المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

الرُّتَبِ قَدِ اسْتَفَادَ وُجُودَهُ وَصِفَاتِهِ مِنَ الْخَالِقِ الْحَكِيمِ، وَكَانَ اللُّطْفُ - تفسير المنار - جـ ٧

[محمد رشيد رضا]

الفصل: الرُّتَبِ قَدِ اسْتَفَادَ وُجُودَهُ وَصِفَاتِهِ مِنَ الْخَالِقِ الْحَكِيمِ، وَكَانَ اللُّطْفُ

الرُّتَبِ قَدِ اسْتَفَادَ وُجُودَهُ وَصِفَاتِهِ مِنَ الْخَالِقِ الْحَكِيمِ، وَكَانَ اللُّطْفُ مِنْ تِلْكَ الصِّفَاتِ الَّتِي أَشَرْنَا إِلَى تَفَاوُتِهَا الْعَظِيمِ، فَلَا بُدَ أَنْ يَكُونَ لُطْفُهُ تَعَالَى أَدَقَّ وَأَخْفَى مِنْ لُطْفِهَا، وَإِذَا كَانَ لُطْفُ بَعْضِهَا لَا يَسْتَلْزِمُ الْجِسْمِيَّةَ اللُّغَوِيَّةَ وَلَا الْعُرْفِيَّةَ فَلُطْفُهُ عز وجل أَجْدَرُ بِذَلِكَ وَأَحَقُّ، فَعُلَمَاؤُنَا كَافَّةً وَالرُّوحِيُّونَ مِنْ عُلَمَاءِ الْإِفْرِنْجِ وَغَيْرِهِمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ - كَمَا يَقُولُ الصُّوفِيَّةُ - بِتَجَلِّي أَرْوَاحِ الْمَوْتَى فِي صُوَرٍ مُتَفَاوِتَةٍ فِي اللُّطْفِ، وَبِتَجَرُّدِ بَعْضِ أَرْوَاحِ الْأَحْيَاءِ وَظُهُورِهَا فِي أَشْبَاحٍ لَطِيفَةٍ أُخْرَى، وَالرُّوحِيُّونَ الْمُنْكِرُونَ مِنْهُمْ لِذَلِكَ - كُلُّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الرُّوحَ لَمْ يُعْرَفْ كُنْهُهَا، وَأَنَّهَا أَلْطَفُ وَأَخْفَى مِنَ الْأَثِيرِ وَمِنَ الْبَسَائِطِ الْمَادِّيَّةِ بِأَسْرِهَا، وَهَى مَعَ ذَلِكَ عَاقِلَةٌ مُتَصَرِّفَةٌ، وَالْمَادِّيُّونَ يَقُولُونَ: إِنَّ مَادَّةَ الْكَوْنِ الْأُولَى الَّتِي ظَهَرَتْ فِيهَا صُوَرُ جَمِيعِ الْعَنَاصِرِ وَمُرَكَّبَاتِهَا لَا يُعْرَفُ لَهَا كُنْهٌ، وَلَا يُدْرِكُهَا طَرْفٌ، وَلَا يُوضَعُ لَهَا حَدٌّ، وَإِنَّهَا فِي مُنْتَهَى اللُّطْفِ وَهَى أَزَلِيَّةٌ أَبَدِيَّةٌ فَجَمِيعُ الْعُلَمَاءِ مِنْ رُوحِيِّينَ وَمَادِّيِّينَ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ لُطْفَ ذَاتِ الشَّيْءِ لَا يَسْتَلْزِمُ التَّرْكِيبَ وَلَا الْحَدَّ وَلَا التَّحَيُّزَ، فَلُطْفُ ذَاتِ الْخَالِقِ أَوْلَى بِتَنَزُّهِهِ عَنْ ذَلِكَ. وَإِنَّمَا فَرَّ الْمُتَكَلِّمُونَ مِنْ هَذِهِ اللَّوَازِمِ حَتَّى لَجَأَ بَعْضُهُمْ إِلَى التَّعْطِيلِ وَبَعْضُهُمْ إِلَى التَّأْوِيلِ لِأَكْثَرِ

مَا وَصَفَ اللهُ تَعَالَى بِهِ نَفْسَهُ فِي كُتُبِهِ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا مِنْ قِيَاسِ الْغَائِبِ عَلَى الْحَاضِرِ وَالْوَاجِبِ عَلَى الْجَائِزِ، وَاللهُ تَعَالَى فَوْقَ ذَلِكَ. وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ، السَّمِيعُ الْبَصِيرُ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ، وَهُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ.

(قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ‌

‌ 104

وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ 105 اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ 106 وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ) 107.

الْآيَاتُ السَّابِقَةُ كُلُّهَا فِي الْإِلَهِيَّاتِ مِنْ عَقَائِدِ الدِّينِ، وَهَذِهِ الْآيَاتُ فِي التَّنْبِيهِ لِمَكَانَتِهَا مِنَ الْهِدَايَةِ، وَفِي الْمُبَلِّغِ لَهَا عَنِ اللهِ تَعَالَى وَمَا يَقُولُ الْمُشْرِكُونَ فِيهِ، وَإِعْلَامِهِ بِسُنَّةِ اللهِ فِيهِمْ مِنْ حَيْثُ هُمْ بَشَرٌ، وَمَا يَجِبُ عَلَيْهِ وَمَا يُنْفَى عَنْهُ فِي هَذَا الْمَقَامِ. قَالَ تَعَالَى:

ص: 547

(قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمِ) الْبَصَائِرُ: جَمْعُ بَصِيرَةٍ وَلَهَا مَعَانٍ مِنْهَا عَقِيدَةُ الْقَلْبِ وَالْمَعْرِفَةُ الثَّابِتَةُ بِالْيَقِينِ، أَوِ الْيَقِينُ فِي الْعِلْمِ بِالشَّيْءِ وَالْعِبْرَةُ وَالشَّاهِدُ، أَوِ الشَّهِيدُ الْمُثْبِتُ لِلْأَمْرِ، وَالْحُجَّةُ أَوِ الْفَطِنَةُ، أَوِ الْقُوَّةُ الَّتِي تُدْرَكُ بِهَا الْحَقَائِقُ الْعِلْمِيَّةُ. وَهَذَا يُقَابِلُ الْبَصَرَ الَّذِي تُدْرَكُ بِهِ الْأَشْيَاءُ الْحِسِّيَّةُ، وَمِنْهُ قَوْلُ مُعَاوِيَةَ لِبَعْضِ بَنِي هَاشِمٍ: إِنَّكُمْ يَا بَنِي هَاشِمٍ تُصَابُونَ فِي أَبْصَارِكُمْ. وَقَوْلُ الْهَاشِمِيِّ لَهُ: وَأَنْتُمْ يَا بَنِي أُمَيَّةَ تُصَابُونَ فِي بَصَائِرِكُمْ. أَيْ قُلُوبِكُمْ وَعُقُولِكُمْ. وَالْمُرَادُ بِالْبَصَائِرِ هُنَا: الْآيَاتُ الْوَارِدَةُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ أَوْ فِي هَذَا السِّيَاقِ الَّذِي أَوَّلَهُ (إِنَّ اللهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى) أَوْ هِيَ وَمَا فِي مَعْنَاهَا مِنَ الْآيَاتِ الْمُثْبِتَةِ لِحَقَائِقِ الدِّينِ أَوِ الْقُرْآنِ بِجُمْلَتِهِ، وَرُبَّمَا يَرْجِعُ هَذَا بِتَذْكِيرِ الْفِعْلِ " جَاءَكُمْ " إِذْ لَا بُدَ لَهُ مِنْ نُكْتَةٍ فِي الْكَلَامِ الْبَلِيغِ لِأَنَّهُ خِلَافُ الْأَصْلِ وَإِنْ كَانَ جَائِزًا، وَأَقْوَى النُّكَتِ وُقُوعُ اللَّفْظِ الْمُؤَنَّثِ عَلَى مَعْنَى مُذَكَّرٍ، وَالْخِطَابُ وَارِدٌ عَلَى لِسَانِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم كَمَا قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ

وَغَيْرُهُ، فَالْمَعْنَى قَدْ جَاءَكُمْ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ الْجَلِيَّةِ بَصَائِرُ مِنَ الْحُجَجِ الْعَقْلِيَّةِ وَالْكَوْنِيَّةِ، تُثْبِتُ لَكُمْ عَقَائِدَ الْحَقِّ الْيَقِينِيَّةِ الَّتِي يَتَوَقَّفُ عَلَيْهَا نَيْلُ السَّعَادَةِ الْأَبَدِيَّةِ، جَاءَكُمْ ذَلِكَ مِنْ رَبِّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَسَوَّاكُمْ، وَرَبَّى أَجْسَادَكُمْ وَمَشَاعِرَكُمْ وَسَائِرَ قُوَاكُمْ، لِيُرَبِّيَ بِهَا أَرْوَاحَكُمْ، بِأَحْسَنِ مِمَّا رَبَّى بِهِ أَشْبَاحَكُمْ (فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ) أَيْ فَمَنْ أَبْصَرَ بِهَا الْحَقَّ وَالْهُدَى، فَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى، فَلِنَفْسِهِ أَبْصَرَ وَلِسَعَادَتِهَا مَا قَدَّمَ مِنَ الْخَيْرِ وَأَخَّرَ (وَمِنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا) أَيْ وَمِنْ عَمِيَ عَنِ الْحَقِّ بِإِعْرَاضِهِ عَنْهَا وَعَدَمِ النَّظَرِ وَالِاسْتِبْصَارِ بِهَا، فَأَصَرَّ عَلَى ضَلَالِهِ، ثَبَاتًا عَلَى عِنَادِهِ أَوْ تَقْلِيدِ آبَائِهِ وَأَجْدَادِهِ، فَعَلَيْهَا جَنَى وَإِيَّاهَا أَرْدَى، وَلَعَمَى الْبَصَائِرِ شَرٌّ مِنْ عَمَى الْأَبْصَارِ. وَأَسْوَأُ عَاقِبَةً فِي هَذِهِ الدَّارِ وَفِي تِلْكَ الدَّارِ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى:(مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا)، وَقَوْلِهِ:(لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ) 2: 286 وَقَوْلِهِ (إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا) 17: 7 وَقَوْلُهُ هُنَا: " فَلَهَا " بِمَعْنَى فَعَلَيْهَا وَنُكْتَتُهُ الْمُشَاكَلَةُ أَوِ الِازْدِوَاجُ وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ (وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ) يُرَاقِبُ أَعْمَالَكُمْ وَيُحْصِيهَا لِيُجَازِيَكُمْ عَلَيْهَا، وَإِنَّمَا أَنَا بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللهُ هُوَ الرَّقِيبُ الْحَفِيظُ، فَهُوَ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَيَجْزِيكُمْ عَلَيْهِ بِمَا تَسْتَحِقُّونَ، فَعَلَيْهِ وَحْدُهُ الْحِسَابُ، وَمَا عَلَيَّ إِلَّا الْبَلَاغُ.

(وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ) أَيْ وَمِثْلَ ذَلِكَ التَّصْرِيفِ وَالتَّفَنُّنِ الْعَلِيِّ الشَّأْنِ الْبَعِيدِ الشَّأْوِ فِي فُنُونِ الْمَعَانِي وَأَفْنَانِ الْبَيَانِ - الَّذِي تَرَاهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ أَوْ هَذَا السِّيَاقِ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ فِي سَائِرِ الْقُرْآنِ، لِإِثْبَاتِ أُصُولِ الْأَدْيَانِ، وَالْهِدَايَةِ لِأَحَاسِنَ الْآدَابِ وَالْأَعْمَالِ، فَنُحَوِّلُهَا مِنْ نَوْعٍ إِلَى نَوْعٍ وَمَنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ، مُرَاعَاةً لِلْعُقُولِ وَالْأَفْهَامِ، وَلِاخْتِلَافِ اسْتِعْدَادِ الْأَفْرَادِ وَالْأَقْوَامِ (وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ) الْمَعْنَى الْعَامُّ لِلدَّرْسِ تَكْرَارُ الْمُعَالَجَةِ وَتَتَابُعُ الْفِعْلِ عَلَى الشَّيْءِ حَتَّى يَذْهَبَ بِهِ

ص: 548

أَوْ يَصِلَ إِلَى الْغَايَةِ مِنْهُ، يُقَالُ: دَرَسَ الشَّيْءُ كَرَسْمِ الدَّارِ وَآثَارِهَا يَدْرُسُ (مِنْ بَابِ قَعَدَ) إِذَا عَفَا وَزَالَ بِفِعْلِ الرِّيحِ أَوْ تَتَابَعَ الْمَشْيُ عَلَيْهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَسْبَابِ فَهُوَ دَارِسٌ، وَدَرَسَتْهُ الرِّيحُ أَوْ غَيْرُهَا، وَدَرَسَ اللَّابِسُ الثَّوْبَ دَرْسًا أَخْلَقَهُ وَأَبْلَاهُ فَهُوَ دَرِيسٌ، وَدَرَسُوا الطَّعَامَ أَيِ الْقَمْحَ دَاسُوهُ لِيَتَكَسَّرَ فَيُفَرَّقَ بَيْنَ حَبِّهِ وَتِبْنِهِ، وَدَرَسَ النَّاقَةَ دَرْسًا رَاضَهَا، وَدَرَسَ الْكِتَابَ وَالْعِلْمَ يَدْرُسُهُ دَرْسًا وَدِرَاسَةً

وَدَارَسَهُ مُدَارَسَةً - مِنْ ذَلِكَ. قَالَ فِي اللِّسَانِ عَقِبَ نَقْلِهِ كَأَنَّهُ عَانَدَهُ حَتَّى انْقَادَ لِحِفْظِهِ، ثُمَّ قَالَ: وَدَرَسْتُ الْكِتَابَ أَدْرُسُهُ أَيْ ذَلَّلْتُهُ بِكَثْرَةِ الْقِرَاءَةِ حَتَّى خَفَّ حِفْظُهُ عَلَيَّ مِنْ ذَلِكَ، وَالدُّرْسَةُ بِالضَّمِّ الرِّيَاضَةُ فَفِي كُلِّ مَا ذُكِرَ مَعْنَى تَكْرَارِ الْعَمَلِ وَمُتَابَعَتِهِ حَتَّى بُلُوغِ الْغَايَةِ مِنْهُ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ (دَرَسْتَ) فِعْلًا مَاضِيًا لِلْمُخَاطَبِ، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو (دَارَسْتَ) لِلْمُشَارَكَةِ وَهِيَ مَرْوِيَّةٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ، وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَيَعْقُوبُ (دَرَسَتْ) بِفَتْحِ السِّينِ وَسُكُونِ التَّاءِ وَهَى مَرْوِيَّةٌ عَنْ أُبَيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ الزُّبَيْرِ وَالْحَسَنِ. وَالتَّعْلِيلُ فِي قَوْلِهِ:(دَرَسْتَ) خَاصٌّ مَعْطُوفٌ عَلَى تَعْلِيلٍ عَامٍّ يُعْرَفُ مِنَ الْقَرِينَةِ.

وَالْمَعْنَى وَكَذَلِكَ نَصَرِّفُ الْآيَاتِ عَلَى أَنْوَاعٍ شَتَّى لِيَهْتَدِيَ بِهَا الْمُسْتَعِدُّونَ لِلْإِيمَانِ عَلَى اخْتِلَافِ الْعُقُولِ وَالْأَفْهَامِ، وَلِيَقُولَ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ - الْجَاحِدُونَ الْمُعَانِدُونَ مِنْهُمْ وَالْمُقَلِّدُونَ - قَدْ دَرَسْتَ مِنْ قَبْلُ يَا مُحَمَّدُ وَتَعَلَّمْتَ، وَلَيْسَ هَذَا بِوَحَيٍ مُنَزَّلٍ كَمَا زَعَمْتَ وَقَدْ قَالُوا مِثْلَ هَذَا إِفْكًا وَزُورًا وَزَعَمُوا أَنَّهُ تَعَلَّمَ مِنْ غُلَامٍ رُومِيٍّ كَانَ يَصْنَعُ السُّيُوفَ فِي مَكَّةَ قِيلَ إِنَّهُ كَانَ يَخْتَلِفُ إِلَيْهِ كَثِيرًا. وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ النَّحْلِ:(وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ) 16: 103 أَوْ لِيَقُولُوا: دَارَسْتَ الْعُلَمَاءَ وَذَاكَرْتَهُمْ وَجِئْتَنَا بِمَا تَلَقَّيْتَهُ عَنْهُمْ، أَوْ دَرَسَتْ هَذِهِ الْعَقَائِدُ وَمُحِيَتْ بِمَعْنَى أَنَّهَا أَسَاطِيرُ قَدِيمَةٌ قَدْ رَثَتْ وَخَلَقَتْ، وَهَاتَانِ الْقِرَاءَتَانِ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا 25: 4، 5 وَأَظْهَرُ مِنْهُ فِي تَأْيِيدِ الْقِرَاءَةِ الْأَخِيرَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ قَوْمِ هُودٍ فِي الشُّعَرَاءِ:(قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) 26: 136 - 138 وَحِكْمَةُ الْقِرَاءَاتِ الثَّلَاثِ حِكَايَةُ أَقْوَالِ ثَلَاثِ فِئَاتٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَهُوَ مِنْ إِيجَازِ الْقُرْآنِ الْعَجِيبِ فِي الْكَلِمِ وَالرَّسْمِ.

قِيلَ: إِنَّ اللَّامَ فِي قَوْلِهِ " وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ " لِلْعَاقِبَةِ وَالصَّيْرُورَةِ، أَيْ لِيَكُونَ عَاقِبَةُ تَصْرِيفِ الْآيَاتِ أَنَّ يَقُولَ الرَّاسِخُونَ فِي الشِّرْكِ مِثْلَ هَذَا الْقَوْلِ مُكَابَرَةً وَعِنَادًا وَجُحُودًا وَإِلْحَادًا. وَقِيلَ: إِنَّ هَذَا تَعْلِيلٌ صَحِيحٌ يُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: (يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا) 2: 26 وَنَقُولُ: لَيْسَ مَعْنَى يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا أَنَّ الْإِضْلَالَ مِنَ الْمَقَاصِدِ الَّتِي

أُنْزِلَ

ص: 549

لِأَجْلِهَا أَوِ الَّتِي مِنْ شَأْنِ الْقُرْآنِ نَفْسِهِ أَنْ يَكُونَ عِلَّةً وَسَبَبًا لَهَا، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ أَنَّهُ يَتَرَتَّبُ عَلَى وُجُودِهِ إِعْرَاضُ فَاسِدِي الْفِطْرَةِ عَنْهُ وَضَلَالُهُمْ بِسَبَبِ الْكُفْرِ بِهِ، فَهُوَ بِمَعْنَى الْعَاقِبَةِ الَّتِي تَتَرَتَّبُ عَلَى إِنْزَالِهِ كَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى جَمِيعِ الْمَنَافِعِ الَّتِي خَلَقَهَا اللهُ لِلنَّاسِ فِي الْأَنْفُسِ وَالْآفَاقِ مَضَارٌّ كَثِيرَةٌ مِنْ سُوءِ الِاسْتِعْمَالِ.

(وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) أَيْ وَلِنُبَيِّنَ هَذَا الْقُرْآنَ الْمُشْتَمِلَ عَلَى مَا ذُكِرَ مِنْ تَصْرِيفِ الْآيَاتِ الَّذِي يَقُولُ فِيهِ بَعْضُ الْمُكَابِرِينَ إِنَّهُ أَثَرُ دَرْسٍ وَاجْتِهَادٍ، أَوْ لِنُبَيِّنَ التَّصْرِيفَ الْمَفْهُومَ مِنْ " نُصَرِّفُ " لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ بِالْفِعْلِ وَبِالِاسْتِعْدَادِ، الَّذِي لَا يُعَارِضُهُ تَقْلِيدٌ وَلَا عِنَادٌ، مَا تَدُلُّ عَلَيْهِ الْآيَاتُ مِنَ الْحَقَائِقِ، وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الِاهْتِدَاءِ بِهَا مِنَ السَّعَادَةِ فَعُلِمَ مِنْ عَطْفِ هَذَا عَلَى مَا قَبْلَهُ أَنَّ الَّذِينَ يَقُولُونَ لِلرَّسُولِ إِنَّكَ دَرَسْتَ أَوْ دَارَسْتَ حَتَّى جِئْتَ بِهَذِهِ الْآيَاتِ الْمُنَزَّلَةِ إِذْ كَانَتْ أَثَرَ الدَّرْسِ أَوِ الْمُدَارَسَةِ هُمُ الْجَاهِلُونَ الَّذِينَ لَمْ يَفْهَمُوا تِلْكَ الْآيَاتِ الَّتِي صَرَفَهَا اللهُ عَلَى أَنْوَاعٍ أَوْ أَشْتَاتٍ، أَوْ لَمَ يَفْهَمُوا سِرَّهَا وَمَا يَجِبُ مِنْ إِيثَارِهَا عَلَى مَنَافِعَ الدُّنْيَا بِأَسْرِهَا. وَأَمَّا الَّذِينَ يَعْلَمُونَ مَدْلُولَاتِهَا وَحَسُنَ عَاقِبَةِ الِاهْتِدَاءِ بِهَا، فَهُمُ الَّذِينَ يَتَبَيَّنُ لَهُمْ بِتَأَمُّلِهَا حَقِيقَةَ الْقُرْآنِ أَوْ مَا فِي التَّصْرِيفِ لَهَا مِنْ أَنْوَاعِ الْبَيَانِ، الْمُؤَيَّدِ بِالْحُجَّةِ وَالْبُرْهَانِ.

