمْ بِمَا يُثِيرُ حَمِيَّتِهِمْ وَيُغْرِيهِمْ بِتَكَلُّفِ الْمُعَارَضَةِ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَصْدُرَ مِثْلُ هَذَا النَّفْيِ الِاسْتِقْبَالِيِّ الْمُؤَكَّدِ أَوِ الْمُؤَبَّدِ مِنْ عَاقِلٍ كَالنَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام فِي أَمْرٍ مُمْكِنٍ عَقْلًا لَوْلَا أَنْ أَنْطَقَهُ اللهُ الَّذِي خَصَّهُ بِالْوَحْيِ، وَهُوَ الَّذِي يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، بِأَنَّهُ غَيْرُ مُمْكِنٍ لِأَحَدٍ.
وَعَبَّرَ عَنْ نَفْيِ وُقُوعِ الْفِعْلِ مِنْهُمْ بِـ " إِنِ " الَّتِي يُعَبَّرُ بِهَا عَمَّا يُشَكُّ فِي شَرْطِهِ، أَوْ يَجْزِمُ الْمُتَكَلِّمُ بِعَدَمِ وُقُوعِهِ، وَمُقْتَضَى الْقَاعِدَةِ أَنْ يَكُونَ الشَّرْطُ هُنَا بِـ " إِذَا " لِأَنَّ الْمُحَقَّقَ أَنَّهُمْ لَنْ يَفْعَلُوا كَمَا صَرَّحَتْ بِهِ الْآيَةُ، مَعَ الْقَطْعِ بِأَنَّ اللهَ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنِ الشَّكِّ، وَلَكِنَّ الْقَوَاعِدَ الَّتِي تُذْكَرُ فِي عِلْمِ الْبَلَاغَةِ قَدْ يُنْظَرُ فِيهَا إِلَى حَالِ الْمُخَاطَبِ لَا حَالِ الْمُتَكَلِّمِ، وَالْمُعَوَّلُ عَلَيْهِ هُوَ مَا يَقْصِدُ الْمُتَكَلِّمُ أَنْ يَبْلُغَهُ مِنْ نَفْسِ الْمُخَاطَبِ وَيُودِعَهُ فِي ذِهْنِهِ، فَهَاهُنَا يُخَاطِبُ اللهُ الْمُرْتَابِينَ، وَالَّذِينَ هُمْ فِي جُحُودِهِمْ وَعِنَادِهِمْ كَالْوَاثِقِينَ الْمُوقِنِينَ، خِطَابًا يُؤْذِنُ أَوَّلُهُ بِأَنَّ عَدَمَ الْإِتْيَانِ بِمَا تَحَدَّاهُمْ بِهِ مَشْكُوكٌ فِيهِ، وَلَازِمُهُ أَنَّ الْمُعَارَضَةَ جَائِزَةٌ مِنْهُمْ، وَدَاخِلَةٌ فِي حُدُودِ إِمْكَانِهِمْ، خَاطَبَهُمْ بِهَذَا مُرَاعَاةً لِظَاهِرِ حَالِهِمُ الَّتِي تُومِئُ إِلَى الْقُدْرَةِ عَلَى الْمُعَارَضَةِ، وَتُشِيرُ إِلَى إِمْكَانِ الْإِتْيَانِ بِالسُّورَةِ، ثُمَّ كَرَّ عَلَى هَذَا الْإِيذَانِ
بَلِ الْإِيهَامِ بِالنَّقْضِ بِلَا تَلَبُّثٍ وَلَا تَرَيُّثٍ، وَأَبْطَلَ مُرَاعَاةَ الظَّاهِرِ بَلْ حَوَّلَهَا إِلَى تَهَكُّمٍ بِالنَّفْيِ الْمُؤَكَّدِ الَّذِي ذَهَبَ بِذَلِكَ الذَّمَاءِ، وَاسْتَبْدَلَ الْيَأْسَ بِالرَّجَاءِ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: إِنَّ إِعْرَاضَكُمْ عَنِ الْإِيمَانِ، بَعْدَ سَمَاعِ هَذَا الْقُرْآنِ، الَّذِي أَفَاضَ الْعُلُومَ عَلَى أُمِّيٍّ لَمْ يَتَرَبَّ فِي مَعَاهِدِ الْعِلْمِ، وَأَظْهَرَ مُعْجِزَاتِ الْبَلَاغَةِ عَلَى مَنْ لَمْ يَكُنْ يُعْرَفُ مِنْهُ التَّبْرِيزُ بِهَا فِي نَثْرٍ وَلَا نَظْمٍ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّكُمْ تَدَّعُونَ اسْتِطَاعَةَ الْإِتْيَانِ بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَمَا أَنْتُمْ بِمُسْتَطِيعِينَ، وَلَوِ اسْتَعَنْتُمْ عَلَيْهِ بِجَمِيعِ الْعَالَمِينَ (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا) .
كَانَ يَتَحَدَّاهُمْ بِمِثْلِ هَذِهِ الْآيَاتِ الصَّادِعَةِ الَّتِي تُثِيرُ النَّخْوَةَ، وَتُهَيِّجُ الْغَيْرَةَ مَعَ عُلُوِّ كَعْبِهِمْ فِي الْبَلَاغَةِ وَرُسُوخِ عِرْقِهِمْ فِي أَسَالِيبِهَا وَفُنُونِهَا، فِي عَصْرٍ ارْتَقَتْ فِيهِ دَوْلَةُ الْكَلَامِ ارْتِقَاءً لَمْ تَعْرِفْ مِثْلَهُ الْأَيَّامُ، حَتَّى كَانُوا يَتَبَارَوْنَ فِيهِ وَيَتَنَافَسُونَ، وَيُبَاهُونَ وَيُفَاخِرُونَ، وَيَعْقِدُونَ لِذَلِكَ الْمَجَامِعَ وَيُقِيمُونَ الْأَسْوَاقَ، ثُمَّ يَطِيرُونَ بِأَخْبَارِهَا فِي الْآفَاقِ، وَمَعَ هَذَا لَمْ يَتَصَدَّ أَحَدٌ مِنْهُمْ لِلْمُعَارَضَةِ، وَلَمْ يَنْهَضْ بَلِيغٌ
مِنْ مَصَاقِعِهِمْ إِلَى الْمُنَاهَضَةِ (أَقُولُ) بَلْ تَوَاتَرَ عَنْهُمْ مَا كَانَ ((مِنَ الْإِعْرَاضِ عَنِ الْمُعَارَضَةِ بِأَسَلَاتِ أَلْسِنَتِهِمْ، وَالْفَزَعِ إِلَى الْمُقَارَعَةِ بِأَسِنَّةٍ أَسَلِهِمْ)) وَسَفْكِ دِمَائِهِمْ بِأَسْيَافِهِمْ، وَتَخْرِيبِ بُيُوتِهِمْ بِأَيْدِيهِمْ، أَفَلَمْ يَكُنِ الْأَجْدَرُ بِمَدَارِهِ قُرَيْشٍ وَفُحُولِهَا، غُرَرِ بَنِي مَعَدٍّ وَحُجُولِهَا أَنْ يَجْتَمِعُوا عَلَى تَأْلِيفِ سُورَةٍ بِبَلَاغَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا يَتَبَارَوْنَ فِيهَا بِسُوقِ عُكَاظَ وَغَيْرِهَا مِنْ مَجَامِعِ مُفَاخَرَاتِهِمْ، وَيُؤْثِرُوا هَذَا عَلَى سَوْقِ الْخَمِيسِ بَعْدَ الْخَمِيسِ مِنْ صَنَادِيدِهِمْ إِلَى يَثْرِبَ لِقِتَالِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَمَنْ آمَنَ بِهِ " رضي الله عنه " فِي بَدْرٍ وَأُحُدٍ وَوَرَاءَ الْخَنْدَقِ لَوْ كَانَ ذَلِكَ مُسْتَطَاعًا لَهُمْ؟ وَمِثْلُ هَذَا يُقَالُ فِي الْيَهُودِ الَّذِينَ كَانُوا بِجِوَارِهِ فِي الْمَدِينَةِ فَأَمَّنَهُمْ عَلَى دِينِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَأَعْرَاضِهِمْ، فَأَبَوْا إِلَّا إِعَانَةَ مُشْرِكِي قَوْمِهِ عَلَيْهِ حَتَّى اضْطَرُّوهُ إِلَى قِتَالِهِمْ، وَإِخْرَاجِ بَقِيَّةِ السَّيْفِ مِنْ دِيَارِهِمْ، فَلَا شَكَّ أَنَّ اللهَ تَعَالَى قَدْ رَفَعَ هَذَا الْكَلَامَ إِلَى دَرَجَةٍ لَا يَرْتَقِي الْبَشَرُ إِلَيْهَا، وَهُوَ - تَعَالَى جَدُّهُ - الْعَالِمُ بِمَبْلَغِ اسْتِطَاعَتِهِمْ، وَالْمَالِكُ لِأَعِنَّةِ قُدْرَتِهِمْ.
قَالَ الْمُتَكَلِّمُونَ فِي بَلَاغَةِ الْقُرْآنِ: إِنَّنَا نَجِدُهُ لَمْ يَلْتَزِمْ شَيْئًا مِمَّا كَانُوا يَلْتَزِمُونَ بِسَجْعِهِمْ وَإِرْسَالِهِمْ وَرَجَزِهِمْ وَأَشْعَارِهِمْ، بَلْ جَاءَ عَلَى النَّمَطِ الْفِطْرِيِّ، وَالْأُسْلُوبِ الْعَادِيِّ الَّذِي يَتَسَنَّى لِكُلِّ إِنْسَانٍ أَنْ يَحْذُوَ مِثَالَهُ، وَلَكِنَّهُمْ عَجَزُوا فَلَمْ يَأْتُوا وَلَنْ يَأْتِيَ غَيْرُهُمْ بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ، ثُمَّ نُلَاحِظُ أَيْضًا: أَنَّ الْقُرْآنَ بِهَذَا الْأُسْلُوبِ قَدْ تَحَدَّى بِهِ كُلَّ مَنْ بَلَغَهُ مِنَ الْعَرَبِ، عَلَى تَفَرُّقِ دِيَارِهِمْ، وَتَنَائِي أَقْطَارِهِمْ، وَأَرْسَلَ الرَّسُولُ إِلَى الْأَطْرَافِ يَدْعُو النَّاسَ إِلَى الْإِيمَانِ بِهِ، فَعَمَّتِ الدَّعْوَةُ
وَبَلَغَتْ مَبْلَغَهَا وَلَمْ يَنْبَرِ أَحَدٌ لِلْمُعَارَضَةِ كَمَا قُلْنَا، أَلَا يَدُلَّ هَذَا عَلَى نِهَايَةِ الْعَجْزِ وَعُمُومِهِ، وَإِحْسَاسِ كُلِّ بَلِيغٍ بِالضَّعِيفِ فِي نَفْسِهِ عَنِ الِانْبِرَاءِ لِمُبَارَاتِهِ، وَالتَّسَامِي لِمُحَاكَاتِهِ، وَعَلَى أَنَّ اللهَ تَعَالَى جَعَلَهُ فَوْقَ الْقَدْرِ، خَارِقًا لِمَا يَعْتَادُ مَنْ كَسْبِ الْبَشَرِ؟ بَلَى، وَإِنَّ لِهَذَا الْإِعْجَازِ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: كَوْنُهُ مُعْجِزًا بِذَاتِهِ؛ لِأَنَّهُ فِي مَرْتَبَةٍ لَا يُمْكِنُ لِبَشَرٍ أَنْ يَرْتَقِيَ إِلَيْهَا، وَثَانِيهِمَا: أَنَّهُ جَاءَ عَلَى لِسَانِ أُمِّيٍّ لَبِثَ أَرْبَعِينَ سَنَةً لَمْ يُوصَفْ بِالْبَلَاغَةِ، وَلَمْ يُؤْثَرْ عَنْهُ شَيْءٌ مِنَ الْعِلْمِ، وَقَدْ ذَكَرُوا وُجُوهًا أُخْرَى لِلْإِعْجَازِ يَنْطَوِي عَلَيْهَا الْقُرْآنُ، مِنْهَا قَوْلُهُ هُنَا:(وَلَنْ تَفْعَلُوا) بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُخْبِرَ هُوَ اللهُ تَعَالَى، عَالَمُ الْغَيْبِ وَمَا يَكُونُ فِي
الْمُسْتَقْبَلِ، وَمِنْ فَائِدَةِ هَذَا الْقَوْلِ فِي عَهْدِ نُزُولِهِ وَقَبْلَ ظُهُورِ تَأْوِيلِهِ: أَنَّ قَرْعَهُ لِسَمْعِ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِالْغَيْبِ يَقْتَضِي أَشَدَّ التَّحْرِيضِ عَلَى الْمُعَارَضَةِ الَّتِي يَظْهَرُ بِهَا الْعَجْزُ، وَيَقُومُ الْبُرْهَانُ بِالْإِعْجَازِ الْمُقْتَضِي لِلْإِيمَانِ، لَوْلَا مُكَابَرَةُ الْمُسْتَكْبِرِينَ لِوِجْدَانِهِمْ، وَجُحُودُ أَلْسِنَتِهِمْ لَمَا اسْتَيْقَنَتْهُ قُلُوبُهُمْ (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) (27: 14) وَأَمَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِالْغَيْبِ وَيَعْتَقِدُ الْخَوَارِقَ فَمَا عَلَيْهِ إِلَّا أَنْ يَنْتَهِيَ إِلَى عَجْزِهِ وَيُبَادِرَ إِلَى الْإِيمَانِ بِهِ وَبِرِسَالَةِ مَنْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ، لِلْعِلْمِ الْقَطْعِيِّ بِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ لِعَاقِلٍ أَنْ يَجْزِمَ بِذَلِكَ إِلَّا إِذَا كَانَ مُطَّلِعًا عَلَى الْغَيْبِ، فَهُوَ خَبَرٌ عَنِ اللهِ عز وجل.
قَالَ تَعَالَى مُخَاطِبًا لِلْفَرِيقَيْنِ بَعْدَ تَسْجِيلِ الْعَجْزِ عَلَيْهِمْ: (فَاتَّقُوا النَّارَ) وَهِيَ مَوْطِنُ عَذَابِ الْآخِرَةِ، نُؤْمِنُ بِهَا، وَلِأَنَّهَا مِنْ عَالَمِ الْغَيْبِ الَّذِي أَخْبَرَ اللهُ تَعَالَى بِهِ وَلَا نَبْحَثُ عَنْ حَقِيقَتِهَا، وَلَا نَقُولُ إِنَّهَا شَبِيهَةٌ بِنَارِ الدُّنْيَا، وَلَا إِنَّهَا غَيْرُ شَبِيهَةٍ بِهَا، وَإِنَّمَا نُثْبِتُ لَهَا جَمِيعَ الْأَوْصَافِ الَّتِي وَصَفَهَا اللهُ تَعَالَى بِهَا كَقَوْلِهِ:(الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ) الْمُرَادُ بِالْحِجَارَةِ الْأَصْنَامُ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ) وَلَا يَسْبِقَنَّ إِلَى الْفَهْمِ أَنَّهَا لَا تُوجَدُ إِلَّا بِوُجُودِ النَّاسِ وَالْحِجَارَةِ إِذْ يَصِحُّ أَنْ يَكُونُوا وَقُودَهَا بَعْدَ وُجُودِهَا وَالْوَقُودُ بِالْفَتْحِ مَا تُوقَدُ بِهِ النَّارُ وَبِالضَّمِّ مَصْدَرٌ، وَقَدْ سُمِعَ الْمَصْدَرُ بِالْفَتْحِ أَيْضًا.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ فِي تَفْسِيرِ " وَقُودِهَا " إِنَّ النَّاسَ بِأَعْمَالِهِمْ وَعِبَادَةِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا وَانْحِرَافِهِمْ عَنْ صِرَاطِ الْحَقِّ الْمُسْتَقِيمِ - وَالْحِجَارَةَ بِعِبَادَةِ النَّاسِ لَهَا - سَبَبَانِ فِي إِيجَادِ النَّارِ وَإِعْدَادِهَا لَهُمْ، فَبِذَلِكَ كَانُوا كَالْوَقُودِ الَّذِي تُضْرَمُ بِهِ النَّارُ، وَفِي الْكَلَامِ تَقْدِيمُ السَّبَبِ وَهُوَ النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَى الْمُسَبَّبِ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى:(أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ) وَبِهَذَا التَّفْسِيرِ يَظْهَرُ الْحَصْرُ فِي جُمْلَةِ (وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ) فَإِنَّهَا اسْمِيَّةٌ مُعَرَّفَةُ الطَّرَفَيْنِ، وَخَصَّ الْحِجَارَةَ بِالذِّكْرِ؛ لِأَنَّهَا أَظْهَرُ الْمَعْبُودَاتِ عِنْدَ الْعَرَبِ.
وَالْمُرَادُ بِالْكَافِرِينَ: الَّذِينَ لَا يُجِيبُونَ دَعْوَةَ الْأَنْبِيَاءِ عليهم السلام، وَالَّذِينَ يَنْحَرِفُونَ عَنْ أُصُولِهَا بَعْدَ الْأَخْذِ بِهَا لِبِدَعٍ يَبْتَدِعُونَهَا، وَتَقَالِيدَ يُحْدِثُونَهَا،
وَتَأْوِيلَاتٍ يُلَفِّقُونَهَا، فَهَؤُلَاءِ هُمُ الَّذِينَ أُعِدَّتْ وَهُيِّئَتِ النَّارُ لَهُمْ، لِأَنَّهُمُ الَّذِينَ يَسْتَحِقُّونَ الْخُلُودَ فِيهَا، وَمَنْ وَرَدَهَا وُرُودًا وَانْتَهَى إِلَى مَوْطِنٍ آخَرَ فَذَلِكَ الْمَوْطِنُ هُوَ الَّذِي أُعِدَّ لَهُ، وَلَيْسَ بَعْدَ الدُّنْيَا مَوْطِنٌ إِلَّا الْجَنَّةَ، جَعَلَنَا اللهُ مِنْ أَهْلِهَا بِالتَّوْفِيقِ لِلتَّقْوَى، أَوِ النَّارَ، نَعُوذُ بِاللهِ مِنْهَا وَمِمَّا يُقَرِّبُ إِلَيْهَا مِنْ قَوْلٍ وَعَمَلٍ.
فَصْلٌ فِي تَحْقِيقِ وُجُوهِ الْإِعْجَازِ
بِمُنْتَهَى الِاخْتِصَارِ وَالْإِيجَازِ
إِعْجَازُ الْقُرْآنِ: قَدْ ثَبَتَ بِالْفِعْلِ، وَتَوَاتَرَ فِيهِ النَّقْلُ، وَحَسْبُكَ مِنْهُ وُجُودُ مَا لَا يُحْصَى مِنَ الْمَصَاحِفِ فِي جَمِيعِ الْأَقْطَارِ الَّتِي يَسْكُنُهَا الْمُسْلِمُونَ، وَكَذَا فِي غَيْرِهَا، وَوُجُودُ الْأُلُوفِ مِنْ حُفَّاظِهِ فِي مَشَارِقِ الْأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا، وَهِيَ تَحْكِي لَنَا هَذِهِ الْآيَاتُ فِي التَّحَدِّي بِإِعْجَازِهِ، وَلَوْ وُجِدَ لَهُ مُعَارِضٌ أَتَى بِسُورَةٍ مِثْلِهِ لَتَوَفَّرَتِ الدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِهَا بِالتَّوَاتُرِ أَيْضًا، بَلْ لَكَانَتْ فِتْنَةً ارْتَدَّ بِهَا الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَدْبَارِهِمْ.
وَلَمَّا كَانَ إِعْجَازُهُ لِمَزَايَا فِيهِ تَعْلُو قُدْرَةَ الْمَخْلُوقِ عِلْمًا وَحُكْمًا، وَبَيَانًا لِلْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ، حَارَ الْعُلَمَاءُ فِي تَحْدِيدِ وَجْهِ الْإِعْجَازِ بَعْدَ ثُبُوتِهِ بِالْعِلْمِ الْيَقِينِيِّ الَّذِي بَلَغَ حَدَّ الضَّرُورَةِ فِي ظُهُورِهِ، حَتَّى قَالَ بَعْضُ عُلَمَاءِ الْمُعْتَزِلَةِ: إِنَّ إِعْجَازَهُ بِالصَّرْفَةِ، يَعْنُونَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى صَرَفَ قُدْرَةَ بُلَغَاءِ الْعَرَبِ الْخُلَّصِ فِي عَصْرِ التَّنْزِيلِ عَنِ التَّوَجُّهِ لِمُعَارَضَتِهِ فَلَمْ يَهْتَدُوا إِلَيْهَا سَبِيلًا، ثُمَّ تَسَلْسَلَ ذَلِكَ فِي غَيْرِهِمْ وَاسْتَمَرَّ إِلَى عَصْرِنَا هَذَا، وَهَذَا رَأْيُ كَسُولٍ أَحَبَّ أَنْ يُرِيحَ نَفْسَهُ مِنْ عَنَاءِ الْبَحْثِ وَإِجَالَةِ قَدَحِ الْفِكْرِ فِي هَذَا الْأَمْرِ، وَلِلْبَاحِثِينَ فِيهِ أَقْوَالٌ كُتِبَتْ فِيهَا فُصُولٌ وَأُلِّفَتْ فِيهَا رَسَائِلُ وَكُتُبٌ، وَقَدْ عَقَدْتُ هَذَا الْفَصْلَ عِنْدَ طَبْعِ هَذَا الْجُزْءِ مِنَ التَّفْسِيرِ لِبَيَانِهَا وَإِيضَاحِهَا، لِمَا عَلِمْتُ مِنْ شِدَّةِ حَاجَةِ الْمُسْلِمِينَ أَنْفُسِهِمْ إِلَيْهَا، دَعْ أَمْرَ دَعْوَةِ غَيْرِهِمْ أَوِ الِاحْتِجَاجِ عَلَيْهِمْ بِهَا.
إِعْجَازُ الْقُرْآنِ بِأُسْلُوبِهِ وَنَظْمِهِ:
(الْوَجْهُ الْأَوَّلُ) : اشْتِمَالُهُ عَلَى النَّظْمِ الْغَرِيبِ وَالْوَزْنِ الْعَجِيبِ، وَالْأُسْلُوبِ الْمُخَالِفِ لِمَا اسْتَنْبَطَهُ الْبُلَغَاءُ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ فِي مَطَالِعِهِ وَفَوَاصِلِهِ وَمَقَاطِعِهِ، هَذِهِ عِبَارَتُهُمْ وَأَوْرَدُوا عَلَيْهَا شُبْهَتَيْنِ وَأَجَابُوا عَنْهُمَا، وَحَصَرُوا نَظْمَ الْكَلَامِ مَنْثُورَهُ مُرْسَلًا وَسَجْعًا، وَمَنْظُومَهُ قَصِيدًا وَرَجَزًا فِي أَرْبَعَةِ أَنْوَاعٍ، لَا يُمْكِنُ عَدُّ نَظْمِ الْقُرْآنِ وَأُسْلُوبِهِ
وَاحِدًا مِنْهَا، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ كَلَامُ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ مِنْ أَكْبَرِ بُلَغَاءِ قُرَيْشٍ الَّذِينَ عَانَدُوا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَعَادَوْهُ اسْتِكْبَارًا، وَجَاحَدُوهُ اسْتِعْلَاءً وَاسْتِنْكَارًا، أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: ((إِنَّ الْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَرَأَ عَلَيْهِ الْقُرْآنَ، فَكَأَنَّهُ رَقَّ لَهُ، فَبَلَغَ ذَلِكَ أَبَا جَهْلٍ فَأَتَاهُ فَقَالَ: يَا عَمُّ، إِنَّ قَوْمَكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَجْمَعُوا لَكَ مَالًا لِيُعْطُوكَهُ، فَإِنَّكَ أَتَيْتَ مُحَمَّدًا لِتَعْرِضَ لِمَا قِبَلَهُ، قَالَ: قَدْ عَلِمَتْ قُرَيْشٌ أَنِّي مِنْ أَكْثَرِهَا مَالًا، قَالَ: فَقُلْ فِيهِ قَوْلًا يَبْلُغُ قَوْمَكَ أَنَّكَ مُنْكِرٌ لَهُ، قَالَ: وَمَاذَا أَقُولُ؟ فَوَاللهِ مَا فِيكُمْ رَجُلٌ أَعْلَمُ
بِالشِّعْرِ مِنِّي، لَا بِرَجَزِهِ وَلَا بِقَصِيدِهِ، وَلَا بِأَشْعَارِ الْجِنِّ، وَاللهِ مَا يُشْبِهُ هَذَا الَّذِي يَقُولُ شَيْئًا مِنْ هَذَا، وَوَاللهِ إِنَّ لِقَوْلِهِ الَّذِي يَقُولُ لِحَلَاوَةً، وَإِنَّ عَلَيْهِ لِطَلَاوَةً، وَإِنَّهُ لِمُثْمِرٌ أَعْلَاهُ مُغْدِقٌ أَسْفَلَهُ، وَإِنَّهُ لَيَعْلُو وَمَا يُعْلَى، وَإِنَّهُ لَيُحَطِّمُ مَا تَحْتَهُ، قَالَ: وَاللهِ مَا يَرْضَى قَوْمُكَ حَتَّى تَقُولَ فِيهِ، قَالَ: فَدَعْنِي أُفَكِّرْ، فَلَمَّا فَكَّرَ قَالَ: هَذَا سِحْرٌ يُؤْثَرُ، يَأْثَرُهُ عَنْ غَيْرِهِ)) وَكَانَ هَذَا سَبَبَ نُزُولِ قَوْلِهِ تَعَالَى:(ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا) الْآيَاتِ.
وَلَعَمْرِي إِنَّ مَسْأَلَةَ النَّظْمِ وَالْأُسْلُوبِ لِإِحْدَى الْكُبَرِ، وَأَعْجَبُ الْعَجَائِبِ لِمَنْ فَكَّرَ وَأَبْصَرَ، وَلَمْ يُوَفِّهَا أَحَدٌ حَقَّهَا، عَلَى كَثْرَةِ مَا بَدَءُوا وَأَعَادُوا فِيهَا، وَمَا هُوَ بِنَظْمٍ وَاحِدٍ وَلَا بِأُسْلُوبٍ وَاحِدٍ، وَإِنَّمَا هُوَ مِائَةٌ أَوْ أَكْثَرُ: الْقُرْآنُ مِائَةٌ وَأَرْبَعَ عَشْرَةَ سُورَةً مُتَفَاوِتَةً فِي الطُّولِ وَالْقِصَرِ، مِنَ السَّبْعِ الطُّوَلِ الَّتِي تَزِيدُ السُّورَةُ فِيهِ عَلَى الْمِائَةِ وَعَلَى الْمِائَتَيْنِ مِنَ الْآيَاتِ، إِلَى السُّوَرِ الْمِئِينَ، إِلَى الْوُسْطَى مِنَ الْمُفَصَّلِ، إِلَى مَا دُونَهَا مِنَ الْعَشَرَاتِ فَالْآحَادِ كَالثَّلَاثِ الْآيَاتِ فَمَا فَوْقَهَا، وَكُلُّ سُورَةٍ مِنْهَا تُقْرَأُ بِالتَّرْتِيلِ الْمُشْبِهِ لِلتَّلْحِينِ، الْمُعِينِ عَلَى الْفَهْمِ الْمُفِيدِ لِلتَّأْثِيرِ، عَلَى اخْتِلَافِهَا فِي الْفَوَاصِلِ، وَتَفَاوُتِ آيَاتِهَا فِي الطُّولِ وَالْقِصَرِ، فَمِنْهَا الْمُؤَلَّفُ مِنْ كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ وَمِنْ كَلِمَتَيْنِ وَمِنْ ثَلَاثٍ، وَمِنْهَا الْمُؤَلَّفُ مِنْ سَطْرٍ أَوْ سَطْرَيْنِ أَوْ بِضْعَةِ أَسْطُرٍ، وَمِنْهَا الْمُتَّفِقُ فِي أَكْثَرِ الْفَوَاصِلِ أَوْ كُلِّهَا، وَمِنْهَا الْمُخْتَلِفُ فِي السُّورَةِ الْوَاحِدَةِ مِنْهَا، وَهِيَ عَلَى مَا فِيهَا مُتَشَابِهٌ وَغَيْرُ مُتَشَابِهٍ فِي النَّظْمِ، مُتَشَابِهَةٌ كُلُّهَا فِي مَزْجِ الْمَعَانِي الْعَالِيَةِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ، مِنْ صِفَاتِ اللهِ تَعَالَى وَأَسْمَائِهِ الْحُسْنَى، وَآيَاتِهِ فِي الْأَنْفُسِ وَالْآفَاقِ، وَالْحِكَمِ وَالْمَوَاعِظِ وَالْأَمْثَالِ،
وَبَيَانِ الْبَعْثِ وَالْمَآلِ، وَدَارِ الْأَبْرَارِ وَدَارِ الْفُجَّارِ، وَالِاعْتِبَارِ بِقَصَصِ الرُّسُلِ وَالْأَقْوَامِ، وَأَحْكَامِ الْعِبَادَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ وَالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ.
يَقُولُ قَائِلٌ: إِنَّ أَسَالِيبَ جَمِيعِ الْفُصَحَاءِ وَالْبُلَغَاءِ مُتَفَاوِتَةٌ كَذَلِكَ، لَا يُشْبِهُ أُسْلُوبٌ مِنْهَا أُسْلُوبًا، وَلَا يَسْتَوِيَانِ مَنْظُومًا وَلَا مَنْثُورًا، فَمُجَرَّدُ اخْتِلَافِ الْأُسْلُوبِ وَالنَّظْمِ لَا يَصِحُّ أَنْ يُعَدَّ مُعْجِزًا (وَنَقُولُ) : مَنْ قَالَ هَذَا فَقَدَ أَبْعَدَ النُّجْعَةَ، وَأَوْغَلَ فِي مَهَامِهِ الْغَفْلَةِ، فَمَهْمَا تَخْتَلِفْ مَنْظُومَاتُ الشُّعَرَاءِ فَلَنْ تَعْدُوَ بُحُورَ الشِّعْرِ الْمَنْقُولَةَ عَنِ الْمُتَقَدِّمِينَ، وَالتَّوْشِيحَاتِ وَالْأَزْجَالَ الْمَعْرُوفَةَ عِنْدَ الْمُوَلَّدِينَ، وَمَهْمَا تَخْتَلِفْ خُطَبُ الْخُطَبَاءِ وَالْمُتَرَسِّلِينَ مِنَ الْكُتَّابِ وَالْمُؤَلِّفِينَ فِي الْعُلُومِ وَالشَّرَائِعِ وَالْآدَابِ فَلَنْ تَعْدُوَ أَنْوَاعَ الْكَلَامِ الْأَرْبَعَةِ الَّتِي بَدَأَنَا الْقَوْلَ بِهَا، وَلَا يُشْبِهُ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ وَلَا تِلْكَ نَظْمَ سُورَةٍ مِنْ سُوَرِ الْقُرْآنِ وَلَا أَكْثَرِهَا، وَلِكُلٍّ مِنْهُمْ نَظْمٌ وَأُسْلُوبٌ خَاصٌّ.
فَإِنْ شِئْتَ أَنْ تُشْعِرَ سَمْعَكَ وَذَوْقَكَ بِالْفَرْقِ بَيْنَ نَظْمِ الْكَلَامِ الْبَشَرِيِّ وَنَظْمِ الْكَلَامِ الْإِلَهِيِّ، فَائْتِ بِقَارِئٍ حَسَنِ الصَّوْتِ يُسْمِعُكَ بَعْضَ أَشْعَارِ الْمُفْلِقِينَ، وَخَطَبَ الْمَصَاقِعِ الْمُفَوَّهِينَ،
الْمُتَقَدِّمِينَ وَالْمُتَأَخِّرِينَ، بِكُلِّ مَا يَسْتَطِيعُ مِنْ نَغَمٍ وَتَحْسِينٍ، ثُمَّ لِيَتْلُ عَلَيْكَ بَعْدَ ذَلِكَ بَعْضَ سُوَرِ الْقُرْآنِ الْمُخْتَلِفَةِ النَّظْمِ وَالْأُسْلُوبِ كَسُورَةِ النَّجْمِ وَسُورَةِ الْقَمَرِ وَسُورَةِ الرَّحْمَنِ وَسُورَةِ الْوَاقِعَةِ وَسُورَةِ الْحَدِيدِ - مَثَلًا - ثُمَّ حَكِّمْ ذَوْقَكَ وَوِجْدَانَكَ فِي الْفَرْقِ بَيْنَهَا فِي أَنْفُسِهَا، ثُمَّ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ كُلٍّ مِنْهَا وَبَيْنَ كَلَامِ الْبَشَرِ فِي كُلِّ أُسْلُوبٍ مِنْ أَسَالِيبِ بُلَغَائِهِمْ، وَتَأْثِيرِ كُلٍّ مِنَ الْكَلَامَيْنِ فِي نَفْسِكَ بَعْدَ اخْتِلَافِ وَقْعِهِ فِي سَمْعِكَ.
بَلْ تَأَمَّلِ الْمَعْنَى الْوَاحِدَ مِنَ الْمَعَانِي الْمُكَرَّرَةِ فِي الْقُرْآنِ، لِأَجْلِ تَقْرِيرِهَا فِي الْأَنْفُسِ وَنَقْشِهَا فِي الْأَذْهَانِ، كَالِاعْتِبَارِ بِأَحْوَالِ أَشْهَرِ الرُّسُلِ مَعَ أَقْوَامِهِمْ مِنْ مُخْتَصَرٍ وَمُطَوَّلٍ، وَافَطِنْ لِاخْتِلَافِ النَّظْمِ وَالْأَسَالِيبِ فِيهَا، فَمِنَ الْمُخْتَصَرِ مَا فِي سُورِ الذَّارِيَاتِ وَالنَّجْمِ وَالْقَمَرِ وَالْفَجْرِ، وَمِنَ الْمُطَوَّلِ مَا فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ وَالشُّعَرَاءِ وَطَهَ، لَعَلَّكَ إِنْ تَدَبَّرْتَ هَذَا تَشْعُرْ بِالْبَوْنِ الشَّاسِعِ بَيْنَ كَلَامِ الْمَخْلُوقِينَ وَكَلَامِ الْخَالِقِ، وَتَحْكُمْ بِهَذَا الضَّرْبِ مِنَ الْإِعْجَازِ حُكْمًا ضَرُورِيًّا وُجْدَانِيًّا لَا تَسْتَطِيعُ أَنْ تَدْفَعَهُ عَنْ نَفْسِكَ، وَإِنْ عَجَزْتَ عَنْ بَيَانِهِ بِقَوْلِكَ.
وَمِنَ اللَّطَائِفِ الْبَدِيعَةِ الَّتِي يُخَالِفُ بِهَا نَظْمُ الْقُرْآنِ نَظْمَ كَلَامِ الْعَرَبِ مِنْ شِعْرٍ وَنَثْرٍ: أَنَّكَ تَرَى السُّوَرَ ذَاتَ النَّظْمِ الْخَاصِّ وَالْفَوَاصِلِ الْمُقَفَّاةِ تَأْتِي فِي بَعْضِهَا فَوَاصِلُ غَيْرُ مُقَفَّاةٍ، فَتَزِيدُهَا حُسْنًا وَجَمَالًا وَتَأْثِيرًا فِي الْقَلْبِ، وَتَأْتِي فِي بَعْضٍ آخَرَ آيَاتٌ مُخَالِفَةٌ لِسَائِرِ آيِهَا فِي فَوَاصِلِهَا وَزْنًا وَقَافِيَةً، فَتَرْفَعُ قَدْرَهَا وَتَكْسُوهَا جَلَالَةً وَتُكْسِبُهَا رَوْعَةً وَعَظَمَةً، وَتُجَدِّدُ مِنْ نَشَاطِ الْقَارِئِ وَتُرْهِفُ مَنْ سَمْعِ الْمُسْتَمِعِ، وَكَانَ يَنْبَغِي لِلْخُطَبَاءِ وَالْمُتَرَسِّلِينَ أَنْ يُحَاكُوا هَذَا النَّوْعَ مِنْ مَحَاسِنِهِ، وَإِنْ كَانُوا يَعْجِزُونَ عَنْ مُعَارَضَةِ السُّورَةِ فِي جُمْلَتِهَا، أَوِ الصُّعُودِ إِلَى أُفُقِ بَلَاغَتِهَا، وَمِنْ أَعْجَبِ هَذِهِ السُّوَرِ أَوَائِلُ سُوَرِ الْمُفَصَّلِ بَلِ الْمُفَصَّلُ كُلُّهُ. قَالَ شَيْخُنَا الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: كَانَ الْمَعْقُولُ أَنْ يُحْدِثَ الْقُرْآنُ فِي هَذِهِ اللُّغَةِ مِنَ الْبَلَاغَةِ فِي الْبَيَانِ فَوْقَ مَا أَحْدَثَهُ بِدَرَجَاتٍ.
إِعْجَازُ الْقُرْآنِ بِبَلَاغَتِهِ:
(الْوَجْهُ الثَّانِي) : بَلَاغَتُهُ الَّتِي تَقَاصَرَتْ عَنْهَا بَلَاغَةُ سَائِرِ الْبُلَغَاءِ قَبْلَهُ وَفِي عَصْرِ تَنْزِيلِهِ وَفِيمَا بَعْدَهُ، وَلَمْ يَخْتَلِفْ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْبَيَانِ فِي هَذَا، وَإِنَّمَا أَوْرَدَ بَعْضُ الْمُخَالِفِينَ بَعْضَ الشُّبَهِ عَلَى كَوْنِ بَلَاغَةِ كُلِّ سُورَةٍ مِنْ قِصَارِ سُورِهِ بَلَغَتْ حَدَّ الْإِعْجَازِ فِيهِ، وَالْقَائِلُونَ بِهِ لَا يَحْصُرُونَ إِعْجَازَ كُلِّ سُورَةٍ فِيهِ، وَيَتَحَقَّقُ التَّحَدِّي عِنْدَهُمْ بِإِعْجَازِ بَعْضِ السُّوَرِ الْقَصِيرَةِ بِغَيْرِهِ، كَأَخْبَارِ الْغَيْبِ فِي سُورَةِ الْكَوْثَرِ الَّتِي هِيَ أَقْصَرُ سُوَرِهِ، عَلَى أَنَّ مُسَيْلِمَةَ تَصَدَّى لِمُعَارَضَتِهَا بِمُحَاكَاةِ فَوَاصِلِهَا، فَجَاءَ بِخِزْيٍ كَانَ حُجَّةً عَلَى عَجْزِهِ وَصِحَّةِ إِعْجَازِهَا.
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ لَا يَفْقَهُ سِرَّ هَذِهِ الْبَلَاغَةِ وَيُمَارِي فِيمَا كَتَبَ عُلَمَاءُ الْمَعَانِي وَالْبَيَانِ مِنْ قَوَاعِدِهَا، زَاعِمِينَ أَنَّهُ يُمْكِنُ حَمْلُ كُلِّ كَلَامٍ عَلَيْهَا، وَأَنَّ الْإِحَالَةَ عَلَى الذَّوْقِ فِيهَا إِحَالَةٌ عَلَى مَجْهُولٍ، لَا تَقُومُ بِهِ حُجَّةٌ وَلَا يَثْبُتُ بِهِ مَدْلُولٌ؛ لِأَنَّ الذَّوْقَ الْمَعْنَوِيَّ كَالْحِسِّيِّ خَاصٌّ بِصَاحِبِهِ
"
مَنْ ذَاقَ عَرَفَ " وَسَبَبُ هَذَا جَهْلُهُمُ اللُّغَةَ الْعَرَبِيَّةَ الْفُصْحَى نَفْسَهَا، فَقَدْ مَرَّتِ الْقُرُونُ فِي إِثْرِ الْقُرُونِ عَلَى تَرْكِ النَّاسِ لِمُدَارَسَةِ الْكَلَامِ الْبَلِيغِ مِنْهَا، وَاسْتِظْهَارِهِ وَاسْتِعْمَالِهِ، وَاقْتِصَارِ مَدَارِسِ الْأَمْصَارِ عَلَى قِرَاءَةِ كُتُبِ النَّحْوِ وَالصَّرْفِ وَالْمَعَانِي وَالْبَيَانِ وَالْبَدِيعِ، وَهِيَ أَدْنَى مَا وُضِعَ فِي فُنُونِهَا فَصَاحَةً وَبَيَانًا، وَأَشَدُّهَا عُجْمَةً وَتَعْقِيدًا، وَهِيَ الْكُتُبُ الَّتِي اقْتَصَرَ مُؤَلِّفُوهَا عَلَى
سَرْدِ الْقَوَاعِدِ بِعِبَارَةٍ فَنِّيَّةٍ دَقِيقَةٍ بَعِيدَةٍ عَنْ فَصَاحَةِ أَهْلِ اللُّغَةِ، وَعَنْ بَيَانِ الْمُتَقَدِّمِينَ الْوَاضِعِينَ لِهَذِهِ الْفُنُونِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ إِلَى الْقَرْنِ الْخَامِسِ، كَالْخَلِيلِ وَسِيبَوَيْهِ وَأَبِي عَلِيٍّ وَابْنِ جِنِّيٍّ وَعَبْدِ الْقَاهِرِ الْجُرْجَانِيِّ، حَتَّى صَارَ أَوْسَعُ النَّاسِ عِلْمًا بِهَذِهِ الْفُنُونِ أَجْهَلَ قُرَّاءِ هَذِهِ اللُّغَةِ بِهَا، وَأَعْجَزَهُمْ عَنْ فَهْمِ الْكَلَامِ الْبَلِيغِ مِنْهَا، بَلْهُ الْإِتْيَانُ بِمِثْلِهِ، فَمَنْ يَقْرَأْ مِنْ كُتُبِ الْبَلَاغَةِ إِلَّا مِثْلَ السَّمَرْقَنْدِيَّةِ وَشَرْحَيْ (جَوْهَرِ الْفُنُونِ) وَ (عُقُودِ الْجُمَانِ) فَشَرْحَيِ التَّلْخِيصِ لِلسَّعْدِ التَّفْتَازَانِيِّ وَحَوَاشِيهَمَا لَا يُرْجَى أَنْ يَذُوقَ لِلْبَلَاغَةِ طَعْمًا، أَوْ يُقِيمَ لِلْبَيَانِ وَزْنًا، فَأَنَّى يَهْتَدِي إِلَى الْإِعْجَازِ بِهِمَا سَبِيلًا، أَوْ يَنْصِبَ عَلَيْهِ دَلِيلًا؟ وَإِنَّمَا يُرْجَى هَذَا الذَّوْقُ لِمَنْ يَقْرَأُ أَسْرَارَ الْبَلَاغَةِ وَدَلَائِلَ الْإِعْجَازِ لِلْإِمَامِ عَبْدِ الْقَاهِرِ، فَإِنَّهُمَا هُمَا الْكِتَابَانِ اللَّذَانِ يُحِيلَانِكَ فِي قَوَانِينِ الْبَلَاغَةِ عَلَى وِجْدَانِكَ، وَمَا تَجِدُ مِنْ أَثَرِ الْكَلَامِ فِي قَلْبِكَ وَجَنَانِكَ، فَتَرَى أَنَّ عِلْمَيِ الْبَيَانِ شُعْبَةٌ مِنْ عِلْمِ النَّفْسِ، وَأَنَّ قَوَاعِدَهُمَا يَشْهَدُ لَهَا الشُّعُورُ وَالْحِسُّ، وَلَكِنْ لَا بُدَّ مَعَ ذَلِكَ مِنْ قِرَاءَةِ الْكَثِيرِ مِنْ مَنْظُومِ الْكَلَامِ الْبَلِيغِ وَمَنْثُورِهِ، وَاسْتِظْهَارِ بَعْضِهِ مَعَ فَهْمِهِ، كَمَا قَرَّرَ حَكِيمُنَا ابْنُ خَلْدُونَ فِي الْكَلَامِ عَلَى عِلْمِ الْبَيَانِ مِنْ مُقَدِّمَتِهِ.
فَهَذَا هُوَ الْأَصْلُ فِي تَحْصِيلِ مَلَكَةِ الْبَلَاغَةِ فَهْمًا وَأَدَاءً، وَالْقَوَانِينُ الْمَوْضُوعَةُ لَهَا مُسْتَنْبَطَةٌ مِنَ الْكَلَامِ الْبَلِيغِ وَلَيْسَ هُوَ مُسْتَنْبَطًا مِنْهَا، وَقَدْ عُكِسَتِ الْقَضِيَّةُ مُنْذُ الْقُرُونِ الْوُسْطَى حَتَّى سَاغَ لِمُسْتَقِلِّ الْفِكْرِ أَنْ يَقُولَ فِي الْكُتُبِ الَّتِي أَشَرْنَا إِلَيْهَا وَهِيَ الَّتِي تُقْرَأُ فِي مَدْرَسَةِ الْجَامِعِ الْأَزْهَرِ وَأَمْثَالِهَا: إِنَّ قَوَاعِدَهَا تَقْلِيدِيَّةٌ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُعْلَمَ بِهَا تَفَاضُلُ الْكَلَامِ، إِذْ يُمْكِنُ حَمْلُ كُلِّ كَلَامٍ عَلَيْهَا، وَلِذَلِكَ كَانَ أَكْثَرُ النَّاسِ مُزَاوَلَةً لَهَا أَضْعَفَهُمْ بَيَانًا، وَأَشَدَّهُمْ عِيًّا وَفَهَاهَةً.
فَمَعْرِفَةُ مَكَانَةِ الْقُرْآنِ مِنَ الْبَلَاغَةِ لَا يَحْكُمُهَا مِنَ الْجِهَةِ الْفَنِّيَّةِ وَالذَّوْقِيَّةِ إِلَّا مَنْ أُوتِيَ حَظًّا عَظِيمًا مِنْ مُخْتَارِ كَلَامِ الْبُلَغَاءِ الْمَنْظُومِ وَالْمَنْثُورِ، مِنْ مُرْسَلٍ وَمَسْجُوعٍ، حَتَّى صَارَ مَلَكَةً لَهُ وَذَوْقًا، وَاسْتَعَانَ عَلَى فَهْمِ فَلْسَفَتِهِ بِمِثْلِ كِتَابَيْ عَبْدِ الْقَاهِرِ، وَالصِّنَاعَتَيْنِ لِأَبِي هِلَالٍ الْعَسْكَرِيِّ، وَالْخَصَائِصِ لِابْنِ جِنِّيٍّ، وَأَسَاسِ الْبَلَاغَةِ لِلزَّمَخْشَرِيِّ، وَمُغْنِي اللَّبِيبِ لِابْنِ هِشَامٍ، هَذِهِ مُقَدِّمَاتُ الْبَلَاغَةِ وَنَتِيجَتُهَا الْمَلَكَةُ وَلَهَا غَايَةٌ يُمْكِنُ الْعِلْمُ بِهَا مِنَ التَّارِيخِ، وَهِيَ مَا كَانَ لِلْقُرْآنِ مِنَ التَّأْثِيرِ فِي الْأُمَّةِ الْعَرَبِيَّةِ، ثُمَّ فِيمَنْ حَذَقَهَا مِنَ الْأَعَاجِمِ أَيْضًا.
الْحَدُّ الصَّحِيحُ لِلْبَلَاغَةِ فِي الْكَلَامِ هِيَ أَنْ يَبْلُغَ بِهِ الْمُتَكَلِّمُ مَا يُرِيدُ مِنْ نَفْسِ السَّامِعِ بِإِصَابَةِ
مَوْضِعِ الْإِقْنَاعِ مِنَ الْعَقْلِ، وَالْوِجْدَانِ مِنَ النَّفْسِ (وَقَدْ يُعَبَّرُ عَنْهُمَا بِالْقَلْبِ) وَلَمْ يُعْرَفْ فِي تَارِيخِ الْبَشَرِ أَنَّ كَلَامًا قَارَبَ الْقُرْآنَ فِي قُوَّةِ تَأْثِيرِهِ فِي الْعُقُولِ وَالْقُلُوبِ، فَهُوَ الَّذِي قَلَبَ
طِبَاعَ الْأُمَّةِ الْعَرَبِيَّةِ وَحَوَّلَهَا عَنْ عَقَائِدِهَا وَتَقَالِيدِهَا، وَصَرَفَهَا عَنْ عَادَاتِهَا وَعَدَاوَاتِهَا، وَصَدَفَ بِهَا عَنْ أَثَرَتِهَا وَثَارَاتِهَا، وَبَدَّلَهَا بِأُمِّيَّتِهَا حِكْمَةً وَعِلْمًا، وَبِجَاهِلِيَّتِهَا أَدَبًا رَائِعًا وَحِلْمًا، وَأَلَّفَ مِنْ قَبَائِلِهَا الْمُتَفَرِّقَةِ وَاحِدَةً سَادَتِ الْعَالَمَ بِعَقَائِدِهَا وَفَضَائِلِهَا وَعَدْلِهَا وَحَضَارَتِهَا، وَعُلُومِهَا وَفُنُونِهَا.
اهْتَدَى إِلَى هَذَا النَّوْعِ مِنْ إِعْجَازِ بَعْضِ حُكَمَاءِ أُورُبَّةَ مُسْتَنْبِطًا لَهُ مِنْ هَذِهِ الْغَايَةِ التَّارِيخِيَّةِ، وَبَيَّنَهُ فِي الرَّدِّ عَلَى مَنْ زَعَمَ مِنْ دُعَاةِ النَّصْرَانِيَّةِ أَنَّ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم لَمْ يُؤْتَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى مِنَ الْآيَاتِ الْمُعْجِزَةِ، فَقَالَ مَا مَعْنَاهُ: إِنْ مُحَمَّدًا كَانَ يَتْلُو الْقُرْآنَ مُوَلَّهًا مُدَلَّهًا، خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا، فَيَفْعَلُ فِي جَذْبِ الْقُلُوبِ إِلَى الْإِيمَانِ بِهِ فَوْقَ مَا كَانَتْ تَفْعَلُ جَمِيعُ آيَاتِ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلِهِ.
وَقَدْ رَأَيْنَا وَرُوِّيْنَا عَنْ بَعْضِ أُدَبَاءِ هَذِهِ اللُّغَةِ مِنْ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُمْ يَذْهَبُونَ فِي بَعْضِ لَيَالِي رَمَضَانَ إِلَى بَعْضِ بُيُوتِ مَعَارِفِهِمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لِيَسْمَعُوا الْقُرْآنَ وَيُمَتِّعُوا ذَوْقَهُمُ الْعَرَبِيَّ وَشُعُورَهُمُ الرُّوحَانِيَّ الْأَدَبِيَّ بِسَمَاعِ آيَاتِهِ الْمُعْجِزَةِ، وَقَدْ شَهِدَ لَهُ أَهْلُ الْعِلْمِ وَالْإِنْصَافِ مِنْهُمْ بِهَذَا الْإِعْجَازِ فِي النَّظْمِ وَالْأُسْلُوبِ، وَالْبَلَاغَةُ يَغُوصُ تَأْثِيرُهَا فِي أَعْمَاقِ الْقُلُوبِ، وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يَفْقَهُوا دَلَالَةَ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللهِ عز وجل، وَسَنُبَيِّنُهُ فِي آخَرِ هَذَا الْبَحْثِ.
وَلَوْ شِئْتُ أَنْ أُورِدَ الشَّوَاهِدَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، لَخَرَجْتُ عَنِ الِاخْتِصَارِ الَّذِي الْتَزَمْتُهُ فِي هَذَا الْفَصْلِ، وَإِنَّكَ لِتَجِدُ مِنَ التَّنْبِيهِ عَلَى عَجَائِبِهَا فِي كُلِّ جُزْءٍ مِنْ هَذَا التَّفْسِيرِ مَا لَا تَجِدُهُ فِي غَيْرِهِ، حَتَّى الدِّقَّةُ فِي مَعَانِي مُفْرَدَاتِهِ، وَتَحْدِيدُ الْحَقَائِقِ فِي جُمَلِهِ، وَمَزْجُ الْمَعَانِي الْكَثِيرَةِ فِي أُسْلُوبِهِ، وَلُطْفُ التَّنَاسُبِ بَيْنَ آيَاتِهِ وَبَيْنَ سُوَرِهِ، وَمِنْ أَعْجَبِهَا ضُرُوبُ إِيجَازِهِ الَّتِي انْفَرَدَ بِهَا، وَكَثْرَةُ تَكْرَارِهِ لِلْمَعْنَى الْوَاحِدِ بِعِبَارَاتٍ لَا يَمَلَّهَا قَارِئٌ وَلَا سَامِعٌ، وَقَدْ نَبَّهْنَا فِي هَذَا التَّفْسِيرِ عَلَى الْكَثِيرِ مِنْهَا. وَمِنَ الْعَجَبِ غَفْلَةُ أَكْثَرِ طُلَّابِ الْبَلَاغَةِ عَنْهَا.
إِعْجَازُ الْقُرْآنِ بِمَا فِيهِ مِنْ عِلْمِ الْغَيْبِ:
(الْوَجْهُ الثَّالِثُ) : اشْتِمَالُهُ عَلَى الْإِخْبَارِ بِالْغَيْبِ مِنْ مَاضٍ، كَقَصَصِ الرُّسُلِ مَعَ أَقْوَامِهِمْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَعْضُ الْكَلَامِ فِيهِ، وَمِنْ حَاضِرٍ فِي عَصْرِ تَنْزِيلِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:(الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللهِ)(30: 1 - 5) الْآيَةَ، وَفِيهَا خَبَرَانِ عَنِ الْغَيْبِ ظَهَرَ صِدْقُهُمَا بَعْدَ بِضْعِ سِنِينَ مِنْ نُزُولِ الْآيَةِ، وَكَانَ الصِّدِّيقُ رضي الله عنه رَاهَنَ بَعْضَ الْمُشْرِكِينَ عَلَى صِدْقِ الْخَبَرِ فَرَبِحَ الرِّهَانَ، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى:(سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ)(48: 15)
الْآيَةَ، وَقَوْلِهِ:(قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ)(48: 16) وَقَوْلِهِ: (لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ)(48: 27) وَهَذِهِ الْآيَاتُ الثَّلَاثُ فِي سُورَةِ الْفَتْحِ وَفِي غَيْرِهَا أَيْضًا، وَفِي سُورَةِ التَّوْبَةِ أَمْثَالُهَا مِنَ الْأَخْبَارِ عَمَّا فِي قُلُوبِ الْمُنَافِقِينَ وَعَمَّا سَيَقُولُونَ فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ، وَمِنْ أَظْهَرِ هَذِهِ الْأَخْبَارِ وَعْدُهُ تَعَالَى بِحِفْظِ الْقُرْآنِ مِنَ النِّسْيَانِ وَالتَّغْيِيرِ وَالتَّبْدِيلِ فِي قَوْلِهِ:(إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)(15: 9) وَوَعَدُهُ بِحِفْظِ الرَّسُولِ فِي قَوْلِهِ: (وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ)(5: 67) دَعْ مَا تَكَرَّرَ فِي عِدَّةِ سُوَرٍ مِنْ وَعْدِ اللهِ لِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ، وَمِنْ وَعِيدِهِ لِلْكَافِرِينَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:(وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا)(24: 55) وَكَانَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ يَقُولُ: إِنَّ اللهَ تَعَالَى لَمَّا يُنْجِزْ لَنَا وَعْدَهُ هَذَا كُلَّهُ، بَلْ بَعْضَهُ، وَلَا بُدَّ مِنْ إِتْمَامِهِ بِسِيَادَةِ الْإِسْلَامِ فِي الْعَالَمِ كُلِّهِ حَتَّى أُورُبَّةَ الْمُعَادِيَةَ لَهُ. وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:(قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ)(6: 65) الْآيَةَ، أَنَّهُ قَالَ " إِنَّهَا نَبَأٌ غَيْبِيٌّ عَمَّنْ يَأْتِي بَعْدُ " بَلْ وَرَدَ هَذَا الْمَعْنَى فِي حَدِيثٍ مَرْفُوعٍ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَيْضًا، وَتَجِدُ بَيَانَ ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِهَا مِنْ سُورَةِ الْأَنْعَامِ، وَمِنْهُ ظُهُورُ مِصْدَاقِهَا فِي حَرْبِ الْأُمَمِ الْكُبْرَى الْأَخِيرَةِ.
فَهَذِهِ الْأَخْبَارُ الْكَثِيرَةُ بِالْغَيْبِ دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى نُبُوَّةِ نَبِيِّنَا وَكَوْنِ الْقُرْآنِ مِنْ
عِنْدِ اللهِ تَعَالَى، إِذْ لَا يَعْلَمُ الْغَيْبَ غَيْرُهُ سُبْحَانَهُ، وَلَا يُمْكِنُ مُعَارَضَتُهَا بِمَا يَصِحُّ بِالْمُصَادَفَةِ أَوِ الْقَرَائِنِ أَحْيَانًا مِنْ أَقْوَالِ الْكُهَّانِ وَالْعَرَّافِينَ وَالْمُنَجِّمِينَ، فَإِنَّ كَذِبَ هَؤُلَاءِ أَكْثَرُ مِنْ صِدْقِهِمْ - إِنْ صَحَّ تَسْمِيَةُ مَا يَتَّفِقُ لَهُمْ صِدْقًا مِنْهُمْ - وَلَكِنَّ النَّاسَ لَا يُحْصُونَ عَلَيْهِمْ أَقْوَالَهُمْ وَلَا يَبْحَثُونَ عَنْ حِيَلِهِمْ وَتَلْبِيسَاتِهِمْ فِيهَا، وَإِنَّمَا يَذْكُرُونَ بَعْضَ ذَلِكَ إِذَا اقْتَضَتْهُ الْحَالُ، كَتَشْنِيعِ أَبِي تَمَّامٍ عَلَى الْمُنَجِّمِينَ فِي زَعْمِهِمْ أَنَّ عَمُورِيَةَ لَا تُفْتَحُ إِلَّا عِنْدَ نُضْجِ التِّينِ وَالْعِنَبِ، فِي قَصِيدَتِهِ الْمَشْهُورَةِ الَّتِي مَطْلَعُهَا:
السَّيْفُ أَصْدَقُ أَنْبَاءً مِنَ الْكُتُبِ
وَيَقُولُ فِيهَا:
سَبْعُونَ أَلْفًا كَآسَادِ الشَّرَى نَضِجَتْ
…
جُلُودُهُمْ قَبْلَ نُضْجِ التِّينِ وَالْعِنَبِ
وَقَدْ قُتِلَ فِي عَصْرِنَا وَزِيرٌ مِنْ وُزَرَاءِ مِصْرَ، فَوَجَدَ النَّاسُ فِي تَقْوِيمِ (نَتِيجَةِ) تِلْكَ السَّنَةِ لِأَحَدِ الْمُنَجِّمِينَ نَبَأً عَنْ قَتْلِهِ، وَمِنْ شَأْنِ هَذَا التَّقْوِيمِ أَنْ يَكُونَ طُبِعَ قُبَيْلَ دُخُولِ السَّنَةِ الَّتِي قُتِلَ فِيهَا، وَقَدْ بَحَثَ بَعْضُ الْمُدَقِّقِينَ فِي ذَلِكَ، فَتَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ صَاحِبَ هَذَا التَّقْوِيمِ قَدْ طَبَعَ الْوَرَقَةَ الَّتِي ذُكِرَ فِيهَا هَذَا النَّبَأُ بَعْدَ وُقُوعِ الْقَتْلِ، وَوَضَعَهَا فِيهِ مَوْضِعَ وَرَقَةٍ أُخْرَى أَخْرَجَهَا مِنْهُ فَأَحْرَقَهَا،
وَلَكِنْ كَانَ قَدْ بِيعَ بَعْضُ النُّسَخِ مِنَ التَّقْوِيمِ فَوَجَدَ الْمُدَقِّقُ الْمُشَارُ إِلَيْهِ بَعْضَهَا، عَلَى أَنَّ دَأْبَ هَؤُلَاءِ الْمُنَجِّمِينَ أَنْ يُعَبِّرُوا عَمَّا يَتَوَقَّعُونَ مِنْ أَنْبَاءِ الْمُسْتَقْبَلِ بِآرَائِهِمْ وَبِقَرَائِنِ الْأَحْوَالِ، وَأَخْبَارِ الصُّحُفِ الدَّوْرِيَّةِ بِرُمُوزٍ وَكِنَايَاتٍ وَإِشَارَاتٍ يُفَسِّرُونَ بِهَا الْوَقَائِعَ بِأَهْوَائِهِمْ، فَإِنْ لَمْ يَجِدُوهَا تَحْتَمِلُ شَيْئًا مِنْهَا كَتَمُوهَا، وَتَعَذَّرَ عَلَى غَيْرِهِمْ تَكْذِيبُهُمْ فِيهَا، وَأَمَّا مَا يَعْرِفُهُ الْفَلَكِيُّونَ بِالْحِسَابِ كَالْخُسُوفِ وَالْكُسُوفِ وَمَطَالِعِ الْكَوَاكِبِ وَمَغَارِبِهَا، فَلَيْسَ مِنَ التَّنْجِيمِ وَلَا مِنْ عِلْمِ الْغَيْبِ فِي شَيْءٍ.
إِعْجَازُ الْقُرْآنِ بِسَلَامَتِهِ مِنَ الِاخْتِلَافِ:
(الْوَجْهُ الرَّابِعُ) : سَلَامَتُهُ عَلَى طُولِهِ مِنَ التَّعَارُضِ وَالتَّنَاقُضِ وَالِاخْتِلَافِ، خِلَافًا لِجَمِيعِ كَلَامِ الْبَشَرِ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:(وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا)(4: 82) وَإِنَّنَا نَجِدُ كِبَارَ الْعُلَمَاءِ فِي كُلِّ عَصْرٍ يُصَنِّفُونَ الْكِتَابَ فَيُسَوِّدُونَ، ثُمَّ يُصَحِّحُونَ وَيُبَيِّضُونَ، ثُمَّ يَطْبَعُونَ وَيَنْشُرُونَ، ثُمَّ يَظْهَرُ لَهُمْ وَلِغَيْرِهِمْ كَثِيرٌ مِنَ التَّعَارُضِ وَالِاخْتِلَافِ وَالْأَغْلَاطِ اللَّفْظِيَّةِ وَالْمَعْنَوِيَّةِ وَلَا سِيَّمَا إِذَا طَالَ الزَّمَانُ، وَهَذَا أَمْرٌ مَشْهُورٌ فِي جَمِيعِ الْأُمَمِ.
(فَإِنْ قِيلَ) : إِنَّ غَيْرَ الْمُؤْمِنِينَ بِالْقُرْآنِ قَدِ اسْتَخْرَجُوا مِنْهُ بَعْضَ الِاخْتِلَافِ وَالتَّعَارُضِ، فَاضْطُرَّ عُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ إِلَى الْجَوَابِ عَنْهَا يَزْعُمُونَ أَنَّهُ دَفَعَ الْإِيرَادَ، وَأَظْهَرَ بُطْلَانَ الِانْتِقَادِ، وَأَنَّ الْمُسْلِمَ يَقْبَلُ ذَلِكَ مِنْهُمْ تَقْلِيدًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي نَفْسِهِ سَدِيدًا (قُلْتُ) : إِذَا كَانَتْ عَيْنُ الرِّضَى مُتَّهَمَةً فَعَيْنُ السُّخْطِ أَوْلَى بِالتُّهْمَةِ، وَإِنَّنَا إِذَا لَمْ نَلْتَفِتْ إِلَى كَلَامِ أَعْدَاءِ الْقُرْآنِ الَّذِينَ يَخْتَرِعُونَ التُّهَمَ أَوْ يُزَيِّنُونَهَا بِخِلَابَةِ الْقَوْلِ - وَلَا إِلَى الْمُقَلِّدِينَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ - وَعَرَضْنَا مَا ذُكِرَ مِنْ ظَوَاهِرِ الِاخْتِلَافِ عَلَى فَرِيقِ الْمُسْتَدِلِّينَ الْمُسْتَقِلِّينَ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ نَرَى أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ تَعَارُضٌ حَقِيقِيٌّ مَعْنَوِيٌّ يُعَدُّ مَطْعَنًا صَحِيحًا فِيهِ، وَيَرَى النَّاظِرُ فِي تَفْسِيرِنَا هَذَا وَفِي مِجَلَّتِنَا (الْمَنَارِ) بَيَانَ كُلِّ مَا عَلِمْنَاهُ مِنْ ذَلِكَ مَعَ الْجَوَابِ الْمَعْقُولِ عَنْهُ، وَلَكِنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنَ الْإِعْجَازِ إِنَّمَا يَظْهَرُ فِي جُمْلَةِ الْقُرْآنِ فِي السُّوَرِ الطَّوِيلَةِ مِنْهُ لَا فِي كُلِّ سُورَةٍ، فَإِنَّ سَلَامَةَ السُّورَةِ الْقَصِيرَةِ مِنْ ذَلِكَ لَا يُعَدُّ أَمْرًا مُعْجِزًا يُتَحَدَّى بِهِ.
إِعْجَازُ الْقُرْآنِ بِالْعُلُومِ الدِّينِيَّةِ وَالتَّشْرِيعِ:
(الْوَجْهُ الْخَامِسُ) : اشْتِمَالُهُ عَلَى الْعُلُومِ الْإِلَهِيَّةِ، وَأُصُولِ الْعَقَائِدِ الدِّينِيَّةِ، وَأَحْكَامِ الْعِبَادَاتِ وَقَوَانِينِ الْفَضَائِلِ وَالْآدَابِ وَقَوَاعِدِ التَّشْرِيعِ السِّيَاسِيِّ وَالْمَدَنِيِّ وَالِاجْتِمَاعِيِّ الْمُوَافِقَةِ لِكُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ، وَبِذَلِكَ يَفْضُلُ كُلَّ مَا سَبَقَهُ مِنَ الْكُتُبِ السَّمَاوِيَّةِ، وَمِنَ الشَّرَائِعِ الْوَضْعِيَّةِ، وَمِنَ الْآدَابِ الْفَلْسَفِيَّةِ، كَمَا يَشْهَدُ بِذَلِكَ أَهْلُ الْعِلْمِ الْمُنْصِفُونَ مِنْ جَمِيعِ الْأُمَمِ الشَّرْقِيَّةِ وَالْغَرْبِيَّةِ، مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِكَوْنِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ تَعَالَى أَنْزَلَهُ عَلَى رَسُولِهِ الْأُمِّيِّ، وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِذَلِكَ، حَتَّى
كَبَرَاءِ السِّيَاسِيِّينَ مِنْ خُصُومِ الدُّوَلِ الْإِسْلَامِيَّةِ كَلُورْدَ كُرُومَرَ عَمِيدِ الدَّوْلَةِ الْبِرِيطَانِيَّةِ بِمِصْرَ، فَإِنَّهُ شَهِدَ فِي تَقْرِيرِهِ السَّنَوِيِّ الْأَخِيرِ عَنْ مِصْرَ بِنَجَاحِ الْإِسْلَامِ الْبَاهِرِ فِي التَّشْرِيعِ الدِّينِيِّ دُونَ التَّشْرِيعِ الِاجْتِمَاعِيِّ وَالسِّيَاسِيِّ، وَعَلَّلَ الْأَخِيرَ بِأَنَّ مَا وُضِعَ مُنْذُ أَكْثَرِ مِنْ أَلْفِ سَنَةٍ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُوَافِقَ مَصَالِحَ جَمِيعِ النَّاسِ الْآنَ وَفِي كُلِّ آنٍ، فَكَتَبْتُ إِلَيْهِ يَوْمَئِذٍ كِتَابًا سَأَلْتُهُ فِيهِ هَلْ يَعْنِي بِأَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ، أَمِ الْفِقْهَ الَّذِي وَضَعَهُ الْعُلَمَاءُ وَمَزَجُوا فِيهِ آرَاءَهُمْ بِمَا يَأْخُذُونَهُ عَنْهُمَا وَخَالَفَ فِيهِ بَعْضُهُمْ بَعْضًا؟ . وَأَنَّهُ إِنْ كَانَ يَعْنِي الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ فَأَنَا مُسْتَعِدٌّ لِإِظْهَارِ خَطَئِهِ لَهُ، فَكَتَبَ إِلَيَّ كِتَابًا قَالَ فِيهِ: " إِنَّنِي عَنَيْتُ بِمَا كَتَبْتُ مَجْمُوعَ الْقَوَانِينِ
الْإِسْلَامِيَّةِ الَّتِي تُسَمُّونَهَا الْفِقْهَ؛ لِأَنَّهَا هِيَ الَّتِي تَجْرِي عَلَيْهَا الْأَحْكَامُ، وَلَمْ أَعْنِ الدِّينَ الْإِسْلَامِيَّ نَفْسَهُ " إِلَخْ.
وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا الْوَجْهَ مَنْ أَظْهَرِ وُجُوهِ الْإِعْجَازِ، فَإِنَّ عُلُومَ الْعَقَائِدِ الْإِلَهِيَّةِ وَالْغَيْبِيَّةِ وَالْآدَابِ وَالتَّشْرِيعِ الدِّينِيِّ وَالْمَدَنِيِّ وَالسِّيَاسِيِّ هِيَ أَعْلَى الْعُلُومِ، وَقَلَّمَا يَنْبُغُ فِيهَا مِنَ الَّذِينَ يَنْقَطِعُونَ لِدِرَاسَتِهَا السِّنِينَ الطِّوَالَ إِلَّا الْأَفْرَادُ الْقَلِيلُونَ، فَكَيْفَ يَسْتَطِيعُ رَجُلٌ أُمِّيٌّ لَمْ يَقْرَأْ وَلَمْ يَكْتُبْ وَلَا نَشَأَ فِي بَلَدِ عِلْمٍ وَتَشْرِيعٍ أَنْ يَأْتِيَ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْهَا تَحْقِيقًا وَكَمَالًا، وَيُؤَيِّدَهُ بِالْحُجَجِ وَالْبَرَاهِينِ بَعْدَ أَنْ قَضَى ثُلْثَيْ عُمْرِهِ لَا يَعْرِفُ شَيْئًا مِنْهَا، وَلَمْ يَنْطِقْ بِقَاعِدَةٍ وَلَا أَصْلٍ مِنْ أُصُولِهَا، وَلَا حَكَمَ بِفَرْعٍ مِنْ فُرُوعِهَا إِلَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ وَحْيًا مِنَ اللهِ تَعَالَى؟ .
إِعْجَازُ الْقُرْآنِ بِعَجْزِ الزَّمَانِ عَنْ إِبْطَالِ شَيْءٍ مِنْهُ:
(الْوَجْهُ السَّادِسُ) : أَنَّ الْقُرْآنَ يَشْتَمِلُ عَلَى بَيَانِ كَثِيرٍ مِنْ آيَاتِ اللهِ تَعَالَى فِي جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْمَخْلُوقَاتِ مِنَ الْجَمَادِ وَالنَّبَاتِ وَالْحَيَوَانِ وَالْإِنْسَانِ، وَيَصِفُ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَشَمْسَهَا وَقَمَرَهَا وَدَرَارِيهَا وَنُجُومَهَا وَالْأَرْضَ وَالْهَوَاءَ وَالسَّحَابَ وَالْمَاءَ مِنْ بِحَارٍ وَأَنْهَارٍ وَعُيُونٍ وَيَنَابِيعَ، وَفِيهِ تَفْصِيلٌ لِكَثِيرٍ مِنْ أَخْبَارِ الْأُمَمِ، وَبَيَانٌ لِطَرِيقِ التَّشْرِيعِ السَّوِيِّ لِلْأُمَمِ، وَقَدْ حَفِظَ ذَلِكَ كُلَّهُ فِيهِ بِكَلِمِهِ وَحُرُوفِهِ مُنْذُ ثَلَاثَةَ عَشَرَ قَرْنًا وَنَيِّفٍ، ثُمَّ عَجَزَتْ هَذِهِ الْقُرُونُ الَّتِي ارْتَقَتْ فِيهَا جَمِيعُ الْعُلُومِ وَالْفُنُونِ أَنْ تَنْقُضَ بِنَاءَ آيَةٍ مِنْ آيَاتِهِ، أَوْ تُبْطِلَ حُكْمًا مِنْ أَحْكَامِهِ، أَوْ تُكَذِّبَ خَبَرًا مِنْ أَخْبَارِهِ، وَهِيَ الَّتِي جَعَلَتْ فَلْسَفَةَ الْيُونَانِ دَكًّا، وَنَسَخَتْ شَرَائِعَ الْأُمَمِ نَسْخًا، وَتَرَكَتْ سَائِرَ عُلُومِ الْأَوَائِلِ قَاعًا صَفْصَفًا، وَوَضَعَتْ لِأَخْبَارِ التَّارِيخِ قَوَاعِدَ فَلْسَفِيَّةً، وَرَجَعَتْ فِي تَحْقِيقِهَا إِلَى مَا عَثَرَ عَلَيْهِ الْمُنَقِّبُونَ مِنَ الْآثَارِ الْعَادِيَّةِ، وَحَكَّمَتْ فِيهَا أُصُولَ الْعُمْرَانِ، وَمَا يُسَمُّونَهُ سُنَنَ الِاجْتِمَاعِ، بِحَيْثُ لَمْ تُبْقِ لِعُلَمَاءِ الْأَوَائِلِ كِتَابًا غَيْرَ مُدَعْثَرِ الْأَعْضَادِ سَاقِطِ الْعِمَادِ.
وَهَذَا النَّوْعُ مِنْ أَنْوَاعِ الْإِعْجَازِ غَيْرُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ سَلَامَتِهِ مِنَ التَّعَارُضِ وَالِاخْتِلَافِ، فَتِلْكَ فِي الْمَاضِي، وَهَذِهِ فِي الْحَاضِرِ وَالْمُسْتَقْبَلِ، ذَاكَ الِاخْتِلَافُ يَقَعُ مِنَ النَّاسِ بِقِلَّةِ الْعِرْفَانِ،
وَبِضِعْفِ الْبَيَانِ، أَوْ بِمَا يَطْرَأُ عَلَى صَاحِبِهِ مِنَ الذُّهُولِ وَالنِّسْيَانِ، يُرِيدُ بَيَانَ شَيْءٍ فَيَخُونُهُ قَلَمُهُ وَلِسَانُهُ، وَيُعْوِزُهُ أَنْ يُحِيطَ بِأَطْرَافِهِ، وَأَنْ يُجَلِّيَهُ تَمَامَ التَّجَلِّي لِقَارِئِ كَلَامِهِ أَوْ سَامِعِهِ
ثُمَّ يَقُولُ فِيهِ قَوْلًا آخَرَ عَلَى عِلْمٍ فَتُوَاتِيهِ الْعِبَارَةُ فَيُؤَدِّي الْمُرَادَ، فَيَخْتَلِفُ مَا أَبْدَأَ مَعَ مَا أَعَادَ، أَوْ يَقُولُ الْقَوْلَ ثُمَّ يَنْسَاهُ، فَيَأْتِي بِمَا يُخَالِفُهُ فِي مَعْنَاهُ، أَوْ يَتَكَلَّمُ بِمَا لَا يَعْلَمُ، فَيَهْرِفُ بِمَا لَا يَعْرِفُ، وَذَلِكَ عَيْبٌ فِي الْكَلَامِ وَضَعْفٌ فِي الْمُتَكَلِّمِ هُوَ مِنْ شَأْنِ الْبَشَرِ.
إِنَّ مَا يَأْخُذُهُ النَّاسُ مِنَ الْمَسَائِلِ الْعِلْمِيَّةِ وَالْفَلْسَفِيَّةِ بِالتَّسْلِيمِ فِي زَمَانِهِمْ ثُمَّ يَظْهَرُ مَا يُبْطِلُ تِلْكَ الْمُسَلَّمَاتِ، وَيَنْقُصُ مَا بُنِيَتْ عَلَيْهِ مِنَ النَّظَرِيَّاتِ، لَا يُعَدُّ عَيْبًا فِي قَائِلِهِ، وَلَا ضَعْفًا فِي بَيَانِهِ، وَإِنْ كَانَ مَوْضُوعُهُ بَيَانَ تِلْكَ الْمَسَائِلِ نَفْسِهَا؛ لِأَنَّهُ مِمَّا لَا يَسْلَمُ مِنْهُ الْبَشَرُ. وَأَمَّا مَنْ يَتَكَلَّمُ فِي بَعْضِ مَسَائِلِ الْمَوْجُودَاتِ لِبَيَانِ الْعِبْرَةِ فِيهَا، أَوِ الْحَثِّ عَلَى الِاسْتِفَادَةِ مِنْهَا، لَا لِبَيَانِ حَقِيقَتِهَا فِي نَفْسِهَا، أَوْ صِفَاتِهَا الْفَنِّيَّةِ عِنْدَ أَهْلِ فَنِّهَا، فَهُوَ لَا يُكَلَّفُ أَنْ يُبَيِّنَ تِلْكَ الْحَقِيقَةَ أَوْ تِلْكَ الصِّفَاتِ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِغَرَضِهِ مِنَ الْكَلَامِ بِالِاصْطِلَاحَاتِ الْعِلْمِيَّةِ وَالْفَنِّيَّةِ، وَقَدْ يُنْتَقَدُ مِنْهُ هَذَا إِذَا كَانَ مِمَّا يَصْرِفُ السَّامِعَ عَنْ مُرَادِهِ مِنْهُ، أَوْ يُوجِبُ نَقْصًا فِي اسْتِفَادَتِهِ مِنْهُ، كَمَا هُوَ شَأْنُ الَّذِينَ يَعِظُونَ دَهْمَاءَ النَّاسِ مِنْ جَمِيعِ الطَّبَقَاتِ وَيَضْرِبُونَ لَهُمُ الْأَمْثَالَ بِآيَاتِ اللهِ تَعَالَى وَنِعَمِهِ فِيمَا سَخَّرَ لَهُمْ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ، فَإِذَا كَانَ هَذَا النَّوْعُ مِنَ الْكَلَامِ وَالَّذِي لَا يُعَابُ فِيهِ مُخَالَفَتُهُ لِلْمَسَائِلِ الْفَنِّيَّةِ - وَقَدْ يُعَابُ فِيهِ تَكَلُّفُ مُوَافَقَتِهَا - جَاءَ مَعَ ذَلِكَ إِمَّا مُوَافِقًا وَإِمَّا غَيْرَ مُخَالِفٍ لِمَعَارِفِ أَهْلِ الْعَصْرِ الَّذِي خُوطِبَ أَهْلُهُ بِهِ، ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّ بَعْضَ هَذِهِ الْمَعَارِفِ كَانَتْ جَهْلًا، وَظَهَرَ أَنَّهُ مُوَافِقٌ لِمَا تَجَدَّدَ مِنَ الْعِلْمِ الْحَقِّ وَالتَّشْرِيعِ الْعَدْلِ أَوْ غَيْرُ مُخَالِفٍ لَهُ، فَلَا شَكَّ فِي أَنَّ هَذِهِ تُعَدُّ لَهُ مَزِيَّةٌ خَارِقَةٌ لِلْمُعْتَادِ فِي الْبَشَرِ، وَقَدْ ثَبَتَ هَذَا الْقُرْآنُ وَحْدَهُ، فَهُوَ كِتَابٌ مُشْتَمِلٌ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ أُمُورِ الْعَالَمِ الْكَوْنِيَّةِ وَالِاجْتِمَاعِيَّةِ، مَرَّتِ الْعُصُورُ وَتَقَلَّبَتْ أَحْوَالُ الْبَشَرِ فِي الْعُلُومِ وَالْأَعْمَالِ وَلَمْ يَظْهَرْ فِيهِ خَطَأٌ قَطْعِيٌّ فِي شَيْءٍ مِنْهَا، لِهَذَا صَحَّ أَنْ تُجْعَلَ سَلَامَتُهُ مِنْ هَذَا الْخَطَأِ ضَرْبًا مِنْ ضُرُوبِ إِعْجَازِهِ لِلْبَشَرِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هَذَا مِمَّا تَحَدَّى لَهُ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم مِنْ عَجْزَ الْبَشَرُ عَنْ مِثْلِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِيَظْهَرَ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ، فَادُّخِرَ لِيَكُونَ حُجَّةً عَلَى أَهْلِهِ.
فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ الطَّاعِنِينَ فِي الْإِسْلَامِ مِنَ الْمَلَاحِدَةِ وَدُعَاةِ النَّصْرَانِيَّةِ يَزْعُمُونَ أَنَّ الْعُلُومَ وَالْفُنُونَ الْعَصْرِيَّةَ، مِنْ طَبِيعِيَّةٍ وَفَلَكِيَّةٍ وَتَارِيخِيَّةٍ، قَدْ نَقَضَتْ بَعْضَ آيَاتِ الْقُرْآنِ فِي مَوْضُوعِهَا، وَأَنَّ التَّشْرِيعَ الْعَصْرِيَّ أَقْرَبُ إِلَى مَصَالِحِ الْبَشَرِ مِنْ تَشْرِيعِهِ.
قُلْتُ: إِنَّنَا قَدِ اطَّلَعْنَا عَلَى أَقْوَالِهِمْ فِي ذَلِكَ فَأَلْفَيْنَا أَنَّ بَعْضَهَا جَاءَ مِنْ سُوءِ فَهْمِهِمْ
أَوْ فَهْمِ بَعْضِ الْمُفَسِّرِينَ، وَمِنْ جُمُودِ الْفُقَهَاءِ الْمُقَلِّدِينَ، وَبَعْضَهَا مِنَ التَّحْرِيفِ وَالتَّضْلِيلِ، وَقَدْ رَدَدْنَا نَحْنُ وَغَيْرُنَا مَا وَقَفْنَا عَلَيْهِ مِنْهَا. وَإِنَّمَا الْعِبْرَةُ بِالنَّقْضِ الَّذِي لَا يُمْكِنُ لِأَحَدٍ أَنْ يُمَارِيَ فِيهِ مِرَاءً ظَاهِرًا مَقْبُولًا، وَلَوْ وُجِدَ شَيْءٌ مِنْ هَذَا فِي الْقُرْآنِ لَاضْطَرَبَ الْعَالَمُ لَهُ اضْطِرَابًا عَظِيمًا، كَمَا أَنَّ
الْعِبْرَةَ فِي التَّشْرِيعِ بِمَا جَمَعَ بَيْنَ الْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ وَالْفَضِيلَةِ وَالرَّحْمَةِ، وَالتَّشْرِيعُ الْإِسْلَامِيُّ يَفْضُلُ التَّشْرِيعَ الْأُورُبِّيَّ الْمَادِّيَّ بِهَذَا وَيَسْبِقُهُ إِلَى السُّؤَالِ، وَقَدْ سَبَقَهُ إِلَى الْعَدْلِ وَالْمُسَاوَاةِ.
(فَإِنْ قِيلَ) : إِنَّ كَهَنَةَ أَهْلِ الْكِتَابِ يَدَّعُونَ مِثْلَكُمْ أَنَّ كُتُبَهُمُ الْمُقَدَّسَةَ سَالِمَةٌ مِنَ التَّعَارُضِ وَالتَّنَاقُضِ وَمُخَالِفَةِ حَقَائِقِ الْوُجُودِ الثَّابِتَةِ وَيَتَكَلَّفُونَ مِثْلَكُمْ لِرَدِّ مَا يُورِدُهُ عَلَيْهِمْ عُلَمَاءُ الْكَوْنِ وَالْمُؤَرِّخُونَ مُخَالِفًا لِتِلْكَ الْكُتُبِ.
(قُلْتُ) : (إِنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنْ مُخَالَفَةِ كَلَامِ الْخَالِقِ لِكَلَامِ الْخَلْقِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُشْتَرَكًا بَيْنَ الْقُرْآنِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ كَالتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، لَوْ بَقِيَتْ كَمَا أُنْزِلَتْ مِنْ غَيْرِ تَحْرِيفٍ وَلَا تَبْدِيلٍ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ مِنَ التَّارِيخِ بِالْقَطْعِ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُمْ أَنَّ التَّوْرَاةَ الَّتِي كَتَبَهَا مُوسَى عليه السلام وَوَضَعَهَا فِي التَّابُوتِ (صُنْدُوقِ الْعَهْدِ) وَأَخَذَ الْمِيثَاقَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِحِفْظِهَا كَمَا هُوَ مَنْصُوصٌ فِي آخِرِ سِفْرِ (تَثْنِيَةِ الِاشْتِرَاعِ) قَدْ فُقِدَتْ مِنَ الْوُجُودِ عِنْدَمَا أَغَارَ الْبَابِلِيُّونَ عَلَى الْيَهُودِ وَأَحْرَقُوا هَيْكَلَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَالتَّوْرَاةُ الْمَوْجُودَةُ الْآنَ يَرْجِعُ أَصْلُهَا إِلَى مَا كَتَبَهُ عِزْرَا الْكَاهِنُ بِأَمْرِ " ارتحشستا " مَلِكِ فَارِسَ الَّذِي أَذِنَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ بِالْعَوْدَةِ إِلَى أُورْشَلِيمَ، وَأَذِنَ لَهُ أَنْ يَكْتُبَ لَهُمْ كِتَابًا مِنْ شَرِيعَةِ الرَّبِّ وَشَرِيعَةِ الْمَلِكِ، وَلِذَلِكَ تَكْثُرُ فِيهَا الْأَلْفَاظُ الْبَابِلِيَّةُ كَثْرَةً فَاحِشَةً، وَقَدْ بَيَّنَّا تَحْقِيقَ ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ أَوَّلِ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ، وَبَعْضِ آيَاتٍ مِنْ سُورَةِ النِّسَاءِ وَالْمَائِدَةِ، كَمَا بَيَّنَّا أَنَّ إِنْجِيلَ الْمَسِيحِ عليه السلام لَمْ يُدَوَّنْ فِي عَصْرِهِ وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْهُ وَعَنِ الْحَوَارِيِّينَ كَمَا نُقِلَ الْقُرْآنُ تَوَاتُرًا بِالْحِفْظِ وَالْكِتَابَةِ، وَلَا كَنَقْلِ الْحَدِيثِ بِالْأَسَانِيدِ الْمُتَّصِلَةِ، وَإِنَّمَا ظَهَرَتْ هَذِهِ الْأَنَاجِيلُ الَّتِي هِيَ قِصَصٌ مُخْتَصَرَةٌ لَهُ وَاشْتُهِرَتْ بَعْدَ ثَلَاثَةِ قُرُونٍ، كَمَا ظَهَرَ عَشَرَاتٌ غَيْرُهَا، فَاعْتَمَدَ أَرْبَعَةً مِنْهَا رُؤَسَاءُ الْكَنِيسَةِ الَّتِي أَسَّسَهَا قُسْطَنْطِينُ مِلْكُ الرُّومِ الَّذِي تَنَصَّرَ تَنَصُّرًا سِيَاسِيًّا، وَأَدْخَلَ النَّصْرَانِيَّةَ فِي دَوْرٍ جَدِيدٍ مَمْزُوجٍ بِالْوَثَنِيَّةِ وَرَفَضُوا الْبَاقِيَ، كَمَا بَيَّنَّاهُ مُفَصَّلًا فِي الْآيَاتِ الَّتِي أَشَرْنَا إِلَيْهَا آنِفًا فِي الْكَلَامِ عَلَى التَّوْرَاةِ) .
إِعْجَازُ الْقُرْآنِ بِتَحْقِيقِ مَسَائِلَ كَانَتْ مَجْهُولَةً لِلْبَشَرِ:
(الْوَجْهُ السَّابِعُ) : اشْتِمَالُ الْقُرْآنِ عَلَى تَحْقِيقِ كَثِيرٍ مِنَ الْمَسَائِلِ الْعِلْمِيَّةِ وَالتَّارِيخِيَّةِ الَّتِي لَمْ تَكُنْ مَعْرُوفَةً فِي عَصْرِ نُزُولِهِ، ثُمَّ عُرِفَتْ بَعْدَ ذَلِكَ بِمَا انْكَشَفَ لِلْبَاحِثِينَ وَالْمُحَقِّقِينَ مِنْ طَبِيعَةِ الْكَوْنِ وَتَارِيخِ الْبَشَرِ وَسُنَنِ اللهِ فِي الْخَلْقِ، وَهَذِهِ مَرْتَبَةٌ فَوْقَ مَا ذَكَرَهُ فِي الْوَجْهِ السَّادِسِ مِنْ عَدَمِ نَقْضِ الْعُلُومِ لِشَيْءٍ مِمَّا فِيهِ، وَلَا تَدْخُلُ فِي الْمُرَادِ مِنْ أَخْبَارِ الْغَيْبِ الْمُبَيَّنَةِ فِي الْوَجْهِ الْخَامِسِ، وَإِنْ كَانَ لِبَعْضِهَا اتِّصَالٌ بِقَصَصِ الرُّسُلِ عليهم السلام، وَنَحْنُ نُنَبِّهُ عَلَى كُلِّ مَا عَلِمْنَاهُ مِنْ هَذَا النَّوْعِ فِي مَحَلِّهِ مِنْ تَفْسِيرِنَا هَذَا، وَنُشِيرُ هُنَا إِلَى بَعْضِهِ.
فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَأَرْسَلَنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ)(15: 22) كَانُوا يَقُولُونَ فِيهِ:إِنَّهُ
تَشْبِيهٌ لِتَأْثِيرِ الرِّيَاحِ الْبَارِدَةِ فِي السَّحَابِ بِمَا يَكُونُ سَبَبًا لِنُزُولِ الْمَطَرِ بِتَلْقِيحِ ذُكُورِ الْحَيَوَانِ لِإِنَاثِهِ، وَلَمَّا اهْتَدَى عُلَمَاءُ أُورُبَّةَ إِلَى هَذَا وَزَعَمُوا أَنَّهُ مِمَّا لَمْ يُسْبَقُوا إِلَيْهِ مِنَ الْعِلْمِ صَرَّحَ بَعْضُ الْمُطَّلِعِينَ عَلَى الْقُرْآنِ مِنْهُمْ بِسَبْقِ الْعَرَبِ إِلَيْهِ. قَالَ مِسْتَرْ (أَجْنِيرِي) الْمُسْتَشْرِقُ الَّذِي كَانَ أُسْتَاذًا لِلُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ فِي مَدْرَسَةِ أُكْسُفُورْدَ فِي الْقَرْنِ الْمَاضِي: إِنَّ أَصْحَابَ الْإِبِلِ قَدْ عَرَفُوا أَنَّ الرِّيحَ تُلَقِّحُ الْأَشْجَارَ وَالثِّمَارَ قَبْلَ أَنْ يَعْلَمَهَا أَهْلُ أُورُبَّةَ بِثَلَاثَةَ عَشَرَ قَرْنًا. اهـ.
نَعَمْ إِنَّ أَهْلَ النَّخِيلِ مِنَ الْعَرَبِ كَانُوا يَعْرِفُونَ التَّلْقِيحَ إِذْ كَانُوا يَنْقُلُونَ بِأَيْدِيهِمُ اللَّقَاحَ مِنْ طَلْعِ ذُكُورِ النَّخْلِ إِلَى إِنَاثِهَا، وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَعْلَمُونَ أَنَّ الرِّيَاحَ تَفْعَلُ ذَلِكَ، وَلَمْ يَفْهَمِ الْمُفَسِّرُونَ هَذَا مِنَ الْآيَةِ بَلْ حَمَلُوهَا عَلَى الْمَجَازِ.
وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: (أَوَ لَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ)(21: 30) أَيْ أَكَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا وَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا مَادَّةً وَاحِدَةً فَفَتَقْنَاهُمَا وَخَلَقْنَا مِنْهَا هَذِهِ الْأَجْرَامَ السَّمَاوِيَّةَ الَّتِي تُظِلُّهُمْ، وَهَذِهِ الْأَرْضَ الَّتِي تُقِلُّهُمْ، وَهَذِهِ الْمَادَّةُ هِيَ الْمُبَيَّنَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:(ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ)(41: 11) إِلَخْ.
وَهَذَا شَيْءٌ لَمْ يَكُنْ يَعْرِفُهُ الْعَرَبُ وَلَا غَيْرُهُمْ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ. وَكَذَلِكَ خَلْقُ كُلِّ الْأَشْيَاءِ مِنَ الْمَاءِ وَهُوَ أَصْرَحُ فِي الْآيَةِ مِمَّا قَبْلَهُ.
وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ)(51: 49) وَقَوْلُهُ: (وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ)(13: 3) وَهَذِهِ السُّنَّةُ الْإِلَهِيَّةُ فِي النَّبَاتِ
أَصْلٌ لِسُنَّةِ التَّلْقِيحِ الْمَذْكُورَةِ آنِفًا فَإِنَّ الْمُرَادَ بِهَا أَنَّ الرِّيحَ تَنْقُلُ مَادَّةَ اللِّقَاحِ مِنَ الذَّكَرِ إِلَى الْأُنْثَى كَمَا تَقَدَّمَ، وَفِي هَذَا الْمَعْنَى
عِدَّةُ آيَاتٍ، أَعَمُّهَا وَأَغْرَبُهَا وَأَعْجَبُهَا قَوْلُهُ تَعَالَى:(سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ)(36: 36) .
وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ)(15: 19) إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ هِيَ أَكْبَرُ مِثَالٍ لِلْعَجَبِ بِهَذَا التَّعْبِيرِ (مَوْزُونٍ) فَإِنَّ عُلَمَاءَ الْكَوْنِ الْأَخِصَّائِيِّينَ فِي عُلُومِ الْكِيمْيَاءِ وَالنَّبَاتِ قَدْ أَثْبَتُوا أَنَّ الْعَنَاصِرَ الَّتِي يَتَكَوَّنُ مِنْهَا النَّبَاتُ مُؤَلَّفَةٌ مِنْ مَقَادِيرَ مُعَيَّنَةٍ فِي كُلِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِهِ بِدِقَّةٍ غَرِيبَةٍ لَا يُمْكِنُ ضَبْطُهَا إِلَّا بِأَدَقِّ الْمَوَازِينِ الْمُقَدِّرَةِ مِنْ أَعْشَارِ الْغِرَامِ وَالْمِلِّيغِرَامِ، وَكَذَلِكَ نِسْبَةُ بَعْضِهَا إِلَى بَعْضٍ فِي كُلِّ نَبَاتٍ. أَعْنِي أَنَّ هَذَا التَّعْبِيرَ بِلَفْظِ (كُلِّ) الْمُضَافِ إِلَى لَفْظِ (شَيْءٍ) الَّذِي هُوَ أَعَمُّ الْأَلْفَاظِ الْعَرَبِيَّةِ الْمَوْصُوفِ بِالْمَوْزُونِ - تَحْقِيقٌ لِمَسَائِلَ عِلْمِيَّةٍ فَنِّيَّةٍ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْهَا يَخْطُرُ بِبَالِ بَشَرٍ قَبْلَ هَذَا الْعَصْرِ، وَلَا يُمْكِنُ بَيَانُ مَعْنَاهَا بِالتَّفْصِيلِ إِلَّا بِتَصْنِيفِ كِتَابٍ مُسْتَقِلٍّ.
وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: (يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ)(39: 5) تَقُولُ الْعَرَبُ: كَارَ الْعِمَامَةَ عَلَى رَأْسِهِ إِذَا أَدَارَهَا وَلَفَّهَا، وَكَوَّرَهَا بِالتَّشْدِيدِ صِيغَةُ مُبَالَغَةٍ وَتَكْثِيرٍ، فَالتَّكْوِيرُ فِي اللُّغَةِ: إِدَارَةُ الشَّيْءِ عَلَى الْجِسْمِ الْمُسْتَدِيرِ كَالرَّأْسِ، فَتَكْوِيرُ اللَّيْلِ عَلَى النَّهَارِ نَصٌّ صَرِيحٌ فِي كُرَوِيَّةِ الْأَرْضِ، وَفِي بَيَانِ حَقِيقَةِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَعْرُوفِ فِي الْجُغْرَافِيَةِ الطَّبِيعِيَّةِ عِنْدَ أَهْلِهَا، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:(يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا)(7: 54) .
وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا) - إِلَى قَوْلِهِ - (وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ)(36: 38 - 40) فَهُوَ مُوَافِقٌ لِمَا ثَبَتَ فِي الْهَيْئَةِ الْفَلَكِيَّةِ، مُخَالِفٌ لِمَا كَانَ يَقُولُهُ الْمُتَقَدِّمُونَ.
وَمِنْهُ الْآيَاتُ الْمُتَعَدِّدَةُ الْوَارِدَةُ فِي خَرَابِ الْعَالِمِ عِنْدَ قِيَامِ السَّاعَةِ، وَكَوْنِ ذَلِكَ يَحْصُلُ بِقَارِعَةٍ تَقْرَعُ الْأَرْضَ قَرْعًا، وَتَصُخُّهَا فَتَرُجُّهَا رَجًّا، وَتَبُسُّ جِبَالَهَا بَسًّا فَتَكُونُ هَبَاءً مُنْبَثًّا، وَحِينَئِذٍ تَتَنَاثَرُ الْكَوَاكِبُ لِبُطْلَانِ مَا بَيْنَهَا مِنْ سُنَّةِ التَّجَاذُبِ وَالْآيَاتُ فِي هَذَا - وَفِيمَا قَبْلَهُ - تَدُلُّ دَلَالَةً صَرِيحَةً عَلَى بُطْلَانِ مَا كَانَ يَقُولُهُ عُلَمَاءُ الْيُونَانِ وَمُقَلِّدَتُهُمْ مِنْ عُلَمَاءِ الْعَرَبِ فِي الْأَفْلَاكِ وَالْكَوَاكِبِ وَالنُّجُومِ، وَعَلَى إِثْبَاتِ مَا تَقَرَّرَ فِي الْهَيْئَةِ الْفَلَكِيَّةِ الْعَصْرِيَّةِ فِي ذَلِكَ، وَفِي نِظَامِ الْجَاذِبِيَّةِ الْعَامَّةِ، وَيَجِدُ الْقَارِئُ تَفْصِيلَ هَذَا فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ مِنْ هَذَا التَّفْسِيرِ.
فَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الْمَعَارِفِ الَّتِي جَاءَتْ فِي سِيَاقِ بَيَانِ آيَاتِ اللهِ وَحِكَمِهِ كَانَتْ مَجْهُولَةً لِلْعَرَبِ أَوْ لِجَمِيعِ الْبَشَرِ فِي الْغَالِبِ، حَتَّى إِنَّ الْمُسْلِمِينَ أَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَتَأَوَّلُونَهَا وَيُخْرِجُونَهَا عَنْ ظَوَاهِرِهَا، لِتُوَافِقَ الْمَعْرُوفَ عِنْدَهُمْ فِي كُلِّ عَصْرٍ مِنْ ظَوَاهِرَ وَتَقَالِيدَ أَوْ مِنْ نَظَرِيَّاتِ الْعُلُومِ وَالْفُنُونِ الْبَاطِلَةِ، فَإِظْهَارُ تَرَقِّي الْعِلْمِ لِحَقِيقَتِهَا الْمُبَيَّنَةِ فِيهِ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا مُوحًى بِهَا مِنَ اللهِ تَعَالَى.
هَذِهِ أَمِثْلَةٌ مِنْ مَسَائِلِ الْعُلُومِ الْكَوْنِيَّةِ وَالْفُنُونِ الطَّبِيعِيَّةِ الَّتِي خَطَرَتْ بِالْبَالِ عِنْدَ الْكِتَابَةِ مِنْ غَيْرِ تَفْكِيرٍ وَلَا مُرَاجَعَةٍ إِلَّا لِإِعْدَادِ الْآيَاتِ وَالسُّورِ، وَلَا بُدَّ مِنْ تَعْزِيزِهَا بِبَعْضِ الْأَمِثْلَةِ
الْخَاصَّةِ بِالتَّارِيخِ، وَلَيْسَ التَّارِيخُ - مِنْ حَيْثُ هُوَ تَارِيخٌ وَاحِدٌ - مِنَ الْعُلُومِ الَّتِي تُطْلَبُ مِنَ الْكِتَابِ الْإِلَهِيِّ، وَلَمْ يُذْكَرْ فِيهِ شَيْءٌ مِنْهُ بِقَصْدِ سَرْدِ حَوَادِثِ التَّارِيخِ، وَإِنَّمَا جَاءَ مَا جَاءَ فِيهِ مِنْ ذِكْرِ أُمَمِ الرُّسُلِ لِلْعِظَةِ وَالِاعْتِبَارِ، وَبَيَانِ سُنَنِ اللهِ تَعَالَى فِي الْأُمَمِ وَالْأَقْوَامِ، وَتَثْبِيتِ قَلْبِ خَاتَمِ الرُّسُلِ عليه الصلاة والسلام، كَمَا أَنَّ ذِكْرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا، وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنَ الْمَوَالِيدِ الثَّلَاثَةِ لَمْ يُذْكَرْ شَيْءٌ مِنْهُ لِبَيَانِ حَقَائِقِ الْمَوْجُودَاتِ فِي أَنْفُسِهَا، وَإِنَّمَا ذُكِرَتْ فِي سِيَاقِ آيَاتِ اللهِ تَعَالَى الدَّالَّةِ عَلَى عِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ وَحِكْمَتِهِ وَرَحْمَتِهِ وَفَضْلِهِ عَلَى عِبَادِهِ إِلَخْ.
وَقَدْ تَضَمَّنَ كُلٌّ مِنْ هَذَا وَذَاكَ بِدِقَّةِ التَّعْبِيرِ وَإِعْجَازِ الْبَيَانِ آيَاتٍ أُخْرَى تَظْهَرُ آنًا بَعْدَ آنٍ، دَالَّةً عَلَى أَنْوَاعٍ مِنْ إِعْجَازِ الْقُرْآنِ، وَكَوْنِهِ وَحْيًا مِنَ الرَّحْمَنِ، فَكِتَابُهُ تَعَالَى مَظْهَرٌ لِقَوْلِهِ:(كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ)(55: 29) .
أَكْتَفِي مِنْ هَذَا النَّوْعِ الَّذِي لَهُ عَلَاقَةٌ بِالتَّارِيخِ بِمَسْأَلَةٍ عَظِيمَةِ الشَّأْنِ تَشْتَمِلُ عَلَى شَوَاهِدَ كَثِيرَةٍ مِنْهُ، وَهِيَ حُكْمُ الْقُرْآنِ الْحَقِّ عَلَى التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ اللَّذَيْنِ كَانَ يَدِينُ اللهُ تَعَالَى بِهِمَا أَعْظَمَ شُعُوبِ الْأَرْضِ مَكَانَةً فِي الْعَالِمِ وَأَوْسَعَهُمْ عِلْمًا وَحَضَارَةً، وَلَا يَزَالُ الْكَثِيرُونَ مِنْهُمْ يُقَدِّسُونَهُمَا، مَعَ بَيَانِ بَعْضِهِمْ لِمَا نَقَضَ الْعِلْمُ مِنْهَا، وَكَذَا سَائِرُ الْكُتُبِ الَّتِي يُعَبِّرُونَ عَنْ مَجْمُوعِهَا بِالْعَهْدَيْنِ الْقَدِيمِ وَالْجَدِيدِ.
مَا هَذَا الْحُكْمُ الَّذِي صَدَرَ مِنْ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ عَلَى لِسَانِ عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي لَمْ يَقْرَأْ فِي حَيَاتِهِ سِفْرًا وَلَمْ يَكْتُبْ سَطْرًا، وَلَمْ يُحِطْ بِشَيْءٍ مِنْ أَخْبَارِ التَّارِيخِ خَبَرًا؟ مُلَخَّصُ هَذَا الْحُكْمِ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ مِنَ
الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى قَدْ أُوتُوا نَصِيبًا مِنْهُ، وَنَسُوا نَصِيبًا وَحَظًّا مِنْهُ، فَلَمْ يَحْفَظُوهُ كُلَّهُ، وَلَمْ يُضَيِّعُوهُ كُلَّهُ، وَأَنَّهُمْ حَرَّفُوا مَا أُوتُوهُ عَنْ مَوَاضِعِهِ تَحْرِيفًا لَفْظِيًّا وَمَعْنَوِيًّا كَمَا يُفِيدُهُ الْإِطْلَاقُ وَأَنَّهُمْ غَلَوْا فِي دِينِهِمْ فَزَادُوا فِيهِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ، وَاتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ، يُحِلُّونَ لَهُمْ وَيُحَرِّمُونَ عَلَيْهِمْ مَا لَمْ يُشَرِّعْهُ اللهُ، وَأَنَّهُمْ قَصَّرُوا فِي إِقَامَتِهِ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى فَعَمِلُوا بِمَا يُوَافِقُ أَهْوَاءَهُمْ مِنْهُ وَتَرَكُوا مَا يُخَالِفُهَا، كَمَنْ يُؤْمِنُ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَيَكْفُرُ بِبَعْضٍ، وَأَنَّ الْيَهُودَ قَالُوا عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا مُبِينًا، وَالنَّصَارَى غَلَوْا فِيهَا غُلُوًّا عَظِيمًا، فَقَالُوا: إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ، وَقَالُوا: ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ (وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ)(5: 73) إِلَخْ مَا نَطَقَتْ بِهِ الْآيَاتُ الَّتِي يَجِدُ الْقَارِئُ فِي تَفْسِيرِنَا هَذَا تَفْصِيلَهَا مَعَ تَفْسِيرِهَا الْحَقِّ الْمُؤَيَّدِ بِالتَّارِيخِ الصَّحِيحِ، الَّذِي حَقَّقَهُ عُلَمَاءُ أُورُبَّا وَغَيْرُهُمْ بَعْدَ الْإِسْلَامِ الْمُصَدِّقِ لِلْقُرْآنِ الْحَكِيمِ فِي حُكْمِهِ، الَّذِي كَانَ مَجْهُولًا بِتَفْصِيلِهِ عِنْدَ
جَمِيعِ النَّاسِ، وَقَدْ قَامَ فِي هَذِهِ السِّنِينَ بَعْضُ كِبَارِ رِجَالِ الدِّينِ فِي بِلَادِ الْإِنْكِلِيزِ يَكْتُبُونَ فِي الْجَرَائِدِ مَا قَرَّرُوهُ فِي جَمْعِيَّاتِ الْكَنَائِسِ مِنْ أَنَّ الْإِنْجِيلَ لَا يُثْبِتُ أُلُوهِيَّةَ الْمَسِيحِ، وَقَدْ نَشَرْنَا بَعْضَ مَا اطَّلَعْنَا عَلَيْهِ فِي الْجَرَائِدِ الْإِنْكِلِيزِيَّةِ مِنْ هَذِهِ التَّحْقِيقَاتِ، وَسَنَنْشُرُ غَيْرَهُ فِي مَجَلَّتِنَا الْإِسْلَامِيَّةِ (الْمَنَارِ) .
وَقَدْ ثَبَتَ عِنْدَنَا أَنَّ مُسْتَقِلِّي الْفِكْرِ مِنْ أَهْلِ أُورُبَّا بَيْنَ مُؤْمِنٍ بِمَا جَاءَ بِهِ الْقُرْآنُ مِنْ حَقِيقَةِ أَمْرِ الْمَسِيحِ، وَهُوَ أَنَّهُ بَشَرٌ مُمْتَازٌ بِرُوحٍ قُدُسِيَّةٍ مِنَ اللهِ وَنَبِيٌّ لَهُ، وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مِمَّا جَاءَ بِهِ الْقُرْآنُ، وَبَيْنَ كَافِرٍ بِهِ. وَأَمَّا عَقِيدَةُ الْكَنِيسَةِ بِرُبُوبِيَّتِهِ وَأُلُوهِيَّتِهِ فَهِيَ مَحْصُورَةٌ فِي رِجَالِهَا وَعَامَّةِ الْمُقَلِّدِينَ لَهُمْ، وَقَدْ أَخْبَرَنِي قِسِّيسٌ كَبِيرٌ مِنَ الْكَاثُولِيكِ حَرَمَتْهُ الْكَنِيسَةُ وَأَخْرَجَتْهُ مِنْ طُغْمَةِ كَهَنَتِهَا أَنَّ كِبَارَ عُلَمَائِهَا مُوَحِّدُونَ كَالْمُسْلِمِينَ، وَلَوْلَا خَشْيَةُ ارْتِدَادِ الْعَوَامِّ لَصَرَّحُوا بِالتَّوْحِيدِ وَبِنَفْيِ التَّثْلِيثِ كَبَعْضِ قَسَاوِسَةِ الْبُرُوتِسْتَنْتِ.
وَلَا يَزَالُ الْمُوَحِّدُونَ يَكْثُرُونَ فِي أُورُبَّا وَالْوِلَايَاتِ الْمُتَّحِدَةِ الْأَمِيرِيكَانِيَّةِ عَامًا بَعْدَ عَامٍ، وَيَقْرُبُونَ مِنَ الْإِيمَانِ بِالْقُرْآنِ (اللهُ أَكْبَرُ اللهُ أَكْبَرُ، إِنَّهُمْ سَوْفَ يَفْعَلُونَ) .
فَمِنْ أَيْنَ جَاءَتْ هَذِهِ الْحَقَائِقُ لِمُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ الْأُمِّيِّ بَعْدَ ثَلَاثٍ وَأَرْبَعِينَ سَنَةً عَاشَ مُعْظَمَهَا فِي عُزْلَةٍ عَنِ الْعَالَمِ وَعُلُومِهِ، رَعَى فِي أَوَائِلَهَا الْغَنَمَ فِي جِبَالِ مَكَّةَ وَشِعَابِهَا، وَاتَّجَرَ فِي أَثْنَائِهَا سِنِينَ قَلِيلَةً قَلَّمَا كَانَ يُعَاشِرُ فِيهَا أَحَدًا؟ وَهِيَ الَّتِي ظَلَّ الْمُسْلِمُونَ يَجْهَلُونَ مُرَادَ الْقُرْآنِ مِنْهَا بِالتَّحْقِيقِ وَالتَّفْصِيلِ حَتَّى بَعْدَ فَتْحِهِمْ لِلْعَالِمِ وَاطِّلَاعِهِمْ عَلَى عُلُومِهِ وَتَوَارِيخِهِ، إِلَى أَنْ وَصَلَ عِلْمُ التَّارِيخِ وَغَيْرُهُ إِلَى الدَّرَجَةِ الْمَعْرُوفَةِ!
كَانَ بَعْضُ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمَلَاحِدَةِ مِنْ غَيْرِهِمْ يَرَوْنَ أَنَّ أَكْبَرَ الشُّبُهَاتِ عَلَى مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ قَصَصِ الرُّسُلِ وَأَقْوَامِهِمْ حُسْبَانُهَا مُقْتَبَسَةً مِنْ هَذِهِ الْكُتُبِ الْمُقَدَّسَةِ عِنْدَ الْقَوْمِ، وَمِمَّا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ التَّقَالِيدِ وَالْمَذَاهِبِ، بِاحْتِمَالِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم سَمِعَهَا مِنْ بَعْضِهِمْ فِي أَثْنَاءِ سَفَرِهِ بِالتِّجَارَةِ إِلَى الشَّامِ، وَكَانُوا يَعُدُّونَ مَا خَالَفَ تِلْكَ الْكُتُبَ مِنْ آيَاتِ الْقُرْآنِ خَطَأً سَبَبُهُ عَدَمُ جَوْدَةِ الْحِفْظِ أَوْ خَطَأً مِمَّنْ سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم ذَلِكَ مِنْهُمْ أَوْ تَعَمُّدًا مِنْهُمْ لِغِشِّهِ، كَمَا غَشَّ بَعْضُ الْيَهُودِ الَّذِينَ ادَّعَوُا الْإِسْلَامَ خِدَاعًا بَعْضَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعَيْنِ بِأَخْبَارٍ كَثِيرَةٍ أَدْخَلُوهَا فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ وَكُتُبِ الْوَعْظِ وَالرَّقَائِقِ.
وَكَانَ مِنَ الْأَدِلَّةِ عَلَى دَحْضِ هَذِهِ الشُّبْهَةِ أَنَّهُ لَا يُعْقَلُ أَنْ يَكُونَ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم تَلَقَّى كُلَّ هَذِهِ الْقِصَصِ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي رِحْلَتِهِ إِلَى الشَّامِ مَعَ عَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ، وَهُوَ ابْنُ تِسْعِ سِنِينَ أَوِ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً، وَلَا فِي رِحْلَتِهِ مَعَ مَيْسَرَةَ مَوْلَى خَدِيجَةَ رضي الله عنها وَهُوَ وَإِنْ كَانَ
فِي هَذِهِ الرِّحْلَةِ شَابًّا لَهُ خَمْسٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يَنْفَرِدْ دُونَ مَيْسَرَةَ وَسَائِرِ تُجَّارِ قُرَيْشٍ لِدِرَاسَةٍ وَلَا غَيْرِهَا، بَلْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا أَيَّامًا فِي بَلْدَةِ (بُصْرَى) بَاعُوا وَاشْتَرَوْا وَعَادُوا، وَلَا يُعْقَلُ أَنْ يَكُونَ سَمِعَ فِيهَا أَخْبَارَ جَمِيعِ الرُّسُلِ سِرًّا أَوْ جَهْرًا، وَحَفِظَهَا مِنْ هَذِهِ الْكُتُبِ حِفْظًا، ثُمَّ لَخَّصَهَا بَعْدَ عِشْرِينَ سَنَةً تَقْرِيبًا فِي هَذِهِ السُّوَرِ، وَلَمْ يَجِدْ أَهْلُ مَكَّةَ عَلَيْهِ شُبْهَةً فِي هَذَا الْبَابِ إِلَّا وُقُوفَهُ أَحْيَانًا عَلَى قَيْنٍ (حَدَّادٍ صَانِعٍ لِلسُّيُوفِ) رُومِيٍّ كَانَ بِمَكَّةَ، فَقَالُوا: إِنَّهُ هُوَ الَّذِي يُعَلِّمُهُ وَهُوَ لَمْ يَكُنْ يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ، وَفِيهِ نَزَلَ:(وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ)(16: 103) وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي مَسْأَلَةِ اشْتِمَالِ الْقُرْآنِ عَلَى
أَخْبَارِ الْغَيْبِ الْمَاضِيَةِ مِنْ هَذَا الْبَحْثِ تَصْرِيحُ الْآيَاتِ بِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ مَا قَصَّتْهُ السُّوَرُ مِنْهَا وَلَا قَوْمُهُ، وَلَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ مِنْ خُصُومِهِ الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُكَذِّبَ أَوْ يُمَارِيَ فِي ذَلِكَ.
هَذَا وَإِنَّ مَا لَخَّصْنَاهُ هُنَا مِنْ حُكْمِ الْقُرْآنِ عَلَيْهَا يُثْبِتُ أَنَّهُ حُكْمٌ عَلِيٌّ نَزَلَ مِنْ فَوْقِ السَّمَاوَاتِ الْعُلَا، حُكْمُ الْعَلِيمِ الْحَكِيمِ الْحَكَمِ الْعَدْلِ الْمُهَيْمِنِ، وَأَنَّ تَحْقِيقَ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ مُؤَرِّخِي الْأُمَمِ، وَتَحْقِيقَ الْعُقَلَاءِ مِنَ الْبَشَرِ قَدْ أَثْبَتَ مَا أَثْبَتَهُ هَذَا الْحُكْمُ، وَقَدْ نَفَى مَا نَفَاهُ، أَلَيْسَ هَذَا أَنْصَعَ بُرْهَانٍ عَلَى كَوْنِهِ حُكْمَ اللهِ لَا حُكْمَ عَبْدِهِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ؟ بَلَى وَاللهِ، ثُمَّ بَلَى وَاللهِ، ثُمَّ بَلَى وَاللهِ، وَلَا يُمَارِي فِي ذَلِكَ إِلَّا مُتَعَصِّبٌ أَضَلَّهُ اللهُ.
وَمَنْ قَرَأَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ ثُمَّ قَرَأَ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ أَخْبَارِ الرُّسُلِ يَرَى أَمْرًا آخَرَ، يَرَى أَنَّ الْقُرْآنَ بَيَّنَ صَفْوَةَ مَا فِيهِمَا مِنْ صِحَّةِ عَقِيدَةٍ، وَمِنْ أَدَبٍ وَفَضِيلَةٍ، وَمِنْ عِبْرَةٍ وَمَوْعِظَةٍ، وَمِنْ أُسْوَةٍ بِالْأَخْيَارِ حَسَنَةٍ، وَسَكَتَ عَنْ كُلِّ مَا فِيهِمَا مِمَّا يُنَافِي ذَلِكَ وَيُخِلُّ بِهِ، أَوْ يَجْعَلُ أَفْضَلَ الْبَشَرِ قُدْوَةً سَيِّئَةً، وَصَرَّحَ بِنَقْضِ مَا طَرَأَ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ نَزَعَاتِ الشِّرْكِ وَالْوَثَنِيَّةِ، فَإِنْ فَرَضْنَا - تَنَزُّلًا - أَنَّ هَذَا مِنْ صُنْعِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ الْأُمِّيِّ، أَفَلَا يَكُونُ بُرْهَانًا عَلَى أَنَّهُ هُوَ فِي شَخْصِهِ أَرْقَى مِنْ جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ عِلْمًا وَعَقْلًا وَهِدَايَةً وَإِرْشَادًا؟ بَلَى، وَلَكِنْ كَيْفَ يُعْقَلُ حِينَئِذٍ أَنْ يَكُونُوا أَنْبِيَاءَ مُرْسَلِينَ، وَمُوحًى إِلَيْهِمْ مِنَ اللهِ أَوْ مُلْهَمِينَ؟ الْحَقُّ أَنَّ نَفْيَ نُبُوَّتِهِ صلى الله عليه وسلم يَقْتَضِي نَفْيَ النُّبُوَّةِ وَإِبْطَالَ الرِّسَالَةِ مِنْ أَصْلِهَا؛ لِأَنَّهَا هِيَ الَّتِي تُعْقَلُ لِذَاتِهَا وَإِنَّمَا يَظْهَرُ ثُبُوتُ غَيْرِهَا بِالتَّبَعِ لِثُبُوتِهَا، وَإِنَّنَا رَأَيْنَا بَعْضَ الْكَافِرِينَ بِالْوَحْيِ مِنَ الْبَاحِثَيْنِ الْمُسْتَقِلِّي الْفِكْرِ يُفَضِّلُونَ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم عَلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ، وَمِنْهُمُ الدُّكْتُورُ شِبْلِي شُمَيْل السُّورِيُّ الْمَشْهُورُ، فَقَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ قَوْلًا وَكِتَابَةً وَأَثْبَتَهُ نَظْمًا وَنَثْرًا.
وَقَدْ آنَ أَنْ نُبَيِّنَ وَجْهَ دَلَالَةِ الْقُرْآنِ عَلَى نُبُوَّتِهِ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحِبِهِ، وَمَنْ آمَنَ بِهِ وَشَارَكَهُمْ فِي الِاهْتِدَاءِ بِهَدْيِهِ مِنْ بَعْدِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
وَجْهُ دَلَالَةِ الْقُرْآنِ عَلَى نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم:
(تَمْهِيدٌ) الْإِيمَانُ بِالنُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ يَنْبَنِي عَلَى الْإِيمَانِ بِالرُّبُوبِيَّةِ وَالْأُلُوهِيَّةِ، فَلَا يُخَاطَبُ بِإِثْبَاتِهَا وَالدَّلِيلِ عَلَيْهَا إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ مِنَ الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ وَالْمَشِيئَةِ وَالْقُدْرَةِ وَتَدْبِيرِ أَمْرِ الْعَالَمِ، وَأَكْثَرُ الْبَشَرِ يُؤْمِنُونَ بِوُجُودِ الْخَالِقِ الْمُدَبِّرِ صَاحِبِ السُّلْطَانِ الْغَيْبِيِّ؛ لِأَنَّهُ مِمَّا أُودِعَ فِي الْفِطْرَةِ الْبَشَرِيَّةِ، وَلَا يُعْقَلُ هَذَا النِّظَامُ الْمُشَاهَدُ فِي الْعَالَمِ بِدُونِهِ - كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي مَوَاضِعِهِ - وَلَكِنَّ الْكَثِيرِينَ يُخْطِئُونَ فِي فَهْمِ صِفَاتِهِ وَالْكَلَامِ فِي تَدْبِيرِهِ وَتَقْدِيرِهِ لِاخْتِلَافِ أَنْظَارِهِمْ وَتَقَالِيدِهِمْ فِي ذَلِكَ، وَالَّذِينَ حُرِمُوا هَذَا الْإِيمَانَ قِسْمَانِ: هَمَجٌ مِنْ سُكَّانِ الْغَابَاتِ الْوَحْشِيَّةِ وَأَصْحَابُ شُبَهَاتٍ طَارِئَةٍ، وَمَثَلُ الْأَوَّلِ مَثَلُ الْخِدَاجِ الَّذِي يُولَدُ نَاقِصًا، وَمَثَلُ الثَّانِي مَثَلُ مَنْ يُصَابُ بِبَعْضِ مَشَاعِرِهِ أَوْ أَعْضَائِهِ، وَمَرَاكِزُ الْإِدْرَاكِ فِي الْمُخِّ يُصَابُ بَعْضُهَا بِالْمَرَضِ أَوِ الضِّعْفِ دُونَ بَعْضٍ، فَلَا يَغْتَرَّنَّ أَحَدٌ مِنَ الْمُتَّقِينَ بِكُفْرِ بَعْضِ الْمُتْقِنِينَ لِبَعْضِ الْعُلُومِ وَالْفُنُونِ، الَّذِينَ شَغَلَتْهُمُ الصَّنْعَةُ عَنِ الصَّانِعِ، كَمَا شَغَلَ حُبُّ لَيْلَى مَجْنُونَ بَنِي عَامِرٍ عَنْ شَخْصِهَا، حَتَّى قِيلَ: إِنَّهَا زَارَتْهُ فَلَمْ يَحْفَلْ بِهَا.
وَأَكْثَرُ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ تَعَالَى يُؤْمِنُونَ بِالرُّسُلِ الَّذِينَ خَصَّهُمُ اللهُ بِنَوْعٍ مِنَ الْعِلْمِ وَالْهُدَى بِغَيْرِ تَعَلُّمٍ وَلَا كَسْبٍ، وَأَيَّدَهُمْ بِآيَاتٍ مِنْهُ دَانَتْ لَهَا عُقُولُ الْمُسْتَعِدِّينَ لِلْهِدَايَةِ، وَخَضَعَتْ قُلُوبُهُمْ فَآمَنُوا وَاهْتَدَوْا، وَكَانَتْ حَالُهُمُ الْبَشَرِيَّةُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَالْهُدَى خَيْرًا مِمَّا كَانُوا عَلَيْهِ هُمْ وَآبَاؤُهُمْ قَبْلَ ذَلِكَ صَلَاحًا، وَقَدْ بَعَثَ اللهُ تَعَالَى رُسُلًا إِلَى جَمِيعِ الْأُمَمِ دَعَوْهَا إِلَى أُصُولِ الدِّينِ الثَّلَاثَةِ الْمُبَيَّنَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ)(2: 62) .
فَالرُّسُلُ عليهم السلام كَانُوا مُتَّفِقِينَ فِي الدَّعْوَةِ إِلَى الْإِيمَانِ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَإِنَّمَا كَانُوا يَخْتَلِفُونَ فِي تَفْصِيلِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ وَالشَّرَائِعِ الْمُصْلِحَةِ بِحَسْبِ اخْتِلَافِ اسْتِعْدَادِ أُمَمِهِمْ، وَقَدْ طَرَأَتْ عَلَى أَتْبَاعِهِمْ مِنْ بَعْدِهِمْ بِدَعٌ وَثَنِيَّةٌ وَخُرَافِيَّةٌ وَضَاعَتْ أَكْثَرُ تَعَالِيمِهِمْ مِنَ الْأُمَمِ الْقَدِيمَةِ. وَإِنَّمَا بَقِيَتْ بَقِيَّةٌ صَالِحَةٌ مِنْهَا عِنْدَ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فِيهَا مِنَ الشَّوَائِبِ مَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ آنِفًا. وَكَذَلِكَ بَقِيَتْ فِي جَمِيعِ
الْأَدْيَانِ الْقَدِيمَةِ آثَارٌ تَارِيخِيَّةٌ تَدُلُّ عَلَى تَوْحِيدِ اللهِ تَعَالَى، كَمَا نَرَاهُ فِي تَارِيخِ قُدَمَاءِ الْمِصْرِيِّينَ وَالْفُرْسِ وَالْيُونَانِ وَوَثَنِيِّي الْهِنْدِ وَالْيَابَانِ وَالصِّينِ.
وَمِمَّا حُفِظَ مِنْ أَخْبَارِ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ: أَنَّ اللهَ تَعَالَى أَيَّدَهُمْ بِالْإِخْبَارِ عَنْ بَعْضِ الْمُغَيَّبَاتِ وَأَيَّدَ الْمُرْسَلِينَ مِنْهُمْ: كَمُوسَى وَعِيسَى عليهم السلام أَجْمَعِينَ بِآيَاتٍ أُخْرَى مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ، فَقَامَتْ بِهَا حُجَّتُهُمْ عَلَى النَّاسِ فَآمَنَ بِهَا الْمُسْتَعِدُّونَ، وَكَابَرَهَا الْمُعَانِدُونَ الْمُتَكَبِّرُونَ، وَأَعْرَضَ عَنْهَا الْمُقَلِّدُونَ الْجَامِدُونَ.
(الْمَقْصِدُ) قَدِ اخْتَلَفَ عُلَمَاءُ الْكَلَامِ فِي وَجْهِ دَلَالَةِ الْمُعْجِزَةِ عَلَى نُبُوَّةِ مَنْ ظَهَرَتْ عَلَى يَدَيْهِ وَرِسَالَتِهِ، أَيْ عَلَى كَوْنِ مَا يَدْعُو إِلَيْهِ مِنَ الْعَقَائِدِ وَالْفَضَائِلِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ وَحْيًا مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهَا دَلَالَةٌ عَقْلِيَّةٌ، وَرَجَّحَ الْأَكْثَرُونَ أَنَّهَا وَضْعِيَّةٌ بِمَعْنَى أَنَّ تَأْيِيدَ اللهِ تَعَالَى إِيَّاهُ بَعْدَ التَّحَدِّي بِهَا فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى:((صَدَقَ عَبْدِي فِيمَا يُبَلِّغُ عَنِّي)) . وَمِنَ الْمَعْلُومِ الَّذِي لَا مِرَاءَ فِيهِ أَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا بِالرُّسُلِ فِي عَصْرِهِمْ وَبَعْدَ عَصْرِهِمْ مِنَ الْعُقَلَاءِ وَالْأَذْكِيَاءِ وَجَدُوا فِي أَنْفُسِهِمُ اعْتِقَادًا اضْطِرَارِيًّا بِأَنَّ ظُهُورَ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ غَيْرُ اللهِ تَعَالَى عَلَى أَيْدِيهِمْ عَقِبَ ادِّعَائِهِمْ مَا ادَّعَوْهُ، وَطَلَبِهِمْ مِنَ اللهِ تَعَالَى أَنْ يُصَدِّقَهُمْ، وَيُعْطِيَهُمْ آيَةً تَدُلُّ عَلَى تَصْدِيقِهِ إِيَّاهُمْ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ هُوَ الَّذِي فَعَلَهُ لِأَجْلِ تَصْدِيقِهِمْ، فَسَمِّ الدَّلَالَةَ عَقْلِيَّةً، أَوْ سَمِّهَا وَضْعِيَّةً، أَوِ اجْمَعْ بَيْنَ التَّسْمِيَتَيْنِ إِنْ شِئْتَ.
وَقَالَ الْعُلَمَاءُ: إِنَّ اللهَ تَعَالَى كَانَ يُعْطِي كُلَّ رَسُولٍ مِنَ الْآيَاتِ مَا يُنَاسِبُ حَالَ قَوْمِهِ وَأَهْلِ عَصْرِهِ، فَلَمَّا كَانَ قَوْمُ فِرْعَوْنَ أَهْلَ عُلُومٍ رِيَاضِيَّةٍ وَطَبِيعِيَّةٍ وَأُولِي سِحْرٍ وَصِنَاعَةٍ، آتَى رَسُولَهُ مُوسَى آيَاتٍ كَانَ الْعُلَمَاءُ وَالسَّحَرَةُ أَعْلَمَ النَّاسِ بِأَنَّهَا مِنْ عِنْدِ اللهِ لَا مِنْ كَسْبِ مُوسَى وَلَا مِنْ صِنَاعَتِهِ، وَلَمَّا كَانَ الرُّومَانِيُّونَ أُولِي السُّلْطَانِ فِي قَوْمِ عِيسَى وَالسِّيَادَةِ فِي بِلَادِهِمْ أَهْلَ عِلْمٍ وَاسِعٍ بِالطِّبِّ آتَاهُ مِنَ الْآيَاتِ إِبْرَاءَ الْأَكْمَهِ وَالْأَبْرَصِ وَإِحْيَاءَ الْمَيِّتِ، وَلَمَّا كَانَتِ الْعَرَبُ قَدِ ارْتَقَتْ فِي لُغَتِهَا فَصَاحَةً وَبَلَاغَةً إِلَى دَرَجَةٍ لَمْ تَتَّفِقْ لِغَيْرِهَا؛ لِأَنَّ أَذْكِيَاءَهَا قَدْ وَجَّهُوا جَمِيعَ قُوَاهُمُ الْعَقْلِيَّةِ وَالْخَيَالِيَّةِ إِلَى إِتْقَانِهَا، جَعَلَ اللهُ تَعَالَى آيَةَ مُحَمَّدٍ الْكُبْرَى إِلَيْهِمْ كِتَابًا مُعْجِزًا لَهُمْ وَلِسَائِرِ الْخَلْقِ، فِي نَظْمِهِ
وَأُسْلُوبِهِ وَفَصَاحَتِهِ وَبَلَاغَتِهِ، فَقَامَتْ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةُ بِهِ بِأَقْوَى مِمَّا قَامَتْ آيَاتُ مُوسَى وَعِيسَى عَلَى قَوْمِهِمَا، وَفِي هَذَا الْقَوْلِ مِنَ التَّقْصِيرِ فِي حُجَّةِ الْقُرْآنِ مَا عَلِمْتَ.
وَالْحُقُّ الَّذِي يُقَالُ فِي هَذَا الْمَقَامِ: أَنَّ مَا أَيَّدَ اللهُ تَعَالَى بِهِ رُسُلَهُ مِنَ الْآيَاتِ الْكَوْنِيَّةِ كَانَ مُنَاسِبًا لِحَالِ زَمَانِ كُلٍّ مِنْهُمْ وَأَهْلِهِ، وَقَامَتِ الْحُجَّةُ عَلَى مَنْ شَاهَدَ تِلْكَ الْآيَاتِ فِي عَهْدِهِ ثُمَّ عَلَى مَنْ صَدَّقَ الْمُخْبِرِينَ مِنْ بَعْدِهِ، وَقَدْ عَلِمَ اللهُ تَعَالَى أَنَّ سِلْسِلَةَ النَّقْلِ سَتَنْقَطِعُ، وَأَنَّ ثِقَةَ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ بِهِ وَلَا سِيَّمَا بَعْدَ انْقِطَاعِ سِلْسِلَتِهِ سَتَضْعُفُ، وَأَنَّ دَلَالَتَهَا عَلَى الرِّسَالَةِ سَتُنْكَرُ، فَجَعَلَ الْآيَةَ الْكُبْرَى عَلَى إِثْبَاتِ رِسَالَةِ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ عِلْمِيَّةً دَائِمَةً لَا تَنْقَطِعُ، وَهِيَ هَذَا الْكِتَابُ الْمُعْجِزُ لِلْخَلْقِ بِمَا فِيهِ مِنْ أَنْوَاعِ الْإِعْجَازِ السَّبْعَةِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا، وَبَيَّنَّا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا آيَةٌ بَيِّنَةٌ لِمَنْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ، وَكَانَ مُسْتَقِلًّا مُطْلَقًا مَنْ أَسْرِ النَّظَرِيَّاتِ الْمَادِّيَّةِ وَقُيُودِ التَّقْلِيدِ، إِذْ لَا يَتَصَوَّرُ عَاقِلٌ يُؤْمِنُ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ أَنْ يَصْدُرَ هَذَا الْكِتَابُ الْمُشْتَمِلُ عَلَى هَذَا الْقَدْرِ السَّنِيعِ مِنَ الْمَعَانِي، فِي هَذَا الْأُسْلُوبِ الْبَدِيعِ وَالنَّظْمِ الْمَنِيعِ مِنَ الْمَبَانِي مِنْ رَجُلٍ أُمِّيٍّ وَلَا مُتَعَلِّمٍ أَيْضًا،
إِلَّا أَنْ يَكُونَ وَحْيًا اخْتَصَّهُ بِهِ الرَّبُّ عز وجل، نَاهِيكَ بِهِ وَقَدْ جَزَمَ بِعَجْزِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ عَنْ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِهِ، ثُمَّ تَحَدَّاهُمْ بِأَنْ يَأْتُوا بِسُورَةٍ مَنْ مِثْلِهِ، فَهَذَا التَّحَدِّي حُجَّةٌ مُسْتَقِلَّةٌ عَلَى نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم بِصَرْفِ النَّظَرِ عَنِ الْمُتَحَدَّى بِهِ مَا هُوَ، وَكُلُّ نَوْعٍ مِنْ تِلْكَ الْأَنْوَاعِ السَّبْعَةِ الثَّابِتَةِ لِلْقُرْآنِ حُجَّةٌ مُسْتَقِلَّةٌ فِي نَفْسِهَا، وَحُجَّةٌ أَنْهَضُ وَأَقْوَى بِاعْتِبَارِ أُمِّيَّةِ مَنْ جَاءَ بِهَا، فَإِنْ أَمْكَنَ تَمَحُّلُ الْمِرَاءِ وَالْجَدَلِ فِي بَعْضِ الْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرْنَا لِإِعْجَازِهِ فَهَلْ يُمْكِنُ ذَلِكَ فِي جُمْلَتِهَا أَوْ فِي كُلٍّ مِنْهَا؟ كَلَّا.
سَبَقَ لَنَا أَنْ ضَرْبَنَا مَثَلًا لِنُبُوَّتِهِ صلى الله عليه وسلم: رَجُلًا ادَّعَى فِي بِلَادٍ كَثُرَتْ فِيهَا الْأَمْرَاضُ أَنَّهُ طَبِيبٌ وَأَنَّ دَلِيلَهُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ أَلَّفَ كِتَابًا فِي عِلْمِ الطِّبِّ يُدَاوِي الْمَرْضَى بِمَا دَوَّنَهُ فِيهِ فَيَبْرَءُونَ، فَاطَّلَعَ عَلَيْهِ الْأَطِبَّاءُ الْبَارِعُونَ فَشَهِدُوا بِأَنَّهُ خَيْرُ الْكُتُبِ فِي هَذَا الْعِلْمِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ عَمَلٍ، ثُمَّ عُرِضَ عَلَيْهِ مَنْ لَا يُحْصَى عَدَدًا مِنَ الْمَرْضَى وَقَبِلُوا مَا وَصَفَهُ لَهُمْ مِنَ الْأَدْوِيَةِ فَبَرِءُوا مِنْ عِلَلِهِمْ، وَصَارُوا أَحْسَنَ النَّاسِ صِحَّةً، فَهَلْ يُمْكِنُ الْمِرَاءُ فِي صِحَّةِ هَذِهِ الدَّعْوَى مَعَ هَذَيْنِ الْبُرْهَانَيْنِ الْعِلْمِيِّ وَالْعَمَلِيِّ؟ كَلَّا. وَإِنَّ
الْعِلْمَ بِطِبِّ الْأَرْوَاحِ أَعْلَى وَأَعَزُّ مَنَالًا مِنَ الْعِلْمِ بِطِبِّ الْأَجْسَادِ، وَإِنَّ مُعَالَجَةَ أَمْرَاضِ الْأَخْلَاقِ وَأَدْوَاءِ الِاجْتِمَاعِ أَعْسَرُ مِنْ مُدَاوَاةِ أَعْضَاءِ الْأَفْرَادِ. وَمِنَ الْمَعْلُومِ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ الْقُرْآنَ مُشْتَمِلٌ عَلَى الْعَقَائِدِ الصَّحِيحَةِ، وَالْآدَابِ الْعَالِيَةِ وَأُصُولِ التَّشْرِيعِ الِاجْتِمَاعِيِّ وَالْمَدَنِيِّ، وَأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَالَجَ بِهِ أُمَّةً عَرِيقَةً فِي الشِّقَاقِ وَحَمِيَّةِ الْجَاهِلِيَّةِ، غَرِيقَةً فِي الْجَهْلِ وَالْأُمِّيَّةِ وَرَذَائِلِ الْوَثَنِيَّةِ، فَشُفِيَتْ وَاتَّحَدَتْ، وَتَعَلَّمَتِ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ، وَسَادَتِ الْأُمَمَ مِنْ بَدْوٍ وَحَضَرٍ، مَعَ أَنَّهُ كَانَ أَمِّيًّا لَمْ يَتَعَلَّمْ شَيْئًا مِنَ الْعُلُومِ، وَلَمْ يَتَمَرَّسْ بِسِيَاسَةِ الشُّعُوبِ.
كَفَاكَ بِالْعِلْمِ فِي الْأُمِّيِّ مُعْجِزَةً
…
فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَالتَّأْدِيبِ فِي الْيُتْمِ
لَوِ اسْتَدَلَّ ذَلِكَ الطَّبِيبُ الْجَسَدَانِيُّ عَلَى صِحَّةِ دَعَوَاهُ بِعَمَلٍ غَرِيبٍ غَيْرِ مَأْلُوفٍ لِلنَّاسِ، وَلَكِنْ لَا عَلَاقَةَ لَهُ بِالطِّبِّ لَأَمْكَنَ الْمِرَاءُ فِي صِحَّةِ دَعْوَاهُ، كَذَلِكَ شَأْنُ هَذَا النَّبِيِّ فِي ادِّعَائِهِ أَنَّهُ مُرْسَلٌ مِنَ اللهِ لِهِدَايَةِ الْبَشَرِ، فَإِنَّ كِتَابَهُ الْعِلْمِيَّ الْمُؤَيَّدَ بِنَجَاحِ الْعَمَلِ بِهِ أَدَلُّ عَلَى كَوْنِهِ وَحْيًا أَوْحَاهُ اللهُ إِلَيْهِ مِنْ جَعْلِ عَصَاهُ حَيَّةً أَوْ إِحْيَائِهِ مَيِّتًا. لِأَنَّ هَذَيْنِ عَلَى غَرَابَتِهِمَا لَيْسَا مِنْ مَوْضُوعِ الْإِرْشَادِ وَالتَّعْلِيمِ، كَمَا أَنَّهُمَا لَيْسَا مِنْ مَوْضُوعِ الطِّبِّ، فَهُمَا إِنْ دَلَّا عَلَى صِدْقِ الرَّسُولِ فَدَلَالَتُهُمَا لَيْسَتْ فِي أَنْفُسِهِمَا، وَالْإِتْيَانُ بِعَمَلٍ خَارِقٍ لِلْمَأْلُوفِ فِي الْعَادَةِ مَنْ سُنَنِ الْكَوْنِ هُوَ دُونَ الْإِتْيَانِ بِالْعُلُومِ الْعَالِيَةِ الْإِلَهِيَّةِ وَالتَّشْرِيعِيَّةِ مِنْ غَيْرِ تَعْلِيمٍ، فَكَيْفَ بِالْإِتْيَانِ بِأَنْبَاءِ الْغَيْبِ الْمَاضِي وَالْمُسْتَقْبَلِ؟ فَكَيْفَ بِصَلَاحِ حَالِ مَنْ عَمِلُوا بِهَذِهِ الْعُلُومِ دِينًا وَدُنْيَا؟ فَالْقُرْآنُ إِذًا بُرْهَانٌ عَلَى أَنَّ مَا فِيهِ مِنَ الطِّبِّ الرُّوحَانِيِّ الِاجْتِمَاعِيِّ وَحْيٌ مِنَ الرَّبِّ الْمُدَبِّرِ الْحَكِيمِ لَا يُمَارِي فِيهِ إِلَّا مُعَانِدٌ مُكَابِرٌ أَوْ مُقَلِّدٌ جَاهِلٌ.
أَمَّا الْمُكَابِرُونَ الَّذِينَ يَجْحَدُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ فَأَمْثَالُ رُؤَسَاءِ الْمُشْرِكِينَ، وَرُؤَسَاءِ الْيَهُودِ فِي زَمَنِ الْبِعْثَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ الَّذِينَ ثَقُلَ عَلَى طِبَاعِهِمْ تَرْكُ رِيَاسَتِهِمْ، وَصَيْرُورَتُهُمْ أَتْبَاعًا مُسَاوِينَ لِفُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَمَوَالِيهِمْ، وَلَا يَخْلُو هَذَا الْعَصْرُ مِنْ أُنَاسٍ مِنْهُمْ. وَأَمَّا الْمُقَلِّدُونَ فَعَوَامُّ أَهْلِ الْأَدْيَانِ وَالْمَذَاهِبِ فِي كُلِّ عَصْرٍ، الَّذِينَ لَا يَنْظُرُونَ فِي دَلِيلٍ وَلَوْ كَانَ حِسِّيًّا. وَكَذَلِكَ الْمَفْتُونُونَ بِبَعْضِ الشُّبَهَاتِ الْمَادِّيِّينَ مِنَ الْفَلَاسِفَةِ وَعُلَمَاءِ الطَّبِيعَةِ الَّذِينَ قَلَّدُوهُمْ فِي الْكُفْرِ بِاللهِ تَعَالَى كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ فِي أَمْثَالِهِمْ:
عُمْيُ الْقُلُوبِ عَمُوا عَنْ كُلِّ فَائِدَةٍ لِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ تَقْلِيدًا
فَهَؤُلَاءِ الْمُنْكِرُونَ لِوُجُودِ الْخَالِقِ لَا كَلَامَ لَنَا مَعَهُمْ فِي مَسْأَلَةِ النُّبُوَّةِ وَالْوَحْيِ إِلَّا بَعْدَ أَنْ نَتَكَلَّمَ مَعَهُمْ أَوَّلًا فِي إِثْبَاتِ وُجُودِ الْخَالِقِ وَصِفَاتِ رُبُوبِيَّتِهِ، وَلَكِنَّ أَكْثَرَ مُنْكِرِي النُّبُوَّةِ يُؤْمِنُونَ بِوُجُودِ اللهِ تَعَالَى، وَإِنَّمَا يَسْتَبْعِدُونَ مَعْنَى الْوَحْيِ، وَلَيْسَ بِبَعِيدٍ فِي نَظَرِ الْعَقْلِ.
الْوَحْيُ فِي اللُّغَةِ: إِعْلَامٌ فِي خَفَاءٍ. وَوَحْيُ اللهِ تَعَالَى إِلَى أَنْبِيَائِهِ عِلْمٌ يَخُصُّهُمْ بِهِ مِنْ غَيْرِ كَسْبٍ مِنْهُمْ وَلَا تَعَلُّمٍ مَنْ غَيْرِهِمْ، بَلْ هُوَ شَيْءٌ يَجِدُونَهُ فِي أَنْفُسِهِمْ مِنْ غَيْرِ تَفَكُّرٍ وَلَا اسْتِنْبَاطٍ مُقْتَرِنًا بِعِلْمٍ وُجْدَانِيٍّ ضَرُورِيٍّ بِأَنَّ الَّذِي أَلْقَاهُ فِي قُلُوبِهِمْ هُوَ الرَّبُّ الْقَادِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، وَقَدْ يَتَمِثْلُ لَهُمْ فَيُلَقِّنُهُمْ ذَلِكَ الْعِلْمَ، وَقَدْ يَكُونُ بِغَيْرِ وَسَاطَةِ مَلَكٍ، قَالَ تَعَالَى:(وَإِنَّهُ لِتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ)(26: 192 - 194) فَأَيُّ اسْتِحَالَةٍ أَوْ بُعْدٍ فِي هَذَا عِنْدَ مَنْ يُؤْمِنُ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ، وَعِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ وَقُدْرَتِهِ فِي الْمَخْلُوقِينَ؟
وَعَرَّفَهَ شَيْخُنَا فِي رِسَالَةِ التَّوْحِيدِ: ((بِأَنَّهُ عِرْفَانٌ يَجِدُهُ الشَّخْصُ مِنْ نَفْسِهِ مَعَ الْيَقِينِ بِأَنَّهُ مِنْ قِبَلِ اللهِ تَعَالَى بِوَاسِطَةٍ أَوْ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ، وَالْأَوَّلُ بِصَوْتٍ يُتَمَثَّلُ لِسَمْعِهِ أَوْ بِغَيْرِ صَوْتٍ. (قَالَ) وَيُفَرَّقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْإِلْهَامِ بِأَنَّ الْإِلْهَامَ وِجْدَانٌ تَسْتَيْقِنُهُ النَّفْسُ وَتَنْسَاقُ إِلَى مَا يَطْلُبُ عَلَى غَيْرِ شُعُورٍ مِنْهَا مِنْ أَيْنَ أَتَى، وَهُوَ أَشْبَهُ بِوِجْدَانِ الْجُوعِ وَالْعَطَشِ وَالْحُزْنِ وَالسُّرُورِ)) ، ثُمَّ بَيَّنَ إِمْكَانَ هَذَا وَوُقُوعَهُ وَأَسْبَابَ شَكِّ بَعْضِ النَّاسِ فِيهِ وَتَفْنِيدَ شُبُهَاتِهِمْ عَلَيْهِ بِمَا يُرَاجَعُ فِي الرِّسَالَةِ نَفْسِهَا.
وَأَمَّا تَمَثُّلُ الْمَلَكِ فَكَانُوا يَكْتَفُونَ فِي إِثْبَاتِهِ بِقَوْلِهِمْ: إِنَّهُ مُمْكِنٌ فِي نَفْسِهِ وَقَدْ أَخْبَرَ بِهِ الصَّادِقُ فَوَجَبَ تَصْدِيقُهُ، وَنَقُولُ الْيَوْمَ: إِنَّ الْعُلُومَ الْكَوْنِيَّةَ لَمْ تُبْقِ شَيْئًا مِنْ أَخْبَارِ عَالَمِ الْغَيْبِ غَرِيبًا إِلَّا وَقَرَّبَتْهُ إِلَى الْعَقْلِ، بَلْ وَإِلَى الْحِسِّ تَقْرِيبًا، بَلْ ظَهَرَ مِنَ الِاخْتِرَاعَاتِ الْمَادِّيَّةِ الْمُشَاهَدَةِ فِي هَذَا الْعَصْرِ مَا كَانَ يُعَدُّ عِنْدَ الْجَمَاهِيرِ مُحَالًا فِي نَظَرِ الْعَقْلِ لَا غَرِيبًا فَقَطْ، فَإِذَا كَانَ الْإِنْسَانُ الْكِيمْيَائِيُّ يُحَلِّلُ الْأَجْسَامَ الْكَثِيفَةَ حَتَّى تَصِيرَ غَازَاتٍ لَا تُرَى مِنْ شِدَّةِ لُطْفِهَا، وَيُكَثِّفُ الْعَنَاصِرَ اللَّطِيفَةَ فَتَكُونُ كَالْجَامِدَةِ بِطَبْعِهَا، فَكَيْفَ يُسْتَغْرَبُ تَكْثِيفُ الْمَلَكِ لِنَفْسِهِ وَهُوَ مِنَ الْأَرْوَاحِ ذَاتِ الْمِرَّةِ وَالْقُوَّةِ الْعَظِيمَةِ بِأَخْذِهِ مِنْ مَوَادِّ الْعَالَمِ الْمُنْبَثَّةِ فِيهِ هَيْكَلًا عَلَى صُورَةِ الْإِنْسَانِ مَثَلًا.
دَعْ مُخْتَرَعَاتِ
الْكَهْرَبَاءِ الْعَجِيبَةَ الَّتِي لَا يُوجَدُ شَيْءٌ مِمَّا أَخْبَرَ بِهِ الرُّسُلُ مِنْ عَالَمِ الْغَيْبِ إِلَّا وَفِيهَا نَظِيرٌ لَهُ يُقَرِّبُهُ مِنَ الْحِسِّ، لَا مِنَ الْعَقْلِ وَحْدَهُ، وَهَلِ الْكَهْرَبَاءُ إِلَّا قُوَّةٌ مُسَخَّرَةٌ لِلْمَلَائِكَةِ؟
وَدَعْ مَا يُثْبِتُهُ الْأُلُوفُ مِنْ عُلَمَاءِ الْأُمَمِ كُلِّهَا مِنْ تَمَثُّلِ بَعْضِ أَرْوَاحِ الْبَشَرِ لِبَعْضِ النَّاسِ فِي صُوَرٍ كَصُوَرِ الْأَجْسَادِ، وَهُوَ يُوَافِقُ الْمَأْثُورَ عِنْدَنَا عَنِ الْإِمَامِ مَالِكٍ مِنْ أَئِمَّةِ الْفُقَهَاءِ فِي صِفَةِ الرُّوحِ، وَوَقَائِعُهُ عِنْدَ الصُّوفِيَّةِ كَثِيرَةٌ، وَمَنْ يُنْكِرُ مَا يُحْكَى مِنْ وُقُوعِ هَذَا لَا يُنْكِرُ إِمْكَانَهُ فِي نَفْسِهِ، وَلَا الرَّجَاءَ فِي ثُبُوتِهِ فِي يَوْمٍ مَا، بِحَيْثُ يُشَاهِدُهُ جَمِيعُ النَّاسِ.
خُلَاصَةُ مَا تَقَدَّمَ: أَنَّ دَلَالَةَ الْقُرْآنِ عَلَى نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم لَهَا وَجْهَانِ:
(أَحَدُهُمَا) : مَا قِيلَ فِي دَلَالَةِ الْآيَاتِ الْكَوْنِيَّةِ لِبَعْضِ الْأَنْبِيَاءِ السَّابِقِينَ، كَنَاقَةِ صَالِحٍ، وَعَصَا مُوسَى، وَإِحْيَاءِ عِيسَى لِلْمَيِّتِ، وَهُوَ أَنَّ كُلًّا مِنْهَا أَمْرٌ جَاءَ عَلَى غَيْرِ الْمُعْتَادِ مِنْ مَقْدُورِ الْبَشَرِ، وَاسْتَدَلَّ بِهِ صَاحِبُهُ عَلَى نَبُّوتِهِ وَرِسَالَتِهِ، فَكَانَ تَصْدِيقًا مِنَ اللهِ تَعَالَى لَهُ، وَتَكْذِيبًا وَخِذْلَانًا مِنْهُ تَعَالَى لِمَنْ كَذَّبَهُ، وَهَذَا الْوَجْهُ مِنَ الدَّلَالَةِ خَارِجٌ عَنْ مَوْضُوعِ النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ، وَلِذَلِكَ اخْتَلَفَ فِيهِ عُلَمَاءُ النَّظَرِ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا.
(الْوَجْهُ الثَّانِي) : وَهُوَ يَجْتَمِعُ مَعَ الْأَوَّلِ، مَأْخُوذٌ مِنْ مَعْنَى النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ، وَهُوَ أَنَّهَا هِدَايَةٌ عُلْيَا لِلْبَشَرِ، لَا تُغْنِيهِمْ عَنْهَا هِدَايَاتُ الْحَوَاسِّ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ وَلَا هِدَايَةُ الْعَقْلِ، فَإِنَّ هَذِهِ هِدَايَاتٌ شَخْصِيَّةٌ فَرْدِيَّةٌ، وَتِلْكَ هِدَايَةٌ لِنَوْعِ الْإِنْسَانِ فِي جُمْلَتِهِ، وَقَدِ اكْتَفَيْنَا فِي هَذَا الِاسْتِطْرَادِ بِتَمْثِيلِهَا بِطِبِّ الْأَبْدَانِ لِيَفْهَمَهَا كُلُّ قَارِئٍ وَسَامِعٍ، وَإِنَّمَا يَفْهَمُهَا الْفَهْمَ التَّامَّ مِنْ طَرِيقِهِ الْعِلْمِيِّ مَنْ يَقِفُ عَلَى مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ مِنْ آيَاتِ الْهِدَايَةِ وَكَوْنِهِ أَعْلَى وَأَكْمَلَ مِنْ كُلِّ مَا نُقِلَ عَنِ الْأَنْبِيَاءِ السَّابِقِينَ، عَلَى مَا فِي نَقْلِهِ مِنَ التَّوَاتُرِ الْقَطْعِيِّ، وَمَا فِي نَقْلِهَا مِنَ الضَّعْفِ - وَمِنْ طَرِيقِهِ الْعَمَلِيِّ مَنْ عَرَفَ تَارِيخَ الْإِسْلَامِ، وَمَا كَانَ مِنْ تَأْثِيرِ الْقُرْآنِ فِي هِدَايَةِ الْعَرَبِ ثُمَّ هِدَايَةِ غَيْرِهِمْ مِنَ الْأُمَمِ، وَعَرَفَ تَأْثِيرَ هِدَايَةِ الْأَنْبِيَاءِ السَّابِقِينَ فِي أُمَمِهِمْ - عَلَى مَا بَيْنَ النَّقْلَيْنِ مِنَ التَّفَاوُتِ أَيْضًا.
وَلَا يَمْتَرِي أَحَدٌ مِنَ الْعُقَلَاءِ فِي كَوْنِ الْعِلْمِ الَّذِي مَوْضُوعُهُ هِدَايَةُ الْأُمَمِ وَالشُّعُوبِ، وَنَقْلُهَا مِنْ حَالٍ دُنْيَوِيَّةٍ إِلَى حَالٍ أَعْلَى وَأَكْمَلَ مِنْهَا هُوَ مِنَ الْعُلُومِ الْعَالِيَةِ الَّتِي يَقِلُّ فِي النَّاسِ مَنْ يَحْذِقُهَا، وَيَكُونُ إِمَامًا مُبْرَزًا فِيهَا، وَأَنَّ عَمَلَ مَنْ يَتَدَارَسُونَهُ فِي الْكُتُبِ بِهِ أَعْسَرُ مَسْلَكًا، وَأَوْعَرُ طَرِيقًا، وَأَنَّ فَلَاحَ الْعَامِلِينَ بِهِ الْمُتَمَرِّسِينَ بِوَسَائِلِهِ قَلَّمَا يَتَّفِقُ إِلَّا
لِأَفْرَادٍ أُتِيحَ لَهُمْ مِنَ الْأَسْبَابِ وَنُفُوذِ الْحُكُومَاتِ مَا لَمْ يُتَحْ لِغَيْرِهِمْ، فَمَا بَالُكَ بِالْجَمْعِ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ فِي سَبِيلِ الْهِدَايَةِ الرُّوحِيَّةِ وَالِاسْتِعْدَادِ لِسَعَادَةِ الْآخِرَةِ وَالنَّجَاحِ التَّامِّ مَعًا، عَلَى مَا فِيهِمَا مِنْ عَدَمِ سَبْقِ الِاسْتِعْدَادِ لَهَا بِعِلْمٍ وَلَا عَمَلٍ؟ .
وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ: أَنَّ مَوْضُوعَ الرِّسَالَةِ: تَعْلِيمٌ وَإِرْشَادٌ إِلَهِيٌّ يَمْلِكُ الْوِجْدَانَ، وَتُذْعِنُ لَهُ
النَّفْسُ بِالْإِيمَانِ، فَيَكُونُ هِدَايَةً تَزَعُ صَاحِبَهَا عَنِ الْبَاطِلِ وَالشَّرِّ، وَتُوَجِّهُهُ إِلَى الْحَقِّ وَالْخَيْرِ، وَأَنَّ الْقُرْآنَ قَدْ بَلَغَ مَرْتَبَةَ الْكَمَالِ فِيهَا، فَاهْتَدَتْ بِهِ الْأُمَمُ وَالشُّعُوبُ، فَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِهَا عَلَى عِلْمٍ بِحَقِيقَتِهَا، لَا تَقْلِيدًا لِآبَائِهِ وَقَوْمِهِ فِيهَا، لَا يَسَعُهُ أَنْ يُؤْمِنَ بِالتَّوْرَاةِ أَوِ الْإِنْجِيلِ أَوِ الْفِيدَا أَوْ غَيْرِهَا مِنَ الْكُتُبِ الْمَنْسُوبَةِ إِلَى الْمُرْسَلِينَ الْأَوَّلِينَ وَلَا يُؤْمِنُ بِالْقُرْآنِ، وَهُوَ أَكْمَلُهَا فِي مَوْضُوعِهَا، وَأَصَحُّهَا نَسَبًا إِلَى مَنْ جَاءَ بِهِ.
