الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فِي شِرَاءِ الرَّاحِ، بِبَذْلِ الْأَنْفُسِ فِي الْكِفَاحِ; لِأَنَّ فِي الْأَوَّلِ سُرُورَ الطَّرَبِ وَفِي الثَّانِي سُرُورَ الظَّفَرِ، وَكَذَا هُنَا أُوثِرُ الضُّرَّ لِمُنَاسَبَتِهِ مَا قَبْلَهُ مِنَ التَّرْهِيبِ، فَإِنَّ انْتِقَامَ الْعَظِيمِ عَظِيمٌ، ثُمَّ لَمَّا ذَكَرَ الْإِحْسَانَ أَتَى بِمَا يَعُمُّ أَنْوَاعَهُ، وَالْآيَةُ مِنْ قَبِيلِ اللَّفِّ وَالنَّشْرِ، فَإِنَّ مَسَّ الضُّرِّ نَاظِرٌ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى:(إِنِّي أَخَافُ) إِلَخْ. وَمَسَّ الْخَيْرِ نَاظِرٌ إِلَى قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: (مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ) إِلَخْ.
(وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ) فَسَّرَ أَهْلُ اللُّغَةِ الْقَهْرَ بِالْغَلَبَةِ وَالْأَخْذِ مِنْ فَوْقٍ وَبِالْإِذْلَالِ، وَقَالَ الرَّاغِبُ: الْقَهْرُ الْغَلَبَةُ وَالتَّذْلِيلُ مَعًا وَيُسْتَعْمَلُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا. وَقَدْ جَاءَتْ هَذِهِ الْآيَةُ بَعْدَ إِثْبَاتِ كَمَالِ الْقُدْرَةِ لِلَّهِ تَعَالَى فِيمَا قَبْلَهَا
تُثْبِتُ لَهُ جَلَّ وَعَلَا كَمَالَ السُّلْطَانِ وَالتَّسْخِيرِ لِجَمِيعِ عِبَادِهِ وَالِاسْتِعْلَاءِ عَلَيْهِمْ مَعَ كَمَالِ الْحِكْمَةِ وَالْعِلْمِ الْمُحِيطِ بِخَفَايَا الْأُمُورِ، لِيُرْشِدَنَا إِلَى أَنَّ مَنِ اتَّخَذَ مِنْهُمْ وَلِيًّا مِنْ دُونِهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا لِإِشْرَاكِهِ وَمُقَارَنَتِهِ بَيْنَ الرَّبِّ الْقَاهِرِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ الْحَكِيمِ الْخَبِيرِ، وَبَيْنَ الْعَبْدِ الْمَرْبُوبِ الْمَقْهُورِ الْمُذَلَّلِ الْمُسَخَّرِ الَّذِي لَا حَوْلَ لَهُ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ. فَإِذَا كَانَ هَكَذَا شَأْنُ الرَّبِّ وَهَذِهِ صِفَاتُهُ فَلَا يَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ بِهِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلِيًّا مِنْ عِبَادِهِ الْمَقْهُورِينَ تَحْتَ سُلْطَانِ عِزَّتِهِ، الْمُذَلَّلِينَ لِسُنَنِهِ الَّتِي اقْتَضَتْهَا حِكْمَتُهُ وَعِلْمُهُ بِتَدْبِيرِ الْأَمْرِ فِي خَلْقِهِ، لِأَنَّ أَفْضَلَ الْمَخْلُوقَاتِ وَأَكْمَلَهُمْ مُسَاوُونَ لِغَيْرِهِمْ فِي الْعُبُودِيَّةِ لِلَّهِ وَالذُّلِّ لَهُ، وَكَوْنِهِمْ لَا حَوْلَ لَهُمْ وَلَا قُوَّةَ بِأَنْفُسِهِمْ، وَلَمْ يَجْعَلْ مِنْ خَصَائِصِ أَحَدٍ مِنْهُمْ أَنْ يُشَارِكَهُ فِي التَّصَرُّفِ فِي خَلْقِهِ وَلَا فِي كَوْنِهِ يُدْعَى مَعَهُ وَلَا وَحْدَهُ لِكَشْفِ ضُرٍّ وَلَا جَلْبِ نَفْعٍ (فَلَا تَدْعُوَا مَعَ اللهِ أَحَدًا) (72:
18)
(بَلِ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ)(6: 41)(قُلِ ادْعُوَا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلَا)(17: 56) إِلَخْ.
وَقَدْ فَسَّرَ ابْنُ جَرِيرٍ الْآيَةَ بِقَوْلِهِ: وَاللهُ الْغَالِبُ عِبَادَهُ الْمُذِلُّ لَهُمُ الْعَالِي عَلَيْهِمْ بِتَذْلِيلِهِ لَهُمْ وَخَلْقِهِ إِيَّاهُمْ فَهُوَ فَوْقَهُمْ بِقَهْرِهِ إِيَّاهُمْ وَهُمْ دُونَهُ، وَهُوَ الْحَكِيمُ فِي عُلُوِّهِ عَلَى عِبَادِهِ وَقَهْرِهِ إِيَّاهُمْ بِقُدْرَتِهِ وَسَائِرِ تَدْبِيرِهِ، الْخَبِيرُ بِمَصَالِحِ الْأَشْيَاءِ وَمَضَارِّهَا، الَّذِي لَا تَخْفَى عَلَيْهِ عَوَاقِبُ الْأُمُورِ وَبِوَادِيهَا، وَلَا يَقَعُ فِي تَدْبِيرِهِ خَلَلٌ، وَلَا يَدْخُلُ حِكْمَتَهُ دَخَلٌ اهـ.
