المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

وَأَمَّا النِّعْمَةُ الثَّانِيَةُ فَفِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: (وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ - تفسير المنار - جـ ١

[محمد رشيد رضا]

الفصل: وَأَمَّا النِّعْمَةُ الثَّانِيَةُ فَفِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: (وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ

وَأَمَّا النِّعْمَةُ الثَّانِيَةُ فَفِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: (وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى) مَا مُنِحَ مِنَ اللهِ - تَعَالَى - يُسَمَّى إِيجَادُهُ إِنْزَالًا وَمِنَّةً (وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ)

‌(57:

25) عَلَى أَنَّ الْمَنَّ يَنْزِلُ كَالنَّدَى، وَهُوَ مَادَّةٌ لَزِجَةٌ حُلْوَةٌ تُشْبِهُ الْعَسَلَ، تَقَعُ عَلَى الْحَجَرِ وَوَرَقِ الشَّجَرِ مَائِعَةً، ثُمَّ تُجَمَّدُ وَتَجِفُّ فَيَجْمَعُهَا النَّاسُ، وَمِنْهَا التَّرَنْجَبِينُ وَبِهِ فَسَّرَ الْمَنَّ مُفَسِّرُنَا وَغَيْرُهُ. وَأَمَّا السَّلْوَى فَقَدْ فَسَّرُوهَا بِالسُّمَّانِيِّ، وَهُوَ الطَّائِرُ الْمَعْرُوفُ، فَمَعْنَى النُّزُولِ يَصِحُّ فِيهِ عَلَى حَقِيقَتِهِ أَيْضًا. وَظَاهِرٌ أَنَّ قَوْلَهُ - تَعَالَى -:(كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ) مُقَدَّرٌ فِيهِ الْقَوْلُ. وَفِي (سِفْرِ الْخُرُوجِ) أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكَلُوا الْمَنَّ أَرْبَعِينَ سَنَةً وَأَنَّ طَعْمَهُ كَالرُّقَاقِ بِالْعَسَلِ، وَكَانَ لَهُمْ بَدَلًا مِنَ الْخُبْزِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ أَكْلٌ سِوَاهُ إِلَّا السَّلْوَى، فَقَدْ كَانَ مَعَهُمُ الْمَوَاشِي، وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا مَحْرُومِينَ مِنَ النَّبَاتِ وَالْبُقُولِ كَمَا يُعْلَمُ مِمَّا يَأْتِي.

وَفِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: (وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) تَقْرِيرٌ لِقَاعِدَةٍ مُهِمَّةٍ، وَهِيَ أَنَّ كُلَّ مَا يَطْلُبُهُ الدِّينُ مِنَ الْعَبْدِ فَهُوَ لِمَنْفَعَتِهِ، وَكُلُّ مَا يَنْهَاهُ عَنْهُ فَإِنَّمَا يَقْصِدُ بِهِ دَفَعَ الضَّرَرِ عَنْهُ، وَلَنْ يَبْلُغَ أَحَدٌ نَفْعَ اللهِ فَيَنْفَعَهُ، وَلَنْ يَبْلُغَ أَحَدٌ ضَرَّهُ فَيَضُرَّهُ، كَمَا ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الْقُدْسِيِّ. فَكُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ أَوْ عَلَيْهِ (لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ) (2: 86)

(وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ)

الْمُرَادُ بِالْقَرْيَةِ: الْمَدِينَةُ، وَهِيَ فِي الْأَصْلِ اسْمٌ لِمُجْتَمَعِ النَّاسِ وَمَسْكَنِ النَّمْلِ الَّذِي يَبْنِيهِ، وَمَادَّتُهَا تَدُلُّ عَلَى الِاجْتِمَاعِ، وَمِنْهَا قَرَيْتُ الْمَاءَ فِي الْحَوْضِ إِذَا جَمَعْتُهُ، وَأُطْلِقَتْ

عَلَى الْأُمَّةِ نَفْسِهَا، ثُمَّ غَلَبَ اسْتِعْمَالُهَا فِي الْبِلَادِ الصَّغِيرَةِ وَلَا يَصِحُّ هُنَا؛ فَإِنَّ الرَّغَدَ لَا يَتَيَسَّرُ لِلْإِنْسَانِ كَمَا يَشَاءُ إِلَّا فِي الْمُدُنِ الْوَاسِعَةِ الْحَضَارَةِ.

(قَالَ شَيْخُنَا) : وَنَسْكُتُ عَنْ تَعْيِينِ الْقَرْيَةِ كَمَا سَكَتَ الْقُرْآنُ، فَقَدْ أُمِرَ بَنُو إِسْرَائِيلَ بِدُخُولِ بِلَادٍ كَثِيرَةٍ. وَكَانُوا يُؤْمَرُونَ بِدُخُولِهَا خَاشِعِينَ لِلَّهِ خَاضِعِينَ لِأَمْرِهِ مُسْتَشْعِرِينَ عَظَمَتَهُ وَجَلَالَهُ وَنِعَمَهُ وَأَفْضَالَهُ، وَهُوَ مَعْنَى السُّجُودِ وَرُوحِهِ الْمُرَادِ هُنَا.

ص: 268

وَأَمَّا صُورَةُ السُّجُودِ مِنْ وَضْعِ الْجِبَاهِ عَلَى الْأَرْضِ فَلَا يَصِحُّ أَنْ تَكُونَ مُرَادَهُ؛ لِأَنَّهَا سُكُونٌ وَالدُّخُولُ حَرَكَةٌ وَهُمَا لَا يَجْتَمِعَانِ، وَالْمُرَادُ بِالْحِطَّةِ: الدُّعَاءُ بِأَنْ تُحَطَّ عَنْهُمْ خَطَايَا التَّقْصِيرِ وَكُفْرُ النِّعَمِ، وَتَبْدِيلُ الْقَوْلِ بِغَيْرِهِ عِبَارَةٌ عَنِ الْمُخَالَفَةِ، كَأَنَّ الَّذِي يُؤْمَرُ بِالشَّيْءِ فَيُخَالِفُ قَدْ أَنْكَرَ أَنَّهُ أُمِرَ بِهِ وَادَّعَى أَنَّهُ أُمِرَ بِخِلَافِهِ، يُقَالُ: بَدَّلْتُ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ، أَيْ جِئْتُ بِذَلِكَ الْقَوْلِ مَكَانَ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ.

وَهَذَا التَّعْبِيرُ أَدَلُّ عَلَى الْمُخَالَفَةِ وَالْعِصْيَانِ مِنْ كُلِّ تَعْبِيرٍ، خِلَافًا لِمَا يَتَرَاءَى لِغَيْرِ الْبَلِيغِ مِنْ أَنَّ الظَّاهِرَ أَنْ يُقَالَ: بَدَّلُوا الْقَوْلَ بِغَيْرِهِ، دُونَ أَنْ يُقَالَ: غَيْرُ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ، فَإِنَّ مُخَالِفَ أَمْرِ سَيِّدِهِ قَدْ يُخَالِفُهُ عَلَى سَبِيلِ التَّأْوِيلِ مَعَ الِاعْتِرَافِ بِهِ، فَكَأَنَّهُ يَقُولُ فِي الْآيَةِ: إِنَّهُمْ خَالَفُوا الْأَمْرَ خِلَافًا لَا يَقْبَلُ التَّأْوِيلَ، حَتَّى كَأَنَّهُ قِيلَ لَهُمْ غَيْرُ الَّذِي قِيلَ، وَلَيْسَ الْمَعْنَى أَنَّهُمْ أُمِرُوا بِحَرَكَةٍ يَأْتُونَهَا، وَكَلِمَةٍ يَقُولُونَهَا، وَتَعَبَّدُوا بِذَلِكَ، وَجُعِلَ سَبَبًا لِغُفْرَانِ الْخَطَايَا عَنْهُمْ، فَقَالُوا غَيْرَهُ وَخَالَفُوا الْأَمْرَ، وَكَانُوا مِنَ الْفَاسِقِينَ. وَأَيُّ شَيْءٍ أَسْهَلُ عَلَى الْمُكَلَّفِ مِنَ الْكَلَامِ، يُحَرِّكُ بِهِ لِسَانَهُ، وَقَدِ اخْتَرَعَ أَهْلُ الْأَدْيَانِ مِنْ ذَلِكَ مَا لَمْ يُكَلَّفُوا قَوْلَهُ لِسُهُولَةِ الْقَوْلِ عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ، فَكَيْفَ يُقَالُ أُمِرَ هَؤُلَاءِ بِكَلِمَةٍ يَقُولُونَهَا فَعَصَوْا بِتَرْكِهَا؟ إِنَّمَا يَعْصِي الْعَاصِي إِذَا كُلِّفَ مَا يَثْقُلُ عَلَى نَفْسِهِ، وَيَحْمِلُهَا عَلَى غَيْرِ مَا اعْتَادَتْ، وَأَشَقُّ التَّكَالِيفِ حَمْلُ الْعُقُولِ عَلَى أَنَّ تُفَكِّرَ فِي غَيْرِ مَا عَرَفَتْ، وَحَثُّ النُّفُوسِ عَلَى أَنْ تَتَكَيَّفَ بِغَيْرِ مَا تَكَيَّفَتْ.

وَذَهَبَ الْمُفَسِّرُ (الْجَلَالُ) إِلَى تَرْجِيحِ اللَّفْظِ عَلَى الْمَعْنَى، وَالصُّورَةِ عَلَى الرُّوحِ، فَفَسَّرَ السُّجُودَ كَكَثِيرٍ مِنْ غَيْرِهِ بِالِانْحِنَاءِ، وَقَالَ: إِنَّهُمْ أُمِرُوا بِأَنْ يَقُولُوا (حِطَّةٌ) فَدَخَلُوا زَحْفًا عَلَى أَسْتَاهِهِمْ، وَقَالُوا: حَبَّةٌ فِي شَعِيرَةٍ، أَيْ: أَنَّنَا نَحْتَاجُ إِلَى الْأَكْلِ. مَنْشَأُ هَذِهِ الْأَقْوَالِ الرِّوَايَاتُ الْإِسْرَائِيلِيَّةُ، وَلِلْيَهُودِ فِي هَذَا الْمَقَامِ كَلَامٌ كَثِيرٌ

وَتَأْوِيلَاتٌ خُدِعَ بِهَا الْمُفَسِّرُونَ وَلَا نُجِيزُ حَشْوَهَا فِي تَفْسِيرِ كَلَامِ اللهِ - تَعَالَى.

وَأَقُولُ: إِنَّ مَا اخْتَارَهُ الْجَلَالُ مَرْوِيٌّ فِي الصَّحِيحِ، وَلَكِنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْ عِلَّةٍ إِسْرَائِيلِيَّةٍ، وَسَنُبَيِّنُ ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ الْمَسْأَلَةِ مِنْ سُورَةِ الْأَعْرَافِ مَعَ الْمُقَابَلَةِ بَيْنَ الْعِبَارَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ فِي السُّورَتَيْنِ، وَبَيَانِ وُجُوهِهَا، وَتَحْقِيقِ مَعَانِي أَلْفَاظِهَا.

وَيَدُلُّ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: (فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ) عَلَى أَنَّ هَذَا الْعِصْيَانَ لَمْ يَكُنْ مِنْ كُلِّ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَأَنَّ هَذَا الرِّجْزَ كَانَ خَاصًّا بِالظَّالِمِينَ مِنْهُمُ الَّذِينَ فَسَقُوا عَنِ الْأَمْرِ وَلَمْ يَمْتَثِلُوهُ، وَقَدْ أُكِّدَ هَذَا الْمَعْنَى أَشَدَّ التَّأْكِيدِ بِوَضْعِ الْمُظْهَرِ مَوْضِعَ الْمُضْمَرِ، فَقَالَ:(فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) وَلَمْ يَقُلْ: فَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ؛ وَلَعَلَّ وَجْهَ الْحَاجَةِ إِلَى التَّأْكِيدِ الِاحْتِرَاسُ مِنْ إِبْهَامِ كَوْنِ الرِّجْزِ كَانَ عَامًّا، كَمَا هُوَ الْغَالِبُ فِيهِ، ثُمَّ أَكَّدَهُ بِتَأْكِيدٍ آخَرَ، وَهُوَ قَوْلُهُ:(بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ) وَفِي هَذَا الضَّرْبِ مِنَ الْمُقَابَلَةِ مِنْ تَعْظِيمِ شَأْنِ الْمُحْسِنِينَ مَا فِيهِ.

ص: 269

وَأَقُولُ الْآنَ: الْقَاعِدَةُ أَنَّ تَرْتِيبَ الْحُكْمِ عَلَى الْمُشْتَقِّ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَصْدَرَهُ عِلَّةٌ لَهُ كَقَوْلِهِ: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا)(5: 38) : فَالسَّرِقَةُ عِلَّةٌ لِلْقَطْعِ. وَالْمَوْصُولُ مَعَ صِلَتِهِ هُنَا كَذَلِكَ، وَالْمَعْنَى (فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ) بِسَبَبِ ظُلْمِهِمْ، ثُمَّ أَكَّدَ هَذَا السَّبَبَ الْخَاصَّ الْعَارِضَ الْمُعَبَّرَ عَنْهُ بِالْفِعْلِ الْمَاضِي بِبَيَانِ سَبَبٍ عَامٍّ يَشْمَلُهُ وَيَشْمَلُ غَيْرَهُ هُمْ يَفْعَلُونَهُ دَائِمًا وَهُوَ قَوْلُهُ:(بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ) أَيْ بِسَبَبِ تَكْرَارِ الْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ مِنْهُمْ، وَاسْتِمْرَارِهِمْ عَلَيْهِ، الَّذِي كَانَ هَذَا الظُّلْمُ مِنْهُ.

(قَالَ الْأُسْتَاذُ) : وَنَسْكُتُ عَنْ تَعْيِينِ نَوْعِ ذَلِكَ الرِّجْزِ، كَمَا هُوَ شَأْنُنَا فِي كُلِّ مَا أَبْهَمَهُ الْقُرْآنُ. وَقَالَ الْمُفَسِّرُ وَغَيْرُهُ: إِنَّهُ الطَّاعُونُ، وَاحْتَجَّ بَعْضُهُمْ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى -:(مِنَ السَّمَاءِ) وَهُوَ كَمَا تَرَاهُ. وَالرِّجْزُ: هُوَ الْعَذَابُ، وَكُلُّ نَوْعٍ مِنْهُ رِجْزٌ. وَقَدِ ابْتَلَى اللهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِالطَّاعُونِ غَيْرَ مَرَّةٍ، وَابْتَلَاهُمْ بِضُرُوبٍ أُخْرَى مِنَ النِّقَمِ فِي إِثْرِ كُلِّ ضَرْبٍ مِنْ ضُرُوبِ ظُلْمِهِمْ وَفُسُوقِهِمْ، وَمِنْ أَشَدِّ ذَلِكَ تَسْلِيطُ الْأُمَمِ عَلَيْهِمْ، وَحَسْبُنَا مَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ عِبْرَةً وَتَبْصِرَةً، فَنُعَيِّنُ مَا عَيَّنَهُ، وَنُبْهِمُ مَا أَبْهَمَهُ (وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) .

(وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ)

هَذَا بَيَانٌ لِحَالٍ آخَرَ مِنْ أَحْوَالِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي هِجْرَتِهِمْ وَعِنَايَةِ اللهِ - تَعَالَى - بِهِمْ، فِيهَا أَصَابَهُمُ الظَّمَأُ فَعَادُوا عَلَى مُوسَى بِاللَّائِمَةِ أَنْ أَخْرَجَهُمْ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ الْخِصْبَةِ الْمُتَدَفِّقَةِ بِالْأَمْوَاهِ، وَكَانُوا عِنْدَ كُلِّ ضِيقٍ يَمُنُّونَ عَلَيْهِ أَنْ خَرَجُوا مَعَهُ مِنْ مِصْرَ وَيَجْهَرُونَ بِالنَّدَمِ.

فَاسْتَغَاثَ مُوسَى بِرَبِّهِ وَاسْتَسْقَاهُ لِقَوْمِهِ، كَمَا قَصَّهُ اللهُ - تَعَالَى - عَلَيْنَا بِقَوْلِهِ:(وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ) أَيْ طَلَبَ السُّقْيَا لَهُمْ مِنَ اللهِ - تَعَالَى - (فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ) قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: أَمَرَهُ أَنْ يَضْرِبَ بِعَصَاهُ حَجَرًا مِنْ حِجَارَةِ تِلْكَ الصَّحْرَاءِ بِتِلْكَ الْعَصَا الَّتِي ضَرَبَ بِهَا الْبَحْرَ، فَضَرَبَهُ (فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا) بِعَدَدِ أَسْبَاطِهِمْ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ عز وجل:(قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ) .

(قَالَ) : وَكَوْنُ هَذَا الْحَجَرِ هُوَ الَّذِي رُوِيَ أَنَّهُ تَدَحْرَجَ بِثَوْبِ مُوسَى يَوْمَ كَانَ يَغْتَسِلُ كَمَا قَالَ الْمُفَسِّرُ (الْجَلَالُ) لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ، وَقِصَّةُ الثَّوْبِ لَيْسَتْ فِي الْقُرْآنِ، فَيُحْمَلُ تَعْرِيفُ

ص: 270

الْحَجَرِ عَلَى أَنَّهُ الْمَعْهُودُ فِي الْقِصَّةِ، وَإِنَّمَا يُفْهِمُ التَّعْرِيفُ أَنَّ الْحَجَرَ الَّذِي ضُرِبَ فَتَفَجَّرَتْ مِنْهُ الْمِيَاهُ حَجَرٌ مَخْصُوصٌ لَهُ صِفَاتٌ تُمَيِّزُهُ عِنْدَهُمْ، كَكَوْنِهِ صُلْبًا أَوْ عَظِيمًا تَتَّسِعُ مِسَاحَتُهُ لِتِلْكَ الْعُيُونِ، وَيَصْلُحُ أَنْ تَكُونَ مِنْهُ مَوَارِدُ لِتِلْكَ الْأُمَمِ، (أَوْ كَوْنِهِ يَقَعُ تَحْتَ أَعْيُنِهِمْ مُنْفَرِدًا عَنْ غَيْرِهِ، لَيْسَ فِي مَحِلَّتِهِمْ سِوَاهُ، وَقَدْ يَكُونُ التَّعْرِيفُ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الْجِنْسِ؛ لِيُفِيدَنَا بُعْدَ الْمَرْغُوبِ عَنِ التَّنَاوُلِ، وَعَظَمَةَ الْقُدْرَةِ الْإِلَهِيَّةِ وَأَثَرَهَا الْجَلِيلَ فِي تَقْرِيبِهِ وَتَحْصِيلِهِ) وَعُبِّرَ عَنْهُ فِي سِفْرِ الْخُرُوجِ بِالصَّخْرَةِ وَلَوْ عَلِمَ اللهُ - تَعَالَى - أَنَّ لَنَا فَائِدَةً فِي أَكْثَرِ مِمَّا دَلَّ عَلَيْهِ هَذَا الْخِطَابُ مِنَ التَّعْيِينِ لَمَا تَرَكَهُ.

ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يُصَوِّرَ حَالَ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي هَذِهِ النِّعْمَةِ، وَاغْتِبَاطَهُمْ بِمَا مَنَحَهُمْ مِنَ الْعَيْشِ الرَّغَدِ فِي مَهَاجِرِهِمْ، فَقَالَ:(كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللهِ) فَعَبَّرَ عَنِ الْحَالِ الْمَاضِيَةِ

بِالْأَمْرِ لِيَسْتَحْضِرَ سَامِعُ الْخِطَابِ أُولَئِكَ الْقَوْمَ فِي ذِهْنِهِ، وَيَتَصَوَّرَ اغْتِبَاطَهُمْ بِمَا هُمْ فِيهِ، حَتَّى كَأَنَّهُمْ حَاضِرُونَ الْآنَ وَالْخِطَابُ يُوَجَّهُ إِلَيْهِمْ، وَهَذَا مِنْ ضُرُوبِ إِيجَازِ الْقُرْآنِ الَّتِي لَا تُجَارَى وَلَا تُمَارَى، ثُمَّ قَالَ:(وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) أَيْ لَا تَنْشُرُوا فَسَادَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَتَكُونُوا فِي الشُّرُورِ قُدْوَةً سَيِّئَةً لِلنَّاسِ. يُقَالُ: عَثَا إِذَا نَشَرَ الشَّرَّ وَالْفَسَادَ وَأَثَارَ الْخُبْثَ، فَهُوَ أَخَصُّ مِنْ مُطْلَقِ الْإِفْسَادِ وَذَلِكَ مَعَ كَوْنِ (مُفْسِدِينَ) حَالًا مِنْ ضَمِيرِ (تَعْثَوْا) .

قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّ كَثِيرًا مِنْ أَعْدَاءِ الْقُرْآنِ يَأْخُذُونَ عَلَيْهِ عَدَمَ التَّرْتِيبِ فِي الْقَصَصِ، وَيَقُولُونَ هُنَا: إِنَّ الِاسْتِسْقَاءَ وَضَرْبَ الْحَجَرِ كَانَ قَبْلَ التِّيهِ وَقَبْلَ الْأَمْرِ بِدُخُولِ تِلْكَ الْقَرْيَةِ، فَذُكِرَ هُنَا بَعْدَ تِلْكَ الْوَقَائِعِ. وَالْجَوَابُ عَنْ هَذِهِ الشُّبْهَةِ يُفْهَمُ مِمَّا قُلْنَاهُ مِرَارًا فِي قَصَصِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأُمَمِ الْوَارِدَةِ فِي الْقُرْآنِ، وَهُوَ أَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ بِهَا التَّارِيخَ وَسَرْدَ الْوَقَائِعِ مُرَتَّبَةً بِحَسْبِ أَزْمِنَةِ وُقُوعِهَا، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ بِهَا الِاعْتِبَارُ وَالْعِظَةُ بِبَيَانِ النِّعَمِ مُتَّصِلَةً بِأَسْبَابِهَا لِتُطْلَبَ بِهَا، وَبَيَانِ النِّقَمِ بِعِلَلِهَا لِتُتَّقَى مِنْ جِهَتِهَا، وَمَتَى كَانَ هَذَا هُوَ الْغَرَضُ مِنَ السِّيَاقِ، فَالْوَاجِبُ أَنْ يَكُونَ تَرْتِيبُ الْوَقَائِعِ فِي الذِّكْرِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَكُونُ أَبْلَغَ فِي التَّذْكِيرِ وَأَدْعَى إِلَى التَّأْثِيرِ.

إِنَّ الْبَاحِثِينَ فِي التَّارِيخِ لِهَذَا الْعَهْدِ قَدْ رَجَعُوا إِلَى هَذَا الْأُسْلُوبِ فِي التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ، وَقَالُوا: سَتَأْتِي أَيَّامٌ يَسْتَحِيلُ فِيهَا تَرْتِيبُ الْحَوَادِثِ وَالْقَصَصِ بِحَسْبِ تَوَارِيخِهَا لِطُولِ الزَّمَنِ، وَكَثْرَةِ النَّقْلِ مَعَ حَاجَةِ النَّاسِ إِلَى مَعْرِفَةِ سِيَرِ الْمَاضِينَ، وَمَا كَانَ لَهَا مِنَ النَّتَائِجِ وَالْآثَارِ فِي حَالِ الْحَاضِرِينَ، وَقَالُوا: إِنَّ الطَّرِيقَ إِلَى ذَلِكَ هُوَ أَنْ نَنْظُرَ فِي كُلِّ حَادِثَةٍ مِنْ حَوَادِثِ الْكَوْنِ كَالثَّوَرَاتِ وَالْحُرُوبِ وَغَيْرِهَا، وَنُبَيِّنُ أَسْبَابَهَا وَنَتَائِجَهَا مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ وَلَا تَحْدِيدٍ لِجُزْئِيَّاتِ الْوَقَائِعِ بِالتَّارِيخِ، فَإِنَّ تَرْتِيبَ الْوَقَائِعِ هُوَ مِنَ الزِّينَةِ فِي وَضْعِ التَّأْلِيفِ، فَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ الِاعْتِبَارُ، بَلْ رُبَّمَا يُصَدُّ عَنْهُ بِمَا يُكَلِّفُ الذِّهْنَ مِنْ مُلَاحَظَتِهِ وَحِفْظِهِ، فَهَذَا ضَرْبٌ مِنْ ضُرُوبِ الْإِصْلَاحِ الْعِلْمِيِّ، جَاءَ بِهِ الْقُرْآنُ وَأَيَّدَهُ سَيْرُ الِاجْتِمَاعِ فِي الْإِنْسَانِ.

ص: 271

هَذَا مَا نَقُولُهُ لَهُ إِذَا سَلَّمْنَا أَنَّ الِاسْتِسْقَاءَ كَانَ قَبْلَ التِّيهِ لَا فِيهِ، وَلَنَا أَنْ نَقُولَ: إِنَّ أَرْضَ التِّيهِ هِيَ الْأَرْضُ الْمُمْتَدَّةُ عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ الْأَحْمَرِ مِنْ بَيْدَاءِ فِلَسْطِينَ مِمَّا يَلِي

حُدُودَ مِصْرَ، وَفِيهَا كَانَ الِاسْتِسْقَاءُ بِلَا خِلَافٍ. (وَفِي سِفْرِ الْخُرُوجِ) أَنَّهُ كَانَ فِي رُفَيْدِيمَ الَّتِي انْتَقَلَ إِلَيْهَا بَنُو إِسْرَائِيلَ مِنْ (سِينَ) الَّتِي بَيْنَ إِيلِيمَ وَسَيْنَاءَ. وَيُطْلَقُ التِّيهُ عَلَى ضَلَالِ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَرْبَعِينَ سَنَةً فِي الْأَرْضِ.

وَالْعِبْرَةُ فِي الْقِصَّةِ عَلَى مَا يَظْهَرُ مِنَ التَّوْرَاةِ أَنَّ مُوسَى كَانَ يُحَاوِلُ نَزْعَ مَا فِي قُلُوبِ قَوْمِهِ مِنَ الشِّرْكِ الَّذِي أُشْرِبُوا عَقَائِدَهُ فِي مِصْرَ، وَمَا فِي نُفُوسِهِمْ مِنَ الذُّلِّ الَّذِي طَبَعَهُ فِيهَا اسْتِبْدَادُ الْمِصْرِيِّينَ وَتَعْبِيدُهُمْ إِيَّاهُمْ؛ لِيَكُونُوا أَعْلِيَاءَ أَعِزَّاءَ بِعِبَادَةِ اللهِ - تَعَالَى - وَحْدَهُ، وَأَنْ يَدْخُلَ بِهِمْ أَرْضَ الْمِيعَادِ، وَهِيَ بِلَادُ الشَّامِ الَّتِي وَعَدَ اللهُ بِهَا آبَاءَهُمْ، وَكَانُوا لِطُولِ الْإِقَامَةِ فِي مِصْرَ قَدْ أَلِفُوا الذُّلَّ وَأَنِسُوا بِالشَّعَائِرِ وَالْعَادَاتِ الْوَثَنِيَّةِ، فَكَانُوا لَا يَخْطُونَ خُطْوَةً إِلَّا وَيُتْبِعُونَهَا بِخَطِيئَةٍ، وَكُلَّمَا عُرِضَ لَهُمْ شَيْءٌ مِنْ مَشَقَّاتِ السَّفَرِ يَتَبَرَّمُونَ بِمُوسَى وَيَتَحَسَّرُونَ عَلَى مِصْرَ وَيَتَمَنَّوْنَ الرُّجُوعَ إِلَيْهَا (كَمَا سَبَقَ الْقَوْلُ) وَيَسْتَبْطِئُونَ وَعْدَ اللهِ، فَتَارَةً يَطْلُبُونَ مِنْهُ أَنْ يَجْعَلَ لَهُمْ إِلَهًا غَيْرَ اللهِ، وَتَارَةً يَصْنَعُونَ عِجْلًا وَيَعْبُدُونَهُ، وَتَارَةً يَفْسُقُونَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَيَكْفُرُونَ نِعَمَهُ. وَلَمَّا أَمَرَهُمْ بِدُخُولِ الْبِلَادِ الْمُقَدَّسَةِ الَّتِي وَعَدَهُمُ اللهُ أَبَوْا وَاعْتَذَرُوا بِالْخَوْفِ مِنْ أَهْلِهَا الْجَبَّارِينَ، لِمَا اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْجُبْنِ الَّذِي هُوَ حَلِيفُ الذُّلِّ، وَكَانَ مُوسَى أَرْسَلَ كَالِبًا وَيُوشَعَ بْنَ نُونٍ رَائِدَيْنِ لِيَنْظُرَا حَالَ الْبِلَادِ فِي الْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ، وَأَرْسَلَ غَيْرَهُمَا عَشْرَةً مِنْ بَقِيَّةِ أَسْبَاطِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَأَخْبَرَ هَؤُلَاءِ بِأَنَّ فِي تِلْكَ الْأَرْضِ قَوْمًا جَبَّارِينَ، فَقَالَ بَنُو إِسْرَائِيلَ: إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا، فَأَخْبَرَ يُوشَعُ وَكَالِبٌ بِأَنَّ الْأَرْضَ كَمَا وَعَدَ اللهُ، وَأَنَّ دُخُولَهَا سَهْلٌ وَالظَّفَرَ مَضْمُونٌ بِالِاعْتِمَادِ عَلَى اللهِ - تَعَالَى - وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَسْمَعُوا لَهُمَا بَلْ (قَالُوا يَامُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا) (5: 24) ، فَضَرَبَ اللهُ عَلَيْهِمُ التِّيهَ أَرْبَعِينَ سَنَةً لِحِكْمَةٍ بَالِغَةٍ؛ وَهِيَ إِرَادَةُ انْقِرَاضِ أُولَئِكَ الْقَوْمِ الَّذِينَ تَأَشَّبَتْ فِي نُفُوسِهِمْ عَقَائِدُ الْوَثَنِيَّةِ، وَزَايَلَتْهَا صِفَاتُ الرُّجُولِيَّةِ حَتَّى فَسَدَ مِزَاجُهَا وَتَعَذَّرَ عِلَاجُهَا، وَخُرُوجِ نَشْءٍ جَدِيدٍ يَتَرَبَّى عَلَى الْعَقَائِدِ الصَّحِيحَةِ وَأَخْلَاقِ الشَّهَامَةِ وَالرُّجُولِيَّةِ، فَتَاهُوا حَتَّى انْقَرَضَ أُولَئِكَ الْمُصَابُونَ بِاعْتِلَالِ الْفِطْرَةِ، وَبَقِيَ النَّشْءُ الْجَدِيدُ وَبَعْضُ الَّذِينَ كَانُوا عِنْدَ الْخُرُوجِ مِنْ مِصْرَ صِغَارًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى حَمْلِ السِّلَاحِ، وَقَضَى اللهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا.