اللهُ أَكْبَرُ إِنَّ دِينَ مُحَمَّدٍ
…
وَكِتَابَهُ أَقْوَى وَأَقْوَمُ قِيلًا
لَا تَذْكُرُوا الْكُتُبَ السَّوَالِفَ عِنْدَهُ طَلَعَ الصَّبَاحُ فَأَطْفَأَ الْقِنْدِيلَا
وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ تَعَالَى، وَأَنَّهُ هُوَ الرَّبُّ الْخَالِقُ لِلْعَالَمِ بِأَكْمَلِ نِظَامٍ، الْمُدَبِّرُ لِأُمُورِ الْعِبَادِ بِالْحِكْمَةِ وَالْإِحْكَامِ، وَأَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى، وَتَأَمَّلَ فِي تَارِيخِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الْمَنْقُولِ نَقْلًا مُسْتَفِيضًا وَمُتَوَاتِرًا، فَلَا يَسَعُهُ أَنْ يَزْعُمَ أَنَّ بَعْثَةَ مُحَمَّدٍ الْأُمِّيِّ الْعَرَبِيِّ، وَإِتْيَانَهُ بِهَذَا الْقُرْآنِ، الْمُشْتَمِلِ عَلَى مَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ مِنْ ضُرُوبِ الْإِعْجَازِ، قَدْ كَانَ مِنْ أُمُورِ التَّعَالِيمِ الْبَشَرِيَّةِ الْكَسْبِيَّةِ، وَمَا حَدَثَ بِهِ مِنَ الْهِدَايَةِ الَّتِي قَلَبَتْ تَارِيخَ الْبَشَرِ كَانَ مِنَ الْأُمُورِ الْعَادِيَّةِ، بَلْ لَا يَسَعُهُ إِذَا أَنْصَفَ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنَ بِأَنَّ هَذِهِ الْحَادِثَةَ الِانْقِلَابِيَّةَ فِي دِينِ الْأُمَمِ وَدُنْيَاهَا، قَدْ كَانَتْ بِعِنَايَةٍ مِنَ الرَّبِّ الْحَكِيمِ الْعَلِيمِ، الْمُدَبِّرِ الرَّحِيمِ، وَأَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَفَاضَ هَذَا الْقُرْآنَ الْحَكِيمَ عَلَى قَلْبِ ذَلِكَ الرَّجُلِ الْأُمِّيِّ بَعْدَ أَرْبَعِينَ سَنَةً، قَضَاهَا فِي قَوْمِهِ لَمْ يُؤْثَرْ عَنْهُ شَيْءٌ مِنْ مِثْلِ عُلُومِهِ، وَلَا مِمَّا يَقْرُبُ مِنْ أُسْلُوبِهِ وَبَلَاغَتِهِ.
هَذَا وَإِنَّ لِتَحْقِيقِ هَذِهِ الدَّلَالَةِ الْعِلْمِيَّةِ عَلَى النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ مُقْدِمَاتٍ عِلْمِيَّةً وَفَلْسَفِيَّةً مُسْتَنْبَطَةً مِنْ حَاجَةِ الْبَشَرِ فِي كَمَالِهِمُ النَّوْعِيِّ فِي الدُّنْيَا، وَفِي اسْتِعْدَادِهِمْ لِلْحَيَاةِ الْأَبَدِيَّةِ إِلَى هِدَايَةِ الرِّسَالَةِ، وَقَدْ عَقَدَ شَيْخُنَا الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ لِهَذَا الْبَحْثِ فَصْلًا طَوِيلًا فِي " رِسَالَةِ التَّوْحِيدِ " سَلَكَ فِيهِ مَسْلَكَيْنِ:
(أَحَدُهُمَا) : مَبْنِيٌّ عَلَى عَقِيدَةِ خُلُودِ
النَّفْسِ الْبَشَرِيَّةِ وَكَوْنِهَا لَا تَزُولُ مِنَ الْوُجُودِ بِالْمَوْتِ الْمَعْهُودِ، وَهِيَ عَقِيدَةٌ اتَّفَقَتْ عَلَيْهَا كَلِمَةُ الْبَشَرِ مِنَ الْمِلِّيِّينَ مُوَحِّدِيهِمْ وَوَثَنِيِّيهِمْ وَالْفَلَاسِفَةِ إِلَّا قَلِيلًا مِنَ الْمَادِّيِّينَ الْجَدَلِيِّينَ الَّذِينَ لَا يَعْتَدُّونَ إِلَّا بِمُدْرَكَاتِ الْحِسِّ.
(وَثَانِيهُمَا) : مَأْخُوذٌ مِنْ طَبِيعَةِ الْإِنْسَانِ فِي حَيَاتِهِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ.
بَيَّنَ الْأُسْتَاذُ فِي الْأَوَّلِ أَنَّ الْإِنْسَانَ مُحْتَاجٌ بِمُقْتَضَى تِلْكَ الْعَقِيدَةِ وَالشُّعُورِ النَّوْعِيِّ الْعَامِّ بِالْبَقَاءِ وَالِانْتِقَالِ مِنْ طَوْرٍ إِلَى آخَرَ فِي الْحَيَاةِ إِلَى هِدَايَةٍ يَسْتَعِدُّ بِهَا لِلْحَيَاةِ الْآخِرَةِ الْبَاقِيَةِ، وَهِيَ مِنْ عَالَمِ الْغَيْبِ الَّذِي لَا يُدْرِكُ مِنْ أَمْرِهِ شَيْئًا، فَيَسْتَقِلُّ عَقْلُهُ فِي الْعِلْمِ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنَ الِاسْتِعْدَادِ لَهُ، فَلَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْهِدَايَةُ مِنْ عِنْدِ اللهِ تَعَالَى الَّذِي خَلَقَهُ لِلْبَقَاءِ الَّذِي يَعْقِلُهُ فِي الْجُمْلَةِ، لَا لِلزَّوَالِ وَالْعَدَمِ الْمَحْضِ الَّذِي لَا يَعْقِلُ وَلَا يَتَصَوَّرْ وَلَا يَتَخَيَّلْ، وَإِنَّمَا عَاقِبَةُ الْمَوْتِ
انْحِلَالُ هَذِهِ الصُّوَرِ الْجَسَدِيَّةِ، وَتَفَرُّقُ هَذِهِ الْمُرَكَّبَاتِ الْمَادِّيَّةِ، فَاللهُ هُوَ الْعَلِيمُ بِمَا يَصْلُحُ بِهِ حَالُهُ فِي تِلْكَ الْحَيَاةِ، وَتَأْبَى حِكْمَتُهُ وَرَحْمَتُهُ وَجُودُهُ وَإِتْقَانُهُ لِكُلِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَتَنَزُّهُهُ عَنِ الْبَاطِلِ وَالْعَبَثِ، أَنْ يَحْرِمَهُ هَذِهِ الْهِدَايَةَ.
وَبَيِّنَ فِي الثَّانِي أَنَّ هَذِهِ الْحَيَاةَ الِاجْتِمَاعِيَّةَ الْإِنْسَانِيَّةَ لَا يَسْتَقِيمُ فِيهَا التَّعَاوُنُ بَيْنَ الْأَفْرَادِ وَلَا بَيْنَ الْجَمَاعَاتِ إِلَّا بِالْأَخْذِ بِتَعَالِيمَ اعْتِقَادِيَّةٍ وَأَدَبِيَّةٍ وَعَمَلِيَّةٍ لَا تَخْتَلِفُ فِيهَا الْأَهْوَاءُ وَالشَّهَوَاتُ؛ لِأَنَّ الْوَازِعَ فِيهَا نَفْسِيٌّ وِجْدَانِيٌّ لِصُدُورِهَا عَنِ الرَّبِّ الْحَكِيمِ الْعَلِيمِ، بِوَحْيٍ أَوْحَاهُ إِلَى مَنِ اخْتَصَّهُ بِهَذَا الْفَضْلِ الْعَظِيمِ، وَلَوْلَا أَنْ طَالَ هَذَا الِاسْتِطْرَادُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ لَأَوْرَدْتُ هَذَا الْفَصْلِ بِرُمَّتِهِ هُنَا، فَهُوَ فِي الْمَسْأَلَةِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ، وَالْحِكْمَةُ وَفَصْلُ الْخِطَابِ.
إِلَّا أَنَّنِي أَقُولُ: إِنَّ أَعْلَمَ الْحُكَمَاءِ الْغَرْبِيِّينَ فِي هَذَا الْعَصْرِ قَدْ بَيَّنُوا فِي مَبَاحِثِهِمْ فِي طَبَائِعِ الْبَشَرِ أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا تُرِكَ إِلَى مَدَارِكِهِ الْحِسِّيَّةِ، وَنَظَرِيَّاتِهِ الْعَقْلِيَّةِ، وَتَسَلَّلَ مِنْ وِجْدَانِ الدِّينِ وَالْإِلْهَامِ الْإِلَهِيِّ بِالْحَيَاةِ الْأُخْرَى، يَكُونُ أَشْقَى مِنْ جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْحَيَوَانِ الْأَعْجَمِ، وَيَكُونُ جُلُّ شَقَائِهِ مِنْ نَظَرِيَّاتِهِ الْعَقْلِيَّةِ، فَهُوَ إِذَا فَكَّرَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الْقَصِيرَةِ الَّتِي تُسَاوِرُهَا الْآلَامُ الشَّخْصِيَّةُ، مِنْ جَسَدِيَّةٍ وَنَفْسِيَّةٍ، وَالْآلَامِ الْمَنْزِلِيَّةِ (الْعَائِلِيَّةِ) وَالْقَوْمِيَّةِ وَالْوَطَنِيَّةِ وَالدَّوْلِيَّةِ، يَرَاهَا عَبَثًا ثَقِيلًا، وَيَرَى مِنَ السُّخْفِ أَوِ الْجُنُونِ أَنْ يَحْمِلَ شَيْئًا مِنْهَا مُخْتَارًا لِأَجْلِ زَوْجَةٍ أَوْ وَلَدٍ أَوْ وَطَنٍ أَوْ أُمَّةٍ، وَيَرَى أَنَّ الطَّرِيقَةَ الْمُثْلَى فِي الْحَيَاةِ أَلَّا يَتَعَرَّضَ لِأَلَمٍ مِنْ هَذِهِ الْآلَامِ، فَلَا يَتَزَوَّجَ
وَلَا يَعْمَلَ أَدْنَى عَمَلٍ وَلَا يَتَكَلَّفَ أَدْنَى تَعَبٍ لِأَجْلِ غَيْرِهِ، وَأَنْ يَطْلُبَ لَذَّاتِهِ الْجَسَدِيَّةِ مِنْ أَقْرَبِ الطَّرْقِ إِلَيْهَا، وَيَنْتَظَرَ الْمَوْتَ لِلِاسْتِرَاحَةِ مِنْ هَذِهِ الْحَيَاةِ، فَإِنْ أَبْطَأَ عَلَيْهِ وَنَزَلَتْ بِهِ آلَامٌ يَشُقُّ عَلَيْهِ احْتِمَالُهَا مِنْ مَرَضٍ أَوْ فَقْرٍ مُدْقِعٍ أَوْ ذُلٍّ مُخْزٍ فَلْيَبْخَعْ نَفْسَهُ وَيَتَعَجَّلِ الْمَوْتَ انْتِحَارًا.
كُلُّ فَضَائِلِ الْإِنْسَانِ مِنَ الصَّبْرِ عَلَى الْمَكَارِهِ، وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِ الزَّوْجَةِ وَالْوَلَدِ وَالْأُمَّةِ وَالْوَطَنِ، وَإِسْدَاءِ الْمَعْرُوفِ وَسَائِرِ أَعْمَالِ الْبِرِّ لَا يَبْعَثُ النَّفْسَ عَلَيْهَا إِلَّا الْإِيمَانُ بِاللهِ وَبِالْجَزَاءِ عَلَى الْأَعْمَالِ فِي حَيَاةٍ خَيْرٍ مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، كَمَا قَرَّرَهُ الْبِرِنْسُ بِسْمَارْكُ عَظِيمُ أُورُبَّا فِي عَصْرِهِ فِي بَيَانِ ((الْبَاعِثُ لِلْجُنْدِيِّ عَلَى بَذْلِ نَفْسِهِ فِي الْحَرْبِ)) مِنْ أَنَّهُ وَجَدَ أَنَّهُ الدِّينُ، وَفِي قَوْلِهِ عَنْ نَفْسِهِ إِنَّهُ لَوْلَا الْإِيمَانُ لَمَا خَدَمَ الْأُمَّةَ الْأَلْمَانِيَّةَ فِي ظِلِّ عَاهِلِهَا، وَهُوَ يَكْرَهُ الْمُلُوكَ لِأَنَّهُ جُمْهُورِيٌّ بِالطَّبْعِ. وَلَئِنِ انْتَصَرَتِ الْأَفْكَارُ الْمَادِّيَّةُ عَلَى الْهِدَايَةِ الدِّينِيَّةِ انْتِصَارًا تَامًّا كَامِلًا لِيَتَحَوَّلَنَّ جَمِيعُ مَا اهْتَدَى إِلَيْهِ الْبَشَرُ مِنْ أَسْرَارِ الْكَوْنِ وَالْفُنُونِ وَالصِّنَاعَاتِ إِلَى ذَرَائِعِ الْفَتْكِ وَالتَّدْمِيرِ، وَبِئْسَ الْمَثْوَى وَالْمَصِيرِ. وَهُوَ مَا جَزَمَ هِرْبِرْتُ سِبِنْسَرُ شَيْخُ فَلَاسِفَةِ أُورُبَّا الِاجْتِمَاعِيِّينَ بِأَنَّهُ سَيَكُونُ عَاقِبَةَ انْتِشَارِ الْأَفْكَارِ الْمَادِّيَّةِ فِي أُورُبَّا: صَرَّحَ بِهِ لِشَيْخِنَا عِنْدَ الْتِقَائِهِ بِهِ فِي انْجِلْتِرَا.
فَجُمْلَةُ الْقَوْلِ: أَنَّ الدِّينَ هُوَ الْهِدَايَةُ الْعُلْيَا لِلْإِنْسَانِ الَّتِي أُفِيضَتْ عَلَى بَعْضِ خَوَاصِّهِ
وَهُمُ الرُّسُلُ مِنْ أُفُقٍ أَعْلَى مِنْ عَقْلِهِ وَحَوَاسِّهِ، فَكَانَتْ أُسْتَاذًا مُرْشِدًا لَهُ فِيهِمَا لِكَيْلَا يَسْتَعْمِلَهُمَا فِيمَا يَضُرُّهُ فِي سِيرَتِهِ الشَّخْصِيَّةِ وَالِاجْتِمَاعِيَّةِ، وَهَادِيًا لَهُ إِلَى السَّعَادَةِ الْأُخْرَوِيَّةِ، وَأَنَّ الْقُرْآنَ أَكْمَلُ الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ الَّتِي أَوْحَاهَا اللهُ إِلَى رُسُلِهِ لِيُبَلِّغُوهَا خَلْقَهُ، أَكْمَلُهَا هِدَايَةً وَإِرْشَادًا، وَأَصَحُّهَا تَارِيخًا وَإِسْنَادًا، وَلِذَلِكَ كَانَ خَاتِمَةً لَهَا، وَكَانَ آيَةً دَائِمَةً وَمُعْجِزَةً ثَابِتَةً بِأُسْلُوبِ عِبَارَتِهِ وَبِمَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مِمَّا مَرَّتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ، وَلَكِنْ مَا طَرَأَ عَلَى دُوَلِ خِلَافَتِهِ الْعَرَبِيَّةِ مِنَ الضَّعْفِ وَالِانْحِلَالِ صَدَّ النَّاسَ عَنْهُ، وَسَيَرْجِعُونَ إِلَى إِحْيَاءِ لُغَتِهِ، وَتَعْمِيمِ دَعْوَتِهِ فَيُنْقِذُ اللهُ بِهِ الْعَالَمَ مِنْ مَصَائِبِهِ الْمَادِّيَّةِ الَّتِي أَوْشَكَتْ أَنْ تُؤَدِّيَ بِهِ (وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ) (38: 88) .
خَاتِمَةُ الْبَحْثِ فِيمَنْ عَارَضُوا الْقُرْآنَ:
نَخْتِمُ هَذَا الْبَحْثَ بِكَلِمَةٍ فِيمَنْ حَاوَلُوا مُعَارَضَةَ الْقُرْآنِ، وَقَدْ كَانَ مِنْ دَأْبِ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ إِحْصَاءُ كُلِّ مَا يَبْلُغُهُمْ فِي الدِّينِ وَالْعِلْمِ وَالْأَدَبِ وَتَدْوِينُهُ وَعَزْوُهُ
إِلَى أَهْلِهِ، حَتَّى إِنَّ دُعَاةَ النَّصْرَانِيَّةِ يَقْرَءُونَ كُتُبَ عُلَمَائِنَا وَيَنْقُلُونَ مِنْهَا كُلَّ طَعْنٍ فِي الْإِسْلَامِ وَيُؤَيِّدُونَهُ، وَيَكْتُمُونَ رَدَّ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِ أَوْ يَذْكُرُونَ مِنْهُ مَا يَرَوْنَهُ ضَعِيفًا وَيُورِدُونَهُ مَوْرِدَ الْهُزْءِ وَالسُّخْرِيَةِ لِتَنْفِيرِ ضُعَفَاءِ الْعِلْمِ أَوِ الْعَقْلِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ عَنْهُ.
وَقَدْ أَجْمَعَ رُوَاةُ الْآثَارِ وَالتَّارِيخِ عَلَى أَنَّ فَحَوْلَ الْبُلَغَاءِ مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ لَمْ تَسْمُ نَفْسُ أَحَدٍ مِنْهُمْ إِلَى مُعَارَضَةِ الْقُرْآنِ مَعَ شِدَّةِ حِرْصِهِمْ عَلَى صَدِّ النَّاسِ عَنِ الْإِسْلَامِ، وَعَنِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم كَمَا تَقَدَّمَ - اللهُمَّ إِلَّا أَنَّ بَعْضَهُمْ نَقَلَ عَنْ (مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ) أَنَّهُ عَارَضَ سُورَةَ (الْكَوْثَرِ) وَهِيَ أَقْصَرُ سُورَةٍ مِنْهُ لِيُثْبِتَ لَدَى غَوْغَائِهِ أَنَّهُ يُوحَى إِلَيْهِ كَمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ كَمَا فِي التَّفْسِيرِ الْكَبِيرِ لِلرَّازِيِّ وَغَيْرِهِ:
" إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْجُمَاهِرَ، فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَهَاجِرْ، إِنَّ مُبْغِضَكَ رَجُلٌ كَافِرٌ ".
وَقَدْ تَعَلَّقَ بِهَذَا بَعْضُ دُعَاةِ النَّصْرَانِيَّةِ فِي رِسَالَةٍ لَهُ فِي الطَّعْنِ عَلَى إِعْجَازِ الْقُرْآنِ وَلَكِنَّهُ أَوْرَدَهَا بِأَلْفَاظٍ أُخْرَى، وَزَعَمَ أَنَّهَا فَصِيحَةٌ مُتَنَاسِبَةُ الْمَعْنَى، بَعْدَ أَنْ طَعَنَ فِي سُورَةِ (الْكَوْثَرِ) وَزَعَمَ أَنَّهُ سَأَلَ عُلَمَاءَ الْمُسْلِمِينَ عَنْ بَلَاغَتِهَا وَإِعْجَازِهَا فَلَمْ يَسْتَطِعْ أَحَدٌ أَنْ يُجِيبَهُ (وَهُوَ هُوَ الَّذِي نَقَلْنَا عَنْهُ مُعَارَضَةُ سُورَةِ الْفَاتِحَةِ ص65 وَهَذِهِ عِبَارَاتُهُ أَوْ رِوَايَتُهُ:
" إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْجَوَاهِرَ، فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَجَاهِرْ، وَلَا تَعْتَمِدْ قَوْلَ سَاحِرٍ ".
وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا التَّغْيِيرَ جَاءَ مِنْ جَاهِلٍ بِاللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ الْفَصِيحَةِ، وَلَا سِيَّمَا لُغَةُ ذَلِكَ الْعَصْرِ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ سَخِيفُ الْعَقْلِ، فَمِنْ سُخْفِ عَقْلِهِ إِتْيَانُهُ بِكَلِمَةِ الْجَوَاهِرِ هُنَا وَتَرْتِيبُ الْأَمْرِ بِالصَّلَاةِ عَلَى إِعْطَائِهَا، وَفَرَضَ هَذَا وَحْيًا (لِمُسَيْلِمَةَ) الْمُدَّعِي لِلنُّبُوَّةِ، مَعَ أَنَّهُ لَا يُوجَدُ نَقْلٌ بِأَنَّ اللهَ أَعْطَاهُ جَوَاهِرَ مَعْرُوفَةً تُذْكَرُ بِلَامِ التَّعْرِيفِ، وَلَا غَيْرَ مُعَيَّنَةٍ، فَتُذْكَرُ بِلَامِ الْجِنْسِ، ثُمَّ إِنَّهُ لَا مُنَاسَبَةَ لِلْأَمْرِ بِالْمُجَاهَرَةِ بِالصَّلَاةِ هُنَا وَهِيَ الْمُشَارَكَةُ فِي جَهْرِ الشَّيْءِ أَوِ الْجَهْرِ بِالْقَوْلِ،
وَأَمَّا الْفِقْرَةُ الْأَخِيرَةُ فَلَيْسَتْ مِمَّا يَقُولُهُ عَرَبِيٌّ قُحٌّ لَا مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ وَلَا مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى، إِذْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَ الْعَرَبِ أَقْوَالٌ لِلسَّحَرَةِ تُعْتَمَدُ أَوْ لَا تُعْتَمَدُ إِنْ صَحَّ أَنْ يُقَالَ هَذَا، وَإِنَّمَا السَّحَرَةُ أُنَاسٌ مُفْسِدُونَ مُحْتَالُونَ فَعَّالُونَ لَا قَوَّالُونَ.
وَلَوْ فَرَضْنَا أَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ الَّتِي غَيَّرَهَا مِنَ السُّورَةِ صَحِيحَةٌ وَمُنَاسِبَةٌ لِلْمَقَامِ وَمُقْتَضَى الْحَالِ لَمَا صَحَّ أَنْ يَكُونَ بِهَا مُعَارِضًا لَهَا بَلْ مُقَلِّدًا وَنَاقِلًا فَهُوَ ضَرْبٌ مِنَ الِاقْتِبَاسِ مَعَ التَّصَرُّفِ،
كَمَنْ يُغَيِّرُ قَافِيَةَ أَبْيَاتٍ مِنَ الشِّعْرِ بِمَعْنَاهَا أَوْ بِمَعْنَى آخَرَ، كَقَوْلِ الشَّاعِرِ:
مَا لِمَنْ تَمَّتْ مَحَاسِنُهُ
…
أَنْ يُعَادِي طَرْفَ مَنْ رَمَقَا
لَكَ أَنْ تُبْدِي لَنَا حُسْنًا
…
وَلَنَا أَنْ نُعْمِلَ الْحِدَقَا
قَدَحَتْ عَيْنَاكَ زَنْدَ هَوَى
…
فِي سَوَادِ الْقَلْبِ فَاحْتَرَقَا
غَيَّرْتُ قَوَافِيَهَا لَفْظًا لَا مَعْنًى بِالْبَدَاهَةِ فَقُلْتُ:
مَا لِمَنْ تَمَّتْ مَحَاسِنُهُ
…
أَنْ يُعَادَى طَرْفَ مَنْ مَقَلَا
لَكَ أَنْ تُبْدِي لَنَا حُسْنًا
…
وَلَنَا أَنْ نُعْمِلَ الْمُقَلَا
قَدَحَتْ عَيْنَاكَ زَنْدَ هَوَى
…
فِي سَوَادِ الْقَلْبِ فَاشْتَعَلَا
" مَقَلَ " نَظَرَ بِمُقْلَتِهِ، ثُمَّ غَيَّرْتُهَا أَيْضًا بِكَلِمَاتِ: نَظَرَا، أَوْ بَصَرَا - النَّظَرَا - فَاسْتَعَرَا - فَهَلْ أَكُونُ بِهَذَا مُعَارِضًا لِلْأَصْلِ، وَفِي طَبَقَةِ صَاحِبِهِ مَنْ غَزَلِ الشِّعْرِ؟
إِعْجَازُ سُورَةِ الْكَوْثَرِ:
وَأَمَّا السُّورَةُ فَهِيَ فِي أُفُقٍ أَعْلَى مِمَّا قَالَ مُسَيْلِمَةُ الْكَذَّابُ، وَمِمَّا عَزَاهُ إِلَيْهِ الْمُبَشِّرُ الْجَاهِلُ الْمُخَادِعُ، حَتَّى لَوْ فُرِضَ أَنَّهُ قَالَ مَا قَالَ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ.
" الْكَوْثَرُ " فِي السُّورَةِ لَا يُوجَدُ فِي اللُّغَةِ مَا يَحْكِيهِ أَوْ يَحُلُّ مَحَلَّهُ فِيهَا، إِذْ مَعْنَاهُ الْكَثِيرُ الْبَالِغُ مُنْتَهَى حُدُودِ الْكَثْرَةِ فِي الْخَيْرِ حِسِّيًّا كَانَ، كَالْمَالِ وَالرِّجَالِ وَالذُّرِّيَّةِ وَالْأَتْبَاعِ، أَوْ مَعْنَوِيًّا، كَالْعِلْمِ وَالْهُدَى وَالصَّلَاحِ وَالْإِصْلَاحِ، وَيَشْمَلُ الْكَثِيرَ مِنْ خَيْرَيِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
وَهُوَ يُطْلَقُ عَلَى السَّخِيِّ الْجَوَادِ أَيْضًا.
وَأَمَّا مَوْقِعُهُ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ وَمَوْقِعُ كَلِمَةِ " الْأَبْتَرِ " فِي آخِرِهَا اللَّذَانِ اقْتَضَتْهُمَا الْبَلَاغَةُ وَتَأْبَى أَنْ يَحُلَّ غَيْرُهُمَا مَحَلَّهُمَا، فَهُوَ أَنَّ رُؤَسَاءَ الْمُشْرِكِينَ الْمُسْتَكْبِرِينَ كَانُوا يُحَقِّرُونَ أَمْرَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِفَقْرِهِ وَضَعْفِ عَصَبِيَّتِهِ، وَيَتَرَبَّصُونَ بِهِ الْمَوْتَ أَوْ غَيْرَهُ مِنَ الدَّوَائِرِ زَاعِمِينَ أَنَّ مَا لَهُ مِنْ قُوَّةِ التَّأْثِيرِ فِي الْأَنْفُسِ بِتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ يَزُولُ بِزَوَالِ شَخْصِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى:(أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ)(52: 30 - 31) وَكَانُوا يَقُولُونَ عِنْدَمَا رَأَوْا أَبْنَاءَهُ يَمُوتُونَ: بُتِرَ مُحَمَّدٌ، أَوْ صَارَ أَبْتَرَ، أَيِ انْقَطَعَ ذِكْرُهُ
بِانْقِطَاعِ وَلَدِهِ وَعَصَبِيَّتِهِ، وَكَانُوا يَعُدُّونَ الْفَقْرَ وَانْقِطَاعَ الْعَقِبِ مَطْعَنًا فِي دِينِهِ، وَدَلِيلًا عَلَى تَوْدِيعِ اللهِ لَهُ وَعَدَمِ عِنَايَتِهِ بِهِ تَبَعًا لِاسْتِدْلَالِهِمْ بِالْغِنَى
وَكَثْرَةِ الْوَلَدِ عَلَى رِضَاءِ اللهِ تَعَالَى وَعِنَايَتِهِ كَمَا حَكَى عَنْهُمْ سُبْحَانَهُ بِقَوْلِهِ: (وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ)(34: 35) وَقَدْ أَبْطَلَ اللهُ تَعَالَى بِهَذِهِ السُّورَةِ شُبْهَتَهُمْ، وَدَحَضَ حُجَّتَهُمْ، وَجَعَلَ فَأْلَهَمَ شُؤْمًا عَلَيْهِمْ لَمَّا بَيَّنَ مَنْ عَاقِبَةِ أَمْرِهِمْ وَأَمْرِهِ، قَالَ مَا تَفْسِيرُهُ بِالْإِيجَازِ:
(إِنَّا) بِمَا لَنَا مِنَ الْقُدْرَةِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ (أَعْطَيْنَاكَ) أَيُّهَا الرَّسُولُ مِنْ خَيْرَيِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ (الْكَوْثَرَ) : الَّذِي لَا تُحَدُّ كَثْرَتُهُ وَلَا تُحْصَرُ، مِنَ الدِّينِ الْحَقِّ، وَهِدَايَةِ الْخَلْقِ، وَمَا لَا يُحْصَى مِنَ الْأَتْبَاعِ، وَمَا لَا يُحْصَرُ مِنَ الْغَنَائِمِ، وَالنَّصْرِ عَلَى الْأَعْدَاءِ، وَمَا لَا يَنْقَطِعُ مِنَ الذُّرِّيَّةِ الَّتِي تُنْسَبُ إِلَيْكَ فَتُذْكَرُ بِذِكْرِهِمْ، وَيُصَلَّى وَيُسَلَّمُ عَلَيْكَ وَعَلَيْهِمْ، ثُمَّ مِنَ الشَّفَاعَةِ الْعُظْمَى يَوْمَ الْفَزَعِ الْأَكْبَرِ وَالْحَوْضِ الَّذِي يَرِدُهُ الْمُؤْمِنُونَ فِي الْمَحْشَرِ، فَلَفْظُ " الْكَوْثَرِ " يَشْمَلُ كُلَّ هَذَا وَغَيْرَهُ، وَإِنَّمَا يَكُونُ كُلُّ نَوْعٍ مِنْهُ فِي وَقْتِهِ، وَكَانَ الْإِخْبَارُ بِهِ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ مِنَ الْبِشَارَةِ وَنَبَأِ الْغَيْبِ، وَذُكِرَ بِلَفْظِ الْمَاضِي لِتَحَقُّقِ وُقُوعِهِ كَقَوْلِهِ:(أَتَى أَمْرُ اللهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ)(16: 1) أَوْ عَلَى مَعْنَى الْإِنْشَاءِ. . . فَأَيْنَ هَذَا اللَّفْظُ فِي نَفْسِهِ وَفِي مُوَافَقَتِهِ لِمُقْتَضَى الْحَالِ مِنْ كَلِمَةِ " الْجُمَاهِرِ " الَّتِي اسْتَبْدَلَهَا بِهِ مُسَيْلِمَةُ الْكَذَّابُ وَهِيَ بِالضَّمِّ الشَّيْءُ الضَّخْمُ - أَوْ كَلِمَةِ " الْجَوَاهِرِ " الَّتِي ذَكَرَهَا الْمُبَشِّرُ الْمُرْتَابُ السَّبَّابُ، وَهِيَ كَذِبٌ لَا مُنَاسَبَةَ لَهُ؟
وَوَصَلَ تَعَالَى هَذِهِ الْبِشَارَةَ الْعُظْمَى بِالْأَمْرِ بِشُكْرِهَا فَقَالَ: (فَصَلِّ لِرَبِّكَ) وَمُتَوَلِّي أَمْرِكَ الَّذِي مَنَّ عَلَيْكَ بِهَذِهِ النِّعَمِ وَحْدَهُ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ، (وَانْحَرْ) ذَبَائِحَ نُسُكِكَ لَهُ وَحْدَهُ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:(قُلْ إِنَّ صِلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)(6: 162) وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ سَيَكُونُ لَهُ الْغَلَبُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، الَّذِي يَتِمُّ بِفَتْحِ مَكَّةَ وَبِحَجِّهِ وَنُسُكِهِ مَعَ أَتْبَاعِهِ - وَقَدْ كَانَ - وَنَحَرَ صلى الله عليه وسلم فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ مِائَةَ نَاقَةٍ، فَهَذِهِ بِشَارَةٌ خَاصَّةٌ بَعْدَ تِلْكَ الْبِشَارَةِ الْعَامَّةِ، وَكِلَاهُمَا مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ.
ثُمَّ قَفَّى عَلَى ذَلِكَ بِبِشَارَةٍ ثَالِثَةٍ: هِيَ تَمَامُ الرَّدِّ عَلَى أُولَئِكَ الطُّغَاةِ الْمَغْرُورِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَوْلَادِهِمْ أَوْرَدَهَا مَفْصُولَةً غَيْرَ مَوْصُولَةٍ بِالْعَطْفِ عَلَى مَا قَبْلَهَا؛ لِأَنَّهَا جَوَابٌ عَنْ سُؤَالٍ تَقْدِيرُهُ: وَمَاذَا تَكُونُ عَاقِبَةُ شَانِئِيهِ وَمُبْغَضِيهِ الَّذِينَ رَمَوْهُ بِلَقَبِ الْأَبْتَرِ وَتَرَبَّصُوا بِهِ الدَّوَائِرَ لِمَا يَرْجُونَ مِنَ انْقِطَاعِ ذِكْرِهِ وَاضْمِحْلَالِ دَعْوَتِهِ؟ فَأَجَابَ: (إِنَّ شَانِئَكَ) أَيْ
مُبْغِضَكَ وَعَائِبَكَ بِالْفَقْرِ وَفَقْدِ الْعَقِبِ (هُوَ الْأَبْتَرُ) مِنْ دُونِكَ - وَهَذَا إِخْبَارٌ آخَرُ بِالْغَيْبِ قَدْ صَحَّ وَتَحَقَّقَ بَعْدَ كَرِّ السِّنِينَ، وَلَفْظُ " شَانِئٍ " مُفْرَدٌ مُضَافٌ فَمَعْنَاهُ عَامٌّ، فَهُوَ يَشْمَلُ الْعَاصَ بْنَ وَائِلٍ وَعُقْبَةَ بْنَ أَبِي مُعَيْطٍ وَأَمْثَالَهُمْ مِمَّنْ نُقِلَ عَنْهُمْ ذَلِكَ الْقَوْلُ فِيهِ صلى الله عليه وسلم لَفْظًا أَوْ مُوَافَقَةً لِإِخْوَانِهِمُ الْمُجْرِمِينَ، فَقَدْ بُتِرُوا كُلُّهُمْ وَهَلَكُوا، ثُمَّ نُسُوا كَأَنَّهُمْ مَا وُجِدُوا، وَزَالَ مَا كَانُوا يَرْجُونَ
مِنْ بَقَاءِ الذِّكْرِ بِالْعَظَمَةِ وَالرِّيَاسَةِ وَكَثْرَةِ الْوَلَدِ وَالْعَصَبِيَّةِ، فَلَمْ يَعُدْ أَحَدٌ مِنْهُمْ يُذْكَرُ بِخَيْرٍ، وَلَا يُنْسَبُ لَهُ عَقِبٌ.
فَأَنْتَ تَرَى أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ عَلَى إِيجَازِهَا فِي مُنْتَهَى الْفَصَاحَةِ وَالْبَلَاغَةِ، قَدْ جَمَعَتْ مِنَ الْمَعَانِي الْكَثِيرَةِ الصَّحِيحَةِ، وَمِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ الَّتِي فَسَّرَهَا الزَّمَانُ مَا تُعَدُّ بِهِ مُعْجِزَةً بَيِّنَةَ الْإِعْجَازِ، وَفِيهَا مِنَ الْمَعَانِي وَاللَّطَائِفِ غَيْرُ مَا ذَكَرْنَا، فَيُرَاجَعُ تَفْسِيرُهَا (فِي مَفَاتِيحِ الْغَيْبِ) وَغَيْرِهِ مِنَ الْمُطَوَّلَاتِ.
أَنْبِيَاءُ الْعَجَمِ الْكَاذِبُونَ:
هَذَا وَأَنَّهُ قَدْ ظَهَرَ فِي الْقَرْنَيْنِ الْمَاضِي وَالْحَاضِرِ دَجَّالُونَ مِنْ إِيرَانَ، فَالْهِنْدِ، ادَّعَى بَعْضُهُمْ أَنَّهُ الْمَهْدِيُّ، وَبَعْضُهُمْ أَنَّهُ نَبِيٌّ يُوحَى إِلَيْهِ، وَشَارِعٌ جَدِيدٌ فَإِلَهٌ مَعْبُودٌ، وَبَعْضُهُمْ أَنَّهُ الْمَسِيحُ الْمُنْتَظَرُ، وَقَدْ أَلَّفَ كُلٌّ مِنْهُمْ رَسَائِلَ وَكُتُبًا عَرَبِيَّةً ادَّعَى أَنَّهَا وَحْيٌ مِنَ اللهِ وَأَنَّهَا مُعْجِزَةٌ لِلْأَنَامِ، عَلَى اعْتِرَافِهِمْ بِنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، وَأَنَّ الْقُرْآنَ كِتَابُ اللهِ عز وجل، وَقَدْ ضَلَّ بِكُلٍّ مِنْهُمْ أُنَاسٌ مِنَ الْأَعَاجِمِ الَّذِينَ لَا يَفْهَمُونَ الْعَرَبِيَّةَ فَهْمًا صَحِيحًا، ثُمَّ تَأَلَّفَتْ لَهُمْ أَحْزَابٌ وَعَصَبِيَّاتٌ بِمُسَاعَدَةِ الْأَجَانِبِ الْمُسْتَعْمَرِينَ الطَّامِعِينَ فِي الْقَضَاءِ عَلَى الْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ، وَصَارَ لَهُمْ ثَرْوَةٌ يَسْتَمِيلُونَ بِهَا النَّاسَ، وَقَدْ رَدَدْنَا عَلَيْهِمْ فِي " الْمَنَارِ "، وَرَدَّ عَلَيْهِمْ غَيْرُنَا مِنَ الْعُلَمَاءِ بِمَا ظَهَرَ بِهِ جَهْلُهُمْ وَكَذِبُهُمْ، وَسَخَافَتُهُمْ فِيمَا اغْتَرُّوا بِهِ مِنْ وَحْيِ الشَّيَاطِينِ لَهُمْ.
وَقَدْ كَانَ لِأَعْرِضِهِمْ دَعْوَى كِتَابٌ سَمَّاهُ (الْكِتَابَ الْأَقْدَسَ) حَاوَلَ فِيهِ مُحَاكَاةَ الْقُرْآنِ فِي فَوَاصِلِ آيَاتِهِ وَفِي أَنْبَاءِ الْغَيْبِ، وَلَكِنَّ أَتْبَاعَهُ الْأَذْكِيَاءَ لَمْ يَجِدُوا بُدًّا مِنْ إِخْفَاءِ هَذَا الْكِتَابِ وَجَمْعِ مَا كَانَ تَفَرَّقَ مِنْ نُسَخِهِ الْمَطْبُوعَةِ فِي الْأَقْطَارِ، وَمَا يَدْرِي إِلَّا اللهُ مَاذَا يَفْعَلُونَ فِيهِ بَعْدَ أَنْ يَثِقُوا بِأَنَّهُمُ اسْتَرَدُّوا سَائِرَ نُسَخِهِ مِنْ تَصْحِيحٍ وَتَنْقِيحٍ، وَإِبْرَازِهِ فِي يَوْمٍ مِنَ الْأَيَّامِ فِي ثَوْبٍ جَدِيدٍ. وَهَذَا الْعَمَلُ يُؤَكِّدُ
انْفِرَادَ الْقُرْآنِ بِالْإِعْجَازِ، وَكَوْنَهُ هُوَ حُجَّةَ اللهِ الْبَاقِيَةَ إِلَى آخِرِ الزَّمَانِ.
(وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)
لَمَّا بَيَّنَ تَعَالَى فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ مَا أَعَدَّهُ لِلْكَافِرِينَ الَّذِينَ قَامَتْ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةُ فَجَحَدُوا بِهَا، أَرَادَ أَنْ يُبَيِّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ نَصِيبَ مُقَابِلِ هَؤُلَاءِ، وَهُمُ الَّذِينَ ظَهَرَ لَهُمُ الدَّلِيلُ فَآمَنُوا، وَلَاحَ لَهُمْ نُورُ الْهِدَايَةِ فَاهْتَدَوْا، فَالْكَلَامُ مُتَّصِلٌ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ. وَلِذَلِكَ عَطَفَ الْجُمْلَةَ عَلَى مَا قَبْلَهَا؛ لِأَنَّهَا مُتَمِّمَةٌ لِفَائِدَتِهَا، إِذْ لَا بُدَّ بَعْدَ بَيَانِ جَزَاءِ الْكَافِرِينَ، مِنْ بَيَانِ جَزَاءِ الْمُؤْمِنِينَ، وَالْإِرْشَادُ تَرْهِيبٌ وَتَرْغِيبٌ، وَالْخِطَابُ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم خَاصَّةً، وَأَنْ يَكُونَ عَامًّا لِكُلِّ مَنْ يَسْمَعُ الْأَمْرَ مِنْ أَهْلِهِ، وَقَالُوا: إِنَّ الْأَخِيرَ هُوَ الْمَعْرُوفُ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ، وَالْمَفْهُومُ عِنْدَهُمْ مِنْ أَمْثَالِ هَذَا الْخِطَابِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:(نَبِّئْ عِبَادِي)(15: 49) وَقَوْلِهِ: (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا)(36: 13) فَهُوَ فِي عُمُومِهِ جَارٍ مَجْرَى الْأَمْثَالِ، وَالْمُخَاطَبُ الْأَوَّلُ بِهِ هُوَ الرَّسُولُ عَلَى كُلِّ حَالٍ.
قَالَ تَعَالَى: (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا) وَلَمْ يَذْكُرْ بِمَاذَا آمَنُوا؛ لِأَنَّ مُتَعَلِّقَ الْإِيمَانِ كَانَ مَعْرُوفًا عِنْدَ الْمُخَاطَبِينَ، وَهُوَ اللهُ تَعَالَى وَصِفَاتُهُ الَّتِي وَرَدَ بِهَا النَّقْلُ الصَّرِيحُ، وَأَثْبَتَهَا الْعَقْلُ الصَّحِيحُ، وَالْوَحْيُ وَمَنْ جَاءَ بِهِ، وَالْبَعْثُ وَالْجَزَاءُ، فَهَذِهِ هِيَ الْأُصُولُ الَّتِي كَانَ يَدْعُو إِلَيْهَا الْأَنْبِيَاءُ - عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَمَنْ صَدَّقَهُمْ فِيهَا كَانَ مُؤْمِنًا وَيُصَدِّقُ بِمَا يَتْبَعُ ذَلِكَ مِنَ التَّفْصِيلِ.
(قَالَ الْأُسْتَاذُ) : وَلَا بُدَّ فِي تَحْقِيقِ الْإِيمَانِ مِنَ الْيَقِينِ، وَلَا يَقِينَ إِلَّا بِبُرْهَانٍ قَطْعِيٍّ لَا يَقْبَلُ الشَّكَّ وَالِارْتِيَابَ، وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْبُرْهَانُ عَلَى الْأُلُوهِيَّةِ وَالنُّبُوَّةِ عَقْلِيًّا، وَإِنْ كَانَ الْإِرْشَادُ إِلَيْهَا سَمْعِيًّا، وَلَكِنْ (لَا يَنْحَصِرُ الْبُرْهَانُ الْعَقْلِيُّ الْمُؤَدِّي إِلَى الْيَقِينِ فِي تِلْكَ الْأَدِلَّةِ الَّتِي وَضَعَهَا الْمُتَكَلِّمُونَ وَسَبَقَهُمْ إِلَى كَثِيرٍ مِنْهَا الْفَلَاسِفَةُ الْأَقْدَمُونَ، وَقَلَّمَا تَخْلُصُ مُقَدِّمَاتُهَا مِنْ خَلَلٍ، أَوْ
تَصِحُّ طُرُقُهَا مِنْ عِلَلٍ، بَلْ قَدْ يَبْلُغُ أُمِّيٌّ عِلْمَ الْيَقِينِ بِنَظْرَةٍ صَادِقَةٍ فِي ذَلِكَ الْكَوْنِ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ، أَوْ فِي نَفْسِهِ إِذَا تَجَلَّتْ بِغَرَائِبِهَا عَلَيْهِ، وَقَدْ رَأَيْنَا مِنْ أُولَئِكَ الْأُمِّيِّينَ مَا لَا يَلْحَقُهُ فِي يَقِينِهِ آلَافٌ مِنْ أُولَئِكَ الْمُتَفَنِّنِينَ، الَّذِينَ أَفْنَوْا أَوْقَاتَهُمْ فِي تَنْقِيحِ الْمُقَدِّمَاتِ وَبِنَاءِ الْبَرَاهِينِ، وَهُمْ أَسْوَأُ حَالًا مِنْ أَدْنَى الْمُقَلِّدِينَ) .
(وَأَقُولُ) : كَانَ الْأُسْتَاذُ قَدْ أَطْلَقَ اشْتِرَاطَ الْبُرْهَانِ الْعَقْلِيِّ هُنَا كَمَا أَطْلَقَهُ فِي مَوَاضِعَ أُخْرَى تَقَدَّمَ بَعْضُهَا وَالْبَحْثُ فِيهِ، ثُمَّ قَيَّدَهُ هُنَا بِمَا بَيَّنَ بِهِ خَطَأَ بَعْضِ الْمُتَكَلِّمِينَ فِي اشْتِرَاطِهِمُ الْبَرَاهِينَ الْمَنْطِقِيَّةَ الَّتِي سَمَّوْهَا قَطْعِيَّةً عَلَى مَا فِيهَا مِنْ خَلَلٍ وَعِلَلٍ، وَالْحَقُّ أَنَّ اطْمِئْنَانَ الْقَلْبِ بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم مِنْ غَيْرِ تَرَدُّدٍ وَلَا اضْطِرَابٍ كَافٍ فِي النَّجَاةِ فِي الْآخِرَةِ، وَأَنَّ أَفْضَلَ الْأَدِلَّةِ مَا أَرْشَدَ إِلَيْهِ الْقُرْآنُ مِنَ النَّظَرِ فِي آيَاتِ اللهِ تَعَالَى فِي الْأَنْفُسِ وَالْآفَاقِ، فَبَدَاهَةُ الْعَقْلِ فِيهِ كَافِيَةٌ عِنْدَ سَلِيمِ الْفِطْرَةِ الَّذِي لَمْ يُبْتَلَ بِشُكُوكِ الْفَلَاسِفَةِ وَجَدَلِيَّاتِ الْمُتَكَلِّمِينَ وَلَا بِتَقْلِيدِ الْمُبْطِلِينَ.
هَذَا وَإِنَّ إِطْلَاقَ الْإِيمَانِ وَذِكْرَ الْمُؤْمِنِينَ وَمَا أُعِدَّ لَهُمْ مِنْ غَيْرِ وَصْلِهِ بِذِكْرِ مُتَعَلِّقَاتِهِ مَعْهُودٌ
فِي الْقُرْآنِ؛ لِأَنَّ الْمُتَعَلَّقَ مَعْلُومٌ لِلسَّامِعِينَ كَمَا قُلْنَا، وَهُوَ بِالنِّسْبَةِ لِمَنْ لَمْ يُؤْمِنُوا: مَا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِجْمَالًا مِنَ الْأُصُولِ، وَأَمَّا الْمُؤْمِنُونَ فَقَدْ عَرَفُوهُ مُفَصَّلًا تَفْصِيلًا.
ثُمَّ وَصَفَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَسْتَحِقُّونَ الْبِشَارَةَ بِقَوْلِهِ: (وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) وَأَطْلَقَ فِي هَذَا أَيْضًا كَمَا أَطْلَقَ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْآيَاتِ؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ الصَّالِحَ مَعْرُوفٌ عِنْدَ النَّاسِ بِالْإِجْمَالِ، وَذَلِكَ كَافٍ فِي التَّرْغِيبِ فِيهِ وَجَعْلِهِ تَابِعًا لِلْإِيمَانِ مُتَّصِلًا بِهِ وَلَازِمًا مِنْ لَوَازِمِهِ، وَبَيَّنَ الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ بِالتَّفْصِيلِ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:(لَيْسَ الْبَرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ) إِلَخْ وَكَالْآيَاتِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ (الْمُؤْمِنُونَ) وَآخِرِهَا وَآخِرِ سُورَةِ (الْفُرْقَانِ) وَأَوَائِلِ سُورَةِ (الْمَعَارِجِ) وَغَيْرِ ذَلِكَ، كَأَنَّ اللهَ تَعَالَى يَقُولُ: إِنَّ الْعَمَلَ الصَّالِحَ مَعْرُوفٌ عِنْدَ النَّاسِ؛ لِأَنَّهُ أَوْدَعَ فِي نُفُوسِهِمْ مَا يُمَيِّزُونَ بِهِ بَيْنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَلَكِنَّ بَعْضَهُمْ يَضِلُّ بِانْحِرَافٍ يَطْرَأُ عَلَى نَفْسِهِ فَيُخْرِجُهَا عَنِ الِاعْتِدَالِ الْفِطْرِيِّ ثُمَّ يَضِلُّ بِضَلَالِهِ آخَرُونَ، فَتَكُونُ التَّقَالِيدُ وَالْعَادَاتُ النَّاشِئَةُ عَنْ هَذَا الضَّلَالِ هِيَ الْمِيزَانُ عِنْدَ الضَّالِّينَ فِي مَعْرِفَةِ الصَّلَاحِ وَالْفَسَادِ، وَالْخَيْرِ وَالشَّرِّ لَا أَصْلُ الْهِدَايَةِ الْفِطْرِيَّةِ، وَلِذَلِكَ قَالَ عليه الصلاة والسلام: ((كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى
الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ)) رَوَاهُ الشَّيْخَانِ وَغَيْرُهُمَا، يَعْنِي أَنَّ الْإِنْسَانَ لَوْ تُرِكَ وَنَفْسَهُ لَاهْتَدَى إِلَى الْحَقِّ مَادَامَ بَعِيدًا عَنِ التَّقَالِيدِ وَالْعَادَاتِ، وَقَدْ بَلَغَ فَسَادُ الطِّبَاعِ وَانْحِرَافُ الْفِطْرَةِ فِي بَعْضِ الْأُمَمِ مَبْلَغًا كَادُوا يَخْرُجُونَ بِهِ عَنْ طَوْرِ الْبَشَرِ، كَمُتَنَطِّعِي الْبَرَاهِمَةِ إِذْ ذَهَبُوا إِلَى أَنَّ كَمَالَ الْأَرْوَاحِ وَسَعَادَتَهَا إِنَّمَا هُوَ فِي تَعْذِيبِ الْأَبْدَانِ وَحِرْمَانِهَا مِنْ لَذَّاتِهَا؛ وَلِذَلِكَ جَدُّوا فِي الْبُعْدِ عَنِ اللَّذَّاتِ الْجُسْمَانِيَّةِ بِأَنْوَاعِهَا فَمَالُوا عَنْ سُنَنِ الِاعْتِدَالِ، وَمَنَّوْا أَبْدَانَهُمْ وَعُقُولَهُمْ بِالْفَسَادِ وَالِاعْتِلَالِ، وَكَبَعْضِ كَفَرَةِ الْعَرَبِ وَطَائِفَةٍ مِنَ الْبَرَاهِمَةِ، إِذْ زَعَمُوا أَنَّهُ لَا خَيْرَ إِلَّا فِي اللَّذَّةِ الْبَدَنِيَّةِ وَلَا شَرَّ إِلَّا فِي الْأَلَمِ الْجَسَدَانِيِّ، فَالسَّعَادَةُ وَالْكَمَالُ عِنْدَهُمْ فِي الْبُعْدِ عَنِ الْآلَامِ الْبَدَنِيَّةِ، وَالتَّمَتُّعِ بِالشَّهَوَاتِ الْحِسِّيَّةِ، فَمَثَلُ هَؤُلَاءِ الْمَرْضَى النُّفُوسِ الْمَحْرُومِينَ مِنَ الْكَمَالِ الرُّوحِيِّ وَالْعَقْلِيِّ كَمَثَلِ مَنْ غَلَبَتْ عَلَيْهِ الصَّفْرَاءُ فَصَارَ يَذُوقُ الْحُلْوَ مُرًّا، وَإِنَّ مِنَ الْمَرْضَى مَنْ يَشْتَهِي فِي طَوْرِ النَّقَهِ مَا لَا يَشْتَهِي فِي حَالِ الصِّحَّةِ وَالِاعْتِدَالِ، وَكَذَلِكَ الْحَبَالَى فِي مُدَّةِ الْوَحَمِ:
يَرَى الْجُبَنَاءُ أَنَّ الْجُبْنَ حَزْمٌ
…
وَتِلْكَ خَدِيعَةُ الطَّبْعِ اللَّئِيمِ
فَالْخَيْرُ وَالشَّرُّ وَالصَّلَاحُ وَالْفَسَادُ وَالْحَقُّ وَالْبَاطِلُ وَالْفَضِيلَةُ وَالرَّذِيلَةُ كُلُّ ذَلِكَ مَعْرُوفٌ فِي الْجُمْلَةِ حَتَّى عِنْدَ الْأَشْرَارِ، وَلِذَلِكَ يَدَّعُونَ الْخَيْرَ وَالصَّلَاحَ وَيُنْكِرُونَ مَا هُمْ عَلَيْهِ، فَإِطْلَاقُ الْقَوْلِ بِذِكْرِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَاتِ لَيْسَ مُبْهَمًا عِنْدَهُمْ، وَلَا خِطَابًا بِغَيْرِ مَفْهُومٍ، وَإِنَّمَا يَحْتَاجُ مُعْتَلُّ الْفِطْرَةِ إِلَى التَّفْصِيلِ فِي ذَلِكَ، وَذِكْرِ الْأَمَارَاتِ وَالدَّلَائِلِ الَّتِي تُمَيِّزُ بَيْنَ الصَّالِحِينَ وَالْفَاسِقِينَ، وَالْمُحِقِّينَ وَالْمُبْطِلِينَ، وَلِهَذَا نَزَلَتْ آيَاتُ الْبَيَانِ وَالتَّفْصِيلِ الَّتِي أَشَرْنَا إِلَى بَعْضِهَا آنِفًا، وَبِهَا يَنْقَطِعُ تَلْبِيسُ الْأَغْبِيَاءِ، وَاعْتِذَارُ الْجُهَلَاءِ، وَحَقَّ الْقَوْلُ بِأَنَّ الَّذِي يَسْتَحِقُّ هَذِهِ الْبِشَارَةَ هُوَ مَنْ جَمَعَ
بَيْنَ الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ الَّذِي تُرْشِدُ إِلَيْهِ الْفِطْرَةُ السَّلِيمَةُ، وَيَهْدِي إِلَى تَحْدِيدِهِ الْكِتَابُ الْعَزِيزُ وَسُنَّةُ الرَّسُولِ الْمُتَّبَعَةُ.
بَشِّرْهُمْ (أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ) وَرَدَ لَفْظُ الْجَنَّةِ وَالْجَنَّاتِ كَثِيرًا فِي مُقَابَلَةِ النَّارِ، وَالْجَنَّةُ فِي اللُّغَةِ: الْبُسْتَانُ، وَالْجَنَّاتُ جَمْعُهَا، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِمَا مَفْهُومَهُمَا اللُّغَوِيَّ فَقَطْ، وَإِنَّمَا هُمَا دَارَا الْخُلُودِ فِي النَّشْأَةِ الْآخِرَةِ، فَالْجَنَّةُ دَارُ الْأَبْرَارِ وَالْمُتَّقِينَ، وَالنَّارُ دَارُ الْفُجَّارِ وَالْفَاسِقِينَ، فَنُؤْمِنُ بِهِمَا بِالْغَيْبِ وَلَا نَبْحَثُ فِي حَقِيقَةِ أَمْرِهِمَا، وَلَا نَزِيدُ
عَلَى النُّصُوصِ الْقَطْعِيَّةِ فِيهِمَا شَيْئًا؛ لِأَنَّ عَالَمَ الْغَيْبِ لَا يَجْرِي فِيهِ الْقِيَاسُ.
وَمِمَّا وَصَفَ اللهُ تَعَالَى بِهِ الْجَنَّاتِ قَوْلُهُ: (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ) وَالْمُنَاسَبَةُ ظَاهِرَةٌ، فَإِنَّ الْبَسَاتِينَ حَيَاتُهَا بِالْأَنْهَارِ (قَالَ شَيْخُنَا) : وَهَلْ سُمِّيَتْ دَارُ النَّعِيمِ جَنَّةً وَجَنَّاتٍ عَلَى سَبِيلِ التَّشْبِيهِ وَذُكِرَتِ الْأَنْهَارُ تَرْشِيحًا لَهُ أَمْ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا مُشْتَمِلَةٌ عَلَى الْجَنَّاتِ تَسْمِيَةً لِلْكُلِّ بِاسْمِ الْبَعْضِ؟ اللهُ أَعْلَمُ بِمُرَادِهِ، وَأَقُولُ: لَوْ لَمْ يَرِدْ فِي هَذَا الْمَقَامِ إِلَّا ذِكْرُ الْجَنَّةِ أَوِ الْجَنَّاتِ لَوَجَبَ التَّفْوِيضُ وَامْتَنَعَ التَّرْجِيحُ، أَمَا وَقَدْ ذُكِرَ فِي آيَاتٍ أُخْرَى أَنْوَاعٌ مِنَ الشَّجَرِ الْمُثْمِرِ وَذُكِرَ الثَّمَرَاتُ، فَقَدْ تَعَيَّنَ تَرْجِيحُ الشِّقِّ الثَّانِي، وَإِلَّا كَانَ هَرَبُنَا مِنْ تَشْبِيهِ أَسْرَى الْأَلْفَاظِ عَالَمَ الْغَيْبِ بِعَالَمِ الشَّهَادَةِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، إِلَى تَأْوِيلَاتِ الْبَاطِنِيَّةِ الْمُعَطِّلِينَ لِدَلَالَتِهَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ.
أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ ذَكَرَ مِنْ شَأْنِ أَهْلِ تِلْكَ الْجَنَّاتِ فِيهَا أَنَّهُمْ (كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا) كَلِمَةُ " مِنْ " الْأُولَى لِلِابْتِدَاءِ وَالثَّانِيَةُ لِلتَّبْعِيضِ، أَيْ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنَ الْجَنَّاتِ رِزْقًا مِنْ بَعْضِ الثِّمَارِ (قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ) أَيْ هَذَا الَّذِي وُعِدْنَا بِهِ فِي الدُّنْيَا جَزَاءً عَلَى الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:(وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ)(39: 74) وَذَهَبَ الْجَلَالُ وَغَيْرُهُ إِلَى اخْتِيَارِ أَنَّ مَعْنَاهُ تَشْبِيهُ ثَمَرَاتِ الْآخِرَةِ بِثَمَرَاتِ الدُّنْيَا؛ لِأَنَّهَا مِثْلُهَا فِي اللَّوْنِ وَالشَّكْلِ وَالرَّائِحَةِ، وَإِنْ كَانَتْ تَفْضُلُهَا فِي الطَّعْمِ وَاللَّذَّةِ فَقَوْلُهُ تَعَالَى:(وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا) بَيَانٌ لِسَبَبِ الْقَوْلِ عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ، أَيْ أُتُوا بِمَا ذُكِرَ مِنَ الرِّزْقِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ مُتَشَابِهًا بَعْضُهُ يُشْبِهُ بَعْضًا، وَمُحَصِّلُهُ: أَنَّهُمْ عِنْدَمَا يُؤْتَوْنَ بِرِزْقِ الْجَنَّةِ يُبَادِرُونَ إِلَى الْحُكْمِ بِأَنَّهُ غَيْرُ مَا وُعِدُوا بِهِ وَأَنَّهُ عَيْنُ رِزْقِ الدُّنْيَا؛ لِأَنَّ التَّشَابُهَ يَكُونُ سَبَبَ الِاشْتِبَاهِ عَلَيْهِمْ، وَلَكِنَّهُمْ يَعْرِفُونَ الْفَرْقَ بَعْدَ ذَلِكَ بِالطَّعْمِ؛ لِأَنَّ فَرْقًا عَظِيمًا بَيْنَ لَذَّةِ رِزْقِ الدُّنْيَا وَرِزْقِ الْجَنَّةِ، وَالتَّعْبِيرُ بِـ " كُلَّمَا " يُنَافِي هَذَا التَّفْسِيرَ؛ لِأَنَّ الِاشْتِبَاهَ إِنَّمَا يَكُونُ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى، ثُمَّ يَعْرِفُونَ التَّفَاوُتَ مَعْرِفَةً تَذْهَبُ بِهِ وَتَمْنَعُ مِنَ الْحُكْمِ بِأَنَّ هَذَا عَيْنُ ذَاكَ، أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِأَفْرَادِ النَّوْعِ الْوَاحِدِ مِنَ الثِّمَارِ فَبِالِاخْتِيَارِ، وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِمَا بَعْدَ النَّوْعِ الْأَوَّلِ مِنَ الْأَنْوَاعِ فَبِالْقِيَاسِ عَلَيْهِ، وَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْجَلَالُ مُنَافٍ لِلْبَلَاغَةِ فِي الْمَعْنَى أَيْضًا؛ لِأَنَّ
تَشَابُهَ رِزْقَيِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فِي الْأَلْوَانِ وَالرَّوَائِحِ، وَاخْتِلَافَهُ فِي الطَّعْمِ فَقَطْ لَيْسَ فِيهِ كَبِيرُ تَشْوِيقٍ،
لِأَنَّ اللَّذَّةَ فِي التَّنَقُّلِ، ثُمَّ إِنَّ أَطْوَارَ الْجَنَّةِ مُخَالِفَةٌ لِأَطْوَارِ الدُّنْيَا، وَالتَّشْوِيقُ لِلنَّاسِ إِنَّمَا يَكُونُ بِحَسَبِ مَا عَهِدُوا وَاعْتَادُوا وَأَلِفُوا، وَإِنَّنَا نَعْلَمُ أَنَّ الْأَكْلَ فِي الدُّنْيَا لِأَجْلِ حِفْظِ الْبِنْيَةِ مِنَ الِانْحِلَالِ، وَلَا انْحِلَالَ فِي دَارِ الْخُلْدِ وَالْبَقَاءِ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ هُنَاكَ عَلَى مَا وَرَدَ لِحِكْمَةٍ أُخْرَى، أَوْ هُوَ لِتَحْصِيلِ لَذَّةٍ لَا نَعْرِفُهَا؛ لِأَنَّهَا مِنْ أَحْوَالِ عَالَمِ الْغَيْبِ، وَإِنَّمَا نُؤْمِنُ بِمَا وَرَدَ وَنُفَوِّضُ أَمْرَ حَقِيقَتِهِ وَحِكْمَتِهِ إِلَى اللهِ تَعَالَى، وَمِمَّا وَرَدَ أَنَّهُ لَذَّةٌ أَعْلَى مِنْ لَذَّاتِ الدُّنْيَا.
أَقُولُ: بَلْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: ((لَيْسَ فِي الدُّنْيَا مِمَّا فِي الْجَنَّةِ إِلَّا الْأَسَامِي)) وَفِي حَدِيثِ الصَّحِيحَيْنِ الْمَرْفُوعِ عَنِ اللهِ عز وجل ((أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ)) وَهُوَ تَفْسِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: (فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)(32: 17) .
وَذَهَبَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى مَا قُلْنَاهُ أَوَّلًا مِنْ أَنَّ ذَلِكَ الرِّزْقَ هُوَ عَيْنُ مَا وُعِدُوا بِهِ جَزَاءً عَلَى أَعْمَالِهِمْ، فَكُلَّمَا رُزِقُوا ثَمَرَةً مِنْهُ يَذْكُرُونَ الْوَعْدَ الْإِلَهِيَّ شُكْرًا لِلَّهِ عَلَى تَوْفِيقِهِمْ لِذَلِكَ الْعَمَلِ الَّذِي لَهُ أَعَدَّ هَذَا الْجَزَاءَ، كَمَا تُفِيدُهُ آيَةُ (وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ) الَّتِي ذَكَرْنَاهَا آنِفًا، فَهُوَ مِنْ قَبِيلِ ارْتِبَاطِ الْمَوْعُودِ بِهِ بِالْمَوْعُودِ عَلَيْهِ كَأَنَّ الْأَعْمَالَ عَيْنُ الْجَزَاءِ (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) (99: 7 - 8) وَقَوْلُهُ تَعَالَى بَعْدَ ذَلِكَ: (وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا) تَأْكِيدٌ وَتَقْرِيرٌ لِمَا تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُمْ، وَهَذَا هُوَ الرَّاجِحُ الَّذِي اخْتَارَهُ شَيْخُنَا، وَهُنَالِكَ قَوْلٌ ثَالِثٌ: وَهُوَ أَنْ رِزْقَ الْجَنَّةِ وَثَمَرَهَا يَتَشَابَهُ عَلَى أَهْلِهَا فِي صُورَتِهِ، وَيَخْتَلِفُ فِي طَعْمِهِ وَلَذَّتِهِ، وَهُوَ الْمُتَبَادِرُ مِنَ اللَّفْظِ.
ثُمَّ قَالَ: (وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ) أَيْ مُبَالَغٌ فِي تَطْهِيرِهِنَّ وَتَزْكِيَتِهِنَّ فَلَيْسَ فِيهِنَّ مَا يُعَابُ مِنْ خَبَثٍ جَسَدِيٍّ حَتَّى مَا هُوَ فِي الدُّنْيَا طَبِيعِيٌّ كَالْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ، وَلَا نَفْسِيٍّ كَالْمَكْرِ وَالْكَيْدِ وَسَائِرِ مَسَاوِئِ الْأَخْلَاقِ، لِأَنَّهُنَّ طَهُرْنَ كُلَّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ التَّطْهِيرِ، وَنِسَاءُ الْجَنَّاتِ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ الصَّالِحَاتِ وَهُنَّ الْمَعْرُوفَاتُ فِي الْقُرْآنِ بِالْحُورِ الْعِينِ، وَصُحْبَةُ الْأَزْوَاجِ فِي الْآخِرَةِ كَسَائِرِ شُئُونِهَا الْغَيْبِيَّةِ نُؤْمِنُ بِمَا أَخْبَرَ بِهِ اللهُ تَعَالَى مِنْهَا لَا نَزِيدُ فِيهِ وَلَا نُنْقِصُ مِنْهُ، وَلَا نَبْحَثُ فِي كَيْفِيَّتِهِ، وَإِنَّمَا نَعْرِفُ بِالْإِجْمَالِ أَنَّ أَطْوَارَ الْحَيَاةِ
الْآخِرَةِ أَعْلَى وَأَكْمَلُ مِنْ أَطْوَارِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَا تَقَدَّمَ، وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ الْحِكْمَةَ فِي لَذَّةِ الْأَزْوَاجِ بِالْمُصَاحِبَةِ الزَّوْجِيَّةِ الْمَخْصُوصَةِ هِيَ التَّنَاسُلُ وَإِنْمَاءُ النَّوْعِ، وَلَمْ يَرِدْ أَنَّ فِي الْآخِرَةِ تَنَاسُلًا، فَلَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ لَذَّةُ الْمُصَاحَبَةِ الزَّوْجِيَّةِ هُنَاكَ أَعْلَى وَحِكْمَتُهَا أَسْمَى، وَأَنَّنَا نُؤْمِنُ بِهَا وَلَا نَبْحَثُ فِي حَقِيقَتِهَا كَمَا تَقَدَّمَ فِي بَحْثِ رِزْقِ الْجَنَّةِ.
(أَقُولُ) : هَذَا مُلَخَّصُ مَا قَالَهُ الْأُسْتَاذُ عَلَى طَرِيقَتِهِ الْمُثْلَى فِي الْإِيمَانِ بِالْغَيْبِ مِنْ غَيْرِ قِيَاسٍ لِعَالَمِهِ عَلَى عَالَمِ الشَّهَادَةِ، وَهُوَ لَا يُنَافِي كَوْنَ الْإِنْسَانِ فِي الْآخِرَةِ يَكُونُ إِنْسَانًا لَا مَلَكًا،
وَإِنَّمَا تَكُونُ لَذَّاتُهُ الْإِنْسَانِيَّةُ أَكْمَلَ مِمَّا كَانَ فِي الدُّنْيَا وَأَسْلَمَ مِنَ الْمُنَغِّصَاتِ وَمِنْهَا الطَّعَامُ وَالشَّرَابُ وَالْمُبَاشَرَةُ الزَّوْجِيَّةُ فَتَنَبَّهْ، وَثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ:((إِنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ يَأْكُلُونَ فِيهَا وَيَشْرَبُونَ وَلَا يَتْفُلُونَ وَلَا يَبُولُونَ وَلَا يَتَغَوَّطُونَ وَلَا يَتَمَخَّطُونَ)) قَالُوا: فَمَا بَالُ الطَّعَامِ؟ قَالَ: ((جُشَاءٌ وَرَشْحٌ كَرَشْحِ الْمِسْكِ، وَيُلْهَمُونَ التَّسْبِيحَ وَالتَّحْمِيدَ كَمَا تُلْهَمُونَ النَّفَسَ)) رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، وَفِي مَعْنَاهُ أَحَادِيثُ أُخْرَى، وَفِي الصَّحِيحِ أَيْضًا ((إِنَّ لِكُلِّ رَجُلٍ فِي الْجَنَّةِ زَوْجَيْنِ اثْنَتَيْنِ)) - قَالَ الْعُلَمَاءُ: إِحْدَاهُنَّ مِنْ نِسَاءِ الدُّنْيَا وَالْأُخْرَى مِنْ نِسَاءِ الْجَنَّةِ، وَمَا وَرَدَ مِنْ كَثْرَتِهِنَّ لَا يَصِحُّ مِنْهُ شَيْءٌ.
ثُمَّ قَالَ: (وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) الْخُلُودُ فِي اللُّغَةِ: طُولُ الْمُكْثِ، وَمِنْ كَلَامِهِمْ خَلَدَ فِي السِّجْنِ كَمَا فِي الْأَسَاسِ، وَفِي الشَّرْعِ: الدَّوَامُ الْأَبَدِيُّ، أَيْ لَا يَخْرُجُونَ مِنْهَا وَلَا هِيَ تَفْنَى بِهِمْ فَيَزُولُوا بِزَوَالِهَا، وَإِنَّمَا هِيَ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ لَا نِهَايَةَ لَهَا، وَفَّقَنَا اللهُ لِمَا يَجْعَلُنَا مِنْ خِيَارِ أَهْلِهَا مِنَ الْعُلُومِ الصَّحِيحَةِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ الَّتِي تَرْتَقِي بِهَا الْأَرْوَاحُ وَتَسْتَعِدُّ لِذَلِكَ الْفَلَاحِ.
(إِنَّ اللهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ)
الْآيَاتُ مُتَّصِلَةٌ بِمَا قَبْلَهَا لَمْ يَخْتَلِفِ النَّظْمُ، وَلَمْ يَخْرُجِ الْكَلَامُ عَنِ الْمَوْضُوعِ الْأَصْلِيِّ
وَهُوَ الْكِتَابُ الَّذِي لَا رَيْبَ فِيهِ، وَحَالُ النَّاسِ فِي الْإِيمَانِ بِهِ وَعَدَمِ الْإِيمَانِ، وَلَا فَصْلَ فِي صِحَّةِ هَذَا الْوَصْلِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ رَدًّا عَلَى الْيَهُودِ الَّذِينَ أَنْكَرُوا ضَرْبَ الْأَمْثَالِ بِالْمُحَقَّرَاتِ كَالذُّبَابِ وَالْعَنْكَبُوتِ كَمَا يُرْوَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَوْ رَدًّا عَلَى الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ أَنْكَرُوا الْأَمْثَالَ فِي الْآيَاتِ السَّابِقَةِ بِمُسْتَوْقِدِ النَّارِ وَالصَّيِّبِ مِنَ السَّمَاءِ زَاعِمِينَ أَنَّهُ لَا يَلِيقُ بِاللهِ ضَرَبُ الْأَمْثَالِ، أَوْ يَكُونُ الْمُرَادُ بِالْمَثَلِ الْقُدْوَةُ تَقْرِيرًا لِنُبُوَّةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. أَمَّا عَلَى الْأَوَّلِ فَيُقَالُ: إِنَّهُ إِنَّمَا نَصَّ هُنَا عَلَى نَفْيِ الِاسْتِحْيَاءِ مَنْ ضَرْبِ أَيِّ مَثَلٍ، وَلَمْ يَذْكُرْ ذَلِكَ هُنَاكَ عِنْدَ تَمْثِيلِ الْأَوْلِيَاءِ الَّذِينَ اتَّخَذُوهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ بِالذُّبَابِ وَالْعَنْكَبُوتِ؛ لِأَنَّ الْمَقَامَ هُنَا مَقَامُ ذِكْرِ الِاعْتِرَاضِ الْمُوَجَّهِ عَلَى الْقُرْآنِ، فَيَكُونُ هَذَا مَقَامَ رَدِّ شُبَهِ الْمُكَابِرِينَ عَنْهُ، وَأَمَّا عَلَى الثَّانِي وَالثَّالِثِ فَهُوَ أَظْهَرُ.
عَلَى أَنَّهُ لَا حَاجَةَ فِي فَهْمِ الْآيَةِ إِلَى مَا قَالُوهُ فِي سَبَبِهَا، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ رَدًّا لِمَا قِيلَ فَهِيَ رَدٌّ لِمَا قَدْ يُقَالُ، أَوْ يَجُولُ فِي خَوَاطِرِ أَهْلِ الْمُكَابَرَةِ وَالْجِدَالِ وَالْمُجَاحَدَةِ وَالْمِحَالِ.
وَالِاسْتِحْيَاءُ - قَالَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ: إِنَّهُ مِنَ الْحَيَاءِ وَهُوَ انْكِسَارٌ وَتَغَيُّرٌ فِي النَّفْسِ يُلِمُّ بِهَا إِذَا نُسِبَ إِلَيْهَا أَوْ عَرَضَ لَهَا فِعْلٌ تَعْتَقِدُ قُبْحَهُ، وَفِي الْحَالَةِ الثَّانِيَةِ يَكُونُ مَانِعًا مِنَ الْفِعْلِ الَّذِي يَعْرِضُ، يُقَالُ: فُلَانٌ يَسْتَحِي أَنْ يَفْعَلَ كَذَا، أَيْ إِنَّ نَفْسَهُ تَنْكَسِرُ فَتَنْقَبِضُ عَنْ فِعْلِهِ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ اسْتَحْيَا مِنْ عَمَلِ كَذَا، أَيْ إِنَّ نَفْسَهُ انْفَعَلَتْ وَتَأَلَّمَتْ عِنْدَمَا عُرِضَ عَلَيْهِ عَمَلُهُ فَرَآهُ شَيْنًا أَوْ نَقْصًا، وَيُقَالُ: حَيِيَ بِهَذَا الْمَعْنَى، كَأَنَّهُ أُصِيبَ فِي حَيَاتِهِ، كَمَا يُقَالُ: نُسِيَ إِذَا أُصِيبَ فِي نَسَاهُ - وَهُوَ عِرْقٌ يُسَمُّونَهُ عِرْقَ النَّسَا بِفَتْحِ النُّونِ - وَحُشِيَ إِذَا أُصِيبَ فِي حَشَاهُ.
وَقَالُوا: إِنَّ الْحَيَاءَ ضَعْفٌ فِي الْحَيَاةِ بِمَا يُصِيبُ مَوْضِعَهَا وَهُوَ النَّفْسُ، فَمَعْنَى عَدَمِ اسْتِحْيَاءِ اللهِ تَعَالَى أَنَّهُ لَا يَعْرِضُ لَهُ ذَلِكَ الِانْكِسَارُ وَالِانْفِعَالُ، وَلَا يَعْتَرِيهِ ذَلِكَ التَّأَثُّرُ وَالضَّعْفُ فَيَمْتَنِعُ مِنْ ضَرْبِ الْمَثَلِ، بَلْ هُوَ يَضْرِبُ مِنَ الْأَمْثَالِ الْهَادِيَةِ وَالْمُطَابِقَةِ لِحَالِ الْمُمَثَّلِ بِهِ مَا يُعْلَمُ أَنَّهُ يُجَلِّي الْحَقَائِقَ، وَيُؤَثِّرُ فِي الْقُلُوبِ.
وَلَكِنَّ صَاحِبَ الْكَشَّافِ وَغَيْرَهُ أَرَادُوا أَنْ يَجْعَلُوا الْآيَةَ دَلِيلًا عَلَى اتِّصَافِ اللهِ تَعَالَى بِالْحَيَاءِ فَقَالُوا: إِنَّ النَّفْيَ خَاصٌّ، وَمِثْلُهُ إِذَا وَرَدَ عَلَى شَيْءٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الشَّيْءَ قَابِلٌ لِلِاتِّصَافِ بِالْمَنْفِيِّ، فَمَنْ لَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى شَيْءٍ لَا يُنْفَى عَنْهُ، لَا تَقُولُ: إِنَّ عَيْنِي لَا تَسْمَعُ وَأُذُنِي
لَا تَرَى، وَقَالُوا: إِنَّ مَعْنَى نَفْيِ الِاسْتِحْيَاءِ هُوَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى لَا يَرَى مِنَ النَّقْصِ أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا بَعُوضَةً فَمَا دُونَهَا؛ لِأَنَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ، وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ نِسْبَةُ الْحَيَاءِ إِلَى اللهِ تَعَالَى، وَالنَّافُونَ لَهُ يُؤَوِّلُونَ مَا وَرَدَ بِأَثَرِهِ وَغَايَتِهِ.
أَقُولُ: هَذَا مُؤَدَّى مَا قَالَهُ الْأُسْتَاذُ فِي الدَّرْسِ، وَالْحَدِيثُ فِي وَصْفِهِ تَعَالَى بِالْحَيَاءِ مَرْوِيٌّ عَنْ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ، وَعَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ، أَخْرَجَهُمَا أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ، وَالْأَوَّلُ النَّسَائِيُّ، وَالثَّانِي التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَالْحَاكِمُ وَحَسَّنُوهُمَا، وَالتَّحْقِيقُ: أَنَّ الْحَيَاءَ انْفِعَالُ النَّفْسِ وَتَأَلُّمُهَا مِنَ النَّقْصِ وَالْقَبِيحِ بِالْغَرِيزَةِ الْفُضْلَى، غَرِيزَةِ حُبِّ الْكَمَالِ فَهُوَ كَمَالٌ لَهَا خِلَافًا لِأُولِي الْوَقَاحَةِ الَّذِينَ يَعُدُّونَهُ ضَعْفًا وَنَقْصًا، وَإِنَّمَا النَّقْصُ الْإِفْرَاطُ فِي هَذِهِ الصِّفَةِ بِحَيْثُ تَضْعُفُ عَنِ الْإِقْدَامِ عَلَى الشَّيْءِ الْحَسَنِ النَّافِعِ اتَّقَاءً لِذَمِّ مَنْ لَا يَعْرِفُ حُسْنَهُ أَوْ لَا يَعْتَرِفُ بِهِ.