وَذَهَبَتِ الْمُعْتَزِلَةُ وَالْأَشَاعِرَةُ إِلَى أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: (فَوْقَ عِبَادِهِ) تَصْوِيرٌ لِقَهْرِهِ وَعُلُوِّهِ بِالْغَلَبَةِ وَالْقَهْرِ. صَرَّحَ بِذَلِكَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَتَبِعَهُ بَعْضُ الْأَشَاعِرَةِ، كَالْبَيْضَاوِيِّ بِنَقْلِ عِبَارَتِهِ بِنَصِّهَا، وَبَعْضُهُمْ، كَالرَّازِيِّ، بِنَقْلِهَا وَإِطَالَةِ الدَّلَائِلِ النَّظَرِيَّةِ بِإِثْبَاتِ مَضْمُونِهَا، وَمَنْعِ إِرَادَةِ فَوْقِيَّةِ الذَّاتِ وَإِطْلَاقِ صِفَةِ الْعُلُوِّ عَلَى اللهِ، إِذْ جَعَلَ ذَلِكَ قَوْلًا بِتَحَيُّزِ الْبَارِي فِي جِهَةٍ مُعَيَّنَةٍ، وَأَطَالَ فِي سَرْدِ الدَّلَائِلِ النَّظَرِيَّةِ عَلَى اسْتِحَالَةِ ذَلِكَ، وَلَفْظُ الْآيَةِ لَا يَأْبَى مَا فَسَّرَهُ
بِهِ الزَّمَخْشَرِيُّ وَأَمْثَالُهُ، لِأَنَّ لَهُ نَظِيرًا ذَكَرُوهُ فِي تَفْسِيرِهَا وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ فِرْعَوْنَ (وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ 7: 127) وَبَدِيهِيٌّ أَنَّهُ يَعْنِي فَوْقِيَّةَ الْمَكَانَةِ الْمَعْنَوِيَّةِ لَا الْمَكَانَ، وَلَوِ اكْتَفَوْا بِهَذَا لَكَانَ حَسَنًا لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى مَا نُقِلَ عَنْ مُفَسِّرِي السَّلَفِ كَابْنِ جَرِيرٍ، وَلَكِنَّ مِنْهُمْ مَنْ شَنَّعَ عَلَى السِّلْفِ الصَّالِحِينَ وَسَمَّاهُمْ حَشْوِيَّةً لِعَدَمِ تَأْوِيلِهِمُ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثَ الصَّحِيحَةَ النَّاطِقَةَ بِإِثْبَاتِ صِفَةِ الْعُلُوِّ الْمُطْلَقِ لِلَّهِ تَعَالَى،
فَسَلَفُ الْأُمَّةِ يُمِرُّونَ هَذِهِ الْآيَاتِ بِغَيْرِ تَأْوِيلٍ وَيَقُولُونَ: إِنَّ اللهَ مُسْتَوٍ عَلَى عَرْشِهِ فَوْقَ السَّمَاوَاتِ وَفَوْقَ الْعَالَمِ كُلِّهِ لَا فَوْقَ كُلِّ شَخْصٍ وَحْدَهُ، وَهُوَ بِهَذَا بَائِنٌ مِنْ خَلْقِهِ، وَإِنَّهُ مَعَ ذَلِكَ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ، فَلَيْسَ بِمُحَاوِدٍ وَلَا مَحْصُورٍ وَلَا مُتَحَيِّزٍ، فَهَذِهِ اللَّوَازِمُ الَّتِي يَبْنِي عَلَيْهَا الْجَهْمِيَّةُ وَتَلَامِيذُهُمْ تَأْوِيلَ صِفَةِ الْعُلُوِّ مَبْنِيَّةٌ كُلُّهَا عَلَى قِيَاسِ الْخَالِقِ عَلَى الْمَخْلُوقِ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ جَمِيعَ مَا أُطْلِقَ عَلَى اللهِ تَعَالَى مِنَ الصِّفَاتِ حَتَّى الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ فَإِنَّمَا وُضِعَ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ لِصِفَاتِ الْبَشَرِ وَهِيَ مُبَايِنَةٌ لِصِفَاتِ اللهِ تَعَالَى، فَلِمَاذَا يَخُصُّونَ بَعْضَهَا بِالتَّأْوِيلِ دُونَ بَعْضٍ؟ فَالْحَقُّ الَّذِي مَضَى عَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ أَنَّ اللهَ تَعَالَى وُصِفَ بِكُلِّ مَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ وَوَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ صلى الله عليه وسلم وَأَنَّ جَمِيعَ تِلْكَ الصِّفَاتِ تُطْلَقُ عَلَيْهِ مَعَ تَنْزِيهِهِ عَنْ مُشَابَهَةِ مَنْ تُطْلَقُ عَلَيْهِمْ أَلْفَاظُهَا مِنَ الْخَلْقِ، فَعِلْمُ اللهِ وَقُدْرَتُهُ وَكَلَامُهُ وَعُلُوُّهُ وَسَائِرُ صِفَاتِهِ شُئُونٌ تَلِيقُ بِهِ لَا تُشْبِهُ عِلْمَ الْمَخْلُوقِينَ وَقُدْرَتَهُمْ وَكَلَامَهُمْ وَعُلُوَّ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ. وَقَدِ انْتَهَى سُخْفُ بَعْضِ الْمُتَكَلِّمِينَ فِي التَّأْوِيلِ إِلَى جَعْلِ صِفَاتِ الْبَارِي تَعَالَى سَلْبِيَّةً، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَيْءٌ مِنْ هَذَا الْبَحْثِ، وَسَنَعُودُ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى.