وَلِلْمُفَسِّرِينَ فِي الْآيَةِ أَقْوَالٌ أُخْرَى مَنْقُوصَةٌ مِنْهَا قَوْلُ بَعْضِهِمْ: إِنَّ الْمُرَادَ بِدَارَسْتَ قَارَأْتَ الْيَهُودَ فَحَفِظْتَ عَنْهُمْ بَعْضَ مَعَانِي هَذِهِ الْآيَاتِ، وَيَنْهَضُ هَذَا بِمَا هُوَ مَعْلُومٌ عَلَى سَبِيلِ الْقَطْعِ مِنْ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ فِي أَوَائِلِ الْبَعْثَةِ بِمَكَّةَ، وَلَمْ يَكُنِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَقِيَ أَحَدًا مِنَ الْيَهُودِ إِذْ لَمْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِهَا، وَلَوْ تَلَقَّى عَنْهُمْ كُتُبَهُمْ بِالْمُدَارَسَةِ لَمَا سَكَتُوا عَنْ بَيَانِ ذَلِكَ لِمُشْرِكِي مَكَّةَ حِينَ أَرْسَلُوا إِلَيْهِمْ يَسْأَلُونَهُمْ عَنْهُ وَلِغَيْرِهِمْ مِنْ قَوْمِهِمْ وَمِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَلِأَنَّ مَا جَاءَ بِهِ صلى الله عليه وسلم مُهَيْمِنٌ عَلَى كُتُبِهِمْ (5: 48) قَدْ بَيَّنَ أَنَّ مَا عِنْدَهُمْ مُحَرَّفٌ وَفِيهِ زِيَادَةٌ عَمَّا جَاءَ بِهِ أَنْبِيَاؤُهُمْ، وَنَقْصٌّ بِمَا نَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ كَمَا بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ أَوَّلِ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ وَتَفْسِيرِ النِّسَاءِ (4: 46) وَالْمَائِدَةِ (5: 14) : فَلْيُرَاجَعْ فِي الْجُزْئَيْنِ 5، 6 مِنَ التَّفْسِيرِ - كَمَا أَنَّهُ بَيَّنَ لَهُمْ كَثِيرًا مِمَّا كَانُوا يُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ (5: 15) وَهُوَ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى أَتَمُّ وَأَكْمَلُ لِأَنَّهُ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ الَّذِي أَكْمَلَ اللهُ عَلَى لِسَانِهِ الدِّينَ.

(وَمِنْهَا) قَوْلُ آخَرِينَ: إِنَّ " لِيَقُولُوا دَارَسْتَ " عَلَى النَّفْيِ، أَيْ لِئَلَّا يَقُولُوا

ذَلِكَ قَالَهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَنَقَلَهُ الرَّازِيُّ عَنِ الْقَاضِي مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ وَرَدَّهُ أَشَدَّ الرَّدِّ وَلَهُ الْحَقُّ، وَلَكِنَّهُ غَيْرُ مُصِيبٍ فِي جَعْلِ الْعِبَارَةِ مِمَّا يُحْتَجُّ بِهِ عَلَى الْجَبْرِ أَوِ الْقَدَرِ.

(وَمِنْهَا) قَوْلُ الرَّازِيِّ: إِنَّ الْكُفَّارَ كَانُوا يَقُولُونَ فِي نُزُولِ الْقُرْآنِ نُجُومًا: إِنَّ مُحَمَّدًا يَضُمُّ هَذِهِ الْآيَاتِ بَعْضَهَا إِلَى بَعْضٍ وَيَتَفَكَّرُ فِيهَا وَيُصْلِحُهَا آيَةً فَآيَةً ثُمَّ يُظْهِرُهَا، وَلَوْ كَانَتْ وَحْيًا لَجَاءَ بِهَا دُفْعَةً وَاحِدَةً كَمَا جَاءَ مُوسَى بِالتَّوْرَاةِ دُفْعَةً وَاحِدَةً، وَمِنْ ثَمَّ كَانَ تَصْرِيفُ

ص: 550

الْآيَاتِ حَالًا فَحَالًا هُوَ الَّذِي أَوْقَعَ الشُّبْهَةَ لِلْقَوْمِ فِي أَنَّ الْقُرْآنَ نَتِيجَةُ مُدَارَسَةٍ وَمُذَاكَرَةٍ مَعَ آخَرِينَ. وَنَقُولُ: إِنَّ هَذَا الْكَلَامَ رَأْيٌ جَدَلِيٌّ مُلَفَّقٌ لَا يَصِحُّ بِهِ فِي جُمْلَتِهِ نَقْلٌ، فَالْعَرَبُ لَمْ تَكُنْ تَعْتَقِدُ أَنَّ مُوسَى جَاءَ بِالتَّوْرَاةِ جُمْلَةً وَاحِدَةً مِنْ عِنْدِ اللهِ وَلَا أَهْلُ الْكِتَابِ وَإِنَّمَا تِلْكَ الْوَصَايَا الْعَشْرُ فَقَطْ، وَسَائِرُ أَحْكَامِ التَّوْرَاةِ نَزَلَتْ مُتَفَرِّقَةً بِحَسَبِ الْوَقَائِعِ فِي أَمْكِنَةٍ مُخْتَلِفَةٍ كَالْقُرْآنِ.

وَتِلْكَ الْوَصَايَا لَا تَبْلُغُ عُشْرَ هَذِهِ السُّورَةِ (الْأَنْعَامِ) الَّتِي نَزَلَتْ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي أَوَّلِ تَفْسِيرِهَا، بَلْ لَا تَزِيدُ عَلَى نِصْفِ الْعُشْرِ إِلَّا قَلِيلًا وَلَعَلَّ كَثْرَةَ مَا فِيهَا مِنَ الْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ عَلَى أُصُولِ الدِّينِ هُوَ الَّذِي حَمَلَ بَعْضَ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ مَعْنَى (وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ) وَلِئَلَّا يَقُولُوا دَرَسْتَ، فَإِنَّ الْمَجِيءَ بِهَذِهِ الْآيَاتِ الْكَثِيرَةِ الْمُنْتَظِمَةِ لِلْحُجَجِ وَالْبَرَاهِينِ الْمُخْتَلِفَةِ دُفْعَةً وَاحِدَةً مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَمْنَعَ الْمُنْصِفَ مِنْ دَعْوَى اقْتِبَاسِ الْقُرْآنِ بِالْمُدَارَسَةِ مَعَ آخَرِينَ، وَأَيْنَ هَؤَلَاءِ الْمُدَارِسُونَ؟ وَلِمَ لَمْ يَظْهَرْ مِنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَلَا مِنَ الرَّسُولِ نَفْسِهِ فِي مُدَّةِ أَرْبَعِينَ سَنَةً شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْمَعَارِفِ الْعَالِيَةِ، وَالْبَلَاغَةِ الْمُعْجِزَةِ؟ كَلَّا إِنَّمَا قَالُوا ذَلِكَ جُحُودًا وَمُكَابَرَةً، وَرُبَّمَا نَطَقَ بِهِ بَعْضُهُمْ بَادِيَ الرَّأْيِ مِنْ غَيْرِ تَفَكُّرٍ فِي مُخَالَفَتِهِ لِمَا هُوَ مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ عِنْدَهُمْ مِنْ كَوْنِهِ أُمِّيًّا وَكَوْنِهِ احْتَجَّ عَلَى جُمْهُورِهِمْ فِي ذَلِكَ بِمِثْلِ قَوْلِهِ تَعَالَى فِيهِ:(قُلْ لَوْ شَاءَ اللهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ) 10: 16 وَقَوْلِهِ (وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ) 29: 48 وَهَذِهِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَرْتَابُوا وَإِنَّمَا هِيَ الْمُكَابَرَةُ.

(اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) بَعْدَ أَنْ بَيَّنَ تَعَالَى لِرَسُولِهِ أَنَّ النَّاسَ فَرِيقَانِ، فَرِيقٌ قَدْ فَسَدَتْ فِطْرَتُهُمْ وَلَمْ يَبْقَ فِيهِ اسْتِعْدَادٌ لِلِاهْتِدَاءِ بِتِلْكَ الْبَصَائِرِ الْمُنَزَّلَةِ وَلَا الْعِلْمِ بِمَا فِيهَا مِنْ تَصْرِيفِ الْآيَاتِ الْبَيِّنَةِ، فَحَظُّهُمْ مِنْهَا مُكَابَرَتُهَا وَجُحُودُ تَنْزِيلِهَا وَفَرِيقٌ يَعْلَمُونَ، وَبِالْبَيَانِ يَهْتَدُونَ - أَمَرَهُ

أَنْ يَتَّبِعَ مَا أُوحِيَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ، بِالْبَيَانِ لَهُ وَالْعَمَلِ بِهِ، مُشِيرًا بِإِضَافَةِ اسْمِ الرَّبِّ إِلَى ضَمِيرِهِ، وَنَاصِبًا إِيَّاهُ إِمَامًا لِجَمِيعِ أَبْنَاءِ جِنْسِهِ، يَتَرَبَّى بِهِ مِنْ وُفِّقَ مِنْهُمْ لِاتِّبَاعِهِ، وَذَلِكَ أَنَّ الِاقْتِدَاءَ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِمَنْ يَعْمَلُ بِمَا يَعْلَمُ وَيَأْتَمِرُ بِمَا أُمِرَ، وَقَرَنَ هَذَا الْأَمْرَ بِكَلِمَةِ تَوْحِيدِ الْأُلُوهِيَّةِ، لِبَيَانِ وُجُوبِ مُلَازَمَتِهِ لِتَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ، فَكَمَا أَنَّ الْخَالِقَ الْمُرَبِّي لِلْأَشْبَاحِ بِمَا أَنْزَلَ مِنَ الرِّزْقِ، وَلِلْأَرْوَاحِ بِمَا أَنْزَلَ مِنَ الْوَحْيِ، وَاحِدٌ لَا شَرِيكَ لَهُ فِي الْخَلْقِ وَلَا فِي الْهِدَايَةِ، فَالْوَاجِبُ أَنْ يَكُونَ الْإِلَهُ الْمَعْبُودُ وَاحِدًا لَا شَرِيكَ