وَالْمَثَلُ فِي اللُّغَةِ: الشَّبَهُ وَالشَّبِيهُ، وَضَرْبُهُ عِبَارَةٌ عَنْ إِيقَاعِهِ وَبَيَانِهِ، وَهُوَ فِي الْكَلَامِ أَنْ يُذْكَرَ لِحَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ مَا يُنَاسِبُهَا وَيُشَابِهُهَا وَيُظْهِرُ مِنْ حُسْنِهَا أَوْ قُبْحِهَا مَا كَانَ خَفِيًّا، وَلَمَّا كَانَ الْمُرَادُ بِهِ بَيَانَ الْأَحْوَالِ كَانَ قِصَّةً وَحِكَايَةً، وَاخْتِيرَ لَهُ لَفْظُ الضَّرْبِ لِأَنَّهُ يَأْتِي عِنْدَ إِرَادَةِ التَّأْثِيرِ وَهَيْجِ الِانْفِعَالِ، كَأَنَّ ضَارِبَ الْمَثَلِ يَقْرَعُ بِهِ أُذُنَ السَّامِعِ قَرْعًا يَنْفُذُ أَثَرُهُ إِلَى قَلْبِهِ،
وَيَنْتَهِي إِلَى أَعْمَاقِ نَفْسِهِ، وَلَكِنَّ فِي الْكَلَامِ قَلْبًا حَيْثُ جُعِلَ الْمَثَلُ هُوَ الْمَضْرُوبُ وَإِنَّمَا هُوَ مَضْرُوبٌ بِهِ، هَذَا الَّذِي قَالَهُ الْأُسْتَاذُ، وَهُوَ أَبْلَغُ فِي الْمَعْنَى مِنْ جَعْلِ الضَّرْبِ لِلْمَثَلِ كَضَرْبِ الْقُبَّةِ وَالْخَيْمَةِ أَوْ ضَرْبِ النُّقُودِ.
وَإِذَا كَانَ الْغَرَضُ التَّأْثِيرَ فَالْبَلَاغَةُ تَقْضِي بِأَنْ تُضْرَبَ الْأَمْثَالُ لِمَا يُرَادُ تَحْقِيرُهُ وَالتَّنْفِيرُ عَنْهُ بِحَالِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي جَرَى الْعُرْفُ بِتَحْقِيرِهَا، وَاعْتَادَتِ النُّفُوسُ النُّفُورَ مِنْهَا، وَمِثْلُ هَذَا لَا يَخْفَى عَلَى بَلِيغٍ، وَلَا عَلَى عَاقِلٍ أَيْضًا، وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الْمُنْكِرِينَ لَمْ يَرَوْا فِي الْقُرْآنِ شَيْئًا يُعَابُ فَتَحَمَّلُوا بِقَوْلِهِمْ هَذَا:
كَضَرَائِرِ الْحَسْنَاءِ قُلْنَ لِوَجْهِهَا
…
حَسَدًا وَبُغْضًا إِنَّهُ لَدَمِيمُ
وَجَرَوْا فِي ذَلِكَ عَلَى عَادَةِ الْمُتَحَذْلِقِينَ الْمُتَكَيِّسِينَ إِذْ يَتَحَامَوْنَ ذِكْرَ الْأَلْفَاظِ الَّتِي مَدْلُولَاتُهَا حَقِيرَةٌ فِي الْعُرْفِ، وَإِذَا اضْطُرُّوا لِذِكْرِهَا شَفَعُوهَا بِمَا يَشْفَعُ لَهَا كَقَوْلِهِمْ:" أَجَلَّكُمُ اللهُ " وَإِذَا كَانَ شَأْنُ الْمَثَلِ مَا ذَكَرْنَا، وَكَانَ ذِكْرُ الْأَشْيَاءِ الَّتِي يَنْفِرُ مِنْهَا مَنْ
ذَكَرْنَا فِي الْأَمْثَالِ الَّتِي يُرَادُ مِنْهَا التَّنْفِيرُ هُوَ الْأَبْلَغُ فِي التَّأْثِيرِ الَّذِي هُوَ رُوحُ الْبَلَاغَةِ وَسِرُّهَا، كَانَ قَوْلُهُ تَعَالَى:(إِنَّ اللهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا) مُبَيِّنًا لِشَأْنٍ مِنْ شُئُونِ كَمَالِهِ عز وجل فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ، وَقَاضِيًا عَلَى الَّذِينَ يَتَحَامَوْنَ ذِكْرَ الْبَعُوضَةِ وَأَمْثَالِهَا بِنَقْصِ الْعَقْلِ، وَخُسْرَانِ مِيزَانِ الْفَضْلِ، وَالْمُرَادُ بِمَا فَوْقَ الْبَعُوضَةِ مَا عَلَاهَا وَفَاقَهَا فِي مَرْتَبَةِ الصِّغَرِ وَمِنْهَا جِنَّةُ النَّسَمِ (الْمَيِكْرُوبَاتُ) الَّتِي لَا تُرَى إِلَّا بِالنَّظَّارَاتِ الْمُكَبِّرَةِ (ميكرسكوب) وَكَانُوا يَضْرِبُونَ الْمَثَلَ بِمُخِّ النَّمْلَةِ، وَفِي كَلَامِ بُلَغَائِهِمْ:" أَسْمَعُ مِنْ قُرَادٍ، وَأَطْيَشُ مِنْ فَرَاشَةٍ، وَأَعَزُّ مِنْ مُخِّ الْبَعُوضَةِ " وَالْمَعْنَى أَنَّ اللهَ تَعَالَى لَا يَتْرُكُ ضَرْبَ مَثَلٍ مَا مِنَ الْأَمْثَالِ مِنْهُ سَوَاءٌ كَانَ بَعُوضَةً أَوْ أَصْغَرَ مِنْهَا حَجْمًا، وَأَقَلَّ عِنْدَ النَّاسِ شَأْنًا.
ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّ النَّاسَ فِي ذَلِكَ فَرِيقَانِ (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ) لِأَنَّهُ لَيْسَ نَقْصًا فِي حَدِّ ذَاتِهِ، وَقَدْ جَاءَ فِي كَلَامِهِ تَعَالَى، فَهُوَ لَيْسَ نَقْصًا فِي جَانِبِهِ وَإِنَّمَا هُوَ حَقٌّ؛ لِأَنَّهُ مُبَيِّنٌ لِلْحَقِّ وَمُقَرِّرٌ لَهُ، وَسَائِقٌ إِلَى الْأَخْذِ بِهِ بِمَا لَهُ مِنَ التَّأْثِيرِ فِي النَّفْسِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمَعَانِيَ الْكُلِّيَّةَ تَعْرِضُ لِلذِّهْنِ مُجْمَلَةً مُبْهَمَةً فَيَصْعُبُ عَلَيْهِ أَنْ يُحِيطَ بِهَا وَيَنْفُذَ فِيهَا فَيَسْتَخْرِجَ سِرَّهَا، وَالْمَثَلُ هُوَ الَّذِي يُفَصِّلُ إِجْمَالَهَا وَيُوَضِّحُ إِبْهَامَهَا، فَهُوَ مِيزَانُ الْبَلَاغَةِ وَقِسْطَاسُهَا، وَمِشْكَاةُ الْهِدَايَةِ وَنِبْرَاسُهَا، وَرَحِمَ اللهُ تَعَالَى عَبْدَ الْقَاهِرِ الْجُرْجَانِيَّ إِمَامَ الْبَلَاغَةِ وَالْوَاضِعَ الْأَوَّلَ لِعِلْمَيِ الْمَعَانِي وَالْبَيَانِ، وَمُؤَلِّفَ (أَسْرَارِ الْبَلَاغَةِ) وَ (دَلَائِلِ الْإِعْجَازِ لِتَحْقِيقِ إِعْجَازِ الْقُرْآنِ) حَيْثُ قَالَ فِي كِتَابِهِ الْأَوَّلِ:
" وَاعْلَمْ أَنَّ مِمَّا اتَّفَقَ الْعُقَلَاءُ عَلَيْهِ أَنَّ التَّمْثِيلَ إِذَا جَاءَ فِي أَعْقَابِ الْمَعَانِي، أَوْ بَرَزَتْ هِيَ
بِاخْتِصَارٍ فِي مَعْرَضِهِ، وَنُقِلَتْ عَنْ صُوَرِهَا الْأَصْلِيَّةِ إِلَى صُورَتِهِ كَسَاهَا أُبَّهَةً، وَأَكْسَبَهَا مَنْقَبَةً، وَرَفَعَ مِنْ أَقْدَارِهَا، وَشَبَّ مِنْ نَارِهَا، وَضَاعَفَ قُوَاهَا فِي تَحْرِيكِ النُّفُوسِ لَهَا، وَدَعَا الْقُلُوبَ إِلَيْهَا، وَاسْتَثَارَ لَهَا مِنْ أَقَاصِي الْأَفْئِدَةِ صَبَابَةً وَكَلَفًا، وَقَسَرَ الطَّبَائِعَ عَلَى أَنْ تُعْطِيَهَا مَحَبَّةً وَشَغَفًا ".
" فَإِنْ كَانَ مَدْحًا كَانَ أَبْهَى وَأَفْخَمَ، وَأَنْبَلَ فِي النُّفُوسِ وَأَعْظَمَ، وَأَهَزَّ لِلْعِطْفِ، وَأَسْرَعَ لِلْإِلْفِ، وَأَجْلَبَ لِلْفَرَحِ، وَأَغْلَبَ عَلَى الْمُمْتَدَحِ، وَأَوْجَبَ شَفَاعَةً لِلْمَادِحِ، وَأَقْضَى لَهُ
بِغَرَرِ الْمَوَاهِبِ وَالْمَنَائِحِ، وَأَسْيَرَ عَلَى الْأَلْسُنِ وَأَذْكَرَ، وَأَوْلَى بِأَنْ تُعَلَّقَهُ الْقُلُوبُ وَأَجْدَرَ "
" وَإِنْ كَانَ ذَمًّا كَانَ مَسُّهُ أَوْجَعَ، وَمِيسَمَهُ أَلَذَعَ، وَوَقْعُهُ أَشَدَّ، وَحَدُّهُ أَحَدَّ "
" وَإِنْ كَانَ حِجَاجًا كَانَ بُرْهَانُهُ أَنْوَرَ، وَسُلْطَانُهُ أَقْهَرَ، وَبَيَانُهُ أَبْهَرَ "
" وَإِنْ كَانَ افْتِخَارًا كَانَ شَأْوُهُ أَبْعَدَ، وَشَرَفُهُ أَجَدَّ، وَلِسَانُهُ أَلَدَّ "
" وَإِنْ كَانَ اعْتِذَارًا كَانَ إِلَى الْقَبُولِ أَقْرَبَ، وَلِلْقُلُوبِ أَخْلَبَ، وَلِلسَّخَائِمِ أَسَلَّ، وَلِغَرْبِ الْغَضَبِ أَفَلَّ، وَفِي عَقْدِ الْعُقُودِ أَنْفَثَ، وَعَلَى حُسْنِ الرُّجُوعِ أَبْعَثَ "
" وَإِنْ كَانَ وَعْظًا كَانَ أَشَفَى لِلصَّدْرِ، وَأَدْعَى إِلَى الْفِكْرِ، وَأَبْلَغَ فِي التَّنْبِيهِ وَالزَّجْرِ، وَأَجْدَرَ بِأَنْ يُجْلِي الْغَيَابَةَ، وَيُبْصِرَ الْغَايَةَ، وَيُبْرِئَ الْعَلِيلَ، وَيَشْفِي الْغَلِيلَ " إِلَخْ.
(وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا) فَيُجَادِلُونَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ، وَيُمَارُونَ بِالْبُرْهَانِ وَقَدْ تَعَيَّنَ، فَيَخْرُجُونَ مِنَ الْمَوْضُوعِ وَيُعْرِضُونَ عَنِ الْحُجَّةِ، وَيَتَتَبَّعُونَ الْكَلِمَ الْمُفْرَدَ، حَتَّى إِذَا ظَفِرُوا بِكَلِمَةٍ لَا يَسْتَعْذِبُهَا ذَوْقُ الْمُتَظَرِّفِينَ، وَلَا تَدُورُ عَلَى أَلْسِنَةِ الْمُتَكَلِّفِينَ، أَظْهَرُوا الْعَجَبَ مِنْهَا، وَطَفِقُوا يَتَسَاءَلُونَ عَنْهَا (فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللهُ بِهَذَا مَثَلًا) وَلَوْ أَنْصَفُوا لَعَرَفُوا، وَلَكِنَّهُمُ ارْتَابُوا فِي الْحَقِّ فَانْصَرَفُوا (وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا) (18: 54) يَذْهَبُ بِهِ جَدَلُهُ إِلَى قِيَاسِ رَبِّ الْعَالَمِينَ بِمُتَنَطَّعِي الْمُتَأَدِّبِينَ، وَيُنْكِرُ عَلَى رَبِّهِ الْمَثَلَ وَالْقِيَاسَ، وَلَا يُنْكِرُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى النَّاسِ.
قَالَ تَعَالَى فِي جَوَابِهِمْ: (يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا) أَيْ يُضِلُّ بِالْمَثَلِ أَوْ بِالْكَلَامِ الْمَضْرُوبِ فِيهِ الْمَثَلُ أُولَئِكَ الَّذِينَ يَجْعَلُونَهُ شُبْهَةً عَلَى الْإِنْكَارِ وَالرَّيْبِ، وَيَهْدِي بِهِ الَّذِينَ يُقَدِّرُونَ الْأَشْيَاءَ بِغَايَاتِهَا، وَيَحْكُمُونَ عَلَيْهَا بِحَسْبِ فَائِدَتِهَا، وَأَنْفَعُ الْكَلَامِ مَا جَلَّى الْحَقَائِقَ وَهَدَى إِلَى أَقْصَدِ الطَّرَائِقِ، وَسَاقَ النُّفُوسَ بِقُوَّةِ التَّأْثِيرِ إِلَى حُسْنِ الْمَصِيرِ (وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ) (29: 43) فَهَؤُلَاءِ الْعَالِمُونَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَهُمُ الْمَهْدِيُّونَ بِهِ، وَأَمَّا الَّذِينَ قَالُوا:(مَاذَا أَرَادَ اللهُ) إِلَخْ، أَيِ الَّذِينَ يُنْكِرُونَ الْمَثَلَ لِكُفْرِهِمْ فَهُمُ الضَّالُّونَ بِهِ وَقَدْ بَيَّنَ شَأْنَهُمْ بِقَوْلِهِ:(وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ) فَعُرِفَتْ عِلَّةُ ضَلَالِهِمْ وَهِيَ الْفُسُوقُ، أَيِ الْخُرُوجُ عَنْ هِدَايَةِ اللهِ تَعَالَى فِي سُنَنِهِ فِي خَلْقِهِ الَّتِي
هَدَاهُمْ إِلَيْهَا بِالْعَقْلِ وَالْمَشَاعِرِ، وَبِكِتَابِهِ بِالنِّسْبَةِ
إِلَى الَّذِينَ أُوتُوهُ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالْفَاسِقِينَ مَا هُوَ مَعْرُوفٌ فِي الِاصْطِلَاحَاتِ الشَّرْعِيَّةِ وَهُمُ الْعُصَاةُ بِمَا دُونَ الْكُفْرِ مِنَ الْمَعَاصِي، فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ هُنَا. وَتِلْكَ الِاصْطِلَاحَاتُ حَادِثَةٌ بَعْدَ التَّنْزِيلِ وَقَدْ كَانَ التَّعْبِيرُ بِـ " يُضِلُّ " مُشْعِرًا بِأَنَّ الْمَثَلَ هُوَ مَنْشَأُ الْإِضْلَالِ وَالْهِدَايَةِ بِذَاتِهِ، فَنَفَى ذَلِكَ بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ لِيُبَيِّنَ أَنَّ مَنْشَأَ الضَّلَالِ رَاسِخٌ فِيهِمْ وَفِي أَعْمَالِهِمْ وَأَحْوَالِهِمْ.
ثُمَّ إِنَّ الْآيَةَ تُشْعِرُ بِأَنَّ الْمُهْتَدِينَ فِي الْكَثْرَةِ كَالضَّالِّينَ مَعَ أَنَّ هَؤُلَاءِ أَكْثَرُ، وَكَأَنَّ الْحِكْمَةَ فِي التَّسْوِيَةِ إِفَادَةُ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ الْمُهْتَدِينَ - عَلَى قِلَّتِهِمْ - أَجَلُّ فَائِدَةً وَأَكْثَرُ نَفْعًا وَأَعْظَمُ آثَارًا مِنْ أُولَئِكَ الْكُفَّارِ الْفَاسِقِينَ الضَّالِّينَ - عَلَى كَثْرَتِهِمْ - لِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ كَمَا قِيلَ:
قَلِيلٌ إِذَا عُدُّوا كَثِيرٌ إِذَا اشْتَدُّوا
وَلِذَلِكَ جُعِلَ الْوَاحِدُ فِي الْقِتَالِ بِعَشَرَةٍ فِي حَالِ الْقُوَّةِ وَالْعَزِيمَةِ، وَبِاثْنَيْنِ فِي حَالِ الضَّعْفِ، قِيلَ: هُوَ ضَعْفُ الْبَدَنِ، وَقِيلَ: بَلْ ضَعْفُ الْبَصِيرَةِ، وَلَقَدْ كَانَ مِنْ أَثَرِ ذَلِكَ الْعَدَدِ الْقَلِيلِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الْأَوَّلِينَ أَنْ سَادُوا جَمِيعَ الْعَالَمِينَ:
وَلَمْ أَرَ أَمْثَالَ الرِّجَالِ تَفَاوُتًا
…
إِلَى الْمَجْدِ حَتَّى عُدَّ أَلْفٌ بِوَاحِدِ
إِنَّ الْكِرَامَ كَثِيرٌ فِي الْبِلَادِ وَإِنْ
…
قَلُّوا كَمَا غَيْرُهُمْ قَلٌّ وَإِنْ كَثُرُوا
وَأَمَّا وَجْهُ تَقْدِيمِ الْإِضْلَالِ عَلَى الْهِدَايَةِ، فَلِأَنَّ سَبَبَهُ وَمَنْشَأَهُ مِنَ الْكُفْرِ مُتَقَدِّمٌ فِي الْوُجُودِ، وَإِنَّمَا جَاءَتِ الْآيَاتُ الْمُبَيِّنَةُ بِالْأَمْثَالِ لِإِخْرَاجِهِمْ مِمَّا كَانُوا فِيهِ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَاطِلِ إِلَى نُورِ الْحَقِّ، فَزَادَتِ الْفَاسِقِينَ رِجْسًا عَلَى رِجْسِهِمْ؛ لِأَنَّ نُورَ الْفِطْرَةِ قَدِ انْطَفَأَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ بِتَمَادِيهِمْ فِي نَقْضِ الْعَهْدِ، وَقَطْعِ الْوَصْلِ وَالْإِفْسَادِ فِي الْأَرْضِ، كَمَا فِي الْآيَةِ التَّالِيَةِ لِهَذِهِ، وَقَدْ عُلِمَ بِمَا ذُكِرَ أَنَّ فِي الْآيَةِ لَفًّا وَنَشْرًا غَيْرَ مُرَتَّبٍ فَإِنَّ الضَّلَالَ ذُكِرَ أَوَّلًا، وَهُوَ لِلْفَرِيقِ الثَّانِي، وَالْهُدَى ذُكِرَ آخِرًا، وَهُوَ لِلْفَرِيقِ الْأَوَّلِ.
هَذَا وَإِنَّ مَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ فِي ضَرْبِ الْمَثَلِ وَضَلَالِ قَوْمٍ بِهِ وَهِدَايَةِ آخَرِينَ هُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْمَثَلُ الْكَلَامِيُّ كَمَا عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ، أَخْذًا مِمَّا وَرَدَ فِي سَبَبِ النُّزُولِ، وَتَقَدَّمَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمَثَلِ فِي الْآيَةِ الْقُدْوَةُ الَّذِي يُؤْتَمُّ بِهِ وَيُهْتَدَى بِهَدْيِهِ، وَهَذَا الْمَعْنَى لِلْمَثَلِ مَعْرُوفٌ، وَقَدْ نَطَقَ بِهِ الْقُرْآنُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:(فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ)(43: 56) وَقَوْلِهِ: (وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ)(43: 57) وَقَالَ فِيهِ: (إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ 43: 59) فَهَذِهِ الْآيَةُ تَهْدِينَا
إِلَى فَهْمِ قَوْلِهِ تَعَالَى: (إِنَّ اللهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا) وَأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ دَحْضُ شُبْهَةِ الَّذِينَ أَنْكَرُوا نُبُوَّةَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَصَلَاحِيَّتَهُ لِأَنْ يَكُونَ مَثَلًا يُقْتَدَى بِهِ، وَهِيَ أَنَّهُ بَشَرٌ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ، وَهُمُ الْمُشْرِكُونَ، وَالَّذِينَ أَنْكَرُوا أَنْ يَكُونَ مِنَ الْعَرَبِ وَهُمُ الْيَهُودُ.
وَقَدْ حَكَى هَذِهِ الشُّبْهَةَ عَنْهُمْ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ كَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ: إِذَا كَانَ بَشَرًا مِثْلَنَا
فَكَيْفَ يَدَّعِي أَنَّهُ رَسُولٌ مِنَ اللهِ يَجِبُ اتِّبَاعُهُ، وَمَثَلٌ كَامِلٌ ضُرِبَ لِلِاقْتِدَاءِ بِهِ؟ (أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا) (38: 8) وَلِأَيِّ شَيْءٍ لَمْ يُرْسِلِ اللهُ مَلَكًا؟ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: (لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا)(25: 7) وَقَدْ أَقَامَ اللهُ الْحُجَّةَ عَلَى هَؤُلَاءِ بِقَوْلِهِ: (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا)(2: 23) . . . إِلَخْ، وَأَتْبَعَهَا بِوَعِيدِ مَنْ أَعْرَضَ عَنِ الْإِيمَانِ بَعْدَ قِيَامِ الْبُرْهَانِ وَهُمُ الْكَافِرُونَ، وَبِشَارَةِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ، وَبَعْدَ تَقْرِيرِ الْحُجَّةِ وَهِيَ تَحَدِّيهِمْ بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ، كَرَّ عَلَى شُبْهَتِهِمْ بِالنَّقْضِ وَهِيَ اسْتِبْعَادُ أَنْ يَكُونَ بَشَرٌ رَسُولًا مِنْ عِنْدِهِ.
وَمُحَصَّلُهُ: أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ، فَيَجْعَلُ مَا شَاءَ مِنَ الْمَنْفَعَةِ وَالْفَائِدَةِ فِيمَا شَاءَ وَمَنْ شَاءَ مِنْ خَلْقِهِ وَيَضْرِبُهُ مَثَلًا لِلنَّاسِ يَهْتَدُونَ بِهِ، وَلَيْسَ هَذَا نَقْصًا فِي جَانِبِ الْأُلُوهِيَّةِ فَيَسْتَحِي مِنْ ضَرْبِهَا مَثَلًا، بَلْ مِنَ الْكَمَالِ وَالْفَضْلِ أَنْ يَجْعَلَ فِي الْمَخْلُوقَاتِ الضَّعِيفَةِ وَالْمُحْتَقَرَةِ فِي الْعُرْفِ كَالْبَعُوضِ فَوَائِدَ وَمَنَافِعَ، فَكَيْفَ يُسْتَنْكَرُ أَنْ يَجْعَلَ مِنَ الْإِنْسَانِ الْكَامِلِ الَّذِي كَرَّمَهُ وَخَلَقَهُ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ مَثَلًا وَإِمَامًا يَقْتَدِي بِهِ قَوْمُهُ وَيَهْتَدُونَ بِهَدْيِهِ؟ وَبَقِيَّةُ الْكَلَامِ فِي الْآيَةِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ فِي مَعْنَى الْمَثَلِ هُوَ نَحْوُ مَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ أَوْ ظَاهِرٌ مِنْهُ أَتَمَّ الظُّهُورِ، (فَإِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا يَعْلَمُونَ أَنَّ هَذَا الْإِمَامَ الَّذِي نَصَبَهُ لِلنَّاسِ مَهْمَا يَكُنْ ضَعِيفًا قَبْلَ أَنْ يُقَوِّيَهُ بِبُرْهَانِهِ هُوَ الْحَقُّ الَّذِي ثَبَتَ تَأْيِيدُهُ مِنْ رَبِّهِمْ، وَالْكَافِرُونَ يَقُولُونَ: لِمَ لَمْ يَبْعَثْ إِلَى النَّاسِ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ فِي نَظَرِهِمْ؟ وَمَاذَا يُرِيدُ بِأَنْ يَجْعَلَ لَهُمْ قُدْوَةً فِي أَضْعَفِهِمْ وَأَهْوَنِهِمْ؟ وَهَكَذَا تَقُولُ فِي قَوْلِهِ: (يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا) . . . إِلَخْ.
وَقَدْ عُهِدَ مِنْ أَهْلِ الْبَصِيرَةِ الِاقْتِدَاءُ بِالْحَيَوَانَاتِ وَالِاسْتِفَادَةُ مِنْ خِصَالِهَا وَأَعْمَالِهَا، وَيُحْكَى عَنْ بَعْضِ كِبَارِ الصُّوفِيَّةِ أَنَّهُ قَالَ: تَعَلَّمْتُ الْمُرَاقَبَةَ مِنَ الْقِطِّ، وَعَنْ بَعْضِ حُكَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُ قَرَأَ كِتَابًا نَحْوًا مِنْ ثَلَاثِينَ مَرَّةً فَلَمْ يَفْهَمْهُ فَيَئِسَ مِنْهُ وَتَرَكَهُ،
فَرَأَى خُنْفَسَةً تَتَسَلَّقُ جِدَارًا وَتَقَعُ، فَعَدَّ عَلَيْهَا الْوُقُوعَ فَزَادَ عَلَى ثَلَاثِينَ مَرَّةً وَلَمْ تَيْأَسْ حَتَّى تَمَكَّنَتْ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ تَسَلُّقِهِ وَالِانْتِهَاءِ إِلَى حَيْثُ أَرَادَتْ، فَقَالَ: لَنْ أَرْضَى أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْخُنْفَسَاءُ أَثْبَتُ مِنِّي وَأَقْوَى عَزِيمَةً، فَرَجَعَ إِلَى الْكِتَابِ فَقَرَأَهُ حَتَّى فَهِمَهُ. وَيُقَالُ إِنَّ (تَيْمُورَ لنك) كَانَتْ تُحَدِّثُهُ نَفْسُهُ بِالْمُلْكِ مِنْ أَوَّلِ نَشْأَتِهِ عَلَى مَا كَانَ مِنْ فَقْرِهِ وَمَهَانَتِهِ، فَسَرَقَ مَرَّةً غَنَمًا (وَكَانَ لِصًّا) فَفَطِنَ لَهُ الرَّاعِي فَرَمَاهُ بِسَهْمَيْنِ أَصَابَا كَتِفَهُ وَرِجْلَهُ فَعَطَّلَاهُمَا، فَآوَى إِلَى خَرِبَةٍ وَجَعَلَ يُفَكِّرُ فِي مَهَانَتِهِ وَيُوَبِّخُ نَفْسَهُ عَلَى طَمَعِهَا فِي الْمُلْكِ، وَلَكِنَّهُ رَأَى نَمْلَةً تَحْمِلُ تِبْنَةً وَتَصْعَدُ إِلَى السَّقْفِ وَعِنْدَمَا تَبْلُغُهُ تَقَعُ ثُمَّ تَعُودُ، وَظَلَّتْ عَلَى ذَلِكَ عَامَّةَ اللَّيْلِ حَتَّى نَجَحَتْ فِي الصَّبَاحِ فَقَالَ فِي نَفْسِهِ: وَاللهِ لَا أَرْضَى بِأَنْ أَكُونَ أَضْعَفَ عَزِيمَةً وَأَقَلَّ ثَبَاتًا مِنْ هَذِهِ النَّمْلَةِ، وَأَصَرَّ عَلَى عَزْمِهِ حَتَّى صَارَ مَلِكًا وَكَانَ مِنْ أَمْرِهِ مَا كَانَ.
(الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ)
وَصَفَ الضَّالِّينَ بِالْفُسُوقِ، ثُمَّ بَيَّنَ مِنْ حَالِ فُسُوقِهِمْ نَقْضَ الْعَهْدِ الْمُوَثَّقِ، وَقَطْعَ مَا يَجِبُ أَنْ يُوصَلَ، وَالْإِفْسَادَ فِي الْأَرْضِ، وَسَجَّلَ بِذَلِكَ عَلَيْهِمُ الْخُسْرَانَ وَحَصَرَهُمْ فِي مَضِيقِهِ بِحَيْثُ لَا يَسْلَمُ مِنْهُ إِلَّا مَنْ رَجَعَ عَنْ فُسُوقِهِ (أَقُولُ) : فَعُلِمَ بِهَذَا أَنَّ الْمُرَادَ بِإِسْنَادِ الْإِضْلَالِ إِلَيْهِ - تَعَالَى - فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ بَيَانُ سُنَّتِهِ - تَعَالَى - فِي أَصْحَابِ هَذِهِ الْأَعْمَالِ مِنَ الْفُسَّاقِ وَهُوَ أَنَّهُمْ يَضِلُّونَ حَتَّى بِمَا هُوَ سَبَبٌ مِنْ أَشَدِّ أَسْبَابِ الْهِدَايَةِ تَأْثِيرًا وَهُوَ الْمَثَلُ الْمَذْكُورُ بِسَبَبِ رُسُوخِهِمْ فِي الْفِسْقِ وَنَقْضِهِمْ لِلْعَهْدِ. . . إِلَخْ، وَلَيْسَ الْمَعْنَى أَنَّهُ - تَعَالَى - خَلَقَ الضَّلَالَ فِيهِمْ خَلْقًا وَأَجْبَرَهُمْ عَلَيْهِ إِجْبَارًا.
الْعَهْدُ هُنَا لَفْظٌ مُجْمَلٌ لَمْ يَتَقَدَّمِ الْآيَاتِ مَا يُشْعِرُ بِهِ، وَلَمْ يَتْلُ فِيمَا تَلَاهَا مَا يُبَيِّنُهُ، وَكَذَلِكَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ لَيْسَ فِي سَابِقِ الْآيَاتِ وَلَا فِي لَاحِقِهَا مَا يُفَسِّرُهُ وَيُبَيِّنُ الْمُرَادَ مِنْهُ، فَمَا الْمَعْنَى الَّذِي يَتَبَادَرُ مِنْهُمَا إِلَى أَفْهَامِ الْمُخَاطَبِينَ، وَيَصِحُّ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْ حَالِ أُولَئِكَ الْفَاسِقِينَ، الَّذِينَ أَنْكَرُوا عَلَى اللهِ أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا يُقْتَدَى بِهِ
مِنَ الْبَشَرِ أَوْ مِنَ الْعَرَبِ، أَوِ الَّذِينَ أَنْكَرُوا الْوَحْيَ لِمَجِيءِ الْأَمْثَالِ الْقَوْلِيَّةِ فِيهِ بِمَا يُعَدُّ حَقِيرًا مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ فِي عُرْفِ الْمُتَكَبِّرِينَ وَالْمُتَظَرِّفِينَ مِنْهُمْ؟ دَلَّ ذِكْرُ الْعَهْدِ وَالسُّكُوتُ عَمَّا يُفَسِّرُهُ، وَإِطْلَاقُ مَا أَمَرَ اللهُ بِأَنْ يُوصَلَ بِدُونِ بَيَانٍ مَا يُفَصِّلُهُ، عَلَى أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - مَا وَصَفَهُمْ إِلَّا بِمَا هُمْ مُتَّصِفُونَ بِهِ، وَلَا حَاجَةَ إِلَى بَيَانِ الْمُجْمَلِ بِالْقَوْلِ إِذَا كَانَ الْوُجُودُ قَدْ تَكَفَّلَ بِبَيَانِهِ، وَالْوَاقِعُ قَدْ فَسَّرَهُ بِلِسَانِهِ، وَيُرْشِدُ إِلَى فَهْمِ الْعَهْدِ الْإِلَهِيِّ هُنَا مَا قُلْنَاهُ فِي مَعْنَى الْفُسُوقِ، فَإِنَّ الْفَاسِقِينَ هُمُ (الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ) فَإِذَا كَانَ مَعْنَى الْفُسُوقِ: الْخُرُوجَ عَنْ سُنَنِ اللهِ - تَعَالَى - فِي خَلْقِهِ الَّتِي هَدَاهُمْ إِلَيْهَا بِالْعَقْلِ وَالْمَشَاعِرِ، وَعَنْ هِدَايَةِ الدِّينِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوهُ خَاصَّةً، فَعَهْدُ اللهِ - تَعَالَى - هُوَ مَا أَخَذَهُمْ بِهِ بِمَنْحِهِمْ مَا يَفْهَمُونَ بِهِ هَذِهِ السُّنَنَ الْمَعْهُودَةَ لِلنَّاسِ بِالنَّظَرِ وَالِاعْتِبَارِ، وَالتَّجْرِبَةِ وَالِاخْتِبَارِ، أَوِ الْعَقْلِ وَالْحَوَاسِّ الْمُرْشِدَةِ إِلَيْهَا وَهِيَ عَامَّةٌ، وَالْحُجَّةُ بِهَا قَائِمَةٌ عَلَى كُلِّ مَنْ وُهِبَ نِعْمَةَ الْعَقْلِ وَبَلَغَ سِنَّ الرُّشْدِ سَلِيمَ الْحَوَاسِّ، وَنَقْضُهُ عِبَارَةٌ عَنْ عَدَمِ اسْتِعْمَالِ تِلْكَ الْمَوَاهِبِ اسْتِعْمَالًا صَحِيحًا حَتَّى كَأَنَّهُمْ فَقَدُوهَا وَخَرَجُوا مِنْ حُكْمِهَا كَمَا قَالَ - تَعَالَى -:(لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبَصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ)(7: 179) وَكَمَا قَالَ أَيْضًا: (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ)(2: 171) .
هَذَا هُوَ الْقِسْمُ الْأَوَّلُ مِنَ الْعَهْدِ الْإِلَهِيِّ وَهُوَ الْعَامُّ الشَّامِلُ، وَالْأَسَاسُ لِلْقِسْمِ الثَّانِي الْمُكَمِّلِ الَّذِي هُوَ الدِّينُ، فَالْعَهْدُ فِطْرِيٌّ خُلُقِيٌّ، وَدِينِيٌّ شَرْعِيٌّ، فَالْمُشْرِكُونَ نَقَضُوا الْأَوَّلَ، وَأَهْلُ الْكِتَابِ الَّذِينَ لَمْ يَقُومُوا بِحَقِّهِ نَقَضُوا الْأَوَّلَ وَالثَّانِي جَمِيعًا، وَأَعْنِي بِالنَّاقِضِينَ مَنْ أَنْكَرَ الْمَثَلَ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ، وَالْمِيثَاقُ: اسْمٌ لِمَا يُوَثَّقُ بِهِ الشَّيْءُ وَيَكُونُ مُحْكَمًا يَعْسُرُ نَقْضُهُ، وَاللهُ - تَعَالَى - قَدْ وَثَّقَ الْعَهْدَ الْفِطْرِيَّ بِجَعْلِ الْعُقُولِ بَعْدَ الرُّشْدِ قَابِلَةً لِإِدْرَاكِ السُّنَنِ الْإِلَهِيَّةِ فِي الْخَلْقِ، وَوَثَّقَ الْعَهْدَ الدِّينِيَّ بِمَا أَيَّدَ بِهِ الْأَنْبِيَاءَ مِنَ الْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ وَالْأَحْكَامِ الْمُحْكَمَاتِ، وَقَدْ وَثَّقَ الْعَهْدَ الْأَوَّلَ بِالْعَهْدِ الثَّانِي أَيْضًا، فَمَنْ أَنْكَرَ بَعْثَةَ الرُّسُلِ وَلَمْ يَهْتَدِ بِهَدْيِهِمْ فَهُوَ نَاقِضٌ لِعَهْدِ اللهِ فَاسِقٌ عَنْ سُنَنِهِ فِي تَقْوِيمِ الْبِنْيَةِ الْبَشَرِيَّةِ وَإِنْمَائِهَا، وَإِبْلَاغِ قُوَاهَا وَمَلَكَاتِهَا حَدَّ الْكَمَالِ الْإِنْسَانِيِّ الْمُمْكِنِ لَهَا.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: (وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ) فَفِيهِ مِنَ الْإِجْمَالِ نَحْوُ مَا فِي نَقْضِ الْعَهْدِ،
وَلَيْسَ هُوَ بِمَعْنَاهُ عَلَى طَرِيقِ التَّأْكِيدِ، وَإِنَّمَا هُوَ وَصْفٌ مُسْتَقِلٌّ جَاءَ مُتَمِّمًا لِمَا سَبَقَهُ، وَهَذَا الْأَمْرُ نَوْعَانِ: أَمْرُ تَكْوِينٍ وَهُوَ مَا عَلَيْهِ الْخَلْقُ مِنَ النِّظَامِ وَالسُّنَنِ الْمُحْكَمَةِ، وَقَدْ سَمَّى اللهَ - تَعَالَى - التَّكْوِينَ أَمْرًا بِمَا عَبَّرَ عَنْهُ بِقَوْلِهِ:(كُنْ) وَأَمْرُ تَشْرِيعٍ وَهُوَ مَا أَوْحَاهُ إِلَى أَنْبِيَائِهِ وَأَمَرَ النَّاسَ بِالْأَخْذِ بِهِ، وَمِنَ النَّوْعِ الْأَوَّلِ تَرْتِيبُ النَّتَائِجِ عَلَى الْمُقَدِّمَاتِ وَوَصْلُ الْأَدِلَّةِ بِالْمَدْلُولَاتِ، وَإِفْضَاءُ الْأَسْبَابِ إِلَى الْمُسَبِّبَاتِ، وَمَعْرِفَةُ الْمَنَافِعِ وَالْمَضَارِّ بِالْغَايَاتِ، فَمَنْ أَنْكَرَ نُبُوَّةَ النَّبِيِّ بَعْدَ مَا قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى صِدْقِهِ أَوْ أَنْكَرَ سُلْطَانَ اللهِ عَلَى عِبَادِهِ بَعْدَ مَا شَهِدَتْ لَهُ بِهَا آثَارُهُ فِي خَلْقِهِ، فَقَدْ قَطَعَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ بِمُقْتَضَى التَّكْوِينِ الْفِطْرِيِّ، وَكَذَلِكَ مَنْ أَنْكَرَ شَيْئًا مِمَّا عُلِمَ أَنَّهُ جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ؛ لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ مِنَ الْأُصُولِ الِاعْتِقَادِيَّةِ فَفِيهِ الْقَطْعُ بَيْنَ الدَّلِيلِ وَالْمَدْلُولِ، وَإِنْ كَانَ مِنَ الْأَحْكَامِ الْعَمَلِيَّةِ فَفِيهِ الْقَطْعُ بَيْنَ الْمَبَادِئِ وَالْغَايَاتِ؛ لِأَنَّ كُلَّ مَا أَمَرَ الدِّينُ بِهِ قَطْعًا فَهُوَ نَافِعٌ وَمَنْفَعَتُهُ تُثْبِتُهَا التَّجْرِبَةُ وَالدَّلِيلُ، وَكُلُّ مَا نَهَى عَنْهُ حَتْمًا فَلَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ عَاقِبَتُهُ مُضِرَّةً، فَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ هُمُ الَّذِينَ يَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ بِغَايَتِهِ، أَمَّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْإِيمَانِ بِاللهِ - تَعَالَى - وَبِالنُّبُوَّةِ فَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ بِهِ بِمُقْتَضَى التَّكْوِينِ وَالنِّظَامِ الْفِطْرِيِّ، وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَحْكَامِ فَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ بِهِ فِي كُتُبِهِ أَمْرَ تَشْرِيعٍ وَتَكْلِيفٍ، وَصِلَةُ الْأَرْحَامِ تَدْخُلُ فِي كُلٍّ مِنَ الْقِسْمَيْنِ.
إِذَا كَانَ مُشْرِكُو الْعَرَبِ قَدْ نَقَضُوا عَهْدَ الْفِطْرَةِ وَقَطَعُوا مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ بِمُقْتَضَاهَا بِتَكْذِيبِهِمُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَإِيذَائِهِ وَهُوَ ذُو رَحِمٍ بِهِمْ، فَالْمُكَذِّبُونَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ قَدْ قَطَعُوا صِلَاتَ الْأَمْرَيْنِ كَمَا نَقَضُوا الْعَهْدَيْنِ؛ فَإِنَّ اللهَ - تَعَالَى - قَدْ بَشَّرَهُمْ فِي الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَ لِلْمُبَشَّرِ بِهِ صِفَاتٍ وَأَعْمَالًا وَأَحْوَالًا تَنْطَبِقُ عَلَيْهِ أَتَمَّ الِانْطِبَاقِ، فَحَرَّفُوا وَأَوَّلُوا وَاجْتَهَدُوا فِي صَرْفِهَا عَنْهُ وَهُمْ مُتَعَمِّدُونَ (وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لِيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (2: 146) وَمِنْهُمْ مَنْ يَحْمِلُ تِلْكَ الصِّفَاتِ وَالْعَلَامَاتِ عَلَى غَيْرِهِ، وَمِنْهُمْ يَنْتَظِرُ مَبْعُوثًا آخَرَ يَجِيءُ الزَّمَانُ بِهِ.
التَّعْبِيرُ بِالْقَطْعِ هُنَا أَبْلَغُ مِنَ التَّعْبِيرِ بِالنَّقْضِ، وَلِذَلِكَ جَاءَ بَعْدَهُ مُتَمِّمًا لَهُ؛ كَأَنَّ عَهْدَ اللهِ - تَعَالَى - إِلَى النَّاسِ حَبْلٌ مُحْكَمُ الطَّاقَاتِ مُوَثَّقُ الْفَتْلِ، وَكَأَنَّ هَذَا الْحَبْلَ قَدْ وَصَلَ بِحِكْمَةِ أَمْرِ التَّكْوِينِ وَحُكْمِ أَمْرِ التَّشْرِيعِ بَيْنَ جَمِيعِ الْمَنَافِعِ الَّتِي تَنْفَعُ النَّاسَ،
فَلَمْ يَكْتَفِ أُولَئِكَ الْفَاسِقُونَ الْمُنْكِرُونَ لِلْمَثَلِ الَّذِي ضَرَبَهُ اللهُ لِعِبَادِهِ بِنَقْضِ حَبَلِ الْعَهْدِ الْإِلَهِيِّ وَحَلِّ طَاقَاتِهِ وَنَكْثِ فَتْلِهِ حَتَّى قَطَعُوهُ قَطْعًا، وَأَفْسَدُوا بِذَلِكَ نِظَامَ الْفِطْرَةِ وَنِظَامَ الْهِدَايَةِ الدِّينِيَّةِ أَصْلًا وَفَرْعًا، وَلِذَلِكَ عَقَّبَ هَذَا الْوَصْفَ بِقَوْلِهِ:(وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ) وَأَيُّ إِفْسَادٍ أَكْبَرُ مِنْ إِفْسَادِ مَنْ أَهْمَلَ هِدَايَةَ الْعَقْلِ وَهِدَايَةَ الدِّينِ، وَقَطَعَ الصِّلَةَ بَيْنَ الْمُقَدِّمَاتِ وَالنَّتَائِجِ، وَبَيْنَ الْمَطَالِبِ وَالْأَدِلَّةِ وَالْبَرَاهِينِ؟ مَنْ كَانَ هَذَا شَأْنَهُ فَهُوَ فَاسِدٌ فِي نَفْسِهِ وَوُجُودُهُ فِي الْأَرْضِ مُفْسِدٌ لِأَهْلِهَا؛ لِأَنَّ شَرَّهُ يَتَعَدَّى كَالْأَجْرَبِ يُعْدِي السَّلِيمَ؛ وَلِذَلِكَ وَرَدَ فِي السُّنَّةِ النَّهْيُ عَنْ قُرَنَاءِ السُّوءِ، وَالْمُشَاهَدَةُ وَالتَّجْرِبَةُ مُؤَيِّدَةٌ لِلسُّنَّةِ وَمُصَدِّقَةٌ لَهَا خُصُوصًا إِذَا قَعَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ يَصُدُّونَ عَنْهَا وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا، فَإِنَّ إِفْسَادَهُمْ يَكُونُ أَشَدَّ انْتِشَارًا وَأَشْمَلَ خَسَارًا.
وَلَمَّا كَانَ إِفْسَادُ هَؤُلَاءِ عَامًّا لِلْعَقَائِدِ وَالْأَخْلَاقِ وَالْأَعْمَالِ لِأَنَّ عِلَّتَهُ فَقْدُ الْهِدَايَتَيْنِ؛ هِدَايَةِ الْفِطْرَةِ وَهِدَايَةِ الدِّينِ، سَجَّلَ عَلَيْهِمُ الْخُسْرَانَ وَحَصَرَهُ فِيهِمْ بِقَوْلِهِ:(أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ) بِالْخِزْيِ فِي الدُّنْيَا وَالْعَذَابِ فِي الْآخِرَةِ، أَمَّا خُسْرَانُهُمْ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ ظَاهِرٌ لِأَرْبَابِ الْبَصَائِرِ الصَّافِيَةِ وَالْفَضَائِلِ السَّامِيَةِ، وَلَكِنَّهُ يَخْفَى عَلَى الْأَكْثَرِينَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَغْنِيَاءِ مِنْ أُولَئِكَ الْخَاسِرِينَ، يَرَوْنَهُمْ مُتَمَتِّعِينَ بِلَذَّاتِ الدُّنْيَا وَشَهَوَاتِهَا فَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مَغْبُوطُونَ سُعَدَاءُ بِهَا، فَيَكُونُ هَذَا الْحُسْبَانُ مِنْ آلَاتِ الْإِفْسَادِ، وَلَوْ سَبَرُوا أَغْوَارَهُمْ وَبَلَوْا أَخْبَارَهُمْ لَأَدْرَكُوا أَنَّ مَا هُمْ فِيهِ مِنْ ظُلْمَةِ النَّفْسِ وَضِيقِ الْعَطَنِ وَفَسَادِ الْأَخْلَاقِ يُنَغِّصُ عَلَيْهِمْ أَكْثَرَ لَذَّاتِهِمْ، وَيَقْذِفُ بِهِمْ إِلَى الْإِفْرَاطِ الَّذِي يُوَلِّدُ الْأَمْرَاضَ الْجَسَدِيَّةَ وَالنَّفْسِيَّةَ، وَيُثِيرُ فِي نُفُوسِهِمْ كَوَامِنَ الْوَسَاوِسِ، وَيَجْعَلُ عُقُولَهُمْ كَالْكُرَةِ تَتَقَاذَفُهَا صَوَالِجَةُ الْأَوْهَامِ، وَأَنَّ حُبَّ الرَّاحَةِ يُوقِعُهُمْ فِي تَعَبٍ لَا نِهَايَةَ لَهُ، وَهُوَ تَعَبُ الْبِطَالَةِ وَالْكَسَلِ أَوِ الْعَمَلِ الِاضْطِرَارِيِّ، وَمَنْ لَا يَذُوقُ لَذَّةَ الْعَمَلِ الِاخْتِيَارِيِّ لَا يَذُوقُ لَذَّةَ الرَّاحَةِ الْحَقِيقِيَّةِ؛ لِأَنَّ اللهَ - تَعَالَى - لَمْ يَضَعِ الرَّاحَةَ فِي غَيْرِ الْعَمَلِ، وَإِنَّمَا سَعَادَةُ الدُّنْيَا بِصِحَّةِ الْجِسْمِ وَالْعَقْلِ وَأَدَبِ النَّفْسِ الَّذِي يُرْشِدُ إِلَيْهِ الدِّينُ، فَمَنْ فَقَدَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ فَقَدْ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ وَ (ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ) .
(كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)
الْكَلَامُ مُتَّصِلٌ بِمَا قَبْلَهُ وَمُرْتَبِطٌ بِهِ ارْتِبَاطًا مُحْكَمًا، وَالْخِطَابُ لِلْفَاسِقِينَ الَّذِينَ يَضِلُّونَ بِالْمَثَلِ؛ فَإِنَّهُ وَصَفَهُمْ أَوَّلًا بِنَقْضِ الْعَهْدِ الْإِلَهِيِّ الْمُوَثَّقِ، وَقَطْعِ مَا أَمَرَ بِهِ سُبْحَانَهُ أَنْ يُوصَلَ، سَوَاءٌ كَانَ الْأَمْرُ أَمْرَ تَكْوِينٍ وَهُوَ السُّنَنُ الْكَوْنِيَّةُ، أَوْ أَمْرَ تَشْرِيعٍ وَهُوَ الدِّيَانَةُ السَّمَاوِيَّةُ، ثُمَّ بَعْدِ هَذَا الْبَيَانِ جَاءَ بِهَذَا الِاسْتِفْهَامِ التَّعَجُّبِيِّ عَنْ صِفَةِ كُفْرِهِمْ مُقْتَرِنًا بِالْبُرْهَانِ النَّاصِعِ عَلَى أَنَّهُ لَا وَجْهَ لَهُ وَلَا شُبْهَةَ تُسَوِّغُ الْإِقَامَةَ عَلَيْهِ، فَقَالَ:(كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ) أَيْ بِأَيِّ صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِ الْكُفْرِ بِاللهِ - تَعَالَى - تَأْخُذُونَ، وَعَلَى أَيَّةِ شُبْهَةٍ فِيهِ تَعْتَمِدُونَ، وَحَالُكُمْ فِي مَوْتَتَيْكُمْ وَحَيَاتَيْكُمْ تَأْبَى عَلَيْكُمْ ذَلِكَ وَلَا تَدَعُ لَكُمْ عُذْرًا فِيهِ؟ وَبَيَّنَ هَذِهِ الْحَالَ بِقَوْلِهِ:(وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ) أَيْ وَالْحَالُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ قَبْلَ هَذِهِ النَّشْأَةِ الْأُولَى مِنْ حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا أَمْوَاتًا مُنْبَثَّةٌ أَجَزَاؤُكُمْ فِي الْأَرْضِ، بَعْضُهَا فِي طَبَقَتِهَا الْجَامِدَةِ وَبَعْضُهَا فِي طَبَقَتِهَا السَّائِلَةِ وَبَعْضُهَا فِي طَبَقَتِهَا الْغَازِيَّةِ (الْهَوَائِيَّةِ) لَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ أَجْزَاءِ سَائِرِ الْحَيَوَانِ وَالنَّبَاتِ، فَخَلَقَكُمْ أَطْوَارًا مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ فَكُنْتُمْ بِالطَّوْرِ الْأَخِيرِ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ، وَفَضَّلَكُمْ عَلَى غَيْرِكُمْ بِمَا وَهَبَكُمْ مِنَ الْعَقْلِ وَالْإِدْرَاكِ، وَمَا سَخَّرَ لَكُمْ مِنَ الْكَائِنَاتِ (ثُمَّ يُمِيتُكُمْ) بِقَبْضِ الرُّوحِ الْحَيِّ الَّذِي بِهِ نِظَامُ حَيَاتِكُمْ هَذِهِ فَتَنْحَلُ أَبْدَانُكُمْ بِمُفَارَقَتِهِ إِيَّاهَا وَتَعُودُ إِلَى أَصْلِهَا الْمَيِّتِ؛ وَتَنْبَثُّ فِي طَبَقَاتِ الْأَرْضِ وَتُدْغَمُ فِي عَوَالِمِهَا حَتَّى يَنْعَدِمَ هَذَا الْوُجُودُ الْخَاصُّ بِهَا (ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) حَيَاةً ثَانِيَةً كَمَا أَحْيَاكُمْ بَعْدَ الْمَوْتَةِ الْأُولَى بِلَا فَرْقٍ إِلَّا مَا تَكُونُ بِهِ الْحَيَاةُ الثَّانِيَةُ أَرْقَى فِي مَرْتَبَةِ الْوُجُودِ وَأَكْمَلَ لِمَنْ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ فِي تِلْكَ، وَأَدْنَى مِنْهَا وَأَسْفَلَ فِيمَنْ يَدُسُّونَهَا وَيُفْسِدُونَ فِطْرَتَهَا (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا)
(91: 9 - 10)(ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا عَمِلْتُمْ، وَيُحَاسِبُكُمْ عَلَى مَا قَدَّمْتُمْ، وَيُجَازِيكُمْ بِهِ. وَأَقُولُ: إِنَّ تَرَاخِيَ الْإِرْجَاعِ إِلَى اللهِ - تَعَالَى - عَنْ حَيَاةِ الْبَعْثِ عِبَارَةٌ عَنْ تَأْخِيرِ الْحِسَابِ وَالْجَزَاءِ طُولَ زَمَنِ الْوُقُوفِ وَالِانْتِظَارِ كَمَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ الْعُظْمَى وَغَيْرِهِ، فَإِذَا كَانَ هَذَا شَأْنُكُمْ مَعَهُ وَهَذَا فَضْلُهُ عَلَيْكُمْ، وَهَذَا مَبْدَؤُكُمْ وَذَلِكَ مُنْتَهَاكُمْ، فَكَيْفَ تَكْفُرُونَ بِهِ وَتُنْكِرُونَ عَلَيْهِ أَنْ يَضْرِبَ لَكُمْ مَثَلًا تَهْتَدُونَ بِهِ، وَيَبْعَثُ فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ، وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ مِنْ قِيَامِ مَصَالِحِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الْأُولَى، وَسَعَادَتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الْأُخْرَى؟ .
لَا يُقَالُ: كَيْفَ يَحْتَجُّ عَلَيْهِمْ بِالْحَيَاةِ الثَّانِيَةِ قَبْلَ الْإِيمَانِ بِالْوَحْيِ الَّذِي هُوَ دَلِيلُهَا وَمُثْبِتُهَا؟ لِأَنَّهُ احْتِجَاجٌ عَلَى مَجْمُوعِ النَّاسِ بِمَا عَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ مِنْهُمْ، وَلَا عِبْرَةَ بِالشُّذَّاذِ الْمُنْكِرِينَ لِلْبَعْثِ فِي هَذَا الْمَقَامِ؛ لِأَنَّ الِاحْتِجَاجَ بِالْحَيَاةِ الْأَوْلَى بَعْدَ الْمَوْتَةِ الْأُولَى كَافٍ لِلتَّعَجُّبِ مِنْ كُفْرِهِمْ بِاللهِ وَإِنْكَارِهِمْ عَلَيْهِ أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا لِهِدَايَةِ النَّاسِ زَعْمًا أَنَّ هَذَا لَا يَلِيقُ بِعَظَمَتِهِ، فَإِنَّ مَنْ أَوْجَدَ هَذَا الْإِنْسَانَ الْكَرِيمَ، وَجَعَلَهُ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ، وَرَكَّبَ صُورَتَهُ مِنْ تِلْكَ الذَّرَّاتِ الصَّغِيرَةِ وَالنُّطْفَةِ الْمَهِينَةِ الْحَقِيرَةِ، وَالْعَلَقَةِ الدَّمَوِيَّةِ أَوِ الدُّودِيَّةِ، وَالْمُضْغَةِ اللَّحْمِيَّةِ (لَا يَسْتَحْيِ أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوَضَةً فَمَا فَوْقَهَا) وَالْكَلَامُ مَسُوقٌ لِإِبْطَالِ شُبَهِ مُنْكِرِي الْمَثَلِ وَالْقُرْآنِ الَّذِي جَاءَ بِهِ،
لَا لِإِبْطَالِ شُبَهِ مُنْكِرِي الْبَعْثِ بِلَوَامِعِ شُهُبِهِ، ثُمَّ إِنَّ تَمْثِيلَ إِحْدَى الْحَيَاتَيْنِ بَعْدَ الْمَوْتِ بِالْأُخْرَى دَاحِضٌ لِحُجَّةِ مَنْ يَزْعُمُ عَدَمَ إِمْكَانِ الثَّانِيَةِ؛ لِأَنَّ مَا جَازَ فِي أَحَدِ الْمَثَلَيْنِ جَازَ فِي الْآخَرِ، وَالْكَلَامُ فِي إِثْبَاتِ الْوَحْيِ الْإِلَهِيِّ لِلنَّبِيِّ الْمُرْسَلِ مِنَ الْبَشَرِ وَالْإِيمَانِ بِالْبَعْثِ تَابِعٌ لَهُ.
ثُمَّ بَعْدِ بَيَانِ بَعْضِ آيَاتِهِ فِي أَنْفُسِهِمْ بِذِكْرِ الْمَبْدَأِ وَالْمُنْتَهَى ذَكَّرَهُمْ بِآيَاتِهِ فِي الْآفَاقِ فَقَالَ: (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا) فَالْكَلَامُ عَلَى اتِّصَالِهِ وَتَرْتِيبِهِ وَانْتِظَامِ جَوَاهِرِهِ فِي سِلْكِ أُسْلُوبِهِ، فَلَيْسَ فِي قَوْلِهِ:(كَيْفَ تَكْفُرُونَ) . . . إِلَخْ، انْتِقَالٌ لِإِثْبَاتِ الْبَعْثِ كَمَا قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ غَفْلَةً عَنْ هَذَا الِاتِّصَالِ الْمَتِينِ، وَلَعَمْرِي إِنَّ وُجُوهَ الِاتِّصَالِ بَيْنَ الْآيَاتِ وَمَا فِيهَا مِنْ دَقَائِقِ الْمُنَاسَبَاتِ لَهِيَ ضَرْبٌ مِنْ ضُرُوبِ الْبَلَاغَةِ، وَفَنٌّ مِنْ فُنُونِ الْإِعْجَازِ، إِذَا أَمْكَنَ لِلْبَشَرِ الْإِشْرَافُ عَلَيْهِ فَلَا يُمْكِنُهُمُ الْبُلُوغُ إِلَيْهِ، وَالْكَلَامُ فِي الْبَعْثِ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ جِدًّا فَلَا حَاجَةَ إِلَى الْإِسْرَاعِ إِلَيْهِ هُنَا.
يُصَوِّرُ لَنَا قَوْلُهُ - تَعَالَى -: (خَلَقَ لَكُمْ) قُدْرَتَهُ الْكَامِلَةَ، وَنِعَمَهُ الشَّامِلَةَ، وَأَيُّ قُدْرَةٍ أَكْبَرُ مِنْ قُدْرَةِ الْخَالِقِ؟ وَأَيُّ نِعْمَةٍ أَكْمَلُ مِنْ جَعْلِ كُلِّ مَا فِي الْأَرْضِ مُهَيَّئًا لَنَا وَمُعَدًّا لِمَنَافِعِنَا؟ وَلِلْانْتِفَاعِ بِالْأَرْضِ طَرِيقَانِ:(أَحَدُهُمَا) الِانْتِفَاعُ بِأَعْيَانِهَا فِي الْحَيَاةِ الْجَسَدِيَّةِ. (وَثَانِيهُمَا) النَّظَرُ وَالِاعْتِبَارُ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الْعَقْلِيَّةِ، وَالْأَرْضُ: هِيَ مَا فِي الْجِهَةِ السُّفْلَى، أَيْ مَا تَحْتَ أَرْجُلِنَا، كَمَا أَنَّ الْمُرَادَ بِالسَّمَاءِ: كُلُّ مَا فِي الْجِهَةِ الْعُلْيَا، أَيْ فَوْقَ رُءُوسِنَا وَإِنَّنَا نَنْتَفِعُ بِكُلِّ مَا فِي الْأَرْضِ بَرِّهَا وَبَحْرِهَا مِنْ حَيَوَانٍ وَنَبَاتٍ وَجَمَادٍ، وَمَا لَا تَصِلُ إِلَيْهِ أَيْدِينَا نَنْتَفِعُ فِيهِ بِعُقُولِنَا بِالِاسْتِدْلَالِ بِهِ عَلَى قُدْرَةِ مُبْدِعِهِ وَحِكْمَتِهِ، وَالتَّعْبِيرُ بِ " فِي " يَتَنَاوَلُ مَا فِي جَوْفِ الْأَرْضِ مِنَ الْمَعَادِنِ بِالنَّصِّ الصَّرِيحِ.
(وَأَقُولُ هُنَا) : إِنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ هِيَ نَصُّ الدَّلِيلِ الْقَطْعِيِّ عَلَى الْقَاعِدَةِ الْمَعْرُوفَةِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ " إِنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَشْيَاءِ الْمَخْلُوقَةِ الْإِبَاحَةُ " وَالْمُرَادُ إِبَاحَةُ الِانْتِفَاعِ بِهَا أَكْلًا وَشُرْبًا وَلِبَاسًا وَتَدَاوِيًا وَرُكُوبًا وَزِينَةً، وَبِهَذَا التَّفْصِيلِ تَدْخُلُ الْأَشْيَاءُ الَّتِي يَضُرُّ اسْتِعْمَالُهَا فِي بَعْضِ الْأَشْيَاءِ وَيَنْفَعُ فِي بَعْضٍ، كَالسُّمُومِ الَّتِي يَضُرُّ أَكْلُهَا وَشُرْبُهَا وَيَنْفَعُ التَّدَاوِي بِهَا، وَلَيْسَ لِمَخْلُوقٍ حَقٌّ فِي تَحْرِيمِ شَيْءٍ أَبَاحَهُ الرَّبُّ لِعِبَادِهِ تَدَيُّنًا بِهِ إِلَّا بِوَحْيِهِ وَإِذْنِهِ (قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ) (10: 59) وَمَا يَحْظُرُهُ الطَّبِيبُ عَلَى الْمَرِيضِ مِنْ طَعَامٍ حَلَالٍ فِي نَفْسِهِ، وَمَا يَمْنَعُ الْحَاكِمُ الْعَادِلُ النَّاسَ مِنَ التَّصَرُّفِ فِيهِ مِنَ الْمُبَاحَاتِ لِدَفْعِ مَفْسَدَةٍ أَوْ رِعَايَةِ مَصْلَحَةٍ فَلَيْسَ مِنَ التَّحْرِيمِ الدِّينِيِّ لِلشَّيْءِ وَلَا يَكُونُ دَائِمًا، وَإِنَّمَا يُتْبَعَانِ فِي ذَلِكَ كَمَا يَأْمُرَانِ بِهِ بِحَقٍّ وَعَدْلٍ مَا دَامَتْ عِلَّتُهُ قَائِمَةً.
قَالَ - تَعَالَى -: (ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ) يُقَالُ اسْتَوَى إِلَى الشَّيْءِ: إِذَا قَصَدَ إِلَيْهِ قَصْدًا مُسْتَوِيًا خَاصًّا بِهِ لَا يَلْوِي عَلَى غَيْرِهِ، وَقَالَ الرَّاغِبُ: إِذَا تَعَدَّى اسْتَوَى بِـ " إِلَى " اقْتَضَى الِانْتِهَاءَ
إِلَى الشَّيْءِ إِمَّا بِالذَّاتِ وَإِمَّا بِالتَّدْبِيرِ، وَالْمُرَادُ أَنَّ إِرَادَتَهُ تَوَجَّهَتْ إِلَى مَادَّةِ السَّمَاءِ كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ فُصِّلَتْ:(ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَّانٌ)(41: 11) . . . إِلَخْ، (فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ) فَأَتَمَّ خَلْقَهُنَّ مِنْ تِلْكَ الْمَادَّةِ الدُّخَانِيَّةِ فَجَعَلَهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ تَامَّاتٍ مُنْتَظِمَاتِ الْخَلْقِ، وَهَذَا التَّرْتِيبُ يُوَافِقُ مَا كَانَ مَعْرُوفًا عِنْدَ الْيَهُودِ عَنْ سَيِّدِنَا مُوسَى عليه السلام مِنْ أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - خَلَقَ الْأَرْضَ أَوَّلًا، ثُمَّ
خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالنُّورَ، وَلَا مَانِعَ مِنَ الْأَخْذِ بِظَاهِرِ الْآيَةِ فَإِنَّ الْخَلْقَ غَيْرُ التَّسْوِيَةِ، أَلَّا تَرَى أَنَّ الْإِنْسَانَ فِي طَوْرِ النُّطْفَةِ وَالْعَلَقَةِ يَكُونُ مَخْلُوقًا وَلَكِنَّهُ لَا يَكُونُ بَشَرًا سَوِيًّا فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ، كَمَا يَكُونُ عِنْدَ إِنْشَائِهِ خَلْقًا آخَرَ، وَسَنُبَيِّنُ - إِنْ شَاءَ اللهُ - تَعَالَى - عِنْدَ تَفْسِيرِ قَوْلِهِ - تَعَالَى -:(أَوْ لَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا)(21: 30) أَنَّ الْعَالَمَ كَانَ شَيْئًا وَاحِدًا ثُمَّ فَصَّلَهُ اللهُ - تَعَالَى - بِالْخَلْقِ تَفْصِيلًا وَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا، فَلَا مَانِعَ إِذَنْ مِنْ أَنْ يَكُونَ خَلْقُ الْأَرْضِ وَمَا فِيهَا سَابِقًا عَلَى تَسْوِيَةِ السَّمَاءِ سَبْعًا، نَعَمْ إِنَّ هَذَا مِنْ أَسْرَارِ الْخِلْقَةِ الَّتِي لَا نَعْرِفُهَا، وَرُبَّمَا يُتَوَهَّمُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تُنَاقِضُ أَوْ تُخَالِفُ قَوْلَهُ - تَعَالَى - بَعْدَ ذِكْرِ خَلْقِ السَّمَاءِ وَأَنْوَارِهَا:(وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا)(79: 30) وَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: (أَحَدِهِمَا) أَنَّ الْبَعْدِيَّةَ لَيْسَتْ بَعْدِيَّةَ الزَّمَانِ وَلَكِنَّهَا الْبَعْدِيَّةُ فِي الذِّكْرِ وَهِيَ مَعْرُوفَةٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ وَغَيْرِهِمْ، فَلَا بَعْدَ فِي أَنْ تَقُولَ فَعَلْتُ كَذَا لِفُلَانٍ وَأَحْسَنْتُ عَلَيْهِ بِكَذَا، وَبَعْدَ ذَلِكَ سَاعَدْتُهُ فِي عَمَلِ كَذَا، كَمَا تَقُولُ: وَزِيَادَةٌ عَلَى ذَلِكَ فِي عَمَلِهِ، تُرِيدُ نَوْعًا آخَرَ مِنْ أَنْوَاعِ الْإِحْسَانِ، مِنْ غَيْرِ مُلَاحِظَةِ التَّأَخُّرِ فِي الزَّمَانِ. (ثَانِيهِمَا) أَنَّ الَّذِي كَانَ بَعْدَ خَلْقِ السَّمَاءِ هُوَ دَحْوُ الْأَرْضِ أَيْ جَعْلُهَا مُمَهَّدَةً مَدْحُوَّةً قَابِلَةً لِلسُّكْنَى وَالِاسْتِعْمَارِ لَا مُجَرَّدَ خَلْقِهَا وَتَقْدِيرِ أَقْوَاتِهَا فِيهَا، وَخَلْقُ اللهِ وَتَقْدِيرُهُ لَمْ يَنْقَطِعْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا يَنْقَطِعُ مِنْهَا مَا دَامَتْ، وَكَذَلِكَ يُقَالُ فِي غَيْرِهَا.
(وَأَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ الْآنَ) أَنَّ الدَّحْوَ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ: دَحْرَجَةُ الْأَشْيَاءِ الْقَابِلَةِ لِلدَّحْرَجَةِ كَالْجَوْزِ وَالْكَرَى وَالْحَصَا وَرَمْيِهَا، وَيُسَمُّونَ الْمَطَرَ الدَّاحِيَ؛ لِأَنَّهُ يَدْحُو الْحَصَا، وَكَذَا اللَّاعِبُ بِالْجَوْزِ، وَفِي حَدِيثِ أَبِي رَافِعٍ ((كُنْتُ أُلَاعِبُ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمَا بِالْمَدَاحِي)) وَهِيَ أَحْجَارٌ أَمْثَالُ الْقُرْصَةِ كَانُوا يَحْفِرُونَ وَيَدْحُونَ فِيهَا بِتِلْكَ الْأَحْجَارِ، فَإِنْ وَقْعَ الْحَجَرُ فِيهَا غَلَبَ صَاحِبُهَا وَإِنْ لَمْ يَقَعْ غُلِبَ، ذَكَرَهُ فِي اللِّسَانِ، وَقَالَ بَعْدَهُ الدَّحْوُ: هُوَ رَمْيُ اللَّاعِبِ بِالْحَجَرِ وَالْجَوْزِ وَغَيْرِهِ، وَأَقُولُ: إِنَّ مَا ذَكَرَهُ وَأَعَادَ الْقَوْلَ فِيهِ مِنْ لُعْبَةِ الدَّحْوِ بِالْحِجَارَةِ الْمُسْتَدِيرَةِ كَالْقُرْصَةِ لَا يَزَالُ مَأْلُوفًا عِنْدَ الصِّبْيَانِ فِي بِلَادِنَا وَيُسَمُّونَهُ لَعِبَ الْأُكْرَةِ، وَيُحَرِّفُهَا بَعْضُهُمْ فَيَقُولُ: الدُّكْرَةُ. وَقَالَ الرَّاغِبُ فِي مُفْرَدَاتِ الْقُرْآنِ قَالَ - تَعَالَى -: (وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا)(79: 30) أَيْ أَزَالَهَا عَنْ مَقَرِّهَا
كَقَوْلِهِ: (يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ)(73: 14) وَهُوَ مِنْ قَوْلِهِمْ دَحَا الْمَطَرُ الْحَصَا. . . إِلَخْ، وَلَكِنَّ فَرْقًا بَيْنَ دَحْوِ الْأَرْضِ وَدَحْرَجَتِهَا مِنْ مَكَانِهَا عِنْدَ التَّكْوِينِ، وَرَجْفِهَا قُبَيْلَ خَرَابِهَا عِنْدَ قِيَامِ السَّاعَةِ. وَقَدْ يَكُونُ الْمُرَادُ بِهِ - وَاللهُ أَعْلَمُ - أَنَّهُ دَحَاهَا عِنْدَمَا
فَتَقَهَا هِيَ وَالسَّمَاوَاتِ مِنَ الْمَادَّةِ الدُّخَانِيَّةِ الَّتِي كَانَتْ رَتْقًا، وَفِيهِ دَلَالَةٌ أَوْ إِشَارَةٌ - عَلَى الْأَقَلِّ - إِلَى أَنَّهَا كُرَةٌ أَوْ كَالْكُرَةِ فِي الِاسْتِدَارَةِ، وَإِلَّا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِدَحْوِهَا وَدَحْرَجَتِهَا حَرَكَتَهَا بِقُدْرَتِهِ - تَعَالَى - فِي فَلَكِهَا (وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) (36: 40) وَهَذَا لَا يُنَافِي مَا قِيلَ مِنْ أَنَّ مَعْنَاهُ بَسَطَهَا أَيْ وُسَّعَهَا وَمَدَّ فِيهَا، وَأَنَّهُ سَطَحَهَا أَيْ جَعَلَ لَهَا سَطْحًا وَاسِعًا يَعِيشُ عَلَيْهِ النَّاسُ وَغَيْرُهُمْ، فَمَنْ جَعَلَ مَسْأَلَةَ كُرَوِيَّتِهَا وَسَطْحِهَا أَمْرَيْنِ مُتَعَارِضَيْنِ يَقُولُ بِكُلٍّ مِنْهُمَا قَوْمٌ يَطْعَنُونَ فِي الْآخَرِينَ فَقَدْ ضَيَّقُوا مِنَ اللُّغَةِ وَالدِّينِ وَاسِعًا بِقِلَّةِ بِضَاعَتِهِمْ فِيهِمَا مَعًا.
وَحَاصِلُ الْقَوْلِ: أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - خَلَقَ هَذِهِ الْأَرْضَ وَهَذِهِ السَّمَاوَاتِ الَّتِي فَوْقَنَا بِالتَّدْرِيجِ وَمَا أَشْهَدَنَا خَلْقَهُنَّ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ لَنَا مَا ذَكَرَهُ لِلْاسْتِدْلَالِ عَلَى قُدْرَتِهِ وَحِكْمَتِهِ وَلِلْامْتِنَانِ عَلَيْنَا بِنِعْمَتِهِ، لَا لِبَيَانِ تَارِيخِ تَكْوِينِهِمَا بِالتَّرْتِيبِ؛ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ مَقَاصِدِ الدِّينِ، فَابْتِدَاءُ الْخَلْقِ غَيْرُ مَعْرُوفٍ وَلَا تَرْتِيبُهُ، إِلَّا أَنَّ تَسْوِيَةَ السَّمَاءِ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ يُظْهِرُ أَنَّهُ كَانَ بَعْدَ تَكْوِينِ الْأَرْضِ، وَيُظْهِرُ أَنَّ السَّمَاءَ كَانَتْ مَوْجُودَةً إِلَّا أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ سَبْعًا، وَلِذَلِكَ ذَكَرَ الِاسْتِوَاءَ إِلَيْهَا وَقَالَ:(فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ)(2: 29) فَنُؤْمِنُ بِأَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ لِحِكَمٍ يَعْلَمُهَا، وَقَدْ عَرَضَ عَلَيْنَا ذَلِكَ لِنَتَدَبَّرَ وَنَتَفَكَّرَ، فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَزْدَادَ عِلْمًا فَلْيَطْلُبْهُ مِنَ الْبَحْثِ فِي الْكَوْنِ (وَعَلَيْهِ بِدِرَاسَةِ مَا كَتَبَ الْبَاحِثُونَ فِيهِ مِنْ قَبْلُ، وَمَا اكْتَشَفَ الْمُكْتَشِفُونَ مِنْ شُئُونِهِ وَلْيَأْخُذْ مِنْ ذَلِكَ بِمَا قَامَ عَلَيْهِ الدَّلِيلُ الصَّحِيحُ لَا بِمَا يَتَخَرَّصُ بِهِ الْمُتَخَرِّصُونَ وَيَخْتَرِعُونَهُ مِنَ الْأَوْهَامِ وَالظُّنُونِ) وَحَسْبُهُ أَنَّ الْكِتَابَ أَرْشَدَهُ إِلَى ذَلِكَ وَأَبَاحَهُ لَهُ.
هَذِهِ الْإِبَاحَةُ لِلنَّظَرِ وَالْبَحْثِ فِي الْكَوْنِ، بَلْ هَذَا الْإِرْشَادُ إِلَيْهَا بِالصِّيَغِ الَّتِي تَبْعَثُ الْهِمَمَ وَتُشَوِّقُ النُّفُوسَ، كَكَوْنِ كُلِّ مَا فِي الْأَرْضِ مَخْلُوقًا لَنَا مَحْبُوسًا عَلَى مَنَافِعِنَا هُوَ مِمَّا امْتَازَ بِهِ الْإِسْلَامُ فِي تَرْقِيَةِ الْإِنْسَانِ، فَقَدْ خَاطَبَنَا الْقُرْآنُ بِهَذَا عَلَى حِينِ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ كَانُوا مُتَّفِقِينَ فِي تَقَالِيدِهِمْ وَسِيرَتِهِمُ الْعَمَلِيَّةِ عَلَى أَنَّ الْعَقْلَ وَالدِّينَ ضِدَّانِ
لَا يَجْتَمِعَانِ، وَالْعِلْمَ وَالدِّينَ خَصْمَانِ لَا يَتَّفِقَانِ، وَأَنَّ جَمِيعَ مَا يَسْتَنْتِجُهُ الْعَقْلُ خَارِجًا عَنْ نَصِّ الْكِتَابِ فَهُوَ بَاطِلٌ.
وَلِذَلِكَ جَاءَ الْقُرْآنُ يُلِحُّ أَشَدَّ الْإِلْحَاحِ بِالنَّظَرِ الْعَقْلِيِّ، وَالتَّفَكُّرِ وَالتَّدَبُّرِ وَالتَّذَكُّرِ، فَلَا تَقْرَأُ مِنْهُ قَلِيلًا إِلَّا وَتَرَاهُ يَعْرِضُ عَلَيْكَ الْأَكْوَانَ، وَيَأْمُرُكَ بِالنَّظَرِ فِيهَا وَاسْتِخْرَاجِ أَسْرَارِهَا، وَاسْتِجْلَاءِ حُكْمِ اتِّفَاقِهَا وَاخْتِلَافِهَا (قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) (10: 101) (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ)(29: 20)(أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا)(22: 46)(أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ)(88: 17) إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الْكَثِيرَةِ جِدًّا، وَإِكْثَارُ الْقُرْآنِ مِنْ شَيْءٍ دَلِيلٌ عَلَى تَعْظِيمِ شَأْنِهِ وَوُجُوبِ الِاهْتِمَامِ بِهِ، وَمِنْ فَوَائِدِ الْحَثِّ عَلَى النَّظَرِ فِي الْخَلِيقَةِ - لِلْوُقُوفِ عَلَى أَسْرَارِهَا بِقَدْرِ الطَّاقَةِ وَاسْتِخْرَاجِ عُلُومِهَا لِتَرْقِيَةِ النَّوْعِ الْإِنْسَانِيِّ الَّذِي خُلِقَتْ هِيَ لِأَجْلِهِ - مُقَاوَمَةُ تِلْكَ التَّقَالِيدِ
الْفَاسِدَةِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا أَهْلُ الْكِتَابِ فَأَوْدَتْ بِهِمْ وَحَرَمَتْهُمْ مِنَ الِانْتِفَاعِ بِمَا أَمَرَ اللهُ النَّاسَ أَنْ يَنْتَفِعُوا بِهِ.