ثُمَّ خَتَمَ اللهُ تَعَالَى هَذِهِ الْأَقْوَالَ أَوِ الْأَوَامِرَ الْقَوْلِيَّةَ الْمُبَيِّنَةَ لِحَقِيقَةِ الدِّينِ وَدَلَائِلِهِ بِشَهَادَتِهِ لِرَسُولِهِ وَشَهَادَةِ رَسُولِهِ لَهُ فَقَالَ:
(قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) أَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدٍ أَوْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: " جَاءَ النَّحَّامُ بْنُ زَيْدٍ وَقَرْدَمُ بْنُ كَعْبٍ وَبَحْرِيُّ بْنُ عَمْرٍو مِنَ الْيَهُودِ فَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ مَا نَعْلَمُ مَعَ اللهِ إِلَهًا غَيْرَهُ. فَقَالَ: " لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ بِذَلِكَ بُعِثْتُ وَإِلَى ذَلِكَ أَدْعُو " فَأَنْزَلَ اللهُ فِي قَوْلِهِمْ: (قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً) الْآيَةَ كَذَا فِي لُبَابِ النُّقُولِ. وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ لَا تَصِحُّ، فَفِي سَنَدِهَا مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدٍ مَوْلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ الْحَافِظُ فِي تَهْذِيبِ التَّهْذِيبِ: مَدَنِيٌّ مَجْهُولٌ تَفَرَّدَ عَنْهُ ابْنُ إِسْحَاقَ اهـ. وَابْنُ جَرِيرٍ رَوَاهُ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ إِسْحَاقَ وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ السُّورَةَ نَزَلَتْ بِمَكَّةَ دُفْعَةً وَاحِدَةً إِلَّا مَا اسْتُثْنِيَ، وَلَيْسَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مِنْهُ.
وَأَمَّا مَعْنَى الْآيَةِ فَهُوَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى أَمَرَ رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَسْأَلَ كُفَّارَ قُرَيْشٍ: أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً وَأَعْظَمُهَا وَأَجْدَرُ بِأَنْ تَكُونَ أَصَحَّهَا وَأَصْدَقَهَا؟ ثُمَّ أَمَرَهُ بِأَنْ
يُجِيبَ هُوَ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ بِأَنَّ أَكْبَرَ الْأَشْيَاءِ شَهَادَةُ الَّذِي لَا يَجُوزُ أَنْ يَقَعَ فِي
شَهَادَتِهِ كَذِبٌ وَلَا زُورٌ وَلَا خَطَأٌ هُوَ اللهُ تَعَالَى وَهُوَ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ، وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ مِنْ لَدُنْهُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ عِقَابَهُ عَلَى تَكْذِيبِي بِمَا جِئْتُ بِهِ مُؤَيَّدًا بِشَهَادَتِهِ سُبْحَانَهُ، وَأُنْذِرَ مَنْ بَلَغَهُ هَذَا الْقُرْآنُ إِذْ كُلُّ مَنْ بَلَغَهُ فَهُوَ مَدْعُوٌّ إِلَى اتِّبَاعِهِ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ.
شَهَادَةُ الشَّيْءِ حُضُورُهُ وَمُشَاهَدَتُهُ، وَالشَّهَادَةُ بِهِ الْإِخْبَارُ بِهِ عَنْ عِلْمٍ وَمَعْرِفَةٍ وَاعْتِقَادٍ مَبْنِيٍّ عَلَى الْمُشَاهَدَةِ بِالْبَصَرِ أَوِ الْبَصِيرَةِ، أَيِ الْعَقْلِ وَالْوِجْدَانِ، وَمِنْهُ الشَّهَادَةُ بِالتَّوْحِيدِ وَإِثْبَاتُ الشَّيْءِ بِالدَّلِيلِ وَالْبُرْهَانِ شَهَادَةٌ بِهِ، وَشَهَادَةُ اللهِ بَيْنَ الرَّسُولِ وَبَيْنَ قَوْمِهِ قِسْمَانِ: شَهَادَتُهُ سُبْحَانَهُ بِرِسَالَةِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم وَشَهَادَتُهُ بِمَا جَاءَ بِهِ. وَشَهَادَتُهُ عز وجل بِرِسَالَةِ رَسُولِهِ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ:
(النَّوْعُ الْأَوَّلُ) إِخْبَارُهُ بِهَا فِي كِتَابِهِ بِمِثْلِ قَوْلِهِ: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ 48: 29)(إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا)(قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا 7: 158)(وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا 34: 28)(وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ 21: 107) فَهَذِهِ شَهَادَاتٌ وَرَدَتْ بِغَيْرِ لَفْظِ الشَّهَادَةِ وَهُوَ غَيْرُ شَرْطٍ فِي صِحَّتِهَا خِلَافًا لِبَعْضِ الْفُقَهَاءِ، وَلَا يَقْتَضِي التَّلَفُّظُ بِهِ حَقِيقَتَهَا، فَقَدْ حَكَى الله عَنْ إِخْوَةِ يُوسُفَ أَنَّهُمْ:(قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا 12: 81) وَهُمْ لَمْ يَقُولُوا: نَشْهَدُ أَنَّ ابْنَكَ سَرَقَ. وَقَدْ سَمَّوْا قَوْلَهُمْ شَهَادَةً لِأَنَّهُ عَنْ عِلْمٍ بِمَا ثَبَتَ عَلَيْهِ عِنْدَ عَزِيزِ مِصْرَ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الْإِثْبَاتُ مَصْنُوعًا، وَقَالَ تَعَالَى:(إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ 63: 1) فَإِنَّهُمْ صَرَّحُوا بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ، وَلَمَّا كَانُوا غَيْرَ مُؤْمِنِينَ بِهَا شَهِدَ اللهُ تَعَالَى بِكَذِبِهِمْ فِيهَا، وَقَالَ تَعَالَى قَوْلَهُ تَعَالَى:(وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفَى بِاللهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ 13: 43) وَهِيَ بِمَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ الَّتِي نُفَسِّرُهَا.