ص: 551

لَهُ فِي الْجَزَاءِ عَلَى الْأَعْمَالِ بَشَفَاعَةٍ وَلَا وِلَايَةٍ، فَالْأَمْرُ هُنَا بِالِاتِّبَاعِ لَيْسَ الْغَرَضُ مِنْهُ مُجَرَّدَ الْمُدَاوَمَةِ عَلَيْهِ كَمَا هُوَ الشَّأْنُ فِي أَكْثَرِ مَنْ يَأْمُرُ بِالْعَمَلِ مَنْ هُوَ مُتَلَبِّسٌ بِهِ، وَإِنَّمَا الْغَرَضُ مِنْهُ بَيَانُ كَوْنِهِ مِنْ مُتَمِّمَاتِ التَّبْلِيغِ، ثُمَّ عَطَفَ عَلَى هَذَا الْأَمْرِ الْمَقْرُونِ بِكَلِمَةِ التَّوْحِيدِ، أَمْرَهُ صلى الله عليه وسلم بِالْإِعْرَاضِ عَنِ الْمُشْرِكِينَ، بِأَنْ لَا يُبَالِيَ بِإِصْرَارِهِمْ عَلَى الشِّرْكِ، وَلَا بِمِثْلِ قَوْلِهِمْ لَهُ: دَارَسْتَ أَوْ دَرَسْتَ لِأَنَّ الْحَقَّ يَعْلُو مَتَى ظَهَرَ بِالْقَوْلِ وَالْعَمَلِ مَعَ الْإِخْلَاصِ، لَا يَضُرُّهُ الْبَاطِلُ بِخُرَافَاتِ الْأَعْمَالِ وَلَا بِزَخَارِفِ الْأَقْوَالِ، ثُمَّ هَوَّنَ عَلَيْهِ أَمْرَ الْإِعْرَاضِ عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ:(وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا أَشْرَكُوا) إِلَخْ. أَيْ وَلَوْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى أَلَّا يُشْرِكُوا لَمَا أَشْرَكُوا بِأَنْ يَخْلُقَ الْبَشَرَ مُؤْمِنِينَ طَائِعِينَ بِالْفِطْرَةِ كَالْمَلَائِكَةِ، وَلَكِنَّهُ خَلَقَهُمْ مُسْتَعِدِّينَ لِلْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ وَالتَّوْحِيدِ وَالشِّرْكِ وَالطَّاعَةِ وَالْفِسْقِ، وَمَضَتْ سُنَّتُهُ فِي ذَلِكَ بِأَنْ يَكُونُوا عَامِلِينَ مُخْتَارِينَ فَأَمَّا غَرَائِزُهُمْ وَفَطَرُهُمْ فَكُلُّهَا خَيْرٌ، وَأَمَّا تَصَرُّفُهُمْ وَكَسْبُهُمْ لِعُلُومِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ فَمِنْهُ الْخَيْرُ وَالشَّرُّ، وَقَدْ فَصَّلْنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ مِنْ قَبْلُ:(وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ) وَإِنَّمَا أَنْتَ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ، وَاللهُ تَعَالَى هُوَ الْحَفِيظُ وَالْوَكِيلُ عَلَيْهِمْ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ لَا يَسْلُبُهُمُ اسْتِعْدَادَهُمْ، وَلَا يُجْبِرُهُمْ بِقُدْرَتِهِ عَلَى الْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ لَهُ، إِذْ لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ لَكَانَ إِخْرَاجًا لَهُمْ مِنْ جِنْسِ الْبَشَرِ إِلَى جِنْسٍ آخَرَ، وَلَعَلَّ فِي الْجُمْلَتَيْنِ احْتِبَاكًا، وَالتَّقْدِيرُ: وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِ حَفِيظًا تَحْفَظُ عَلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ لِتُحَاسِبَهُمْ وَتُجَازِيَهُمْ عَلَيْهَا، وَلَا وَكِيلًا تَتَوَلَّى أُمُورَهُمْ وَتَتَصَرَّفُ فِيهَا، وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ وَلَا حَفِيظٍ بِمِلْكٍ وَلَا سِيَادَةٍ. أَيْ لَيْسَ لَكَ مَا ذُكِرَ مِنَ الْوَصْفَيْنِ بِأَمْرِنَا وَحُكْمِنَا، وَلَا ذَلِكَ بِالْفِعْلِ كَمَا يَكُونُ نَحْوُهُ لِبَعْضِ الْمُلُوكِ بِالْقَهْرِ أَوِ التَّرَاضِي.

وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهَا فِي ج 7، وَفِيهِ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ تِلْكَ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ السَّيْفِ وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَوْ مَا قَبْلَهَا، وَالْجُمْهُورُ لَا يَعُدُّونَ مِثْلَ هَذَا مِنَ الْمَنْسُوخِ كَمَا تَقَدَّمَ، نَعَمْ إِنَّهُ نَزَلَ قَبْلَ أَنْ تَتَكَوَّنَ الْأُمَّةُ وَيَصِيرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حَاكِمًا، وَلَكِنْ نَزَلَ مِثْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ، لِأَنَّ الْحَاكِمَ لَيْسَ حَفِيظًا وَلَا وَكِيلًا عَلَى الْأُمَّةِ بِالْمَعْنَى الْمُرَادِ هُنَا، فَفِي سُورَةِ النِّسَاءِ الْمَدَنِيَّةِ:(مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا) 4: 80 وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ وَأَمْثَالِهَا مِنْ تَقْرِيرِ حُرِّيَّةِ الدِّينِ وَالِاعْتِقَادِ، مَا لَا نَظِيرَ لَهُ فِي قَانُونٍ وَلَا كِتَابٍ.

ص: 552

(وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ) .

أَمَرَ اللهُ تَعَالَى رَسُولَهُ فِيمَا قَبْلَ هَذِهِ الْآيَاتِ بِتَبْلِيغِ وَحْيِهِ بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ،

وَبِالْإِعْرَاضِ عَنِ الْمُشْرِكِينَ بِمُقَابَلَةِ جُحُودِهِمْ وَطَعْنِهِمْ فِي الْوَحْيِ بِالصَّبْرِ وَالْحِلْمِ، وَعَلَّلَ ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْ مُقْتَضَى سُنَّتِهِ فِي خَلْقِ الْبَشَرِ مُتَفَاوِتِي الِاسْتِعْدَادِ، مُخْتَلِفِي الْفَهْمِ وَالِاجْتِهَادِ، أَنْ لَا يَتَّفِقُوا عَلَى دِينٍ، وَمِنْ مُقْتَضَى هِدَايَتِهِ فِي بَعْثَةِ الرُّسُلِ أَنْ يَكُونُوا مُبَلِّغِينَ لَا مُسَيْطِرِينَ وَهَادِينَ لَا جَبَّارِينَ، فَعَلَيْهِمْ أَنْ لَا يَضِيقُوا ذَرْعًا بِحُرِّيَّةِ النَّاسِ فِي اعْتِقَادِهِمْ، فَإِنَّ خَالِقَهُمْ هُوَ الَّذِي مَنَحَهُمْ هَذِهِ الْحُرِّيَّةَ وَلَمْ يُجْبِرْهُمْ عَلَى الْإِيمَانِ إِجْبَارًا وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى ذَلِكَ، ثُمَّ عَطَفَ عَلَى هَذَا الْإِرْشَادِ النَّهْيَ عَنْ سَبِّ آلِهَتِهِمْ، وَطَلَبِ بَعْضِهِمْ لِلْآيَاتِ وَحَقِيقَةِ حَالِهِمْ فِيهَا فَقَالَ:

(وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْوًا بِغَيْرٍ عِلْمِ) ; أَيْ وَلَا تَسُبُّوا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ مَعْبُودَاتِهِمُ الَّتِي يَدْعُونَهَا مِنْ دُونِ اللهِ لِجَلْبِ النَّفْعِ لَهُمْ أَوْ دَفْعِ الضُّرِّ عَنْهُمْ بِوَسَاطَتِهَا وَشَفَاعَتِهَا عِنْدَ اللهِ لَهُمْ، فَيَتَرَتَّبَ عَلَى ذَلِكَ سَبُّهُمْ لِلَّهِ سبحانه وتعالى (عَدْوًا) ، أَيْ تَجَاوُزًا مِنْهُمْ فِي السِّبَابِ وَالْمُشَاتَمَةِ الَّتِي يَغِيظُونَ بِهَا الْمُؤْمِنِينَ إِلَى ذَلِكَ بِغَيْرِ عِلْمٍ مِنْهُمْ أَنَّ ذَلِكَ يَكُونُ سَبًّا لِلَّهِ سُبْحَانَهُ، لِأَنَّهُمْ وَهُمْ مُؤْمِنُونَ بِاللهِ لَا يَتَعَمَّدُونَ سَبَّهُ ابْتِدَاءً عَنْ رَوِيَّةٍ وَعِلْمٍ، بَلْ يَسُبُّونَهُ بِوَصْفٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ كَسَبِّهِمْ لِمَنْ أَمَرَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بِتَحْقِيرِ آلِهَتِهِمْ، أَوْ لِمَنْ يَقُولُ إِنَّهَا لَا تَشْفَعُ وَلَا تَنْفَعُ، أَوْ يَقُولُونَ قَوْلًا يَسْتَلْزِمُ سَبَّهُ بِحَيْثُ يُفْهَمُ ذَلِكَ مِنْهُمْ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ ذَلِكَ قَائِلُهُ. وَهَذَا مِمَّا يَجِبُ اجْتِنَابُ سَبِّهِ حَتَّى عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ لَازِمَ الْمَذْهَبِ لَيْسَ بِمَذْهَبٍ أَوْ يُقَابِلُونَ السَّابَّ لِمَعْبُودِهِمْ بِمِثْلِ سَبِّهِ يُرِيدُونَ مَحْضَ الْمُجَازَاةِ فَيَتَجَاوَزُونَهَا كَمَا يَقَعُ

ص: 553

كَثِيرًا مِنَ الْمُخْتَلِفِينَ فِي الدِّينِ وَالْمَذْهَبِ، يَسُبُّ نَصْرَانِيٌّ نَبِيَّ الْمُسْلِمِ فَيَسُبُّ الْمُسْلِمُ نَبِيَّهُ وَيُرِيدُ عِيسَى:(عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ) وَيَسُبُّ شِيعِيٌّ - يُلَاحِي سُنِّيًّا وَيُمَارِيهِ - أَبَا بَكْرٍ فَيَسُبُّ عَلِيًّا (رِضَى اللهِ عَنْهُمَا) وَالْأَوَّلُ يَعْلَمُ أَنَّ سَبَّ عِيسَى كُفْرٌ ; كَسَبِّ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، وَالثَّانِي يَعْلَمُ أَنَّ سَبَّ عَلَيٍّ فِسْقٌ ; كَسَبِّ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنهما. وَمِثْلُ هَذَا يَقَعُ كَثِيرًا، بَلْ كَثِيرًا مَا يَتَسَابُّ أَخَوَانِ مِنْ أَهْلِ دِينٍ وَاحِدٍ يَسُبُّ أَحَدُهُمَا أَبَا الْآخَرِ أَوْ مَعْبُودَهُ فَيُقَابِلُهُ بِمِثْلِ سَبِّهِ، يَغِيظُهُ بِسَبِّ أَبِيهِ مُضَافًا إِلَيْهِ وَيَعُدُّهُ إِهَانَةً لَهُ، فَيَسُبُّهُ مُضَافًا إِلَى أَخِيهِ إِهَانَةً لِأَخِيهِ.

وَهَذَا كُلُّهُ مِنْ حُبِّ الذَّاتِ وَالْجَهْلِ الْحَامِلِ عَلَى الْمُعَاقَبَةِ عَلَى الْجَرِيمَةِ بِارْتِكَابِهَا عَيْنِهَا، يُهِينُ وَالِدَهُ الْمُعَظَّمَ عِنْدَهُ وَمَعْبُودَهُ الَّذِي هُوَ أَعْظَمُ مِنْهُ احْتِمَاءً لِنَفْسِهِ وَعَصَبِيَّةً لَهَا. وَقَدْ جَاءَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو مَرْفُوعًا:" مِنَ الْكَبَائِرِ شَتْمُ الرَّجُلِ وَالِدَيْهِ " قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، وَهَلْ يَشْتُمُ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ؟ قَالَ:" يَسُبُّ أَبَا الرَّجُلِ فَيَسُبُّ أَبَاهُ وَيَسُبُّ أُمَّهُ فَيَسُبُّ أُمَّهُ ".