كَانَتْ أُورُوبَّا الْمَسِيحِيَّةُ فِي غَمْرَةٍ مِنَ الْجَهْلِ وَظُلُمَاتٍ مِنَ الْفِتَنِ، تَسِيلُ الدِّمَاءُ فِيهَا أَنْهَارًا لِأَجْلِ الدِّينِ وَبِاسْمِ الدِّينِ وَلِلْإِكْرَاهِ عَلَى الدِّينِ، ثُمَّ فَاضَ طُوفَانُ تَعَصُّبِهَا عَلَى الْمَشْرِقِ، وَرَجَعَتْ بَعْدَ الْحُرُوبِ الصَّلِيبِيَّةِ تَحْمِلُ قَبَسًا مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ وَعُلُومِ أَهْلِهِ، فَظَهَرَ فِيهِمْ بَعْدَ ذَلِكَ قَوْمٌ قَالُوا: إِنَّ لَنَا الْحَقَّ فِي أَنْ نَتَفَكَّرَ وَأَنْ نَعْلَمَ وَأَنْ نَسْتَدِلَّ، فَحَارَبَهُمُ الدِّينُ وَرِجَالُهُ حَرْبًا عِوَانًا انْتَهَتْ بِظَفَرِ الْعِلْمِ وَرِجَالِهِ بِالدِّينِ وَرِجَالِهِ، وَبَعْدَ غَسْلِ الدِّمَاءِ الْمَسْفُوكَةِ قَامَ - مُنْذُ مِائَتَيْ سَنَةٍ إِلَى الْيَوْمِ - رِجَالٌ مِنْهُمْ يُسَمُّونَ هَذِهِ الْمَدَنِيَّةَ الْقَائِمَةَ عَلَى دَعَائِمِ الْعِلْمِ: الْمَدَنِيَّةَ الْمَسِيحِيَّةَ، وَيَقُولُونَ بِوُجُوبِ مَحْقِ سَائِرِ الْأَدْيَانِ وَمَحْوِهَا - بَعْدَ انْهِزَامِهَا - مِنْ أَمَامِ الدِّينِ الْمَسِيحِيِّ؛ لِأَنَّهَا لَا تَتَّفِقُ مَعَ الْعِلْمِ وَفِي مُقَدِّمَتِهَا الدِّينُ الْإِسْلَامِيُّ، وَحُجَّتُهُمْ عَلَى ذَلِكَ حَالُ الْمُسْلِمِينَ، نَعَمْ إِنَّ الْمُسْلِمِينَ أَمْسَوْا وَرَاءَ الْأُمَمِ كُلِّهَا فِي الْعِلْمِ حَتَّى سَقَطُوا فِي جَاهِلِيَّةٍ أَشَدُّ جَهْلًا مِنَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى، فَجَهِلُوا الْأَرْضَ الَّتِي هُمْ عَلَيْهَا، وَضَعُفُوا عَنِ اسْتِخْرَاجِ مَنَافِعِهَا، فَجَاءَ الْأَجْنَبِيُّ يَتَخَطَّفُهَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَهُمْ يَنْظُرُونَ، وَكِتَابُهُمْ قَائِمٌ عَلَى صِرَاطِهِ يَصِيحُ بِهِمْ:(هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا)(2: 29) (وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ
وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ) (45: 13)(قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينِ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)(7: 32) الْآيَاتِ. وَأَمْثَالُ ذَلِكَ. وَلَكِنَّهُمْ (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ)(2: 171) إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللهُ، وَلَوْ عَقَلُوا لَعَادُوا، وَلَوْ عَادُوا لَاسْتَفَادُوا وَبَلَغُوا مَا أَرَادُوا، وَهَا نَحْنُ أُولَاءِ نُذَكِّرُهُمْ بِكَلَامِ اللهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ، وَلَا نَيْأَسُ مِنْ رُوحِ اللهِ (إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رُوحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ) (12: 87) .
ثُمَّ خَتَمَ الْآيَةَ سبحانه وتعالى بِقَوْلِهِ: (وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)(2: 29) أَيْ فَهُوَ الْمُحِيطُ بِكَيْفِيَّةِ التَّكْوِينِ وَحِكْمَتِهِ وَبِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ بَيَانُهُ، وَإِذَا كَانَ الْعَاقِلُ يُدْرِكُ أَنَّ هَذَا النِّظَامَ الْمُحْكَمَ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنْ عَلِيمٍ حَكِيمٍ، فَكَيْفَ يَصِحُّ لَهُ أَنْ يُنْكِرَ عَلَيْهِ أَنْ يُرْسِلَ مَنْ يَشَاءُ مِنْ خَلْقِهِ لِهِدَايَةِ مَنْ شَاءَ مِنْ عِبَادِهِ؟ فَهَذَا الْآخِرُ يَتَّصِلُ بِأَوَّلِ الْآيَةِ فِي تَقْرِيرِ رِسَالَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَإِبْطَالِ شُبَهِ الَّذِينَ أَنْكَرُوا أَنْ يَكُونَ الْبَشَرُ رَسُولًا، وَالَّذِينَ أَنْكَرُوا أَنْ يَكُونَ مِنَ الْعَرَبِ رَسُولٌ؛ لِأَنَّ قُصَارَى ذَلِكَ كُلِّهِ اعْتِرَاضُ الْجَاهِلِينَ عَلَى مَنْ هُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ.
(وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ)
(تَمْهِيدٌ لِلْقِصَّةِ وَمَذْهَبُ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ فِي الْمُتَشَابِهَاتِ)
إِنَّ أَمْرَ الْخِلْقَةِ وَكَيْفِيَّةَ التَّكْوِينِ مِنَ الشُّئُونِ الْإِلَهِيَّةِ الَّتِي يَعِزُّ الْوُقُوفُ عَلَيْهَا كَمَا هِيَ، وَقَدْ قَصَّ اللهُ عَلَيْنَا فِي هَذِهِ الْآيَاتِ خَبَرَ النَّشْأَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ عَلَى نَحْوِ مَا يُؤْثَرُ عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ قَبْلِنَا، وَمَثَّلَ لَنَا الْمَعَانِيَ فِي صُوَرٍ مَحْسُوسَةٍ، وَأَبْرَزَ لَنَا الْحِكَمَ وَالْأَسْرَارَ بِأُسْلُوبِ الْمُنَاظَرَةِ وَالْحِوَارِ كَمَا هِيَ سُنَّتُهُ فِي مُخَاطَبَةِ الْخَلْقِ وَبَيَانِ الْحَقِّ، وَقَدْ ذَهَبَ الْأُسْتَاذُ إِلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ مِنَ الْمُتَشَابِهَاتِ الَّتِي لَا يُمْكِنُ حَمْلُهَا عَلَى ظَاهِرِهَا؛ لِأَنَّهَا بِحَسَبِ قَانُونِ التَّخَاطُبِ: إِمَّا اسْتِشَارَةٌ وَذَلِكَ مُحَالٌ عَلَى اللهِ - تَعَالَى، وَإِمَّا إِخْبَارٌ مِنْهُ سُبْحَانَهُ لِلْمَلَائِكَةِ وَاعْتِرَاضٌ مِنْهُمْ وَمُحَاجَّةٌ وَجِدَالٌ وَذَلِكَ لَا يَلِيقُ بِاللهِ - تَعَالَى -
أَيْضًا وَلَا بِمَلَائِكَتِهِ، وَلَا يُجَامِعُ مَا جَاءَ بِهِ الدِّينُ مِنْ وَصْفِ الْمَلَائِكَةِ كَكَوْنِهِمْ (لَا يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) (66: 6) وَقَدْ أَوْرَدَ الْأُسْتَاذُ مُقَدِّمَةً تَمْهِيدِيَّةً لِفَهْمِ الْقِصَّةِ فَقَالَ مَا مِثَالُهُ:
أَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ الْإِسْلَامِيَّةُ عَلَى أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - مُنَزَّهٌ عَنْ مُشَابَهَةِ الْمَخْلُوقَاتِ وَقَدْ قَامَ الْبُرْهَانُ الْعَقْلِيُّ وَالْبُرْهَانُ النَّقْلِيُّ عَلَى هَذِهِ الْعَقِيدَةِ، فَكَانَتْ هِيَ الْأَصْلَ الْمُحْكَمَ فِي الِاعْتِقَادِ الَّذِي يَجِبُ أَنْ يَرُدَّ إِلَيْهِ غَيْرَهُ وَهُوَ التَّنْزِيهُ، فَإِذَا جَاءَ فِي نُصُوصِ الْكِتَابِ أَوِ السَّنَةِ شَيْءٌ يُنَافِي ظَاهِرُهُ التَّنْزِيهَ فَلِلْمُسْلِمِينَ فِيهِ طَرِيقَتَانِ:
(إِحْدَاهُمَا) طَرِيقَةُ السَّلَفِ وَهِيَ التَّنْزِيهُ الَّذِي أَيَّدَ الْعَقْلُ فِيهِ النَّقْلَ كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)(43: 11) وَقَوْلِهِ عز وجل: (سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ)(37: 180) وَتَفْوِيضُ الْأَمْرِ إِلَى اللهِ - تَعَالَى - فِي فَهْمِ حَقِيقَةِ ذَلِكَ، مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ اللهَ يُعْلِمُنَا بِمَضْمُونِ كَلَامِهِ مَا نَسْتَفِيدُ بِهِ فِي أَخْلَاقِنَا وَأَعْمَالِنَا وَأَحْوَالِنَا، وَيَأْتِينَا فِي ذَلِكَ بِمَا يُقَرِّبُ الْمَعَانِيَ مِنْ عُقُولِنَا وَيُصَوِّرُهَا لِمُخَيِّلَاتِنَا.
(وَالثَّانِيَةُ) طَرِيقَةُ الْخَلْقِ وَهِيَ التَّأْوِيلُ، يَقُولُونَ: إِنَّ قَوَاعِدَ الدِّينِ الْإِسْلَامِيِّ وُضِعَتْ عَلَى أَسَاسِ الْعَقْلِ، فَلَا يَخْرُجُ شَيْءٌ مِنْهَا عَنِ الْمَعْقُولِ، فَإِذَا جَزَمَ الْعَقْلُ بِشَيْءٍ وَوَرَدَ فِي النَّقْلِ
خِلَافُهُ يَكُونُ الْحُكْمُ الْعَقْلِيُّ الْقَاطِعُ قَرِينَةً عَلَى أَنَّ النَّقْلَ لَا يُرَادُ بِهِ ظَاهِرُهُ وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ مَعْنًى مُوَافِقٍ يُحْمَلُ عَلَيْهِ فَيَنْبَغِي طَلَبُهُ بِالتَّأْوِيلِ. (قَالَ الْأُسْتَاذُ) : وَأَنَا عَلَى طَرِيقَةِ السَّلَفِ فِي وُجُوبِ التَّسْلِيمِ وَالتَّفْوِيضِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِاللهِ - تَعَالَى - وَصِفَاتِهِ وَعَالَمِ الْغَيْبِ، وَأَنَّنَا نَسِيرُ فِي فَهْمِ الْآيَاتِ عَلَى كِلَا الطَّرِيقَتَيْنِ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ لِلْكَلَامِ مِنْ فَائِدَةٍ يُحْمَلُ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ اللهَ عز وجل لَمْ يُخَاطِبْنَا بِمَا لَا نَسْتَفِيدُ مِنْهُ مَعْنًى.
(وَأَقُولُ) أَنَا مُؤَلِّفُ هَذَا التَّفْسِيرِ: إِنَّنِي وَلِلَّهِ الْحَمْدُ عَلَى طَرِيقَةِ السَّلَفِ وَهَدْيِهِمْ.
عَلَيْهَا أَحْيَا وَعَلَيْهَا أَمُوتُ إِنْ شَاءَ اللهُ - تَعَالَى، وَإِنَّمَا أَذْكُرُ مِنْ كَلَامِ شَيْخِنَا، وَمِنْ كَلَامِ غَيْرِهِ، وَمِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي بَعْضَ التَّأْوِيلَاتِ لِمَا ثَبَتَ عِنْدِي بِاخْتِبَارِي النَّاسَ أَنَّ مَا انْتَشَرَ فِي الْأُمَّةِ مِنْ نَظَرِيَّاتِ الْفَلَاسِفَةِ وَمَذَاهِبِ الْمُبْتَدِعَةِ الْمُتَقَدِّمِينَ وَالْمُتَأَخِّرِينَ، جَعَلَ قَبُولَ مَذْهَبِ السَّلَفِ وَاعْتِقَادَهُ يَتَوَقَّفُ فِي الْغَالِبِ عَلَى تَلَقِّيهِ مِنَ الصِّغَرِ بِالْبَيَانِ الصَّحِيحِ
وَتَخْطِئَةِ مَا يُخَالِفُهُ، أَوْ طُولِ مُمَارِسَةِ الرَّدِّ عَلَيْهِمْ، وَلَا نَعْرِفُ فِي كُتُبِ عُلَمَاءِ السُّنَّةِ أَنْفَعَ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ النَّقْلِ وَالْعَقْلِ مِنْ كُتُبِ شَيْخَيِ الْإِسْلَامِ ابْنِ تَيْمِيَةَ وَابْنِ الْقَيِّمِ - رَحِمَهُمَا اللهُ - تَعَالَى -، وَإِنَّنِي أَقُولُ عَنْ نَفْسِي: إِنَّنِي لَمْ يَطْمَئِنُّ قَلْبِي بِمَذْهَبِ السَّلَفِ تَفْصِيلًا إِلَّا بِمُمَارَسَةِ هَذِهِ الْكُتُبِ.
فَنَحْنُ قَدْ سَمِعْنَا بِآذَانِنَا شُبْهَاتٍ عَلَى بَعْضِ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ لَمْ يَسْهُلْ عَلَيْنَا دَفْعُهَا وَإِقْنَاعُ أَصْحَابِهَا بِصِدْقِ كَلَامِ اللهِ وَكَلَامِ رَسُولِهِ إِلَّا بِضَرْبٍ مِنَ التَّأْوِيلِ، وَأَمْثَالٍ تُقَرِّبُهَا مِنْ عُقُولِهِمْ وَمَعْلُومَاتِهِمْ أَحْسَنَ التَّقْرِيبِ، وَقَدْ غَلِطَ كَثِيرٌ مِنْ عُلَمَاءِ الْكَلَامِ وَالْمُفَسِّرِينَ فِي بَيَانِ مَذْهَبِ السَّلَفِ وَفِي مَعَانِي التَّفْوِيضِ وَالتَّأْوِيلِ، وَتَجِدُ تَفْصِيلَ ذَلِكَ لَنَا فِي أَوَائِلِ تَفْسِيرِ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ، كَمَا أَخْطَأَ مَنْ قَالُوا: إِنَّ الدَّلِيلَ الْعَقْلِيَّ هُوَ الْأَصْلُ فَيُرَدُّ إِلَيْهِ الدَّلِيلُ السَّمْعِيُّ وَيَجِبُ تَأْوِيلُهُ لِأَجْلِ مُوَافَقَتِهِ مُطْلَقًا، وَالْحَقُّ كَمَا قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَةَ: إِنَّ كُلًّا مِنَ الدَّلِيلَيْنِ إِمَّا قَطْعِيٌّ وَإِمَّا غَيْرُ قَطْعِيٍّ، فَالْقَطْعِيَّانِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَتَعَارَضَا حَتَّى نُرَجِّحَ أَحَدَهُمَا عَلَى الْآخَرِ، وَإِذَا تَعَارَضَ ظَنِّيٌّ مِنْ كُلٍّ مِنْهُمَا مَعَ قَطْعِيٍّ وَجَبَ تَرْجِيحُ الْقَطْعِيِّ مُطْلَقًا، وَإِذَا تَعَارَضَ ظَنِّيٌّ مَعَ ظَنِّيٍّ مِنْ كُلٍّ مِنْهَا رَجَّحْنَا الْمَنْقُولَ عَلَى الْمَعْقُولِ؛ لِأَنَّ مَا نُدْرِكُهُ بِغَلَبَةِ الظَّنِّ مِنْ كَلَامِ اللهِ وَرَسُولِهِ أَوْلَى بِالِاتِّبَاعِ مِمَّا نُدْرِكُهُ بِغَلَبَةِ الظَّنِّ مِنْ نَظَرِيَّاتِنَا الْعَقْلِيَّةِ الَّتِي يَكْثُرُ فِيهَا الْخَطَأُ جِدًّا؛ فَظَوَاهِرُ الْآيَاتِ فِي خَلْقِ آدَمَ مَثَلًا مُقَدَّمٌ فِي الِاعْتِقَادِ عَلَى النَّظَرِيَّاتِ الْمُخَالِفَةِ لَهَا مِنْ أَقْوَالِ الْبَاحِثِينَ فِي أَسْرَارِ الْخَلْقِ وَتَعْلِيلِ أَطْوَارِهِ وَنِظَامِهِ مَا دَامَتْ ظَنِّيَّةً لَمْ تَبْلُغْ دَرَجَةَ الْقَطْعِ.
وَيَنْبَغِي أَنْ تَعْلَمَ أَيُّهَا الْقَارِئُ الْمُؤْمِنُ: أَنَّ مِنَ الْخَيْرِ لَكَ أَنْ تَطْمَئِنَّ قَلْبًا بِمَذْهَبِ السَّلَفِ وَلَا تَحْفِلَ بِغَيْرِهِ، فَإِنْ لَمْ يَطْمَئِنَّ قَلْبُكَ إِلَّا بِتَأْوِيلٍ يَرْضَاهُ أُسْلُوبُ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ فَلَا حَرَجَ عَلَيْكَ، فَإِنَّ اللهَ لَا يُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا، وَأَئِمَّةُ عُلَمَاءِ السَّلَفِ قَدْ تَأَوَّلُوا بُعْدَ الظَّوَاهِرِ كَمَا فَعَلَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ فِي آيَاتِ الْمَعِيَّةِ، وَآخَرُونَ فِي غَيْرِهَا، وَالَّذِي عَلَيْكَ - قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ - أَنْ تُوقِنَ
بِأَنَّ كَلَامَ اللهِ كُلَّهُ حَقٌّ، وَأَلَّا تُؤَوِّلَ شَيْئًا مِنْهُ بِسُوءِ الْقَصْدِ، وَكَذَا مَا صَحَّ عَنْ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَمْرِ الدِّينِ بِغَيْرِ شُبْهَةٍ. وَالتَّفْسِيرُ الْمُوَافِقُ لِلُغَةِ الْعَرَبِ لَا يُسَمَّى تَأْوِيلًا وَإِنَّمَا يَجِبُ مَعَهُ تَنْزِيهُ الْخَالِقِ وَعَدَمُ تَشْبِيهِ عَالَمِ الْغَيْبِ بِعَالَمِ الشَّهَادَةِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ.
إِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَهَاكَ تَفْسِيرُ هَذَا السِّيَاقِ بِمَا قَرَّرَهُ شَيْخُنَا فِي الْأَزْهَرِ قَالَ مَا مِثَالُهُ:
أَمَّا الْمَلَائِكَةُ فَيَقُولُ السَّلَفُ فِيهِمْ: إِنَّهُمْ خَلْقٌ أَخْبَرَنَا اللهُ - تَعَالَى - بِوُجُودِهِمْ وَبِبَعْضِ عَمَلِهِمْ فَيَجِبُ عَلَيْنَا الْإِيمَانُ بِهِمْ، وَلَا يَتَوَقَّفُ ذَلِكَ عَلَى مَعْرِفَةِ حَقِيقَتِهِمْ فَنُفَوِّضُ عِلْمَهَا إِلَى اللهِ - تَعَالَى -، فَإِذَا وَرَدَ أَنَّ لَهُمْ أَجْنِحَةً نُؤْمِنُ بِذَلِكَ، وَلَكِنَّنَا نَقُولُ: إِنَّهَا لَيْسَتْ أَجْنِحَةً مِنَ الرِّيشِ وَنَحْوِهِ كَأَجْنِحَةِ الطُّيُورِ؛ إِذْ لَوْ كَانَتْ كَذَلِكَ لَرَأَيْنَاهَا، وَإِذَا وَرَدَ أَنَّهُمْ مُوَكَّلُونَ بِالْعَوَالِمِ الْجُسْمَانِيَّةِ كَالنَّبَاتِ وَالْبِحَارِ فَإِنَّنَا نَسْتَدِلُّ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ فِي الْكَوْنِ عَالَمًا آخَرَ أَلْطَفَ مِنْ هَذَا الْعَالَمِ الْمَحْسُوسِ، وَأَنَّ لَهُ عَلَاقَةً بِنِظَامِهِ وَأَحْكَامِهِ، وَالْعَقْلُ لَا يَحْكُمُ بِاسْتِحَالَةِ هَذَا بَلْ يَحْكُمُ بِإِمْكَانِهِ لِذَاتِهِ، وَيَحْكُمُ بِصِدْقِ الْوَحْيِ الَّذِي أَخْبَرَ بِهِ.
(قَالَ الْأُسْتَاذُ) : وَقَدْ بَحَثَ أُنَاسٌ فِي جَوْهَرِ الْمَلَائِكَةِ وَحَاوَلُوا مَعْرِفَتَهُمْ وَلَكِنْ مَنْ وَقَفَهُمُ اللهُ - تَعَالَى - عَلَى هَذَا السِّرِّ قَلِيلُونَ. وَالدِّينُ إِنَّمَا شُرِعَ لِلنَّاسِ كَافَّةً، فَكَانَ الصَّوَابُ الِاكْتِفَاءَ بِالْإِيمَانِ بِعَالَمِ الْغَيْبِ مِنْ غَيْرِ بَحْثٍ عَنْ حَقِيقَتِهِ؛ لِأَنَّ تَكْلِيفَ النَّاسِ هَذَا الْبَحْثَ أَوِ الْعِلْمَ يَكَادُ يَكُونُ مِنْ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ، وَمَنْ خَصَّهُ اللهُ - تَعَالَى - بِزِيَادَةٍ فِي الْعِلْمِ فَذَلِكَ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ، فَقَدْ وَرَدَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٍّ - كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ - فِي هَذَا الْعِلْمِ الْلَّدُنِّيِّ الْخَاصِّ وَقَدْ سُئِلَ:" هَلْ خَصَّكُمْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِشَيْءٍ مِنَ الْعِلْمِ؟ فَقَالَ: لَا وَالَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ وَبَرَأَ النَّسَمَةَ إِلَّا أَنْ يُؤْتِيَ اللهُ عَبْدًا فَهْمًا فِي الْقُرْآنِ. . . إِلَخْ. " وَأَمَّا ذَلِكَ الْحِوَارُ فِي الْآيَاتِ فَهُوَ شَأْنٌ مِنْ شُئُونِ اللهِ - تَعَالَى - مَعَ مَلَائِكَتِهِ، صَوَّرَهُ لَنَا فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ بِالْقَوْلِ وَالْمُرَاجَعَةِ وَالسُّؤَالِ وَالْجَوَابِ، وَنَحْنُ لَا نَعْرِفُ حَقِيقَةَ ذَلِكَ الْقَوْلِ وَلَكِنَّنَا نَعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ كَمَا يَكُونُ مِنَّا، وَأَنَّ هُنَاكَ مَعَانِيَ قُصِدَتْ إِفَادَتُهَا بِهَذِهِ الْعِبَارَاتِ، وَهِيَ عِبَارَةٌ عَنْ شَأْنٍ مِنْ شُئُونِهِ - تَعَالَى - قَبْلَ خَلْقِ آدَمَ وَأَنَّهُ كَانَ يُعِدُّ لَهُ الْكَوْنَ، وَشَأْنٌ مَعَ الْمَلَائِكَةِ يَتَعَلَّقُ بِخَلْقِ نَوْعِ الْإِنْسَانِ، وَشَأْنٌ آخَرُ فِي بَيَانِ كَرَامَةِ هَذَا النَّوْعِ وَفَضْلِهِ.
وَأَمَّا الْفَائِدَةُ فَمَا وَرَاءَ الْبَحْثِ فِي حَقِيقَةِ الْمَلَائِكَةِ وَكَيْفِيَّةِ الْخِطَابِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ اللهِ - تَعَالَى - فَهِيَ مِنْ وُجُوهٍ:
(أَحَدِهَا) أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - فِي عَظَمَتِهِ وَجَلَالِهِ يَرْضَى لِعَبِيدِهِ أَنْ يَسْأَلُوهُ عَنْ حِكْمَتِهِ فِي صُنْعِهِ، وَمَا يَخْفَى عَلَيْهِمْ مِنْ أَسْرَارٍ فِي خَلْقِهِ وَلَا سِيَّمَا عِنْدَ الْحَيْرَةِ،
وَالسُّؤَالُ يَكُونُ بِالْمَقَالِ وَيَكُونُ بِالْحَالِ وَالتَّوَجُّهِ إِلَى اللهِ - تَعَالَى - فِي اسْتِفَاضَةِ الْعِلْمِ بِالْمَطْلُوبِ مِنْ يَنَابِيعِهِ الَّتِي جَرَتْ سُنَنُهُ - تَعَالَى - بِأَنْ
يُفِيضَ مِنْهَا (كَالْبَحْثِ الْعَمَلِيِّ وَالِاسْتِدْلَالِ الْعَقْلِيِّ وَالْإِلْهَامِ الْإِلَهِيِّ) وَرُبَّمَا كَانَ لِلْمَلَائِكَةِ طَرِيقٌ آخَرُ لِاسْتِفَاضَةِ الْعِلْمِ غَيْرُ مَعْرُوفَةٍ لِأَحَدٍ مِنَ الْبَشَرِ فَيُمْكِنُنَا أَنْ نَحْمِلَ سُؤَالَ الْمَلَائِكَةِ عَلَى ذَلِكَ.
(ثَانِيهِمَا) إِذَا كَانَ مِنْ أَسْرَارِ اللهِ - تَعَالَى - وَحِكَمِهِ مَا يَخْفَى عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَنَحْنُ أَوْلَى بِأَنْ يَخْفَى عَلَيْنَا، فَلَا مَطْمَعَ لِلْإِنْسَانِ فِي مَعْرِفَةِ جَمِيعِ أَسْرَارِ الْخَلِيقَةِ وَحِكَمِهَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُؤْتَ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا.
(ثَالِثِهَا) أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - هَدَى الْمَلَائِكَةَ فِي حَيْرَتِهِمْ، وَأَجَابَهُمْ عَنْ سُؤَالِهِمْ لِإِقَامَةِ الدَّلِيلِ بَعْدَ الْإِرْشَادِ إِلَى الْخُضُوعِ وَالتَّسْلِيمِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ بَعْدَ أَنْ أَخْبَرَهُمْ بِأَنَّهُ يَعْلَمُ مَا لَا يَعْلَمُونَ عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ.
(رَابِعِهَا) تَسْلِيَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَنْ تَكْذِيبِ النَّاسِ، وَمُحَاجَّتِهِمْ فِي النُّبُوَّةِ بِغَيْرِ بُرْهَانٍ عَلَى إِنْكَارِ مَا أَنْكَرُوا وَبُطْلَانِ مَا جَحَدُوا، فَإِذَا كَانَ الْمَلَأُ الْأَعْلَى قَدْ مَثُلُوا عَلَى أَنَّهُمْ يَخْتَصِمُونَ وَيَطْلُبُونَ الْبَيَانَ وَالْبُرْهَانَ فِيمَا لَا يَعْلَمُونَ، فَأَجْدَرُ بِالنَّاسِ أَنْ يَكُونُوا مَعْذُورِينَ، وَبِالْأَنْبِيَاءِ أَنْ يُعَامِلُوهُمْ كَمَا عَامَلَ اللهُ الْمَلَائِكَةَ الْمُقَرَّبِينَ؛ أَيْ فَعَلَيْكَ أَيُّهَا الرَّسُولُ أَنْ تَصْبِرَ عَلَى هَؤُلَاءِ الْمُكَذِّبِينَ وَتُرْشِدَ الْمُسْتَرْشِدِينَ، وَتَأْتِيَ أَهْلَ الدَّعْوَةِ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ. وَهَذَا الْوَجْهُ هُوَ الَّذِي يُبَيِّنُ اتِّصَالَ هَذِهِ الْآيَاتِ بِمَا قَبْلَهَا، وَكَوْنَ الْكَلَامِ لَا يَزَالُ فِي مَوْضُوعِ الْكِتَابِ وَكَوْنَهُ لَا رَيْبَ فِيهِ، وَفِي الرَّسُولِ وَكَوْنَهُ يُبَلِّغُ وَحْيَ اللهِ - تَعَالَى - وَيَهْدِي بِهِ عِبَادَهُ، وَفِي اخْتِلَافِ النَّاسِ فِيهِمَا. وَمِنْ خَوَاصِّ الْقُرْآنِ الْحَكِيمِ الِانْتِقَالُ مِنْ مَسْأَلَةٍ إِلَى أُخْرَى مُبَايِنَةٍ لَهَا أَوْ قَرِيبَةٍ مِنْهَا مَعَ كَوْنِ الْجَمِيعِ فِي سِيَاقِ مَوْضُوعٍ وَاحِدٍ.
وَأَمَّا الْخَلَفُ: فَمِنْهُمْ مَنْ تَكَلَّمَ فِي حَقِيقَةِ الْمَلَائِكَةِ وَوَضَعَ لَهُمْ تَعْرِيفًا، وَمِنْهُمْ مَنْ أَمْسَكَ عَنْ ذَلِكَ، وَقَدِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُمْ يُدْرِكُونَ وَيَعْلَمُونَ، وَالْقِصَّةُ عَلَى مَذْهَبِهِمْ وَرَدَتْ مَوْرِدَ التَّمْثِيلِ لِتُقَرِّبَ مِنْ أَفْهَامِ الْخَلْقِ مَا تُفِيدُهُمْ مَعْرِفَتُهُ مِنْ حَالِ النَّشْأَةِ الْآدَمِيَّةِ، وَمَالَهَا مِنَ الْمَكَانَةِ وَالْخُصُوصِيَّةِ، أَخْبَرَ اللهُ الْمَلَائِكَةَ بِأَنَّهُ جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً، فَفَهِمُوا مِنْ ذَلِكَ أَنَّ اللهَ يُودِعُ فِي فِطْرَةِ هَذَا النَّوْعِ الَّذِي يَجْعَلُهُ خَلِيفَةً أَنْ يَكُونَ
ذَا إِرَادَةٍ مُطْلَقَةٍ وَاخْتِيَارٍ فِي عَمَلِهِ غَيْرَ مَحْدُودٍ، وَأَنَّ التَّرْجِيحَ بَيْنَ مَا يَتَعَارَضُ مِنَ الْأَعْمَالِ الَّتِي تَعِنُّ لَهُ تَكُونُ بِحَسْبِ عِلْمِهِ، وَأَنَّ الْعِلْمَ إِذَا لَمْ يَكُنْ مُحِيطًا بِوُجُوهِ الْمَصَالِحِ وَالْمَنَافِعِ فَقَدْ يُوَجِّهُ الْإِرَادَةَ إِلَى خِلَافِ الْمَصْلَحَةِ وَالْحِكْمَةِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَسَادُ، وَهُوَ مُتَعَيِّنٌ لَازِمُ الْوُقُوعِ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ الْمُحِيطَ لَا يَكُونُ إِلَّا لِلَّهِ - تَعَالَى -، فَعَجِبُوا كَيْفَ يَخْلُقُ اللهُ هَذَا النَّوْعَ مِنَ الْخَلْقِ وَسَأَلُوا اللهَ - تَعَالَى - بِلِسَانِ الْمَقَالِ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ، أَوْ بِلِسَانِ الْحَالِ وَالتَّوْجِيهِ إِلَيْهِ لِاسْتِفَاضَةِ الْمَعْرِفَةِ بِذَلِكَ وَطَلَبِ الْبَيَانِ وَالْحِكْمَةِ، وَعَبَّرَ اللهُ عَنْ ذَلِكَ بِالْقَوْلِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمَعْهُودُ بِالِاسْتِعْلَامِ وَالِاسْتِفْهَامِ عِنْدَ الْبَشَرِ الَّذِينَ أَنْزَلَ الْقُرْآنَ لِهِدَايَتِهِمْ، كَمَا نَسَبَ الْقَوْلَ إِلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فِي قَوْلِهِ:(قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ)(41: 11) .
فَأَوَّلُ مَا أُلْقِيَ إِلَيْهِمْ مِنَ الْإِلْهَامِ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ طُرُقِ الْإِعْلَامِ هُوَ وُجُوبُ الْخُضُوعِ وَالتَّسْلِيمِ لِمَنْ هُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ؛ لِأَنَّ مَا يَضِيقُ عَنْهُ عِلْمُ أَحَدٍ وَيَحَارُ فِي كَيْفِيَّتِهِ يَتَّسِعُ لَهُ عِلْمُ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْهُ، وَمِنْ شَأْنِ الْإِنْسَانِ أَنْ يُسَلِّمَ لِمَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ فَوْقَهُ فِي الْعِلْمِ مَا يَتَصَدَّى لَهُ مَهْمَا يَكُنْ بَعِيدَ الْوُقُوعِ فِي اعْتِقَادِهِ، وَمَثَّلَ الْأُسْتَاذُ لِذَلِكَ بِمَشَايِخِ الصُّوفِيَّةِ مَعَ مُرِيدِيهِمْ.
وَمِنْ ذَلِكَ اعْتِقَادُ جَمَاهِيرِ النَّاسِ فِي بِلَادِ الْحَضَارَةِ وَالصِّنَاعَاتِ فِي هَذَا الْعَصْرِ إِمْكَانَ أُمُورٍ وَأَعْمَالٍ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ يَتَصَوَّرُ إِمْكَانَهَا مِنْ قَبْلُ إِلَّا بَعْضُ كِبَارِ عُلَمَاءِ النَّظَرِ، فَإِذَا قِيلَ: إِنَّهُمْ يُحَاوِلُونَ عَمَلَ كَذَا فَإِنَّهُمْ يُصَدِّقُونَهُمْ وَإِنْ لَمْ يَعْقِلُوا كَيْفَ يَعْمَلُونَهُ.
فَإِنَّ الَّذِينَ يَصْنَعُونَ سِلْكًا لِنَقْلِ الْأَخْبَارِ بِالْكَهْرَبَاءِ إِلَى الْأَمَاكِنِ الْبَعِيدَةِ فِي دَقِيقَةٍ أَوْ دَقَائِقَ قَلِيلَةٍ يُصَدِّقُونَ بِأَنَّهُمْ يُوصِلُونَ تِلْكَ الْأَخْبَارَ مِنْ غَيْرِ سِلْكٍ - وَقَدْ كَانَ - وَيُصَدِّقُونَ بِإِمْكَانِ إِيجَادِ آلَةٍ تَجْمَعُ نَقْلَ الصَّوْتِ وَرُؤْيَةَ الْمُتَكَلِّمِ وَهُوَ مَا يُحَاوِلُونَ الْآنَ، وَإِذَا قَالَ لَنَا أَهْلُ هَذِهِ الصِّنَاعَةِ: إِنَّ ذَلِكَ مُمْكِنُ الْحُصُولِ صَدَّقْنَاهُمْ فِيمَا يَقُولُونَ مِنْ غَيْرِ تَرَدُّدٍ، وَلَيْسَ تَصْدِيقُنَا تَقْلِيدًا وَلَا تَسْلِيمًا أَعْمَى كَمَا يُقَالُ، بَلْ هُوَ تَصْدِيقٌ عَنْ دَلِيلٍ، رُكْنُهُ قِيَاسُ مَا يَكُونُ عَلَى مَا قَدْ كَانَ بَعْدَ الْعِلْمِ بِوَحْدَةِ الْوَسَائِلِ. وَالْمَلَائِكَةُ أَعْلَمُ مِنَّا بِشَأْنِ اللهِ فِي أَفْعَالِهِ وَأَنَّهُ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ، فَهُمْ وَإِنْ فَاجَأَهُمُ الْعَجَبُ مِنْ خَلْقِ الْخَلِيقَةِ، يَرُدُّهُمْ إِلَى الْيَقِينِ أَدْنَى التَّنْبِيهِ؛ وَلِذَلِكَ كَانَ قَوْلُهُ - تَعَالَى -:(إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ) جَوَابًا مُقْنِعًا أَيَّ إِقْنَاعٍ.
عَلَى أَنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنَ التَّسْلِيمِ لِلْعَالِمِ الْقَادِرِ رُبَّمَا لَا يَذْهَبُ بِالْحَيْرَةِ وَلَا يُزِيلُ الِاضْطِرَابَ مِنْ نَفْسِ الْمُتَعَجِّبِ، وَإِنَّمَا تَسْكُنُ النَّفْسُ بِبُرُوزِ ذَلِكَ الْأَمْرِ الَّذِي كَانَتْ تَعْجَبُ مَنْ بُرُوزِهِ إِلَى عَالَمِ الْوُجُودِ وَوُقُوفِهَا عَلَى أَسْرَارِهِ وَحِكَمِهِ بِالْفِعْلِ، وَلِذَلِكَ تَفَضَّلَ اللهُ - تَعَالَى - عَلَى الْمَلَائِكَةِ بِإِكْمَالِ عِلْمِهِمْ بِحِكْمَتِهِ فِي خَلْقِ هَذَا الْخَلِيفَةِ الْإِنْسَانِيِّ وَسِرِّهِ عِنْدَ طُلُوعِ فَجْرِهِ. فَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ - كَمَا سَيَأْتِي - فَعَلِمُوا أَنَّ فِي فِطْرَةِ هَذَا الْخَلِيفَةِ وَاسْتِعْدَادِهِ عِلْمُ مَا لَمْ يَعْلَمُوا، وَتَبَيَّنَ لَهُمْ وَجْهَ اسْتِحْقَاقِهِ لِمَقَامِ الْخِلَافَةِ فِي الْأَرْضِ، وَأَنَّ كُلَّ مَا يُتَوَقَّعُ مِنَ الْفَسَادِ وَسَفْكِ الدِّمَاءِ لَا يَذْهَبُ بِحِكْمَةِ الِاسْتِخْلَافِ وَفَائِدَتِهِ وَمَقَامِهِ، وَنَاهِيكَ بِمَقَامِ الْعِلْمِ وَفَائِدَتِهِ وَسِرِّ الْعَالَمِ وَحِكْمَتِهِ.
فَعَلِمْنَا أَنَّ السَّلَفَ وَالْخَلَفَ مُتَّفِقُونَ عَلَى تَنْزِيهِ اللهِ - تَعَالَى - عَمَّا لَا يَلِيقُ بِهِ مِنْ شُئُونِ الْمَخْلُوقِينَ، وَعِصْمَةِ مَلَائِكَتِهِ عَمَّا لَا يَلِيقُ بِهِمْ مِنَ الِاعْتِرَاضِ أَوِ الْإِنْكَارِ. فَلَا فَرْقَ فِي هَذِهِ النَّتِيجَةِ بَيْنَ تَفْوِيضٍ وَتَسْلِيمٍ، وَتَأْوِيلٍ وَتَفْهِيمٍ، وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ. وَهَاكَ تَفْسِيرُ الْآيَاتِ بِالتَّفْصِيلِ: قَدْ عَلِمْتَ مِمَّا تَقَدَّمَ أَنَّ الْآيَاتِ مُتَّصِلَةٌ بِمَا قَبْلَهَا مِنَ الْكَلَامِ فِي الْكِتَابِ وَمَنْ جَاءَ بِهِ وَمَنْ دَعَى إِلَيْهِ، فَهِيَ تُجَلِّي حَجَّةَ الرَّسُولِ وَدَعْوَتَهُ مِنْ حَيْثُ إِنَّ الْمَلَائِكَةَ إِذَا كَانُوا مُحْتَاجِينَ إِلَى الْعِلْمِ وَيَسْتَفِيدُونَهُ بِالتَّعَلُّمِ مِنَ اللهِ - تَعَالَى - بِالطَّرِيقَةِ الَّتِي تُنَاسِبُ حَالَهُمْ فَالْبَشَرُ أَوْلَى بِالْحَاجَةِ إِلَى ذَلِكَ مِنْهُمْ؛
لِأَنَّ طَبِيعَةَ الْبَشَرِ جُبِلَتْ عَلَى أَنْ يَكْتَسِبُوا كُلَّ شَيْءٍ اكْتِسَابًا، وَهِيَ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى تَسْلِيَةٌ لَهُ صلى الله عليه وسلم بِبَيَانٍ أَنَّ الْبَشَرَ أَوْلَى مِنَ الْمَلَائِكَةِ بِإِنْكَارِ مَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ حَتَّى يَعْلَمُوا، وَأَنَّهُمْ جُبِلُوا عَلَى أَنْ يَتُوبُوا وَيَرْجِعُوا بَعْدَ أَنْ يُخْطِئُوا وَيُذْنِبُوا، وَأَنَّ الْإِفْسَادَ فِي الْأَرْضِ وَجُحُودَ الْحَقِّ وَمُنَاصَبَةَ الدَّاعِي إِلَيْهِ لَيْسَ بِدْعًا مِنْ قَوْمِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ جِبِلَّةُ أَهْلِ الْفِكْرِ وَطَبِيعَةُ الْبَشَرِ.
ثُمَّ إِنَّ لِلْمُفَسِّرِينَ فِي (الْخَلِيفَةِ) مَذْهَبَيْنِ: ذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ يُشْعِرُ بِأَنَّهُ كَانَ فِي الْأَرْضِ صِنْفٌ أَوْ أَكْثَرُ مِنْ نَوْعِ الْحَيَوَانِ النَّاطِقِ وَأَنَّهُ انْقَرَضَ، وَأَنَّ هَذَا الصِّنْفَ الَّذِي أَخْبَرَ اللهُ الْمَلَائِكَةَ بِأَنْ سَيَجْعَلَهُ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ سَيَحُلُّ مَحَلَّهُ وَيَخْلُفُهُ، كَمَا قَالَ - تَعَالَى - بَعْدَ ذِكْرِ إِهْلَاكِ الْقُرُونِ: (ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ
مِنْ بَعْدِهِمْ) (10: 14) وَقَالُوا: إِنَّ ذَلِكَ الصِّنْفَ الْبَائِدَ قَدْ أَفْسَدَ فِي الْأَرْضِ وَسَفَكَ الدِّمَاءَ، وَأَنَّ الْمَلَائِكَةَ اسْتَنْبَطُوا سُؤَالَهُمْ بِالْقِيَاسِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْخَلِيفَةَ لَا بُدَّ أَنْ يُنَاسِبَ مَنْ يَخْلُفُهُ وَيَكُونَ مِنْ قَبِيلِهِ كَمَا يَتَبَادَرُ إِلَى الْفَهْمِ، وَلَكِنْ لَمَّا لَمْ يَكُنْ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَكُونُ مِثْلَهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ مُقْتَضَى الْخِلَافَةِ، أَجَابَ اللهُ الْمَلَائِكَةَ بِأَنَّهُ يَعْلَمُ مَا لَا يَعْلَمُونَ مِمَّا يَمْتَازُ بِهِ هَذَا الْخَلِيفَةُ عَلَى مَنْ قَبْلَهُ، وَمَالَهُ سُبْحَانَهُ فِي ذَلِكَ مِنَ الْحِكْمَةِ الْبَالِغَةِ.
(قَالَ الْأُسْتَاذُ) : وَإِذَا صَحَّ هَذَا الْقَوْلُ فَلَيْسَ آدَمُ أَوَّلَ الصِّنْفِ الْعَاقِلِ مِنَ الْحَيَوَانِ عَلَى هَذِهِ الْأَرْضِ، وَإِنَّمَا كَانَ أَوَّلَ طَائِفَةٍ جَدِيدَةٍ مِنَ الْحَيَوَانِ النَّاطِقِ تُمَاثِلُ الطَّائِفَةَ أَوِ الطَّوَائِفِ الْبَائِدَةِ مِنْهُ فِي الذَّاتِ وَالْمَادَّةِ، وَتُخَالِفُهَا فِي بَعْضِ الْأَخْلَاقِ وَالسَّجَايَا.
هَذَا أَحْسَنُ مَا يُجْلَى فِيهِ هَذَا الْمَذْهَبُ، وَأَكْثَرُ مَا قَالُوهُ فِيهِ قَدْ سَرَى إِلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَسَاطِيرِ الْفُرْسِ وَخُرَافَاتِهِمْ، وَمِنْهُ أَنَّهُ كَانَ فِي الْأَرْضِ قَبْلَ آدَمَ خَلْقٌ يُسَمَّوْنَ بَالْحِنِّ وَالْبِنِّ، أَوِ الطِّمِّ وَالرِّمِّ، وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّ الْخَلْقَ الَّذِينَ كَانُوا فِي الْأَرْضِ قَبْلَ آدَمَ مُبَاشَرَةً كَانُوا يُسَمُّونَ الْجِنَّ، وَالْقَائِلُونَ مِنْهُمْ بَالْحِنِ (بِالْمُهْمَلَةِ) وَالْبِنِّ قَالُوا: إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ الْجِنِّ، وَقَالُوا: إِنَّ هَؤُلَاءِ عَاثُوا فِي الْأَرْضِ فَسَادًا، فَأَبَادَهُمُ اللهُ (كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا) وَقَالُوا: إِنَّ اللهَ - تَعَالَى - أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ إِبْلِيسَ فِي جُنْدٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ فَحَارَبَ الْجِنَّ فَدَحَرَهُمْ وَفَرَّقَهُمْ فِي الْجَزَائِرِ وَالْبِحَارِ. وَلَيْسَ لَهُمْ فِي الْإِسْلَامِ سَنَدٌ يُحْتَجُّ بِهِ عَلَى هَذِهِ الْقِصَصِ، وَلَكِنْ تَقَالِيدُ الْأُمَمِ الْمَوْرُوثَةُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ تُنْبِئُ بِأَمْرٍ ذِي بَالٍ، وَهِيَ مُتَّفِقَةٌ فِيهِ بِالْإِجْمَالِ، أَلَا وَهُوَ مَا قُلْنَاهُ مِنْ أَنَّ آدَمَ لَيْسَ أَوَّلَ الْأَحْيَاءِ الْعَاقِلَةِ الَّتِي سَكَنَتِ الْأَرْضَ.
هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ فِي تَفْسِيرِ الْخَلِيفَةِ، وَذَهَبَ الْآخَرُونَ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ: إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً عَنِّي؛ وَلِهَذَا شَاعَ أَنَّ الْإِنْسَانَ خَلِيفَةُ اللهِ فِي أَرْضِهِ. وَقَالَ - تَعَالَى -: (يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ)(38: 26) وَالظَّاهِرُ - وَاللهُ أَعْلَمُ - أَنَّ الْمُرَادَ بِالْخَلِيفَةِ آدَمُ وَمَجْمُوعُ ذُرِّيَّتِهِ، وَلَكِنْ مَا مَعْنَى هَذِهِ الْخِلَافَةِ، وَمَا الْمُرَادُ مِنْ هَذَا الِاسْتِخْلَافِ، هَلْ هُوَ اسْتِخْلَافُ بَعْضِ الْإِنْسَانِ عَلَى بَعْضٍ، أَمِ اسْتِخْلَافُ الْبَعْضِ عَلَى غَيْرِهِ؟ .
جَرَتْ سُنَّةُ اللهِ فِي خَلْقِهِ بِأَنْ تُعَلَّمَ أَحْكَامُهُ لِلنَّاسِ وَتُنَفَّذَ فِيهِمْ عَلَى أَلْسِنَةِ أُنَاسٍ مِنْهُمْ يَصْطَفِيهِمْ لِيَكُونُوا خُلَفَاءَ عَنْهُ فِي ذَلِكَ، وَكَمَا أَنَّ الْإِنْسَانَ أَظْهَرَ أَحْكَامَ اللهِ وَسُنَنَهُ
الْوَضْعِيَّةَ (أَيِ الشَّرْعِيَّةِ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ وَضْعٌ إِلَهِيٌّ) كَذَلِكَ أَظْهَرَ حِكَمَهُ وَسُنَنَهُ الْخَلْقِيَّةَ الطَّبِيعِيَّةَ، فَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى الْخِلَافَةِ عَامًّا فِي كُلِّ مَا مَيَّزَ اللهُ بِهِ الْإِنْسَانَ عَلَى سَائِرِ الْمَخْلُوقَاتِ، نَطَقَ الْوَحْيُ وَدَلَّ الْعِيَانُ وَالِاخْتِيَارُ عَلَى أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - خَلَقَ الْعَالَمَ أَنْوَاعًا مُخْتَلِفَةً، وَخَصَّ كُلَّ نَوْعٍ غَيْرَ نَوْعِ الْإِنْسَانِ بِشَيْءٍ مَحْدُودٍ مُعَيَّنٍ لَا يَتَعَدَّاهُ. فَأَمَّا مَا لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ طَرِيقِ الْوَحْيِ كَالْمَلَائِكَةِ فَقَدْ وَرَدَ فِيهَا مِنَ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ وَظَائِفَهُ مَحْدُودَةٌ. قَالَ - تَعَالَى -:(يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ)(21: 20)(وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ)(37: 165، 166)(وَالصَّافَّاتِ صَفًّا فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا)(37: 1، 2)(وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا وَالسَّابِحَاتِ سَبْحَا فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا)(79: 1 - 5) عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِهَا الْمَلَائِكَةُ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ طَوَائِفُ لِكُلِّ طَائِفَةٍ وَظِيفَةٌ مَحْدُودَةٌ، وَوَرَدَ فِي الْأَحَادِيثِ: أَنَّ مِنْهُمُ السَّاجِدَ دَائِمًا، وَالرَّاكِعَ دَائِمًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
وَأَمَّا مَا نَعْرِفُهُ بِالنَّظَرِ وَالِاخْتِبَارِ فَهُوَ حَالُ الْمَعْدِنِ وَالْجَمَادِ وَلَا عِلْمَ لَهُ وَلَا عَمَلَ. وَحَالُ النَّبَاتِ وَإِنَّمَا تَأْثِيرُ حَيَاتِهِ فِي نَفْسِهِ، فَلَوْ فُرِضَ أَنَّ لَهُ عِلْمًا وَإِرَادَةً فَهُمَا لَا أَثَرَ لَهُمَا فِي جَعْلِ عَمَلِ النَّبَاتِ مُبَيِّنًا لِحُكْمِ اللهِ وَسُنَنِهِ فِي الْخَلْقِ، وَلَا وَسِيلَةَ لِبَيَانِ أَحْكَامِهِ وَتَنْفِيذِهَا، فَكُلُّ حَيٍّ مِنَ الْأَحْيَاءِ الْمَحْسُوسَةِ وَالْغَيْبِيَّةِ فَإِنَّ لَهُ اسْتِعْدَادًا مَحْدُودًا، وَعِلْمًا إِلْهَامِيًّا مَحْدُودًا، وَعَمَلًا مَحْدُودًا، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ خَلِيفَةً عَنِ الَّذِي لَا حَدَّ لِعِلْمِهِ وَإِرَادَتِهِ، وَلَا حَصْرَ لِأَحْكَامِهِ وَسُنَنِهِ، وَلَا نِهَايَةَ لِأَعْمَالِهِ وَتَصَرُّفِهِ.
وَأَمَّا الْإِنْسَانُ فَقَدْ خَلَقَهُ اللهُ ضَعِيفًا. كَمَا قَالَ فِي كِتَابِهِ: (وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا)(4: 28) وَخَلَقَهُ جَاهِلًا كَمَا قَالَ - تَعَالَى -: (وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا)(16: 78) وَلَكِنَّهُ عَلَى ضَعْفِهِ وَجَهْلِهِ عِبْرَةٌ لِمَنْ يَعْتَبِرُ، وَمَوْضِعٌ لِعَجَبِ الْمُتَعَجِّبِ؛ لِأَنَّهُ مَعَ ضَعْفِهِ يَتَصَرَّفُ فِي الْأَقْوِيَاءِ، وَمَعَ جَهْلِهِ فِي نَشْأَتِهِ يَعْلَمُ جَمِيعَ الْأَسْمَاءِ، يُولَدُ الْحَيَوَانُ عَالِمًا بِالْإِلْهَامِ مَا يَنْفَعُهُ وَمَا يَضُرُّهُ، وَتَكْمُلُ لَهُ قُوَاهُ فِي زَمَنٍ قَلِيلٍ، وَيُولَدُ الْإِنْسَانُ وَلَيْسَ لَهُ مِنَ الْإِلْهَامِ إِلَّا الصُّرَاخُ بِالْبُكَاءِ، ثُمَّ يَحِسُّ وَيَشْعُرُ بِالتَّدْرِيجِ الْبَطِيءِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى غَيْرِهِ مِنَ الْحَيَوَانِ، وَيُعْطَى قُوَّةً أُخْرَى تَتَصَرَّفُ بِشُعُورِهِ وَإِحْسَاسِهِ تَصَرُّفًا يَكُونُ لَهُ بِهِ السُّلْطَانُ عَلَى هَذِهِ الْكَائِنَاتِ، فَيُسَخِّرُهَا وَيُذَلِّلُهَا بَعْدَ ذَلِكَ كَمَا تَشَاءُ تِلْكَ الْقُوَّةُ الْغَرِيبَةُ وَهِيَ الَّتِي يُسَمُّونَهَا
الْعَقْلَ، وَلَا يَعْقِلُونَ سِرَّهَا، وَلَا يُدْرِكُونَ حَقِيقَتَهَا وَكُنْهَهَا، فَهِيَ الَّتِي تُغْنِي الْإِنْسَانَ عَنْ كُلِّ مَا وُهِبَ لِلْحَيَوَانِ فِي أَصْلِ الْفِطْرَةِ مِنَ الْكِسَاءِ الَّذِي يَقِيهِ الْبَرْدَ وَالْحَرَّ، وَالْأَعْضَاءِ الَّتِي يَتَنَاوَلُ بِهَا غِذَاءَهُ وَالَّتِي يُدَافِعُ بِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَيَسْطُو عَلَى عَدُوِّهِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَوَاهِبِ الَّتِي يُعْطَاهَا الْحَيَوَانُ بِلَا كَسْبٍ، حَتَّى
كَانَ لَهُ بِهَا مِنَ الِاخْتِرَاعَاتِ الْعَجِيبَةِ مَا كَانَ، وَسَيَكُونُ لَهُ مِنْ ذَلِكَ مَا لَا يَصِلُ إِلَيْهِ التَّقْدِيرُ وَالْحُسْبَانُ.
فَالْإِنْسَانُ بِهَذِهِ الْقُوَّةِ غَيْرُ مَحْدُودِ الِاسْتِعْدَادِ وَلَا مَحْدُودِ الرَّغَائِبِ وَلَا مَحْدُودِ الْعِلْمِ وَلَا مَحْدُودِ الْعَمَلِ، فَهُوَ عَلَى ضَعْفِ أَفْرَادِهِ يَتَصَرَّفُ بِمَجْمُوعِهِ فِي الْكَوْنِ تَصَرُّفًا لَا حَدَّ لَهُ بِإِذْنِ اللهِ وَتَصْرِيفِهِ، وَكَمَا أَعْطَاهُ اللهُ - تَعَالَى - هَذِهِ الْمَوَاهِبَ وَالْأَحْكَامَ الطَّبِيعِيَّةَ لِيُظْهِرَ بِهَا أَسْرَارَ خَلِيقَتِهِ، وَمَلَّكَهُ الْأَرْضَ وَسَخَّرَ لَهُ عَوَالِمَهَا، أَعْطَاهُ أَحْكَامًا وَشَرَائِعَ، حَدَّ فِيهَا لِأَعْمَالِهِ وَأَخْلَاقِهِ حَدًّا يَحُولُ دُونَ بَغْيِ أَفْرَادِهِ وَطَوَائِفِهِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ، فَهِيَ تُسَاعِدُهُ عَلَى بُلُوغِ كَمَالِهِ؛ لِأَنَّهَا مُرْشِدٌ وَمُرَبٍّ لِلْعَقْلِ الَّذِي كَانَ لَهُ تِلْكَ الْمَزَايَا؛ فَلِهَذَا كُلِّهِ جَعَلَهُ خَلِيفَتَهُ فِي الْأَرْضِ وَهُوَ أَخْلَقُ الْمَخْلُوقَاتِ بِهَذِهِ الْخِلَافَةِ.
ظَهَرَتْ آثَارُ الْإِنْسَانِ فِي هَذِهِ الْخِلَافَةِ عَلَى الْأَرْضِ، وَنَحْنُ نُشَاهِدُ عَجَائِبَ صُنْعِهِ فِي الْمَعْدِنِ وَالنَّبَاتِ، وَفِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَالْهَوَاءِ، فَهُوَ يَتَفَنَّنُ وَيَبْتَدِعُ وَيَكْتَشِفُ وَيَخْتَرِعُ وَيَجِدُّ وَيَعْمَلُ، حَتَّى غَيَّرَ شَكْلَ الْأَرْضِ فَجَعَلَ الْحَزَنَ سَهْلًا، وَالْمَاحِلَ خِصْبًا، وَالْخَرَابَ عُمْرَانًا، وَالْبَرَارِيَ بِحَارًا أَوْ خِلْجَانًا، وَوَلَّدَ بِالتَّلْقِيحِ أَزْوَاجًا مِنَ النَّبَاتِ لَمْ تَكُنْ كَاللَّيْمُونِ الْمُسَمَّى " يُوسُفَ أَفَنْدِي " فَإِنَّ اللهَ - تَعَالَى - خَلَقَهُ بِيَدِ الْإِنْسَانِ وَأَنْشَأَهُ بِكَسْبِهِ، وَقَدْ تَصَرَّفَ فِي أَبْنَاءِ جِنْسِهِ مِنْ أَنْوَاعِ الْحَيَوَانِ كَمَا يَشَاءُ بِضُرُوبِ التَّرْبِيَةِ وَالتَّغْذِيَةِ وَالتَّوْلِيدِ، حَتَّى ظَهَرَ التَّغَيُّرُ فِي خِلْقَتِهَا وَخَلَائِقِهَا وَأَصْنَافِهَا فَصَارَ مِنْهَا الْكَبِيرُ وَالصَّغِيرُ، وَمِنْهَا الْأَهْلِيُّ وَالْوَحْشِيُّ، وَهُوَ يَنْتَفِعُ بِكُلِّ نَوْعٍ مِنْهَا وَيُسَخِّرُهُ لِخِدْمَتِهِ كَمَا سَخَّرَ الْقُوَى الطَّبِيعِيَّةَ وَسَائِرَ الْمَخْلُوقَاتِ، أَلَيْسَ مِنْ حِكْمَةِ اللهِ الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ ثُمَّ هَدَى، أَنَّ جَعْلَ الْإِنْسَانَ بِهَذِهِ الْمَوَاهِبِ خَلِيفَتَهُ فِي الْأَرْضِ، يُقِيمُ سُنَنَهُ، وَيُظْهِرُ عَجَائِبَ صُنْعِهِ، وَأَسْرَارَ خَلِيقَتِهِ، وَبَدَائِعَ حِكَمِهِ، وَمَنَافِعَ أَحْكَامِهِ، وَهَلْ وُجِدَتْ آيَةٌ عَلَى كَمَالِ اللهِ - تَعَالَى - وَسِعَةِ عِلْمِهِ أَظْهَرُ مِنْ هَذَا الْإِنْسَانِ الَّذِي خَلَقَهُ اللهُ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ؟ وَإِذَا كَانَ الْإِنْسَانُ خَلِيفَةً بِهَذَا الْمَعْنَى فَكَيْفَ تَعْجَبُ الْمَلَائِكَةُ مِنْهُ؟
(وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) بَادَرُوا إِلَى السُّؤَالِ وَاسْتِفْهَامِ الِاسْتِغْرَابِ وَ (قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ) فَيَغْفُلُ بِذَلِكَ عَنْ تَسْبِيحِكَ وَتَقْدِيسِكَ (وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ) بِلَا غَفْلَةٍ وَلَا فُتُورٍ؟ لَا شَكَّ أَنَّ هَذَا السُّؤَالَ نَشَأَ مِنْ فَهْمِ الْمَعْنَى الْمُرَادِ مِنَ الْخَلِيفَةِ وَمَا يَقْتَضِيهِ مِنَ الْعِلْمِ غَيْرِ الْمَحْدُودِ وَالْإِرَادَةِ الْمُطْلَقَةِ، وَكَوْنُ هَذَا الْعِلْمِ الْمُصْرِّفِ لِلْإِرَادَةِ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِالتَّدْرِيجِ، وَكَوْنُ عَدَمِ الْإِحَاطَةِ مَدْعَاةٌ لِلْفَسَادِ وَالتَّنَازُعِ الْمُفْضِي إِلَى سَفْكِ الدِّمَاءِ كَمَا تَقَدَّمَ.
نَعَمْ إِنَّ هَذَا الْعِلْمَ الْوَاسِعَ لَا يُعْطَاهُ فَرْدٌ مِنْ أَفْرَادِ الْإِنْسَانِ وَلَا مَجْمُوعُ النَّوْعِ دُفْعَةً وَاحِدَةً
فَيُشَابِهُ عِلْمُهُ عِلْمَ اللهِ - تَعَالَى -، وَكُلَّمَا أُوتِيَ نَصِيبًا مِنْهُ ظَهَرَ لَهُ مِنْ جَهْلِهِ مَا لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ، وَكُلَّمَا أُعْطِيَ حَظًّا مِنَ الْأَدَبِ وَالْعَقْلِ ظَهَرَ لَهُ ضَعْفُ عَقْلِهِ، وَلِلَّهِ دَرُّ الشَّافِعِيِّ حَيْثُ قَالَ:
كُلَّمَا أَدَّبَنِي الدَّهْـ
…
ـرُ أَرَانِي نَقْصَ عَقْلِي
وَإِذَا مَا ازْدَدْتُ عِلْمًا
زَادَنِي عِلْمًا بِجَهْلِي
فَهُوَ عَلَى سِعَةِ عِلْمِهِ لَمْ يُؤْتَ مِنَ الْعِلْمِ الْإِلَهِيِّ إِلَّا قَلِيلًا، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ أَوْسَعُ مَظَاهِرِ الْعِلْمِ الْإِلَهِيِّ، وَلِذَلِكَ أَجَابَ اللهُ الْمَلَائِكَةَ بِالْعِلْمِ (قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ) فَأَثْبَتَ لِذَاتِهِ الْعِلْمَ بِحِكْمَةِ هَذِهِ الْخِلَافَةِ وَنَفَاهُ عَنْهُمْ، ثُمَّ أَظْهَرَ لَهُمْ أَنَّ الْإِنْسَانَ يَكُونُ خَلِيفَةً بِالْعِلْمِ وَمَا يَتْبَعُهُ فَقَالَ:
(وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ قَالَ يَاآدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ)
تَقَدَّمَ فِي بَيَانِ مَعْنَى الْخَلِيفَةِ أَنَّ عِلْمَ الْمَلَائِكَةِ وَعَمَلَهُمْ مَحْدُودَانِ، وَأَنَّ عِلْمَ
الْإِنْسَانِ وَعَمَلَهُ غَيْرُ مَحْدُودَيْنِ، وَبِهَذِهِ الْخَاصَّةِ الَّتِي فَطَرَ اللهُ النَّاسَ عَلَيْهَا كَانَ الْإِنْسَانُ أَجْدَرَ بِالْخِلَافَةِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَهَذِهِ هِيَ حُجَّةُ اللهِ الْبَالِغَةُ عَلَى الْمَلَائِكَةِ الَّتِي بَيَّنَهَا لَهُمْ بَعْدَ مَا نَبَّهَهُمْ إِلَى عِلْمِهِ الْمُحِيطِ بِمَا لَا يَعْلَمُونَ فَقَالَ:(وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا) أَيْ أَوْدَعَ فِي نَفْسِهِ عِلْمَ جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ مِنْ غَيْرِ تَحْدِيدٍ وَلَا تَعْيِينٍ، فَالْمُرَادُ بِالْأَسْمَاءِ الْمُسَمَّيَاتُ، عَبَّرَ عَنِ الْمَدْلُولِ بِالدَّلِيلِ لِشِدَّةِ الصِّلَةِ بَيْنَ الْمَعْنَى وَاللَّفْظِ الْمَوْضُوعِ لَهُ، وَسُرْعَةِ الِانْتِقَالِ مِنْ أَحَدِهِمَا إِلَى الْآخَرِ. وَالْعِلْمُ الْحَقِيقِيُّ: إِنَّمَا هُوَ إِدْرَاكُ الْمَعْلُومَاتِ أَنْفُسِهَا، وَالْأَلْفَاظُ الدَّالَّةُ عَلَيْهَا تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ اللُّغَاتِ الَّتِي تَجْرِي بِالْمُوَاضَعَةِ وَالِاصْطِلَاحِ، فَهِيَ تَتَغَيَّرُ وَتَخْتَلِفُ وَالْمَعْنَى لَا تَغْيِيرَ فِيهِ وَلَا اخْتِلَافَ.
قَالَ الْأُسْتَاذُ: ثُمَّ إِنَّ الِاسْمَ قَدْ يُطْلَقُ إِطْلَاقًا صَحِيحًا عَلَى مَا يَصِلُ إِلَى الذِّهْنِ مِنَ الْمَعْلُومِ، أَيْ صُورَةِ الْمَعْلُومِ فِي الذِّهْنِ، وَبِعِبَارَةٍ أُخْرَى: مَا بِهِ يُعْلَمُ الشَّيْءُ عِنْدَ الْعَالِمِ، فَاسْمُ اللهِ مَثَلًا هُوَ مَا بِهِ عَرَفْنَاهُ فِي أَذْهَانِنَا بِحَيْثُ يُقَالُ: إِنَّنَا نُؤْمِنُ بِوُجُودِهِ وَنُسْنِدُ إِلَيْهِ صِفَاتِهِ، فَالْأَسْمَاءُ هِيَ مَا بِهِ نَعْلَمُ الْأَشْيَاءَ، وَهِيَ الْعُلُومُ الْمُطَابِقَةُ لِلْحَقَائِقِ. وَالِاسْمُ بِهَذَا الْإِطْلَاقِ هُوَ الَّذِي جَرَى
الْخِلَافُ فِي أَنَّهُ عَيْنُ الْمُسَمَّى أَوْ غَيْرُهُ، وَقَدْ كَانَ الْيُونَانِيُّونَ يُطْلِقُونَ عَلَى مَا فِي الذِّهْنِ مِنَ الْمَعْلُومِ لَفْظَ الِاسْمِ، وَالْخِلَافُ فِي أَنَّ مَا فِي الذِّهْنِ مِنَ الْحَقَائِقِ هُوَ عَيْنُهَا أَوْ صُورَتُهَا مَشْهُورٌ كَالْخِلَافِ فِي أَنَّ الْعِلْمَ عَيْنُ الْمَعْلُومِ أَوْ غَيْرُ الْمَعْلُومِ، وَأَمَّا الْخِلَافُ فِي أَنَّ الِاسْمَ الَّذِي هُوَ اللَّفْظُ عَيْنُ الْمُسَمَّى أَوْ غَيْرُهُ فَهُوَ مَا أَخْطَأَ فِيهِ النَّاظِرُونَ؛ لِعَدَمِ الدِّقَّةِ فِي التَّمْيِيزِ بَيْنَ الْإِطْلَاقَاتِ لِبَدَاهَةِ أَنَّ اللَّفْظَ غَيْرُ مَعْنَاهُ بِالضَّرُورَةِ، وَالِاسْمُ بِذَلِكَ الْإِطْلَاقِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ هُوَ الَّذِي يَتَقَدَّسُ وَيَتَبَارَكُ وَيَتَعَالَى (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) (87: 1) (تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ)(55: 78) فَاسْمُهُ جَلَّ شَأْنُهُ مَا يُمْكِنُنَا أَنْ نَعْلَمَ مِنْهُ مَا نَعْلَمُ مِنْ صِفَاتِهِ، وَمَا يُشْرِقُ فِي أَنْفُسِنَا مِنْ بَهَائِهِ وَجَلَالِهِ، وَلَا مَانِعَ مِنْ أَنْ نُرِيدَ مِنَ الْأَسْمَاءِ هَذَا الْمَعْنَى، وَهُوَ لَا يَخْتَلِفُ فِي التَّأْوِيلِ عَمَّا قَالُوهُ مِنْ إِرَادَةِ الْمُسَمَّيَاتِ وَلَكِنَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ أَظْهَرُ وَأَبْيَنُ.
(وَأَقُولُ) : تَقَدَّمَ لَنَا فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْفَاتِحَةِ أَنَّ اسْمَ اللهِ - تَعَالَى - يُسَبَّحُ وَيُعَظَّمُ، وَمِنْهُ إِسْنَادُ التَّسْبِيحِ إِلَيْهِ قَوْلًا وَكِتَابَةً، وَتَسْبِيحَهُ وَتَعْظِيمَهُ بِدُونِ ذِكْرِ اسْمِهِ خَاصٌّ بِالْقَلْبِ. وَمَنْ تَعَمَّدَ إِهَانَةَ اسْمِ اللهِ - تَعَالَى - يُكَفَّرُ كَمَنْ يَتَعَمَّدُ إِهَانَةَ كِتَابِهِ.
ثُمَّ إِنَّ الَّذِي يَتَبَادَرُ إِلَى الْفَهْمِ مِنْ صِيغَةِ التَّعْلِيمِ هُوَ التَّدْرِيجُ، قَالَ - تَعَالَى -:(وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ)(2: 151) وَمَا كَانَ ذَلِكَ إِلَّا تَدْرِيجًا، وَهَذَا ظَاهِرٌ فِي جَمِيعِ الْآيَاتِ الَّتِي فِيهَا لَفْظُ التَّعْلِيمِ كَقَوْلِهِ:(وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ)(4: 113) وَقَوْلِهِ: (وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ)(3: 48) إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ - وَلَكِنَّ الْمُتَبَادَرَ مِنْ تَعْلِيمِ آدَمَ الْأَسْمَاءَ: أَنَّهُ كَانَ دُفْعَةً وَاحِدَةً إِذَا أُرِيدَ بِآدَمَ شَخْصُهُ بِالْفِعْلِ أَوْ بِالْقُوَّةِ، وَلِذَلِكَ قَالَ شَيْخُنَا:
عَلَّمَ اللهُ آدَمَ كُلَّ شَيْءٍ - وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ لَهُ هَذَا الْعِلْمُ فِي آنٍ وَاحِدٍ أَوْ فِي آنَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ، وَاللهُ قَادِرٌ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ - ثُمَّ إِنَّ هَذِهِ الْقُوَّةَ الْعِلْمِيَّةَ عَامَّةٌ لِلنَّوْعِ الْآدَمِيِّ كُلِّهِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَعْرِفَ أَبْنَاؤُهُ الْأَسْمَاءَ مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ فَيَكْفِي فِي ثُبُوتِ هَذِهِ الْقُوَّةِ لَهُمْ مَعْرِفَةُ الْأَشْيَاءِ بِالْبَحْثِ وَالِاسْتِدْلَالِ، عَلَّمَ اللهُ آدَمَ الْأَسْمَاءَ عَلَى نَحْوِ مَا بَيَّنَّا (ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ) أَيْ أَطْلَعَهُمْ إِطْلَاعًا إِجْمَالِيًّا بِالْإِلْهَامِ الَّذِي يَلِيقُ بِحَالِهِمْ عَلَى مَجْمُوعِ تِلْكَ الْأَشْيَاءِ، وَلَوْ عُرِضَتْ عَلَى نُفُوسِهِمْ عَرْضًا تَفْصِيلِيًّا لَعَلِمُوهَا وَلَمْ يَكُنْ عِلْمُهُمْ مَحْدُودًا وَالْحَالُ أَنَّهُ عَرَضَهَا عَلَيْهِمْ وَسَأَلَهُمْ عَنْهَا سُؤَالَ تَعْجِيزٍ (فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ) الْمُسَمَّيَاتِ، وَالْغَرَضُ مِنَ الْإِنْبَاءِ بِأَسْمَائِهَا الْإِبَانَةُ عَنْ مَعْرِفَتِهَا، وَمَعْنَى (إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) أَيْ إِنْ كَانَ هُنَاكَ مَوْقِعٌ لِلدَّهْشَةِ وَالِاسْتِغْرَابِ مِنْ جَعْلِ الْخَلِيفَةِ فِي الْأَرْضِ مِنَ الْبَشَرِ، وَكَانَ مَا طَرَقَ نُفُوسَكُمْ وَطَرَأَ عَلَى أَذْهَانِكُمْ أَوَّلًا حَالًّا مَحَلَّهُ، وَمُصِيبًا غَرَضَهُ، وَلَمَّا تَعْرِفُوا حَقِيقَةَ مَا يَمْتَازُ بِهِ الْخَلِيفَةُ. فَأَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ مَا عَرَضْتُهُ عَلَيْكُمْ.
(قَالُوا سُبْحَانَكَ) أَيْ تَنْزِيهًا لَكَ، فَلَفْظُ سُبْحَانَ مَصْدَرٌ قَلَّمَا يُسْتَعْمَلُ إِلَّا مُضَافًا كَمَعَاذَ اللهِ، وَهُوَ مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ، وَالْمَعْنَى نُقَدِّسُكَ وَنُنَزِّهُكَ أَنْ يَكُونَ عِلْمُكَ قَاصِرًا فَتَخْلُقُ الْخَلِيفَةَ عَبَثًا، أَوْ تَسْأَلُنَا شَيْئًا نُفِيدُهُ وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّنَا لَا نُحِيطُ بِعِلْمِهِ، وَلَا نَقْدِرُ عَلَى الْإِنْبَاءِ بِهِ، وَكَلِمَةُ
"
سُبْحَانَكَ " تَهْدِي إِلَى هَذَا فَكَأَنَّهَا جُمْلَةٌ وَحْدَهَا، وَهَذِهِ هِيَ الْبَلَاغَةُ مَضْرُوبٌ سُرَادِقُهَا، مُثْمِرَةٌ حَدَائِقُهَا، مُتَجَلِّيَةٌ حَقَائِقُهَا. عَلَى أَنَّ الْقِصَّةَ وَرَدَتْ مَوْرِدَ التَّمْثِيلِ، وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ، وَبَعْدَ تَنْزِيهِ الْبَارِي تَبْرَّءُوا مِنْ عِلْمِهِمْ إِلَى عِلْمِهِ - تَعَالَى - وَحِكْمَتِهِ فَقَالُوا:(لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا) وَهُوَ مَحْدُودٌ لَا يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ الْأَسْمَاءِ وَلَا يُحِيطُ بِكُلِّ الْمُسَمَّيَاتِ (إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ) بِخَلْقِكَ (الْحَكِيمُ) فِي صُنْعِكَ.
قَالَ الْأُسْتَاذُ: إِنَّ هَذِهِ التَّأْكِيدَاتِ تُشْعِرُ بِأَنَّ سُؤَالَ الِاسْتِغْرَابِ الْأَوَّلِ كَانَ يُتَنَسَّمُ مِنْهُ شَيْءٌ، وَكَذَلِكَ الْجَوَابُ عَنْ (أَنْبَئُونِي) بِقَوْلِهِمْ:(لَا عِلْمَ لَنَا) خَتَمُوا الْجَوَابَ بِالتَّبَرُّؤِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، وَالثَّنَاءِ عَلَى اللهِ - تَعَالَى - بِالْعِلْمِ الثَّابِتِ الْوَاجِبِ لِذَاتِهِ الْعَلِيَّةِ، وَالْحِكْمَةِ الْبَالِغَةِ اللَّازِمَةِ لَهُ؛ فَقَدْ تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ الْفَاتِحَةِ أَنَّ صِيغَةَ (فَعِيلٍ) تَدُلُّ غَالِبًا عَلَى الصِّفَاتِ الرَّاسِخَةِ اللَّازِمَةِ، فَكَانَ جَوَابُ الْمَلَائِكَةِ بِهَذَا مُؤْذِنًا بِأَنَّهُمْ رَجَعُوا إِلَى مَا كَانَ يَجِبُ أَلَّا يَغْفَلَ مِثْلُهُمْ عَنْهُ، وَهُوَ التَّسْلِيمُ لِسِعَةِ عِلْمِ اللهِ وَحِكْمَتِهِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ.
(قَالَ يَاآدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ) فَكَانَ الْإِنْبَاءُ كَمَا أَرَادَ اللهُ - تَعَالَى - وَذَكَرَهُ لِأَجْلِ تَرْتِيبِ الْحُكْمِ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: (فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ) اللهُ - تَعَالَى - لِلْمَلَائِكَةِ: (أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) وَمَنْ كَانَ هَذَا شَأْنَهُ فَلَا يَخْلُقُ شَيْئًا سُدًى، وَلَا يَجْعَلُ الْخَلِيفَةَ فِي الْأَرْضِ عَبَثًا (وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) وَالَّذِي يُبْدُونَهُ هُوَ مَا يَظْهَرُ أَثَرُهُ فِي نُفُوسِهِمْ، وَأَمَّا مَا يَكْتُمُونَ فَهُوَ مَا يُوجَدُ فِي غَرَائِزِهِمْ وَتَنْطَوِي عَلَيْهِ طَبَائِعُهُمْ.
وَقَدْ عُلِمَ مِمَّا تَقَدَّمَ أَنَّ كُلَّ هَذِهِ الْأَقْوَالِ وَالْمُرَاجَعَاتِ وَالْمُنَاظَرَاتِ يُفَوِّضُ السَّلَفُ الْأَمْرَ إِلَى اللهِ - تَعَالَى - فِي مَعْرِفَةِ حَقِيقَتِهَا، وَيَكْتَفُونَ بِمَعْرِفَةِ فَائِدَتِهَا وَحِكْمَتِهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ.
وَأَمَّا الْخَلَفُ فَيَلْجَئُونَ إِلَى التَّأْوِيلِ، وَأَمْثَلُ طُرُقِهِ فِي هَذَا الْمَقَامِ التَّمْثِيلُ، وَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ اللهِ فِي كِتَابِهِ بِأَنْ يُبْرِزَ لَنَا الْأَشْيَاءَ الْمَعْنَوِيَّةَ فِي قَوَالِبِ الْعِبَارَةِ اللَّفْظِيَّةِ، وَيُجَلِّي لَنَا الْمَعَارِفَ الْمَعْقُولَةَ بِالصُّوَرِ الْمَحْسُوسَةِ تَقْرِيبًا لِلْأَفْهَامِ، وَتَسْهِيلًا لِلْإِعْلَامِ، وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ عَرَّفْنَا بِهَذِهِ الْقِصَّةِ قِيمَةَ أَنْفُسِنَا، وَمَا أَوْدَعَتْهُ فِطْرَتُنَا، مِمَّا نَمْتَازُ بِهِ عَلَى غَيْرِنَا مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ، فَعَلَيْنَا أَنْ نَجْتَهِدَ فِي تَكْمِيلِ أَنْفُسِنَا بِالْعُلُومِ الَّتِي خُلِقْنَا مُسْتَعِدِّينَ لَهَا مِنْ دُونِ الْمَلَائِكَةِ وَسَائِرِ الْخَلْقِ لِتَظْهَرَ حِكْمَةُ اللهِ فِينَا، وَلَعَلَّنَا نُشْرِفُ عَلَى مَعْنَى إِعْلَامِ اللهِ الْمَلَائِكَةَ بِفَضْلِنَا، وَمَعْنَى سُجُودِهِمْ لِأَصْلِنَا (وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (24: 35) .
(وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ)
بَعْدَمَا عَرَّفَ اللهُ الْمَلَائِكَةَ بِمَكَانَةِ آدَمَ وَوَجْهِ جَعْلِهِ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ أَمَرَهُمْ بِالْخُضُوعِ لَهُ وَعَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ بِالسُّجُودِ فَقَالَ: (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ) وَهُوَ سُجُودٌ لَا نَعْرِفُ صِفَتَهُ، وَلَكِنَّ أُصُولَ الدِّينِ تُعَلِّمُنَا أَنَّهُ لَيْسَ سُجُودَ عِبَادَةٍ إِذْ لَا يُعْبَدُ إِلَّا اللهُ - تَعَالَى - وَالسُّجُودُ فِي اللُّغَةِ: التَّطَامُنُ وَالْخُضُوعُ وَالِانْقِيَادُ، وَأَعْظَمُ مَظَاهِرِهِ الْخُرُورُ نَحْوَ الْأَرْضِ لِلْأَذْقَانِ وَوَضْعُ الْجَبْهَةِ عَلَى التُّرَابِ، وَكَانَ عِنْدَ بَعْضِ الْقُدَمَاءِ مِنْ تَحِيَّةِ النَّاسِ لِلْمُلُوكِ وَالْعُظَمَاءِ، وَمِنْهُ سُجُودُ يَعْقُوبَ وَأَوْلَادِهِ لِيُوسُفَ عليهم السلام. وَالسُّجُودُ لِلَّهِ - تَعَالَى - قِسْمَانِ: سُجُودُ الْعُقَلَاءِ الْمُكَلَّفِينَ لَهُ تَعَبُّدًا عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْرُوعِ، وَسُجُودُ الْمَخْلُوقَاتِ كُلِّهَا لِمُقْتَضَى إِرَادَتِهِ فِيهَا قَالَ - تَعَالَى -:(وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا)(13: 15) الْآيَةِ، وَقَالَ:(وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ)(55: 6) وَفِي مَعْنَاهِمَا آيَاتٌ: (فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ)(7: 11، 20: 116) أَيْ سَجَدُوا كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ وَهُوَ فَرْدٌ مِنْ أَفْرَادِ الْمَلَائِكَةِ، كَمَا يُفْهَمُ مِنَ الْآيَةِ وَأَمْثَالِهَا فِي الْقِصَّةِ إِلَّا آيَةَ الْكَهْفِ فَإِنَّهَا نَاطِقَةٌ بِأَنَّهُ كَانَ مِنَ الْجِنِّ (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ) (18: 50) وَلَيْسَ عِنْدَنَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ بَيْنَ الْمَلَائِكَةِ وَالْجِنِّ فَصْلًا جَوْهَرِيًّا يُمَيِّزُ أَحَدَهُمَا عَنِ الْآخَرِ، وَإِنَّمَا هُوَ اخْتِلَافُ أَصْنَافٍ عِنْدَمَا تَخْتَلِفُ أَوْصَافٌ، كَمَا تُرْشِدُ إِلَيْهِ الْآيَاتُ. فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْجِنَّ صِنْفٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَقَدْ أُطْلِقَ فِي الْقُرْآنِ لَفْظُ الْجِنَّةِ عَلَى الْمَلَائِكَةِ عَلَى رَأْيِ جُمْهُورِ الْمُفَسِّرِينَ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -:(وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا)(37: 158) وَعَلَى الشَّيَاطِينِ فِي آخِرِ سُورَةِ النَّاسِ. وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَجَمِيعُ هَؤُلَاءِ الْمُسَمَّيَاتِ بِهَذِهِ الْأَسْمَاءِ مِنْ عَالَمِ الْغَيْبِ لَا نَعْلَمُ حَقَائِقَهَا وَلَا نَبْحَثُ عَنْهَا وَلَا نَقُولُ بِنِسْبَةِ شَيْءٍ إِلَيْهَا مَا لَمْ يَرِدْ لَنَا فِيهِ نَصٌّ قَطْعِيٌّ عَنِ الْمَعْصُومِ صلى الله عليه وسلم. وَصَفَ اللهُ - تَعَالَى - إِبْلِيسَ بِأَنَّهُ (أَبَى) السُّجُودَ وَالِانْقِيَادَ (وَاسْتَكْبَرَ)
فَلَمْ يَمْتَثِلْ أَمْرَ الْحَقِّ تَرَفُّعًا عَنْهُ، وَزَعْمًا بِأَنَّهُ خَيْرٌ مِنَ الْخَلِيفَةِ عُنْصُرًا، وَأَزْكَى جَوْهَرًا، كَمَا حَكَى اللهُ - تَعَالَى - عَنْهُ فِي غَيْرِ هَذِهِ السُّورَةِ:(قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلْقَتَهُ مِنْ طِينٍ)(7: 12) وَالِاسْتِكْبَارُ بِمَعْنَى التَّكَبُّرِ وَهُوَ الظُّهُورُ بِصِفَةِ الْكِبْرِيَاءِ الَّتِي مِنْ آثَارِهَا التَّرَفُّعُ عَنِ الْحَقِّ، كَأَنَّ السِّينَ وَالتَّاءَ لِلْإِشْعَارِ بِأَنَّ الْكِبْرَ لَيْسَ مِنْ طَبِيعَةِ إِبْلِيسَ وَلَكِنَّهُ مُسْتَعِدٌّ لَهُ، ثُمَّ قَالَ - تَعَالَى - بَعْدَ وَصْفِهِ بِالْإِبَاءِ وَالِاسْتِكْبَارِ:(وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ) قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: كَانَ مِنْ حَقِّ التَّرْتِيبِ أَنْ يُقَالَ: كَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ وَاسْتَكْبَرَ وَأَبَى؛ لِأَنَّ الْكُفْرَ عِنْدَهُ سَبَبُ الِاسْتِكْبَارِ وَالِاسْتِكْبَارُ سَبَبُ الْإِبَاءِ، وَمِثْلُ هَذَا الْمُفَسِّرِ يُعَلِّلُ مُخَالَفَةَ
التَّرْتِيبِ الطَّبِيعِيِّ فِي النَّظْمِ بِرِعَايَةِ الْفَاصِلَةِ. (قَالَ الْأُسْتَاذُ) : وَلَكِنَّ نَظْمَ الْآيَةِ جَاءَ عَلَى مُقْتَضَى الطَّبِيعَةِ فِي الذِّكْرِ، فَإِنَّهُ يُفِيدُ أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - أَرَادَ أَنْ يُبَيِّنَ الْفِعْلَ أَوَّلًا لِأَنَّهُ الْمَقْصُودُ بِالذَّاتِ وَهُوَ الْإِبَاءُ، ثُمَّ يُذْكُرُ سَبَبَهُ وَعِلَّتَهُ وَهُوَ الِاسْتِكْبَارُ، ثُمَّ يَأْتِي بِالْأَصْلِ فِي الْعِلَّةِ وَالْمَعْلُولِ وَالسَّبَبِ وَالْمُسَبِّبِ وَهُوَ الْكُفْرُ.
(أَقُولُ) : وَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ ((كَانَ)) هُنَا بِمَعْنَى صَارَ، وَخَطَّأَهُ ابْنُ فُورَكَ وَقَالَ: إِنَّ الْأُصُولَ تَرُدُّهُ، وَوَجْهُهُ عِنْدَ قَائِلِهِ: وَصَارَ بِهَذَا الْإِبَاءِ وَالِاسْتِكْبَارِ مِنْ جُمْلَةِ الْكَافِرِينَ، لِمَا عُلِمَ مِنْ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ قَبْلَ هَذَا الْعِصْيَانِ الْمُتَضَمِّنِ لِلْاعْتِرَاضِ عَلَى الرَّبِّ سُبْحَانَهُ مِنَ الْكَافِرِينَ، وَقَدْ جَعَلَ بَعْضُهُمْ مَنَاطَ كُفْرِهِ هَذَا الِاعْتِرَاضَ عَلَى رَبِّهِ عز وجل؛ لِأَنَّ الْمَعْصِيَةَ وَحْدَهَا لَا تَقْتَضِي الْكُفْرَ كَمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ النُّصُوصُ، وَفِيهِ أَنَّ ذَلِكَ فِي مَعْصِيَةِ الْمُسْلِمِ، وَهُوَ الْمُذْعِنُ لِأَمْرِ اللهِ وَنَهْيِهِ إِذَا غَلَبَهُ غَضَبٌ أَوْ شَهْوَةٌ فَعَصَى، وَهُوَ لَا يَلْبَثُ أَنْ يَنْدَمَ وَيَتُوبَ.
وَعِصْيَانُ إِبْلِيسَ رَفْضٌ لِلْإِذْعَانِ وَالِاسْتِسْلَامِ ابْتِدَاءً، وَهُوَ كُفْرٌ بِغَيْرِ نِزَاعٍ كَكُفْرِ الَّذِينَ صَدَّقُوا الرُّسُلَ بِقُلُوبِهِمْ وَلَمْ يَتَّبِعُوهُمْ عِنَادًا وَاسْتِكْبَارًا (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا) (27: 14) وَالْجُمْهُورُ أَنَّ الْمَعْنَى: وَكَانَ فِي عِلْمِ اللهِ مِنَ الْكَافِرِينَ.
ثُمَّ إِنَّ الْأُسْتَاذَ أَعَادَ هُنَا مُلَخَّصَ مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي وَجْهِ اتِّصَالِ الْآيَاتِ بِمَا قَبْلَهَا، وَكَوْنِ الْكَلَامِ فِي الْقُرْآنِ وَالرَّسُولِ الَّذِي جَاءَ بِهِ وَتَسْلِيَتِهِ بِهَذِهِ الْقِصَّةِ، ثُمَّ تَوَسَّعَ فِي الْكَلَامِ عَنِ الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ مَا مِثَالُهُ مُلَخَّصًا: تَقَدَّمَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ خَلْقٌ غَيْبِيٌّ لَا نَعْرِفُ حَقِيقَتَهُ، وَإِنَّمَا نُؤْمِنُ بِهِ بِإِخْبَارِ اللهِ - تَعَالَى - الَّذِي نَقِفُ عِنْدَهُ وَلَا نَزِيدُ عَلَيْهِ، وَتَقَدَّمَ أَنَّ الْقُرْآنَ نَاطِقٌ بِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ أَصْنَافٌ، لِكُلِّ صِنْفٍ وَظِيفَةٌ وَعَمَلٌ. وَنَقُولُ الْآنَ:
إِنَّ إِلْهَامَ الْخَيْرِ وَالْوَسْوَسَةَ بِالشَّرِّ مِمَّا جَاءَ فِي لِسَانِ صَاحِبِ الْوَحْيِ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ أُسْنِدَا إِلَى هَذِهِ الْعَوَالِمِ الْغَيْبِيَّةِ. وَخَوَاطِرُ الْخَيْرِ الَّتِي تُسَمَّى إِلْهَامًا وَخَوَاطِرُ الشَّرِّ الَّتِي تُسَمَّى الْوَسْوَسَةَ كُلٌّ مِنْهُمَا مَحِلُّهُ الرُّوحُ، فَالْمَلَائِكَةُ وَالشَّيَاطِينُ إِذَنْ أَرْوَاحٌ تَتَّصِلُ بِأَرْوَاحِ النَّاسِ فَلَا يَصِحُّ أَنْ تُمَثَّلَ الْمَلَائِكَةُ بِالتَّمَاثِيلِ الْجُثْمَانِيَّةِ الْمَعْرُوفَةِ لَنَا (لِأَنَّ هَذِهِ لَوِ اتَّصَلَتْ بِأَرْوَاحِنَا، فَإِنَّمَا تَتَّصِلُ بِهَا مِنْ طُرُقِ أَجْسَامِنَا، وَنَحْنُ لَا نُحِسُّ بِشَيْءٍ بِأَبْدَانِنَا لَا عِنْدَ الْوَسْوَسَةِ وَلَا عِنْدَ الشُّعُورِ بِدَاعِي الْخَيْرِ مِنَ النَّفْسِ، فَإِذَنْ هِيَ مِنْ عَالَمٍ غَيْرِ عَالِمِ الْأَبْدَانِ قَطْعًا) وَالْوَاجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ فِي مِثْلِ الْآيَةِ: الْإِيمَانُ بِمَضْمُونِهَا مَعَ التَّفْوِيضِ أَوِ الْحَمْلِ عَلَى أَنَّهَا حِكَايَةُ تَمْثِيلٍ، ثُمَّ الِاعْتِبَارُ بِهَا بِالنَّظَرِ فِي الْحِكَمِ الَّتِي سِيقَتْ لَهَا الْقِصَّةُ.
(وَأَقُولُ) : إِنَّ إِسْنَادَ الْوَسْوَسَةِ إِلَى الشَّيَاطِينِ مَعْرُوفٌ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَأَمَّا إِسْنَادُ إِلْهَامِ الْحَقِّ وَالْخَيْرِ إِلَى الْمَلَائِكَةِ فَيُؤْخَذُ مِنْ خِطَابِ الْمَلَائِكَةِ لِمَرْيَمَ عليها السلام وَمِنْ حَدِيثِ الشَّيْخَيْنِ فِي الْمُحَدَّثِينَ وَكَوْنِ عُمَرَ مِنْهُمْ - وَالْمُحَدَّثُونَ بِفَتْحِ الدَّالِ وَتَشْدِيدِهَا: الْمُلْهَمُونَ - وَمِنْ حَدِيثِ التِّرْمِذِيِّ وَالنَّسَائِيِّ وَابْنِ حِبَّانَ وَهُوَ ((إِنَّ لِلشَّيْطَانِ لَمَّةً بِابْنِ آدَمَ وَلِلْمَلَكِ لَمَّةً، فَأَمَّا لَمَّةُ
الشَّيْطَانِ فَإِيعَادٌ بِالشَّرِّ وَتَكْذِيبٌ بِالْحَقِّ، وَأَمَّا لَمَّةُ الْمَلَكِ فَإِيعَادٌ بِالْخَيْرِ وَتَصْدِيقٌ بِالْحَقِّ، فَمَنْ وَجَدَ ذَلِكَ فَلْيَعْلَمْ أَنَّهُ مِنَ اللهِ فَلْيَحْمَدِ اللهَ عَلَى ذَلِكَ، وَمَنْ وَجَدَ الْأُخْرَى فَلْيَتَعَوَّذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ)) ثُمَّ قَرَأَ:(الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ)(3: 268) قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ غَرِيبٌ لَا نَعْلَمُهُ مَرْفُوعًا إِلَّا مِنْ حَدِيثِ أَبِي الْأَحْوَصِ. وَالرِّوَايَةُ: ((إِيعَادٌ)) فِي الْمَوْضِعَيْنِ كَمَا أَنَّ الْآيَةَ مِنَ الثُّلَاثِيِّ فِي الْمَوْضِعَيْنِ، فَمَا قَالُوهُ فِي التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْوَعْدِ وَالْإِيعَادِ أَغْلَبِيٌّ فِيمَا يَظْهَرُ، وَإِلَّا فَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ. وَاللَّمَّةُ بِالْفَتْحِ الْإِلْمَامُ بِالشَّيْءِ وَالْإِصَابَةُ.
(قَالَ الْأُسْتَاذُ) وَذَهَبَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ مَذْهَبًا آخَرَ فِي فَهْمِ مَعْنَى الْمَلَائِكَةِ: وَهُوَ أَنَّ مَجْمُوعَ مَا وَرَدَ فِي الْمَلَائِكَةِ مِنْ كَوْنِهِمْ مُوَكَّلِينَ بِالْأَعْمَالِ مِنْ إِنْمَاءِ نَبَاتٍ وَخِلْقَةِ حَيَوَانٍ وَحِفْظِ إِنْسَانٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ فِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى الْخَاصَّةِ بِمَا هُوَ أَدَقُّ مِنْ ظَاهِرِ الْعِبَارَةِ، وَهُوَ أَنَّ هَذَا النُّمُوَّ فِي النَّبَاتِ لَمْ يَكُنْ إِلَّا بِرُوحِ خَاصٍّ نَفَخَهُ اللهُ فِي الْبَذْرَةِ فَكَانَتْ بِهِ هَذِهِ الْحَيَاةُ النَّبَاتِيَّةُ الْمَخْصُوصَةُ، وَكَذَلِكَ يُقَالُ فِي الْحَيَوَانِ وَالْإِنْسَانِ، فَكُلُّ أَمْرٍ كُلِّيٍّ قَائِمٍ بِنِظَامٍ مَخْصُوصٍ تَمَّتْ بِهِ الْحِكْمَةُ الْإِلَهِيَّةُ فِي إِيجَادِهِ، فَإِنَّمَا قِوَامُهُ بِرُوحٍ إِلَهِيٍّ
سُمِّيَ فِي لِسَانِ الشَّرْعِ مَلَكًا، وَمَنْ لَمْ يُبَالِ فِي التَّسْمِيَةِ بِالتَّوْقِيفِ يُسَمِّي هَذِهِ الْمَعَانِيَ الْقُوَى الطَّبِيعِيَّةَ، إِذَا كَانَ لَا يَعْرِفُ مِنْ عَالَمِ الْإِمْكَانِ إِلَّا مَا هُوَ طَبِيعَةٌ أَوْ قُوَّةٌ يَظْهَرُ أَثَرُهَا فِي الطَّبِيعَةِ. وَالْأَمْرُ الثَّابِتُ الَّذِي لَا نِزَاعَ فِيهِ هُوَ أَنَّ فِي بَاطِنِ الْخِلْقَةِ أَمْرًا هُوَ مَنَاطُهَا، وَبِهِ قِوَامُهَا وَنِظَامُهَا، لَا يُمْكِنُ لِعَاقِلٍ أَنْ يُنْكِرَهُ، وَإِنْ أَنْكَرَ غَيْرُ الْمُؤْمِنِ بِالْوَحْيِ تَسْمِيَتَهُ مَلَكًا وَزَعَمَ أَنَّهُ لَا دَلِيلَ عَلَى وُجُودِ الْمَلَائِكَةِ، أَوْ أَنْكَرَ بَعْضُ الْمُؤْمِنِينَ بِالْوَحْيِ تَسْمِيَتَهُ قُوَّةً طَبِيعِيَّةً أَوْ نَامُوسًا طَبِيعِيًّا؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَسْمَاءَ لَمْ تَرِدْ فِي الشَّرْعِ. فَالْحَقِيقَةُ وَاحِدَةٌ وَالْعَاقِلُ مَنْ لَا تَحْجِبُهُ الْأَسْمَاءُ عَنِ الْمُسَمَّيَاتِ (وَإِنْ كَانَ الْمُؤْمِنُ بِالْغَيْبِ يَرَى لِلْأَرْوَاحِ وَجُودًا لَا يُدْرِكُ كُنْهَهُ، وَالَّذِي لَا يُؤْمِنُ بِالْغَيْبِ يَقُولُ: لَا أَعْرِفُ الرُّوحَ وَلَكِنْ أَعْرِفُ قُوَّةً لَا أَفْهَمُ حَقِيقَتَهَا. وَلَا يَعْلَمُ إِلَّا اللهُ عَلَامَ يَخْتَلِفُ النَّاسُ، وَكَلٌّ يُقِرُّ بِوُجُودِ شَيْءٍ غَيْرِ مَا يَرَى وَيُحِسُّ وَيَعْتَرِفُ بِأَنَّهُ لَا يَفْهَمُهُ حَقَّ الْفَهْمِ، وَلَا يَصِلُ بِعَقْلِهِ إِلَى إِدْرَاكِ كُنْهِهِ، وَمَاذَا عَلَى هَذَا الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ بِالْغَيْبِ وَقَدِ اعْتَرَفَ بِمَا غُيِّبَ عَنْهُ لَوْ قَالَ: أُصَدِّقُ بِغَيْبٍ أَعْرِفُ أَثَرَهُ، وَإِنْ كُنْتُ لَا أُقَدِّرُهُ قَدْرَهُ، فَيَتَّفِقُ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ بِالْغَيْبِ، وَيَفْهَمُ بِذَلِكَ مَا يَرِدُ عَلَى لِسَانِ صَاحِبِ الْوَحْيِ، وَيَحْظَى بِمَا يَحْظَى بِهِ الْمُؤْمِنُونَ؟) .
يَشْعُرُ كُلُّ مَنْ فَكَّرَ فِي نَفْسِهِ وَوَازَنَ بَيْنَ خَوَاطِرِهِ عِنْدَمَا يَهِمُّ بِأَمْرٍ فِيهِ وَجْهٌ لِلْحَقِّ أَوْ لِلْخَيْرِ، وُوَجْهٌ لِلْبَاطِلِ أَوْ لِلشَّرِّ، بِأَنَّ فِي نَفْسِهِ تَنَازُعًا كَأَنَّ الْأَمْرَ قَدْ عُرِضَ فِيهَا عَلَى مَجْلِسِ شُورَى فَهَذَا يُورِدُ وَذَاكَ يَدْفَعُ، وَاحِدٌ يَقُولُ: افْعَلْ، وَآخَرُ يَقُولُ: لَا تَفْعَلْ، حَتَّى يَنْتَصِرَ أَحَدُ الطَّرَفَيْنِ، وَيَتَرَجَّحَ أَحَدُ الْخَاطِرَيْنِ، فَهَذَا الشَّيْءُ الَّذِي أُودِعَ فِي أَنْفُسِنَا، وَنُسَمِّيهِ قُوَّةً وَفِكْرًا - وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ مَعْنَى لَا يُدْرَكُ كُنْهُهُ، وَرُوحٌ لَا تُكْتَنَهُ حَقِيقَتُهَا، لَا يَبْعُدُ أَنْ يُسَمِّيَهُ اللهُ - تَعَالَى - مَلَكًا
(أَوْ يُسَمِّيَ أَسْبَابَهُ مَلَائِكَةً) أَوْ مَا شَاءَ مِنَ الْأَسْمَاءِ، فَإِنَّ التَّسْمِيَةَ لَا حَجْرَ فِيهَا عَلَى النَّاسِ فَكَيْفَ يَحْجُرُ فِيهَا عَلَى صَاحِبِ الْإِرَادَةِ الْمُطْلَقَةِ وَالسُّلْطَانِ النَّافِذِ وَالْعِلْمِ الْوَاسِعِ؟
(وَأَقُولُ) : إِنَّ الْإِمَامَ الْغَزَالِيَّ سَبَقَ بَيَانَ هَذَا الْمَعْنَى وَعَبَّرَ عَنْهُ بِالسَّبَبِ وَقَالَ: إِنَّهُ سُمِّيَ مَلَكًا، فَإِنَّهُ بَعْدَ مَا قَسَّمَ الْخَوَاطِرَ إِلَى مَحْمُودٍ وَمَذْمُومٍ قَالَ: " ثُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذِهِ الْخَوَاطِرَ حَادِثَةٌ، ثُمَّ إِنَّ كُلَّ حَادِثٍ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُحْدِثٍ، وَمَهْمَا اخْتَلَفَتِ
الْحَوَادِثُ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى اخْتِلَافِ الْأَسْبَابِ، هَذَا مَا عُرِفَ مِنْ سُنَّةِ اللهِ - تَعَالَى - فِي تَرْتِيبِ الْمُسَبَّبَاتِ عَلَى الْأَسْبَابِ، فَمَهْمَا اسْتَنَارَتْ حِيطَانُ الْبَيْتِ بِنُورِ النَّارِ وَأَظْلَمَ سَقْفُهُ بِالدُّخَانِ عَلِمْتَ أَنَّ سَبَبَ السَّوَادِ غَيْرُ سَبَبِ الِاسْتِنَارَةِ، وَكَذَلِكَ لِأَنْوَارِ الْقَلْبِ وَظُلْمَتِهِ سَبَبَانِ مُخْتَلِفَانِ، فَسَبَبُ الْخَاطِرِ الدَّاعِي إِلَى الْخَيْرِ يُسَمَّى مَلَكًا، وَسَبَبُ الْخَاطِرِ الدَّاعِي إِلَى الشَّرِّ يُسَمَّى شَيْطَانًا، وَاللُّطْفُ الَّذِي يَتَهَيَّأُ بِهِ الْقَلْبُ لِقَبُولِ إِلْهَامِ الْخَيْرِ يُسَمَّى تَوْفِيقًا، وَالَّذِي يَتَهَيَّأُ بِهِ لِقَبُولِ الشَّرِّ يُسَمَّى إِغْوَاءً وَخِذْلَانًا، فَإِنَّ الْمَعَانِيَ الْمُخْتَلِفَةَ تَحْتَاجُ إِلَى أَسَامِي مُخْتَلِفَةٍ " اهـ الْمُرَادُ مِنْهُ فَلْيُرَاجِعْهُ فِي كِتَابِ شَرْحِ عَجَائِبِ الْقَلْبِ مِنَ الْإِحْيَاءِ، ثُمَّ قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ مَا مَعْنَاهُ.
فَإِذَا صَحَّ الْجَرْيُ عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ فَلَا يُسْتَبْعَدُ أَنْ تَكُونَ الْإِشَارَةُ فِي الْآيَةِ إِلَى أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - لَمَّا خَلَقَ الْأَرْضَ وَدَبَّرَهَا بِمَا شَاءَ مِنَ الْقُوَى الرُّوحَانِيَّةِ الَّتِي بِهَا قِوَامُهَا وَنِظَامُهَا، وَجَعَلَ كُلَّ صِنْفٍ مِنَ الْقُوَى مَخْصُوصًا بِنَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَخْلُوقَاتِ لَا يَتَعَدَّاهُ وَلَا يَتَعَدَّى مَا حُدِّدَ لَهُ مِنَ الْأَثَرِ الَّذِي خُصَّ بِهِ، خَلَقَ بَعْدَ ذَلِكَ الْإِنْسَانَ وَأَعْطَاهُ قُوَّةً يَكُونُ بِهَا مُسْتَعِدًّا لِلتَّصَرُّفِ بِجَمِيعِ هَذِهِ الْقُوَى وَتَسْخِيرِهَا فِي عِمَارَةِ الْأَرْضِ، وَعَبَّرَ عَنْ تَسْخِيرِ هَذِهِ الْقُوَى لَهُ بِالسُّجُودِ الَّذِي يُفِيدُ مَعْنَى الْخُضُوعِ وَالتَّسْخِيرِ، وَجَعَلَهُ بِهَذَا الِاسْتِعْدَادِ الَّذِي لَا حَدَّ لَهُ وَالتَّصَرُّفِ الَّذِي لَمْ يُعْطَ لِغَيْرِهِ خَلِيفَةَ اللهِ فِي أَرْضِهِ؛ لِأَنَّهُ أَكْمَلُ الْمَوْجُودَاتِ فِي هَذِهِ الْأَرْضِ، وَاسْتَثْنَى مِنْ هَذِهِ الْقُوَى قُوَّةً وَاحِدَةً عَبَّرَ عَنْهَا بِإِبْلِيسَ، وَهِيَ الْقُوَّةُ الَّتِي (لَزَّهَا اللهُ بِهَذَا الْعَالَمِ لَزًّا، وَهِيَ الَّتِي تَمِيلُ بِالْمُسْتَعِدِّ لِلْكَمَالِ أَوْ بِالْكَامِلِ إِلَى النَّقْصِ وَتُعَارِضُ مَدَّ الْوُجُودِ لِتَرُدَّهُ إِلَى الْعَدَمِ أَوْ تَقْطَعَ سَبِيلَ الْبَقَاءِ وَتَعُودَ بِالْمَوْجُودِ إِلَى الْفَنَاءِ أَوِ الَّتِي) تُعَارِضُ فِي اتِّبَاعِ الْحَقِّ وَتَصُدُّ عَنْ عَمَلِ الْخَيْرِ وَتُنَازِعُ الْإِنْسَانَ فِي صَرْفِ قُوَاهُ إِلَى الْمَنَافِعِ وَالْمَصَالِحِ الَّتِي تَتِمُّ بِهَا خِلَافَتُهُ فَيَصِلُ إِلَى مَرَاتِبِ الْكَمَالِ الْوُجُودِيِّ الَّتِي خُلِقَ مُسْتَعِدًّا لِلْوُصُولِ إِلَيْهَا (تِلْكَ الْقُوَّةُ الَّتِي ضَلَّلَتْ آثَارُهَا قَوْمًا فَزَعَمُوا أَنَّ فِي الْعَالَمِ إِلَهًا يُسَمَّى إِلَهَ الشَّرِّ. وَمَا هِيَ بِإِلَهٍ وَلَكِنَّهَا مِحْنَةُ إِلَهٍ لَا يَعْلَمُ أَسْرَارَ حِكْمَتِهِ إِلَّا هُوَ) .
(قَالَ) : وَلَوْ أَنَّ نَفْسًا مَالَتْ إِلَى قَبُولِ هَذَا التَّأْوِيلِ لَمْ تَجِدْ فِي الدِّينِ مَا يَمْنَعُهَا مِنْ ذَلِكَ، وَالْعُمْدَةُ عَلَى اطْمِئْنَانِ الْقَلْبِ وَرُكُونِ النَّفْسِ إِلَى مَا أَبْصَرَتْ مِنَ الْحَقِّ.
(وَأَقُولُ) : إِنَّ غَرَضَ الْأُسْتَاذِ مِنْ هَذَا التَّأْوِيلِ الَّذِي عَبَّرَ عَنْهُ بِالْإِيمَاءِ وَبِالْإِشَارَةِ
إِقْنَاعُ مُنْكِرِي الْمَلَائِكَةِ بِوُجُودِهِمْ، بِتَعْبِيرٍ مَأْلُوفٍ عِنْدَهُمْ تَقْبَلُهُ عُقُولُهُمْ، وَقَدِ اهْتَدَى بِهِ
كَثِيرُونَ، وَضَلَّ بِهِ آخَرُونَ فَأَنْكَرُوهُ عَلَيْهِ وَزَعَمُوا أَنَّهُ جَعَلَ الْمَلَائِكَةَ قُوًى لَا تَعْقِلُ فَرَدَّ عَلَيْهِمْ كِتَابَةً بِمَا نَصُّهُ بِحُرُوفِهِ:
(وَلَسْتُ أُحِيطُ عِلْمًا بِمَا فَعَلَتِ الْعَادَةُ وَالتَّقَالِيدُ فِي أَنْفُسِ بَعْضِ مَنْ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مِنَ الْمُتَشَدِّدِينَ فِي الدِّينِ إِذْ يَنْفِرُونَ مِنْ هَذِهِ الْمَعَانِي كَمَا يَنْفِرُ الْمَرْضَى أَوِ الْمُخَدَّجُونَ مِنْ جَيِّدِ الْأَطْعِمَةِ الَّتِي لَا تَضُرُّهُمْ، وَقَدْ يَتَوَقَّفُ عَلَيْهَا قِوَامُ بِنْيَتِهِمْ، وَيَتَشَبَّثُونَ بِأَوْهَامٍ مَأْلُوفَةٍ لَهُمْ تَشَبُّثَ أُولَئِكَ الْمَرْضَى وَالْمُخَدَّجِينَ بِأَضَرِّ طَعَامٍ يُفْسِدُ الْأَجْسَامَ وَيَزِيدُ السَّقَامَ، لَا أَعْرِفُ مَا الَّذِي فَهِمُوهُ مِنْ لَفْظِ رُوحٍ أَوْ مَلَكٍ، وَمَا الَّذِي يَتَخَيَّلُونَهُ مِنْ مَفْهُومِ لَفْظِ قُوَّةٍ، أَلَيْسَ الرُّوحُ فِي الْآدَمِيِّ مَثَلًا هَذَا الَّذِي يَظْهَرُ لَنَا فِي أَفْرَادِ هَذَا النَّوْعِ بِالْعَقْلِ وَالْحِسِّ وَالْوِجْدَانِ وَالْإِرَادَةِ وَالْعَمَلِ، وَإِذَا سُلِبُوهُ سُلِبُوا مَا يُسَمَّى بِالْحَيَاةِ؟ أَوَلَيْسَتِ الْقُوَّةُ هِيَ مَا تَصْدُرُ عَنْهُ الْآثَارُ فِيمَنْ وُهِبَتْ لَهُ، فَإِذَا سُمِّيَ الرُّوحُ لِظُهُورِ أَثَرِهِ قُوَّةً، أَوْ سُمِّيَتِ الْقُوَّةُ لِخَفَاءِ حَقِيقَتِهَا رُوحًا فَهَلْ يَضُرُّ ذَلِكَ بِالدِّينِ أَوْ يَنْقُصُ مُعْتَقِدُهُ شَيْئًا مِنَ الْيَقِينِ؟ .
أَلَّا لَا يُسَمَّى الْإِيمَانُ إِيمَانًا حَتَّى يَكُونَ إِذْعَانًا، وَلَا يَكُونُ كَذَلِكَ حَتَّى يَسْتَسْلِمَ الْوِجْدَانُ وَتَخْشَعَ الْأَرْكَانُ لِذَلِكَ السُّلْطَانِ الَّذِي تَعَلَّقَ بِهِ الْإِيمَانُ، وَلَا يَكُونُ كَذَلِكَ حَتَّى يُلْقِيَ الْوَهْمُ سِلَاحَهُ وَيَبْلُغَ الْعَقْلُ فَلَاحَهُ، وَهَلْ يُسْتَكْمَلُ ذَلِكَ لِمَنْ لَا يَفْهَمُ مَا يُمْكِنُهُ فَهْمَهُ، وَلَا يَعْلَمُ مَا يَتَيَسَّرُ لَهُ عِلْمُهُ؟ كَلَّا إِنَّمَا يَعْرِفُ الْحَقُّ أَهْلَهُ وَلَا يَضِلُّ سُبُلَهُ، وَلَا يَعْرِفُ أَهْلَ الْغَفْلَةِ، لَوْ أَنَّ مِسْكِينًا مِنْ عَبَدَةِ الْأَلْفَاظِ مِنْ أَشَدِّهِمْ ذَكَاءً وَأَذْرَبِهِمْ لِسَانًا أَخَذَ بِمَا قِيلَ لَهُ: إِنَّ الْمَلَائِكَةَ أَجْسَامٌ نُورَانِيَّةٌ قَابِلَةٌ لِلتَّشَكُّلِ،
ثُمَّ تَطَلَّعَ عَقْلُهُ إِلَى أَنْ يَفْهَمَ مَعْنَى نُورَانِيَّةِ الْأَجْسَامِ، وَهَلِ النُّورُ وَحْدَهُ لَهُ قِوَامٌ يَكُونُ بِهِ شَخْصًا مُمْتَازًا بِدُونِ أَنْ يَقُومَ بِجِرْمٍ آخَرَ كَثِيفٍ ثُمَّ يَنْعَكِسُ عَنْهُ كَذُبَالَةِ الْمِصْبَاحِ أَوْ سِلْكِ الْكَهْرَبَاءِ، وَمَعْنَى قَابِلِيَّةِ التَّشَكُّلِ، وَهَلْ يُمْكِنُ لِلشَّيْءِ الْوَاحِدِ أَنْ يَتَقَلَّبَ فِي أَشْكَالٍ مِنَ الصُّوَرِ مُخْتَلِفَةٍ حَسْبَمَا يُرِيدُ وَكَيْفَ يَكُونُ ذَلِكَ، أَلَا يَقَعُ فِي حَيْرَةٍ؟ وَلَوْ سُئِلَ عَمَّا يَعْتَقِدُهُ مِنْ ذَلِكَ أَلَا يُحْدِثُ فِي لِسَانِهِ مِنَ الْعُقَدِ مَا لَا يَسْتَطِيعُ حَلَّهُ؟ أَلَيْسَ مِثْلُ هَذِهِ الْحَيْرَةِ يُعَدُّ شَكًّا؟ نَعَمْ لَيْسَتْ هَذِهِ الْحَيْرَةُ حَيْرَةَ مَنْ وَقَفَ دُونَ أَبْوَابِ الْغَيْبِ يَطْرِفُ لِمَا لَا يَسْتَطِيعُ النَّظَرَ إِلَيْهِ، لَكِنَّهَا حَيْرَةُ مَنْ أَخَذَ بِقَولٍ لَا يَفْهَمُهُ، وَكَلَّفَ نَفْسَهُ عِلْمَ مَا لَا تَعْلَمُهُ. فَلَا يُعَدُّ مِثْلُهُ مِمَّنْ آمَنَ بِالْمَلَائِكَةِ إِيمَانًا صَحِيحًا وَاطْمَأَنَّتْ بِإِيمَانِهِ نَفْسُهُ وَأَذْعَنَ لَهُ قَلْبُهُ، وَلَمْ يَبْقَ لِوَهْمِهِ سِلَاحٌ يُنَازِعُ بِهِ عَقْلَهُ، كَمَا هُوَ شَأْنُ صَاحِبِ الْإِيمَانِ الصَّحِيحِ.
فَلْيَرْجِعْ هَؤُلَاءِ إِلَى أَنْفُسِهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ الَّذِي وَقَرَ فِيهَا تَقَالِيدُ حُفَّتْ بِالْمَخَاوِفِ، لَا عُلُومٌ حُفَّتْ بِالسَّكِينَةِ وَالطُّمَأْنِينَةِ، هَؤُلَاءِ لَمْ يُشْرِقْ فِي نُفُوسِهِمْ ذَلِكَ السِّرُّ الَّذِي يُعَبَّرُ عَنْهُ بِالنُّورِ
الْإِلَهِيِّ وَالضِّيَاءِ الْمَلَكُوتِيِّ وَاللَّأْلَاءِ الْقُدُسِيِّ، أَوْ مَا يُمَاثِلُ ذَلِكَ مِنَ الْعِبَارَاتِ، لَمْ يَسْبِقْ لِنُفُوسِهِمْ عَهْدٌ بِمُلَاحَظَةِ جَانِبِ الْحَقِّ، وَلَمْ تَكْتَحِلْ أَعْيُنُ بَصَائِرِهِمْ بِنَظْرَةٍ إِلَى مَطْلَعِ الْوُجُودِ مِنْهُ عَلَى الْخَلْقِ، وَلَوْ عَلِمُوا أَنَّ الْعَالَمَ بِأَسْرِهِ فَانٍ فِي نَفْسِهِ، وَأَنْ لَيْسَ فِي الْكَوْنِ بَاقٍ كَانَ أَوْ يَكُونُ إِلَّا وَجْهُ الْكَرِيمِ، وَأَنَّ مَا كُشِفَ مِنَ الْكَوْنِ وَمَا لَطُفَ، وَمَا ظَهَرَ مِنْهُ وَمَا بَطَنَ إِنَّمَا هُوَ فَيْضٌ مِنْ جُودِهِ، وَنِسْبَةٌ إِلَى وُجُودِهِ، وَلَيْسَ الشَّرِيفُ مِنْهُ إِلَّا مَا أَعْلَى بِذِكْرِهِ مَنْزِلَتَهُ، وَلَا الْخَسِيسُ إِلَّا مَا بَيَّنَ لَنَا بِالنَّظَرِ إِلَى الْأَوَّلِ نِسْبَتَهُ، فَإِنَّ كُلَّ مَظْهَرٍ مِنْ مَظَاهِرِ الْوُجُودِ فِي نَفْسِهِ
وَاقِعٌ مَوْقِعَهُ، لَيْسَ شَيْءٌ أَعْلَى وَلَا أَحَطَّ مِنْهُ، فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ - وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ كَمَا قَدَّرَهُ - لَوْ عَرَفُوا ذَلِكَ كُلَّهُ لَأَطْلَقُوا لِأَنْفُسِهِمْ أَنْ تَجُولَ فِي تِلْكَ الشُّئُونِ حَتَّى تَصِلَ إِلَى مُسْتَقَرِّ الطُّمَأْنِينَةِ، حَيْثُ لَا يُنَازِعُ الْعَقْلَ شَيْءٌ مِنْ وَسَاوِسِ الْوَهْمِ وَلَا تَجِدُ طَائِفًا مِنَ الْخَوْفِ، ثُمَّ لَا يَتَحَرَّجُونَ مِنْ إِطْلَاقِ لَفْظٍ مَكَانَ لَفْظٍ.
هَذِهِ الْقُوَى الَّتِي نَرَى آثَارَهَا فِي كُلِّ شَيْءٍ يَقَعُ تَحْتَ حَوَاسِّنَا، وَقَدْ خَفِيَتْ حَقَائِقُهَا عَنَّا، وَلَمْ يَصِلْ أَدَقُّ الْبَاحِثِينَ فِي بَحْثِهِ عَنْهَا إِلَّا إِلَى آثَارٍ تَجِلُّ إِذَا كُشِفَتْ وَتَقِلُّ بَلْ تَضْمَحِلُّ إِذَا حُجِبَتْ، وَهِيَ الَّتِي يَدُورُ عَلَيْهَا كَمَالُ الْوُجُودِ وَبِهَا يَنْشَأُ النَّاشِئُ وَبِهَا يَنْتَهِي إِلَى غَايَتِهِ الْكَامِلُ، كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى نَبِيهٍ وَلَا خَامِلٍ، أَلَيْسَتْ أَشِعَّةً مِنْ ضِيَاءِ الْحَقِّ؟ أَلَيْسَتْ أَجَلَّ مَظْهَرٍ مِنْ مَظَاهِرِ سُلْطَانِهِ؟ أَلَّا تُعَدُّ بِنَفْسِهَا مِنْ عَالَمِ الْغَيْبِ وَإِنْ كَانَتْ آثَارُهَا مِنْ عَالَمِ الشَّهَادَةِ؟ أَلَا يَجُوزُ أَنْ يَشْعُرَ الشَّاعِرُ مِنْهَا بِضَرْبٍ مِنَ الْحَيَاةِ وَالِاخْتِيَارِ خَاصٍّ بِهَا لَا نُدْرِكُ كُنْهَهُ لِاحْتِجَابِهِ بِمَا نَتَصَوَّرُهُ مِنْ حَيَاتِنَا وَاخْتِيَارِنَا؟ أَلَا تَرَاهَا تُوَافِي بِأَسْرَارِهَا مَنْ يَنْظُرُ فِي آثَارِهَا وَيُوَفِّيهَا حَقَّ النَّظَرِ فِي نِظَامِهَا؟ يَسْتَكْثِرُ مِنَ الْخَيْرِ بِمَا يَقِفُ عَلَيْهِ مِنْ شُئُونِهَا، وَمَعْرِفَةِ الطَّرِيقِ إِلَى اسْتِدْرَارِ مَنَافِعِهَا؟ .
أَلَيْسَ الْوُجُودُ الْإِلَهِيُّ الْأَعْلَى مِنْ عَالَمِ الْغَيْبِ، وَآثَارُهُ فِي خَلْقِهِ مِنْ عَالَمِ الشَّهَادَةِ؟ أَلَيْسَ هُوَ الَّذِي وَهَبَ تِلْكَ الْقُوَى خَوَاصَّهَا وَقَدَّرَ لَهَا آثَارَهَا؟ لِمَ لَا نَقُولُ أَيُّهَا الْغَافِلُ: إِنَّهُ بِذَلِكَ وَهَبَهَا حَيَاتَهَا الْخَاصَّةَ بِهَا، وَلِمَ قَصَرْتَ مَعْنَى الْحَيَاةِ عَلَى مَا تَرَاهُ فِيكَ وَفِي حَيَوَانٍ مِثْلِكَ؟ !
مَعَ أَنَّكَ لَوْ سُئِلْتَ عَنْ هَذَا الَّذِي تَزْعُمُ أَنَّكَ فَهِمْتَهُ وَسَمَّيْتَهُ حَيَاةً لَمْ تَسْتَطِعْ لَهُ تَعْرِيفًا وَلَا لِفِعْلِهِ تَصْرِيفًا! لَا تَقُولُ كَمَا قَالَ اللهُ وَبِهِ نَقُولُ: (تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمِنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ)(17: 44) ؟
أَفَلَا تَزْعُمُ أَنَّ لِلَّهِ مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ وَمَلَائِكَةً فِي السَّمَاءِ؟ هَلْ عَرَفْتَ أَيْنَ تَسْكُنُ مَلَائِكَةُ الْأَرْضِ؟ وَهَلْ حَدَّدْتَ أَمْكِنَتَهَا وَرَسَمْتَ مَسَاكِنَهَا؟ وَهَلْ عَرَفْتَ أَيْنَ يَجْلِسُ مَنْ يَكُونُ مِنْهُمْ عَنْ يَمِينِكَ؟ وَمَنْ يَكُونُ عَنْ يَسَارِكَ؟ هَلْ تَرَى أَجْسَامَهُمُ النُّورَانِيَّةَ تُضِئُ لَكَ فِي الظَّلَامِ أَوْ تُؤْنِسُكَ إِذَا هَجَمَتْ عَلَيْكَ الْأَوْهَامُ؟ فَلَوْ رَكَنْتَ إِلَى أَنَّهَا قُوًى أَوْ أَرْوَاحٌ مُنْبَثَّةٌ فِيمَا حَوْلَكَ
وَمَا بَيْنَ يَدَيْكَ وَمَا خَلْفَكَ، وَأَنَّ اللهَ ذَكَرَهَا لَكَ بِمَا كَانَ يَعْرِفُهَا سَلَفُكَ، وَبِالْعِبَارَةِ الَّتِي تَلَقَّفْتَهَا عَنْهُمْ كَيْلَا يُوحِشَكَ بِمَا يُدْهِشُكَ، وَتَرَكَ لَكَ النَّظَرَ فِيمَا تَطْمَئِنُّ إِلَيْهِ نَفْسُكَ مِنْ وُجُوهٍ تَعْرِفُهَا، أَفَلَا يَكُونُ ذَلِكَ أَرْوَحُ لِنَفْسِكَ وَأَدْعَى إِلَى طُمَأْنِينَةِ عَقْلِكَ؟ أَفَلَا تَكُونُ قَدْ أَبْصَرْتَ شَيْئًا مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ وَوَقَفْتَ عَلَى سِرٍّ مِنْ أَسْرَارِ الْكِتَابِ؟ فَإِنْ لَمْ تَجِدْ فِي نَفْسِكَ اسْتِعْدَادًا لِقَبُولِ أَشِعَّةِ هَذِهِ الْحَقَائِقِ وَكُنْتَ مِمَّنْ يُؤْمِنُ بِالْغَيْبِ وَيُفَوِّضُ فِي إِدْرَاكِ الْحَقِيقَةِ وَيَقُولُ:(آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا) فَلَا تَرْمِ طُلَّابَ الْعِرْفَانِ بِالرَّيْبِ مَا دَامُوا يُصَدِّقُونَ بِالْكِتَابِ الَّذِي آمَنْتَ بِهِ، وَيُؤْمِنُونَ بِالرَّسُولِ الَّذِي صَدَّقْتَ بِرِسَالَتِهِ، وَهُمْ فِي إِيمَانِهِمْ أَعْلَى مِنْكَ كَعْبًا وَأَرْضَى مِنْكَ بِرَبِّهِمْ نَفْسًا، أَلَا إِنَّ مُؤْمِنًا لَوْ مَالَتْ نَفْسُهُ إِلَى فَهْمِ مَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ عَلَى النَّحْوِ الَّذِي يَطْمَئِنُّ إِلَيْهِ قَلْبُهُ كَمَا قُلْنَا كَانَ مِنْ دِينِهِ فِي ثِقَةٍ، وَمِنْ فَضْلِ رَبِّهِ فِي سَعَةٍ) اهـ.
هَذَا مَا كَتَبَهُ شَيْخُنَا فِي تَوْضِيحِ كَلَامِهِ فِي تَقْرِيبِ مَا يَفْهَمُهُ عُلَمَاءُ الْكَائِنَاتِ مِنْ لَفْظِ الْقُوَى إِلَى مَا يَفْهَمُهُ عُلَمَاءُ الشَّرْعِ مِنْ لَفْظِ الْمَلَائِكَةِ، وَلَا يَفْقَهُهُ مِنْ هَؤُلَاءِ إِلَّا مَنْ لَهُ إِلْمَامٌ بِمَا يَقُولُهُ أُولَئِكَ فِي الْقُوَى وَإِسْنَادِ كُلِّ أَحْدَاثِ الْكَائِنَاتِ وَتَطَوُّرَاتِهَا إِلَيْهَا مَعَ اعْتِرَافِهِمْ بِجَهْلِ كُنْهِهَا، وَإِلْمَامٌ أَيْضًا بِمَا كَانَ يَقُولُهُ قُدَمَاءُ الْيُونَانِ مِنْ أَنَّ لِكُلِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَوْجُودَاتِ إِلَهًا أَوْ رَبًّا مُدَبِّرًا هُوَ الْمُسَيِّرُ لِنِظَامِهِ، وَكُلُّ هَذِهِ الْأَرْبَابِ
خَاضِعَةٌ لِلرَّبِّ الْإِلَهِ الْأَكْبَرِ الَّذِي يَرْجِعُ إِلَيْهِ الْأَمْرُ كُلُّهُ، فَالْمَعْنَى الْعَامُّ عِنْدَ الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ هُوَ أَنَّ أَحْدَاثَ هَذَا الْعَالَمِ وَتَغَيُّرَاتِهَا وَتَطَوُّرَاتِهَا وَالنِّظَامَ فِيهَا كُلِّهَا لَا بُدَّ لَهُ مِنْ سَبَبٍ خَفِيٍّ غَيْرِ أَجْزَاءِ مَادَّتِهَا، فَالتَّعْبِيرُ عَنْ ذَلِكَ عِنْدَ الْمُتَقَدِّمِينَ قَدْ وَصَلَ إِلَيْنَا بِاصْطِلَاحَاتٍ تَدُلُّ عَلَى الشِّرْكِ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ، وَتَعْبِيرُ الْمَادِّيِّينَ الْمُتَأَخِّرِينَ يَدُلُّ عَلَى التَّعْطِيلِ، وَتَعْبِيرُ الْقُرْآنِ وَمَا ثَبَتَ فِي السُّنَّةِ هُوَ الَّذِي حَرَّرَ الْحَقِيقَةَ الَّتِي يُمْكِنُ إِذْعَانُ الْعُقَلَاءِ لَهَا وَهِيَ أَنَّ الْفَاعِلَ الْحَقِيقِيَّ وَاحِدٌ، وَأَنَّ نِظَامَ كُلِّ شَيْءٍ قَدْ نَاطَهُ سُبْحَانَهُ بِمَوْجُودَاتٍ رُوحِيَّةٍ خَفِيَّةٍ ذَاتِ قُوًى عَظِيمَةٍ جِدًّا سُمِّيَتِ الْمَلَائِكَةُ، فَالْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ يَقُولُ: إِنَّ التَّسْمِيَةَ وَحْدَهَا لَا تُعْطِي أَحَدًا عِلْمَ الْحَقِيقَةِ، وَإِنَّ مَنْ فَهِمَ الْحَقِيقَةَ لَا يَحْجُبُهَا عَنْهُ اخْتِلَافُ التَّسْمِيَةِ، وَأَرَادَ بِهَذَا أَنْ يَحْتَجَّ عَلَى الْمَادِّيِّينَ وَيُقْنِعَهُمْ بِصِحَّةِ مَا جَاءَ الْوَحْيُ مِنْ طَرِيقِ عِلْمِهِمُ الْمُسَلَّمِ عِنْدَهُمْ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِيمَا مَرَّ فِي صَفْحَةِ 223 فَأَنْكَرَهُ عَلَيْهِ عُبَّادُ الْأَلْفَاظِ وَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ مُرَادَهُ، وَهُوَ بِمِثْلِ هَذِهِ الْأَسَالِيبِ فِي الْإِقْنَاعِ بِحَقِّيَّةِ الدِّينِ كَانَ حُجَّةً لِلَّهِ فِي هَذَا الْعَصْرِ، حَتَّى قَالَ لَهُ أَحَدُ نَوَابِغِ رِجَالِ الْقَضَاءِ الْأَذْكِيَاءِ: إِنَّكَ بِتَفْسِيرِكَ لِلْقُرْآنِ بِالْبَيَانِ الَّذِي يَقْبَلُهُ الْعَقْلُ وَلَا يَأْبَاهُ الْعِلْمُ قَدْ قَطَعْتَ الطَّرِيقَ عَلَى الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُ قَدِ اقْتَرَبَ الْوَقْتُ الَّذِي يَهْدِمُونَ فِيهِ الدِّينَ وَيَسْتَرِيحُونَ مِنْ قُيُودِهِ وَجَهْلِ رِجَالِهِ وَجُمُودِهِمْ.
وَإِنَّنِي أَنَا قَدْ جَرَّبْتُ هَذِهِ الطَّرِيقَةَ الَّتِي اسْتَنْكَرُوهَا عَلَيْهِ فِي إِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَى بَعْضِ الْمُنْكِرِينَ لِوُجُودِ اللهِ - تَعَالَى - فَلَمْ يَسْتَطِيعُوا لَهَا دَحْضًا، ذَلِكَ بِأَنَّ عُلَمَاءَهُمْ إِنَّمَا يُنْكِرُونَ إِلَهَ
اللَّاهُوتِيِّينَ وَكَذَا إِلَهُ الْمُتَكَلِّمِينَ لَا إِلَهَ الْخَلِيقَةِ، فَإِذَا قُلْتُ لَهُمْ: هَلْ تَعْقِلُونَ أَنَّ هَذَا النِّظَامَ الدَّقِيقَ فِي كُلِّ نَوْعٍ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ وَوَحْدَةَ النِّظَامِ الْعَامِّ فِي مَجْمُوعِهَا كُلِّهَا قَدْ وُجِدُوا بِالْمُصَادَفَةِ وَلَيْسَ لَهُمَا مَصْدَرٌ وُجُودِيٌّ؟ يَقُولُونَ: لَا، بَلْ لَا بُدَّ لِذَلِكَ مِنْ مَصْدَرٍ لَكِنَّنَا نَجْهَلُ حَقِيقَتَهُ، حِينَئِذٍ. كُنْتُ أَقُولُ لَهُمْ: وَهَذَا أُسُّ عَقِيدَةِ الْإِسْلَامِ وَهُوَ أَنَّنَا نَجْهَلُ كُنْهَ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَإِنَّمَا نَعْرِفُهُ بِآثَارِهِ فِي خَلْقِهِ فَالْفَرْقُ بَيْنَنَا لَفْظِيٌّ.
ذَلِكَ - وَإِنَّ تَرْتِيبَ النَّظْمِ يَلْتَئِمُ مَعَ التَّأْوِيلِ الَّذِي أَوْرَدَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي السِّيَاقِ؛ فَإِنَّ هَذِهِ الْمَعَانِيَ الَّتِي وَرَدَتْ بِصِيغَةِ الْحِكَايَةِ وَبَرَزَتْ فِي صُورَةِ التَّمْثِيلِ جَاءَتْ عَقِبَ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا)(2: 29) وَبَقِيَ شَيْءٌ وَاحِدٌ لَمْ يُصَرِّحْ بِهِ
فِي الدَّرْسِ وَقَدْ سَبَقَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ، وَهُوَ أَنَّ كُلَّ قُوَّةٍ مِنْ قُوَى هَذِهِ الْأَرْضِ وَكُلَّ نَامُوسٍ مِنْ نَوَامِيسِ الطَّبِيعَةِ فِيهَا خُلِقَ خَاضِعًا لِلْإِنْسَانِ، وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ مُسْتَعِدًّا لِتَسْخِيرِهِ لِمَنْفَعَتِهِ إِلَّا قُوَّةَ الْإِغْرَاءِ بِالشَّرِّ، وَنَامُوسَ الْوَسْوَسَةِ بِالْإِغْرَاءِ الَّذِي يَجْذِبُ الْإِنْسَانَ دَائِمًا إِلَى شَرِّ طِبَاعِ الْحَيَوَانِ، وَيُعِيقُهُ عَنْ بُلُوغِ كَمَالِهِ الْإِنْسَانِيِّ، فَالظَّاهِرُ مِنَ الْآيَاتِ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَغْلِبُ هَذِهِ الْقُوَّةَ وَلَا يُخْضِعُهَا مَهْمَا ارْتَقَى وَكَمُلَ، وَقُصَارَى مَا يَصِلُ إِلَيْهِ الْكَامِلُونَ هُوَ الْحَذَرُ مِنْ دَسَائِسِ الْوَسْوَسَةِ وَالسَّلَامَةُ مِنْ سُوءِ عَاقِبَتِهَا بِأَلَّا يَكُونَ لَهَا سُلْطَانٌ عَلَى نَفْسِ الْكَامِلِ تَجْعَلُهُ مُسَخَّرًا لَهَا وَتَسْتَعْمِلُهُ بِالشُّرُورِ كَمَا قَالَ - تَعَالَى -:(إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ)(17: 65) وَقَالَ عز وجل: (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ)(7: 201) ثُمَّ زَادَ الْأُسْتَاذُ هُنَا قَوْلَهُ: (أَمَّا سُلْطَانُ تِلْكَ الْقُوَّةِ فِي الْفَنَاءِ وَقَطْعِ حَرَكَةِ الْوُجُودِ إِلَى الصُّعُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُ إِخْضَاعَهُ لِقُدْرَتِهِ مِنَ الْبَشَرِ كَامِلٌ، وَلَا يُقَاوِمُ نُفُوذَهُ عَامِلٌ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ لِلَّهِ وَحْدَهُ وَهَذَا حُكْمُهَا فِي الْكَائِنَاتِ، إِلَى أَنْ تَبَدَّلَ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ) فَنَسْأَلُ اللهَ - تَعَالَى - أَنْ يَجْعَلَنَا مِنْ أَهْلِ التَّقْوَى وَالْبَصِيرَةِ وَأَنْ يُعِيذَنَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ.
(وَقُلْنَا يَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ)
مُجْمَلُ الْآيَاتِ السَّابِقَةِ أَنَّ هَذَا الْعَالَمَ لَمَّا اسْتَعَدَّ لِوُجُودِ هَذَا النَّوْعِ الْإِنْسَانِيِّ، وَاقْتَضَتِ الْحِكْمَةُ الْإِلَهِيَّةُ إِيجَادَهُ وَاسْتِخْلَافَهُ فِي الْأَرْضِ آذَنَ اللهُ - تَعَالَى - الْأَرْوَاحَ الْمُنْبَثَّةَ فِي الْأَشْيَاءِ لِتَدْبِيرِهَا وَنِظَامِهَا بِذَلِكَ، وَأَنَّ تِلْكَ الْأَرْوَاحَ فَهِمَتْ مِنْ مَعْنَى كَوْنِ الْإِنْسَانِ خَلِيفَةً أَنَّهُ يُفْسِدُ النِّظَامَ وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ، حَتَّى أَعْلَمَهَا اللهُ - تَعَالَى - بِأَنَّ
عِلْمَهَا لَمْ يُحِطْ بِمَوَاقِعِ حِكْمَتِهِ وَلَا يَصِلْ إِلَى حَيْثُ يَصِلُ عِلْمُهُ - تَعَالَى -، ثُمَّ أَوْجَدَ آدَمَ وَفَضَّلَهُ بِتَعْلِيمِهِ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا، عَلَى أَنَّ كُلَّ صِنْفٍ مِنْ تِلْكَ الْأَرْوَاحِ لَا يَعْلَمُ إِلَّا طَائِفَةً مِنْهَا؛ وَلِذَلِكَ أَخْضَعَ لَهُ تِلْكَ الْأَرْوَاحَ إِلَّا رُوحًا وَاحِدًا هُوَ مَبْعَثُ الشَّرِّ وَمَصْدَرُ الْإِغْوَاءِ فَقَدْ أَبَى الْخُضُوعَ وَاسْتَكْبَرَ عَنِ السُّجُودِ لِمَا كَانَ فِي طَبِيعَتِهِ مِنَ الِاسْتِعْدَادِ لِذَلِكَ، وَالِاسْتِعْدَادُ فِي الشَّيْءِ إِنَّمَا يَظْهَرُ بِظُهُورِ مُتَعَلِّقِهِ، فَلَا يُقَالُ: إِذَا كَانَ لِكُلِّ رُوحٍ مِنْ هَذِهِ الْأَرْوَاحِ وَالْقُوَى الْغَيْبِيَّةِ عِلْمٌ مَحْدُودٌ فَكَيْفَ ظَهَرَ مِنَ الرُّوحِ الْإِبْلِيسِيِّ مَا لَمْ يُسْبَقْ لَهُ وَهُوَ مُخَالَفَةُ الْأَمْرِ بِالسُّجُودِ لِآدَمَ وَالتَّصَدِّي لِإِغْوَائِهِ؟ وَلَا يُقَالُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ كَانَ مُسْتَعِدًّا لِهَذَا الْعِصْيَانِ وَالْإِبَاءِ فَلَمَّا أُمِرَ عَصَى، وَلَمَّا وَجَدَ خَلْقًا مُسْتَعِدًّا لِلْوَسْوَسَةِ اتَّصَلَ بِهِ وَوَسْوَسَ إِلَيْهِ، كَمَا أَنَّ أَلْوَانَ وَرَقِ الشَّجَرِ وَالزُّهُورِ مَوْجُودَةٌ كَامِنَةٌ فِي الْبَذْرَةِ، وَلَكِنَّهَا لَا تَظْهَرُ إِلَّا عِنْدَ الِاسْتِعْدَادِ بِهَا بِبُلُوغِ الطَّوْرِ الْمَحْدُودِ مِنَ النُّمُوِّ.
وَمُجْمَلُ الْآيَاتِ اللَّاحِقَةِ: أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - أَمَرَ آدَمَ وَزَوْجَهُ بِسُكْنَى الْجَنَّةِ وَالتَّمَتُّعِ بِهَا، وَنَهَاهُمَا عَنِ الْأَكْلِ مِنْ شَجَرَةٍ مَخْصُوصَةٍ وَأَخْبَرَهُمَا أَنَّ قُرْبَهَا ظُلْمٌ، وَأَنَّ الشَّيْطَانَ أَزَلَّهُمَا عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ مِنَ النَّعِيمِ إِلَى ضِدِّهِ، ثُمَّ إِنَّ آدَمَ تَابَ إِلَى اللهِ مِنْ مَعْصِيَتِهِ فَقَبِلَهُ، ثُمَّ جَعَلَ سَعَادَةَ هَذَا النَّوْعِ بِاتِّبَاعِ هُدَى اللهِ وَشَقَاءَهُ بِتَرْكِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْآيَاتِ كُلَّهَا قَدْ سِيقَتْ لِلْاعْتِبَارِ بِبَيَانِ الْفِطْرَةِ الْإِلَهِيَّةِ الَّتِي فَطَرَ عَلَيْهَا الْمَلَائِكَةَ وَالْبَشَرَ، وَتَسْلِيَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَمَّا يُلَاقِي مِنَ الْإِنْكَارِ - وَتَقَدَّمَ وَجْهُ ذَلِكَ فِي الْآيَاتِ السَّابِقَةِ - وَأَمَّا وَجْهُهُ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ فَظَاهِرٌ، وَهُوَ أَنَّ الْمَعْصِيَةَ مِنْ شَأْنِ الْبَشَرِ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: فَلَا تَأْسَ يَا مُحَمَّدُ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ وَلَا تَبْخَعْ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهَا إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا (فَقَدْ كَانَ الضَّعْفُ فِي طِبَاعِهِمْ يَنْتَهِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَوَّلِ سَلَفٍ لَهُمْ تَغْلِبُ عَلَيْهِمُ الْوَسَاوِسُ، وَتَذْهَبُ بِصَبْرِهِمُ الدَّسَائِسُ، انْظُرْ مَا وَقَعَ لِآدَمَ وَمَا كَانَ مِنْهُ، وَسُنَّةُ اللهِ مَعَ ذَلِكَ لَا تَتَبَدَّلُ، فَقَدْ عُوقِبَ آدَمُ عَلَى خَطِيئَتِهِ بِإِهْبَاطِهِ مِمَّا كَانَ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ قَبِلَ تَوْبَتَهُ وَغَفَرَ هَفْوَتَهُ) فَالْمَعْصِيَةُ دَائِمًا مَجْلَبَةٌ لِلشَّقَاءِ، وَقَدِ اسْتَقَرَّ أَمْرُ الْبَشَرِ عَلَى أَنَّ سَعَادَتَهُمْ فِي اتِّبَاعِ الْهِدَايَةِ الْإِلَهِيَّةِ وَشَقَاءَهُمْ فِي الِانْحِرَافِ عَنْ سُبُلِهَا.
وَأَمَّا تَفْسِيرُ هَذِهِ الْآيَاتِ بِالتَّفْصِيلِ فَقَدِ اخْتَلَفَ عُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ
وَغَيْرِهِمْ فِي (الْجَنَّةِ) هَلْ هِيَ الْبُسْتَانُ أَوِ الْمَكَانُ الَّذِي تُظَلِّلُهُ الْأَشْجَارُ بِحَيْثُ يَسْتَتِرُ الدَّاخِلُ فِيهِ كَمَا يَفْهَمُهُ أَهْلُ اللُّغَةِ؟ أَمْ هِيَ الدَّارُ الْمَوْعُودُ بِهَا فِي الْآخِرَةِ؟ وَالْمُحَقِّقُونَ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ عَلَى الْأَوَّلِ.
قَالَ الْإِمَامُ أَبُو مَنْصُورٍ الْمَاتْرِيدِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ بِالتَّأْوِيلَاتِ: نَعْتَقِدُ أَنَّ هَذِهِ الْجَنَّةَ بُسْتَانٌ
مِنَ الْبَسَاتِينِ أَوْ غَيْضَةٌ مِنَ الْغِيَاضِ كَانَ آدَمُ وَزَوْجُهُ مُنَعَّمِينَ فِيهَا، وَلَيْسَ عَلَيْنَا تَعْيِينُهَا وَلَا الْبَحْثُ عَنْ مَكَانِهَا، وَهَذَا هُوَ مَذْهَبُ السَّلَفِ وَلَا دَلِيلَ لِمَنْ خَاضَ فِي تَعْيِينِ مَكَانِهَا مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَغَيْرِهِمْ.
وَبِهَذَا التَّفْسِيرِ تَنْحَلُّ إِشْكَالَاتٌ كَثِيرَةٌ وَهِيَ:
1 -
أَنَّ اللهَ خَلَقَ آدَمَ فِي الْأَرْضِ لِيَكُونَ هُوَ وَنَسْلُهُ خَلِيفَةً فِيهَا، فَالْخِلَافَةُ مَقْصُودَةٌ مِنْهُمْ بِالذَّاتِ فَلَا يَصِحُّ أَنْ تَكُونَ عُقُوبَةً عَارِضَةً.
2 -
أَنَّهُ لَمْ يُذْكَرْ أَنَّهُ بَعْدَ خَلْقِهِ فِي الْأَرْضِ عُرِجَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ وَلَوْ حَصَلَ لَذُكِرَ؛ لِأَنَّهُ أَمْرٌ عَظِيمٌ.
3 -
أَنَّ الْجَنَّةَ الْمَوْعُودَ بِهَا لَا يَدْخُلُهَا إِلَّا الْمُؤْمِنُونَ الْمُتَّقُونَ، فَكَيْفَ دَخَلَهَا الشَّيْطَانُ الْكَافِرُ الْمَلْعُونُ؟ .
4 -
أَنَّهَا لَيْسَتْ مَحَلًّا لِلتَّكْلِيفِ.
5 -
أَنَّهُ لَا يُمْنَعُ مَنْ فِيهَا مِنَ التَّمَتُّعِ مِمَّا يُرِيدُ مِنْهَا.
6 -
أَنَّهُ لَا يَقَعُ فِيهَا الْعِصْيَانُ.
وَبِالْجُمْلَةِ: إِنَّ الْأَوْصَافَ الَّتِي وُصِفَتْ بِهَا الْجَنَّةُ الْمَوْعُودُ بِهَا لَا تَنْطَبِقُ عَلَى مَا كَانَ فِي جَنَّةِ آدَمَ، وَمِنْهُ كَوْنُ عَطَائِهَا غَيْرَ مَجْذُوذٍ وَلَا مَقْطُوعٍ وَغَيْرُ ذَلِكَ.
(أَقُولُ) : وَقَدْ أَجَابَ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضِ هَذِهِ الْإِشْكَالَاتِ، وَلِكُلٍّ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ إِشْكَالَاتٌ وَأَجْوِبَةٌ أَطَالَ فِي بَيَانِهَا ابْنُ الْقَيِّمِ فِي (حَادِي الْأَرْوَاحِ) وَلَمْ يُرَجِّحْ شَيْئًا، وَلِذَلِكَ مَالَ بَعْضُهُمْ إِلَى الْوَقْفِ وَمَا اخْتَارَهُ شَيْخُنَا أَقْوَى، وَقَدْ قَالَ بِهِ أَبُو حَنِيفَةَ وَتَبِعَهُ أَبُو مَنْصُورٍ، وَقَدْ كَانَ ظَهَرَ لِي عِنْدَ كِتَابَةِ تَفْسِيرِ الْآيَاتِ شَيْءٌ آخَرُ لَمْ يَذْكُرْهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ وَلَمْ أَرَهُ فِي كُتُبِ التَّفْسِيرِ وَهُوَ أَنَّ الْقَوْلَ بِأَنَّ آدَمَ أُسْكِنَ جَنَّةَ الْآخِرَةِ يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ الْآخِرَةُ هِيَ الدَّارُ الْأُولَى وَالدُّنْيَا، فَتَكُونُ التَّسْمِيَةُ لِلدَّارَيْنِ غَيْرَ صَحِيحَةٍ، وَيُنَافِي أَيْضًا كَوْنَ الْجَنَّةِ دَارَ ثَوَابٍ يَدْخُلُهَا الْمُتَّقُونَ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ كَمَا وَرَدَ فِي الْآيَاتِ الْكَثِيرَةِ، وَقَدْ قَالَ - تَعَالَى -:(وَقُلْنَا يَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ) وَلَمْ يَقُلْ: (ادْخُلْ) وَلَوِ انْتَقَلَ مِنَ الْأَرْضِ الَّتِي خُلِقَ فِيهَا إِلَى الْجَنَّةِ لَقَالَ هَذَا أَوْ مَا بِمَعْنَاهُ مِمَّا يُشِيرُ إِلَى الِانْتِقَالِ، فَقَوْلُهُ:(اسْكُنْ) يُشِيرُ إِلَى أَنَّ الْخِلْقَةَ كَانَتْ فِي تِلْكَ الْجَنَّةِ أَوْ بِالْقُرْبِ مِنْهَا، وَقَوْلُهُ:(وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا) إِبَاحَةٌ لِلتَّمَتُّعِ بِتِلْكَ
الْجَنَّةِ وَالتَّنَعُّمِ بِمَا فِيهَا أَيْ كُلَا مِنْهَا أَكْلًا رَغَدًا وَاسِعًا هَنِيًّا مِنْ أَيِّ مَكَانٍ مِنْهَا إِلَّا شَيْئًا وَاحِدًا نَهَاهُمَا عَنْهُ بِقَوْلِهِ: (وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ) لِأَنْفُسِكُمَا بِالْوُقُوعِ فِيمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الْأَكْلِ مِنْهَا، وَلَمْ يُعَيِّنِ اللهُ - تَعَالَى - لَنَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَلَا نَقُولُ فِي تَعْيِينِهَا شَيْئًا، وَإِنَّمَا نَعْلَمُ أَنَّ ذَلِكَ لِحِكْمَةٍ اقْتَضَتْهُ، وَلَعَلَّ فِي خَاصِّيَّةِ تِلْكَ الشَّجَرَةِ مَا هُوَ سَبَبُ خُرُوجِهِمَا مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ،
وَرُبَّمَا كَانَ فِي الْأَكْلِ مِنْهَا ضَرَرٌ، أَوْ كَانَ النَّهْيُ ابْتِلَاءً وَامْتِحَانًا مِنْهُ - تَعَالَى - لِيَظْهَرَ بِهِ مَا فِي اسْتِعْدَادِ الْإِنْسَانِ مِنَ الْمَيْلِ إِلَى الْإِشْرَافِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَاخْتِبَارِهِ، وَإِنْ كَانَ فِي ذَلِكَ مَعْصِيَةٌ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا ضَرَرٌ.
قَالَ - تَعَالَى -: (فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا) أَيْ حَوَّلَهُمَا وَزَحْزَحَهُمَا عَنِ الْجَنَّةِ، أَوْ حَمَلَهُمَا عَلَى الزَّلَّةِ بِسَبَبِ الشَّجَرَةِ، وَقَرَأَ حَمْزَةُ:(فَأَزَالَهُمَا) وَالشَّيْطَانُ: إِبْلِيسُ الَّذِي لَمْ يَسْجُدْ وَلَمْ يَخْضَعْ، وَقَدْ وَسْوَسَ لَهُمَا بِمَا ذُكِرَ فِي سُورَتَيِ الْأَعْرَافِ وَطَهَ حَتَّى أَوْقَعَهُمَا فِي الزَّلَلِ وَحَمَلَهُمَا عَلَى الْأَكْلِ مِنَ الشَّجَرَةِ فَأَكَلَا (فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ) أَيْ مِنْ ذَلِكَ الْمَكَانِ أَوِ النَّعِيمِ الَّذِي كَانَا فِيهِ، فَكَانَ الذَّنْبُ مُتَّصِلًا بِالْعُقُوبَةِ اتِّصَالَ السَّبَبِ بِالْمُسَبِّبِ، ثُمَّ بَيَّنَ اللهُ - تَعَالَى - كَيْفِيَّةَ الْإِخْرَاجِ بِقَوْلِهِ:(وَقُلْنَا اهْبِطُوا) يَعْنِي آدَمَ وَزَوْجَهُ وَإِبْلِيسَ، فَلَا حَاجَةَ لِتَقْدِيرِ إِرَادَةِ ذُرِّيَّةِ آدَمَ بِالْجَمْعِ كَمَا فَعَلَ مُفَسِّرُنَا (الْجَلَالُ) فَإِنَّ الْعَدَاوَةَ فِي قَوْلِهِ عز وجل:(بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) تُنَافِي هَذَا التَّقْدِيرَ فَإِنَّ الْعَدَاوَةَ بَيْنَ الْإِنْسَانِ وَالشَّيْطَانِ لَا بَيْنَ الْإِنْسَانِ وَذُرِّيَّتِهِ. وَالْأَصْلُ فِي الْهُبُوطِ أَنْ يَكُونَ مِنْ مَكَانٍ عَالٍ إِلَى أَسْفَلَ مِنْهُ؛ وَلِذَلِكَ احْتَجَّ بِهِ مَنْ قَالَ: إِنَّ آدَمَ كَانَ فِي السَّمَاءِ، وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ فِي مُطْلَقِ الِانْتِقَالِ أَوْ مَعَ اعْتِبَارِ الْعُلُوِّ وَالسُّفْلِ فِي الْمَعْنَى، وَقَالَ الرَّاغِبُ: الْهُبُوطُ الِانْحِدَارُ عَلَى سَبِيلِ الْقَهْرِ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ تَكُونَ تِلْكَ الْجَنَّةُ فِي رَبْوَةٍ، فَسِمَةُ الْخُرُوجِ مِنْهَا هُبُوطًا، أَوْ سُمِّيَ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ مَا انْتَقَلُوا إِلَيْهِ دُونَ مَا كَانُوا فِيهِ، أَوْ هُوَ كَمَا يُقَالُ: هَبَطَ مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - لِبَنِي إِسْرَائِيلَ:(اهْبِطُوا مِصْرًا)(2: 61) .
ثُمَّ قَالَ - تَعَالَى -: (وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ) أَيْ إِنَّ اسْتِقْرَارَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَتَمَتُّعَكُمْ فِيهَا يَنْتَهِيَانِ إِلَى زَمَنٍ مَحْدُودٍ وَلَيْسَا بِدَائِمَيْنِ، فَفِي الْكَلَامِ فَائِدَتَانِ:
(إِحْدَاهُمَا) أَنَّ الْأَرْضَ مُمَهَّدَةٌ وَمُهَيَّأَةٌ لِلْمَعِيشَةِ فِيهَا وَالتَّمَتُّعِ بِهَا.
(وَالثَّانِيَةُ) أَنَّ طَبِيعَةَ الْحَيَاةِ فِيهَا تُنَافِي الْخُلُودَ وَالدَّوَامَ، فَلَيْسَ الْهُبُوطُ لِأَجْلِ الْإِبَادَةِ وَمَحْوِ الْآثَارِ، وَلَيْسَ لِلْخُلُودِ كَمَا زَعَمَ إِبْلِيسُ بِوَسْوَسَتِهِ إِذْ سَمَّى الشَّجَرَةَ الْمَنْهِيَّ عَنْهَا (شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى (20: 120) يَعْنِي أَنَّ اللهَ أَخْرَجَهُمْ مِنْ جَنَّةِ الرَّاحَةِ إِلَى أَرْضِ الْعَمَلِ لَا لِيُفْنِيَهُمْ، وَعَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ بِالِاسْتِقْرَارِ فِي الْأَرْضِ، وَلَا لِيُعَاقِبَهُمْ بِالْحِرْمَانِ مِنَ التَّمَتُّعِ بِخَيْرَاتِ الْأَرْضِ، وَعَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ بِالْمَتَاعِ، وَلَا لِيُمَتِّعَهُمْ بِالْخُلُودِ وَعَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ بِكَوْنِ الِاسْتِقْرَارِ وَالْمَتَاعِ إِلَى حِينٍ.
ثُمَّ قَالَ: (فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ) أَيْ أَلْهَمَهُ اللهُ إِيَّاهَا بِهَا وَهِيَ كَمَا فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ (رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ)(7: 23) تَابَ آدَمُ بِذَلِكَ وَأَنَابَ إِلَى رَبِّهِ (فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) أَيْ قَبِلَ تَوْبَتَهُ، وَعَادَ عَلَيْهِ بِفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ، وَبَيَّنَ سَبَبَ ذَلِكَ بِأَنَّهُ - تَعَالَى - هُوَ التَّوَّابُ؛ أَيِ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ كَثِيرًا، فَمَهْمَا يُذْنِبِ
الْعَبْدُ وَيَنْدَمْ وَيَتُبْ يَتُبِ الرَّبُّ عَلَيْهِ، وَبِأَنَّهُ هُوَ الرَّحِيمُ بِعِبَادِهِ مَهْمَا يُسِئْ أَحَدُهُمْ بِمَا هُوَ سَبَبٌ لِغَضَبِهِ - تَعَالَى - وَيَرْجِعْ إِلَيْهِ فَإِنَّهُ يَحُفُّهُ بِرَحْمَتِهِ. وَكُلُّ مَا وَرَدَ فِي هُبُوطِ آدَمَ وَحَوَّاءَ مِنْ تَعْيِينِ الْأَمْكِنَةِ فَهُوَ مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ الْبَاطِلَةِ.
وَبَقِيَ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِهَذَا التَّفْسِيرِ مَسْأَلَتَانِ قَدْ أَكْثَرَ النَّاسُ الْكَلَامَ فِيهِمَا وَهُمَا: مَسْأَلَةُ خَلْقِ حَوَّاءَ مِنْ ضِلْعٍ مِنْ أَضْلَاعِ آدَمَ، وَمَسْأَلَةُ عِصْمَةِ آدَمَ.