ص: 272

(وَإِذْ قُلْتُمْ يَامُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ)

هَذَا ضَرْبٌ آخَرُ مِمَّا ذَكَرَ اللهُ - تَعَالَى - بِهِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي سِيَاقِ دَعْوَتِهِمْ إِلَى الْإِسْلَامِ.

قَالَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ. كَانُوا قَوْمًا فَلَّاحَةً فَنَزَعُوا إِلَى عِكْرِهِمْ، فَأَجْمَعُوا مَا كَانُوا فِيهِ مِنَ النِّعْمَةِ وَطَلَبَتْ أَنْفُسُهُمُ الشَّقَاءَ اهـ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي تَفْسِيرِهِ وَنَقْدِهِ وَرَدِّهِ مَا نَصُّهُ: فَلَّاحَةٌ بِتَشْدِيدِ اللَّامِ جَمْعُ فَلَّاحٍ بِمَعْنَى الزُّرَّاعِ، وَعِكْرُهُمْ بِكَسْرِ الْعَيْنِ أَصْلُهُمْ، وَأَجَمَ الطَّعَامُ مِنْ بَابِ ضَرَبَ وَعَلِمَ كَرِهَهُ مِنَ الْمُدَاوَمَةِ عَلَيْهِ. وَهُوَ بَيَانٌ لِمَا بَعَثَهُمْ عَلَى أَنْ يَسْأَلُوا مُوسَى أَنْ يَدْعُوَ رَبَّهُ لِيُخْرِجَ لَهُمْ تِلْكَ الْأَشْيَاءَ الَّتِي طَلَبُوهَا، وَالسَّبَبُ فِي جَهْرِهِمْ بِذَلِكَ وَثَوْرَتِهِمْ عَلَيْهِ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: إِنَّ الْحَامِلَ لَهُمْ عَلَى ذَلِكَ هُوَ تَمَكُّنُ الْعَادَةِ مِنْ نُفُوسِهِمْ، فَلَمَّا خَرَجُوا مِنْهَا وَجَاءَهُمْ مَا لَمْ يَكُونُوا يَأْلَفُونَ نَزَعُوا إِلَى مَا كَانُوا قَدْ عُوِّدُوهُ مِنْ قَبْلُ. وَلَوْ كَانَ الْأَمْرُ كَمَا قَالَ لَكَانَ فِي ذَلِكَ الْتِمَاسُ عُذْرٍ لَهُمْ، وَلَمَا عَدَّ اللهُ هَذَا الْقَوْلَ فِي خَطَايَاهُمْ، بَلْ إِنَّ السَّآمَةَ مِنْ تَنَاوُلِ طَعَامٍ وَاحِدٍ قَدْ يَكُونُ مِنْ لَوَازِمِ الطِّبَاعِ الْبَشَرِيَّةِ إِلَّا مَا شَذَّ مِنْهَا لِعَادَةٍ أَوْ ضَرُورَةٍ، وَلَا يُعَدُّ مَا هُوَ مِنْ مَنَازِعِ الطِّبَاعِ جُرْمًا إِذَا لَمْ يُسْقِطْ ذَلِكَ فِي مَحْظُورٍ. وَسِيَاقُ الْآيَاتِ قَبْلَهَا وَمَا يَلْحَقُ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ - تَعَالَى -:(وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ)(2: 63) . . . إِلَخْ، كُلُّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا عُدِّدَ مِنْ أَفَاعِيلِهِمْ مَعَ تَضَافُرِ الْآيَاتِ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَتَوَارُدِ نِعَمِ اللهِ عَلَيْهِمْ كُلُّهُ مِنْ خَطَايَاهُمْ. وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: (وَإِذْ قُلْتُمْ يَامُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا

تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا) وَيُؤَكِّدُ ذَلِكَ إِيرَادَ تِلْكَ الْعُقُوبَةِ الشَّدِيدَةِ مِنْ ضَرْبِ الذِّلَّةِ وَالْمَسْكَنَةِ وَاسْتِحْقَاقِ غَضَبِ اللهِ - تَعَالَى - عَقِبَ مَقَالِهِمْ هَذَا.

وَالَّذِي يَقَعُ عَلَيْهِ الْفَهْمُ مِنَ الْآيَةِ أَنَّ النَّزَقَ قَدِ اسْتَوْلَى عَلَى طِبَاعِهِمْ وَمَلَكَ الْبَطَرُ أَهْوَاءَهُمْ حَتَّى كَانُوا يَسْتَخِفُّونَ بِذَلِكَ الْأَمْرِ الْعَظِيمِ الَّذِي هَيَّأَهُمُ اللهُ لَهُ مِنَ التَّمَكُّنِ فِي الْأَرْضِ الْمَوْعُودَةِ، وَالْخُرُوجِ مِنَ الْخَسْفِ الَّذِي كَانُوا فِيهِ. وَمَعَ كَثْرَةِ مَا شَاهَدُوا مِنْ آيَاتِ اللهِ الْقَائِمَةِ عَلَى صِدْقِ

ص: 273

وَعْدِهِ لَهُمْ، لَمْ تَسْتَيْقِنْهُ أَنْفُسُهُمْ، بَلْ كَانُوا عَلَى رَيْبٍ مِنْهُ، وَكَانُوا يَظُنُّونَ أَنَّ مُوسَى عليه السلام خَدَعَهُمْ بِإِخْرَاجِهِمْ مِنْ مِصْرَ وَجَاءَ بِهِمْ فِي الْبَرِّيَّةِ لِيُهْلِكَهُمْ؛ فَلِذَلِكَ دَأَبُوا عَلَى إِعْنَاتِهِ وَالْإِكْثَارِ مِنَ الطَّلَبِ فِيمَا يُسْتَطَاعُ وَمَا لَا يُسْتَطَاعُ، حَتَّى يَيْأَسَ مِنْهُمْ فَيَرْتَدَّ بِهِمْ إِلَى مِصْرَ حَيْثُ أَلْفَوُا الذِّلَّةَ، وَلَهُمْ مَطْمَعٌ فِي الْعَيْشِ وَأَمَلٌ فِي الْخَلَاصِ مِنَ الْهَلَكَةِ، مِمَّا ذَكَرَهُ اللهُ عَنْهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِمْ (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً) وَيُرْشِدُ إِلَى مَا فِيهِ مِنَ الْإِعْنَاتِ قَوْلُهُمْ:(لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ) ، فَقَدْ عَبَّرَ عَنْ مَسْأَلَتِهِمْ بِمَا فِيهِ حَرْفُ النَّفْيِ الَّذِي يَأْتِي لِسَلْبِ الْفِعْلِ فِي مُسْتَقْبَلِ الزَّمَانِ مَعَ تَأْكِيدِهِ، فَكَأَنَّهُمْ قَالُوا: اعْلَمْ أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ لَكَ أَمَلٌ فِي بَقَائِنَا مَعَكَ عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ مِنِ الْتِزَامِ طَعَامٍ وَاحِدٍ، فَإِنْ كَانَتْ لَكَ مَنْزِلَةٌ عِنْدَ اللهِ كَمَا تَزْعُمُ فَادْعُهُ يُخْرِجْ لَنَا مَا يُمْكِنُ مَعَهُ أَنْ نَبْقَى مَعَكَ؛ إِلَى أَنْ يَتِمَّ الْوَعْدُ الَّذِي وَعَدَكَ وَوَعَدْتَنَا - وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُمْ كَانُوا فِي بَرِّيَّةٍ غَيْرِ مُنْبِتَةٍ، وَرُبَّمَا لَمْ يَكُنْ قَوْلُهُمْ هَذَا عَنْ سَآمَةٍ وَلَا أَجَمٍ مِنْ وَحْدَةِ الطَّعَامِ، وَلَكِنَّهُ نَزَقٌ وَبَطَرٌ كَمَا بَيَّنَا، وَطَلَبٌ لِلْخَلَاصِ مِمَّا يَخْشَوْنَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ. وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ مَا هُوَ مَعْرُوفٌ فِي أَخْبَارِهِمْ. وَوَصَفُوا الطَّعَامَ بِالْوَاحِدِ مَعَ أَنَّهُ نَوْعَانِ - الْمَنُّ وَالسَّلْوَى - لِأَنَّهُمَا طَعَامُ كُلِّ يَوْمٍ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ لِمَنْ يَأْكُلُ كُلَّ يَوْمٍ عِدَّةَ أَلْوَانٍ لَا تَتَغَيَّرُ: إِنَّهُ يَأْكُلُ مِنْ طَعَامٍ وَاحِدٍ، كَأَنَّهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَى أَنَّ مَجْمُوعَ الْأَلْوَانِ هِيَ غِذَاؤُهُ الَّذِي لَا يَتَغَيَّرُ، فَهِيَ غِذَاءٌ وَاحِدٌ، فَإِذَا تَغَيَّرَتِ الْأَلْوَانُ تَغَيَّرَ نَوْعُ الْغِذَاءِ فَكَانَ طَعَامًا مُتَعَدِّدًا.

وَالْبَقْلُ مِنَ النَّبَاتِ: مَا لَيْسَ بِشَجَرِ دِقٍّ وَلَا جِلٍّ كَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ سِيدَهْ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: مَا يَنْبُتُ فِي بَزْرِهِ وَلَا يَنْبُتُ فِي أُرُومَةٍ ثَابِتَةٍ. وَفَرْقُ مَا بَيْنَ الْبَقْلِ وَدِقِّ الشَّجَرِ أَنَّ الْبَقْلَ إِذَا رُعِيَ لَمْ يَبْقَ لَهُ سَاقٌ، وَالشَّجَرُ تَبْقَى لَهُ سُوقٌ وَإِنْ دَقَّتْ.

وَأَرَادُوا مِنَ الْبَقْلِ مَا يَطْعَمُهُ الْإِنْسَانُ مِنْ أَطَايِبِ الْخُضَرِ كَالْكَرَفْسِ وَالنَّعْنَاعِ وَنَحْوِهِمَا مِمَّا يُغْرِي بِالْقَضْمِ، وَيُعِينُ عَلَى الْهَضْمِ، وَالْقِثَّاءُ: هِيَ أُخْتُ الْخِيَارِ، تُسَمِّيهَا الْعَامَّةُ " الْقَتَّةُ " وَالْعَدَسُ وَالْبَصَلُ مَعْرُوفَانِ، وَالْفُومُ هُوَ: الْحِنْطَةُ.

وَقَالَ الْكِسَائِيُّ وَجَمَاعَةٌ هُوَ: الثُّومُ. أُبْدِلَتِ الثَّاءُ فَاءً كَمَا فِي جَدَثٍ وَجَدَفٍ. وَطَلَبُهُمْ لِلْحِنْطَةِ هُوَ طَلَبُهُمْ لِلْخُبْزِ الَّذِي يُصْنَعُ مِنْهَا. (قَالَ) مُوسَى عليه السلام تَقْرِيعًا لَهُمْ عَلَى أَشَرِهِمْ وَإِنْكَارًا لِتَبَرُّمِهِمْ: (أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ) ؟ أَيْ أَتَطْلُبُونَ هَذِهِ الْأَنْوَاعَ الْخَسِيسَةَ بَدَلَ مَا هُوَ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُوَ الْمَنُّ وَالسَّلْوَى؟ وَالْمَنُّ فِيهِ الْحَلَاوَةُ الَّتِي تَأْلَفُهَا أَغْلَبُ الطِّبَاعِ الْبَشَرِيَّةِ، وَالسَّلْوَى مِنْ أَطْيَبِ لُحُومِ الطَّيْرِ، وَفِي مَجْمُوعِهَا غِذَاءٌ تَقُومُ بِهِ الْبِنْيَةُ، وَلَيْسَ فِيمَا طَلَبُوهُ مَا يُسَاوِيهِمَا لَذَّةً وَتَغْذِيَةً.

أَقُولُ: وَالْأَدْنَى فِي اللُّغَةِ الْأَقْرَبُ، وَاسْتُعِيرَ لِلْأَخَسِّ وَالْأَدْوَنِ، كَمَا اسْتُعِيرَ الْبُعْدُ لِلرِّفْعَةِ، وَالِاسْتِبْدَالُ طَلَبُ شَيْءٍ بَدَلًا مِنْ آخَرَ، وَالْبَاءُ تَدَخُلُ الْمُبْدَلَ مِنْهُ الْمُرَادَ تَرْكِهِ. ثُمَّ قَالَ:(اهْبِطُوا مِصْرًا) مِنَ الْأَمْصَارِ (فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ) أَيْ فَإِنَّكُمْ إِنْ هَبَطْتُمُوهُ وَنَزَلْتُمُوهُ وَجَدْتُمْ فِيهِ مَا سَأَلْتُمْ.

ص: 274

أَمَّا هَذِهِ الْأَرْضُ الَّتِي قَضَى اللهُ أَنْ تُقِيمُوا فِيهَا إِلَى أَجَلٍ مَحْدُودٍ، فَلَيْسَ مِنْ شَأْنِهَا أَنْ تُنْبِتَ هَذِهِ الْبُقُولَ، وَأَنَّ اللهَ - جَلَّ شَأْنُهُ - لَمْ يَقْضِ عَلَيْكُمْ بِالتِّيهِ فِي هَذِهِ الْبَرِّيَّةِ إِلَّا لِجُبْنِكُمْ وَضَعْفِ عَزَائِمِكُمْ عَنْ مُغَالَبَةِ مَنْ دُونِكُمْ مِنْ أَهْلِ الْأَمْصَارِ، فَلَوْ صَحَّ مَا تَزْعُمُونَ مِنْ كَرَاهَتِكُمْ لِلطَّعَامِ الْوَاحِدِ، فَأَنْتُمُ الَّذِينَ قَضَيْتُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ بِمَا فَرَطَ مِنْكُمْ. فَإِنْ أَرَدْتُمُ الْخَلَاصَ مِمَّا كَرِهْتُمْ، فَأَقْدِمُوا عَلَى مُحَارَبَةِ مَنْ يَلِيكُمْ مِنْ سُكَّانِ الْأَرْضِ الْمَوْعُودَةِ، فَإِنَّ اللهَ كَافِلٌ لَكُمُ النَّصْرَ عَلَيْهِمْ، وَعِنْدَ ذَلِكَ تَجِدُونَ طَلِبَتَكُمْ، فَالْتَمِسُوا الْخَيْرَ فِي أَنْفُسِكُمْ وَفِي أَفْعَالِكُمْ، فَإِنَّ اللهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْعَامِلِينَ.