(النَّوْعُ الثَّانِي مِنْ شَهَادَةِ اللهِ تَعَالَى لِرَسُولِهِ) تَأْيِيدُهُ بِالْآيَاتِ الْكَثِيرَةِ وَأَعْظَمُهَا الْقُرْآنُ وَهُوَ الْآيَةُ الْعِلْمِيَّةُ الْعَقْلِيَّةُ الدَّائِمَةُ بِمَا ثَبَتَ بِالْفِعْلِ مِنْ عَجْزِ الْبَشَرِ عَنِ الْإِتْيَانِ بِسُورَةٍ مِنْ مَثَلِهِ وَبِمَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مِنَ الْآيَاتِ الْكَثِيرَةِ كَأَخْبَارِ الْغَيْبِ وَوَعْدِ الرَّسُولِ وَالْمُؤْمِنِينَ بِنَصْرِهِ تَعَالَى لَهُمْ وَإِظْهَارِهِمْ عَلَى أَعْدَائِهِمْ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا ثَبَتَ بِالْفِعْلِ عِنْدَ أَهْلِ عَصْرِهِ وَنُقِلَ إِلَيْنَا بِالتَّوَاتُرِ وَمِنْهَا غَيْرُ الْقُرْآنِ مِنَ الْآيَاتِ الْحِسِّيَّةِ وَالْأَخْبَارِ النَّبَوِيَّةِ
بِالْغَيْبِ الَّتِي ظَهَرَ بَعْضُهَا فِي زَمَنِهِ وَبَعْضُهَا بَعْدَ زَمَنِهِ عَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ، كَقَوْلِهِ فِي سِبْطِهِ الْحَسَنِ وَهُوَ طِفْلٌ "
ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ، وَلَعَلَّ اللهُ يُصْلِحُ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ " وَقَوْلُهُ فِي عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ " تَقْتُلُهُ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ " وَقَوْلُهُ " صِنْفَانِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ لَمْ أَرَهُمَا بَعْدُ. قَوْمٌ مَعَهُمْ سِيَاطٌ كَأَذْنَابِ الْبَقَرِ يَضْرِبُونَ بِهَا النَّاسَ وَنِسَاءٌ كَاسِيَاتٌ عَارِيَاتٌ مَائِلَاتٌ مُمِيلَاتٌ رُءُوسُهُنَّ كَأَسْنِمَةِ الْبُخْتِ " الْحَدِيثَ وَكُلُّهَا صَحِيحَةٌ.
(النَّوْعُ الثَّالِثُ مِنْ شَهَادَتِهِ لِرَسُولِهِ) شَهَادَةُ كُتُبِهِ السَّابِقَةِ لَهُ وَبِشَارَةُ الرُّسُلِ الْأَوَّلِينَ بِهِ، وَلَا تَزَالُ هَذِهِ الشَّهَادَاتُ وَالْبَشَائِرُ ظَاهِرَةً فِيمَا بَقِيَ عِنْدَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى مِنْ تِلْكَ الْكُتُبِ وَتَوَارِيخِ أُولَئِكَ الرُّسُلِ عليهم السلام عَلَى مَا طَرَأَ عَلَيْهَا مِنَ التَّحْرِيفِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ السُّورَةِ السَّابِقَةِ وَلَا سِيَّمَا الْمَائِدَةُ، وَلَا تَنْسَ هُنَا أَخْذَهُ تَعَالَى الْعَهْدَ عَلَى الرُّسُلِ وَقَوْلَهُ لَهُمْ:(أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ)(3: 81)[رَاجِعْ ص 290 ج 3 ط الْهَيْئَةِ] .
وَأَمَّا شَهَادَتُهُ تَعَالَى لِمَا جَاءَ بِهِ رَسُولُهُ مِنَ التَّوْحِيدِ وَالْبَعْثِ وَهُوَ مَا كَانُوا يُنْكِرُونَهُ دُونَ الْآدَابِ وَالْفَضَائِلِ وَالْأَحْكَامِ الْعَمَلِيَّةِ فَهُوَ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ:
(أَحَدُهَا) شَهَادَةُ كِتَابِهِ مُعْجِزَةِ الْخَلْقِ بِذَلِكَ كَقَوْلِهِ: (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلَامُ 3: 18، 19) وَقَوْلِهِ: (زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ 64: 7) .
(ثَانِيهَا) مَا أَقَامَهُ مِنَ الْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ فِي الْأَنْفُسِ وَالْآفَاقِ عَلَى تَوْحِيدِهِ وَاتِّصَافِهِ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ وَفِي بَيَانِ ذَلِكَ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ مَا لَيْسَ فِي غَيْرِهَا.
(ثَالِثُهَا) مَا أَوْدَعَهُ جَلَّ شَأْنُهُ فِي الْفِطْرَةِ الْبَشَرِيَّةِ مِنَ الْإِيمَانِ الْفِطْرِيِّ بِالْأُلُوهِيَّةِ وَبَقَاءِ النَّفْسِ، وَمَا هَدَى إِلَيْهِ الْعُقُولَ السَّلِيمَةَ مِنْ تَأْيِيدِ هَذَا الشُّعُورِ الْفِطْرِيِّ بِالدَّلَائِلِ وَالْبَرَاهِينِ وَلَعَلَّنَا نَشْرَحُ مَعْنَى الْإِيمَانِ الْفِطْرِيِّ الَّذِي بَيَّنَّاهُ مِنْ قَبْلُ بَيَانًا مُوجَزًا فِي تَفْسِيرِ آيَةِ الْعَهْدِ الْإِلَهِيِّ الَّذِي أَخَذَهُ عَلَى بَنِي آدَمَ وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ 7: 172) الْآيَةَ.
عُلِمَ مِمَّا بَيَّنَّاهُ أَنَّ شَهَادَتَهُ تَعَالَى هِيَ شَهَادَةُ آيَاتِهِ فِي الْقُرْآنِ وَآيَاتِهِ فِي الْأَكْوَانِ، وَآيَاتِهِ فِي الْعَقْلِ وَالْوِجْدَانِ اللَّذَيْنِ أَوْدَعَهُمَا فِي نَفْسِ الْإِنْسَانِ، وَهَذِهِ الْآيَاتُ قَدْ
بَيَّنَهَا الْقُرْآنُ وَأَرْشَدَ إِلَيْهَا فَهُوَ الدَّعْوَى وَالْبَيِّنَةُ، وَالشَّاهِدُ الْمَشْهُودُ لَهُ، وَكَفَى بِهِ ظُهُورًا بِالْحَقِّ وَإِظْهَارًا لَهُ أَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إِلَى شَهَادَةِ غَيْرِهِ لَهُ. عَلَى أَنَّ الشُّهُودَ وَالْأَدِلَّةَ عَلَى حَقِيقَتِهِ كَثِيرَةٌ، وَجُمْلَةُ " وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ " مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ " اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ " مُصَدَّرَةً بِالْفِعْلِ الْمَبْنِيِّ لِلْمَفْعُولِ.