فَأَمَّا الْأُولَى فَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ نَصٌّ فِيهَا وَلَا يَلْزَمُنَا حَمْلُ قَوْلِهُ - تَعَالَى -: (وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا) عَلَى ذَلِكَ لِأَجْلِ مُطَابَقَةِ سِفْرِ التَّكْوِينِ، فَإِنَّ الْقِصَّةَ لَمْ تَرِدْ فِي الْقُرْآنِ كَمَا وَرَدَتْ فِي التَّوْرَاةِ الَّتِي فِي أَيْدِي أَهْلِ الْكِتَابِ - حِكَايَةً تَارِيخِيَّةً - وَإِنَّمَا جَاءَ الْقُرْآنُ بِمَوْضِعِ الْعِبْرَةِ فِي خَلْقِ آدَمَ وَاسْتِعْدَادِ الْكَوْنِ لِأَنْ يَتَكَمَّلَ بِهِ، وَكَوْنِهِ قَدْ أُعْطِيَ اسْتِعْدَادًا فِي الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ لَا نِهَايَةَ لَهُمَا لِيُظْهِرَ حُكْمَ اللهِ وَيُقِيمَ سُنَنَهُ فِي الْأَرْضِ فَيَكُونَ خَلِيفَةً لَهُ، وَكَوْنِهِ لَا يَسْلَمُ مِنْ دَاعِيَةِ الشَّرِّ وَالتَّأَثُّرِ بِالْوَسْوَسَةِ الَّتِي تَحْمِلُ عَلَى الْمَعْصِيَةِ، وَلِكَوْنِ التَّارِيخِ غَيْرَ مَقْصُودٍ لَهُ لِأَنَّ مَسَائِلَهُ مِنْ حَيْثُ هِيَ تَارِيخٌ لَيْسَتْ مِنْ مُهِمَّاتِ الدِّينِ مِنْ حَيْثُ هُوَ دِينٌ، وَإِنَّمَا يُنْظَرُ الدِّينُ مِنَ التَّارِيخِ إِلَى وَجْهِ الْعِبْرَةِ دُونَ غَيْرِهِ، لَمْ يُبَيَّنِ الزَّمَانُ وَالْمَكَانُ كَمَا بُيِّنَ فِي سِفْرِ التَّكْوِينِ، وَكَانَ بَيَانُهُمَا سَبَبًا لِرَفْضِ الْبَاحِثِينَ فِي الْكَوْنِ وَتَارِيخِ الْخَلِيقَةِ لِدِّينِ
النَّصْرَانِيَّةِ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ الْمَبْنِيَّ عَلَى الِاخْتِبَارِ وَالْمُشَاهَدَةِ أَظْهَرَ خَطَأَ مَا جَاءَ مِنَ التَّارِيخِ فِي التَّوْرَاةِ، وَوُجِدَتْ لِلْإِنْسَانِ آثَارٌ فِي الْأَرْضِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَقْدَمُ مِمَّا حَدَّدَتْهُ التَّوْرَاةُ فِي تَارِيخِ تَكْوِينِهِ، فَقَامَ فَرِيقٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ يَرْكَبُ التَّعَاسِيفَ فِي التَّأْوِيلِ، وَفَرِيقٌ يَكْفُرُ بِالْكِتَابِ وَالتَّنْزِيلِ.
(أَقُولُ) فَإِنْ قُلْتَ: إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الصَّحِيحَيْنِ فِي تَعْلِيلِ التَّوْصِيَةِ بِالنِّسَاءِ: ((فَإِنَّ الْمَرْأَةَ خُلِقَتْ مِنْ ضِلْعٍ)) قُلْنَا: إِنَّهُ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: (خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ)(21:37) كَمَا قَالُوا فِي شَرْحِهِ - وَسَيَأْتِي فِي تَفْسِيرِ الْقِصَّةِ مِنْ سُورَةِ الْأَعْرَافِ - وَلَمْ يَتَعَرَّضْ شَيْخُنَا فِي الدَّرْسِ لِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: (وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا) وَلَكِنَّهُ كَتَبَ بَعْدَ ذَلِكَ وَقَبْلُ مَا سَتَرَاهُ عَنْهُ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ النِّسَاءِ مَا نَصُّهُ:
(وَأَمَّا قَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي سُورَةِ النِّسَاءِ: (يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا)(4: 1) وَفِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا)(7: 189) فَقَدْ قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ الْمَعْنَى مِنْ جِنْسِهَا كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ الرُّومِ: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً)(30: 21) فَإِنَّ الْمَعْنَى هُنَاكَ عَلَى أَنَّهُ خَلَقَ أَزْوَاجًا مِنْ جِنْسِنَا، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُرَادَ أَنَّهُ خَلَقَ كُلَّ زَوْجَةٍ مَنْ بِدَنِ زَوْجِهَا كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ) .
(قَالَ) : وَأَمَّا عِصْمَةُ آدَمَ فَالْجَرْيُ عَلَى طَرِيقَةِ السَّلَفِ يَذْهَبُ بِنَا إِلَى أَنَّ الْعِصْيَانَ
وَالتَّوْبَةَ مِنَ الْمُتَشَابِهِ، كَسَائِرِ مَا وَرَدَ فِي الْقِصَّةِ مِمَّا لَا يَرْكَنُ الْعَقْلُ إِلَى ظَاهِرِهِ، وَلَنَا أَنْ نَقُولَ: إِنَّ تِلْكَ مُخَالَفَةٌ صَدَرَتْ مِنْهُ قَبْلَ أَنْ يُدْرِكَهُ عَزْمُ النُّبُوَّةِ كَمَا قَالَ جَلَّ شَأْنُهُ: (فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا)(20: 115) وَالِاتِّفَاقُ إِنَّمَا هُوَ عَلَى الْعِصْمَةِ عَنْ مُخَالَفَةِ الْأَوَامِرِ بَعْدَ النُّبُوَّةِ، وَقَدْ يَكُونُ الَّذِي وَقَعَ مِنْ آدَمَ نِسْيَانًا، فَسُمِّيَ تَفْخِيمًا لِأَمْرِهِ عِصْيَانًا، وَالنِّسْيَانُ وَالسَّهْوُ مِمَّا لَا يُنَافِي الْعِصْمَةَ، فَإِنْ جَعْلَنَا الْكَلَامَ كُلَّهُ تَمْثِيلًا فَحَدِيثُ الْإِخْلَالِ بِالْعِصْمَةِ مِمَّا لَا يَمُرُّ بِذِهْنِ الْعَاقِلِ.
وَأَمَّا تَفْسِيرُ الْآيَاتِ عَلَى طَرِيقَةِ الْخَلَفِ فِي التَّمْثِيلِ فَيُقَالُ فِيهِ: إِنَّ الْقُرْآنَ كَثِيرًا مَا يُصَوِّرُ الْمَعَانِيَ بِالتَّعْبِيرِ عَنْهَا بِصِيغَةِ السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ، أَوْ بِأُسْلُوبِ الْحِكَايَةِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْبَيَانِ وَالتَّأْثِيرِ، فَهُوَ يَدْعُو بِهَا الْأَذْهَانَ إِلَى مَا وَرَاءَهَا مِنَ الْمَعَانِي،
كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: (يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأَتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ)(50: 30) فَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - يَسْتَفْهِمُ مِنْهَا وَهِيَ تُجَاوِبُهُ، وَإِنَّمَا هُوَ تَمْثِيلٌ لِسَعَتِهَا وَكَوْنِهَا لَا تَضِيقُ بِالْمُجْرِمِينَ مَهْمَا كَثُرُوا، وَنَحْوُهُ قَوْلُهُ عز وجل بَعْدَ ذِكْرِ الِاسْتِوَاءِ إِلَى خَلْقِ السَّمَاءِ:(فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ)(41: 11) وَالْمَعْنَى فِي التَّمْثِيلِ الظَّاهِرِ.
(أَقُولُ) : وَهَذَا الْأَمْرُ يُسَمَّى أَمْرَ التَّكْوِينِ، وَيُقَابِلُهُ أَمْرُ التَّشْرِيعِ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ أَمْرَ التَّكْوِينِ لِلتَّعْبِيرِ عَنْهُ فِي التَّنْزِيلِ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى -:(إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)(36: 82) فَهُوَ تَصْوِيرٌ لِتَعَلُّقِ إِرَادَةِ الرُّبُوبِيَّةِ بِالْإِيجَادِ، وَلَا أَذْكُرُ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ الْمُتَّبِعِينَ لِلْأَثَرِ تَصْرِيحًا بِأَنَّ الْأَوَامِرَ فِي قِصَّةِ آدَمَ مِنْ أَمْرِ التَّكْوِينِ إِلَّا لِلْحَافِظِ ابْنِ كَثِيرٍ فَإِنَّهُ ذَهَبَ فِي تَفْسِيرِ (قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا) مِنْ سُورَةِ الْأَعْرَافِ إِلَى أَنَّ الْأَمْرَ فِيهِ أَمْرٌ قَدَرِيٌّ كَوْنِيٌّ، وَمِثْلُهُ مَا فِي مَعْنَاهُ مِنْ قِصَّةِ آدَمَ وَمِنَ الْآيَاتِ الْأُخْرَى مِنْ مُخَاطَبَةِ إِبْلِيسَ لِلرَّبِّ وَجَوَابِهَا فِي شَأْنِ إِغْوَائِهِ لِلْبَشَرِ وَإِنْظَارِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
(قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ مَا مِثَالُهُ) : وَتَقْرِيرُ التَّمْثِيلِ فِي الْقِصَّةِ عَلَى هَذَا الْمَذْهَبِ هَكَذَا: إِنَّ إِخْبَارَ اللهِ الْمَلَائِكَةَ بِجَعْلِ الْإِنْسَانِ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ تَهْيِئَةِ الْأَرْضِ وَقُوَى هَذَا الْعَالَمِ وَأَرْوَاحِهِ الَّتِي بِهَا قِوَامُهُ وَنِظَامُهُ لِوُجُودِ نَوْعٍ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ يَتَصَرَّفُ فِيهَا فَيَكُونُ بِهِ كَمَالُ الْوُجُودِ فِي هَذِهِ الْأَرْضِ، وَسُؤَالِ الْمَلَائِكَةِ عَنْ جَعْلِ خَلِيفَةٍ يُفْسِدُ فِي الْأَرْضِ؛ لِأَنَّهُ يَعْمَلُ بِاخْتِيَارِهِ وَيُعْطِي اسْتِعْدَادًا فِي الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ لَا حَدَّ لَهُمَا، هُوَ تَصْوِيرٌ لِمَا فِي اسْتِعْدَادِ الْإِنْسَانِ لِذَلِكَ وَتَمْهِيدٌ لِبَيَانِ أَنَّهُ لَا يُنَافِي خِلَافَتَهُ فِي الْأَرْضِ، وَتَعْلِيمُ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا بَيَانٌ لِاسْتِعْدَادِ الْإِنْسَانِ لِعِلْمِ كُلِّ شَيْءٍ فِي هَذِهِ الْأَرْضِ وَانْتِفَاعِهِ بِهِ فِي اسْتِعْمَارِهَا، وَعَرْضُ الْأَسْمَاءِ عَلَى الْمَلَائِكَةِ وَسُؤَالُهُمْ عَنْهَا وَتَنَصُّلُهُمْ فِي الْجَوَابِ تَصْوِيرٌ لِكَوْنِ الشُّعُورِ الَّذِي يُصَاحِبُ كُلَّ رُوحٍ مِنَ الْأَرْوَاحِ الْمُدَبِّرَةِ لِلْعَوَالِمِ مَحْدُودًا لَا يَتَعَدَّى وَظِيفَتَهُ، وَسُجُودُ الْمَلَائِكَةِ لِآدَمَ عِبَارَةٌ عَنْ تَسْخِيرِ هَذِهِ الْأَرْوَاحِ وَالْقُوَى لَهُ يَنْتَفِعُ بِهَا فِي تَرْقِيَةِ الْكَوْنِ بِمَعْرِفَةِ سُنَنِ اللهِ - تَعَالَى - فِي ذَلِكَ، وَإِبَاءُ إِبْلِيسَ وَاسْتِكْبَارُهُ
عَنِ السُّجُودِ تَمْثِيلٌ لِعَجْزِ الْإِنْسَانِ عَنْ إِخْضَاعِ رُوحِ الشَّرِّ وَإِبْطَالِ دَاعِيَةِ خَوَاطِرِ السُّوءِ الَّتِي هِيَ مَثَارُ التَّنَازُعِ وَالتَّخَاصُمِ، وَالتَّعَدِّي وَالْإِفْسَادِ فِي الْأَرْضِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَجَاءَ عَلَى الْإِنْسَانِ زَمَنٌ يَكُونُ فِيهِ
أَفْرَادُهُ كَالْمَلَائِكَةِ بَلْ أَعْظَمَ، أَوْ يَخْرُجُونَ عَنْ كَوْنِهِمْ مِنْ هَذَا النَّوْعِ الْبَشَرِيِّ.
هَذَا مُلَخَّصٌ مَا تَقَدَّمَ فِي سَابِقِ آيَاتِ الْقِصَّةِ.
وَأَمَّا التَّمْثِيلُ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ مِنْهَا فَيَصِحُّ عَلَيْهِ أَنْ يُرَادَ بِالْجَنَّةِ الرَّاحَةُ وَالنَّعِيمُ، فَإِنَّ مِنْ شَأْنِ الْإِنْسَانِ أَنْ يَجِدَ فِي الْجَنَّةِ - الَّتِي هِيَ الْحَدِيقَةُ ذَاتُ الشَّجَرِ الْمُلْتَفِّ - مَا يَلَذُّ لَهُ مِنْ مَرْئِيٍّ وَمَأْكُولٍ وَمَشْرُوبٍ وَمَشْمُومٍ وَمَسْمُوعٍ، فِي ظِلٍّ ظَلِيلٍ، وَهَوَاءٍ عَلِيلٍ، وَمَاءٍ سَلْسَبِيلٍ، كَمَا قَالَ - تَعَالَى - فِي الْقِصَّةِ مِنْ سُورَةِ طَهَ:(إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى)(20: 118 - 119) وَيَصِحُّ أَنْ يُعَبَّرَ عَنِ السَّعَادَةِ بِالْكَوْنِ فِي الْجَنَّةِ وَهُوَ مُسْتَعْمَلٌ، وَيَصِحُّ أَنْ يُرَادَ بِآدَمَ نَوْعُ الْإِنْسَانِ كَمَا يُطْلَقُ اسْمُ أَبِي الْقَبِيلَةِ الْأَكْبَرِ عَلَى الْقَبِيلَةِ، فَيُقَالُ: كَلْبٌ فَعَلَتْ كَذَا وَيُرَادُ قَبِيلَةُ كَلْبٍ، وَكَانَ مِنْ قُرَيْشٍ كَذَا. يَعْنِي الْقَبِيلَةَ الَّتِي أَبُوهَا قُرَيْشٌ، وَفِي كَلَامِ الْعَرَبِ كَثِيرٌ مِنْ هَذَا.
وَيَصِحُّ أَنْ يُرَادَ بِالشَّجَرَةِ مَعْنَى الشَّرِّ وَالْمُخَالَفَةِ كَمَا عَبَّرَ اللهُ - تَعَالَى - فِي مَقَامِ التَّمْثِيلِ عَنِ الْكَلِمَةِ الطَّيِّبَةِ بِالشَّجَرَةِ الطَّيِّبَةِ، وَفُسِّرَتْ بِكَلِمَةِ التَّوْحِيدِ، وَعَنِ الْكَلِمَةِ الْخَبِيثَةِ بِالشَّجَرَةِ الْخَبِيثَةِ، وَفُسِّرَتْ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ، وَفِي الْحَدِيثِ تَشْبِيهُ الْمُؤْمِنِ بِشَجَرَةِ النَّخْلِ، وَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْأَمْرِ بِسُكْنَى الْجَنَّةِ وَبِالْهُبُوطِ مِنْهَا أَمْرَ التَّكْوِينِ، فَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْأَمْرَ الْإِلَهِيَّ قِسْمَانِ: أَمْرُ تَكْوِينٍ وَأَمْرُ تَكْلِيفٍ.
وَالْمَعْنَى عَلَى هَذَا: أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - كَوَّنَ النَّوْعَ الْبَشَرِيَّ عَلَى مَا نُشَاهِدُ فِي الْأَطْوَارِ التَّدْرِيجِيَّةِ الَّتِي قَالَ سُبْحَانَهُ: (وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا)(71: 14) فَأَوَّلُهَا طَوْرُ الطُّفُولِيَّةِ وَهِيَ لَا هَمَّ فِيهَا وَلَا كَدَرٌ، وَإِنَّمَا هِيَ لَعِبٌ وَلَهْوٌ، كَأَنَّ الطِّفْلَ دَائِمًا فِي جَنَّةٍ مُلْتَفَّةِ الْأَشْجَارِ، يَانِعَةِ الثِّمَارِ جَارِيَةِ الْأَنْهَارِ، مُتَنَاغِيَةِ الْأَطْيَارِ، وَهَذَا مَعْنَى (اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ) وَذِكْرُ الزَّوْجَةِ مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ بِآدَمَ النَّوْعُ الْآدَمِيُّ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى الشُّمُولِ وَعَلَى أَنَّ اسْتِعْدَادَ الْمَرْأَةِ كَاسْتِعْدَادِ الرَّجُلِ فِي جَمِيعِ الشُّئُونِ الْبَشَرِيَّةِ، فَأَمْرُ آدَمَ وَحَوَّاءَ بِالسُّكْنَى أَمْرُ تَكْوِينٍ، أَيْ أَنَّهُ - تَعَالَى - خَلَقَ الْبَشَرَ ذُكُورًا وَإِنَاثًا هَكَذَا.
وَأَمْرُهُمَا
بِالْأَكْلِ حَيْثُ شَاءَا عِبَارَةٌ عَنْ إِبَاحَةِ الطَّيِّبَاتِ وَإِلْهَامِ مَعْرِفَةِ الْخَيْرِ، وَالنَّهْيُ عَنِ الشَّجَرَةِ عِبَارَةٌ عَنْ إِلْهَامِ مَعْرِفَةِ الشَّرِّ، وَأَنَّ الْفِطْرَةَ تَهْدِي إِلَى قُبْحِهِ وَوُجُوبِ اجْتِنَابِهِ، وَهَذَانَ
الْإِلْهَامَانِ اللَّذَانِ يَكُونَانِ لِلْإِنْسَانِ فِي الطَّوْرِ الثَّانِي وَهُوَ طَوْرُ التَّمْيِيزِ هُمَا الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: (وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ)(90: 10) وَوَسْوَسَةُ الشَّيْطَانِ وَإِزْلَالُهُ لَهُمَا عِبَارَةٌ عَنْ وَظِيفَةِ تِلْكَ الرُّوحِ الْخَبِيثَةِ الَّتِي تُلَابِسُ النُّفُوسَ الْبَشَرِيَّةَ فَتُقَوِّي فِيهَا دَاعِيَةَ الشَّرِّ، أَيْ إِنَّ إِلْهَامَ التَّقْوَى وَالْخَيْرِ أَقْوَى فِي فِطْرَةِ الْإِنْسَانِ أَوْ هُوَ الْأَصْلُ؛ وَلِذَلِكَ لَا يَفْعَلُ الشَّرَّ إِلَّا بِمُلَابَسَةِ الشَّيْطَانِ لَهُ وَوَسْوَسَتِهِ إِلَيْهِ، وَالْخُرُوجُ مِنَ الْجَنَّةِ مِثَالٌ لِمَا يُلَاقِيهِ الْإِنْسَانُ مِنَ الْبَلَاءِ وَالْعَنَاءِ بِالْخُرُوجِ عَنِ الِاعْتِدَالِ الْفِطْرِيِّ.
وَأَمَّا تَلَقِّي آدَمَ الْكَلِمَاتِ وَتَوْبَتُهُ، فَهُوَ بَيَانٌ لِمَا عُرِفَ فِي الْفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ مِنَ الِاعْتِبَارِ بِالْعُقُوبَاتِ الَّتِي تَعْقُبُ الْأَفْعَالَ السَّيِّئَةَ، وَرُجُوعِهِ إِلَى اللهِ - تَعَالَى - عِنْدَ الضِّيقِ وَالْتِجَائِهِ إِلَيْهِ فِي الشِّدَّةِ، وَتَوْبَةُ اللهِ - تَعَالَى - عَلَيْهِ عِبَارَةٌ عَنْ هِدَايَتِهِ إِيَّاهُ إِلَى الْمَخْرَجِ مِنَ الضِّيقِ، وَالتَّفَلُّتِ مِنْ شَرَكِ الْبَلَاءِ، بَعْدَ ذَلِكَ الِاعْتِبَارِ وَالِالْتِجَاءِ، وَذِكْرُ تَوْبَةِ اللهِ عَلَى الْإِنْسَانِ تَرُدُّ مَا عَلَيْهِ النَّصَارَى مِنِ اعْتِقَادٍ أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - قَدْ سَجَّلَ مَعْصِيَةَ آدَمَ عَلَيْهِ وَعَلَى بَنِيهِ إِلَى أَنْ يَأْتِيَ عِيسَى وَيُخَلِّصَهُمْ مِنْهَا وَهُوَ اعْتِقَادٌ تَنْبِذُهُ الْفِطْرَةُ، وَيَرُدُّهُ الْوَحْيُ الْمُحْكَمُ الْمُتَوَاتِرُ.
فَحَاصِلُ الْقَوْلِ: أَنَّ الْأَطْوَارَ الْفِطْرِيَّةَ لِلْبَشَرِ ثَلَاثَةٌ، طَوْرُ الطُّفُولِيَّةِ: وَهُوَ طَوْرُ نَعِيمٍ وَرَاحَةٍ، وَطَوْرُ التَّمْيِيزِ النَّاقِصِ: وَفِيهِ يَكُونُ الْإِنْسَانُ عُرْضَةً لِاتِّبَاعِ الْهَوَى بِوَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ، وَطَوْرُ الرُّشْدِ وَالِاسْتِوَاءِ: وَهُوَ الَّذِي يَعْتَبِرُ فِيهِ بِنَتَائِجِ الْحَوَادِثِ، وَيَلْتَجِئُ فِيهِ عِنْدَ الشِّدَّةِ إِلَى الْقُوَّةِ الْغَيْبِيَّةِ الْعُلْيَا الَّتِي مِنْهَا كُلُّ شَيْءٍ، وَإِلَيْهَا يَرْجِعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ، فَهَكَذَا كَانَ الْإِنْسَانُ فِي أَفْرَادِهِ مِثَالًا لِلْإِنْسَانِ فِي مَجْمُوعِهِ.
(قَالَ الْأُسْتَاذُ) : كَأَنَّ تَدَرُّجَ الْإِنْسَانِ فِي حَيَاتِهِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ ابْتَدَأَ سَاذَجًا سَلِيمَ الْفِطْرَةِ، قَوِيمَ الْوِجْهَةِ، مُقْتَصِرًا فِي طَلَبِ حَاجَاتِهِ عَلَى الْقَصْدِ وَالْعَدْلِ، مُتَعَاوِنًا عَلَى دَفْعِ مَا عَسَاهُ يُصِيبُهُ مِنْ مُزْعِجَاتِ الْكَوْنِ، وَهَذَا هُوَ الْعَصْرُ الَّذِي يَذْكُرُهُ جَمِيعُ طَوَائِفِ الْبَشَرِ وَيُسَمُّونَهُ بِالذَّهَبِيِّ.
ثُمَّ لَمْ يَكْفِهِ هَذَا النَّعِيمُ الْمُرَفِّهُ فَمَدَّ بَعْضُ أَفْرَادِهِ أَيْدِيَهُمْ إِلَى تَنَاوُلِ مَا لَيْسَ لَهُمْ، طَاعَةً لِلشَّهْوَةِ، وَمَيْلًا مَعَ خَيَالِ اللَّذَّةِ، وَتَنَبَّهَ مِنْ ذَلِكَ مَا كَانَ نَائِمًا فِي نُفُوسِ سَائِرِهِمْ فَثَارَ النِّزَاعُ، وَعَظُمَ الْخِلَافُ، وَاسْتُنْزِلَ الشَّقَاءُ، وَهَذَا هُوَ الطَّوْرُ الثَّانِي وَهُوَ مَعْرُوفٌ فِي تَارِيخِ الْأُمَمِ.
ثُمَّ جَاءَ الطَّوْرُ الثَّالِثِ: وَهُوَ طَوْرُ الْعَقْلِ وَالتَّدَبُّرِ، وَوَزْنِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ بِمِيزَانِ النَّظَرِ وَالْفِكْرِ، وَتَحْدِيدُ حُدُودِ الْأَعْمَالِ تَنْتَهِي إِلَيْهَا نَزَعَاتُ الشَّهَوَاتِ، وَيَقِفُ عِنْدَهَا سَيْرُ الرَّغَبَاتِ، وَهُوَ طَوْرُ التَّوْبَةِ وَالْهِدَايَةِ إِنْ شَاءَ اللهُ.
(وَأَقُولُ الْآنَ) : إِنَّ تَوْبَةَ آدَمَ عليه السلام بِنَاءً عَلَى تَفْسِيرِ الْقِصَّةِ بِحَمْلِ الْكَلَامِ عَلَى
الْحَقِيقَةِ قَدْ كَانَتْ بِالرُّجُوعِ إِلَى اللهِ وَاعْتِرَافِهِ مَعَ حَوَّاءَ بِظُلْمِهِمَا لِأَنْفُسِهِمَا وَطَلَبِهِمَا الْمَغْفِرَةَ وَالرَّحْمَةَ مِنْهُ - تَعَالَى -، لَا بِمُجَرَّدِ تَدَبُّرِ الْعَقْلِ وَوَزْنِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ بِمِيزَانِ الْفِكْرِ. . . إِلَخْ، مَا قَالَهُ شَيْخُنَا هُنَا تَبَعًا لِبَعْضِ عُلَمَاءِ الِاجْتِمَاعِ مِنَ الْمُؤَرِّخِينَ، وَقَدْ بَيَّنَ هُوَ فِي بَحْثِ الْحَاجَةِ إِلَى الرِّسَالَةِ - مِنْ رِسَالَةِ التَّوْحِيدِ -: أَنَّ عَقْلَ الْبَشَرِ لَا يَسْتَقِلُّ بِوَضْعِ حُدُودِ لِلْأَعْمَالِ تَنْتَهِي إِلَيْهَا نَزَعَاتُ الشَّهَوَاتِ، وَيَقِفُ عِنْدَهَا سَيْرُ الْأَهْوَاءِ وَالرَّغَبَاتِ، بَلْ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ تَشْرِيعٍ إِلَهِيٍّ لِذَلِكَ، وَلَكِنَّهُ أَوْجَزَ هُنَا فَتَرَكَ الْمَسْأَلَةَ مُبْهَمَةً مُظْلِمَةً، وَإِنَّنَا نَرَى أَنَّ طَوْرَ الْعَقْلِ وَالْفِكْرِ قَدْ بَلَغَ فِي هَذَا الْعَصْرِ مُرْتَقًى لَمْ يُعْرَفْ فِي التَّارِيخِ مَا يُقَارِبُهُ، وَوَضَعَ عُلَمَاؤُهُ وَحُكَمَاؤُهُ شَرَائِعَ وَقَوَانِينَ لِإِيقَافِ التَّنَازُعِ وَالتَّخَاصُمِ عِنْدَ حَدٍّ لَا يَتَفَاقَمُ شَرُّهُ، ثُمَّ نَرَى أَعْلَمَ هَذِهِ الْأُمَمِ وَدُوَلَهَا مَبْعَثَ الشُّرُورِ وَالشَّقَاوَةِ، وَالْخُبْثِ وَالرِّيَاءِ، وَالْحُرُوبِ وَالْفِتَنِ، فَلَا هِدَايَةَ إِلَّا هِدَايَةُ الدِّينِ الْإِلَهِيِّ الَّذِي تُذْعِنُ لَهُ الْأَنْفُسُ بِمَحْضِ الْعُبُودِيَّةِ لِلَّهِ - تَعَالَى.
(قَالَ) : وَبَقِيَ طَوْرٌ آخَرُ أَعْلَى مِنْ هَذِهِ الْأَطْوَارِ، وَهُوَ مُنْتَهَى الْكَمَالِ وَأَعْنِي بِهِ طَوْرَ الدِّينِ الْإِلَهِيِّ وَالْوَحْيِ السَّمَاوِيِّ الَّذِي بِهِ كَمَالُ الْهِدَايَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ. فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -:
(قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)
أَمَرَهُمُ اللهُ - تَعَالَى - بِالْهُبُوطِ مَرَّتَيْنِ، فَالْأُولَى: بَيَانٌ لِحَالِهِمْ فِي أَنْفُسِهِمْ بَعْدَ الْهُبُوطِ مِنْ تِلْكَ الْجَنَّةِ أَوِ الْخُرُوجِ مِنْ ذَلِكَ الطَّوْرِ وَهُوَ أَنَّ حَالَهُمْ تَقْتَضِي الْعَدَاوَةَ وَالِاسْتِقْرَارَ فِي الْأَرْضِ وَالتَّمَتُّعَ بِهَا، وَعَدَمَ الْخُلُودِ فِيهَا.
وَالثَّانِيَةُ: بَيَانٌ لِحَالِهِمْ مِنْ حَيْثُ الطَّاعَةِ
وَالْمَعْصِيَةِ وَآثَارِهِمَا، وَهِيَ أَنَّ حَالَةَ الْإِنْسَانِ فِي هَذَا الطَّوْرِ لَا تَكُونُ عِصْيَانًا مُسْتَمِرًّا شَامِلًا، وَلَا تَكُونُ هُدًى وَاجْتِبَاءً عَامًّا - كَمَا كَانَ يُفْهَمُ لَوِ اقْتُصِرَ عَلَى ذِكْرِ تَوْبَةِ اللهِ عَلَى آدَمَ وَهِدَايَتِهِ وَاجْتِبَائِهِ - وَإِنَّمَا الْأَمْرُ مَوْكُولٌ إِلَى اجْتِهَادِ الْإِنْسَانِ وَسَعْيِهِ، وَمِنْ رَحْمَةِ اللهِ - تَعَالَى - بِهِ أَنْ يَجْعَلَ فِي بَعْضِ أَفْرَادِهِ الْوَحْيَ وَيُعْلِمَهُمْ طُرُقُ الْهِدَايَةِ، فَمَنْ سَلَكَهَا فَازَ وَسَعِدَ، وَمَنْ تَنَكَّبَهَا خَسِرَ وَشَقِيَ، هَذَا هُوَ السِّرُّ فِي إِعَادَةِ ذِكْرِ الْهُبُوطِ لَا أَنَّهُ أُعِيدَ لِلتَّأْكِيدِ كَمَا زَعَمُوا.
قَالَ - تَعَالَى -: (قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا) أَيْ فَقَدِ انْتَهَى طَوْرُ النَّعِيمِ الْخَالِصِ وَالرَّاحَةِ الْعَامَّةِ وَادْخُلُوا فِي طَوْرٍ لَكُمْ فِيهِ طَرِيقَانِ: هُدًى وَضَلَالٌ، إِيمَانٌ وَكُفْرَانٌ، فَلَاحٌ وَخُسْرَانٌ (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى) مِنْ رَسُولٍ مُرْشِدٍ وَكِتَابٍ مُبِينٍ (فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ) الَّذِي أَشْرَعُهُ، وَسَلَكَ صِرَاطِي الْمُسْتَقِيمَ الَّذِي أُحَدِّدُهُ (فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) مِنْ وَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ، وَلَا مِمَّا يَعْقُبُهَا مِنَ الشَّقَاءِ وَالْخُسْرَانِ (وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) عَلَى فَوْتِ مَطْلُوبٍ أَوْ فَقْدِ مَحْبُوبٍ؛ لِأَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ بِهَذِهِ الْهِدَايَةِ أَنَّ الصَّبْرَ وَالتَّسْلِيمَ مِمَّا يُرْضِي اللهَ - تَعَالَى - وَيُوجِبُ مَثُوبَتَهُ، وَيَفْتَحُ لِلْإِنْسَانِ بَابَ الِاعْتِبَارِ بِالْحَوَادِثِ، وَيُقَوِّيهِ عَلَى مُصَارَعَةِ الْكَوَارِثِ، فَيَكُونُ لَهُ مِنْ ذَلِكَ خَيْرَ عِوَضٍ عَمَّا فَاتَهُ وَأَفْضَلَ تَعْزِيَةٍ عَمَّا فَقَدَهُ.
(قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ مَا مِثَالُهُ) : الْخَوْفُ عِبَارَةٌ عَنْ تَأَلُّمِ الْإِنْسَانِ مِنْ تَوَقُّعِ مَكْرُوهٍ يُصِيبُهُ، أَوْ تُوقِعِ حِرْمَانٍ مِنْ مَحْبُوبٍ يَتَمَتَّعُ بِهِ أَوْ يَطْلُبُهُ، وَالْحُزْنُ أَلَمٌ يُلِمُّ بِالْإِنْسَانِ إِذَا فَقَدَ مَا يُحِبُّ، وَقَدْ أَعْطَانَا اللهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ الطُّمَأْنِينَةَ التَّامَّةَ فِي مُقَابَلَةِ مَا تُحْدِثُهُ كَلِمَةُ (اهْبِطُوا) مِنَ الْخَوْفِ مِنْ سُوءِ الْمُنْقَلَبِ، وَمَا تُثِيرُهُ مِنْ كَوَامِنَ الرُّعْبِ، فَالْمُهْتَدُونَ بِهِدَايَةِ اللهِ - تَعَالَى - لَا يَخَافُونَ مِمَّا هُوَ آتٍ، وَلَا يَحْزَنُونَ عَلَى مَا فَاتَ؛ لِأَنَّ اتِّبَاعَ الْهُدَى يُسَهِّلُ عَلَيْهِمْ طَرِيقَ اكْتِسَابِ الْخَيْرَاتِ، وَيَعُدُّهُمْ لِسَعَادَةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمَنْ كَانَتْ هَذِهِ وِجْهَتَهُ، يَسْهُلُ عَلَيْهِ كُلُّ مَا يَسْتَقْبِلُهُ، وَيَهُونُ عَلَيْهِ كُلُّ مَا أَصَابَهُ أَوْ فَقَدَهُ؛ لِأَنَّهُ مُوقِنٌ بِأَنَّ اللهَ يُخْلِفُهُ فَيَكُونُ كَالتَّعَبِ فِي الْكَسْبِ لَا يَلْبَثُ أَنْ يَزُولَ بِلَذَّةِ الرِّبْحِ الَّذِي يَقَعُ أَوْ يُتَوَقَّعُ.
وَإِذَا قَالَ قَائِلٌ: إِنَّ الدِّينَ يُقَيِّدُ حُرِّيَّةَ الْإِنْسَانِ وَيَمْنَعُهُ بَعْضَ اللَّذَّاتِ الَّتِي يَقْدِرُ عَلَى التَّمَتُّعِ بِهَا، وَيُحْزِنُهُ الْحِرْمَانُ مِنْهَا، فَكَيْفَ يَكُونُ هُوَ الْمَأْمَنُ مِنَ الْأَحْزَانِ، وَيَكُونُ بِاتِّبَاعِهِ الْفَوْزُ وَبِتَرْكِهِ الْخُسْرَانُ؟ فَجَوَابُهُ: إِنَّ الدِّينَ لَا يَمْنَعُ مِنْ لَذَّةٍ إِلَّا إِذَا كَانَ فِي إِصَابَتِهَا ضَرَرٌ عَلَى مُصِيبِهَا، أَوْ عَلَى أَحَدِ إِخْوَانِهِ مِنْ أَبْنَاءِ جِنْسِهِ الَّذِينَ يَفُوتُهُ مِنْ مَنَافِعِ تَعَاوُنِهِمْ - إِذَا آذَاهُمْ - أَكْثَرُ مِمَّا يَنَالُهُ بِالتَّلَذُّذِ بِإِيذَائِهِمْ، وَلَوْ تَمَثَّلَتْ لِمُسْتَحِلِّ اللَّذَّةِ الْمُحَرَّمَةِ مَضَارُّهَا الَّتِي تُعْقُبُهَا فِي نَفْسِهِ وَفِي النَّاسِ، وَتَصَوَّرَ مَالَهَا مِنَ التَّأْثِيرِ فِي فَسَادِ الْعُمْرَانِ لَوْ كَانَتْ عَامَّةً، وَكَانَ صَحِيحَ الْعَقْلِ مُعْتَدِلَ الْفِطْرَةِ لَرَجَعَ عَنْهَا مُتَمَثِّلًا بِقَوْلِ الشَّاعِرِ:
لَا خَيْرَ فِي لَذَّةٍ مِنْ بَعْدِهَا كَدَرُ
فَكَيْفَ إِذَا كَانَ مَعَ ذَلِكَ يُؤْمِنُ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَيَعْلَمُ أَنَّ هَذِهِ الْمُحَرَّمَاتِ تُدَنِّسُ الرُّوحَ فَلَا تَكُونُ أَهْلًا لِدَارِ الْكَرَامَةِ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ!
(قَالَ الْأُسْتَاذُ: وَلَيْسَتْ سَعَادَةُ الْإِنْسَانِ فِي حُرِّيَّةِ الْبَهَائِمِ بَلْ فِي الْحُرِّيَّةِ الَّتِي تَكُونُ فِي دَائِرَةِ الشَّرْعِ وَمُحِيطِهِ، فَمَنِ اتَّبَعَ هِدَايَةَ اللهِ فَلَا شَكَّ أَنَّهُ يَتَمَتَّعُ تَمَتُّعًا حَسَنًا، وَيَتَلَقَّى بِالصَّبْرِ كُلَّ مَا أَصَابَهُ، وَبِالطُّمَأْنِينَةِ مَا يَتَوَقَّعُ أَنْ يُصِيبَهُ فَلَا يَخَافُ وَلَا يَحْزَنُ.
يُرِيدُ: أَنَّ رَجَاءَ الْإِنْسَانِ فِيمَا وَرَاءَ الطَّبِيعَةِ هُوَ الَّذِي يَقِيهِ مِنْ تَحَكُّمِ عَوَادِي الطَّبِيعَةِ فِيهِ، وَبِدُونِ ذَلِكَ الرَّجَاءِ تَتَحَكَّمُ فِيهِ أَشَدَّ مِمَّا تَتَحَكَّمُ فِي الْبَهَائِمِ الَّتِي هِيَ أَقْوَى مِنْهُ طَبِيعَةً (وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا) (4: 28) فَالْتِمَاسُ السَّعَادَةِ بِحَرِيَّةِ الْبَهَائِمِ هُوَ الشَّقَاءُ اللَّازِمُ، وَقَدْ صَرَّحَ بِلَفْظِ التَّمَتُّعِ الْحَسَنِ أَخْذًا مِنْ قَوْلِهِ - تَعَالَى -:(وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ)(11: 3) الْآيَةِ، فَالْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى أَنَّ سَعَادَةَ الدُّنْيَا مَعْلُولَةٌ لِلْاهْتِدَاءِ بِالدِّينِ كَثِيرَةٌ جِدًّا، وَقَدْ حَجَبَهَا عَنْ كَثِيرٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ قَوْلُهُمْ فِي الْكَافِرِينَ: لَهُمُ الدُّنْيَا وَلَنَا الْآخِرَةُ، يُغَالِطُونَ أَنْفُسَهُمْ بِحُجَّةِ الْقُرْآنِ عَلَيْهِمْ، وَآيَاتُ سُورَةِ طَهَ فِي قِصَّةِ آدَمَ أَوْضَحُ فِي الْمُرَادِ مِنْ آيَاتِ الْبَقَرَةِ، وَهِيَ قَوْلُهُ عز وجل:(قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى)(20: 123 - 124) الْآيَاتِ.
قَالَ - تَعَالَى -: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا)(أَقُولُ) : الْآيَاتُ جَمْعُ آيَةٍ وَهِيَ
كَمَا قَالَ الْجُمْهُورُ: الْعَلَامَةُ الظَّاهِرَةُ، قَالَ الرَّاغِبُ: وَحَقِيقَتُهُ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ ظَاهِرٍ مُلَازِمٌ لِشَيْءٍ بَاطِنٍ يُعْرَفُ بِهِ، وَيُدْرَكُ بِإِدْرَاكِهِ حِسِّيًّا كَانَ كَأَعْلَامِ الطُّرُقِ وَمَنَارِ السُّفُنِ، أَوْ عَقْلِيًّا كَالدَّلَائِلِ الْمُؤَلَّفَةِ مِنْ مُقَدِّمَاتٍ وَنَتِيجَةٍ اهـ بِالْمَعْنَى (قَالَ) : وَاشْتِقَاقُ الْآيَةِ إِمَّا مِنْ أَيْ فَإِنَّهَا هِيَ الَّتِي تُبَيِّنُ أَيًّا مِنْ أَيْ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا مُشْتَقَّةٌ مِنَ التَّأَيِّي الَّذِي هُوَ التَّثَبُّتُ وَالْإِقَامَةُ عَلَى الشَّيْءِ اهـ. أَقُولُ: بَلْ أَصْلُهُ قَصْدُ آيَةِ الشَّيْءِ أَيْ شَخْصِهِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
تَتَأَيَّا الطَّيْرُ غُدْوَتَهُ
…
ثِقَةً بِالشِّبَعِ مِنْ جُزُرِهِ
أَيْ تَتَحَرَّى الطَّيْرُ وَتَقْصِدُ خُرُوجَهُ صَبَاحًا إِلَى الْقِتَالِ أَوِ الصَّيْدِ لِثِقَتِهَا بِمَا سَبَقَ مِنَ التَّجَارِبِ بِأَنْ تَسْتَشْبِعَ مِمَّا يَتْرُكُ لَهَا مِنَ الْفَرَائِسِ.
وَأُطْلِقَتِ الْآيَةُ عَلَى كُلِّ قِسْمٍ مِنَ الْأَقْسَامِ الَّتِي تَتَأَلَّفُ مِنْهَا سُوَرُ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ وَتَفْصِلُهُ مِنْ غَيْرِهِ فَاصِلَةٌ يَقِفُ الْقَارِئُ عِنْدَهَا فِي تِلَاوَتِهِ، وَيُمَيِّزُهَا الْكَاتِبُ لَهُ بِبَيَاضٍ أَوْ بِنُقْطَةٍ دَائِرَةٍ أَوْ ذَاتِ نَقْشٍ أَوْ بِالْعَدَدِ، وَالْعُمْدَةُ فِي مَعْرِفَةِ الْآيَاتِ بِفَوَاصِلِهَا التَّوْقِيفُ الْمَأْثُورُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرُهَا يُدْرَكُ مِنَ النَّظْمِ، وَالْآيَاتُ تُطْلَقُ فِي الْقُرْآنِ عَلَى هَذِهِ، وَهِيَ الْآيَاتُ الْمُنَزَّلَةُ مِنْ عِنْدِ اللهِ - تَعَالَى -؛ لِأَنَّهَا دَلَائِلٌ لَفْظِيَّةٌ عَلَى الْعَقَائِدِ وَالْحِكَمِ وَالْأَحْكَامُ وَالْآدَابِ
الَّتِي شَرَعَهَا لِعِبَادِهِ، كَمَا تَدُلُّ فِي جُمْلَتِهَا عَلَى كَوْنِهَا مِنْ عِنْدِ اللهِ - تَعَالَى - لِاشْتِمَالِهَا عَلَى مَا تَقْدَّمَ بَيَانُهُ مِنْ وُجُوهِ إِعْجَازِ الْبَشَرِ عَنْ مِثْلِهَا، وَتُطْلَقُ أَيْضًا عَلَى كُلِّ مَا يَدُلُّ عَلَى وُجُودِ الْخَالِقِ - تَعَالَى - وَقُدْرَتِهِ وَوَحْدَانِيَّتِهِ وَصِفَاتِ كَمَالِهِ مِنْ هَذِهِ الْمَخْلُوقَاتِ، وَمِنْ نَتَائِجِ الْعُقُولِ وَبَرَاهِينِهَا، أَوْ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ السُّنَنِ وَالْعِبَرِ.
وَهَذِهِ الْآيَةُ مُقَابِلُ قَوْلِهِ قَبْلَهُ: (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ) . . . إِلَخْ، أَيْ وَأَمَّا الَّذِينَ لَمْ يَتَّبِعُوا هُدَايَ، وَهُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِنَا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا الْمُبَيِّنَةِ لِسَبِيلِ ذَلِكَ الْهُدَى - كَمَا قَالَ قَبْلَ قِصَّةِ آدَمَ:(كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ)(2: 28) - أَوْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا اعْتِقَادًا، وَكَذَّبُوا بِهَا لِسَانًا، فَجَزَاؤُهُمْ مَا يَأْتِي، وَالتَّكْذِيبُ كُفْرٌ سَوَاءٌ أَكَانَ عَنِ اعْتِقَادٍ بِعَدَمِ صِدْقِ الرَّسُولِ أَمْ مَعَ اعْتِقَادِ صِدْقِهِ وَهُوَ تَكْذِيبُ الْجُحُودِ وَالْعِنَادِ الَّذِي قَالَ اللهُ لِرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم فِي أَهْلِهِ:(فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللهِ يَجْحَدُونَ)(6: 33) كَمَا أَنَّ الْكُفْرَ الْقَلْبِيَّ قَدْ يُوجَدُ مَعَ تَصْدِيقِ اللِّسَانِ كَمَا هِيَ حَالُ الْمُنَافِقِينَ، وَالْمَعْنَى كَمَا قَرَّرَهُ شَيْخُنَا بِالِاخْتِصَارِ: وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا
الَّتِي نَجْعَلُهَا دَلَائِلَ الْهِدَايَةِ وَحُجَجَ الْإِرْشَادِ بِأَنْ جَحَدُوا بِهَا وَأَنْكَرُوهَا، وَلَمْ يُذْعِنُوا لِصِدْقِهَا اتِّبَاعًا لِخُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ، وَعَمَلًا بِوَسْوَسَتِهِ وَذَهَابًا مَعَ إِغْوَائِهِ - (أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الْخُلُودِ فِي آخِرِ (الْآيَةِ 25) وَأَقُولُ: إِنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ عَلَى الْحَصْرِ أَوِ الِاخْتِصَاصِ الْإِضَافِيِّ، أَيْ أُولَئِكَ الْكَافِرُونَ الْمُكَذِّبُونَ الْبُعَدَاءُ هُمْ - دُونَ مُتَّبِعِي هُدَايَ - أَصْحَابُ النَّارِ وَأَهْلُهَا هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ لَا يَظْعَنُونَ عَنْهَا، أَيْ هُمْ فِي خَوْفٍ قَاهِرٍ، وَحُزْنٍ مُسَاوِرٍ، وَقَدْ فَسَّرَ (الْجَلَالُ) الْآيَاتِ بِالْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ، وَهُوَ يَصِحُّ فِي الْقُرْآنِ، فَإِنَّهُ آيَةٌ عَلَى نَفْسِهِ، وَعَلَى صِدْقِ مَنْ جَاءَ بِهِ، وَسَائِرُ الْكُتُبِ تَحْتَاجُ إِلَى آيَةٍ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا مِنْ عِنْدِ اللهِ - تَعَالَى.
(قَالَ الْأُسْتَاذُ) : بَعْدَ تَفْسِيرِ الْكُفْرِ بِالْجُحُودِ، وَالتَّكْذِيبِ بِالْإِنْكَارِ: وَكُلٌّ مِنْهُمَا يَأْتِي فِي فِرَقٍ مِنَ النَّاسِ، فَمِنْهُمْ مَنْ لَا تَقْوَى وَلَا إِيمَانَ لَهُ؛ وَهُمُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ لِأَنَّهُ لَيْسَ عِنْدَهُمْ أَصْلٌ لِلنَّظَرِ فِيمَا جَاءَهُمْ، فَهَؤُلَاءِ مُنْكِرُونَ وَهُمْ مُكَذِّبُونَ؛ لِأَنَّ التَّكْذِيبَ يَشْمَلُ عَدَمَ الِاعْتِقَادِ بِصِدْقِ الدَّعْوَى الَّتِي جَاءَ بِهَا الرَّسُولُ وَاعْتِقَادَ كَذِبِهَا، وَالْجُحُودُ قَدْ يَأْتِي مِنَ الْمُعْتَقِدِ، قَالَ - تَعَالَى -:(وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ)(27: 14) .
فَهَذَا هُوَ الطَّوْرُ الْأَخِيرُ لِلْإِنْسَانِ بَعْدَ مَا وُكِلَ إِلَى كَسْبِهِ، وَجُعِلَ فَلَاحُهُ وَخُسْرَانُهُ بِعَمَلِهِ؛ فَمِنْ لُطْفِ اللهِ بِهِ أَنْ أَيَّدَهُ بِهِدَايَةِ الدِّينِ بَعْدَ هِدَايَةِ الْحِسِّ وَالْوِجْدَانِ وَالْعَقْلِ، فَبِهَذِهِ الْهِدَايَاتِ يَرْتَقِي بِالتَّدْرِيجِ مَا شَاءَ اللهُ - تَعَالَى.
(يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ)
لَا يَزَالُ الْكَلَامُ فِي الْكِتَابِ وَكَوْنِهِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَبَيَانِ أَحْوَالِ النَّاسِ وَأَصْنَافِهِمْ فِي أَمْرِهِ، وَقَدْ قُلْنَا: إِنَّ التَّفَنُّنَ فِي مَسَائِلَ مُخْتَلِفَةٍ مُنْتَظِمَةٍ فِي سِلْكِ مَوْضُوعٍ وَاحِدٍ هُوَ مِنْ أَنْوَاعِ بَلَاغَةِ الْقُرْآنِ وَخَصَائِصِهِ الْمُدْهِشَةِ الَّتِي لَمْ تَسْبِقُ لِبَلِيغٍ، وَلَنْ يَبْلُغَ شَأْوَهُ فِيهَا بَلِيغٌ، ذَكَرَ الْكِتَابَ أَنَّهُ لَا رَيْبَ فِيهِ، ثُمَّ ذَكَرَ اخْتِلَافَ النَّاسِ فِيهِ فَابْتَدَأَ بِالْمُسْتَعِدِّينَ لِلْإِيمَانِ بِهِ الْمُنْتَظِرِينَ لِلْهُدَى الَّذِي يُضِئُ نُورُهُ مِنْهُ، وَثَنَّى بِالْمُؤْمِنِينَ، وَثَلَّثَ بِالْكَافِرِينَ، وَقَفَّى عَلَيْهِمْ بِالْمُنَافِقِينَ، ثُمَّ ضَرَبَ الْأَمْثَالَ لِفِرَقِ الصِّنْفِ الرَّابِعِ، ثُمَّ طَالَبَ النَّاسَ كُلَّهُمْ بِعِبَادَتِهِ، ثُمَّ أَقَامَ الْبُرْهَانَ عَلَى كَوْنِ الْكِتَابِ مُنَزَّلًا مِنَ اللهِ عَلَى عَبْدِهِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللهُ - تَعَالَى - عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَتَحَدَّى الْمُرْتَابِينَ بِمَا أَعْجَزَهُمْ، ثُمَّ حَذَّرَ وَأَنْذَرَ، وَبَشَّرَ وَوَعَدَ، ثُمَّ ذَكَرَ الْمَثَلَ وَالْقُدْوَةَ وَهُوَ الرَّسُولُ، وَذَكَرَ اخْتِلَافَ النَّاسِ فِيهِ كَمَا ذَكَرَ اخْتِلَافَهُمْ فِي الْكِتَابِ، ثُمَّ حَاجَّ الْكَافِرِينَ، وَجَاءَهُمْ بِأَنْصَعِ الْبَرَاهِينِ، وَهُوَ إِحْيَاؤُهُمْ مَرَّتَيْنِ وَإِمَاتَتُهُمْ مَرَّتَيْنِ، وَخَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لِمَنَافِعِهِمْ، ثُمَّ ذَكَرَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ وَبَيَّنَ أَطْوَارَهُ، ثُمَّ طَفِقَ يُخَاطِبُ الْأُمَمَ وَالشُّعُوبَ الْمَوْجُودَةَ فِي الْبِلَادِ الَّتِي ظَهَرَتْ فِيهَا النُّبُوَّةُ تَفْصِيلًا، فَبَدَأَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ بِذِكْرِ الْيَهُودِ لِلْمَعْنَى الَّذِي نَذْكُرُهُ، وَالْكَلَامُ لَمْ يَخْرُجْ بِهَذَا التَّنْوِيعِ عَنِ انْتِظَامِهِ فِي سِلْكِهِ، وَحُسْنِ اتِّسَاقِهِ فِي سَبْكِهِ، فَهُوَ دَائِرٌ عَلَى قُطْبٍ وَاحِدٍ فِي فَلَكِهِ، وَهُوَ الْكِتَابُ، وَالْمُرْسَلُ بِهِ، وَحَالُهُ مَعَ الْمُرْسَلِ إِلَيْهِمْ، قَالَ - تَعَالَى -:
(يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ)(أَقُولُ) : إِسْرَائِيلُ لَقَبُ نَبِيِّ اللهِ يَعْقُوبَ ابْنِ نَبِيِّهِ إِسْحَاقَ ابْنِ نَبِيِّهِ وَخَلِيلِهِ إِبْرَاهِيمَ (عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ) قِيلَ: مَعْنَاهُ الْأَمِيرُ الْمُجَاهِدُ مَعَ اللهِ. وَالْمُرَادُ بِبَنِيهِ ذُرِّيَّتُهُ مِنْ أَسْبَاطِهِ الِاثْنَيْ عَشَرَ، وَأُطْلِقَ عَلَيْهِمْ لَقَبُهُ فِي كُتُبِهِمْ وَتَوَارِيخِهِمْ، كَمَا تُسَمِّي الْعَرَبُ الْقَبِيلَةَ كُلَّهَا بِاسْمِ جَدِّهَا الْأَعْلَى. وَلَمَّا كَانَتْ سُورَةُ الْبَقَرَةِ أَوَّلَ السُّوَرِ الْمَدَنِيَّةِ الطُّوَلِ، وَكَانَ جُلُّ يَهُودِ بِلَادِ الْعَرَبِ فِي جِوَارِهَا دَعَاهُمُ اللهُ - تَعَالَى - فِيهَا إِلَى الْإِسْلَامِ، وَأَقَامَ
عَلَيْهِمُ الْحُجَجَ وَالْبَرَاهِينَ وَبَيَّنَ لَهُمْ مِنْ حَقِيقَةِ دِينِهِمْ وَتَارِيخِ سَلَفِهِمْ مَا لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُهُ أَحَدٌ مِنْ قَوْمِهِ الْمُجَاوِرِينَ لَهُمْ، فَضْلًا عَنْ أَهْلِ وَطَنِهِ بِمَكَّةَ الْمُكَرَّمَةِ. قَالَ شَيْخُنَا فِي سِيَاقِ دَرْسِهِ مَا مِثَالُهُ: ((اخْتَصَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِالْخِطَابِ اهْتِمَامًا بِهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ أَقْدَمُ الشُّعُوبِ الْحَامِلَةِ لِلْكُتُبِ
السَّمَاوِيَّةِ وَالْمُؤْمِنَةِ بِالْأَنْبِيَاءِ الْمَعْرُوفِينَ؛ وَلِأَنَّهُمْ كَانُوا أَشَدَّ النَّاسِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ؛ وَلِأَنَّ فِي دُخُولِهِمْ فِي الْإِسْلَامِ مِنَ الْحُجَّةِ عَلَى النَّصَارَى وَغَيْرِهِمْ أَقْوَى مِمَّا فِي دُخُولِ النَّصَارَى مِنَ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ، وَهَذِهِ النِّعْمَةُ الَّتِي أَطْلَقَهَا فِي التَّذْكِيرِ لِعِظَمِ شَأْنِهَا هِيَ نِعْمَةُ جَعْلِ النُّبُوَّةِ فِيهِمْ زَمَنًا طَوِيلًا (أَوْ أَعَمُّ) وَلِذَلِكَ كَانُوا يُسَمَّوْنَ شَعْبَ اللهِ كَمَا فِي كُتُبِهِمْ، وَفِي الْقُرْآنِ إِنَّ اللهَ اصْطَفَاهُمْ وَفَضَّلَهُمْ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذِهِ الْمَنْقَبَةَ نِعْمَةٌ عَظِيمَةٌ مِنَ اللهِ مَنَحَهُمْ إِيَّاهَا بِفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ فَكَانُوا بِهَا مُفَضَّلِينَ عَلَى الْعَالَمِينَ مِنَ الْأُمَمِ وَالشُّعُوبِ، وَكَانَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِمْ أَنْ يَكُونُوا أَكْثَرَ النَّاسِ لِلَّهِ شُكْرًا، وَأَشَدَّهُمْ لِنِعْمَتِهِ ذِكْرًا، وَذَلِكَ بِأَنْ يُؤْمِنُوا بِكُلِّ نَبِيٍّ يُرْسِلُهُ لِهِدَايَتِهِمْ، وَلَكِنَّهُمْ جَعَلُوا النِّعْمَةَ حُجَّةَ الْإِعْرَاضِ عَنِ الْإِيمَانِ، وَسَبَبَ إِيذَاءِ النَّبِيِّ عليه السلام؛ لِأَنَّهُمْ زَعَمُوا أَنَّ فَضْلَ اللهِ - تَعَالَى - مَحْصُورٌ فِيهِمْ، وَأَنَّهُ لَا يَبْعَثُ نَبِيًّا إِلَّا مِنْهُمْ؛ وَلِذَلِكَ بَدَأَ اللهُ - تَعَالَى - خِطَابَهُمْ بِالتَّذْكِيرِ بِنِعْمَتِهِ، وَقَفَّى عَلَيْهِ بِالْأَمْرِ بِالْوَفَاءِ بَعْدَهُ، فَقَالَ:
(وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ) عَهْدُ اللهِ - تَعَالَى - إِلَيْهِمْ يُعْرَفُ مِنَ الْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَهُ إِلَيْهِمْ، فَقَدْ عَهِدَ إِلَيْهِمْ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَأَنْ يُؤْمِنُوا بِرُسُلِهِ مَتَى قَامَتِ الْأَدِلَّةُ عَلَى صِدْقِهِمْ، وَأَنْ يَخْضَعُوا لِأَحْكَامِهِ وَشَرَائِعِهِ، وَعَهِدَ إِلَيْهِمْ أَنْ يُرْسِلَ إِلَيْهِمْ نَبِيًّا مِنْ بَنِي إِخْوَتِهِمْ؛ أَيْ بَنِي إِسْمَاعِيلَ يُقِيمُ شَعْبًا جَدِيدًا. هَذَا هُوَ الْعَهْدُ الْخَاصُّ الْمَنْصُوصُ، وَيَدْخُلُ فِي عُمُومِ الْعَهْدِ عَهْدُ اللهِ الْأَكْبَرُ الَّذِي أَخَذَهُ عَلَى جَمِيعِ الْبَشَرِ بِمُقْتَضَى الْفِطْرَةِ وَهُوَ التَّدَبُّرُ وَالتَّرَوِّي، وَوَزْنُ كُلِّ شَيْءٍ بِمِيزَانِ الْعَقْلِ وَالنَّظَرِ الصَّحِيحِ، لَا بِمِيزَانِ الْهَوَى وَالْغُرُورِ، وَلَوِ الْتَفَتَ بَنُو إِسْرَائِيلَ إِلَى هَذَا الْعَهْدِ الْإِلَهِيِّ الْعَامِّ، أَوْ إِلَى تِلْكَ الْعُهُودِ الْخَاصَّةِ الْمَنْصُوصَةِ فِي كِتَابِهِمْ، لَآمَنُوا بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أَنْزَلَ مَعَهُ وَكَانُوا مِنَ الْمُفْلِحِينَ، وَلَا حَاجَةَ إِلَى تَخْصِيصِ الْعَهْدِ بِالْإِيمَانِ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَمَا فَعَلَ مُفَسِّرُنَا (الْجَلَالُ) فَإِنَّ الْإِيمَانَ دَاخِلٌ فِي الْعَهْدِ الْعَامِّ وَهُوَ مِنْ أَفْرَادِ الْعَهْدِ الْخَاصِّ فَلَا دَلِيلَ عَلَى قَصْرِ عُمُومِ الْعَهْدِ الْمُضَافِ عَلَيْهِ.
هَذَا هُوَ عَهْدُ اللهِ وَأَمَّا عَهْدُهُمْ فَهُوَ التَّمْكِينُ فِي الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ وَالنَّصْرُ عَلَى الْأُمَمِ الْكَافِرَةِ وَالرِّفْعَةُ فِي الدُّنْيَا وَخَفْضُ الْعَيْشِ فِيهَا، هَذَا هُوَ الشَّائِعُ فِي التَّوْرَاةِ الَّتِي بَيْنَ أَيْدِيهِمْ، وَلَا شَكَّ أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - قَدْ وَعَدَهُمْ أَيْضًا بِسَعَادَةِ الْآخِرَةِ، وَلَكِنْ
لَا دَلِيلَ عَلَى هَذَا فِي التَّوْرَاةِ إِلَّا الْإِشَارَاتِ وَلِذَلِكَ ظَنَّ بَعْضُ الْبَاحِثِينَ أَنَّ الْيَهُودَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْبَعْثِ وَمَعَ هَذَا يَقُولُ (الْجَلَالُ) كَغَيْرِهِ:
إِنَّ هَذَا الْعَهْدَ هُوَ دُخُولُ الْجَنَّةِ وَيَقْتَصِرُ عَلَيْهِ.
وَلَمَّا كَانَ مِنْ مَوَانِعِ الْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ الَّذِي فَشَا تَرْكُهُ فِي شَعْبِ إِسْرَائِيلَ خَوْفُ بَعْضِهِمْ مِنْ
بَعْضٍ لِمَا بَيْنَ الرُّؤَسَاءِ وَالْمَرْءُوسِينَ مِنَ الْمَنَافِعِ الْمُشْتَرَكَةِ عَقِبَ الْأَمْرِ بِالْوَفَاءِ بِقَوْلِهِ: (وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) أَيْ إِنْ كُنْتُمْ تَخَافُونَ فَوْتَ بَعْضِ الْمَنَافِعِ وَنُزُولَ بَعْضِ الْمَضَارِّ بِكُمْ إِذَا خَالَفْتُمُ الْجَمَاهِيرَ وَاتَّبَعْتُمُ الْحَقَّ فَالْأَوْلَى أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَرْهَبُوا إِلَّا مَنْ بِيَدِهِ أَزِمَّةُ الْمَنَافِعِ كُلِّهَا، وَهُوَ اللهُ الَّذِي أَنْعَمَ عَلَيْكُمْ بِتِلْكَ النِّعْمَةِ الْكُبْرَى أَوِ النِّعَمِ كُلِّهَا، وَهُوَ وَحْدَهُ الْقَادِرُ عَلَى سَلْبِهَا، وَعَلَى الْعُقُوبَةِ عَلَى تَرْكِ الشُّكْرِ عَلَيْهَا، فَارْهَبُوهُ وَحْدَهُ لَا تَرْهَبُوا سِوَاهُ.
ثُمَّ انْتَقَلَ مِنَ الْأَمْرِ بِالْوَفَاءِ بِعُمُومِ الْعَهْدِ إِلَى الْعَهْدِ الْخَاصِّ الْمَقْصُودِ مِنَ السِّيَاقِ فَقَالَ - تَعَالَى - جَلَّ شَأْنُهُ: (وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ) مِنْ تَعْلِيمِ التَّوْرَاةِ وَكُتُبِ الْأَنْبِيَاءِ كَالتَّوْحِيدِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْفَوَاحِشِ وَالْمُنْكَرَاتِ، وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَمَا يَتَّصِلُ بِهَذَا مِنَ الْإِرْشَادِ الْمُوصِلِ إِلَى السَّعَادَةِ، فَإِذَا نَظَرْتُمْ فِي الْقُرْآنِ وَوَجَدْتُمُوهُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ مَقَاصِدِ الدِّينِ الْإِلَهِيِّ وَأُصُولِهِ وَوُعُودِ الْأَنْبِيَاءِ وَعُهُودِهِمْ، تَعْلَمُونَ أَنَّ الرُّوحَ الَّذِي نَزَلَ بِهِ هُوَ عَيْنُ الرُّوحِ الَّذِي نَزَلَ بِمَا سَبَقَهُ، وَتَعْلَمُونَ أَنَّهُ لَا غَرَضَ لِهَذَا النَّبِيِّ الَّذِي يَدْعُوكُمْ إِلَى مِثْلِ مَا دَعَاكُمْ إِلَيْهِ مُوسَى وَالْأَنْبِيَاءُ إِلَّا تَقْرِيرَ الْحَقِّ، وَهِدَايَةَ الْخَلْقِ، بَعْدَمَا طَرَأَ مِنْ ضَلَالَةِ التَّأْوِيلِ وَجَهَالَةِ التَّقْلِيدِ، فَبَادِرُوا إِلَى الْإِيمَانِ بِهَذَا الْكِتَابِ الَّذِي قَامَتْ بِهِ الْحُجَّةُ عَلَيْكُمْ مِنْ وَجْهَيْنِ، (أَحَدُهُمَا) إِعْجَازُهُ (وَثَانِيهُمَا) كَوْنُهُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ (وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ) أَيْ وَلَا تُبَادِرُوا إِلَى الْكُفْرِ بِهِ وَالْجُحُودِ لَهُ مَعَ جَدَارَتِكُمْ بِالسَّبْقِ إِلَيْهِ، وَهَذَا الِاسْتِعْمَالُ مَعْرُوفٌ فِي الْكَلَامِ الْبَلِيغِ لِهَذَا الْمَعْنَى لَا يُقْصَدُ بِالْأَوَّلِيَّةِ فِيهِ حَقِيقَتُهَا. وَالْخِطَابُ عَامٌّ لِلْيَهُودِ فِي كُلِّ عَصْرٍ وَزَمَانٍ ثُمَّ قَالَ:(وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا) الْآيَاتُ هِيَ الدَّلَائِلُ الَّتِي أُيِّدَ بِهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَعْظَمُهَا الْقُرْآنُ فَهُوَ كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: (اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى)(2: 16) أَيْ
لَا تُعْرِضُوا عَنِ الْإِيمَانِ بِهَذَا النَّبِيِّ وَمَا جَاءَ بِهِ، وَتَسْتَبْدِلُوا بِهِدَايَتِهِ هَذَا الثَّمَنَ الْقَلِيلَ، وَهُوَ مَا يَسْتَفِيدُهُ رُؤَسَاؤُكُمْ مِنَ الْمَرْءُوسِينَ مِنْ مَالٍ وَجَاهٍ أَوْقَعَاهُمْ فِي الْكِبْرِ، وَمَا يَتَوَقَّعُهُ الْمَرْءُوسِينَ مِنَ الزُّلْفَى وَالْحُظْوَةِ بِتَقْلِيدِ الرُّؤَسَاءِ وَاتِّبَاعِهِمْ وَمَا يَخْشَوْنَهُ إِذَا خَالَفُوهُمْ مِنَ الْمَهَانَةِ وَالذِّلَّةِ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ هَذَا الْجَزَاءُ قَلِيلًا؛ لِأَنَّ كُلَّ مَا عَدَا الْحَقَّ قَلِيلٌ وَحَقِيرٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ، وَكَيْفَ لَا يَكُونُ قَلِيلًا وَصَاحِبُهُ يَخْسَرُ عَقْلَهُ وَرُوحَهُ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ لِإِعْرَاضِهِ عَنِ الْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ، وَالْبَرَاهِينِ الْوَاضِحَاتِ؟ ثُمَّ إِنَّهُ يَخْسَرُ عِزَّ الْحَقِّ وَمَا يَكُونُ لَهُ مِنَ الشَّأْنِ الْعَظِيمِ وَحُسْنِ الْعَافِيَةِ، ثُمَّ إِنَّهُ يَخْسَرُ مَرْضَاةَ اللهِ - تَعَالَى - وَتَحُلُّ بِهِ نِقَمُهُ فِي الدُّنْيَا وَعُقُوبَتُهُ فِي الْآخِرَةِ. وَخَتَمَ هَذِهِ الْآيَةَ بِشِبْهِ مَا خَتَمَ بِهِ مَا قَبْلَهَا وَذَلِكَ قَوْلُهُ:(وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ) وَلَيْسَ فِي هَذِهِ مَعَ سَابِقَتِهَا تَكْرَارٌ وَلَا شِبْهَ تَكْرَارٍ كَمَا يُتَوَهَّمُ، فَقَدْ حَلَّ كُلٌّ مِنَ الْقَوْلَيْنِ مَحِلَّهُ، وَلَا مَنْدُوحَةَ عَنْ وَاحِدٍ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ اسْتِبْدَالَ الْبَاطِلِ بِالْحَقِّ إِنَّمَا كَانَ مِنْهُمْ لِاتِّقَاءِ الرَّئِيسِ فَوْتَ الْمَنْفَعَةِ مِنَ الْمَرْءُوسِ، وَاتِّقَاءِ الْمَرْءُوسِ غَضَبَ الرَّئِيسِ، فَدَحَضَ هَذِهِ الشُّبْهَةَ بِالْأَمْرِ بِتَقْوَى اللهِ وَحْدَهُ الَّذِي بِيَدِهِ قُلُوبُ الْعِبَادِ وَجَوَارِحُهُمْ، وَهُوَ الْمُسَخِّرُ لَهُمْ فِي أَعْمَالِهِمْ، وَبِيَدِهِ الْخَيْرُ كُلُّهُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
ثُمَّ قَالَ: (وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) بَيَّنَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مَسْلَكَهُمْ فِي الْغَوَايَةِ وَالْإِغْوَاءِ فِي سِيَاقِ النَّهْيِ عَنْهُ. فَقَدْ جَاءَ فِي كُتُبِهِمُ التَّحْذِيرُ مِنْ أَنْبِيَاءَ كَذَبَةٍ يُبْعَثُونَ فِيهِمْ وَيَعْمَلُونَ الْعَجَائِبَ، وَجَاءَ فِيهَا أَيْضًا أَنَّهُ - تَعَالَى - يَبْعَثُ فِيهِمْ نَبِيًّا مَنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ يُقِيمُ بِهِ أُمَّةً، وَأَنَّهُ يَكُونُ مِنْ وَلَدِ الْجَارِيَةِ (هَاجَرَ) وَبَيَّنَ عَلَامَاتِهِ بِمَا لَا لَبْسَ فِيهِ وَلَا اشْتِبَاهَ، وَلَكِنَّ الْأَحْبَارَ وَالرُّؤَسَاءَ كَانُوا يَلْبِسُونَ عَلَى الْعَامَّةِ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ فَيُوهِمُونَهُمْ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ نَعَتَتْهُمُ الْكُتُبُ بِالْكَذَبَةِ (حَاشَاهُ) وَيَكْتُمُونَ مَا يَعْرِفُونَ مِنْ نُعُوتِهِ الَّتِي لَا تَنْطَبِقُ عَلَى سِوَاهُ، وَمَا يَعْلَمُونَ مِنْ صِفَاتِ الْأَنْبِيَاءِ الصَّادِقِينَ وَمَا يَدْعُونَ إِلَيْهِ، وَكُلُّهُ ظَاهِرٌ فِيهِ عليه الصلاة والسلام بِأَكْمَلِ الْمَظَاهِرِ.
وَمِنَ اللَّبْسِ أَيْضًا مَا يَفْتَرِيهِ الرُّؤَسَاءُ وَالْأَحْبَارُ فَيَكُونُ صَادًّا لَهُمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَعَنِ الْإِيمَانِ بِنَبِيِّهِ عَنْ ضَلَالٍ وَجَهْلٍ، وَهُوَ لَبْسُ أُصُولِ الدِّينِ بِالْمُحْدَثَاتِ وَالتَّقَالِيدِ الَّتِي زَادُوهَا عَلَى الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ بِضُرُوبٍ مِنَ التَّأْوِيلِ وَالِاسْتِنْبَاطِ مِنْ كَلَامِ بَعْضِ
الْمُتَقَدِّمِينَ وَأَفْعَالِهِمْ، فَكَانُوا يُحَكِّمُونَ هَذِهِ الزِّيَادَاتِ فِي الدِّينِ حَتَّى فِي كُتُبِ الْأَنْبِيَاءِ، وَيَعْتَذِرُونَ بِأَنَّ الْأَقْدَمِينَ أَعْلَمُ بِكَلَامِ الْأَنْبِيَاءِ وَأَشَدُّ اتِّبَاعًا لَهُمْ، فَهُمُ الْوَاسِطَةُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْأَنْبِيَاءِ، وَعَلَى مَنْ بَعْدَهُمُ الْأَخْذُ بِمَا يَقُولُونَ دُونَ مَا يَقُولُ الْأَنْبِيَاءُ الَّذِينَ يَصْعُبُ عَلَيْهِمْ فَهْمُ كَلَامِهِمْ بِزَعْمِهِمْ، وَلَكِنَّ اللهَ لَمْ يَقْبَلْ هَذَا الْعُذْرَ مِنْهُمْ فَأَسْنَدَ إِلَيْهِمْ ذَلِكَ اللَّبْسَ وَكِتْمَانَ الْحَقِّ الْمَوْجُودِ فِي التَّوْرَاةِ إِلَى الْيَوْمِ، وَكَذَلِكَ لَا يَقْبَلُ اللهُ مِمَّنْ بَعْدَهُمْ ترْكَ كِتَابِهِ لِكَلَامِ الرُّؤَسَاءِ بِحُجَّةِ أَنَّهُمْ أَكْثَرُ عِلْمًا وَفَهْمًا، فَكُلُّ مَا يُعْلَمُ مِنْ كِتَابِ اللهِ - تَعَالَى - يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ، وَإِنَّمَا يَسْأَلُ الْإِنْسَانُ أَهْلَ الْفَهْمِ عَمَّا لَا يَعْلَمُ مِنْهُ لِيَعْلَمَ فَيَعْمَلَ.
ثُمَّ قَالَ - جَلَّ ثَنَاؤُهُ: (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ) فَبَعْدَ الدَّعْوَةِ إِلَى الْإِيمَانِ الْيَقِينِيِّ دَعَاهُمْ إِلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ عَلَى الْوَجْهِ النَّافِعِ الْمُرْضِي لِلَّهِ - تَعَالَى -، وَكَانُوا ضَلُّوا عَنْهُ بِالتَّمَسُّكِ بِالظَّوَاهِرِ وَالْوُقُوفِ عِنْدَ الرُّسُومِ، فَقَدْ كَانُوا يُصَلُّونَ وَلَكِنَّهُمْ مَا كَانُوا يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ؛ لِأَنَّ الْإِقَامَةَ هِيَ الْإِتْيَانُ بِالشَّيْءِ مُقَوَّمًا كَامِلًا وَهِيَ فِي الصَّلَاةِ التَّوَجُّهُ إِلَى اللهِ - تَعَالَى - بِالْقَلْبِ وَالْخُشُوعُ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَالْإِخْلَاصُ لَهُ فِي الذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ وَالثَّنَاءِ، فَهَذَا هُوَ رُوحُ الصَّلَاةِ الَّذِي شُّرِعَتْ لِأَجْلِهِ وَلَمْ تُشْرَعْ لِهَذِهِ الصُّورَةِ؛ فَإِنَّ الصُّورَةَ تَتَغَيَّرُ فِي حُكْمِ اللهِ - تَعَالَى - عَلَى أَلْسِنَةِ أَنْبِيَائِهِ؛ لِأَنَّهَا رَابِطَةٌ مُذَكِّرَةٌ، فَلَمْ تَكُنْ لِلْأَنْبِيَاءِ صُورَةٌ وَاحِدَةٌ لِلصَّلَاةِ، وَلَكِنَّ هَذَا الرُّوحَ لَا يَتَغَيَّرُ فَهُوَ وَاحِدٌ لَمْ يَخْتَلِفْ فِيهِ نَبِيٌّ وَلَمْ يُنْسَخْ فِي دِينٍ.
ثُمَّ أَمَرَ بَعْدَ الصَّلَاةِ الَّتِي تُطَهِّرُ الرُّوحَ وَتُقَرِّبُهَا مِنَ اللهِ - تَعَالَى - بِالزَّكَاةِ الَّتِي هِيَ عُنْوَانُ الْإِيمَانِ وَمَظْهَرُ شُكْرِ اللهِ عَلَى نِعَمِهِ وَالصِّلَةُ الْعَظِيمَةُ بَيْنَ النَّاسِ، وَقَدْ عُهِدَ فِي الْقُرْآنِ قَرْنُ الْأَمْرِ بِإِتْيَانِ الزَّكَاةِ بِالْأَمْرِ بِإِقَامَةِ الصَّلَاةِ، وَمَنْ أَقَامَ الصَّلَاةَ لَا يَنْسَى اللهَ - تَعَالَى - وَلَا يَغْفُلُ عَنْ فَضْلِهِ، وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ جَدِيرٌ بِبَذْلِ الْمَالِ فِي سَبِيلِهِ. مُوَاسَاةً لِعِيَالِهِ، وَمُسَاعَدَةً عَلَى مَصَالِحِهِمُ الَّتِي هِيَ مِلَاكُ مَصْلَحَتِهِ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ إِنَّمَا يَكْتَسِبُ الْمَالَ مِنَ النَّاسِ بِحِذْقِهِ وَعَمَلِهِ مَعَهُمْ فَهُوَ لَمْ يَكُنْ
غَنِيًّا إِلَّا بِهِمْ وَمِنْهُمْ، فَإِذَا عَجَزَ بَعْضُهُمْ عَنِ الْكَسْبِ لِآفَةٍ فِي فِكْرِهِ وَنَفْسِهِ أَوْ عِلَّةٍ فِي بَدَنِهِ فَيَجِبُ عَلَى الْآخَرِينَ الْأَخْذُ بِيَدِهِ، وَأَنْ يَكُونُوا عَوْنًا لَهُ حِفْظًا لِلْمَجْمُوعِ الَّذِي تَرْتَبِطُ مَصَالِحُ بَعْضِهِ بِمَصَالِحِ الْبَعْضِ الْآخَرِ، وَشُكْرًا لِلَّهِ عَلَى مَا مَيَّزَهُمْ بِهِ مِنَ النِّعْمَةِ، وَظَاهِرٌ أَنَّ الْغَنِيَّ فِي حَاجَةٍ دَائِمَةٍ
إِلَى الْفَقِيرِ كَمَا أَنَّ الْفَقِيرَ فِي حَاجَةٍ إِلَيْهِ، وَلَكِنَّ النُّفُوسَ تَمْرَضُ فَتَغْفُلُ عَنِ الْمَصْلَحَةِ فِي بَذْلِ الْمَالِ وَمُسَاعَدَةِ الْفَقِيرِ وَالضَّعِيفِ مُبَالَغَةً وَغُلُوًّا فِي حُبِّ الْمَالِ الَّذِي هُوَ شَقِيقُ الرُّوحِ كَمَا يَقُولُونَ؛ لِهَذَا جَعَلَ اللهُ بَذْلَ الْمَالِ وَالْإِنْفَاقَ فِي سُبُلِ الْخَيْرِ عَلَامَةً مِنْ عَلَامَاتِ الْإِيمَانِ وَجَعَلَ الْبُخْلَ مِنْ آيَاتِ النِّفَاقَ وَالْكُفْرِ، كَمَا سَيَأْتِي فِي بَعْضِ الْآيَاتِ.