فَالْمُرَادُ بِالْعِلْمِ الْمَنْفِيِّ - عَلَى هَذَا - الْعِلْمُ الْحُضُورِيُّ الْبَاعِثُ عَلَى الْعَمَلِ وَهُوَ إِرَادَةُ السَّبِّ الَّتِي يُقْصَدُ بِهَا إِهَانَةُ الْمَسْبُوبِ، فَإِنَّ هَذَا السَّابَّ هُنَا لَا يَتَوَجَّهُ قَصْدُهُ إِلَّا إِلَى إِهَانَةِ مُخَاطَبِهِ الَّذِي سَبَّهُ وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالْعِلْمِ الْمَنْفِيِّ اعْتِقَادُ السَّابِّ أَنَّ خَصْمَهُ لَا يَعْبُدُ اللهَ تَعَالَى بَلْ يَعْبُدُ إِلَهًا آخَرَ، لِأَنَّهُ يَصِفُ مَعْبُودَهُ بِمَا لَا يَصِحُّ أَنْ يُوصَفَ بِهِ اللهُ تَعَالَى عِنْدَهُ، وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ بَعْضِ الْمُخْتَلِفِينَ فِي

الْأَدْيَانِ وَفِي مَذَاهِبِ الدِّينِ الْوَاحِدِ وَصْفُ رَبِّهِمْ وَإِلَاهِهِمْ بِصِفَاتٍ، وَرَبِّ خُصُومِهِمْ وَإِلَهِهِمْ بِصِفَاتٍ تُنَاقِضُهَا أَوْ تُضَادُّهَا، كَمَا يَقُولُ مُثْبِتُو الصِّفَاتِ وَنُفَاتُهَا بَعْضُهُمْ فِي بَعْضٍ وَيُمْكِنُ التَّمْثِيلُ لِهَذَا بِاخْتِلَافِ الْأَشْعَرِيَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ فِي مَسْأَلَةِ إِرَادَةِ اللهِ تَعَالَى لِلشَّرِّ وَالْكُفْرِ وَعَدِمِهَا، فَقَدْ يُبَالِغُ كُلٌّ مِنْهُمَا فِيهِ فَيَزْعُمُ أَنَّ إِلَهَهُ غَيْرُ إِلَهِ مُخَالِفِهِ، وَقَدْ نُقِلَ عَنِ اثْنَيْنِ مِنْ أَكَابِرِ عُلَمَائِهِمَا أَنَّهُمَا الْتَقَيَا فَقَالَ الْمُعْتَزِلِيُّ: سُبْحَانَ مَنْ تَنَزَّهَ عَنِ الْفَحْشَاءِ، فَقَالَ الْأَشْعَرِيُّ: سُبْحَانَ مَنْ لَا يَقَعُ فِي مُلْكِهِ إِلَّا مَا يَشَاءُ، أَيْ وَمِنْهُ الْفَحْشَاءُ فَهَلْ يَبْعُدُ أَنْ يُعَبِّرَ بَعْضُ الْمُجَازِفِينَ عَنْ هَذَيْنَ الْمَعْنَيَيْنِ بِصِيغَةِ السَّبِّ لِتَأْيِيدِ الْمَذْهَبِ؟ دَعْ مَا يَقُولُهُ مَنْ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ غُلُوًّا فِي تَضْلِيلِ الْمُخَالِفِ وَتَكْفِيرِهِ وَالْجَمِيعُ يَقُولُونَ إِنَّهُمْ يَعْبُدُونَ اللهَ خَالِقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا فِيهِمَا، وَهُمْ صَادِقُونَ فِي ذَلِكَ وَإِنِ اتَّخَذَ بَعْضُهُمْ لَهُ شَرِيكًا أَوْ وَصَفَهُ بِمَا لَا يَلِيقُ بِهِ أَوْ نَفَى عَنْهُ عَمَّا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ، وَلَكِنَّ تَعَصُّبَ الْمَرْءِ لِنَفْسِهِ وَلِمَنْ تَجْمَعُهُ بِهِ جَامِعَةٌ مَا قَدْ تَحْمِلُهُ عَلَى تَوْسِيعِ شِقَّةِ الْخِلَافِ بِمِثْلِ ذَلِكَ وَلَا سِيَّمَا فِي أَثْنَاءِ الْجَدَلِ، وَفِي هَذَا الْمَقَامِ تَزْدَادُ فَهْمًا لِقَوْلِهِ عز وجل:(وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) 29: 46 هَذَا مَا نَرَاهُ فِي مَعْنَى النَّهْيِ وَتَعْلِيلِهِ وَقَدْ وَرَدَ فِي الْمَأْثُورِ مَا يُؤَيِّدُ بَعْضَهُ نَنْقُلُهُ عَنِ الدُّرِّ الْمَنْثُورِ وَهُوَ:

" أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ مُنْذِرٍ وَابْنُ حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ:

ص: 554

(وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) الْآيَةَ. قَالَ قَالُوا: يَا مُحَمَّدُ لَتَنْتَهِيَنَّ عَنْ سَبِّكَ آلِهَتَنَا أَوْ لَنَهْجُوَ رَبَّكَ ; فَنَهَاهُمُ اللهُ أَنْ يَسُبُّوا أَوْثَانَهُمْ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ.

وَأَخْرَجَ ابْنُ حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ قَالَ: لَمَا حَضَرَ أَبَا طَالِبٍ الْمَوْتُ قَالَتْ قُرَيْشٌ: انْطَلِقُوا فَلْنَدْخُلْ عَلَى هَذَا الرَّجُلِ فَنَأْمُرْهُ أَنْ يَنْهَى عَنَّا ابْنَ أَخِيهِ، فَانْطَلَقَ أَبُو سُفْيَانَ وَأَبُو جَهْلٍ وَالنَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ وَأُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ وَعَقَبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ وَعَمْرُو بْنُ الْعَاصِ

وَالْأَسْوَدُ بْنُ الْبَخْتَرِيِّ وَبَعَثُوا رَجُلًا مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ الْمُطَّلِبُ فَقَالُوا: اسْتَأْذِنْ لَنَا عَلَى أَبِي طَالِبٍ. فَأَتَى أَبَا طَالِبٍ فَقَالَ: هَؤُلَاءِ مَشْيَخَةُ قَوْمِكَ يُرِيدُونَ الدُّخُولَ عَلَيْكَ، فَأَذِنَ لَهُمْ عَلَيْهِ فَدَخَلُوا فَقَالُوا: يَا أَبَا طَالِبٍ أَنْتَ كَبِيرُنَا وَسَيِّدُنَا وَإِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ آذَانَا وَآذَى آلِهَتَنَا فَنُحِبُّ أَنْ تَدْعُوَهُ فَتَنْهَاهُ عَنْ ذِكْرِ آلِهَتِنَا وَلْنَدَعْهُ وَإِلَهَهُ. فَدَعَاهُ فَجَاءَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لَهُ: هَؤُلَاءِ قَوْمُكَ وَبَنُو عَمِّكَ، قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:" مَاذَا يُرِيدُونَ؟ " قَالُوا: نُرِيدُ أَنْ تَدَعَنَا وَآلِهَتَنَا وَلْنَدَعْكَ وَإِلَهَكَ، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَعْطَيْتُكُمْ هَذَا، هَلْ أَنْتُمْ مُعْطِيَّ كَلِمَةً إِنْ تَكَلَّمْتُمْ بِهَا مَلَكْتُمْ بِهَا الْعَرَبَ وَدَانَتْ لَكُمْ بِهَا الْعَجَمُ وَأَدَّتْ لَكُمُ الْخَرَاجَ؟ " قَالَ أَبُو جَهْلٍ: وَأَبِيكَ لَنُعْطِيَنَّكَهَا وَعِشْرَةَ أَمْثَالِهَا فَمَا هِيَ؟ قَالَ: " قُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ " فَأَبَوْا وَاشْمَئَزُّوا، قَالَ أَبُو طَالِبٍ: قُلْ غَيْرَهَا فَإِنَّ قَوْمَكَ قَدْ فَزِعُوا مِنْهَا، قَالَ:" يَا عَمِّ مَا أَنَا بِالَّذِي أَقُولُ غَيْرَهَا حَتَّى يَأْتُوا بِالشَّمْسِ فَيَضَعُوهَا فِي يَدِيَ، وَلَوْ أَتَوْنِي بِالشَّمْسِ فَوَضَعُوهَا فِي يَدِيَ، مَا قُلْتُ غَيْرَهَا " إِرَادَةَ أَنْ يُؤُيِسَهُمْ، فَغَضِبُوا وَقَالُوا لَتَكُفَّنَّ عَنْ شَتْمِ آلِهَتِنَا أَوْ لَنَشْتُمَنَّكَ وَنَشْتُمَ مَنْ يَأْمُرُكَ، فَأَنْزَلَ اللهُ:(وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ) .

وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: كَانَ الْمُسْلِمُونَ يَسُبُّونَ أَصْنَامَ الْكُفَّارِ فَيَسُبُّ الْكُفَّارُ اللهَ، فَأَنْزَلَ اللهُ (وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) انْتَهَى. أَيْ أَنْزَلَ ذَلِكَ ضِمْنَ السُّورَةِ كَمَا تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ " اهـ.

وَقَدْ غَفَلَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ عَنْ مِثْلِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ شُئُونِ النَّاسِ الَّتِي تَحْمِلُهُمْ عَلَى سَبِّ أَعْظَمِ شَيْءٍ عِنْدَهُمْ فِي حَالِ الْغَضَبِ، وَالْمُلَاحَاةِ فِي الْمِرَاءِ وَالْجَدَلِ وَعَنِ التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ عَنِ السَّلَفِ، حَتَّى قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الْمُرَادَ بِسَبِّهِمُ اللهَ تَعَالَى هُنَا سَبُّ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ بَابِ التَّجَوُّزِ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ تَعَالَى: (إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللهَ) 48: 10 وَهُوَ تَكَلُّفٌ بَعِيدٌ، وَقَالَ الرَّاغِبُ: وَسَبُّهُمْ لِلَّهِ لَيْسَ عَلَى أَنَّهُمْ يَسُبُّونَهُ صَرِيحًا، وَلَكِنْ يَخُوضُونَ فِي ذِكْرِهِ فَيَذْكُرُونَهُ بِمَا لَا يَلِيقُ بِهِ وَيَتَمَادَوْنَ فِي ذَلِكَ بِالْمُجَادَلَةِ فَيَزْدَادُونَ فِي ذِكْرِهِ بِمَا تَنَزَّهَ تَعَالَى عَنْهُ انْتَهَى. وَمَا قَالَهُ مِمَّا يَقَعُ مِثْلُهُ وَلَيْسَ كُلَّ الْمُرَادِ.

