الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
هَذِهِ الْأَحْيَاءَ بَعْدَ انْقِضَاءِ آجَالِهَا الَّتِي قَضَاهَا لَهَا فِي أَجَلٍ آخَرَ يَضْرِبُهُ لِهَذِهِ الْإِعَادَةِ بِحَسَبِ عِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ.
وَالْأَجَلُ فِي اللُّغَةِ هُوَ الْمُدَّةُ الْمَضْرُوبَةُ لِلشَّيْءِ، أَيِ الْمِقْدَارُ الْمَحْدُودُ مِنَ الزَّمَانِ، وَقَضَاءُ الْأَجَلِ يُطْلَقُ عَلَى الْحُكْمِ بِهِ وَضَرْبِهِ لِلشَّيْءِ وَعَلَى الْقِيَامِ بِالشَّيْءِ وَفِعْلِهِ، إِذْ أَصْلُ الْقَضَاءِ: فَصْلُ الْأَمْرِ قَوْلًا كَانَ ذَلِكَ أَوْ فِعْلًا كَمَا قَالَ الرَّاغِبُ مِثَالُ الْأَوَّلِ: أَنَّ شُعَيْبًا عليه السلام قَضَى أَجَلًا لِخِدْمَةِ مُوسَى لَهُ ثَمَانِيَ سِنِينَ وَأَجَلًا آخَرَ
اخْتِيَارِيًّا سَنَتَيْنِ، فَهَذَا قَضَاءٌ قَوْلِيٌّ، وَقَدْ قَضَى مُوسَى عليه السلام الْأَجَلَ الْمَضْرُوبَ كَمَا قَالَ تَعَالَى:(فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ)
(2
8: 29) الْآيَةَ وَذَلِكَ قَضَاءٌ فِعْلِيٌّ. وَالْقَضَاءُ قَدْ يَكُونُ نَفْسِيًّا، كَأَنْ يَضْرِبَ الْإِنْسَانُ فِي نَفْسِهِ أَجَلًا لِعَمَلٍ يَعْمَلُهُ بِأَنْ يَكُونَ فِي نَهَارٍ أَوْ سَاعَةٍ مِنْ نَهَارٍ، وَيُعَدُّ هَذَا مِنَ الْقَضَاءِ الْقَوْلِيِّ; لِأَنَّهُ مِنْ مُتَعَلِّقِ الْكَلَامِ النَّفْسِيِّ عَلَى أَنَّ الْكَلَامَ إِنَّمَا يَكُونُ عَلَى مُقْتَضَى الْعِلْمِ وَقَدْ يَقْضِيهِ وَيُفَصِّلُ فِيهِ كِتَابَةً، فَالْقَضَاءُ الْقَوْلِيُّ يَشْمَلُ الْكَلَامَ النَّفْسِيَّ وَمَا هُوَ مُظْهِرٌ لَهُ مِنْ لَفْظٍ أَوْ كِتَابٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ.
وَقَدْ أَخْبَرَنَا عز وجل أَنَّهُ قَضَى لِعِبَادِهِ أَجَلَيْنِ أَجَلًا لِمُدَّةِ حَيَاةِ كُلِّ فَرْدٍ مِنْهُمْ يَنْتَهِي بِمَوْتِ ذَلِكَ الْفَرْدِ وَأَجَلًا لِإِعَادَتِهِمْ وَبَعْثِهِمْ بَعْدَ مَوْتِ الْجَمِيعِ وَانْقِضَاءِ عُمُرِ الدُّنْيَا، وَقِيلَ: إِنَّ الْأَجَلَ الْآخَرَ هُوَ أَجْلُ حَيَاةِ مَجْمُوعِهِمُ الَّذِي يَنْقَضِي بِقِيَامِ السَّاعَةِ وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ، جَاءَ فِي تَفْسِيرِ الْحَافِظِ ابْنِ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِ الْأَجَلَيْنِ مَا نَصَّهُ: قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ " ثُمَّ قَضَى أَجَلًا " يَعْنِي الْمَوْتَ " وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ " يَعْنِي الْآخِرَةَ. (وَعَزَاهُ أَيْضًا إِلَى عَشَرَةٍ مِنَ التَّابِعِينَ) وَقَوْلُ الْحَسَنِ فِي رِوَايَةِ عَنْهُ: " ثُمَّ قَضَى أَجَلًا " وَهُوَ مَا بَيْنَ أَنْ يُخْلَقَ إِلَى أَنْ يَمُوتَ " وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ " وَهُوَ مَا بَيْنَ أَنْ يَمُوتَ إِلَى أَنْ يُبْعَثَ هُوَ يَرْجِعُ إِلَى مَا تَقَدَّمَ وَهُوَ تَقْدِيرُ الْأَجَلِ الْخَاصِّ وَهُوَ عُمُرُ كُلِّ إِنْسَانٍ. وَتَقْدِيرُ الْأَجَلِ الْعَامِّ وَهُوَ عُمُرُ الدُّنْيَا بِكَمَالِهَا ثُمَّ انْتِهَاؤُهَا وَقَضَاؤُهَا وَزَوَالُهَا وَالْمَصِيرُ إِلَى الدَّارِ الْآخِرَةِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ: " ثُمَّ قَضَى أَجَلًا " يَعْنِي