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّ الْبُخْلَ - وَمَنْبَعُهُ الْقَسْوَةُ عَلَى عِبَادِ اللهِ - تَعَالَى -، وَالْحِرْصُ عَلَى الْمَالِ اسْتِرْسَالًا فِي الشَّهَوَاتِ وَمَيْلًا مَعَ الْأَهْوَاءِ - لَا يَجْتَمِعُ مَعَ الْإِيمَانِ الصَّحِيحِ فِي قَلْبٍ وَاحِدٍ قَطُّ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَزْعُمَ أَنَّهُ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَبِمَا أَنْزَلَ عَلَى رُسُلِهِ مِنَ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي حَتَّى يَقُومَ بِمَا أَمَرَ اللهُ فِيمَا طَلَبَ مِنْهُ عَلَى مَا يُحِبُّ اللهُ وَيَرْضَى.
ثُمَّ أَمَرَ بَعْدَ إِقَامَةِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ بِالرُّكُوعِ مَعَ الرَّاكِعِينَ، وَالرُّكُوعُ صُورَةُ الصَّلَاةِ أَوْ جُزْءٌ مِنْ أَجْزَائِهَا، وَقَدْ أَخَّرَهُ وَلَمْ يَصِلْهُ بِالصَّلَاةِ لِحِكْمَةٍ جَلِيلَةٍ لَا رِعَايَةَ لِلْفَاصِلَةِ كَمَا زَعَمَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ، فَلَيْسَ مِنَ الْجَائِزِ أَنْ يَكُونَ فِي الْقُرْآنِ مَا يُعْرَضُ فِيهِ إِخْلَالٌ بِالْمَعْنَى لِأَجْلِ رِعَايَةِ الْفَاصِلَةِ، بَلْ هَذَا لَا يَرْتَضِيهِ الْبُلَغَاءُ مِنَ النَّاسِ فَكَيْفَ يَقَعُ فِي كَلَامِ اللهِ - تَعَالَى -؟
وَإِنَّمَا وَرَدَتْ هَذِهِ الْأَوَامِرُ الثَّلَاثَةُ مُرَتَّبَةً كَمَا يُحِبُّ اللهُ - تَعَالَى -؛ فَإِقَامَةُ الصَّلَاةِ فِي الْمَرْتَبَةِ الْأُولَى مِنْ عِبَادَةِ اللهِ - تَعَالَى - لِأَنَّهَا رُوحُ الْعِبَادَةِ وَالْإِخْلَاصُ لَهُ، وَيَلِيهَا إِيتَاءُ الزَّكَاةِ لِأَنَّهَا تَدُلُّ أَيْضًا عَلَى زَكَاةِ الرُّوحِ وَقُوَّةِ الْإِيمَانِ، وَأَمَّا الرُّكُوعُ وَهُوَ صُورَةُ الصَّلَاةِ الْبَدَنِيَّةِ أَوْ بَعْضُ صُورَتِهَا أُشِيرَ بِهِ إِلَيْهَا فَهُوَ فِي الْمَرْتَبَةِ الثَّالِثَةِ فَرْضٌ لِلتَّذْكِيرِ بِسَابِقَيْهِ وَمَا هُوَ بِعِبَادِهٍ لِذَاتِهِ، وَإِنَّمَا كَانَ عِبَادَةً لِأَنَّهُ يُؤَدَّى امْتِثَالًا لِأَمْرِ اللهِ - تَعَالَى - وَإِظْهَارًا لِخَشْيَتِهِ، وَالْخُشُوعِ لِعَظَمَتِهِ، وَلَكِنَّهُ قَدْ يَصِيرُ عَادَةً لَا يُلَاحَظُ فِيهَا امْتِثَالٌ وَلَا إِخْلَاصٌ فَلَا يُعَدُّ عِنْدَ اللهِ شَيْئًا، وَإِنْ عَدَّهُ أَهَّلُ الرُّسُومِ كُلَّ شَيْءٍ، بِخِلَافِ إِقَامَةِ الصَّلَاةِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْفَصْلَ بَيْنَ مَعْنَى الصَّلَاةِ وَصُورَتِهَا بِالزَّكَاةِ فِيهِ تَعْظِيمٌ لِشَأْنِ الزَّكَاةِ. وَسَنَتَكَلَّمُ عَلَى الزَّكَاةِ وَالْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللهِ بِالتَّفْصِيلِ فِي تَفْسِيرِ آيَةٍ أُخْرَى إِنْ شَاءَ اللهُ - تَعَالَى.
(أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى
الْخَاشِعِينَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ)
الْكَلَامُ مُوَجَّهٌ إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْآيَاتِ السَّابِقَةِ أَنَّ اللهَ ذَكَّرَهُمْ بِنِعْمَتِهِ وَأَمَرَهُمْ بِالْوَفَاءِ بِعَهْدِهِ، وَأَنْ يَرْهَبُوهُ وَيَتَّقُوهُ وَحْدَهُ، وَأَنْ يُؤْمِنُوا بِالْقُرْآنِ، وَنَهَاهُمْ أَنْ يَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ، وَأَنْ يَشْتَرُوا بِآيَاتِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا، وَأَنْ يَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَيَكْتُمُوهُ عَمْدًا، ثُمَّ أَمَرَهُمْ بِإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَطَفِقَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ يُوَبِّخُهُمْ عَلَى سِيرَتِهِمُ الْمُعْوَجَّةِ فِي الدِّينِ، وَيَهْدِيهِمْ إِلَى طَرِيقِ الْخُرُوجِ مِنْهَا.
الْيَهُودُ كَسَائِرِ الْمِلَلِ يَدَّعُونَ الْإِيمَانَ بِكِتَابِهِمْ وَالْعَمَلَ بِهِ، وَالْمُحَافَظَةَ عَلَى أَحْكَامِهِ وَالْقِيَامَ بِمَا يُوجِبُهُ، وَلَكِنَّ اللهَ - تَعَالَى - عَلَّمَنَا أَنَّ مِنَ الْإِيمَانِ - بَلْ مِمَّا يُسَمَّى فِي الْعُرْفِ إِيمَانًا - مَا لَا يُعْبَأُ بِهِ، فَيَكُونُ وُجُودُهُ كَعَدَمِهِ، وَهُوَ الْإِيمَانُ الَّذِي لَا سُلْطَانَ لَهُ عَلَى الْقَلْبِ، وَلَا تَأْثِيرَ لَهُ فِي إِصْلَاحِ الْعَمَلِ، كَمَا قَالَ:(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ) وَكَانَتِ الْيَهُودُ فِي عَهْدِ بِعْثَتِهِ عليه الصلاة والسلام قَدْ وَصَلُوا فِي الْبُعْدِ عَنْ جَوْهَرِ الدِّينِ إِلَى هَذَا الْحَدِّ. كَانُوا - وَلَا يَزَالُونَ - يَتْلُونَ الْكِتَابَ تِلَاوَةً يَفْهَمُونَ بِهَا مَعَانِيَ الْأَلْفَاظِ، وَيُجِلُّونَ أَوْرَاقَهُ وَجِلْدَهُ، وَلَكِنَّهُمْ مَا كَانُوا يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ؛ لِأَنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ كَمَا قَالَ - تَعَالَى - وَعَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَرْضَاهُ - تَعَالَى -، يَتْلُونَ أَلْفَاظَهُ وَفِيهَا الْبِشَارَةُ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَيَأْمُرُونَ بِالْعَمَلِ بِأَحْكَامِهِ وَآدَابِهِ مِنَ الْبِرِّ وَالتَّقْوَى، وَلَكِنَّ الْأَحْبَارَ الْقَارِئِينَ الْآمِرِينَ النَّاهِينَ مَا كَانُوا يُبَيِّنُونَ مِنَ الْحَقِّ إِلَّا مَا يُوَافِقُ أَهْوَاءَهُمْ وَتَقَالِيدَهُمْ، وَلَا يَعْمَلُونَ بِمَا فِيهِ مِنَ الْأَحْكَامِ إِلَّا إِذَا لَمْ يُعَارِضْ حُظُوظَهُمْ وَشَهَوَاتِهِمْ؛ فَقَدْ عَهِدَ اللهُ إِلَيْهِمْ فِي الْكِتَابِ أَنَّهُ يُقِيمُ مِنْ إِخْوَتِهِمْ نَبِيًّا يُقِيمُ الْحَقَّ، وَفَرَضَ عَلَيْهِمُ الزَّكَاةَ،
وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا
يُحَرِّفُونَ الْبِشَارَةَ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَيُؤَوِّلُونَهَا. وَيَحْتَالُونَ لِمَنْعِ الزَّكَاةِ فَيَمْنَعُونَهَا، وَجُعِلَتْ لَهُمْ مَوَاسِمُ وَاحْتِفَالَاتٌ دِينِيَّةٌ تُذَكِّرُهُمْ بِمَا آتَى اللهُ أَنْبِيَاءَهُمْ مِنَ الْآيَاتِ، وَمَا مَنَحَهُمْ مِنَ النِّعَمِ؛ لِيَنْشَطُوا إِلَى إِقَامَةِ الدِّينِ وَالْعَمَلِ بِالْكِتَابِ وَلَكِنَّ الْقُلُوبَ قَسَتْ بِطُولِ الْأَمَدِ فَفَسَقَتِ النُّفُوسُ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا. وَهَذِهِ التَّوْرَاةُ الَّتِي بَيْنَ أَيْدِيهِمْ لَا تَزَالُ حُجَّةً عَلَيْهِمْ، فَلَوْ سَأَلْتَهُمْ عَمَّا فِيهَا مِنَ الْأَمْرِ بِالْبِرِّ وَالْحَثِّ عَلَى الْخَيْرِ لَاعْتَرَفُوا وَمَا أَنْكَرُوا، وَلَكِنْ أَيْنَ الْعَمَلُ الَّذِي يَهْدِي إِلَيْهِ الْإِيمَانُ، فَيَكُونُ عَلَيْهِ أَقْوَى حُجَّةٍ وَبُرْهَانٍ؟
كَذَلِكَ كَانَ شَأْنُ أَحْبَارِ الْيَهُودِ وَعُلَمَائِهِمْ فِي مَعْرِفَةِ ظَوَاهِرِ الدِّينِ بِالتَّفْصِيلِ، وَكَانَ عَامَّتُهُمْ يَعْرِفُونَ مِنَ الدِّينِ الْعِبَادَاتِ الْعَامَّةَ وَالِاحْتِفَالَاتِ الدِّينِيَّةَ وَبَعْضَ الْأُمُورِ الْأُخْرَى بِالْإِجْمَالِ، وَيَرْجِعُ الْمُسْتَمْسِكُ مِنْهُمْ بِدِينِهِ فِي سَائِرِ أُمُورِهِ إِلَى الْأَحْبَارِ فَيُقَلِّدُهُمْ فِيمَا يَأْمُرُونَهُ بِهِ، وَكَانُوا يَأْمُرُونَ بِمَا يَرَوْنَهُ صَوَابًا فِيمَا لَيْسَ لَهُمْ فِيهِ هَوًى، وَإِلَّا لَجَئُوا إِلَى التَّأْوِيلِ وَالتَّحْرِيفِ وَالْحِيلَةِ لِيَأْخُذُوا مِنَ الْأَلْفَاظِ مَا يُوَافِقُ الْهَوَى وَيُصِيبُ الْغَرَضَ، فَإِذَا وُجِّهَ الْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -:(أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ) إِلَى حَمَلَةِ الْكِتَابِ فَذَاكَ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ وَظِيفَتُهُمْ، وَإِذَا كَانَ عَامًّا فَذَاكَ؛ لِأَنَّ شَأْنَ الْعَامَّةِ فِيمَا يَعْرِفُونَ مِنَ الدِّينِ بِالْإِجْمَالِ كَشَأْنِ الرُّؤَسَاءِ فِيمَا يَعْرِفُونَ بِالتَّفْصِيلِ، وَلَا يَكَادُ يُوجَدُ أَحَدٌ لَا يَأْمُرُ بِخَيْرٍ وَلَا يَحُثُّ عَلَى بِرٍّ، فَإِذَا كَانَ الْآمِرُ لَا يَأْتَمِرُ بِمَا يَأْمُرُ بِهِ فَالْحُجَّةُ قَائِمَةٌ عَلَيْهِ بِلِسَانِهِ.
وَبَّخَ اللهُ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ كَالْأَخْذِ بِالْحَقِّ وَمَعْرِفَتِهِ لِأَهْلِهِ، وَعَمَلِ الْخَيْرِ وَالْوَعْدِ عَلَيْهِ بِالسَّعَادَةِ مَعَ الْغَفْلَةِ عَنْ أَنْفُسِهِمْ وَعَدَمِ تَذْكِيرِهَا بِذَلِكَ، وَمَا أَجْمَلَ التَّعْبِيرَ عَنْ هَذِهِ الْحَالَةِ بِنِسْيَانِ الْأَنْفُسِ، فَإِنَّ مِنْ شَأْنِ الْإِنْسَانِ أَلَّا يَنْسَى نَفْسَهُ مِنَ الْخَيْرِ وَلَا يُحِبُّ أَنْ يَسْبِقَهُ أَحَدٌ إِلَى السَّعَادَةِ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: إِذَا كُنْتُمْ مُوقِنِينَ بِوَعْدِ الْكِتَابِ عَلَى الْبِّرِ، وَوَعِيدِهِ عَلَى تَرْكِهِ، فَكَيْفَ نَسِيتُمْ أَنْفُسَكُمْ (وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ) وَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِاتِّبَاعِهِ، وَتَعْرِفُونَ مِنْهُ مَا لَا يَعْرِفُهُ الْمَأْمُورُونَ؟ أَفَيَعْلَمُونَ مَعَ نَقْصِ الْعِلْمِ بِفَائِدَةِ الْعَمَلِ وَلَا تَعْمَلُونَ عَلَى كَمَالِ الْعِلْمِ وَسَعَتِهِ؟ وَلَمَّا كَانَ هَذَا غَيْرَ مَعْقُولٍ قَفَّى عَلَى اسْتِفْهَامِ التَّوْبِيخِ بِقَوْلِهِ:(أَفَلَا تَعْقِلُونَ) .
يَعْنِي أَلَا يُوجَدُ فِيكُمْ عَقْلٌ يَحْبِسُكُمْ عَنْ هَذَا السَّفَهِ؟ فَإِنَّ مَنْ لَهُ مُسْكَةٌ مِنَ الْعَقْلِ لَا يَدَّعِي كَمَالَ الْعِلْمِ بِالْكِتَابِ وَالْإِيمَانَ الْيَقِينِيَّ بِهِ وَالْقِيَامَ بِالْإِرْشَادِ إِلَيْهِ: هَذَا
كِتَابُ اللهِ، هَذِهِ وَصَايَا اللهِ، هَذَا أَمْرُ اللهِ، قَدْ وَعَدَ الْعَامِلَ بِهِ السَّعَادَةَ فِي الدُّنْيَا أَوِ الْآخِرَةِ أَوْ كِلَيْهِمَا، فَخُذُوا بِهِ وَاسْتَمْسِكُوا بِعُرَاهُ، وَحَافِظُوا عَلَيْهِ - ثُمَّ هُوَ لَا يَعْمَلُ وَلَا يَسْتَمْسِكُ؟ .
مَثَلُ مَنْ كَانَتْ هَذِهِ حَالَهُ كَمَثَلِ رَجُلٍ أَمَامَهُ طَرِيقٌ مُضِئٌ نُصِبَتْ فِيهِ الْأَعْلَامُ وَالصُّوَى بِحَيْثُ لَا يَضِلُّ سَالِكُهُ، ثُمَّ هُوَ يَسْلُكُ طَرِيقًا آخَرَ مُظْلِمًا طَامِسَ الْأَعْلَامِ وَكُلَّمَا لَقِيَ فِي طَرِيقِهِ
شَخْصًا نَصَحَ لَهُ أَلَّا يَمْشِيَ مَعَهُ، وَأَنْ يَرْجِعَ إِلَى طَرِيقِ الْهُدَى الَّذِي تَرَكَهُ، أَوْ مَثَلِ سَاغِبٍ يَدْعُو النَّاسَ إِلَى الْمَائِدَةِ الشَّهِيَّةِ، وَيَبِيتُ عَلَى الْجُوعِ وَالطَّوَى، أَوْ صَادٍ يَدُلُّ الْعِطَاشَ عَلَى مَوْرِدِ الْمَاءِ وَلَا يَرِدُ مَعَهُمْ.
إِذَا كَانَ هَذَا لَا يَقَعُ مِنْ صَحِيحِ الْعَقْلِ فَكَذَلِكَ أَمْرُ الْمُؤْمِنِ بِشُعَبِ الْإِيمَانِ وَعَدَمِ الِائْتِمَارِ بِهَا، مَعَ تَذَكُّرِهَا وَتِلَاوَةِ كَلَامِ اللهِ فِيهَا، فَلَا بُدَّ لِتَعْقِلَ هَذَا مِنَ الْقَوْلِ بِأَنَّ الْإِيمَانَ بِالْوَعْدِ عَلَى الْبِرِّ وَالْوَعِيدِ عَلَى الْفُجُورِ غَيْرُ يَقِينِيٍّ عِنْدَ الْآمِرِ الْمُخَالِفِ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ الْقَوْمَ كَانُوا عُقَلَاءَ فِي كَسْبِ الْمَالِ وَحِفْظِ الْجَاهِ الدُّنْيَوِيِّ وَإِنَّمَا ضَلُّوا مِنْ جِهَةِ الدِّينِ بِأَخْذِهِ عَلَى غَيْرِ وَجْهِهِ.
الْخِطَابُ عَامٌّ لِلْيَهُودِ الَّذِينَ كَانَ هَذَا حَالَهُمْ، وَعِبْرَةٌ لِغَيْرِهِمْ، لِأَنَّهُ مُنْبِئٌ عَنْ حَالٍ طَبِيعِيَّةٍ لِلْأُمَمِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ الطَّوْرِ الَّذِي كَانُوا فِيهِ، وَلِذَلِكَ كَانَ الْقُرْآنُ هِدَايَةً لِلْعَالَمِينَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، لَا حِكَايَةَ تَارِيخٍ يُقْصَدُ بِهَا هِجَاءَ الْإِسْرَائِيلِيِّينَ، فَلْتُحَاسِبْ أُمَّةٌ نَفْسَهَا فِي أَفْرَادِهَا وَمَجْمُوعِهَا؛ لِئَلَّا يَكُونَ حَالُهَا كَحَالِ مَنْ وَرَدَ النَّصُّ فِيهِمْ، فَيَكُونَ حُكْمُهَا عِنْدَ اللهِ كَحُكْمِهِمْ؛ لِأَنَّ الْجَزَاءَ عَلَى أَعْمَالِ الْقُلُوبِ وَالْجَوَارِحِ، لَا لِمُحَابَاةِ الْأَشْخَاصِ وَالْأَقْوَامِ أَوْ مُعَادَاتِهِمْ.
(فَإِنْ قِيلَ) : إِنَّ مَنْ يَأْمُرُ غَيْرَهُ بِالْبَرِّ وَيَنْسَى نَفْسَهُ قَدْ يَكُونُ مُتَّكِلًا فِي تَرْكِ الْعَمَلِ عَلَى الشَّفَاعَاتِ وَالْمُكَفِّرَاتِ، كَالْأَذْكَارِ وَالصَّدَقَاتِ، لَا أَنَّهُ يَتْرُكُ لِعَدَمِ الْيَقِينِ فِي الْإِيمَانِ، وَإِذَا أَمَرَ غَيْرَهُ بِالْبَرِّ مَعَ هَذَا فَذَاكَ لِأَنَّهُ يُلَاحِظُ الْمُكَفِّرَاتِ فِي شَأْنِ نَفْسِهِ وَلَا يُلَاحِظُهَا فِي شَأْنِ غَيْرِهِ (نَقُولُ) : إِنَّ الْعَالِمَ بِالدِّينِ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ أَنَّ حُكْمَ اللهِ - تَعَالَى - وَاحِدٌ عَامٌّ، فَكَيْفَ يُحَتِّمُ الْبِرَّ عَلَى غَيْرِهِ وَيُوهِمُهُ أَنَّهُ لَا يُقَرِّبُهُ مِنْ رِضْوَانِ اللهِ،
وَيُبْعِدُهُ عَنْ سَخَطِهِ إِلَّا هُوَ، وَيَنْسَى نَفْسَهُ فَلَا يُحَتِّمُ عَلَيْهَا ذَلِكَ؟ ثُمَّ كَيْفَ يَجْهَلُ أَنَّ الشَّفَاعَاتِ وَالْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ الَّتِي وَرَدَ أَنَّهَا تُكَفِّرُ السَّيِّئَاتِ لَا يَصِحُّ أَنْ تَكُونَ مُثَبِّطَةً عَنْ عَمَلِ الْبِرِّ أَوْ سَبَبًا لِتَرْكِهِ؛ لِأَنَّهُ خِلَافُ الْمَقْصُودِ مِنَ الدِّينِ؟ فَهَلْ يَكُونُ فَرْعٌ مِنْ فُرُوعِ الدِّينِ هَادِمًا لِأُصُولِهِ وَسَائِرِ فُرُوعِهِ؟ كُلُّ ذَلِكَ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ بَعِيدًا عَنِ الْعَالِمِ بِالدِّينِ الَّذِي يَتْلُو كِتَابَ اللهِ - تَعَالَى -، وَلَكِنَّ هَذَا الضَّرْبَ مِنَ الْخِذْلَانِ يَعْرِضُ لِأَرْبَابِ الْأَدْيَانِ عِنْدَ فَسَادِ حَالِ الْأُمَمِ، فَنَبَّهَ اللهُ - تَعَالَى - عَلَيْهِ بِهَذَا التَّعْبِيرِ اللَّطِيفِ وَهُوَ نِسْيَانُ النَّفْسِ مَعَ تِلَاوَةِ الْكِتَابِ، فَكَأَنَّ الزَّاعِمَ أَنَّهُ مُؤْمِنٌ وَلَا يَعْمَلُ عَمَلَ الْإِيمَانِ، نَسِيَ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَزْعُمُ الْإِيمَانَ، وَصَاحِبُ هَذَا النِّسْيَانِ يَمْضِي فِي الْعَمَلِ الْقَبِيحِ مِنْ غَيْرِ فِكْرٍ وَلَا رَوِيَّةٍ بَلِ انْبِعَاثًا مَعَ الْحُظُوظِ وَالشَّهَوَاتِ الَّتِي حَكَّمَهَا فِي نَفْسِهِ، وَمَلَّكَهَا زِمَامَ عَقْلِهِ وَحِسِّهِ، وَلَكِنَّهُ لَا يُلَاحِظُهَا فِي غَيْرِهِ مَا يَعْرِضُ عَلَيْهِ عَمَلَهُ السَّيِّئَ أَوْ يَرَاهُ مُعْرِضًا عَنْ عَمَلِ الْبِرِّ؛ وَلِذَلِكَ يَعِظُهُ وَيَذُمُّهُ.
بَعْدَ مَا بَيَّنَ سُوءَ حَالِهِمْ، وَأَنَّ عَقْلَهُمْ لَمْ يَنْفَعْهُمْ وَالْكِتَابَ لَمْ يُذَكِّرْهُمْ، أَرْشَدَهُمْ إِلَى الطَّرِيقَةِ الْمُثْلَى لِلْانْتِفَاعِ بِالْكِتَابِ وَالْعَقْلِ، وَالْعَمَلِ بِالْعِلْمِ النَّافِعِ؛ فَإِنَّ الْعَمَلَ السَّيِّئَ الَّذِي سَبَبُهُ نِسْيَانُ
النَّفْسِ لَيْسَ طَبِيعِيًّا كَالنَّفْسِ لَا يُمْكِنُ دَفْعُهُ وَمُقَاوَمَتُهُ، بَلْ هُوَ اخْتِيَارِيٌّ وَسَبَبُهُ عَارِضٌ تُمْكِنُ إِزَالَتُهُ بِمَا أَرْشَدَ اللهُ إِلَيْهِ فِي قَوْلِهِ:(وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ) قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: أَمْرٌ بِالصَّبْرِ وَهُوَ كَمَا قَالَ الْمُفَسِّرُ: حَبْسُ النَّفْسِ عَلَى مَا تَكْرَهُ. وَنَقُولُ بِعِبَارَةٍ أَوْضَحَ: هُوَ احْتِمَالُ الْمَكْرُوهِ بِنَوْعٍ مِنَ الرِّضَى وَالِاخْتِيَارِ وَالتَّسْلِيمِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ لَكَانَ كَمَا يَقُولُ الْعَامَّةُ فِي أَمْثَالِهِمْ. . . وَذَكَرَ مَثَلًا بِمَعْنَى قَوْلِ الشَّاعِرِ:
صَبَرْتُ وَلَا وَاللهِ مَا لِيَ طَاقَةٌ
…
عَلَى الصَّبْرِ، وَلَكِنِّي صَبَرْتُ عَلَى الرَّغْمِ
وَالصَّبْرُ الْحَقِيقِيُّ الْمَبْنِيُّ عَلَى التَّسْلِيمِ يَحْصُلُ بِتَذَكُّرِ وَعْدِ اللهِ - تَعَالَى - بِالْجَزَاءِ الْحَسَنِ لِلصَّابِرِينَ عَلَى أَعْمَالِ الْبِرِّ الَّتِي تَشُقُّ عَلَى النَّفْسِ، وَعَنِ الشَّهَوَاتِ الْمُحَرَّمَةِ الَّتِي تَصْبُو إِلَيْهَا، وَبِتَذَكُّرِ أَنَّ الْمَصَائِبَ مِنْ فِعْلِ اللهِ وَتَصَرُّفِهِ فِي خَلْقِهِ؛ فَيَجِبُ الْخُضُوعُ لَهُ وَالتَّسْلِيمُ لِأَمْرِهِ، وَمِنْ عَجِيبِ أَمْرِ هَذَا الصَّبْرِ أَنَّهُ يَقِي الْإِنْسَانَ مِنَ الْخُسْرَانِ مَتَى حَسُنَ فِي كُلِّ شَيْءٍ كَمَا تُفِيدُهُ سُورَةُ (الْعَصْرِ) وَيُؤَيِّدُهُ الِاخْتِبَارُ، وَقَدِ اشْتُهِرَ أَنَّ " مَنْ صَبَرَ ظَفِرَ " وَرُبَّمَا أَتَيْنَا عَلَى شَيْءٍ مِنْ مَعْنَى الصَّبْرِ وَأَنَّهُ قُوَّةٌ مَنْ قُوَى النَّفْسِ
تُدْخِلَ النِّظَامَ فِي كُلِّ عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِهَا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ.
الِاسْتِعَانَةُ بِالصَّبْرِ تَكُونُ بِالِالْتِفَاتِ إِلَى الْأَسْبَابِ الَّتِي تَأْفِكُ النَّاسَ وَتَصْرِفُهُمْ عَنْ صِرَاطِ الشَّرِيعَةِ كَاتِّبَاعِ الشَّهَوَاتِ، وَالْوَلُوعِ بِاللَّذَّاتِ، وَالْبُعْدِ عَنِ الْمُؤَلِّمَاتِ، ثُمَّ الْقِيَاسِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَا رَغِبَ اللهُ فِيهِ، أَوْ أَوْعَدَ بِالْعِقَابِ عَلَى فِعْلِهِ، بِمُلَاحَظَةِ أَنَّ مَا أَوْعَدَ اللهُ - تَعَالَى - بِهِ أَوْلَى بِأَنْ يُتَّقَى، وَمَا وَعَدَ بِهِ أَوْلَى بِأَنْ يُرْجَى وَيُطْلَبُ، وَضَرَبَ الْأُسْتَاذُ لِمَنْ يَفْقِدُونَ الصَّبْرَ فَيَقَعُونَ فِي الْخُسْرَانِ مَثَلًا: صَاحِبُ الْحَاجَةِ يَهُزُّهُ الطَّيْشُ وَالتَّسَرُّعُ إِلَى قَضَاءِ حَاجَتِهِ وَيَفْقِدُ الصَّبْرَ عَلَى مَرَارَتِهَا فَيَكْذِبُ لِاعْتِقَادِ أَنَّ حَاجَتَهُ تُقْضَى فَيَدْفَعُ الْمَضَرَّةَ أَوْ يَجْلِبُ الْمَنْفَعَةَ بِالْكَذِبِ، وَأَنَّهُ بِالصِّدْقِ يَفُوتُهُ هَذَا، فَيَقْتَرِفُ جَرِيمَةَ الْكَذِبِ لِهَذَا الِاعْتِقَادِ، وَهُوَ ظَانٌّ بَلْ وَاهِمٌ، وَمَتَى اقْتَرَفَهُ مَرَّةً هَانَ عَلَيْهِ، فَيَعُودُ إِلَيْهِ فَيَكُونُ كَذَّابًا (وَمَتَى عُرِفَ بِذَلِكَ ضَاعَتِ الثِّقَةُ بِهِ وَفَسَدَ حَالُهُ، وَأَصْبَحَ يَجِدُ الْحَاجَةَ إِلَى الصِّدْقِ أَشَدَّ مِمَّا كَانَ مِنْهَا إِلَى الْكَذِبِ) وَيُؤَيِّدُ مَا قَالَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ حَدِيثُ ((لَا يَزَالُ الْعَبْدُ يَكْذِبُ وَيَتَحَرَّى الْكَذِبَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ كَذَّابًا)) رَوَاهُ الشَّيْخَانِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَإِذَا ذُكِّرَ مِثْلُ هَذَا الرَّجُلِ أَوْ تَذَكَّرَ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ الْوَعِيدَ عَلَى الْكَذِبِ وَمَا وَرَدَ فِي ذَلِكَ مِنْ آيَاتٍ فِي كِتَابِ اللهِ وَآثَارٍ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَآلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ، وَمَا يَجْلِبُهُ لِصَاحِبِهِ مِنْ مَقْتِ اللهِ وَغَضَبِهِ، يَسْبِقُ إِلَى ذِهْنِهِ الْمُكَفِّرَاتُ (وَمِثْلُهَا الشَّفَاعَاتُ وَسَعَةُ الْعَفْوِ وَالْمَغْفِرَةِ) كَالِاسْتِغْفَارِ قَبْلَ النَّوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ، وَقَوْلُ كَذَا مِنَ الذِّكْرِ بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ كَذَا وَكَذَا مَرَّةً فَلَا يَبْقَى لِلْوَعِيدِ مَعَهَا أَثَرٌ، إِذْ يُذْعِنُ بِأَنَّ ذَنْبَهُ يُغْفَرُ لَا مَحَالَةَ، وَيَنْسَى سَبَبَ الْمَغْفِرَةِ الْحَقِيقِيَّ وَهُوَ التَّوْبَةُ النَّصُوحُ وَالرُّجُوعُ إِلَى اللهِ - تَعَالَى -،
وَأَنَّ الْعَفْوَ عَنْ غَيْرِ التَّائِبِ الْأَوَّابِ إِلَى اللهِ - تَعَالَى - مَجْهُولٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى عِلْمِنَا، وَإِنْ كَانَ جَائِزًا عَقْلًا، فَإِنَّنَا لَمْ نَطَّلِعْ عَلَى مَا فِي عِلْمِ اللهِ - تَعَالَى - فَنَعْلَمْ أَنَّنَا مِمَّنْ يَعْفُو عَنْهُمْ.
(وَكَيْفَ نَتْرُكُ مَا جَاءَ عَنِ اللهِ فِي كِتَابِهِ وَعَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ مِنَ النُّصُوصِ الْقَاطِعَةِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ لَعْنَةَ اللهِ مُسَجَّلَةٌ عَلَى الْكَاذِبِينَ، وَهِيَ بِعُمُومِهَا لَا تَدَعُ لِوَهْمٍ مَجَالًا فِي نُزُولِ سَخَطِ اللهِ بِالْكَاذِبِ، ثُمَّ نَخْتَرِعُ لِأَنْفُسِنَا تَعِلَّةً نَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا فِي ارْتِكَابِ هَذِهِ الْجَرِيرَةِ وَنُسْنِدُهَا إِلَى سَعَةِ عَفْوِ اللهِ، أَوْ إِلَى مُجْمَلٍ مِنَ الْقَوْلِ لَا يُبَيِّنُهُ إِلَّا تِلْكَ النُّصُوصُ الْقَاطِعَةُ؟ إِنْ هَذَا إِلَّا
خَبَالٌ أَوْ تَصْوِيرُ خَيَالٍ، أَوْ فَقْدٌ لِلْإِيمَانِ بِصِحَّةِ تِلْكَ النُّصُوصِ الْقَاطِعَةِ. نَعُوذُ بِاللهِ) .
(وَأَقُولُ) : إِنَّمَا جَعَلَ شَيْخُنَا جَرِيمَةَ الْكَذِبِ مَثَلًا لِاسْتِبَاحَةِ فَاسِدِي الدِّينِ لِلْمَعَاصِي؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَاهُ الْعَامِّ أَكْبَرُ الْكَبَائِرِ، وَشَرُّ الرَّذَائِلِ، حَتَّى إِنَّ الْكُفْرَ وَالشِّرْكَ شُعْبَةٌ مِنْهُ، وَلِأَنَّهُ لَيْسَ مِمَّا تَغْلِبُ الْمَرْءَ عَلَيْهِ ثَوْرَةُ غَضَبٍ أَوْ ثَوْرَةُ شَهْوَةٍ، بَلْ يُقْتَرَفُ بِالتَّرَوِّي وَالتَّعَمُّدِ، وَلِأَنَّهُ مَعَ ذَلِكَ عَامٌّ فَاشٍ فِي جَمِيعِ طَبَقَاتِ النَّاسِ فِي عَصْرِنَا هَذَا حَتَّى الْعُلَمَاءِ وَالْوُزَرَاءِ وَمَنْ فَوْقَهُمْ، وَمِنَ الْعَجَائِبِ أَنَّنَا سَمِعْنَا بِآذَانِنَا وَقَرَأْنَا وَرُوِّينَا عَنْ أَعْدَاءِ الْإِصْلَاحِ وَأَهْلِهِ مِنِ افْتِرَاءِ الْكَذِبِ عَلَى دُعَاتِهِ مَا لَا تَسْتَطِيعُ عُقُولُنَا لَهُ تَأْوِيلًا إِلَّا بِمَا كَتَبَهُ شَيْخُنَا فِي هَذِهِ الْعِبَارَةِ مِنَ الْخَبَالِ فِي أَنْفُسِهِمُ الَّتِي فَسَدَتْ فِطْرَتُهَا أَوْ مِنْ فَقْدِ الْإِيمَانِ بِصِحَّةِ النُّصُوصِ، إِمَّا فَقْدًا تَامًّا عَامًّا، وَإِمَّا فَقْدًا خَاصًّا بِالْحَالِ الَّتِي يَفْتَرُونَ فِيهَا الْكَذِبَ وَغَيْرَهُ مِنَ الْجَرَائِمِ عَلَى حَدِّ مَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ ((لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ)) . . . إِلَخْ، عَلَى أَحَدِ التَّأْوِيلَاتِ لَهُ. وَوَجْهُ الْعَجَبِ وَالْغَرَابَةِ فِي هَذَا النَّوْعِ مِنَ الْكَذِبِ: أَنَّهُ بِحَسَبِ الظَّاهِرِ انْتِصَارٌ لِلدِّينِ وَدِفَاعٌ عَنْهُ وَهُوَ هَدْمٌ لَهُ.
ثُمَّ أَقُولُ: إِنَّ مَثَلَ مَنْ يَقْتَرِفُ السَّيِّئَاتِ مُعْتَمِدًا عَلَى الْعَفْوِ وَالشَّفَاعَةِ، كَمَثَلِ مَنْ يَرْتَكِبُ الْجَرَائِمَ فِي مَلَأٍ مِنَ النَّاسِ وَعَلَى رُءُوسِ الْأَشْهَادِ مُتَعَرِّضًا لِقَبْضِ الشُّرْطَةِ عَلَيْهِ وَسَوْقِهِ إِلَى الْمَحْكَمَةِ لِتَحْكُمَ عَلَيْهِ بِعِقُوبَةِ الْجَرِيمَةِ اعْتِمَادًا عَلَى أَنَّ الْأَمِيرَ أَوِ السُّلْطَانَ قَدْ يَعْفُو عَنْهُ بَعْدَ الْحُكْمِ عَلَيْهِ بِالْعُقُوبَةِ، وَمَثَلُ هَذَا لَا يَخْتَلِفُ اثْنَانِ فِي حُمْقِهِ، وَاللهُ - تَعَالَى - قَدْ بَيَّنَ لَنَا شَرْطَ نَفْعِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ فِي مَغْفِرَةِ الذُّنُوبِ وَهُوَ اقْتِرَانُهَا بِالتَّوْبَةِ الصَّحِيحَةِ كَقَوْلِهِ فِي حِكَايَةِ دُعَاءِ الْمَلَائِكَةِ لِلْمُؤْمِنِينَ:(فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ)(40: 7) الْآيَاتِ وَقَوْلِهِ: (وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللهِ مَتَابًا)(25: 71) وَقَوْلِهِ: (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى)(20: 82) وَأَمَّا الشَّفَاعَةُ فَحَسْبُكَ قَوْلُهُ فِيهَا: (وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى)(21: 28) مَعَ الْجَزْمِ بِأَنَّهُ - تَعَالَى - لَا يَرْضَى بِالْكَذِبِ وَلَا بِغَيْرِهِ مِنَ الْجَرَائِمِ، وَمَنْ يَأْذَنُ - تَعَالَى - لَهُمْ بِالشَّفَاعَةِ لَا يَعْلَمُهُمْ غَيْرُهُ عز وجل.
ثُمَّ قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ مَا مَعْنَاهُ: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَكْتَفِي بِالِاعْتِذَارِ عَنْ ذُنُوبِهِ وَجَرَائِمِهِ بِأَنَّهُ غَيْرُ مَعْصُومٍ، وَذَكَرَ بَعْضَ الشَّوَاهِدِ عَمَّنْ يَظُنُّ أَنَّ لَهُمْ فِي الدِّينِ قَدَمَ صِدْقٍ، وَقَالَ: إِنَّ
مَنْ هَذَا رَأْيُهُ يَتَصَوَّرُ أَنَّ الصِّدْقَ وَاتِّبَاعَ الْحَقِّ إِنَّمَا هُوَ شَأْنُ طَائِفَةٍ
مَعْدُودَةٍ مِنَ الْبَشَرِ وَهُمُ الْأَنْبِيَاءُ عليهم السلام، وَكُلُّ مَنْ عَدَاهُمْ فَلَيْسَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَثْبُتَ عَلَى عَمَلٍ صَالِحٍ، وَيَكْتَفِيَ بِهَذِهِ التُّكَأَةِ فِي تَسْلِيَةِ نَفْسِهِ وَتَجْرِيئِهَا عَلَى الْجَرَائِمِ.
وَكَفَى بِهَذَا حُمْقًا، فَلَيْسَ يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ غَيْرِ النَّبِيِّ لَيْسَ مَعْصُومًا أَنْ يَكُونَ إِلْفَ مَآثِمَ، وَحِلْفَ جَرَائِمَ، وَخِدْنَ عَظَائِمَ، وَلَوْ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ النَّاسُ هَكَذَا لَكَانَتِ الشَّرَائِعُ عَبَثًا، وَالتَّهْذِيبُ لَغْوًا، وَلَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَخَرِبَ الْعُمْرَانُ.
(وَهَلْ يَصِحُّ فِي حُكْمِ الْعَقْلِ أَنْ يُقَالَ: أَنَّ الشَّرَائِعَ وَالْحُدُودَ وَضُرُوبَ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ لَمْ يُنْعِمِ اللهُ بِتَشْرِيعِهَا إِلَّا لِأَجْلِ الْمَعْصُومِينَ؟ وَهَلْ يَحْتَاجُ الْمَعْصُومُ إِلَى وَعْدٍ أَوْ وَعِيدٍ؟ وَمَا فَائِدَتُهُمَا بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ، وَقَدْ أَيْقَنَ بِتَوْفِيقِ اللهِ لَهُ، وَأَنَّهُ لَا يَأْتِي أَمْرًا يُخَالِفُ مَا أُمِرَ بِهِ، وَلَا يَقْتَرِفُ شَيْئًا مِمَّا نُهِيَ عَنْهُ؟ ثُمَّ كَيْفَ لَا يَكُونُ لِغَيْرِ الْمَعْصُومِينَ نَصِيبٌ فِي الْوَعِيدِ وَلَا الزَّجْرِ مَعَ أَنَّهُمْ أَحَقُّ النَّاسِ بِالرَّدْعِ وَأَحْوَجُهُمْ إِلَى التَّخْوِيفِ مِنْ سُوءِ الْعَاقِبَةِ؟) .
وَأَمَّا الِاسْتِعَانَةُ بِالصَّلَاةِ فَهِيَ أَقْرَبُ إِلَى حُصُولِ الْمَأْمُولِ؛ وَإِرْجَاعِ النَّفْسِ إِلَى اللهِ - تَعَالَى - لِمَا لَهَا مِنَ التَّأْثِيرِ فِي الرُّوحِ، وَلَكِنَّهَا أَشَقُّ عَلَى النَّفْسِ الْأَمَّارَةِ بِالسُّوءِ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ - تَعَالَى -:(وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ) أَيْ: لَثَقِيلَةٌ شَدِيدَةُ الْوَقْعِ كَقَوْلِهِ: (كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ)(42: 13) إِلَّا عَلَى الْمُخْبِتِينَ الْمُتَطَامِنَةِ قُلُوبُهُمْ وَجَوَارِحُهُمْ لِلَّهِ - تَعَالَى -؛ فَهَؤُلَاءِ هُمُ الَّذِينَ يَسْتَفِيدُونَ بِالصَّلَاةِ وَالصَّبْرِ وَكُلِّ الْخَلَائِقِ الْحَسَنَةِ، لِمَا تُعْطِيهِ الصَّلَاةُ مِنْ مُرَاقَبَةِ اللهِ - تَعَالَى -، كَمَا قَالَ عز وجل:(إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا إِلَّا الْمُصَلِّينَ)(70: 19 - 22) فَمِنْ خَوَاصِّ الصَّلَاةِ وَالصَّبْرِ وَنَفْيِ الْجَزَعِ، وَمِنْ خَوَاصِّهَا النَّهْيُ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ، وَمِنْ خَوَاصِّهَا الْجُودُ وَالسَّخَاءُ، فَالْمُصَلِّي الْحَقِيقِيُّ هُوَ الْبَارُّ الْحَقِيقِيُّ الَّذِي لَا يَتْرُكُ الْحَقَّ لِأَجْلِ شَهْوَةٍ، وَلَا لِمَا يَعْرِضُ لَهُ فِي مُعَامَلَاتِهِ مَعَ الْخَلْقِ مِنْ خَوْفٍ وَخَشْيَةٍ، هَذَا أَثَرُ صَلَاةِ الْخَاشِعِينَ بِالْإِجْمَالِ، وَلِذَلِكَ قَالَ - تَعَالَى -:(قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ)(23: 1، 2) .
ثُمَّ وَصَفَ الْخَاشِعِينَ وَصْفًا يُنَاسِبُ الْمَقَامَ، وَيُظْهِرُ وَجْهَ الِاسْتِعَانَةِ بِهِ فَقَالَ:(الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) أَيْ: الَّذِينَ يَتَوَقَّعُونَ لِقَاءَ اللهِ - تَعَالَى - يَوْمَ الْحِسَابِ وَالْجَزَاءِ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، بَعْدَ الْبَعْثِ لَا مَرْجِعَ لَهُمْ إِلَى
غَيْرِهِ، قَالَ شَيْخُنَا: فَالْإِيمَانُ بِلِقَاءِ اللهِ - تَعَالَى - هُوَ الَّذِي يُوقِفُ الْمُعْتَقِدَ عِنْدَ حُدُودِهِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنِ الِاعْتِقَادُ يَقِينِيًّا، فَإِنَّ الَّذِي يَغْلُبُ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّ هَذَا الشَّيْءَ ضَارٌّ يَجْتَنِبُهُ أَوْ أَنَّهُ نَافِعٌ يَطْلُبُهُ، وَلِذَلِكَ اكْتَفَى هُنَا بِذِكْرِ الظَّنِّ، وَقَدْ فَسَّرَ الظَّنَّ مُفَسِّرُنَا (الْجَلَالُ) بِالْيَقِينِ؛ لِأَنَّهُ الِاعْتِقَادُ الْمُنْجِي فِي الْآخِرَةِ، وَفَاتَهُ أَنَّ الِاكْتِفَاءَ بِالظَّنِّ أَبْلَغُ فِي التَّقْرِيعِ وَالتَّوْبِيخِ كَأَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَيَنْسَوْنَ أَنْفُسَهُمْ وَهُمْ
يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ لَا يَصِلُ إِيمَانُهُمْ بِاللهِ وَبِكِتَابِهِ إِلَى دَرَجَةِ الظَّنِّ الَّذِي يَأْخُذُ صَاحِبُهُ بِالِاحْتِيَاطِ.
(أَقُولُ) : بَلْ هُوَ تَقْلِيدٌ عَادِيٌّ مَحْضٌ كَالْعَادَاتِ الْقَوْمِيَّةِ وَالْوَطَنِيَّةِ فَهُوَ لَا يُنْجِي صَاحِبَهُ فِي الْآخِرَةِ.
(يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ)
تَقَدَّمَ تَذْكِيرُ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِالنِّعْمَةِ فِي آيَةٍ قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ مَقْرُونًا بِالْأَمْرِ بِالْوَفَاءِ بِعَهْدِ اللهِ، وَبِالْوَعْدِ بِالْجَزَاءِ عَلَيْهِ، وَالْأَمْرِ بِالْخَشْيَةِ مِنْهُ وَالرَّهْبَةِ لَهُ وَحْدَهُ. (وَهِيَ آيَةُ 40) وَتَلَاهَا آيَاتٌ أَمَرَهُمْ فِيهَا بِالْإِيمَانِ بِالْقُرْآنِ وَنَهَاهُمْ عَنْ لَبْسِ الْحَقِّ بِالْبَاطِلِ وَكِتْمَانِهِ. ثُمَّ أَمَرَهُمْ بِإِقَامَةِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، ثُمَّ وَبَّخَهُمْ عَلَى نِسْيَانِ أَنْفُسِهِمْ مِنَ الْبِرِّ مَعَ أَمْرِهِمْ لِلنَّاسِ بِهِ وَتِلَاوَتِهِمُ الْكِتَابَ الدَّاعِيَ إِلَيْهِ، وَدَلَّهُمْ عَلَى الطَّرِيقِ الَّتِي لَوْ سَلَكُوهَا عُوفُوا مِنْ هَذَا النِّسْيَانِ، تِلْكَ الطَّرِيقُ هِيَ: الِاسْتِعَانَةُ بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ الَّتِي فَقَدُوهَا بِفَقْدِ رُوحِهَا، وَهُوَ: الْإِخْلَاصُ وَالْخُشُوعُ، وَبَعْدَ هَذَا عَادَ إِلَى التَّذْكِيرِ بِالنِّعْمَةِ بِنَوْعٍ مِنَ التَّفْصِيلِ، فَإِنَّ النِّعْمَةَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى مُجْمَلَةٌ وَالْإِجْمَالُ يُنَبِّهُ الْفِكْرَ إِلَى الذِّكْرِ فِي الْجُمْلَةِ، فَإِذَا تَلَاهُ التَّفْصِيلُ وَالْبَيَانُ كَانَ عَلَى اسْتِعْدَادٍ تَامٍّ لِكَمَالِ الْفَهْمِ (فَيَكُونُ التَّذَكُّرُ أَتَمَّ وَالتَّأَثُّرُ أَقْوَى، وَالشُّكْرُ عَلَى النِّعْمَةِ أَرْجَى) .
ثُمَّ طَلَبَ مِنْهُمْ أَنْ يَذْكُرُوا نِعْمَتَهُ، وَتَفْضِيلَهُ إِيَّاهُمْ عَلَى النَّاسِ، إِحْيَاءً لِشُعُورِ الْكَرَامَةِ فِي نُفُوسِهِمْ، وَوَصْلِهِ بِالْأَمْرِ بِاتِّقَاءِ يَوْمِ الدِّينِ وَالْجَزَاءِ. وَهَذَا أُسْلُوبٌ حَكِيمٌ فِي الْوَعْظِ، فَيَنْبَغِي لِكُلِّ وَاعِظٍ أَنْ يَبْدَأَ وَعْظَهُ بِإِحْيَاءِ إِحْسَاسِ الشَّرَفِ وَشُعُورِ
الْكَرَامَةِ فِي نُفُوسِ الْمَوْعُوظِينَ لِتَسْتَعِدَّ بِذَلِكَ لِقَبُولِ الْمَوْعِظَةِ (وَتَجِدَ مِنْ ذَلِكَ الْإِحْسَاسِ مَعُونَةً مِنَ الْعَزِيمَةِ الصَّادِقَةِ الَّتِي هِيَ مِنْ خَصَائِصِ النُّفُوسِ الْكَرِيمَةِ عَلَى عَوَامِلِ الْهَوَى وَالشَّهْوَةِ، فَإِنَّ النَّفْسَ إِذَا اسْتَشْعَرَتْ كَرَامَتَهَا وَعُلُوَّهَا إِلَى مَا فِي الرَّذَائِلِ مِنَ الْخِسَّةِ أَبَى لَهَا ذَلِكَ الشُّعُورُ - شُعُورُ الْعُلُوِّ وَالرِّفْعَةِ - أَنْ تَنْحَطَّ إِلَى تَعَاطِي تِلْكَ الْخَسَائِسِ، وَكَانَ ذَلِكَ مِنْ أَقْوَى الْوَسَائِلِ لِمُسَاعَدَةِ الْوَاعِظِ عَلَى بُلُوغِ قَصْدِهِ مِنْ نَفْسِ مَنْ يُوَجِّهُ إِلَيْهِ وَعْظَهُ، ثُمَّ إِنَّ فِي الْوَعْظِ مَا يُؤْلِمُ نَفْسَ الْمَوْعُوظِ، وَحَرَجَا يَكَادُ يَحْمِلُهَا عَلَى النَّفْرَةِ مِنْ تَلْقِينِهِ، وَالِاسْتِنْكَافِ مِنْ سَمَاعِهِ، فَذِكْرُ الْوَاعِظِ لِمَا يُشْعِرُ بِكَرَامَةِ الْمُخَاطَبِ وَرِفْعَةِ شَأْنِهِ، وَإِبَاءِ مَا يَنْمِي إِلَيْهِ مِنَ الشَّرَفِ أَنْ يَدُومَ عَلَى مِثْلِ مَا يَقْتَرِفُ يُقْبِلُ بِالنَّفْسِ عَلَى الْقَبُولِ، كَمَا يُقْبِلُ الْجَرِيحُ عَلَى مَنْ يُضَمِّدُ جِرَاحَهُ وَيُسَكِّنُ آلَامَهُ) .
أَلَا وَإِنَّ هَذَا الشُّعُورَ، شُعُورَ الشَّرَفِ وَالرِّفْعَةِ، مُلَازِمٌ لِلْإِنْسَانِ لَا يُفَارِقُهُ وَلَكِنَّهُ قَدْ يَضْعُفُ حَتَّى لَا يَظْهَرَ لَهُ أَثَرٌ، وَفِي تَحَرِيكِ الْوَاعِظِ لَهُ اعْتِرَافٌ ضِمْنِيٌّ بِكَرَامَةٍ وَفَضْلٍ لِلْمَوْعُوظِ يَشْفَعَانِ لَهُ بِمَا يَسْتَلْزِمُهُ الْوَعْظُ مِنْ مَظِنَّةِ الْإِهَانَةِ فَيَسْهُلُ احْتِمَالُهُ وَيَقْرُبُ قَبُولُهُ.
شُعُورُ الْعِزَّةِ وَالْكَرَامَةِ أَمْرٌ شَرِيفٌ يُحْيِيهِ الْإِيمَانُ فِي نُفُوسِ الْمُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ، بَلْ يَسْتَلْزِمُهُ عَلَى وَجْهٍ أَكْمَلَ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الْإِيمَانِ الصَّحِيحِ يَرَى أَنَّ لَهُ نِسْبَةً إِلَى الرَّبِّ الْعَظِيمِ خَالِقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَأَنَّهُ سَنَدُهُ وَمُمِدُّهُ، وَعِنْدَ ذَلِكَ تَعْلُو نَفْسُهُ وَتَرْتَفِعُ كَمَا قِيلَ:
قَوْمٌ يُخَالِجُهُمْ زَهْوٌ بِسَيِّدِهِمْ
…
وَالْعَبْدُ يَزْهُو عَلَى مِقْدَارِ مَوْلَاهُ
مَنْ كَانَ يَشْعُرُ لِنَفْسِهِ بِقِيمَةٍ أَوْ يَجِدُ لَهَا حَقًّا فِي أَنْ تَعِزَّ وَتُكْرَمَ، تَرَاهُ إِذَا خَلَا بِنَفْسِهِ وَتَذَكَّرَ أَنَّهُ أَلَمَّ بِنَقِيصَةٍ يَتَأَلَّمُ وَيَتَمَلْمَلُ وَيَسْتَعِيذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ. وَإِذَا تَذَكَّرَ الْمُؤْمِنُ أَنَّ قَلْبَهُ الَّذِي تَشَرَّفَ بِمَعْرِفَةِ اللهِ - تَعَالَى - (وَأَنَّ شَرَفَ تِلْكَ الْمَعْرِفَةِ خَلَّصَهُ مِنَ الْعُبُودِيَّةِ لِغَيْرِهِ وَصَيَّرَهُ مَرْبُوبًا لِرَبِّ الْعَالَمِينَ وَحْدَهُ، فَهُوَ فِي ذَلِكَ مَعَ أَرْفَعِ وَأَكْرَمِ كَرِيمٍ سَوَاءٌ - إِذَا ذَكَرَ ذَلِكَ، لَمْ يَرَ مِنَ اللَّائِقِ بِمِثْلِ هَذَا الِاخْتِصَاصِ أَنْ يُجَاوِرَهُ مَا يُدَنِّسُهُ مِنَ الِاسْتِبْعَادِ لِمَا يُذِلُّهُ، بَلْ يَرَى أَنَّ ذَلِكَ الشُّعُورَ الظَّاهِرَ وَالْعِرْفَانَ الْهَادِيَ إِلَى مَقَامَاتِ الْكَرَامَةِ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُزَاحِمَهُ فِي مَوْطِنِهِ مِنَ الْقَلْبِ دَنَسٌ مِنْ رِجْسِ الرَّذَائِلِ) فَيَنْفِرُ مِنْ هَذِهِ الْمُزَاحَمَةِ وَتَثْقُلُ عَلَيْهِ وَيَسْهُلُ عَلَيْهِ التَّزَكِّي مِمَّا أَلَمَّ بِهِ وَالْإِنَابَةُ إِلَى اللهِ - تَعَالَى - (قَالَ) : لِهَذَا بَدَأَ اللهُ - تَعَالَى - تَذْكِيرَ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا بَدَأَ وَثَنَّى بِمَا ثَنَّى.
وَهُوَ يَتَضَمَّنُ مِنَ التَّقْرِيعِ وَالتَّوْبِيخِ مَا يُشْعِرُ بِغِلَظِ طِبَاعِهِمْ وَفَسَادِ قُلُوبِهِمْ، فَإِنَّ مَنْ لَا يَتَأَدَّبُ بِإِحْيَاءِ إِحْسَاسِ الْكَرَامَةِ، يُؤَدَّبُ بِالتَّأْنِيبِ وَالْإِهَانَةِ.
الْعَبْدُ يُقْرَعُ بِالْعَصَا وَالْحُرُّ تَكْفِيهِ الْإِشَارَةْ
فَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: (يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ) مُؤَكِّدٌ لِمِثْلِهِ فِي الْآيَةِ 40 وَتَمْهِيدٌ لِمَا عَطَفَهُ عَلَيْهِ مِنْ تَفْصِيلِ الْإِجْمَالِ فِي الْآيَةِ وَمَا بَعْدَهَا مِنَ الْآيَاتِ، وَمَا اقْتَرَنَ بِهِ مِنْ بَيَانِ كُفْرِهِمْ لِلنِّعَمِ، وَمَا تَخَلَّلَهَا مِنَ الْمَوَاعِظِ وَالْحُجَجِ، وَأَوَّلُهُ وَأَعْلَاهُ قَوْلُهُ:(وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ) أَيْ: أَعْطَيْتُكُمْ مِنَ الْفَضْلِ - وَهُوَ الزِّيَادَةُ فِيمَا يَحْسُنُ - مَا لَمْ أُعْطِ غَيْرَكُمْ مِنَ الشُّعُوبِ - حَتَّى ذَاتِ الْمَزَايَا الدُّنْيَوِيَّةِ - كَالْمَصْرِيِّينَ وَسُكَّانِ الْبِلَادِ الْمُقَدَّسَةِ.
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ مَا مَعْنَاهُ: نَادَاهُمْ بِاسْمِ أَبِيهِمُ الَّذِي هُوَ أَصْلُ عِزِّهِمْ وَسُؤْدُدِهِمْ وَمَنْشَأُ تَفْضِيلِهِمْ، وَأَسْنَدَ النِّعْمَةَ إِلَيْهِمْ جَمِيعًا لَا إِلَيْهِ وَحْدَهُ؛ لِأَنَّ النِّعْمَةَ عَمَّتْهُمْ، وَالتَّفْضِيلَ شَمَلَهُمْ، ثُمَّ طَفِقَ يُفَصِّلُ النِّعْمَةَ الَّتِي ذَكَرَهَا مُجْمَلَةً فِيمَا سَبَقَ بِذِكْرِ أُمَّهَاتِ أَنْوَاعِهَا، فَذَكَرَ تَفْضِيلَهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ بِمَحْضِ كَرَمِهِ وَفَضْلِهِ، فَإِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَغَيْرِهِمْ مِنَ الْبَشَرِ، وَالتَّفْضِيلُ هُوَ مَنَاطُ الْأَخْذِ بِالْفَضَائِلِ وَتَرْكِ الرَّذَائِلِ؛ لِأَنَّ الَّذِي يَرَى نَفْسَهُ رَذْلًا خَسِيسًا، لَا يُبَالِي مَا يَفْعَلُ.
وَمَنْ يَرَى نَفْسَهُ مُفَضَّلًا مُكَرَّمًا، فَإِنَّهُ يَتَرَفَّعُ عَنِ الدَّنَايَا وَالْخَسَائِسِ الَّتِي تُدَنِّسُ شَرَفَهُ وَتَذْهَبُ
بِفَضْلِهِ. وَالْحِكْمَةُ فِي التَّذْكِيرِ بِالتَّفْضِيلِ: أَنْ يَتَذَكَّرُوا أَنَّ الَّذِي فَضَّلَهُمْ لَهُ أَنْ يُفَضِّلَ غَيْرَهَمْ كَمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَأُمَّتِهِ، وَتَنْبِيهُهُمْ إِلَى عَدَمِ الذُّهُولِ عَنْ أَنْفُسِهِمْ لِيُذَكِّرُوهَا عِنْدَ أَمْرِ النَّاسِ بِالْبِرِّ، وَيَعْلَمُوا أَنَّهُمْ أَوْلَى بِأَنْ يَبِرُّوا مِمَّنْ يَأْمُرُونَهُمْ بِالْبِرِّ؛ لِأَنَّهُمْ يَنَالُونَ الْكِتَابَ الدَّاعِيَ إِلَيْهِ وَهُوَ آيَةُ تَفْضِيلِهِمْ. وَإِلَى أَنَّهُمْ أَحَقُّ بِاسْتِعْمَالِ الْفِكْرِ فِي الْآيَاتِ الَّتِي أُوتِيَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وَأَجْدَرُ مِنْ جَمِيعِ الشُّعُوبِ بِالْإِيمَانِ بِهِ، فَإِنَّ الْمُفَضَّلَ أَوْلَى بِالسَّبْقِ إِلَى الْفَضَائِلِ مِمَّنْ فُضِّلَ هُوَ عَلَيْهِ.
ثُمَّ إِنَّ الْفَضْلَ عَلَى الْعَالَمِينَ إِنْ كَانَ بِكَثْرَةِ الْأَنْبِيَاءِ فِيهِمْ فَهُوَ ظَاهِرٌ عَلَى عُمُومِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُعْرَفُ شَعْبٌ مِنَ الشُّعُوبِ يُزَاحِمُهُمْ فِي هَذِهِ الْمَزِيَّةِ، وَلَا تَقْضِي هَذِهِ الْفَضِيلَةُ بِأَنْ يَكُونَ كُلُّ فَرْدٍ مِنْهُمْ أَفْضَلَ مِنْ كُلِّ فَرْدٍ مَنْ غَيْرِهِمْ، وَلَا تُنَافِي أَنْ يَفْضُلَهُمْ أَخَسُّ الشُّعُوبِ - بَلْهَ غَيْرُهُ - إِذَا هُمُ انْحَرَفُوا عَنْ هَدْيِ أَنْبِيَائِهِمْ وَتَرَكُوا سُنَّتَهُمْ وَاهْتَدَى إِلَيْهَا
ذَلِكَ الشَّعْبُ الَّذِي كَانَ مَفْضُولًا. وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ مِنَ التَّفْضِيلِ هُوَ الْقُرْبُ مِنَ اللهِ - تَعَالَى - بِمَرْضَاتِهِ، فَلَا بُدَّ مِنْ تَخْصِيصِهِ بِأُولَئِكَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُهْتَدِينَ بِهِمْ مِنْ أَهْلِ زَمَانِهِمْ وَالتَّابِعَيْنِ لَهُمْ فِيهِ، وَمِنْ تَقْيِيدِهِ بِمُدَّةِ الِاسْتِقَامَةِ عَلَى الْعَمَلِ الَّذِي اسْتَحَقُّوا بِهِ التَّفْضِيلَ.
ثُمَّ قَالَ - تَعَالَى -: (وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا) أَيْ وَاحْذَرُوا يَوْمًا عَظِيمًا أَمَامَكُمْ سَيَقَعُ فِيهِ مِنَ الْحِسَابِ وَالْجَزَاءِ مَا لَا مَنْجَاةَ مِنْ هَوْلِهِ إِلَّا بِتَقْوَى اللهِ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ، وَمُرَاقَبَتِهِ فِي جَمِيعِ الْأَعْمَالِ، فَهُوَ يَوْمٌ لَا تَقْضِي فِيهِ نَفْسٌ - مَهْمَا يَكُنْ قَدْرُهَا عَظِيمًا - عَنْ نَفْسٍ مَهْمَا يَكُنْ ذَنْبُهَا صَغِيرًا شَيْئًا مَا، كَحَمْلِ وِزْرِهَا أَوْ تَكْفِيرِ ذَنْبِهَا (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى) (35: 18) وَصَفَ الْيَوْمَ بِهَذَا الْوَصْفِ وَلَمْ يَقُلْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَثَلًا؛ لِلْإِشْعَارِ بِأَنَّ التَّصَرُّفَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ وَالْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ، فَلَيْسَ فِيهِ مَا اعْتَادَ النَّاسُ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا مِنْ دِفَاعِ بَعْضِهِمْ عَنْ بَعْضٍ. وَعَبَّرَ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى فِي أَوَّلِ سُورَةٍ بِقَوْلِهِ:(مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ)(1: 4) ثُمَّ وَصَفَهُ هُنَا بِوَصْفٍ آخَرَ يُنَاسِبُ الْأَوَّلَ فَقَالَ: (وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ) وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو (وَلَا تُقْبَلُ) بِالتَّاءِ، وَالْمَعْنَى: لَا يَقْبَلُ مِنْهَا أَنْ تَأْتِيَ بِشَفِيعٍ يَشْفَعُ لَهَا، وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا فِدَاءٌ أَوْ بَدَلٌ إِنْ هِيَ اسْتَطَاعَتْ أَنْ تَأْتِيَ بِذَلِكَ كَمَا يَظُنُّ أَكْثَرُ الْكُفَّارِ، وَلَنْ تَسْتَطِيعَ. قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: وَكَأَنَّهُ أُرِيدَ بِالْآيَةِ نَفْيُ أَنْ يَدْفَعَ أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ الْعَذَابَ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ مُحْتَمَلٍ، وَفَصَّلَ هَذِهِ الْوُجُوهَ بِمَا يَشْمَلُ الثَّلَاثَ الْمَنْفِيَّةَ، وَجُمْلَةُ الْمَعْنَى: أَنَّهُ يَوْمٌ لَا تَأْثِيرَ لِأَحَدٍ فِيهِ وَلَا كَسْبَ، وَلَا يَنْطِقُ فِيهِ أَحَدٌ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ - تَعَالَى. وَقَالَ (الْجَلَالُ) : أَيْ لَيْسَ لَهَا شَفَاعَةٌ فَتُقْبَلُ، وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى - حِكَايَةً عَنِ الْمُجْرِمِينَ فِي الْآخِرَةِ:(فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ)(26: 100) الْآيَةِ وَفَسَّرَ الْعَدْلَ بِالْفِدَاءِ قَالَ: (وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ) أَيْ يُمْنَعُونَ مِنْ عَذَابِ اللهِ.
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَلَا دَلِيلَ فِي هَذَا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مَا ذَكَرَهُ فِي مَسْأَلَةِ الشَّفَاعَةِ، وَإِنَّمَا السِّيَاقُ فِي الْآيَةِ وَأَمْثَالِهَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بَيَانُ أَنَّ ذَلِكَ الْيَوْمَ يَوْمٌ تَنْقَطِعُ فِيهِ الْأَسْبَابُ، وَتَبْطُلُ مَنْفَعَةُ الْأَنْسَابِ، وَتَتَحَوَّلُ فِيهِ سُنَّةُ هَذِهِ الْحَيَاةِ مِنِ انْطِلَاقِ الْإِنْسَانِ فِي اخْتِيَارِهِ يَدْفَعُ عَنْ نَفْسِهِ بِالْعَدْلِ وَالْفِدَاءِ، وَيَسْتَعِينُ عَلَى الْمُدَافَعَةِ بِالشَّفَاعَةِ عِنْدَ
السَّلَاطِينِ وَالْأُمَرَاءِ، وَقَدْ يُوجَدُ لَهُ فِيهَا أَنْصَارٌ يَنْصُرُونَهُ بِالْحَقِّ وَبِالْبَاطِلِ عَلَى سَوَاءٍ، بَلْ يَكُونُ لَهُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ شَأْنٌ آخَرُ مَعَ رَبِّهِ، تَضْمَحِلُّ فِيهِ جَمِيعُ الْوَسَائِلِ إِلَّا مَا كَانَ مِنْ إِخْلَاصِهِ فِي عَمَلِهِ، قَبْلَ حُلُولِ أَجَلِهِ، وَرَحْمَةِ اللهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ لَهُ، لِضَعْفِ حَوْلِهِ، وَضِيقِ طُولِهِ، وَأَنَّهُ يَوْمٌ لَا يَتَحَرَّكُ فِيهِ عُضْوٌ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ، وَلَا يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَنْبِسَ بِكَلِمَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ (يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ) (82: 19) .
كَانَ الْيَهُودُ الْمُخَاطَبُونَ بِبَيَانِ هَذِهِ الْحَقِيقَةِ كَغَيْرِهِمْ مِنْ أُمَمِ الْجَاهِلِيَّةِ وَأَهْلِ الْمِلَلِ الْوَثَنِيَّةِ، كَقُدَمَاءِ الْمِصْرِيِّينَ وَالْيُونَانِ يَقِيسُونَ أُمُورَ الْآخِرَةِ عَلَى أُمُورِ الدُّنْيَا، فَيَتَوَهَّمُونَ أَنَّهُ يُمْكِنُ تَخَلُّصُ الْمُجْرِمِينَ مِنَ الْعِقَابِ بِفِدَاءٍ يُدْفَعُ بَدَلًا وَجَزَاءً عَنْهُ - كَمَا يَسْتَبْدِلُ بَعْضُ حُكَّامِهِمْ مَنْفَعَةً مَالِيَّةً بِعُقُوبَةٍ بَدَنِيَّةٍ - أَوْ بِشَفَاعَةٍ مِنْ بَعْضِ الْمُقَرَّبِينَ إِلَى الْحَاكِمِ يُغَيِّرُ بِهَا رَأْيَهُ وَيَفْسَخُ إِرَادَتَهُ. وَلَقَدِ اكْتَسَحَ الْإِسْلَامُ هَذِهِ الْعَقَائِدَ وَآثَارَهَا الْعَمَلِيَّةَ بِالتَّوْحِيدِ الْخَالِصِ، وَأَتَى بُنْيَانَهَا مِنَ الْقَوَاعِدِ، وَلَكِنَّ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَسْلَمُوا مِنْهَا فَقَدْ دَخَلَ فِي الْإِسْلَامِ أَقْوَامٌ يَحْمِلُونَ أَوْزَارًا مِمَّا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الْوَثَنِيَّةِ، وَلَمْ يُلَقَّنُوا الدِّينَ مِنَ الْقُرْآنِ وَلَا كَمَا أَرْشَدَ الْقُرْآنُ، وَلَكِنَّهُمْ تَقَلَّدُوهُ مِمَّنْ لَا يَعْرِفُهُ حَقَّ الْمَعْرِفَةِ، وَلُقِّنُوهُ كَمَا تُرْشِدُ إِلَيْهِ كُتُبُ التَّقْلِيدِ مِنْ مُصْطَلَحَاتٍ مُبْتَدَعَةٍ، فَكَانُوا عَلَى بَقِيَّةٍ مِمَّا كَانَ عِنْدَهُمْ وَعَلَى جَهْلٍ بِالْإِسْلَامِ، وَجَاءَ قَوْمٌ آخَرُونَ تَعَمَّدُوا الْإِفْسَادَ فَجَعَلُوا بِالتَّأْوِيلِ الْبَاطِلَ حَقًّا، وَالْكَذِبَ صِدْقًا.
وَذَكَرَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ هُنَا بَعْضَ الْعَادَاتِ الْمِصْرِيَّةِ الَّتِي لَا تَزَالُ يُعْمَلُ بِهَا بِاسْمِ الدِّينِ، وَهِيَ مِنْ إِرْثِ قُدَمَاءِ الْوَثَنِيِّينَ، كَإِعْطَائِهِمْ لِغَاسِلِ الْمَيِّتِ شَيْئًا مِنَ النَّقْدِ يُسَمُّونَهُ " أُجْرَةَ الْمُعَدِّيَةِ " أَيْ أُجْرَةَ نَقْلِهِ إِلَى الْجَنَّةِ. وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَعْمَلُونَهُ لِلْأَمْوَاتِ، وَلِمَنْ يَعْتَقِدُونَ فِيهِمُ الْوِلَايَةَ وَالْقُرْبَ مِنَ اللهِ، وَمِثْلُهُ أَكْثَرُ تَقَالِيدِهِمْ فِي بِنَاءِ الْمَقَابِرِ وَاحْتِفَالَاتِهَا.
ثُمَّ ذَكَرَ الْمُكَفِّرَاتِ الَّتِي يَعْتَقِدُهَا الْيَهُودُ كَقُرْبَانِ الْإِثْمِ، وَقُرْبَانِ الْخَطِيئَةِ، وَقُرْبَانِ السَّلَامَةِ، وَالْمَحْرَقَةِ وَالِاكْتِفَاءُ مِمَّنْ لَمْ يَجِدِ الْقُرْبَانَ بِحَمَامَتَيْنِ يُكَفِّرُ بِهِمَا عَنْ ذَنْبِهِ، وَقَالَ: وَكَانُوا يَفْهَمُونَ أَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ تُكَفِّرُ الذُّنُوبَ بِذَاتِهَا، وَالْحَقُّ أَنَّهَا عُقُوبَاتٌ لَا مُكَفِّرَاتٌ فَإِنَّ مَنْ فَهِمَ التَّوْرَاةَ حَقَّ فَهْمِهَا يَعْلَمُ أَنَّ الْمُكَفِّرَ الْحَقِيقِيَّ هُوَ التَّوْبَةُ وَالْإِقْلَاعُ عَنِ الذَّنْبِ، ثُمَّ تَقْدِيمَ الْقُرْبَانِ يَكُونُ تَرْبِيَةً وَعُقُوبَةً. وَقَدْ أَخْبَرُهُمُ اللهُ - تَعَالَى - فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِأَنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُقْبَلُ فِيهِ عَدْلٌ يَفْتَدِي الْإِنْسَانُ بِهِ. قَالَ: وَكَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُمْ بِانْتِسَابِهِمْ
لِلْأَنْبِيَاءِ لَا يَدْخُلُونَ النَّارَ أَوْ لَا تَمَسُّهُمْ
إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً؛ لِأَنَّ لَهُمُ الْجَاهَ وَالتَّأْثِيرَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلَا يَرْضَوْنَ أَنْ يَتْرُكُوا أَبْنَاءَهُمْ فِي الْعَذَابِ، ثُمَّ زَادُوا عَلَى ذَلِكَ شَفَاعَةَ الْأَحْبَارِ لِمَنْ يَنْتَسِبُ إِلَيْهِمْ. وَمَتَى ضَعُفَ الدِّينُ يُوجَدُ مِنْ رُؤَسَائِهِ مَنْ يُرَوِّجُ هَذِهِ الْعَقَائِدَ فِي الْعَامَّةِ لِمَا تَسُوقُ إِلَيْهِمْ مِنَ الْمَنَافِعِ. وَكَذَلِكَ كَانَ الْيَهُودُ حَتَّى جَاءَ الْإِسْلَامُ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَأَمْثَالِهَا فَمَحَا هَذِهِ الْعَقِيدَةَ لِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنُونَ بِهِ أَنَّهُ لَا يَنْفَعُ الْإِنْسَانَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَّا مَرْضَاةُ اللهِ - تَعَالَى - بِالْإِيمَانِ الْخَالِصِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ.
فِي الْقُرْآنِ آيَاتٌ نَاطِقَةٌ بِنَفْيِ الشَّفَاعَةِ مُطْلَقًا، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي وَصْفِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ:(لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ)(2: 254) وَأُخْرَى نَاطِقَةٌ بِنَفْيِ مَنْفَعَةِ الشَّفَاعَةِ، كَقَوْلِهِ عز وجل:(فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ)(74: 48) وَآيَاتٌ تُفِيدُ النَّفْيَ بِمِثْلِ قَوْلِهِ: (إِلَّا بِإِذْنِهِ)(2: 255) وَقَوْلِهِ (إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى)(21: 28) فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَحْكُمُ الثَّانِي بِالْأَوَّلِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَرَى أَنَّهُ لَا مُنَافَاةَ بَيْنَهُمَا فَنَحْتَاجُ إِلَى حَمْلِ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ؛ لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ (أَيِ الِاسْتِثْنَاءِ بِالْإِذْنِ وَالْمَشِيئَةِ) مَعْهُودٌ فِي أُسْلُوبِ الْقُرْآنِ فِي مَقَامِ النَّفْيِ الْقَطْعِيِّ لِلْإِشْعَارِ بِأَنَّ ذَلِكَ بِإِذْنِهِ وَمَشِيئَتِهِ عز وجل، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -:(سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ)(87: 6، 7) وَقَوْلِهِ: (فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ)(11: 107) فَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ نَصٌّ قَطْعِيٌّ فِي وُقُوعِ الشَّفَاعَةِ، وَلَكِنْ وَرَدَ الْحَدِيثُ بِإِثْبَاتِهَا، فَمَا مَعْنَاهَا؟
الشَّفَاعَةُ الْمَعْرُوفَةُ عِنْدَ النَّاسِ: هِيَ أَنْ يَحْمِلَ الشَّافِعُ الْمَشْفُوعَ عِنْدَهُ عَلَى فِعْلٍ أَوْ تَرْكٍ كَانَ أَرَادَ غَيْرَهُ - حَكَمَ بِهِ أَمْ لَا - فَلَا تَتَحَقَّقُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا بِتَرْكِ الْإِرَادَةِ، وَفَسْخِهَا لِأَجْلِ الشَّفِيعِ.
فَأَمَّا الْحَاكِمُ الْعَادِلُ فَإِنَّهُ لَا يَقْبَلُ الشَّفَاعَةَ إِلَّا إِذَا تَغَيَّرَ عِلْمُهُ بِمَا كَانَ إِرَادَةً أَوْ حَكَمَ بِهِ؛ كَأَنْ كَانَ أَخْطَأَ ثُمَّ عَرَفَ الصَّوَابَ، وَرَأَى أَنَّ الْمَصْلَحَةَ أَوِ الْعَدْلَ فِي خِلَافِ مَا كَانَ يُرِيدُهُ أَوْ حَكَمَ بِهِ.
وَأَمَّا الْحَاكِمُ الْمُسْتَبِدُّ الظَّالِمُ فَإِنَّهُ يَقْبَلُ شَفَاعَةَ الْمُقَرَّبِينَ عِنْدَهُ فِي الشَّيْءِ، وَهُوَ عَالِمٌ بِأَنَّهُ ظُلْمٌ وَأَنَّ الْعَدْلَ فِي خِلَافِهِ، وَلَكِنَّهُ يُفَضِّلُ مَصْلَحَةَ ارْتِبَاطِهِ بِالشَّافِعِ الْمُقَرَّبِ مِنْهُ عَلَى الْعَدَالَةِ. وَكُلٌّ مِنَ النَّوْعَيْنِ مُحَالٌ عَلَى اللهِ - تَعَالَى -؛ لِأَنَّ إِرَادَتَهُ - تَعَالَى - عَلَى حَسَبِ عِلْمِهِ، وَعِلْمُهُ أَزَلِيٌّ لَا يَتَغَيَّرُ.
(قَالَ شَيْخُنَا) : فَمَا وَرَدَ فِي إِثْبَاتِ الشَّفَاعَةِ يَكُونُ عَلَى هَذَا مِنَ الْمُتَشَابِهَاتِ وَفِيهِ يَقْضِي مَذْهَبُ السَّلَفِ بِالتَّفْوِيضِ وَالتَّسْلِيمِ، وَأَنَّهَا مَزِيَّةٌ يَخْتَصُّ اللهُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ، عَبَّرَ عَنْهَا بِهَذِهِ الْعِبَارَةِ " الشَّفَاعَةُ " وَلَا نُحِيطُ بِحَقِيقَتِهَا مَعَ تَنْزِيهِ اللهِ جل جلاله عَنِ الْمَعْرُوفِ مِنْ مَعْنَى الشَّفَاعَةِ فِي لِسَانِ التَّخَاطُبِ الْعُرْفِيِّ.
وَأَمَّا مَذْهَبُ الْخَلَفِ فِي التَّأْوِيلِ فَلَنَا أَنْ نَحْمِلَ الشَّفَاعَةَ فِيهِ عَلَى أَنَّهَا دُعَاءٌ يَسْتَجِيبُهُ اللهُ - تَعَالَى. وَالْأَحَادِيثُ الْوَارِدَةُ فِي الشَّفَاعَةِ تَدُلُّ عَلَى هَذَا، فَفِي رِوَايَةِ الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا أَنَّ