لِأَنَّ الْمُرَادَ بِنَصِّهَا بَيَانُ أَنَّ الْقُرْآنَ هُوَ مَوْضُوعُ الدَّعْوَةِ وَالرِّسَالَةِ الْمَقْصُودُ مِنْهَا بِالذَّاتِ، وَتَدُلُّ بِمَوْضِعِهَا دَلَالَةَ إِيمَاءٍ عَلَى أَنَّهُ أَعْظَمُ شَهَادَةً لِلَّهِ تَعَالَى.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ) نَصٌّ عَلَى عُمُومِ بَعْثَةِ خَاتَمِ الرُّسُلِ عَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ، أَيْ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ يَا أَهْلَ مَكَّةَ أَوْ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ أَوِ الْعَرَبِ وَجَمِيعَ مَنْ بَلَغَهُ وَوَصَلَتْ إِلَيْهِ دَعْوَتُهُ مِنَ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ فِي كُلِّ مَكَانٍ وَزَمَانٍ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ أَحْكَامَ الْقُرْآنِ تَعُمُّ الْمَوْجُودِينَ وَقْتَ نُزُولِهِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ وَأَنَّهُ لَا يُؤَاخَذُ بِهَا مَنْ لَمْ تَبْلُغْهُ اهـ. يَعْنِي أَنَّ الْعِبْرَةَ فِي دَعْوَةِ الْإِسْلَامِ بِالْقُرْآنِ، فَمَنْ لَمْ يَبْلُغْهُ الْقُرْآنُ لَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ بَلَغَتْهُ الدَّعْوَةُ، وَحِينَئِذٍ لَا يَكُونُ مُخَاطَبًا بِهَذَا الدِّينِ، وَمَفْهُومُهُ أَنَّ الْحُجَّةَ لَا تَقُومُ بِتَبْلِيغِ دَعْوَةِ الْإِسْلَامِ بِالْقَوَاعِدِ الْكَلَامِيَّةِ وَالدَّلَائِلِ النَّظَرِيَّةِ الَّتِي بُنِيَ عَلَيْهَا ذَلِكَ الْعِلْمُ، أَيْ إِلَّا أَنْ يَنُصَّ فِيهَا عَلَى أُصُولِهِ وَأَحْكَامِهِ، وَإِنَّنَا نَرَى الْمُسْلِمِينَ قَدْ تَرَكُوا دَعْوَةَ الْقُرْآنِ وَتَبْلِيغَهُ بَعْدَ السَّلَفِ الصَّالِحِ، وَتَرَكُوا الْعِلْمَ بِهِ، وَبِمَا بَيَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ إِلَى تَقْلِيدِ الْمُتَكَلِّمِينَ وَالْفُقَهَاءِ، وَالْقُرْآنُ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ وَإِنْ جَعَلُوا أَنْفُسَهُمْ غَيْرَ أَهْلٍ لِلْحُجَّةِ.
وَمِمَّا رُوِيَ فِي الْآيَةِ مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَأَبُو نُعَيْمٍ وَالْخَطِيبُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا قَالَ " مَنْ بَلَغَهُ الْقُرْآنُ فَكَأَنَّمَا شَافَهْتُهُ بِهِ ثُمَّ قَرَأَ (وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ) وَذَلِكَ أَنَّ الْقُرْآنَ لَمَّا كَانَ مُتَوَاتِرًا بِلَفْظِهِ وَمَعْنَاهُ كَانَ مَنْ بَلَغَهُ بَعْدَهُ صلى الله عليه وسلم كَمَنْ سَمِعَهُ مِنْهُ وَإِنْ كَثُرَتِ الْوَسَائِطُ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي بَلَّغَهُ بِلَا زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ. وَلَيْسَ لِلْأَحَادِيثِ الْمَرْوِيِّ كَثِيرُهَا بِالْمَعْنَى هَذِهِ الْمَزِيَّةُ فَهِيَ مَوْضِعُ اجْتِهَادٍ. وَأَخْرَجَ أَبْنَاءُ أَبِي شَيْبَةَ وَالضُّرَيْسُ وَجَرِيرٌ وَالْمُنْذِرُ وَأَبُو حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ فِي الْآيَةِ قَالَ مَنْ بَلَغَهُ الْقُرْآنُ فَكَأَنَّمَا رَأَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَفِي لَفْظٍ: مَنْ بَلَغَهُ الْقُرْآنُ حَتَّى يَفْهَمَهُ وَيَعْقِلَهُ كَانَ كَمَنْ عَايَنَ
النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَكَلَّمَهُ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: أُتِيَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِأُسَارَى فَقَالَ لَهُمْ: " هَلْ دُعِيتُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ؟ " قَالُوا: لَا. فَخَلَّى سَبِيلَهُمْ ثُمَّ قَرَأَ (وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ) ثُمَّ قَالَ " خَلُّوا سَبِيلَهُمْ حَتَّى يَأْتُوا مَأْمَنَهُمْ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُمْ لَمْ يُدْعَوْا ".