مُدَّةَ الدُّنْيَا " وَأَجَلٌ مُسَمًّى " يَعْنِي عُمُرَ الْإِنْسَانِ إِلَى حِينِ مَوْتِهِ. وَكَأَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى بَعْدَ هَذَا: (وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ)(6: 60) الْآيَةَ وَقَالَ عَطِيَّةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: " ثُمَّ قَضَى أَجَلًا " يَعْنِي النَّوْمَ يَقْبِضُ اللهُ فِيهِ الرَّوْحَ ثُمَّ يُرْجِعُ أَيِ الرُّوحَ إِلَى صَاحِبِهِ عِنْدَ الْيَقَظَةِ " وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ " يَعْنِي أَجَلَ مَوْتِ الْإِنْسَانِ. وَهَذَا قَوْلٌ غَرِيبٌ. انْتَهَى مَا أَوْرَدَهُ ابْنُ كَثِيرٍ، وَهَذَا الْقَوْلُ الَّذِي اسْتَغْرَبَهُ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الزُّمَرِ:(اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى)(39: 42) وَلَكِنَّ الْأَجَلَ
الْمُسَمَّى هُنَا هُوَ الْمَوْتُ وَلَمْ يُسَمِّ التَّوَفِّي الْأَوَّلَ
وَهُوَ النَّوْمُ أَجَلًا، عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ اسْتَدَلَّ عَلَى الْبَعْثِ بِالنَّوْمِ وَالْيَقَظَةِ فِي آيَةِ الْأَنْعَامِ الْآتِيَةِ وَآيَةِ الزُّمَرِ وَغَيْرِهِمَا كَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ النَّمْلِ:(أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا)) (27: 86) .
هَذَا وَإِنَّ مَنْ تَتَبَّعَ ذِكْرَ الْأَجَلِ الْمُسَمَّى فِي الْقُرْآنِ فِي سِيَاقِ الْكَلَامِ عَنِ النَّاسِ يَرَاهُ قَدْ وَرَدَ فِي عُمُرِ الْإِنْسَانِ الَّذِي يَنْتَهِي بِالْمَوْتِ فَرَاجِعْ فِي ذَلِكَ سُورَةَ هُودٍ (11: 3) وَالنَّحْلِ (16: 61) وَطَهَ (20: 129) وَالْعَنْكَبُوتِ (29: 53) وَفَاطِرٍ (35: 45) وَالزَّمَرِ (39: 42) وَغَافِرٍ (40: 67) وَنُوحٍ (71: 4) وَقَدْ ذُكِرَ بَعْضُهَا آنِفًا فَإِذَا عُدَّ هَذَا مُرَجِّحًا يَتَّسِعُ مَجَالُ تَأْوِيلِ الْأَجَلِ الْأَوَّلِ فِي الْآيَةِ وَهُوَ الَّذِي لَمْ يُوصَفْ بِالْمُسَمَّى، فَيُحْتَمَلُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّهُ النَّوْمُ وَغَيْرُ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَقْوَالِ الَّتِي قَالَهَا مُفَسِّرُو الْخَلْفِ وَمِنْهَا مَا عَزَاهُ الرَّازِيُّ إِلَى حُكَمَاءِ الْإِسْلَامِ مِنْ " أَنَّ لِكُلِّ مُسْلِمٍ أَجَلَيْنِ أَحَدُهُمَا الْآجَالُ الطَّبِيعِيَّةُ وَالثَّانِي الْآجَالُ الِاخْتِرَامِيَّةُ. أَمَّا الْآجَالُ الطَّبِيعِيَّةُ فَهِيَ الَّتِي لَوْ بَقِيَ ذَلِكَ الْمِزَاجُ مَصُونًا مِنَ الْعَوَارِضِ الْخَارِجِيَّةِ لَانْتَهَتْ مُدَّةُ بَقَائِهِ إِلَى الْوَقْتِ الْفُلَانِيِّ، وَأَمَّا الْآجَالُ الِاخْتِرَامِيَّةُ فَهِيَ الَّتِي تَحْصُلُ بِسَبَبٍ مِنَ الْأَسْبَابِ الْعَارِضَةِ كَالْغَرَقِ وَالْحَرْقِ وَلَدْغِ الْحَشَرَاتِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْأُمُورِ الْمُعْضِلَةِ " انْتَهَى. وَمِنْهَا أَنَّهُ مَا انْقَضَى مِنْ عُمُرِ كُلِّ أَحَدٍ. وَمِنْهَا قَوْلُ أَبِي مُسْلِمٍ: إِنَّهُ مَا انْقَضَى مِنْ آجَالِ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ. وَالْمُسَمَّى عِنْدَهُ أَجْلُ مَنْ يَأْتِي مِنَ الْأُمَمِ لِأَنَّهُ لَا يَزَالُ غَيْبًا.