وَاسْتَشْكَلَ بَعْضُهُمُ النَّهْيَ بِمَا وَرَدَ فِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ مِنْ وَصْفِ آلِهَتِهِمْ بِأَنَّهَا

لَا تَضُرُّ

ص: 555

وَلَا تَنْفَعُ، وَلَا تُقَرِّبُ وَلَا تَشْفَعُ، وَأَنَّهَا وَإِيَّاهُمْ حَصَبُ جَهَنَّمَ، وَتَسْمِيَتُهَا بِالطَّاغُوتِ وَهُوَ مُبَالَغَةٌ مِنَ الطُّغْيَانِ، وَجَعَلَ عِبَادَتَهَا طَاعَةً لِلشَّيْطَانِ. وَقَدْ يُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّ هَذَا لَا يُسَمَّى سَبًّا. وَإِنْ زَعَمُوهُ جَدَلًا، لِأَنَّ السَّبَّ هُوَ الشَّتْمُ وَهُوَ مَا يُقْصَدُ بِهِ الْإِهَانَةُ وَالتَّعْيِيرُ، وَالْغَرَضُ مِنْ ذِكْرِ مَعْبُودَاتِهِمْ بِذَلِكَ بَيَانُ الْحَقَائِقِ وَالتَّنْفِيرِ عِنِ الْخُرَافَاتِ وَالْمَفَاسِدِ وَأُجِيبَ عَلَى تَقْدِيرِ التَّسْلِيمِ بِأَنَّ سَبَّ مَا يَسْتَحِقُّ السَّبَّ جَائِزٌ فِي نَفْسِهِ، وَإِنَّمَا يُحْظَرُ إِذَا أَدَّى إِلَى مَفْسَدَةِ أَكْبَرَ مِنْهُ، وَالْحَالُ هُنَا كَذَلِكَ. وَقَدْ صَحَّ النَّهْيُ عَنِ الصَّلَاةِ فِي الْمَقْبَرَةِ وَالْحَمَّامِ، وَكَمِثْلِهَا التِّلَاوَةُ فِي الْمَوَاضِعِ الْمَكْرُوهَةِ.

وَاسْتَنْبَطَ الْعُلَمَاءُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ الطَّاعَةَ إِذَا أَدَّتْ إِلَى مَعْصِيَةٍ رَاجِحَةٍ وَجَبَ تَرْكُهَا، فَإِنَّ مَا يُؤَدِّي إِلَى الشَّرِّ شَرٌّ، وَفَرَّقُوا بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الطَّاعَةِ فِي كُلِّ مَكَانٍ فِيهِ مَعْصِيَةٌ لَا يُمْكِنُ دَفْعُهَا. وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَحْتَاجُ إِلَى بَسْطٍ وَإِيضَاحٍ فَإِنَّ مِنَ الطَّاعَةِ مَا يَجِبُ وَمَا لَا يَجِبُ، وَمِنَ الْمَعَاصِي وَالشُّرُورِ الَّتِي تَتَرَتَّبُ عَلَى بَعْضِ الطَّاعَاتِ أَحْيَانًا مَا هُوَ مَفْسَدَةٌ رَاجِحَةٌ وَمَا لَيْسَ كَذَلِكَ، وَمِنْ كُلٍّ مِنْهُمَا مَا يُمْكِنُ التَّفَصِي مِنْ تُرَتُّبِهِ عَلَى الطَّاعَةِ وَمَا لَا يُمْكِنُ التَّفَصِي مِنْهُ، وَلِكُلٍّ مِنْ ذَلِكَ أَحْكَامٌ، وَتَعْرِضُ لَهُ دَرَجَاتُ الْإِنْكَارِ الثَّلَاثُ:" مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ " رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ.

وَمِنْ فُرُوعِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْعَدَدِ الْأَوَّلِ مِنْ مَنَارِ السَّنَةِ الْأُولَى فِي بَحْثِ اصْطِلَاحِ كِتَابِ الْعَصْرِ، وَهُوَ أَنَّ مَعْنَى لَفْظِ الْكُفْرِ فِي اللُّغَةِ السَّتْرُ وَالتَّغْطِيَةُ، وَمِنْهُ قِيلَ اللَّيْلُ كَافِرٌ وَالْبَحْرُ كَافِرٌ، وَأُطْلِقَ لَفْظُ الْكُفَّارِ فِي سُورَةِ الْفَتْحِ عَلَى الزُّرَّاعِ وَغَلَبَ لَفْظُ الْكُفْرِ فِي الْقُرْآنِ وَعُرِفَ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ بِمَعْنَى الْمُقَابِلِ لِلْإِيمَانِ الصَّحِيحِ شَرْعًا، ثُمَّ غَلَبَ فِي عُرْفِ كُتَّابِ هَذَا الْعَصْرِ عَلَى الْمَلَاحِدَةِ الْمُعَطِّلِينَ الْمُنْكِرِينَ لِوُجُودِ اللهِ عز وجل، فَصَارَ إِطْلَاقُهُ عَلَى كُلِّ مُتَدَيِّنٍ سَبًّا وَإِهَانَةً، فَيَتَرَتَّبُ عَلَى هَذَا أَنَّ إِطْلَاقَهُ عَلَى مَنْ يَحْرُمُ إِيذَاؤُهُ مِنْ أَهْلِ الْأَدْيَانِ مُحَرَّمٌ شَرْعًا إِذَا تَأَذَّى بِهِ وَلَا سِيَّمَا فِي الْخِطَابِ. وَذَكَرْنَا لِهَذَا مِنْ فَتَاوَى الْحَنَفِيَّةِ وَهُوَ مَا فِي مُعِينِ الْحُكَّامِ قَالَ: إِذَا شَتَمَ الذِّمِّيَّ يُعَزَّرُ لِأَنَّهُ ارْتَكَبَ مَعْصِيَةً. وَفِيهِ نَقْلًا عَنِ الْغُنْيَةِ: وَلَوْ قَالَ لِلذِّمِّيِّ يَا كَافِرُ يَأْثَمُ إِنَّ شَقَّ عَلَيْهِ ذَلِكَ اهـ.

(وَمِنْهَا) مَا ذَكَرْتُهُ فِي سِيَاقِ الْكَلَامِ فِي الْمُخْتَلِفِينَ فِي لَعْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ مِنَ

(الْمَنَارِ ص 630 م7) بَعْدَ بَيَانِ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى لَعْنِهِ مِنَ التَّعَادِي بَيْنَ الشِّيعَةِ وَالسُّنِّيِّينَ وَهُوَ: لِهَذَا لَا أُبَالِي أَنْ أَقُولَ: لَوِ اطَّلَعَ عَلَى الْغَيْبِ وَعَلِمَ أَنَّهُ مَاتَ عَلَى غَيْرِ الْإِسْلَامِ لَمَا جَازَ لَهُ أَنْ يَلْعَنَهُ. وَغَرَضِي مِنْ هَذَا أَنَّ اللَّعْنَ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مَفَاسِدُ الشِّقَاقِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ مَا يَجْعَلُهُ مُحَرَّمًا وَأَكْثَرُ الْمُسْلِمِينَ يُحَرِّمُونَ لَعْنَهُ، وَقَدْ لَعَنَ اللهُ الشَّيْطَانَ وَيَلْعَنُهُ اللَّاعِنُونَ فِي

ص: 556

كُلِّ مَكَانٍ، وَمَنْ لَا يَلْعَنُهُ طُولَ عُمُرِهِ لَا يَسْأَلُهُ اللهُ عَنْ ذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجِبْ عَلَيْهِ كَمَا قَالَ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ، وَلَيْسَ هُوَ مِنَ الطَّاعَاتِ الَّتِي أَمَرَنَا اللهُ تَعَالَى بِهَا وَإِنْ كَانَ جَائِزًا فِي نَفْسِهِ.

(وَمِنْهَا) مَا نُقِلَ عَنْ أَبِي مَنْصُورٍ قَالَ: كَيْفَ نَهَانَا اللهُ تَعَالَى عَنْ سَبِّ مَنْ يَسْتَحِقُّ السَّبَّ لِئَلَّا يُسَبَّ مَنْ لَا يَسْتَحِقُّهُ - وَقَدْ أَمَرَنَا بِقِتَالِهِمْ وَإِذَا قَاتَلْنَاهُمْ قَتَلُونَا وَقَتْلُ الْمُؤْمِنِ بِغَيْرِ حَقٍّ مُنْكَرٌ "؟ وَكَذَا أَمَرَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بِالتَّبْلِيغِ وَالتِّلَاوَةِ عَلَيْهِمْ وَإِنْ كَانُوا يُكَذِّبُونَهُ وَأَجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ سَبَّ الْآلِهَةِ مُبَاحٌ غَيْرُ مَفْرُوضٍ وَقِتَالَهُمْ فَرْضٌ وَكَذَا التَّبْلِيغُ، وَمَا كَانَ مُبَاحًا يَنْهَى عَمَّا يَتَوَلَّدُ عَنْهُ.

وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي إِجَابَةِ الدَّعْوَةِ إِلَى وَلِيمَةِ النِّكَاحِ الْمُقَارِنَةِ لِبَعْضِ الْمَعَاصِي كَمَا يَقَعُ كَثِيرًا ; هَلْ يُجِيبُ الدَّعْوَةَ وَيُغَيِّرُ مَا يَرَاهُ مِنَ الْمُنْكَرِ بِيَدِهِ أَوْ بِلِسَانِهِ إِنَّ قَدَرَ، وَإِلَّا أَنْكَرَهُ بِقَلْبِهِ وَصَبَرَ؟ أَمْ يُجِيبُ فِي حَالِ الْقُدْرَةِ عَلَى التَّغْيِيرِ دُونَ حَالِ الْعَجْزِ؟ أَمْ يُفَرَّقُ فِيهِ بَيْنَ مَنْ يُقْتَدَى بِهِ وَغَيْرِهِ فَيَحْرُمُ حُضُورُهُ الْمُنْكَرَ وَلَوْ مَعَ النَّهْيِ عَنْهُ عَلَى الْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي؟ أَقْوَالٌ: لَا مَجَالَ هُنَا لِتَحْقِيقِ الْحَقِّ فِيهَا، وَلَا لِلْإِطَالَةِ فِي فُرُوعِ الْمَسْأَلَةِ.

(كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ) أَيْ مِثْلَ ذَلِكَ التَّزْيِينِ الَّذِي يَحْمِلُ الْمُشْرِكِينَ عَلَى مَا ذُكِرَ - حَمِيَّةً لِمَنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللهِ - زَيَّنَا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ مِنْ إِيمَانٍ وَكُفْرٍ وَخَيْرٍ وَشَرٍّ، أَيْ مَضَتْ سُنَّتُنَا فِي أَخْلَاقِ الْبَشَرِ وُشُئُونِهِمْ أَنْ يَسْتَحْسِنُوا مَا يَجْرُونَ عَلَيْهِ وَيَتَعَوَّدُونَهُ مِمَّا كَانَ عَلَيْهِ آبَاؤُهُمْ، أَوْ مِمَّا اسْتَحْدَثُوهُ بِأَنْفُسِهِمْ، إِذَا صَارَ يُسْنَدُ وَيُنْسَبُ إِلَيْهِمْ، سَوَاءٌ كَانُوا عَلَى تَقْلِيدٍ وَجَهْلٍ، أَمْ عَلَى بَيِّنَةٍ وَعِلْمٍ، فَسَبَبُ التَّزْيِينِ فِي الْأَوَّلِ أُنْسُهُمْ بِهِ كَوْنُهُ مِنْ شُئُونِ أُمَّتِهِمُ، الَّتِي يُعَدُّ مَدْحُهَا مَدْحًا لَهَا وَلَهُمْ، وَذَمُّهَا عَارًا عَلَيْهَا وَعَلَيْهِمْ، وَزِدْ عَلَى ذَلِكَ فِي الثَّانِي مَا يُعْطِيهِ الْعِلْمُ مِنْ كَوْنِ ذَلِكَ حَقًّا وَخَيْرًا فِي نَفْسِهِ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ فَضْلُهُمْ عَلَى غَيْرِهِمْ فِيهِ وَفِي الْجَزَاءِ عَلَيْهِ، وَشُبُهَاتُ الْأَوَّلِ لَيْسَ لَهَا مِثْلُ هَذَا التَّأْثِيرِ.