قَالَ - تَعَالَى -: (وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ) الذِّلَّةُ وَالذُّلُّ خُلُقٌ خَبِيثٌ مِنْ أَخْلَاقِ نَفْسِ الْإِنْسَانِ يُضَادُّ الْإِبَاءَ وَالْعِزَّةَ، وَأَصْلُ الْمَادَّةِ فِيهِ مَعْنَى اللِّينِ. فَالذِّلُّ بِالْكَسْرِ: اللِّينُ، وَبِالضَّمِّ وَالْكَسْرِ: ضِدَّ الصُّعُوبَةِ، وَإِذَا تَتَبَّعْتَ الْمَادَّةَ وَجَدْتَهَا لَا تَخْلُو مِنْ هَذَا الْمَعْنَى. صَاحِبُ هَذَا الْخُلُقِ لَيِّنٌ يَنْفَعِلُ لِكُلِّ فَاعِلٍ، وَلَا يَأْبَى ضَيْمَ ضَائِمٍ. غَيْرَ أَنَّ هَذَا الْخُلُقَ الَّذِي يُهَوِّنُ عَلَى النَّفْسِ قَبُولَ كُلِّ شَيْءٍ لَا يَظْهَرُ أَثَرُهُ غَالِبًا عَلَى الْبَدَنِ وَفِي الْقَوْلِ إِلَّا عِنْدَ الِاسْتِذْلَالِ وَالْقَهْرِ. وَكَثِيرًا مَا تَرَى الْأَذِلَّاءَ تَحْسَبُهُمْ

أَعِزَّاءَ يَخْتَالُونَ فِي مِشْيَتِهِمْ مِنَ الْكِبْرِيَاءِ، وَيُبَاهُونَ بِمَا لَهُمْ مِنْ سَلَفٍ وَآبَاءٍ، وَرُبَّمَا فَاخَرُوا مَنْ لَا يَخْشَوْنَ سَطْوَتَهُ مِنَ الْكُبَرَاءِ:

وَإِذَا مَا خَلَا الْجَبَانُ بِأَرْضٍ

طَلَبَ الطَّعْنَ وَحْدَهُ وَالنِّزَالَا

وَلَكِنْ مَتَى شَعَرَ الذَّلِيلُ بِنِيَّةٍ مِنْ نَفْسِ الْقَاهِرِ، أَوْ طَافَ بِذِهْنِهِ خَيَالُ يَدٍ تَمْتَدُّ إِلَيْهِ اسْتَخْذَى وَاسْتَكَانَ، وَظَهَرَ السُّكُونُ عَلَى بَدَنِهِ، وَاشْتَمَلَ الْخُشُوعُ عَلَى قَوْلِهِ وَفِعْلِهِ، وَهَذَا الْأَثَرُ الَّذِي يَسْطَعُ مِنَ النَّفْسِ عَلَى الْبَدَنِ هُوَ الَّذِي يُسَمَّى الْمَسْكَنَةَ. وَإِنَّمَا سُمِّيَ الْفَقْرُ مَسْكَنَةً؛ لِأَنَّ الْعَائِلَ الْمُحْتَاجَ تَضْعُفُ حَرَكَتُهُ وَيَذْهَبُ نَشَاطُهُ، فَهُوَ بِعَدَمِ مَا يَسُدُّ عَوَزَهُ كَأَنَّهُ يَقْرُبُ مِنْ عَالَمِ الْجَمَادِ، فَلَا تَظْهَرُ فِيهِ حَاجَةُ الْأَحْيَاءِ فَيَسْكُنُ. وَالْمُشَاهَدَةُ تُرْشِدُنَا إِلَى تَحْقِيقِ مَا عَلَيْهِ أَهْلُ الْمَسْكَنَةِ فِي أَوْضَاعِ أَعْضَائِهِمْ وَمَا يَبْدُو عَلَى وُجُوهِهِمْ وَمَا طُبِعَ فِي أَقْوَالِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ. فَضَرْبُ الذِّلَّةِ وَالْمَسْكَنَةِ عَلَى الْيَهُودِ هُوَ جَعْلُ الذُّلِّ وَضَعْفِ الْعَزِيمَةِ مُحِيطِينَ بِهِمْ كَمَا تُحِيطُ الْقُبَّةُ الْمَضْرُوبَةُ بِمَنْ فِيهَا.

أَوْ إِلْصَاقُهُمَا بِطِبَاعِهِمْ كَمَا تُطْبَعُ الطُّغْرَّى عَلَى السِّكَّةِ، (وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ) أَيْ رَجَعُوا بِهِ كَمَا يُقَالُ: رَجَعَ أَوْ عَادَ بِصَفْقَةِ الْمَغْبُونِ إِذَا كَانَ ذَلِكَ آخِرَ شَوْطِهِ وَمُنْتَهَى سَعْيِهِ، وَكَذَلِكَ كَانَ آخِرُ أَطْوَارِ الْيَهُودِ فِي بَغْيِهِمْ أَيَّامَ مُلْكِهِمْ. وَالْمُرَادُ بِهِ: فَقْدُ الْمُلْكِ وَمَا يَتْبَعُهُ. وَقَالَ شَيْخُنَا: اسْتَحَقُّوا غَضَبَهُ وَمَنِ اسْتَحَقَّهُ فَقَدْ أَصَابَهُ، فَقَدْ غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ، وَتَنْكِيرُ الْغَضَبِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ نَوْعٌ عَظِيمٌ مِنْ سَخَطِهِ جَلَّ شَأْنُهُ. (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ)(أَقُولُ) أَيْ ذَلِكَ الْعِقَابُ بِضَرْبِ الذِّلَّةِ وَالْمَسْكَنَةِ وَبِالْغَضَبِ الْإِلَهِيِّ بِسَبَبِ مَا جَرَوْا عَلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِ

ص: 275

بِآيَاتِ اللهِ. . . إِلَخْ. فَإِنَّهُمْ بِإِحْرَاجِهِمْ لِمُوسَى عليه السلام وَإِعْنَاتِهِمْ لَهُ فِي الْمَطَالِبِ، مَعَ كَثْرَةِ مَا شَاهَدُوا مِنَ الْعَجَائِبِ، وَمَا أَظْهَرَ اللهُ مِنَ الْغَرَائِبِ، وَقَدْ دَلُّوا عَلَى أَنْ لَا أَثَرَ لِلْآيَاتِ فِي نُفُوسِهِمْ، فَهُمْ بِهَا كَافِرُونَ فِي الْحَقِيقَةِ. وَنِسْيَانُ الْآيَاتِ وَعَدُّهَا كَأَنْ لَمْ تَكُنْ يَعُدُّهُ الْكِتَابُ الْعَزِيزُ كُفْرًا كَمَا قَالَ شَيْخُنَا (وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ) مَعَ أَنَّ الْكِتَابَ يُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ قَتَلَ غَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ فَضْلًا عَنْهُمْ إِلَّا بِحَقِّهِ الْمُبَيَّنِ فِيهِ، كُلُّ ذَلِكَ دَلَّ فِيهِمْ عَلَى طِبَاعٍ بَعِيدَةٍ عَنِ الْكَرَمِ، وَقُلُوبٍ غُلْفٍ دُونَ الْفَهْمِ، وَمَنْ كَانَ هَذَا شَأْنَهُ فَالْأَجْدَرُ بِهِ أَنْ يَكُونَ ذَلِيلًا مَقْهُورًا، ثُمَّ هُوَ مَهْبِطُ غَضَبِ اللهِ وَمَحَطُّ نِقَمَهُ؛ لِأَنَّهُ أَشَدُّ النَّاسِ كُفْرًا لِنِعَمِهِ، وَقَوْلُهُ:(بِغَيْرِ الْحَقِّ) مَعَ

أَنَّ قَتْلَ النَّبِيِّينَ لَا يَكُونُ إِلَّا كَذَلِكَ يَزِيدُ فِي شَنَاعَةِ حَالِهِمْ، وَيُصَرِّحُ بِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مُخْطِئِينَ فِي الْفَهْمِ، وَلَا مُتَأَوِّلِينَ لِلْحُكْمِ، بَلِ ارْتَكَبُوا هَذَا الْجُرْمَ الْعَظِيمَ عَامِدِينَ، وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُمْ بِارْتِكَابِهِ مُخَالِفُونَ لِمَا شَرَعَ اللهُ - تَعَالَى - لَهُمْ فِي كِتَابِ دِينِهِمْ. (ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ) قَالَ الْأُسْتَاذُ: ذَلِكَ الذُّلُّ وَتِلْكَ الْخَلَاقَةُ بِالْغَضَبِ إِنَّمَا لَزِمَاهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ عَصَوُا اللهَ فِيمَا أَمَرَهُمْ أَنْ يَأْخُذُوا بِهِ مِنَ الْأَحْكَامِ؛ وَلِأَنَّهُمُ اعْتَدَوْا تِلْكَ الْحُدُودَ الَّتِي حَدَّهَا اللهُ لَهُمْ فِي شَرَائِعِ أَنْبِيَائِهِمْ، وَقَدْ كَانَتْ تِلْكَ الْأَحْكَامُ وَالْحُدُودُ هِيَ الْوَسِيلَةُ لِإِخْرَاجِهِمْ مِنَ الذُّلِّ وَتَمْكِينِ الْعِزِّ وَالسُّلْطَانِ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ الْمَوْعُودَةِ؛ لِأَنَّهَا كَانَتِ الْكَافِلَةَ بِنِظَامِهِمْ، الْحَافِظَةَ لِبِنَاءِ جَمَاعَتِهِمْ، فَإِذَا أَهْمَلُوهَا فَسَدَتْ أُلْفَتُهُمْ، وَانْهَدَمَ بِنَاؤُهُمْ، وَأَسْرَعَتْ إِلَيْهِمُ الذِّلَّةُ الَّتِي لَمْ تَكُنْ فَارَقَتْهُمْ إِلَّا مُنْهَزِمَةً مِنْ يَدَيِ سُلْطَانِ الشَّرِيعَةِ، وَلَمْ يَكُنْ يَصُدُّهَا عَنْهُمْ إِلَّا مَعَاقِلُ النِّظَامِ تَحْتَ رِعَايَتِهِ، وَلَزِمَتْهُمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ بَعْدَ هَذَا لُزُومَ الطَّابِعِ لِلْمَطْبُوعِ.

وَالْمُتَبَادِرُ - وَعَدَّهُ الْأُسْتَاذُ احْتِمَالًا - أَنْ تَرْجِعَ الْإِشَارَةُ فِي (ذَلِكَ) إِلَى الثَّانِي أَيِ الْكُفْرِ بِآيَاتِ اللهِ وَقَتْلِ النَّبِيِّينَ. أَيْ إِنَّ كُفْرَهُمْ وَجَرَاءَتَهُمْ عَلَى النَّبِيِّينَ بِالْقَتْلِ، إِنَّمَا مَنْشَؤُهُمَا عِصْيَانُهُمْ وَاعْتِدَاؤُهُمْ حُدُودَ دِينِهِمْ؛ لِأَنَّ الَّذِي يَدِينُ بِدِينٍ أَوْ شَرِيعَةٍ أيًّا كَانَتْ يَتَهَيَّبُ لِأَوَّلِ الْأَمْرِ مُخَالَفَتَهَا، فَإِذَا خَالَفَهَا لِأَوَّلِ مَرَّةٍ تَرَكَتِ الْمُخَالَفَةُ أَثَرًا فِي نَفْسِهِ، وَضَعُفَتْ هَيْبَةُ الشَّرِيعَةِ فِي نَظَرِهِ، فَإِذَا عَادَ زَادَ ضَعْفُ سُلْطَةِ الشَّرِيعَةِ عَلَى إِرَادَتِهِ، وَلَا يَزَالُ كَذَلِكَ حَتَّى تَصِيرَ الْمُخَالَفَةُ طَبْعًا وَرَيْنًا، وَيَنْسَى مَا قَامَ عَلَى الشَّرِيعَةِ مِنْ دَلِيلٍ، وَمَا كَانَ لَهَا مِنْ سَيْطَرَةٍ، وَيَضْرَى بِالْعُدْوَانِ، كَمَا يَضْرَى الْحَيَوَانُ بِالِافْتِرَاسِ، وَكُلُّ عَمَلٍ يَسْتَرْسِلُ فِيهِ الْعَامِلُ تَقْوَى مَلَكَتُهُ فِيهِ خُصُوصًا مَا اتَّبَعَ فِيهِ الْهَوَى.

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ)

ص: 276

أَحَاطَ الْقَضَاءُ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ بِالْيَهُودِ فَلَمْ يَدَعْ مِنْهُمْ حَاضِرًا وَلَا غَائِبًا، فَأَلْزَمَ

الذُّلَّ بَاطِنَهُمْ، وَكَسَا بِالْمَسْكِّنَةِ ظَاهِرَهُمْ، وَبَوَّأَهُمْ مَنَازِلَ غَضَبِهِ، وَجَعَلَ أَرْوَاحَهُمْ مَسَاقِطَ نِقَمِهِ، فَذَلِكَ اللهُ الَّذِي يَقُولُ:(وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ) سَجَّلَتِ الْآيَةُ عَلَيْهِمْ هَذَا الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيهِمْ، وَاسْتَشْعَرَتْ قُلُوبُهُمْ مِنْ كُفْرٍ بِآيَاتِ اللهِ، وَانْصِرَافٍ عَنِ الْعِبْرَةِ، وَاسْتِعْصَاءٍ عَلَى الْمَوْعِظَةِ، وَخُرُوجٍ عَنْ حُدُودِ الشَّرِيعَةِ وَاعْتِدَاءٍ عَلَى أَحْكَامِهَا، اقْتَرَفَ ذَلِكَ سَلَفُهُمْ، وَتَبِعَهُمْ عَلَيْهِ خَلَفُهُمْ، فَحُقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ، فَلَوْ قَرَّ الْخُطَّابُ عِنْدَهَا، وَلَمْ يَتْلُهَا مِنْ رَحْمَتِهِ مَا بَعْدَهَا، لَحُقَّ عَلَى كُلِّ يَهُودِيٍّ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ أَنْ يَيْأَسَ، وَأَنْ لَا يَبْقَى عِنْدَهُ لِلْأَمَلِ فِي عَفْوِ اللهِ مُتَنَفَّسٌ، بَلْ كَانَ ذَلِكَ الْقُنُوطُ لَازِمًا لِكُلِّ عَاصٍ، قَابِضًا عَلَى نَفْسِ كُلِّ مُعْتَدٍ، لَا فَرْقَ بَيْنَ الْيَهُودِ وَغَيْرِهِمْ، فَإِنَّ سَبَبَ مَا نَزَلَ بِالْيَهُودِ إِنَّمَا هُوَ عِصْيَانُهُمْ وَاعْتِدَاؤُهُمْ حُدُودَ مَا شَرَعَ اللهُ لَهُمْ، وَسُنَنُ اللهِ فِي خَلْقِهِ لَا تَتَغَيَّرُ وَأَحْكَامُهُ الْعَادِلَةُ فِيهِمْ لَا تَتَبَدَّلُ؛ لِهَذَا جَاءَ قَوْلُهُ - تَعَالَى -:(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) . . . إِلَخْ، بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِثْنَاءِ مِنْ حُكْمِ الْآيَةِ السَّابِقَةِ، وَإِنَّمَا وَرَدَ عَلَى هَذَا الْأُسْلُوبِ الْبَدِيعِ مُتَضَمِّنًا لِجَمِيعِ مَنْ تَمَسَّكَ بِهَدْيِ نَبِيٍّ سَابِقٍ وَانْتَسَبَ إِلَى شَرِيعَةٍ سَمَاوِيَّةٍ مَاضِيَةٍ؛ لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ الْجَزَاءَ السَّابِقَ، وَإِنْ حُكِيَ عَلَى أَنَّهُ مِنْ خَطَأِ الْيَهُودِ خَاصَّةً، لَمْ يُصِبْهُمْ إِلَّا لِجَرِيمَةٍ قَدْ تَشْمَلُ الشُّعُوبَ عَامَّةً، وَهِيَ الْفُسُوقُ عَنْ أَوَامِرِ اللهِ وَانْتِهَاكِ حُرُمَاتِهِ، فَكُلُّ مَنْ أَجْرَمَ كَمَا أَجْرَمُوا سَقَطَ عَلَيْهِ مِنْ غَضَبِ اللهِ مَا سَقَطَ عَلَيْهِمْ، وَعَلَى أَنَّ اللهَ جَلَّ شَأْنُهُ لَمْ يَأْخُذْهُمْ بِمَا أَخَذَهُمْ لِأَمْرٍ يَخْتَصُّ بِهِمْ عَلَى أَنَّهُمْ مِنْ شَعْبِ إِسْرَائِيلَ أَوْ مِنْ مِلَّةِ يَهُودٍ، بَلْ (ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ) .