وَمَعْنَى " مُسَمًّى " عِنْدَهُ أَيْ لَا يَعْلَمُهُ، غَيْرُهُ كَذَا قَالُوا. وَهَذَا إِنَّمَا يَظْهَرُ إِذَا أُرِيدَ بِهَذَا الْأَجَلِ السَّاعَةُ أَيِ الْقِيَامَةُ; لِأَنَّهَا هِيَ الَّتِي لَمْ يُطْلِعْ عَلَيْهَا مَلَكًا مُقَرَّبًا وَلَا نَبِيًّا مُرْسَلًا. وَأَمَّا إِذَا أُرِيدَ بِهِ الْمَوْتُ فَالْأَظْهَرُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى كَوْنِهِ مُسَمًّى عِنْدَهُ أَنَّهُ مَكْتُوبٌ عِنْدَهُ فِي الْكِتَابِ الَّذِي كَتَبَ بِهِ مَقَادِيرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَفِيمَا يَكْتُبُهُ الْمَلَكُ عِنْدَمَا يَنْفُخُ الرُّوحَ فِي الْجَنِينِ، كَمَا ثَبَتَ فِي حَدِيثِ الصَّحِيحَيْنِ " وَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ: يَكْتُبُ رِزْقَهُ وَأَجَلَهُ وَعَمَلَهُ وَشِقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ " فَمَعْنَى الْعِنْدِيَّةِ إِذًا اخْتِصَاصُ ذَلِكَ بِالْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ الَّذِي لَا يَصِلُ إِلَيْهِ كَسْبُنَا، فَهِيَ عِنْدِيَّةُ تَشْرِيفٍ وَخُصُوصِيَّةٍ وَهَذِهِ الْكِتَابَةُ كَالْعِلْمِ الْإِلَهِيِّ بِالشَّيْءِ لَا تَقْتَضِي الْجَبْرَ وَلَا سَلْبَ اخْتِيَارِ الْعَبْدِ، كَمَا بَيَّنَاهُ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ) هُوَ كَقَوْلِهِ قَبْلَهُ: (ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) فِي دَلَالَتِهِ عَلَى اسْتِبْعَادِ الِامْتِرَاءِ وَهُوَ الشَّكُّ فِي الْبَعْثِ مِنَ الْإِلَهِ الْقَدِيرِ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَقَدَّرَ آجَالَكُمْ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى قُدْرَتِهِ وَحِكْمَتِهِ دَلَالَةً لَا تُبْقِي لِاسْتِبْعَادِ الْبَعْثِ
وَجْهًا، فَإِذَا كَانَ سَبَبُ الِاسْتِبْعَادِ عَدَمَ رُؤْيَةِ مِثَالٍ لِهَذَا الْبَعْثِ وَهُوَ الْوَاقِعُ فَمَثَلُهُ أَنَّكُمْ لَا تَرَوْنَ مَثَلًا لِخَلْقِ أَصْلِكُمْ وَجَدِّكُمُ الْأَوَّلِ مِنْ تُرَابٍ، وَلَا لِخَلْقِ غَيْرِكُمْ مِنْ أَنْوَاعِ الْحَيَوَانِ; فَإِنَّ التَّوَلُّدَ الذَّاتِيَّ لَا يَقَعُ فِي هَذِهِ الْأَزْمَانِ، خِلَافًا لِمَا كَانَ يَتَوَهَّمُهُ عُلَمَاءُ الْقُرُونِ الْمَاضِيَةِ فِي تَوَلُّدِ دُودِ الْفَاكِهَةِ وَالْجُبْنِ وَالْفِيرَانِ.