فَظَهَرَ بِهَذَا أَنَّ التَّزْيِينَ أَثَرٌ لِأَعْمَالٍ اخْتِيَارِيَّةٍ لَا جَبْرَ فِيهَا وَلَا إِكْرَاهَ، وَلَيْسَ

الْمُرَادُ بِهِ أَنَّ اللهَ خَلَقَ فِي قُلُوبِ بَعْضِ الْأُمَمِ تَزْيِينًا لِلْكُفْرِ وَالشَّرِّ، وَفِي قُلُوبِ بَعْضِهَا تَزْيِينًا لِلْإِيمَانِ وَالْخَيْرِ خَلْقًا ابْتِدَائِيًّا، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لَهُمْ عَمَلٌ اخْتِيَارِيٌّ نَشَأَ عَنْهُ ذَلِكَ، إِذْ لَوْ كَانَ الْأَمْرُ كَمَا ذُكِرَ لَكَانَ الْإِيمَانُ وَالْكُفْرُ وَالْخَيْرُ وَالشَّرُّ مِنَ الْغَرَائِزِ الْخُلُقِيَّةِ الَّتِي تُعَدُّ الدَّعْوَةُ إِلَيْهَا وَالتَّرْغِيبُ فِيهَا، وَمَا يُقَابِلُهُمَا مِنَ النَّهْيِ وَالتَّرْهِيبِ عَنْهَا مِنَ الْعَبَثِ الَّذِي يَتَنَزَّهُ اللهُ تَعَالَى عَنْ إِرْسَالِ الرُّسُلِ وَإِنْزَالِ الْكُتُبِ لِأَجْلِهِ، وَلَكَانَ عَمَلُ الرُّسُلِ وَالْحُكَمَاءِ وَالْمُؤَدِّبِينَ الَّذِينَ يَهْدُونَ النَّاسَ وَيُزَكُّونَ بِالتَّأَدِيبِ - كُلُّهُ مِنَ الْجُنُونِ، وَمَنْ لَوَازِمِ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ التَّفَاوُتُ بَيْنَ الْأَخْيَارِ وَالْأَشْرَارِ مِنَ النَّاسِ كَالتَّفَاوُتِ بَيْنَ الْمَلَائِكَةِ وَالشَّيَاطِينِ، وَهُوَ خِلَافٌ مَقْطُوعٌ بِهِ عَقْلًا وَنَقْلًا مِنِ اسْتِوَائِهِمْ فِي قَابِلِيَّةِ كُلٍّ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ وَالْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَقَدْ غَفَلَتِ الْمُعْتَزِلَةُ عَنْ هَذَا التَّحْقِيقِ فَأَوَّلَ بَعْضُهُمُ الْآيَةَ بِأَنَّهَا خَاصَّةٌ بِالْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ زَيَّنَ اللهُ فِي قُلُوبِهِمُ

ص: 557

الْإِيمَانَ، وَبَعْضُهُمْ بِغَيْرِ ذَلِكَ، وَاحْتَجَّ بِهَا بَعْضُ الْجَبْرِيَّةِ فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ مَعًا، وَبَعْضُ الْأَشْعَرِيَّةِ الَّذِينَ يَعْتَقِدُونَ الْجَبْرَ وَيُقِيمُونَ الْحُجَجَ لِإِثْبَاتِهِ وَيَتَبَرَّءُونَ مِنْ لَفْظِهِ وَالِانْتِسَابِ إِلَى أَهْلِهِ - احْتَجَّ كُلٌّ مِنْهُمَا بِأَنَّهَا نَصٌّ فِي مَذْهَبِهِ. وَقَدْ تَفَلْسَفَ الرَّازِيُّ فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَى أَنَّ تَزْيِينَ الْكُفْرِ بِخَلْقِ اللهِ تَعَالَى مِنْ غَيْرِ اخْتِيَارٍ لِلْعَبْدِ، فَزَعَمَ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَخْتَارُ الْكُفْرَ وَالْجَهْلَ ابْتِدَاءً مَعَ الْعِلْمِ لِكَوْنِهِ كُفْرًا وَجَهْلًا، وَإِنَّمَا يَخْتَارُهُ لِاعْتِقَادِهِ كَوْنَهُ إِيمَانًا وَعِلْمًا وَصِدْقًا وَحَقًّا، فَلَوْلَا سَابِقَةُ الْجَهْلِ الْأَوَّلِ لَمَا اخْتَارَ هَذَا الْجَهْلَ الثَّانِي، وَذَلِكَ الْجَهْلُ السَّابِقُ إِنْ كَانَ اخْتِيَارِيًّا يُقَالُ فِيهِ مِثْلُ مَا قِيلَ فِيمَا قَبْلَهُ فَيَلْزَمُ التَّسَلْسُلُ الْمُحَالُ، وَقَالَ:" لَمَّا كَانَ ذَلِكَ بَاطِلًا وَجَبَ انْتِهَاءُ تِلْكَ الْجَهَالَاتِ إِلَى جَهْلٍ أَوَّلٍ يَخْلُقُهُ اللهُ تَعَالَى فِيهِ ابْتِدَاءً، وَهُوَ بِسَبَبِ ذَلِكَ الْجَهْلِ ظَنَّ فِي الْكُفْرِ كَوْنَهُ إِيمَانًا وَحَقًّا وَعِلْمًا وَصِدْقًا، فَثَبَتَ أَنَّهُ يَسْتَحِيلُ مِنَ الْكَافِرِ اخْتِيَارُ الْجَهْلِ فِي قَلْبِهِ " اهـ. وَيُبْطِلُ هَذَا الدَّلِيلَ الَّذِي سَمَّاهُ قَطْعِيًّا أَنَّ الْجَهْلَ أَمْرٌ سَلْبِيٌّ لَا يُوصَفُ بِأَنَّهُ خَلْقٌ ابْتِدَائِيٌّ، وَأَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ كُفْرٍ مُزَيَّنًا لِصَاحِبِهِ بِاعْتِقَادِهِ أَنَّهُ حَقٌّ وَعِلْمٌ وَصِدْقٌ كَمَا زَعَمَ بَلْ شَرُّ الْكُفْرِ وَأَشَدُّهُ كُفْرُ الْجُحُودِ وَالْعِنَادِ وَالْمُكَابَرَةِ، وَإِنَّمَا يُزَيِّنُهُ الشَّيْطَانُ لِصَاحِبِهِ بِعَدِّهِ مِنْ عِزَّةِ النَّفْسِ وَشَرَفِهَا، بِالِامْتِنَاعِ مِنِ اعْتِرَافِهَا بِمَا تَرَاهُ عَارًا عَلَيْهَا وَعَلَى الْآبَاءِ وَالْأَجْدَادِ بِاتِّبَاعِ مَنْ هُوَ دُونَهَا فِي الشَّرَفِ وَالْجَاهِ كَمَا عُرِفَ مِنْ شَأْنِ الْجَادِّينَ، مِنْ رُؤَسَاءِ الْأُمَمِ الْمُتْرَفِينَ، مَعَ الْأَنْبِيَاءِ الْمُرْسَلِينَ، وَوَرِثَتِهِمْ مِنَ الْعُلَمَاءِ الْمُصْلِحِينَ.

فَعُلِمَ مِنْ هَذَا التَّحْقِيقِ أَنَّ تَزْيِينَ الْأَعْمَالِ لِلْأُمَمِ عِبَارَةٌ عَنْ سُنَّةِ اللهِ تَعَالَى فِي أَعْمَالِهَا وَعَادَاتِهَا وَأَخْلَاقِهَا الْمَكْسُوبَةِ وَالْمَوْرُوثَةِ. وَقَدْ بَيَّنَّا فِي تَفْسِيرِ: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ) 3: 14 أَنَّ مَا كَانَ كَذَلِكَ لَا يُسْنَدُ إِلَى اللهِ تَعَالَى وَاضِعِ السُّنَنِ وَكَاتِبِ الْمَقَادِيرِ وَأَمَّا تَزْيِينُ الْقَبِيحِ مِنْ عَمَلٍ وَاعْتِقَادٍ فَيُسْنِدُهُ تَارَةً إِلَى الشَّيْطَانِ، وَشَوَاهِدُهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ (6: 43 و137) وَفِي الْأَنْفَالِ (8: 48) وَالنَّحْلِ (16: 63) وَالنَّمْلِ (27: 24) وَالْعَنْكَبُوتِ (29: 38) وَحم السَّجْدَةِ (41: 25) وَتَارَةً إِلَى الْمَفْعُولِ وَشَوَاهِدُهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ (6: 22) وَفِي التَّوْبَةِ وَيُونُسَ وَفَاطِرٍ وَالْمُؤْمِنِ وَالْقِتَالِ وَالْفَتْحِ وَوَرَدَ إِسْنَادُهُ إِلَى اللهِ تَعَالَى فِي أَوَّلِ سُورَةِ النَّمْلِ فَقَطْ، وَيُقَابِلُهُ إِسْنَادُ تَزْيِينِ الْإِيمَانِ إِلَيْهِ تَبَارَكَ اسْمُهُ فِي سُورَةِ الْحُجُرَاتِ فَقَطْ وَيَجْمَعُهُمَا مَعًا إِسْنَادُ الْأَعْمَالِ إِلَيْهِ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِ تَفْسِيرِهَا، وَنَحْوُهُ إِسْنَادُ " حُبُّ الشَّهَوَاتِ " إِلَى الْمَفْعُولِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ وَيُرَاجَعُ تَفْسِيرُنَا لَهَا، وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي أَوَاخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ:(لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ) ، وَفِي تَفْسِيرِ الْأَخِيرَةِ كَلَامٌ حَسَنٌ لِلْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ.

ص: 558

(ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنْبِئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) أَيْ ثُمَّ يَرْجِعُ جَمِيعُ أَفْرَادِ أُولَئِكَ الْأُمَمِ إِلَى رَبِّهِمُ الَّذِي هُوَ سَيِّدُهُمْ وَمَالِكُ أَمَرِهِمْ بَعْدَ أَنْ يَمُوتُوا وَيُبْعَثُوا لَا إِلَى غَيْرِهِ، إِذْ لَا رَبَّ غَيْرُهُ، فَيُنْبِئُهُمْ عَقِبَ رُجُوعِهِمْ إِلَيْهِ لِلْحِسَابِ وَالْجَزَاءِ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ مِمَّا كَانَ مُزَيَّنًا لَهُمْ وَغَيْرَ مُزَيَّنٍ، وَيَجْزِيهِمْ بِهِ إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ وَإِنَّ شَرًّا فَشَرٌّ.

(وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا) أَيْ وَأَقْسَمَ أُولَئِكَ الْمُشْرِكُونَ الْمُعَانِدُونَ بِاللهِ أَشَدَّ أَيْمَانِهِمْ تَأْكِيدًا وَمُنْتَهَى جَهْدِهِمْ وَوُسْعِهِمْ مُبَالَغَةً فِيهَا، لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ مِنَ الْآيَاتِ الْكَوْنِيَّةِ الَّتِي اقْتَرَحُوهَا أَوْ مُطْلَقًا لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا أَنَّهَا مِنْ عِنْدِ اللهِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى صِدْقِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم فَيَكُونُ إِيمَانُهُمْ بِهَا إِيمَانًا بِهِ أَوْ لَيُؤْمِنُنَّ بِمَا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ بِسَبَبِهَا:(قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللهِ ; أَيْ قُلْ أَيُّهَا الرَّسُولُ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى فَهُوَ وَحْدَهُ الْقَادِرُ عَلَيْهَا وَالْمُتَصَرِّفُ فِيهَا يُعْطِيهَا مَنْ يَشَاءُ وَيَمْنَعُهَا مَنْ يَشَاءُ بِحِكْمَتِهِ، (وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) 13: 38 وَمَشِيئَتِهِ، وَكَمَالُ الْأَدَبِ مَعَهُ تَعَالَى أَنْ يُفَوَّضَ إِلَيْهِ الْأَمْرُ فِي ذَلِكَ. وَتَقَدَّمَ تَحْقِيقُ الْمَسْأَلَةِ فِي أَوَائِلِ تَفْسِيرِ السُّورَةِ.

رَوَى أَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ أَنَّ هَذَا نَزَلَ فِي الْمُسْتَهْزِئِينَ الَّذِينَ سَأَلُوا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم الْآيَةَ، وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ مِثْلَهُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ مُفَصَّلًا، فَذَكَرَ أَنَّهُمْ ذَكَرُوا لَهُ أَخْبَارًا بِعَصَا مُوسَى وَإِحْيَاءِ عِيسَى الْمَوْتَى وَنَاقَةِ ثَمُودَ وَطَلَبُوا مِنْهُ أَنْ يَجْعَلَ لَهُمُ الصَّفَا ذَهَبًا وَأَقْسَمُوا بِاللهِ لَئِنْ فَعَلَ لَيَتِّبِعُنَّهُ أَجْمَعِينَ، فَقَامَ صلى الله عليه وسلم يَدْعُو فَجَاءَهُ جِبْرِيلُ فَخَيَّرَهُ بَيْنَ أَنْ يُصْبِحَ الصَّفَا ذَهَبًا عَلَى أَنْ يُعَذِّبَهُمُ اللهُ إِذَا لَمْ يُؤْمِنُوا - أَيْ عَذَابَ الِاسْتِئْصَالِ حَسَبَ سُنَّتِهِ تَعَالَى كَمَا تَقَدَّمَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ - وَبَيْنَ أَنْ يَتْرُكَهُمْ حَتَّى يَتُوبَ تَائِبُهُمْ فَاخْتَارَ الثَّانِي فَأَنْزَلَ اللهُ فِيهِمْ (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ) حَتَّى (وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ) أَيْ فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الْآيَاتِ فِي ضِمْنِ السُّورَةِ الَّتِي نَزَلَتْ دُفْعَةً وَاحِدَةً، وَتَقَدَّمَ تَحْقِيقُ مِثْلِهِ مِرَارًا.

(مَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ أَيْ إِنَّكُمْ لَيْسَ لَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَسْبَابِ الشُّعُورِ بِهَذَا الْأَمْرِ الْغَيْبِيِّ الَّذِي لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا عَلَّامُ الْغُيُوبِ سبحانه وتعالى، وَهُوَ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ إِنْ جَاءَتِ الْآيَةُ. وَالْخِطَابُ لِلْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَجِيءَ الْآيَةِ لِيُومَنُوا وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَعَهُمْ، وَقِيلَ لَهُمْ وَحْدَهُمْ، وَيُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ رِوَايَةُ دُعَائِهِ بِذَلِكَ، وَرِوَايَةُ طَلَبِهِ الْقَسَمَ مِنْهُمْ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا، وَقَدْ غَفَلَ مَنْ غَفَلَ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ عَنْ كَوْنِ الِاسْتِفْهَامِ إِنْكَارِيًّا نَافِيًا لِشُعُورِهِمْ بِهَذَا الْأَمْرِ الثَّابِتِ عِنْدَهُ تَعَالَى فِي عِلْمِ الْغَيْبِ، فَذَهَبَ إِلَى أَنَّ الْمَعْنَى وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ إِذَا جَاءَتْ؟ فَجَعَلُوا النَّفْيَ لَغْوًا، وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ (أَنَّهَا) بِمَعْنَى لَعَلَّهَا، وَنَقَلُوا هَذَا عَنِ الْخَلِيلِ وَجَاءُوا عَلَيْهِ بِشَوَاهِدَ، هُمْ فِي غِنًى عَنْهُ وَعَنْهَا. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَأَبُو بَكْرٍ بِخِلَافٍ عَنْهُ عَنْ عَاصِمٍ وَيَعْقُوبَ (إِنَّهَا) بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ كَأَنَّهُ قَالَ: وَمَا يُشْعِرُكُمْ مَا يَكُونُ مِنْهُمْ إِذَا

ص: 559

جَاءَتْ؟ وَكَأَنَّهُمْ قَالُوا: مَاذَا يَكُونُ مِنْهُمْ؟ فَأَخْبَرَهُمْ بِذَلِكَ قَائِلًا: أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ (لَا تُؤْمِنُونَ) الْخِطَابُ لِلْمُشْرِكِينَ، وَهُوَ كَسَابِقِهِ الْتِفَاتٌ وَتَلْوِينٌ.

(وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ) هَذَا عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: (لَا يُؤْمِنُونَ) وَبَيَانٌ لِسُنَّةِ اللهِ تَعَالَى فِي عَدَمِ إِيمَانِهِمْ بِرُؤْيَةِ الْآيَةِ. أَيْ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَيْضًا أَنَّنَا نُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ عِنْدَ مَجِيءِ الْآيَةِ بِالْخَوَاطِرِ وَالتَّأْوِيلَاتِ وَالتَّفَكُّرِ فِي اسْتِنْبَاطِ الِاحْتِمَالَاتِ وَأَبْصَارَهُمْ فِي تَوَهُّمِ التَّخَيُّلَاتِ. كَشَأْنِهِمْ فِي عَدَمِ إِيمَانِهِمْ بِمَا جَاءَهُمْ

أَوَّلَ مَرَّةٍ مِنَ الْآيَاتِ، وَقِيلَ الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:(وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ)(15: 14: 15) فَإِنَّ مَنْ لَمْ يُقْنِعْهُ مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ مِنَ الْآيَاتِ الْعَقْلِيَّةِ الْعِلْمِيَّةِ، لَا يُقْنِعُهُ مَا يَرَاهُ بِعَيْنِهِ مِنَ الْآيَاتِ الْحِسِّيَّةِ، بَلْ يَدَّعِي أَنَّ عَيْنَيْهِ خُدِعَتَا أَوْ أُصِيبَتَا بِآفَةٍ فَهِيَ لَا تَرَى إِلَّا صُوَرًا خَيَالِيَّةً، أَوْ أَنَّهُ مِنْ أَعْمَالِ السِّحْرِ الصِّنَاعِيَّةِ، وَهَلْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ، فِي مُكَابَرَةِ آيَاتِ مَنْ بُعِثَ فِيهِمْ مِنَ الْمُرْسَلِينَ؟

(وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ) الْعَمَهُ: التَّرَدُّدُ فِي الْأَمْرِ مِنَ الْحَيْرَةِ فِيهِ، أَيْ وَنَدَعُهُمْ فِي تَجَاوُزِهِمُ الْحُدُودَ فِي الْكُفْرِ وَالْعِصْيَانِ، الْمُشَابِهِ لِطُغْيَانِ الْمَاءِ فِي الطُّوفَانِ، الَّذِي رَسَخُوا فِيهِ فَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ مَا ذُكِرَ مِنْ سُنَّتِنَا فِي تَقْلِيبِ الْقُلُوبِ وَالْأَبْصَارِ، يَتَرَدَّدُونَ مُتَحَيِّرِينَ فِيمَا سَمِعُوا وَرَأَوْا مِنَ الْآيَاتِ، هَلْ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ، أَمِ السَّحَرُ الَّذِي يَخْدَعُ النَّاظِرِينَ؟ وَهَلِ الْأَرْجَحُ اتِّبَاعُ الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ، أَمِ الْمُكَابَرَةُ لَهُ وَالْجِدَالُ فِيهِ كِبْرًا وَأَنَفَةً مِنَ الْخُضُوعِ لِمَنْ يَرَوْنَهُ دُونَهُمْ؟ وَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّ رُسُوخَهُمْ فِي الطُّغْيَانِ الَّذِي هُوَ مُنْتَهَى الْإِسْرَافِ فِي الْكُفْرِ وَالْعِصْيَانِ، وَهُوَ سَبَبُ تَقْلِيبِ الْقُلُوبِ وَالْأَبْصَارِ وَإِنَّمَا إِسْنَادُهُ إِلَى الْخَالِقِ لَهَا لِبَيَانِ سُنَّتِهِ الْحَكِيمَةِ فِيهَا. كَغَيْرِهِ مِنْ رَبْطِ الْمُسَبَّبَاتِ بِأَسْبَابِهَا، وَإِنَّمَا يُخْطِئُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ هَذَا الْأَمْرَ الْوَاقِعَ لِعَدَمِ التَّأَمُّلِ فِيهِ، وَتَوَهَّمَ أَنَّ جَمِيعَ مَا يُسْنَدُ إِلَيْهِ تَعَالَى فَهُوَ مِنَ الْخَلْقِ الْمُسْتَقِلِّ دُونَ نِظَامٍ لِلْمَقَادِيرِ، وَهَى نَزْعَةٌ قَدَرِيَّةٌ دَاخِلَةٌ فِي قَوْلِهِمُ " الْأَمْرُ أُنُفٌ " أَوْ لَا نِظَامَ فِيهِ وَلَا قَدَرَ، يَتْبَعُهُمْ خُصُومُهُمْ فِيهَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ، وَيُوقِعُهُمُ التَّعَصُّبُ لِلْمَذَاهِبِ فِي أَظْهَرِ التَّنَاقُضِ وَهُمْ غَافِلُونَ، فَنَسْأَلُهُ تَعَالَى أَنْ يُثَبِّتَ أَفْئِدَتَنَا وَأَبْصَارَنَا عَلَى الْحَقِّ، وَيَحْفَظَنَا مِنَ الطُّغْيَانِ وَالْعَمَهِ فِي كُلِّ أَمْرٍ، وَيَجْعَلَنَا مِمَّنْ أَبْصَرَ بِمَا جَاءَهُ مِنَ الْبَصَائِرِ، وَيُصْلِحَ لَنَا السَّرَائِرَ وَالظَّوَاهِرَ، اللهُمَّ آمِينَ.

ص: 560