وَأَمَّا أَنْسَابُ الشُّعُوبِ وَمَا تَدِينُ بِهِ مِنْ دِينٍ وَمَا تَتَّخِذُهُ مِنْ مِلَّةٍ، فَكُلُّ ذَلِكَ لَا أَثَرَ لَهُ فِي رِضَاءِ اللهِ وَلَا غَضَبِهِ، وَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ رِفْعَةُ شَأْنِ قَوْمٍ وَلَا ضِعَتُهُمْ، بَلْ عِمَادُ الْفَلَاحِ وَوَسِيلَةِ الْفَوْزِ بِخَيْرَيِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ إِنَّمَا هُوَ صِدْقُ الْإِيمَانِ بِاللهِ - تَعَالَى -، بِأَنْ يَكُونَ التَّصْدِيقُ بِهِ سُطُوعًا عَلَى النَّفْسِ مِنْ مَشْرِقِ الْبُرْهَانِ، أَوْ جَيَشَانًا فِي الْقَلْبِ مِنْ عَيْنِ الْوِجْدَانِ، فَيَكُونُ الِاعْتِقَادُ بِوُجُودِهِ وَصِفَاتِهِ خَالِيًا مَنْ شَوْبِ التَّشْبِيهِ وَالتَّمْثِيلِ، وَالْيَقِينُ فِي نِسْبَةِ الْأَفْعَالِ إِلَيْهِ خَالِصًا مِنْ وَسَاوِسِ الْوَهْمِ وَالتَّخْيِيلِ، وَيَكُونُ الْمُؤْمِنُ قَدِ ارْتَقَى بِإِيمَانِهِ مُرْتَقًى يَشْعُرُ فِيهِ بِالْجَلَالِ الْإِلَهِيِّ.

فَإِذَا رَفَعَ بَصَرَهُ إِلَى الْجَنَابِ الْأَرْفَعِ أَغْضَى هَيْبَةً وَأَطْرَقَ إِلَى أَرْضِ الْعُبُودِيَّةِ خُشُوعًا، وَإِذَا أَطْلَقَ نَظَرَهُ

فِيمَا بَيْنَ يَدَيْهِ، مِمَّا سَلَّطَهُ اللهُ عَلَيْهِ، شَعَرَ فِي نَفْسِهِ عِزَّةً بِاللهِ، وَوَجَدَ فِيهَا قُوَّةً تَصْرِفُهُ بِالْحَقِّ فِيمَا يَقَعُ تَحْتَ قُوَاهُ. لَا يَعْدُو حَدًّا ضُرِبَ لَهُ، وَلَا يَقِفُ دُونَ غَايَةٍ قُدِّرَ لَهُ أَنْ يَصِلَ إِلَيْهَا، فَيَكُونُ عَبْدًا لِلَّهِ وَحْدَهُ، سَيِّدًا لِكُلِّ شَيْءٍ بَعْدَهُ.

كَتَبَ مَا تَقَدَّمَ الْأُسْتَاذُ بِقَلَمِهِ؛ إِذِ اقْتَرَحْتُ أَنْ يَكْتُبَ تَفْسِيرَ الْآيَةِ كَمَا قَرَّرَهُ فِي دَرْسِهِ وَإِنَّنِي أُتِمُّهُ عَلَى الْمَنْهَجِ الَّذِي جَرَيْتُ عَلَيْهِ فَأَقُولُ:

ص: 277

هَذَا هُوَ الْإِيمَانُ الْمَرْضِيُّ عِنْدَ اللهِ - تَعَالَى - الَّذِي يَكُونُ أَصْلًا لِتَهْذِيبِ أَخْلَاقِ صَاحِبِهِ، وَمَصْدَرًا لِلْأَعْمَالِ الْحَسَنَةِ عَنْهُ. وَلِلْإِيمَانِ إِطْلَاقٌ آخَرُ وَهُوَ التَّصْدِيقُ بِالدِّينِ فِي الْجُمْلَةِ، أَيِ الْإِيمَانُ بِاللهِ، وَبِأَنَّ مَا جَاءَ بِهِ فُلَانٌ النَّبِيُّ مَثَلًا هُوَ صَحِيحٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ عَلَى اللهِ - تَعَالَى - وَيَدْخُلُ فِيهِ أَهْلُ الْفِرَقِ الضَّالَّةِ مِنْ كُلِّ دِينٍ مِنَ الْأَدْيَانِ السَّمَاوِيَّةِ، فَهُوَ إِطْلَاقٌ صَحِيحٌ لُغَةً وَعُرْفًا كَمَا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ - تَعَالَى -:(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ) أَيْ إِنَّهُمْ يُصَدِّقُونَ بِأَنَّ لِلْعَالَمِ إِلَهًا، وَبِأَنَّ بَعْدَ الْمَوْتِ بَعْثًا، وَلَكِنَّ هَذَا الْإِيمَانَ لَيْسَ مُطَابِقًا فِي تَفْصِيلِهِ لِلْإِذْعَانِ الَّذِي لَهُ السُّلْطَانُ الْأَعْلَى عَلَى النُّفُوسِ فِي تَزْكِيَتِهَا وَتَهْذِيبِهَا وَحَمْلِهَا عَلَى الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَهَذَا الْإِطْلَاقُ هُوَ الَّذِي عَنَاهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ بِقَوْلِهِ: لَا أَثَرَ لَهُ فِي رِضَا اللهِ وَلَا غَضَبِهِ. . . إِلَخْ، وَهُوَ كَوْنُ الدِّينِ جِنْسِيَّةً لِمَنْ يَنْتَسِبُ إِلَيْهِ، فَقَوْلُهُ - تَعَالَى -:(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) مُرَادٌ بِهِ الْمُسْلِمُونَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم وَالَّذِينَ سَيَتَّبِعُونَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَكَانُوا يُسَمَّوْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالَّذِينَ آمَنُوا. وَقَوْلُهُ:(وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ) يُرَادُ بِهِ هَذِهِ الْفِرَقُ مِنَ النَّاسِ الَّتِي عُرِفَتْ بِهَذِهِ الْأَسْمَاءِ أَوِ الْأَلْقَابِ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا الْأَنْبِيَاءَ السَّابِقِينَ، وَأُطْلِقَ عَلَى بَعْضِهِمْ لَفْظُ يَهُودٍ وَالَّذِينَ هَادُوا، وَعَلَى بَعْضِهِمْ لَفْظُ النَّصَارَى، وَعَلَى بَعْضِهِمْ لَفْظُ الصَّابِئِينَ (مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ وَالْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا) هَذَا بَدَلٌ مِمَّا قَبْلَهُ؛ أَيْ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللهِ إِيمَانًا صَحِيحًا - وَتَقَدَّمَ شَرْحُهُ وَوَصْفُهُ آنِفًا - وَآمَنَ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ كَذَلِكَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُمَا فِي أَوَائِلِ السُّورَةِ، وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا تَصْلُحُ بِهِ نَفْسُهُ وَشُئُونُهُ مَعَ مَنْ يَعِيشُ مَعَهُ، وَمَا الْعَمَلُ الصَّالِحُ بِمَجْهُولٍ فِي عُرْفِ هَؤُلَاءِ الْأَقْوَامِ، وَقَدْ بَيَّنَتْهُ كُتُبُهُمْ أَتَمَّ بَيَانٍ، (فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ

عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) أَيْ إِنَّ حُكْمَ اللهِ الْعَادِلَ، سَوَاءٌ وَهُوَ يُعَامِلُهُمْ بِسُنَّةٍ وَاحِدَةٍ لَا يُحَابِي فِيهَا فَرِيقًا وَيَظْلِمُ فَرِيقًا. وَحُكْمُ هَذِهِ السُّنَّةِ أَنَّ لَهُمْ أَجَرَهُمُ الْمَعْلُومُ بِوَعْدِ اللهِ لَهُمْ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِمْ، وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ مِنْ عَذَابِ اللهِ يَوْمَ يَخَافُ الْكُفَّارُ وَالْفُجَّارُ مِمَّا يَسْتَقْبِلُهُمْ، وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ عَلَى شَيْءٍ فَاتَهُمْ. وَتَقَدَّمَ هَذَا التَّعْبِيرُ فِي الْآيَةِ مَعَ تَفْسِيرِهِ.

فَالْآيَةُ بَيَانٌ لِسُنَّةِ اللهِ - تَعَالَى - فِي مُعَامَلَةِ الْأُمَمِ، تَقَدَّمَتْ أَوْ تَأَخَّرَتْ، فَهُوَ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ - تَعَالَى -:(لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا)(4: 133 - 124) فَظَهَرَ بِذَلِكَ أَنَّهُ لَا إِشْكَالَ فِي حَمْلِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ. . . إِلَخْ عَلَى قَوْلِهِ: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) . . . إِلَخْ، وَلَا إِشْكَالَ فِي عَدَمِ اشْتِرَاطِ الْإِيمَانِ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي مُعَامَلَةِ اللهِ - تَعَالَى - لِكُلِّ الْفِرَقِ أَوِ الْأُمَمِ الْمُؤْمِنَةِ بِنَبِيٍّ وَوَحْيٍ بِخُصُوصِهَا؛

ص: 278

الظَّانَّةِ أَنَّ فَوْزَهَا فِي الْآخِرَةِ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ؛ لِأَنَّهَا مُسْلِمَةٌ أَوْ يَهُودِيَّةٌ أَوْ نَصْرَانِيَّةٌ أَوْ صَابِئَةٌ مَثَلًا، فَاللهُ يَقُولُ: إِنَّ الْفَوْزَ لَا يَكُونُ بِالْجِنْسِيَّاتِ الدِّينِيَّةِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ بِإِيمَانٍ صَحِيحٍ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى النَّفْسِ، وَعَمَلٌ يَصْلُحُ بِهِ حَالُ النَّاسِ؛ وَلِذَلِكَ نَفَى كَوْنَ الْأَمْرِ عِنْدَ اللهِ بِحَسْبِ أَمَانِيِّ الْمُسْلِمِينَ أَوْ أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَأَثْبَتَ كَوْنَهُ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ مَعَ الْإِيمَانِ الصَّحِيحِ.

أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ قَالَ: الْتَقَى نَاسٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، فَقَالَ الْيَهُودُ لِلْمُسْلِمِينَ: نَحْنُ خَيْرٌ مِنْكُمْ، دِينُنَا قَبْلَ دِينِكُمْ، وَكِتَابُنَا قَبْلَ كِتَابِكُمْ، وَنَبِيُّنَا قَبْلَ نَبِيِّكُمْ، وَنَحْنُ عَلَى دِينِ إِبْرَاهِيمَ، وَلَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا، وَقَالَتِ النَّصَارَى مِثْلَ ذَلِكَ، فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: كِتَابُنَا بَعْدُ كِتَابِكُمْ، وَنَبِيُّنَا صلى الله عليه وسلم بَعْدُ نَبِيِّكُمْ، وَدِينُنَا بَعْدُ دِينِكُمْ، وَقَدْ أُمِرْتُمْ أَنْ تَتْبَعُونَا وَتَتْرُكُوا أَمْرَكُمْ، فَنَحْنُ خَيْرٌ مِنْكُمْ، نَحْنُ عَلَى دِينِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ، وَلَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ عَلَى دِينِنَا، فَأَنْزَلَ اللهُ - تَعَالَى -:(لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ)(4: 12) الْآيَةِ. وَرُوِيَ نَحْوَهُ عَنْ مَسْرُوقٍ وَقَتَادَةَ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي التَّارِيخِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ مَرْفُوعًا ((لَيْسَ الْإِيمَانُ بِالتَّمَنِّي، وَلَكِنْ مَا وَقَرَ فِي الْقَلْبِ وَصَدَّقَهُ الْعَمَلُ. إِنَّ قَوْمًا أَلْهَتْهُمْ أَمَانِيُّ الْمَغْفِرَةِ حَتَّى خَرَجُوا مِنَ الدُّنْيَا وَلَا حَسَنَةَ لَهُمْ، وَقَالُوا: نَحْنُ نُحْسِنُ الظَّنَّ بِاللهِ - تَعَالَى - وَكَذَبُوا،

لَوْ أَحْسَنُوا الظَّنَّ لَأَحْسَنُوا الْعَمَلَ)) .

وَالْحِكْمَةُ فِي عِنَايَةِ اللهِ - تَعَالَى - بِالنَّعْيِ عَلَى الْمُغْتَرِّينَ بِالِانْتِسَابِ إِلَى الدِّينِ - أَيًّا كَانَ - ظَاهِرَةٌ، فَإِنَّ هَذَا الْغُرُورَ هُوَ الَّذِي صَرَفَهُمْ عَنِ الْعَمَلِ بِهِ اكْتِفَاءً بِالِانْتِسَابِ إِلَيْهِ وَجَعْلِهِ جِنْسِيَّةً فَقَطْ. وَتَرْكُ الْعَمَلِ لَازِمٌ أَوْ مَلْزُومٌ لِعَدَمِ الْفِقْهِ فِي الدِّينِ، أَيْ عَدَمِ فَهْمِ حِكَمِهِ وَأَسْرَارِهِ، وَتَبِعَ هَذَا فِي الْأُمَمِ السَّابِقَةِ تَرْكُ النَّظَرِ فِيمَا جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وآله وسلم؛ لِأَنَّ الْمَغْرُورَ بِمَا هُوَ فِيهِ لَا يَنْظُرُ فِيمَا سِوَاهُ نَظَرًا صَحِيحًا لَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ مُخَالِفًا لَهُ.

وَذَكَرَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ مَسْأَلَةَ أَهْلِ الْفَتْرَةِ وَالْخِلَافَ الْمَشْهُورَ فِيهَا، وَهُوَ أَنَّ جُمْهُورَ أَهْلِ السُّنَّةِ يَقُولُ: إِنَّهُمْ نَاجُونَ؛ لِأَنَّهُ لَا تَكْلِيفَ إِلَّا بِشَرْعٍ، وَهَؤُلَاءِ لَمْ تَبْلُغْهُمْ دَعْوَةٌ، وَمَنْ قَالَ: إِنَّ بِالْعَقْلِ يُدْرَكُ الْوَاجِبُ وَالْمُحَرَّمُ وَالِاعْتِقَادُ الصَّحِيحُ وَالْبَاطِلُ، عَدَّهُمْ غَيْرَ نَاجِينَ. وَهَذَا رَأْيُ الْمُعْتَزِلَةِ وَجَمَاعَةٍ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَجُمْهُورُ الْأَشَاعِرَةِ عَلَى أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ إِدْرَاكُ ذَلِكَ إِلَّا بِالشَّرْعِ، ثُمَّ إِنَّ مَحَلَّ النَّظَرِ فِي أَهْلِ الْفَتْرَةِ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ كَالْعَرَبِ الَّذِينَ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ نُبُوَّةَ أَنْبِيَاءَ وَلَا يَجِدُونَ لَدَيْهِمْ شَيْئًا مِنْ أَحْكَامِ دِينِهِمْ خَالِصًا مِنَ الشَّوَائِبِ، سَالِمًا مِنَ النَّزَعَاتِ الْفَاسِدَةِ. وَأَمَّا مِثْلُ الْيَهُودِ فَلَا يَصِحُّ أَنْ يُسَمَّوْا أَهْلَ فَتْرَةٍ، فَإِنَّهُمْ عَلَى نِسْيَانِهِمْ حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ، وَتَحْرِيفِهِمْ بَعْضَ مَا حَفِظُوا، قَدْ بَقِيَ جَوْهَرُ دِينِهِمْ مَعْرُوفًا لَمْ يَغْشَ أَحْكَامَهُ مَا يَمْنَعُ الِاهْتِدَاءَ بِهَا، وَاللهُ - تَعَالَى - يَقُولُ:(وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللهِ)(5: 43) وَكَذَلِكَ الْمَسِيحِيُّونَ لَا يُسَمَّوْنَ أَهْلَ فَتْرَةٍ؛ لِأَنَّ عِنْدَهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ وَوَصَايَا الْأَنْبِيَاءِ مَا عِنْدَ الْيَهُودِ وَزِيَادَةً مِمَّا حَفِظُوا مِنْ وَصَايَا الْمَسِيحِ، وَرُوحُ الدَّعْوَةِ مَوْجُودٌ عِنْدَهُمْ، وَلَكِنَّهُمْ لَا يَعْمَلُونَ بِهَذِهِ الْوَصَايَا وَلَا يَأْخُذُونَ بِتِلْكَ

ص: 279

الْأَحْكَامِ، وَلَا عُذْرَ لَهُمْ يَحُولُ دُونَ الْعُقُوبَةِ. وَأَمَّا الصَّابِئُونَ فَإِنْ كَانُوا فِرْقَةً مِنَ النَّصَارَى كَمَا يَظْهَرُ مِنَ الْوِفَاقِ بَيْنَهُمَا فِي كَثِيرٍ مِنَ التَّقَالِيدِ، كَالْمَعْمُودِيَّةِ وَالِاعْتِرَافِ وَتَعْظِيمِ يَوْمِ الْأَحَدِ، فَالْأَمْرُ ظَاهِرٌ أَنَّ حُكْمَهُمْ كَحُكْمِهِمْ، وَإِنْ كَانَ الْخَلْطُ عِنْدَهُمْ أَكْثَرَ، وَالْبُعْدُ عَنِ الْأَصْلِ أَشَدَّ، حَتَّى إِنَّهُمُ اعْتَقَدُوا تَأْثِيرَ الْكَوَاكِبِ، وَأَحَاطَتْ بِهِمُ الْبِدَعُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، عَلَى أَنَّهُمْ أَقْرَبُ إِلَى رُوحِ الْمَسِيحِيَّةِ مِنَ النَّصَارَى، فَإِنَّ عِنْدَهُمُ الزُّهْدَ وَالتَّوَاضُعَ اللَّذَيْنِ يَفِيضَانِ مِنْ كُلِّ كَلِمَةٍ

تُؤْثَرُ عَنِ الْمَسِيحِ عليه السلام، وَالنَّصَارَى صَارُوا أَشَدَّ أُمَمِ الْأَرْضِ عُتُوًّا وَطَمَعًا وَإِسْرَافًا فِي حُظُوظِ الدُّنْيَا. وَيُقَالُ: إِنَّ الصَّابِئَةَ مِلَّةٌ مُسْتَقِلَّةٌ يُؤْمِنُونَ بِكَثِيرٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ الْمَعْرُوفِينَ، وَلَكِنْ قَدِ اخْتَلَطَ عَلَيْهِمُ الْأَمْرُ كَمَا اخْتَلَطَ عَلَى الْحُنَفَاءِ الْعَرَبِ إِلَّا أَنَّ عِنْدَهُمْ مِنَ التَّقَالِيدِ وَالْأَحْكَامِ مَا لَمْ يَكُنْ عِنْدَ الْعَرَبِ، فَإِنْ كَانُوا أَقْرَبَ إِلَيْهِمْ، فَلَهُمْ حُكْمُهُمْ، وَإِلَّا فَهُمْ كَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى يُسْأَلُونَ عَنِ الْعَمَلِ بِدِينِهِمْ بَعْدَ فَهْمِهِ كَمَا يَجِبُ حَتَّى يَأْتِيَهُمْ هَدْيٌ آخَرُ، كَأَنْ تَبْلُغُهُمْ دَعْوَةُ الْإِسْلَامِ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلُوا فَهُمْ مُؤَاخَذُونَ.

عَلِمْنَا أَنَّ أَهْلَ الْفَتْرَةِ: هُمُ الَّذِينَ لَمْ تَبْلُغْهُمْ دَعْوَةٌ صَحِيحَةٌ تُحَرِّكُ إِلَى النَّظَرِ، أَوْ بَلَغَهُمْ أَنَّ بَعْضَ الْأَنْبِيَاءِ بُعِثُوا، وَلَكِنْ لَمْ يَصِلْ إِلَيْهِمْ شَيْءٌ صَحِيحٌ مِنْ شَرَائِعِهِمْ، فَهُمْ يُؤْمِنُونَ بِهِمْ إِيمَانًا إِجْمَالِيًّا، كَالْحُنَفَاءِ مِنَ الْعَرَبِ الَّذِينَ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِإِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ، وَلَا يَعْرِفُونَ مِنْ دِينِهِمَا شَيْئًا خَالِصًا كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا. وَحُجَّةُ الْأَشَاعِرَةِ عَلَى عَدَمِ مُؤَاخَذَتِهِمْ آيَاتٌ كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -:(وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا)(17: 15) وَقَوْلِهِ: (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ)(4: 165) وَذَهَبَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ إِلَى الِاكْتِفَاءِ بِبُلُوغِ دَعْوَةِ أَيِّ نَبِيٍّ فِي رُكْنَيِ الدِّينِ الرَّكِينَيْنِ، وَهُمَا الْإِيمَانُ بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ، فَمَنْ بَلَغَتْهُ، وَجَبَ عَلَيْهِ الْإِيمَانُ بِهَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ. وَإِنْ لَمْ يَكُنِ النَّبِيُّ مُرْسَلًا إِلَيْهِ.

وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْحَنَفِيَّةِ وَكَذَلِكَ الْمُعْتَزِلَةُ إِلَى أَنَّ أُصُولَ الِاعْتِقَادِ تُدْرَكُ بِالْعَقْلِ، فَلَا تَتَوَقَّفُ الْمُؤَاخَذَةُ عَلَيْهَا عَلَى بُلُوغِ دَعْوَةِ رَسُولٍ، وَإِنَّمَا يَجِيءُ الرُّسُلُ مُؤَكِّدِينَ لِمَا يَفْهَمُ الْعَقْلُ مُوَضِّحِينَ لَهُ وَمُبَيِّنِينَ أُمُورًا لَا يَسْتَقِلُّ بِإِدْرَاكِهَا، كَأَحْوَالِ الْآخِرَةِ وَكَيْفِيَّاتِ الْعِبَادَةِ الَّتِي تُرْضِي اللهَ - تَعَالَى.

وَأَوَّلُوا آيَةَ: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا)(17: 15) بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالتَّعْذِيبِ هُوَ الِاسْتِئْصَالُ فِي الدُّنْيَا بِإِفْنَاءِ الْأُمَّةِ أَوِ اسْتِذْلَالِهَا، وَالذَّهَابِ بِاسْتِقْلَالِهَا، وَيُنَافِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ اسْتِعْمَالُ (وَمَا كُنَّا) مِنْ إِرَادَةِ نَفْيِ الشَّأْنِ الدَّالِّ عَلَى عُمُومِ السَّلْبِ، وَلَهُمْ فِي كُتُبِهِمْ أَدِلَّةٌ وَمُنَاقَشَاتٌ لَيْسَ هَذَا مِنْ مَوَاضِعِهَا.

وَعَنِ الْإِمَامِ الْغَزَالِيِّ: أَنَّ النَّاسَ فِي شَأْنِ بَعْثَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وآله وسلم أَصْنَافٌ ثَلَاثَةٌ: مَنْ لَمْ يَعْلَمْ بِهَا بِالْمَرَّةِ - أَيْ كَأَهْلِ أَمْرِيكَا لِذَلِكَ الْعَهْدِ - هَؤُلَاءِ نَاجُونَ حَتْمًا (أَيْ إِنْ لَمْ تَكُنْ بَلَغَتْهُمْ دَعْوَةٌ أُخْرَى صَحِيحَةٌ) . وَمَنْ بَلَغَتْهُ الدَّعْوَةُ عَلَى وَجْهِهَا وَلَمْ يَنْظُرْ فِي أَدِلَّتِهَا إِهْمَالًا أَوْ عِنَادًا

ص: 280

أَوِ اسْتِكْبَارًا وَهَؤُلَاءِ مُؤَاخَذُونَ حَتْمًا. وَمَنْ بَلَغَتْهُ

عَلَى غَيْرِ وَجْهِهَا أَوْ مَعَ فَقْدِ شَرْطِهَا، وَهُوَ أَنْ تَكُونَ عَلَى وَجْهٍ يُحَرِّكُ دَاعِيَةَ النَّظَرِ، وَهَؤُلَاءِ فِي مَعْنَى الصِّنْفِ الْأَوَّلِ. هَذَا مَعْنَى عِبَارَتِهِ الْمُطَابِقَةِ لِأُصُولِ الْكَلَامِ.

(وَأَقُولُ) عِبَارَتُهُ فِي كِتَابِ فَيْصَلِ التَّفْرِقَةِ فِي هَذَا الصِّنْفِ هِيَ: وَصِنْفٌ ثَالِثٌ بَيْنَ الدَّرَجَتَيْنِ بَلَغَهُمُ اسْمُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَلَمْ يَبْلُغْهُمْ نَعْتُهُ وَصِفَتُهُ، بَلْ سَمِعُوا مُنْذُ الصِّبَا أَنَّ كَذَّابًا مُدَلِّسًا اسْمَهُ مُحَمَّدٌ ادَّعَى النُّبُوَّةَ كَمَا سَمِعَ صِبْيَانُنَا أَنَّ كَذَّابًا يُقَالُ لَهُ:(الْمُقَفَّعُ)(لَعَنَهُ اللهُ) تَحَدَّى بِالنُّبُوَّةِ كَاذِبًا، فَهَؤُلَاءِ عِنْدِي فِي مَعْنَى الصِّنْفِ الْأَوَّلِ، فَإِنَّ أُولَئِكَ مَعَ أَنَّهُمْ لَمْ يَسْمَعُوا اسْمَهُ لَمْ يَسْمَعُوا ضِدَّ أَوْصَافِهِ، وَهَؤُلَاءِ سَمِعُوا ضِدَّ أَوْصَافِهِ، وَهَذَا لَا يُحَرِّكُ دَاعِيَةَ النَّظَرِ فِي الطَّلَبِ اهـ.

وَأَقُولُ فِي حَلِّ مَعْنَى الْآيَةِ عَلَى هَذَا: إِنَّ أَهْلَ الْأَدْيَانِ الْإِلَهِيَّةِ - وَهُمُ الَّذِينَ بَلَغَتْهُمْ دَعْوَةُ نَبِيٍّ عَلَى وَجْهِهَا وَبِشَرْطِهَا - إِذَا آمَنُوا بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ عَلَى الْوَجْهِ الصَّحِيحِ الَّذِي بَيَّنَهُ نَبِيُّهُمْ وَعَمِلُوا الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ، فَهُمْ نَاجُونَ مَأْجُورُونَ عِنْدَ اللهِ - تَعَالَى -، وَإِذَا آمَنُوا عَلَى غَيْرِ الْوَجْهِ الصَّحِيحِ، كَالْمُشَبِّهَةِ وَالْحُلُولِيَّةِ وَالِاتِّحَادِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ، فَلَا يَنَالُهُمْ مِنْ هَذَا الْوَعْدِ شَيْءٌ، بَلْ يَتَنَاوَلَهُمُ الْوَعِيدُ الْمَذْكُورُ فِي الْآيَاتِ الْأُخْرَى، وَكَذَلِكَ حَالُ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِأَقْوَالِهِمْ دُونَ أَعْمَالِهِمْ، فَإِنَّ الْإِيمَانَ الصَّحِيحَ هُوَ صَاحِبُ السُّلْطَانِ الْأَعْلَى عَلَى الْقَلْبِ، وَالْإِرَادَةِ الَّتِي تُحَرِّكُ الْأَعْضَاءَ فِي الْأَعْمَالِ، فَإِنْ نَازَعَهُ فِي سُلْطَانِهِ طَائِفٌ مِنَ الشَّهْوَةِ فَإِنَّهُ لَا يَلْبَثُ أَنْ يَقْهَرَهُ (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ) (7: 201) ثُمَّ أَزِيدُ الْآنَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ أَنَّ كُلَّ هَذِهِ الْأَقْوَالِ وَالتَّفْصِيلَاتِ إِنَّمَا هِيَ فِي الْمُؤَاخَذَةِ عَلَى اتِّبَاعِ دَعْوَةِ الرُّسُلِ وَعَدَمِهَا. وَلَا يُعْقَلُ أَنْ يَكُونَ مَنْ لَمْ تَبْلُغْهُمُ الدَّعْوَةُ بِشَرْطِهَا أَوْ مُطْلَقًا نَاجِينَ عَلَى سَوَاءٍ، وَأَنْ يَكُونُوا كُلُّهُمْ فِي الْجَنَّةِ كَأَتْبَاعِ الرُّسُلِ فِي الْإِيمَانِ الصَّحِيحِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ. إِذْ لَوْ صَحَّ هَذَا لَكَانَ بَعْثُ الرُّسُلِ شَرًّا مِنْ عَدَمِهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَكْثَرِ النَّاسِ. وَالْمَعْقُولُ الْمُوَافِقُ لِلنُّصُوصِ أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - يُحَاسِبُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ لَمْ تَبْلُغْهُمْ دَعْوَةٌ مَا بِحَسْبِ مَا عَقَلُوا وَاعْتَقَدُوا مِنَ الْحَقِّ وَالْخَيْرِ وَمُقَابِلِهِمَا، وَسَتَجِدُ تَفْصِيلَ هَذَا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْ هَذَا التَّفْسِيرِ.

(وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلَا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ)

ص: 281

أَطْمَعَ اللهُ - تَعَالَى - بِالْآيَةِ السَّابِقَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي رَحْمَتِهِ بَعْدَمَا قَرَّعَهُمْ بِالنُّذُرِ الَّتِي تَكَادُ تُوقِعُ الْيَأْسَ فِي قُلُوبِهِمْ، وَبَيَّنَ لَهُمْ وَلِسَائِرِ النَّاسِ أَنَّ الْمَنْفَذَ إِلَى هَذَا الطَّمَعِ، بَلِ الْبَابِ الَّذِي يُؤَدِّي إِلَى هَذَا الرَّجَاءِ هُوَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ اللَّذَيْنِ بَعَثَ لِتَقْرِيرِهِمَا الْأَنْبِيَاءَ عليهم السلام، وَهُمَا الْإِيمَانُ الصَّحِيحُ الْيَقِينِيُّ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ، وَإِشْرَاكُ غَيْرِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي هَذَا الْحُكْمِ لَا يَقْضِي بِانْتِهَاءِ السِّيَاقِ، بَلْ لَا يَزَالُ الْكَلَامُ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ؛ وَلِذَلِكَ عَقَّبَ ذَلِكَ الْإِطْمَاعَ بِالتَّذْكِيرِ بِبَعْضِ الْوَقَائِعِ الَّتِي اسْتَحَقُّوا فِيهَا الْعُقُوبَةَ فَحَالَتْ دُونَ وُقُوعِهَا الرَّحْمَةُ فَقَالَ:(وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ) وَهُوَ الْعَهْدُ الَّذِي أَخَذَهُ عَلَيْهِمْ وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِيهِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ:(وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ) فَقَدْ ذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ فِيهِ قِصَّةً وَهِيَ: أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - ظَلَّلَ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِالطُّورِ، وَهُوَ الْجَبَلُ الْمَعْرُوفُ وَخَوَّفَهُمْ بِرَفْعِهِ فَوْقَهُمْ؛ لِيُذْعِنُوا وَيُؤْمِنُوا، ثُمَّ اعْتَرَضَ عَلَيْهِ بَعْضُهُمْ بِأَنَّهُ إِكْرَاهٌ عَلَى الْإِيمَانِ وَإِلْجَاءٌ إِلَيْهِ، وَذَلِكَ يُنَافِي التَّكْلِيفَ، وَأُجِيبَ بِأَجْوِبَةٍ مِنْهَا: أَنَّ مَا يُفْعَلُ بِالْإِكْرَاهِ يَعُودُ اخْتِيَارِيًّا بَعْدَ زَوَالِ مَا بِهِ الْإِكْرَاهُ، وَمِنْهَا: أَنَّ مِثْلَ هَذَا الْإِلْجَاءِ وَالْإِكْرَاهِ كَانَ جَائِزًا فِي الْأُمَمِ السَّابِقَةِ، وَيَزِيدُ مَنْ قَالَ هَذَا: أَنَّ نَفْيَ الْإِكْرَاهِ فِي الدِّينِ الْخَاصِّ بِالْإِسْلَامِ لِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ)(2: 256) وَقَوْلِهِ: (أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ)(10: 99)

قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: لَا حَاجَةَ لَنَا فِي فَهْمِ كِتَابِ اللهِ إِلَى غَيْرِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ بِأُسْلُوبِهِ الْفَصِيحِ، فَهُوَ لَا يَحْتَاجُ فِي فَهْمِهِ إِلَى إِضَافَاتٍ وَلَا مُلْحَقَاتٍ، وَقَدْ ذَكَرَ لَنَا مَسْأَلَةَ رَفْعِ الطُّورِ فَوْقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ يَقُلْ إِنَّهُ أَرَادَ بِذَلِكَ الْإِكْرَاهَ عَلَى الْإِيمَانِ، وَإِنَّمَا حَكَى عَنْهُمْ فِي آيَةٍ أُخْرَى أَنَّهُمْ ظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ، فَقَدْ قَالَ - تَعَالَى - فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ:(وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)(7: 171) وَالنَّتْقُ: الزَّعْزَعَةُ وَالْهَزُّ وَالْجَذْبُ وَالنَّفْضُ، وَنَتَقَ الشَّيْءَ يَنْتِقُهُ وَيَنْتُقُهُ - مِنْ بَابَيْ ضَرَبَ وَنَصَرَ - نَتْقًا، جَذَبَهُ وَاقْتَلَعَهُ، وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ فِي الْآيَةِ بِضَرْبٍ مِنَ الزِّلْزَالِ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ التَّعْبِيرُ بِالنَّتْقِ وَهُوَ فِي الْأَصْلِ بِمَعْنَى الزَّعْزَعَةِ

وَالنَّفْضِ، وَالْمَفْهُومُ مَنْ أَخْذِ الْمِيثَاقِ أَنَّهُمْ قَبِلُوا الْإِيمَانَ وَعَاهَدُوا مُوسَى عَلَيْهِ. فَرَفْعُ الطُّورِ وَظَنُّهُمْ أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ، مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي رَأَوْهَا بَعْدَ أَخْذِ الْمِيثَاقِ، كَانَ لِأَجْلِ أَخْذِ مَا أُوتُوهُ مِنَ الْكِتَابِ بِقُوَّةٍ وَاجْتِهَادٍ؛ لِأَنَّ رُؤْيَةَ الْآيَاتِ تُقَوِّي الْإِيمَانَ، وَتُحَرِّكُ الشُّعُورَ وَالْوِجْدَانَ؛ وَلِذَلِكَ خَاطَبَهُمْ عِنْدَ رُؤْيَةِ تِلْكَ الْآيَةِ بِقَوْلِهِ:(خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ) أَيْ تَمَسَّكُوا بِهِ وَاعْمَلُوا بِجِدٍّ وَنَشَاطٍ، لَا يُلَابِسُ نُفُوسَكُمْ فِيهِ ضَعْفٌ، وَلَا يَصْحَبُهَا وَهَنٌ وَلَا وَهْمٌ، ثُمَّ قَالَ:(وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ) أَيْ بِالْمُحَافَظَةِ عَلَى الْعَمَلِ بِهِ؛ فَإِنَّ الْعَمَلَ هُوَ الَّذِي يَجْعَلُ الْعِلْمَ رَاسِخًا فِي النَّفْسِ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهَا. وَيُؤْثَرُ عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٍّ - كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ - أَنَّهُ قَالَ: يَهْتِفُ الْعِلْمُ بِالْعَمَلِ. فَإِنْ أَجَابَهُ وَإِلَّا ارْتَحَلَ. وَذَلِكَ أَنَّ الْعِلْمَ إِنَّمَا يَحْضُرُ فِي النَّفْسِ مُجْمَلًا غَيْرَ سَالِمٍ مِنْ إِبْهَامٍ وَغُمُوضٍ، فَإِذَا بَرَزَ لِلْوُجُودِ بِالْعَمَلِ صَارَ تَفْصِيلِيًّا جَلِيًّا، ثُمَّ يَنْقَلِبُ النَّظَرِيُّ

ص: 282

مِنْهُ بِالتَّكْرَارِ وَالْمُوَاظَبَةِ بَدِيهِيًّا ضَرُورِيًّا، وَبِذَلِكَ يَثْبُتُ فَلَا يُنْسَى. وَأَمَّا النِّسْيَانُ فَإِنَّهُ حَلِيفُ الْكُفْرِ، وَإِنَّهُ لَيَصِلُ بِالْإِنْسَانِ إِلَى حَدٍّ يُسَاوِي فِيهِ مَنْ لَمْ تَسْبِقْ لَهُ مُعَرِفَةٌ بِالشَّيْءِ قَطُّ؛ لِأَنَّهُ لَا أَثَرَ لَهُ فِي النَّفْسِ وَلَا فِي الظَّاهِرِ. وَلَا فَرْقَ بَيْنَ مَنْ بَلَغَتْهُ دَعْوَةُ الْهِدَايَةِ فَسَلَّمَ بِهَا وَقَبِلَهَا ثُمَّ تَرَكَ الْعَمَلَ بِهَا حَتَّى نَسِيَهَا، وَبَيْنَ مَنْ لَمْ تَبْلُغْهُ أَلْبَتَّةَ، وَمَنْ بَلَغَتْهُ عَلَى وَجْهٍ غَيْرِ مُقْنِعٍ، فَلَمْ يُؤْمِنْ إِلَّا بِمَا تَكُونُ الْحُجَّةُ بِهِ عَلَى الْأَوَّلِ أَظْهَرَ، وَكَوْنِهِ بِالْمُؤَاخَذَةِ أَجْدَرَ، وَالثَّانِي مَعْذُورٌ عِنْدَ الْجَمَاهِيرِ، وَكَذَلِكَ الثَّالِثُ إِذَا اسْتَمَرَّ عَلَى النَّظَرِ مِنْ غَيْرِ تَقْصِيرٍ، فَعَلَى هَذَا تَكُونُ مَنْزِلَةُ النَّاسِي هِيَ الَّتِي تَلِي مَنْزِلَةَ الْجَاحِدِ الْمُعَانِدِ، وَهُوَ خَلِيقٌ بِأَنْ يُحْشَرَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى عَنْ طَرِيقِ النَّجَاةِ وَالسَّعَادَةِ، حَتَّى إِذَا لَقِيَ رَبَّهُ (قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى) (20: 125، 126) .

وَأَقُولُ: إِنَّ فِي هَذَا الْحُجَّةَ عَلَى قُرَّاءِ الْقُرْآنِ، الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ مِنْهُ إِلَّا التَّغَنِّي بِأَلْفَاظِهِ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ لَا أَثَرَ فِيهَا لِلْقُرْآنِ، وَأَعْمَالُهُمْ لَا تَنْطَبِقُ عَلَى مَا جَاءَ بِهِ الْقُرْآنُ، وَهَذَا شَرُّ نَوْعَيِ النِّسْيَانِ، وَقَدْ ضَرَبَ لَهُ أَبُو حَامِدٍ الْغَزَالِيُّ مَثَلٌ: عَبِيدٌ أَقْطَعَهُمْ سَيِّدُهُمْ بُسْتَانًا وَكَلَّفَهُمْ إِصْلَاحَهُ وَعِمَارَتَهُ، وَكَتَبَ لَهُمْ كِتَابًا يُبَيِّنُ لَهُمْ فِيهِ كَيْفَ يَسِيرُونَ فِي هَذَا الْإِصْلَاحِ، وَكَيْفَ تَكُونُ حَيَاتُهُمْ فِيهِ، وَوَعَدَهُمْ عَلَى الْإِحْسَانِ بِمُكَافَأَةٍ وَأَجْرٍ فَوْقَ مَا يَسْتَفِيدُونَهُ مِنْ ثَمَرَاتِ الْبُسْتَانِ وَغَلَّاتِهِ، وَتَوَعَّدَهُمْ عَلَى الْإِسَاءَةِ فِي الْعَمَلِ بِالْعُقُوبَةِ

الشَّدِيدَةِ وَرَاءَ مَا يَفُوتُهُمْ مِنْ خَيْرَاتِ الْبُسْتَانِ، وَمَا يَذُوقُونَ مِنْ مَرَارَةِ سُوءِ الْمُعَامَلَةِ فِيمَا بَيْنَهُمْ، فَكَانَ حَظُّهُمْ مِنَ الْكِتَابِ تَعْظِيمَ رِقِّهِ وَوَرَقِهِ، وَالتَّغَنِّيَ بِلَفْظِهِ، وَتَكْرَارَ تِلَاوَتِهِ، بِدُونِ مُبَالَاةٍ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَلَا اعْتِبَارٍ بِالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ فِيهِ، بَلْ عَاثُوا فِي أَرْضِ الْبُسْتَانِ مُفْسِدِينَ فَأَهْلَكُوا الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ، فَهَلْ يَكُونُ حَظُّ هَؤُلَاءِ مِنَ الْكِتَابِ غَيْرَ أَنَّهُ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ، وَقَاطِعٌ لِأَلْسِنَةِ الْعُذْرِ مِنْهُمْ؟ !

أَمَرَهُمْ بِالذِّكْرِ الَّذِي يَثْبُتُ بِالْعَمَلِ، وَوَصَلَهُ بِذِكْرِ فَائِدَتِهِ وَهِيَ إِعْدَادُهُ النَّفْسَ لِتَقْوَى اللهِ عز وجل، فَقَالَ:(لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) ، فَإِنَّ الْمُوَاظَبَةَ عَلَى الْعَمَلِ بِمَا يُرْشِدُ إِلَيْهِ الْكِتَابُ تَطْبَعُ فِي النَّفْسِ مَلَكَةَ مُرَاقَبَةِ اللهِ - تَعَالَى - فَتَكُونُ بِهَا نَقِيَّةً تَقِيَّةً، رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى) (20: 132) .

وَبَعْدَ أَنْ ذَكَرَ لَهُمْ تِلْكَ الْآيَةَ، وَمَا اتَّصَلَ بِهَا مِنَ الْهِدَايَةِ، ذَكَّرَهُمْ بِمَا كَانَ مِنْهُمْ مِنَ التَّوَلِّي عَنِ الطَّاعَةِ وَالْإِعْرَاضِ عَنِ الْقَبُولِ، ثُمَّ امْتَنَّ عَلَيْهِمْ بِمَا عَامَلَهُمْ بِهِ مِنَ الْفَضْلِ وَالرَّحْمَةِ، وَالصَّفْحِ عَمَّا يَسْتَحِقُّونَهُ مِنَ الْمُؤَاخَذَةِ وَالْعُقُوبَةِ، فَقَالَ:(ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ) أَيْ ثُمَّ أَعْرَضْتُمْ وَانْصَرَفْتُمْ عَنِ الطَّاعَةِ مِنْ بَعْدِ أَخْذِ الْمِيثَاقِ وَمُشَاهَدَةِ الْآيَاتِ الَّتِي تُؤَثِّرُ فِي الْقُلُوبِ، وَتَسْتَكِينُ لَهَا النُّفُوسُ (فَلَوْلَا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ) أَيْ إِنَّكُمْ بِتَوَلِّيكُمُ اسْتَحْقَقْتُمُ الْعِقَابَ، وَلَكِنْ حَالَ دُونَ نُزُولِهِ بِكُمْ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ بِكُمْ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَخَسِرْتُمْ

ص: 283

سَعَادَةَ الدُّنْيَا، وَهِيَ التَّمَكُّنُ فِي الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ الَّتِي تَفِيضُ لَبَنًا وَعَسَلًا، ثُمَّ خَسِرْتُمْ سَعَادَةَ الْآخِرَةِ وَهِيَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا. فَمِنْ فَضْلِهِ وَإِحْسَانِهِ أَنْ وَفَّقَكُمْ لِلْعَمَلِ بِالْمِيثَاقِ بَعْدَ ذَلِكَ.

شَايَعَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ رَفْعَ الطُّورِ كَانَ آيَةً كَوْنِيَّةً، أَيْ أَنَّهُ انْتُزِعَ مِنَ الْأَرْضِ وَصَارَ مُعَلَّقًا فَوْقَهُمْ فِي الْهَوَاءِ، وَهَذَا هُوَ الْمُتَبَادِرُ مِنَ الْآيَةِ بِمَعُونَةِ السِّيَاقِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ أَلْفَاظُهَا نَصًّا فِيهِ، إِذِ الرَّفْعُ وَالِارْتِفَاعُ هُوَ جَعْلُ الشَّيْءِ - أَوْ أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ - رَفِيعًا عَالِيًا كَمَا قَالَ - تَعَالَى -:(فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ)(88: 13) وَقَالَ: (وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ)(56: 34) فَكُلٌّ مِنَ السُّرُرِ وَالْفُرُشِ تَكُونُ مَرْفُوعَةً وَهِيَ عَلَى الْأَرْضِ. وَقَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي آيَةِ الْأَعْرَافِ: (وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ)(7: 171) لَيْسَ نَصًّا أَيْضًا فِي كَوْنِ الْجَبَلِ رُفِعَ فِي الْهَوَاءِ. فَأَصْلُ النَّتْقِ فِي اللُّغَةِ: الزَّعْزَعَةُ وَالزَّلْزَلَةُ كَمَا سَبَقَ. قَالَ فِي حَقِيقَةِ

الْأَسَاسِ نَتَقَ الْبَعِيرُ الرَّحْلَ: زَعْزَعَهُ، وَنَتَقْتُ الزُّبْدَ: أَخْرَجْتُهُ بِالْمَخْضِ، وَنَتَقَ اللهُ الْجَبَلَ: رَفَعَهُ مُزَعْزَعًا فَوْقَهُمْ. اهـ.

وَالظُّلَّةُ: كُلُّ مَا أَظَلَّكَ سَوَاءٌ كَانَ فَوْقَ رَأْسِكَ أَوْ فِي جَانِبِكَ، وَهُوَ مُرْتَفِعٌ لَهُ ظِلٌّ، فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُمْ لَمَّا كَانُوا بِجَانِبِ الطُّورِ رَأَوْهُ مَنْتُوقًا، أَيْ مُرْتَفِعًا مُزَعْزَعًا، فَظَنُّوا أَنْ سَيَقَعُ بِهِمْ، وَيَنْقَضُّ عَلَيْهِمْ، وَيَجُوزُ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي أَثَرِ زِلْزَالٍ تَزَعْزَعَ لَهُ الْجَبَلُ، وَقَدْ سَبَقَ الْقَوْلُ بِبُطْلَانِ كَوْنِ ذَلِكَ إِرْهَابًا لِلْإِكْرَاهِ عَلَى قَبُولِ التَّوْرَاةِ، وَإِذَا صَحَّ هَذَا التَّأْوِيلُ، لَا يَكُونُ مُنْكِرُ ارْتِفَاعِ الْجَبَلِ فِي الْهَوَاءِ مُكَذِّبًا لِلْقُرْآنِ.

(وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ)

أَبَاحَ اللهُ - تَعَالَى - لِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْعَمَلَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ مِنَ الْأُسْبُوعِ، وَحَظَرَ عَلَيْهِمُ الْعَمَلَ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ وَهُوَ يَوْمُ السَّبْتِ، وَفَرَضَ عَلَيْهِمْ فِي هَذَا الْيَوْمِ الِاجْتِهَادَ فِي الْأَعْمَالِ الدِّينِيَّةِ إِحْيَاءً لِلشُّعُورِ الدِّينِيِّ فِي قُلُوبِهِمْ، وَإِضْعَافًا لِشَرَهِهِمْ فِي جَمْعِ الْحُطَامِ وَحُبِّهِمْ لِلدُّنْيَا، فَتَجَاوَزَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ حُدُودَ اللهِ فِي السَّبْتِ وَاعْتَدُوهَا، فَكَانَ جَزَاؤُهُمْ عَلَى ذَلِكَ جَزَاءَ مَنْ لَمْ يُرْضِ نَفْسَهُ بِآدَابِ الدِّينِ، وَجَزَاءُ مِثْلِهِ هُوَ الْخُرُوجُ مِنْ مُحِيطِ الْكَمَالِ الْإِنْسَانِيِّ، وَالرُّتُوعُ فِي مَرَاتِعِ الْبَهِيمِيَّةِ، كَالْقِرْدِ فِي نَزَوَاتِهِ، وَالْخِنْزِيرِ فِي شَهَوَاتِهِ، وَقَدْ سَجَّلَ اللهُ - تَعَالَى - عَلَيْهِمْ ذَلِكَ بِحُكْمِ سُنَّةِ الْفِطْرَةِ، وَالنَّوَامِيسِ الَّتِي أَقَامَ بِهَا نِظَامَ الْخَلِيقَةِ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ عز وجل:(وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ) أَيْ وَأُقْسِمُ أَنَّكُمْ لَقَدْ عَلِمْتُمْ نَبَأَ الَّذِينَ تَجَاوَزُوا حُدُودَ حُكْمِ الْكِتَابِ فِي تَرْكِ الْعَمَلِ الدُّنْيَوِيِّ يَوْمَ السَّبْتِ - وَسَيَأْتِي نَبَؤُهُمْ مُفَصَّلًا فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ - (فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ) رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ قَالَ: مَا مُسِخَتْ صُوَرُهُمْ وَلَكِنْ مُسِخَتْ قُلُوبُهُمْ، فَمُثِّلُوا بِالْقِرْدَةِ

ص: 284

كَمَا مُثِّلُوا بِالْحِمَارِ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا)(62: 5) وَمِثْلُ هَذَا قَوْلُهُ - تَعَالَى -: (وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ)(5: 60) وَالْخُسُوءُ: هُوَ

الطَّرْدُ وَالصَّغَارُ. وَالْأَمْرُ لِلتَّكْوِينِ، أَيْ فَكَانُوا بِحَسْبِ سُنَّةِ اللهِ فِي طَبْعِ الْإِنْسَانِ وَأَخْلَاقِهِ كَالْقِرْدَةِ الْمُسْتَذَلَّةِ الْمَطْرُودَةِ مِنْ حَضْرَةِ النَّاسِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ هَذَا الِاعْتِدَاءَ الصَّرِيحَ لِحُدُودِ هَذِهِ الْفَرِيضَةِ قَدْ جَرَّأَهُمْ عَلَى الْمَعَاصِي وَالْمُنْكَرَاتِ بِلَا خَجَلٍ وَلَا حَيَاءٍ حَتَّى صَارَ كِرَامُ النَّاسِ يَحْتَقِرُونَهُمْ وَلَا يَرَوْنَهُمْ أَهْلًا لِمُجَالَسَتِهِمْ وَمُعَامَلَتِهِمْ.

وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى أَنَّ تِلْكَ الْقَرْيَةَ (أَيْلَةُ) وَقِيلَ: (طَبَرِيَّةُ) أَوْ (مَدْيَنُ) وَقَالُوا: إِنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي زَمَنِ دَاوُدَ عليه السلام، وَالْقُرْآنُ لَمْ يُعَيِّنِ الْمَكَانَ وَلَا الزَّمَانَ، وَالْعِبْرَةُ الْمَقْصُودَةُ لَا تَتَوَقَّفُ عَلَى تَعْيِينِ هَذِهِ الْجُزْئِيَّاتِ، فَالْحُجَّةُ فِيمَا ذُكِرَ قَائِمَةٌ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ وَمُبَيِّنَةٌ أَنَّ مُجَاحَدَتَهُمْ وَمُعَانَدَتَهُمْ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَيْسَتْ بِدْعًا مَنْ أَمْرِهِمْ، ثُمَّ إِنَّهَا عِبْرَةٌ بَيِّنَةٌ لِكُلِّ مَنْ يَفْسُقُ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ فَيَتَّخِذُ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَيَعِيشُ عِيشَةً بَهِيمِيَّةً. وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ أَيْضًا إِلَى أَنَّ مَعْنَى (كُونُوا قِرَدَةً) أَنَّ صُوَرَهُمْ مُسِخَتْ فَكَانُوا قِرَدَةً حَقِيقِيِّينَ، وَالْآيَةُ لَيْسَتْ نَصًّا فِيهِ، وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا النَّقْلُ، وَلَوْ صَحَّ لَمَا كَانَ فِي الْآيَةِ عِبْرَةٌ وَلَا مَوْعِظَةٌ لِلْعُصَاةِ؛ لِأَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ بِالْمُشَاهَدَةِ أَنَّ اللهَ لَا يَمْسَخُ كُلَّ عَاصٍ فَيُخْرِجُهُ عَنْ نَوْعِ الْإِنْسَانِ، إِذْ لَيْسَ ذَلِكَ مِنْ سُنَنِهِ فِي خَلْقِهِ، وَإِنَّمَا الْعِبْرَةُ الْكُبْرَى فِي الْعِلْمِ بِأَنَّ مِنْ سُنَنِ اللهِ - تَعَالَى - فِي اللَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ أَنَّ مَنْ يَفْسُقْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ، وَيَتَنَكَّبِ الصِّرَاطَ الَّذِي شَرَعَهُ لَهُ، يَنْزِلْ عَنْ مَرْتَبَةِ الْإِنْسَانِ وَيَلْتَحِقْ بِعَجْمَاوَاتِ الْحَيَوَانِ. وَسُنَّةُ اللهِ - تَعَالَى - وَاحِدَةٌ، فَهُوَ يُعَامِلُ الْقُرُونَ الْحَاضِرَةَ بِمِثْلِ مَا عَامَلَ بِهِ الْقُرُونَ الْخَالِيَةَ، وَلِذَلِكَ قَالَ:(فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ) أَيْ جَعَلْنَا هَذِهِ الْعُقُوبَةَ نَكَالًا، وَهُوَ مَا يُفْعَلُ بِشَخْصٍ مِنْ إِيذَاءٍ وَإِهَانَةٍ لِيَعْتَبِرَ غَيْرُهُ؛ أَيْ عِبْرَةً يَنْكُلُ مَنْ يَعْلَمُ بِهَا أَيْ يَمْتَنِعُ عَنِ اعْتِدَاءِ الْحُدُودِ، وَمِنْ هَذِهِ الْمَادَّةِ (النِّكْلُ) لِلْقَيْدِ، أَوْ هُوَ أَصْلُهَا وَمِنْهَا النُّكُولُ عَنِ الْيَمِينِ فِي الشَّرْعِ وَهُوَ الِامْتِنَاعُ، وَمَا بَيْنَ يَدَيْهَا يُرَادُ بِهِ مَنْ وَقَعَتْ فِي زَمَنِهِمْ كَمَا يُرَادُ بِمَا خَلْفَهَا مَنْ بَعْدَهُمْ إِلَى مَا شَاءَ اللهُ - تَعَالَى.

وَأَمَّا كَوْنُهَا مَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ، فَهُوَ أَنَّ الْمُتَّقِيَ يَتَّعِظُ بِهَا فِي نَفْسِهِ بِالتَّبَاعُدِ عَنِ الْحُدُودِ الَّتِي يُخْشَى اعْتِدَاؤُهَا (تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا) (2: 187) وَيَعِظُ بِهَا غَيْرَهُ أَيْضًا، وَلَا يَتِمُّ كَوْنُ تِلْكَ الْعُقُوبَةِ نَكَالًا لِلْمُتَقَدِّمِينَ وَالْمُتَأَخِّرِينَ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ، إِلَّا إِذَا كَانَتْ جَارِيَةً عَلَى السُّنَّةِ الْمُطَّرِدَةِ فِي تَرْبِيَةِ الْأُمَمِ وَتَهْذِيبِ الطِّبَاعِ، وَذَلِكَ مَا هُوَ

مَعْرُوفٌ لِأَهْلِ الْبَصَائِرِ، وَمَشْهُورٌ عِنْدَ عَرْفَاءِ الْأَوَائِلِ وَالْأَوَاخِرِ (وَحَدِيثُ الْمَسْخِ وَالتَّحْوِيلِ، وَأَنَّ أُولَئِكَ قَدْ تَحَوَّلُوا مِنْ أُنَاسٍ إِلَى قِرَدَةٍ وَخَنَازِيرَ إِنَّمَا قُصِدَ بِهِ التَّهْوِيلُ وَالْإِغْرَابُ؛ فَاخْتِيَارُ مَا قَالَهُ مُجَاهِدٌ هُوَ الْأَوْفَقُ بِالْعِبْرَةِ وَالْأَجْدَرُ بِتَحْرِيكِ الْفِكْرَةِ) .

ص: 285

وَأَقُولُ: إِنَّهُ لَيْسَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم نَصَّ فِيهِ عَلَى كَوْنِ مَا ذُكِرَ مَسْخًا لِصُوَرِهِمْ وَأَجْسَادِهِمْ. وَقَدْ ذَكَرَ الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ قَوْلَ مُجَاهِدٍ فِي أَنَّ الْمَسْخَ مَعْنَوِيٌّ، وَقَوْلَ الْآخَرِينَ إِنَّهُ صُوَّرِيٌّ، ثُمَّ قَالَ: وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ مَعْنَوِيٌّ صُوَّرِيٌّ، فَمَا مُرَادُهُ بِذَلِكَ؟ .

(وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللهُ لَمُهْتَدُونَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ)

هَذِهِ الْقِصَّةُ مِمَّا أَرَادَ اللهُ - تَعَالَى - أَنْ يَقُصَّهُ عَلَيْنَا مِنْ أَخْبَارِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي قَسْوَتِهِمْ وَفُسُوقِهِمْ لِلْاعْتِبَارِ بِهَا. وَمِنْ وُجُوهِ الِاعْتِبَارِ: أَنَّ التَّنَطُّعَ فِي الدِّينِ وَالْإِحْفَاءَ فِي السُّؤَالِ، مِمَّا يَقْتَضِي التَّشْدِيدَ فِي الْأَحْكَامِ، فَمَنْ شَدَّدَ شُدِّدَ عَلَيْهِ؛ وَلِذَلِكَ نَهَى اللهُ - تَعَالَى - هَذِهِ الْأُمَّةَ عَنْ كَثْرَةِ السُّؤَالِ بِقَوْلِهِ: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ

أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللهُ عَنْهَا وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ) (5: 101، 102) وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ ((وَيَكْرَهُ لَكُمْ قِيلَ وَقَالَ، وَإِضَاعَةَ الْمَالِ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ)) وَقَدِ امْتَثَلَ سَلَفُنَا الْأَمْرَ فَلَمْ يُشَدِّدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ فَكَانَ الدِّينُ عِنْدَهُمْ فِطْرِيًّا سَاذَجًا وَحَنِيفِيًّا سَمْحًا، وَلَكِنْ مِمَّنْ خَلَفَهُمْ مَنْ عَمَدَ إِلَى مَا عَفَا اللهُ عَنْهُ فَاسْتَخْرَجَ لَهُ أَحْكَامًا اسْتَنْبَطَهَا بِاجْتِهَادِهِ، وَأَكْثَرُوا مِنْهَا حَتَّى صَارَ الدِّينُ حِمْلًا ثَقِيلًا عَلَى الْأُمَّةِ فَسَئِمَتْهُ وَمَلَّتْ، وَأَلْقَتْهُ وَتَخَلَّتْ.

ص: 286