ثُمَّ أَمَرَ اللهُ تَعَالَى رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم بِالشَّهَادَةِ لَهُ بِالْوَحْدَانِيَّةِ الَّتِي جَحَدَهَا الْمُشْرِكُونَ وَبِالْبَرَاءَةِ مِنْ قَوْلِهِمْ وَشَهَادَتِهِمْ بِالشِّرْكِ فَقَالَ (أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ) قَالُوا: إِنَّ الِاسْتِفْهَامَ هُنَا لِلتَّقْرِيرِ مَعَ الْإِنْكَارِ وَالِاسْتِبْعَادِ، وَقَدْ أَمَرَهُ تَعَالَى أَنْ يُجِيبَ بِأَنَّهُ لَا يَشْهَدُ كَمَا يَشْهَدُونَ ثُمَّ أَمَرَهُ أَمْرًا آخَرَ بِأَنْ يَشْهَدَ بِنَقِيضِ مَا يَزْعُمُونَ وَيَتَبَرَّأُ مِنْهُ وَهُوَ أَنْ يُصَرِّحَ بِأَنَّ الْإِلَهَ لَا يَكُونُ إِلَّا وَاحِدًا، وَيَتَبَرَّأَ مِمَّا يُشْرِكُونَ بِهِ مِنَ الْأَصْنَامِ وَغَيْرِهَا أَوْ مِنْ إِشْرَاكِهِمْ مَهْمَا يَكُنْ
مَوْضُوعُهُ، وَإِنَّمَا قَالَ:(قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ) فَأَعَادَ الْأَمْرَ وَلَمْ يَعْطِفِ الْمَأْمُورَ بِهِ عَلَى مَا قَبْلَهُ لِإِفَادَةِ أَنَّ الْإِقْرَارَ بِالْوَحْدَانِيَّةِ مَقْصُودٌ بِذَاتِهِ لَا يُغْنِي عَنْهُ نَفْيُ الشَّهَادَةِ بِالشِّرْكِ.
(الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ) .
رُوِيَ أَنَّ قُرَيْشًا أَرْسَلَتْ إِلَى الْمَدِينَةِ مَنْ سَأَلَ الْيَهُودَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَرَجَعُوا إِلَى مَكَّةَ فَزَعَمُوا أَنَّ الْيَهُودَ قَالُوا لَيْسَ لَهُ عِنْدَنَا ذِكْرٌ، فَلَمَّا صَارَ لَهُمْ عَهْدٌ بِالْيَهُودِ كَانَ مِمَّا
رَدَّ اللهُ تَعَالَى بِهِ عَلَيْهِمْ فِي هَذِهِ السُّورَةِ قَوْلُهُ بَعْدَ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْحُجَجِ: (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ) أَيْ يَعْرِفُونَ مُحَمَّدًا النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ خَاتَمَ الرُّسُلِ صلى الله عليه وسلم كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ لِأَنَّ نَعْتَهُ فِي كُتُبِهِمْ وَاضِحٌ ظَاهِرٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ نَصُّ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ كَآيَاتٍ أُخْرَى فِي مَعْنَاهَا وَبَيَّنَّا فِي تَفْسِيرِهَا مَا يُؤَيِّدُهَا مِنْ شَوَاهِدِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ. ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى عِلَّةَ إِنْكَارِ الْمُكَابِرِينَ مِنْهُمْ لِمَا يَعْرِفُونَهُ مِنْ أَمْرِ نُبُوَّتِهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ:(الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ) قِيلَ: إِنَّ " الَّذِينَ " هُنَا بَيَانٌ لِلَّذِينِ الْأُولَى أَوْ بَدَلٌ مِنْهَا وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُبْتَدَأً، أَيِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ مِنْهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ بَلْ يَكْفُرُونَ كِبْرًا وَعِنَادًا فَهُمْ لِذَلِكَ يُنْكِرُونَ مَا يَعْرِفُونَ. وَقَدْ بَيَّنَّا قَرِيبًا مَعْنَى هَذِهِ الْجُمْلَةِ إِذْ وَرَدَتْ بِنَصِّهَا فِي الْآيَةِ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ (ص 327) وَمَوْقِعُهَا هُنَا أَنَّ عِلَّةَ إِنْكَارِ مَنْ أَنْكَرَ نُبُوَّةَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم مِنْ عُلَمَاءِ الْيَهُودِ كَعِلَّةِ إِنْكَارِ مَنْ أَنْكَرَهَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ بَعْدَ ظُهُورِ آيَاتِهَا وَأَنْكَرَ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهَا وَأَظْهَرُ وَهُوَ وَحْدَانِيَّةُ اللهِ تَعَالَى، وَهِيَ أَنَّهُمْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ يُؤْثِرُونَ مَا لَهُمْ مِنَ الْجَاهِ وَالْمَكَانَةِ وَالرِّيَاسَةِ فِي قَوْمِهِمْ عَلَى الْإِيمَانِ بِالرَّسُولِ النَّبِيِّ
الْأُمِّيِّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ، لِعِلْمِهِمْ بِأَنَّ هَذَا الْإِيمَانَ يَسْلُبُهُمْ تِلْكَ الرِّيَاسَةَ وَيَجْعَلُهُمْ مُسَاوِينَ لِسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ فِي جَمِيعِ الْأَحْكَامِ، وَكَذَلِكَ كَانَ بَعْضُ رُؤَسَاءِ قُرَيْشٍ يَعِزُّ عَلَيْهِ أَنْ يُؤْمِنَ فَيَكُونَ مَرْءُوسًا وَتَابِعًا (لِيَتِيمِ أَبِي طَالِبٍ) فَكَيْفَ وَهُوَ يَكُونُ بَعْدَ ذَلِكَ مُسَاوِيًا لِبِلَالٍ الْحَبَشِيِّ وَصُهَيْبٍ الرُّومِيِّ وَغَيْرِهِمْ مِنْ فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ فَخُسْرَانُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ نَزَلَتْ فِيهِمْ هَذِهِ الْآيَةُ لِأَنْفُسِهِمْ هُوَ مِنْ قَبِيلِ ضَعْفِ الْإِرَادَةِ لَا مِنْ نَوْعِ فَقْدِ الْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى أَخْبَرَ أَنَّهُمْ عَلَى مَعْرِفَةٍ صَحِيحَةٍ فِي هَذَا الْبَابِ. وَرُوِيَ أَنَّ خُسْرَانَ النَّفْسِ هُنَا عِبَارَةٌ عَنْ خُسْرَانِهَا فِي الْآخِرَةِ فَقَطْ بِخُسْرَانِ أَمْكِنَتِهِمُ الَّتِي كَانَتْ مُعَدَّةً لَهُمْ فِي الْجَنَّةِ لَوْ آمَنُوا بِالرَّسُولِ وَإِعْطَائِهَا لِلْمُؤْمِنِينَ، وَلَمَّا كَانَ هَذَا الْخُسْرَانُ أَعْظَمَ ظُلْمٍ ظَلَمَ بِهِ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارُ أَنْفُسَهُمْ قَالَ تَعَالَى فِيهِمْ:
(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ) أَيْ لَا أَحَدَ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا كَزَعْمِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ لَهُ وَلَدًا أَوْ شَرِيكًا، أَوْ أَنَّ غَيْرَهُ يُدْعَى مَعَهُ أَوْ مِنْ دُونِهِ وَيُتَّخَذُ وَلِيًّا لَهُ يُقَرِّبُ النَّاسَ إِلَيْهِ زُلْفَى وَيَشْفَعُ لَهُمْ عِنْدَهُ، أَوْ زَادَ فِي دِينِهِ
مَا لَيْسَ مِنْهُ أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ الْمُنَزَّلَةِ كَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ، أَوْ آيَاتِهِ الْكَوْنِيَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ أَوِ الَّتِي يُؤَيِّدُ بِهَا رُسُلَهُ، وَإِذَا كَانَ كُلٌّ مِنْ هَذَا التَّكْذِيبِ وَذَلِكَ الْكَذِبِ وَالِافْتِرَاءِ يُعَدُّ وَحْدَهُ غَايَةً فِي الظُّلْمِ وَيُطْلَقُ عَلَى صَاحِبِهِ اسْمُ التَّفْضِيلِ فِيهِ فَكَيْفَ يَكُونُ حَالُ مَنْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا فَكَذَبَ عَلَى اللهِ وَكَذَّبَ بِآيَاتِهِ الْمُثْبِتَةِ لِلتَّوْحِيدِ وَالْمُثْبِتَةِ لِلرِّسَالَةِ؟
ثُمَّ بَيَّنَ سُوءَ عَاقِبَةِ الظَّالِمِينَ فَقَالَ: (إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) هَذَا اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ وَقَعَ مَوْقِعَ جَوَابِ السُّؤَالِ، أَيِ الْحَالُ وَالشَّأْنُ أَنَّ الظَّالِمِينَ عَامَّةً لَا يَفُوزُونَ فِي عَاقِبَةِ أَمْرِهِمْ يَوْمَ الْحِسَابِ وَالْجَزَاءِ بِالنَّجَاةِ مِنْ عَذَابِ اللهِ تَعَالَى، وَلَا بِنَعِيمِ الْجَنَّةِ مَهْمَا يَكُنْ نَوْعُ ظُلْمِهِمْ فَكَيْفَ تَكُونُ عَاقِبَةُ مَنْ وُصِفَ بِأَنَّهُ لَا أَحَدَ أَظْلَمُ مِنْهُ لِافْتِرَائِهِ عَلَى اللهِ تَعَالَى أَوْ لِتَكْذِيبِهِ بِآيَاتِهِ أَوْ عَاقِبَةُ مَنْ جَمَعَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ فَكَانَ أَظْلَمَ الظَّالِمِينَ؟
الْآيَةُ نَزَلَتْ فِي الْكَافِرِينَ، فَلِهَذَا يَغْفُلُ النَّاسُ عَنْ صِدْقِهَا عَلَى مَنْ كَذَبَ عَلَى اللهِ تَعَالَى وَهُوَ يُسَمِّي نَفْسَهُ أَوْ يُسَمِّيهِ النَّاسُ مُؤْمِنًا أَوْ مُسْلِمًا، كَأَنْ يَقُولَ بِقَوْلِ أُولَئِكَ الْمُشْرِكِينَ فَيَتَّخِذَ غَيْرَ اللهِ وَلِيًّا وَيَدْعُوهُ لِيَشْفَعَ عِنْدَهُ، أَوْ يَزِيدَ فِي دِينِ اللهِ بِرَأْيهِ فَيَقُولُ: هَذَا وَاجِبٌ وَهَذَا حَلَالٌ، وَهَذَا حَرَامٌ فِيمَا لَمْ يُنَزِّلِ اللهُ بِهِ وَحْيًّا وَلَا كَانَ مِمَّا بَلَّغَهُ رَسُولُهُ صلى الله عليه وسلم مِنْ دِينِهِ.
ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى مَا فِي نَفْيِ الْفَلَاحِ مِنَ الْإِجْمَالِ فَقَالَ: (وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) أَيْ وَاذْكُرْ لَهُمْ أَيُّهَا الرَّسُولُ يَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا عَلَى اخْتِلَافِ دَرَجَاتِهِمْ فِي ظُلْمِ أَنْفُسِهِمْ بِأَنْوَاعِهِ وَظُلْمِ غَيْرِهَا بِأَنْوَاعِهِ، ثُمَّ نَقُولُ
لِلَّذِينِ أَشْرَكُوا مِنْهُمْ وَهُمْ أَشَدُّهُمْ ظُلْمًا أَيْنَ الشُّرَكَاءُ الَّذِينَ كَانُوا يُضَافُونَ إِلَيْكُمْ لِاتَّخَاذِكُمْ إِيَّاهُمْ أَوْلِيَاءَ فِيكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ فِي الدُّنْيَا أَنَّهُمْ شُرَكَاءُ لِلَّهِ يُدْعَوْنَ وَيُسْتَعَانُونَ كَمَا يُدْعَى وَيُسْتَعَانُ، وَأَنَّهُمْ يُقَرِّبُونَكُمْ إِلَى اللهِ زُلْفَى وَيَشْفَعُونَ لَكُمْ عِنْدَهُ؟ فَأَيْنَ ضَلُّوا عَنْكُمْ فَلَا يُرَوْنَ مَعَكُمْ؟ كَمَا قَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى:(وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ 6: 94) وَقَدْ قَرَأَ يَعْقُوبُ (يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ) بِالْيَاءِ وَالْمَعْنَى ظَاهِرٌ وَالِاسْتِفْهَامُ لِلتَّوْبِيخِ وَالِاحْتِجَاجِ. .
(ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ) قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ
عَامِرٍ وَحَفْصٌ " لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ " بِالتَّاءِ وَالرَّفْعِ، وَنَافِعٌ وَأَبُو عَمْرٍو وَأَبُو بَكْرٍ عَنْهُ بِالتَّاءِ وَالنَّصْبِ وَالْبَاقُونَ " لَمْ يَكُنْ فِتْنَتُهُمْ " بِالتَّاءِ وَالرَّفْعِ، وَنَافِعٌ وَأَبُو عَمْرٍو وَأَبُو بَكْرٍ عَنْهُ بِالتَّاءِ وَالنُّصْبِ وَالْبَاقُونَ " لَمْ يَكُنْ فِتْنَتَهُمْ " بِالْيَاءِ وَالنَّصْبِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ هَذِهِ الْقِرَاءَاتِ فِي الْمَعْنَى، فَإِنَّ بَعْضَهَا يُقَدِّمُ اسْمَ تَكُنْ عَلَيْهَا وَبَعْضَهَا يُؤَخِّرُهُ، وَبَعْضَهُمْ يُذَكِّرُ الْفِعْلَ وَبَعْضَهُمْ يُؤَنِّثُهُ، وَكُلُّ ذَلِكَ جَائِزٌ فِي الْعَرَبِيَّةِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ " رَبَّنَا " بِالْفَتْحِ عَلَى النِّدَاءِ أَيْ يَا رَبَّنَا. وَالْبَاقُونَ بِالْجَرِّ عَلَى الصِّفَةِ. وَالْفِتْنَةُ الِاخْتِبَارُ، وَفُسِّرَتْ هُنَا بِالْقَوْلَةِ وَالْكَلَامِ وَالْجَوَابِ وَبِالشِّرْكِ وَقَدَّرَ بَعْضُهُمْ مُضَافًا مَحْذُوفًا فَقَالَ: إِنَّ الْمَعْنَى ثُمَّ لَمْ تَكُنْ عَاقِبَةُ هَذَا الِاخْتِبَارِ أَوِ الشِّرْكِ إِلَّا إِقْسَامَهُمْ بِاللهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنَّهُمْ مَا كَانُوا مُشْرِكِينَ.
ظَاهِرُ الْآيَةِ أَنَّهُمْ يُنْكِرُونَ فِي بَعْضِ مَوَاقِفِ الْحَشْرِ شِرْكَهُمْ بِاللهِ تَوَهُّمًا مِنْهُمْ أَنَّ ذَلِكَ يَنْفَعُهُمْ، وَلَكِنَّهُمْ يَعْتَرِفُونَ بِهِ فِي بَعْضِهَا كَمَا يُعْلَمُ مِنْ آيَاتٍ أُخْرَى، وَاسْتَشْكَلَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ هَذَا الْمَعْنَى، وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ الْإِنْكَارَ فِي الْقِيَامَةِ مُتَعَذِّرٌ، وَبِأَنَّ اعْتِرَافَهُمْ بِالشِّرْكِ ثَابِتٌ فِي بَعْضِ الْآيَاتِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْهُمْ:(هَؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ)(16: 86) وَقَوْلِهِ: (وَلَا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثًا)(4: 42) ورُوِيَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ سُئِلَ عَنِ الْآيَةِ وَعَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: (ولا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثًا) فَقَالَ: أَمَّا قَوْلُهُ: (وَاللهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ) فَخَتَمَ اللهُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتَكَلَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ (وَلَا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثًا) وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ الْمَعْنَى مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ فِي اعْتِقَادِنَا لِأَنَّنَا مَا كُنَّا نَدْعُو غَيْرَكَ اسْتِقْلَالًا بَلْ تَوَسُّلًا إِلَيْكَ، لِيَكُونَ مَنْ نَدْعُوهُمْ شُفَعَاءَ لَنَا عِنْدَكَ يُقَرِّبُونَنَا إِلَيْكَ زُلْفَى، لِأَنَّنَا كُنَّا نَسْتَصْغِرُ أَنْفُسَنَا أَنْ تَتَسَامَى إِلَى دُعَائِكَ كِفَاحًا بِلَا وَاسِطَةٍ وَمَا هَذَا إِلَّا تَعْظِيمٌ لَكَ. وَقَدْ أَوْرَدَ عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ أَنَّهُ لَا يَلْتَئِمُ مَعَ قَوْلِهِ بَعْدَ هَذِهِ الْحِكَايَةِ عَنْهُمْ:(انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ) وَأُجِيبُ عَنِ الْإِيرَادِ بِأَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُمْ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ فِي دَارِ الدُّنْيَا بِزَعْمِهِمْ أَنَّهُمُ اتَّخَذُوا شُفَعَاءَ يَشْفَعُونَ لَهُمْ عِنْدَ اللهِ وَأَنَّ هَذَا تَعْظِيمٌ لِلَّهِ
لَا كُفْرٌ بِهِ، وَيَرُدُّ هَذَا الْقَوْلَ تَصْرِيحُ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ بِأَنَّ مَا كَانُوا عَلَيْهِ شِرْكٌ وَلَكِنَّ بَعْضَهُمْ كَانَ يَرَى أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ لِأَنَّهُ بِمَشِيئَةِ اللهِ، وَهَؤُلَاءِ كَجَبْرِيَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَقَدْ أَنْكَرَ الْقُرْآنُ عَلَيْهِمْ هَذِهِ الشُّبْهَةَ فِي قَوْلِهِ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللهُ مَا أَشْرَكْنَا)(148) إِلَخْ. نَعَمْ إِنَّ كَثِيرًا مِمَّنْ
يُسَمُّونَ مُسْلِمِينَ يَدْعُونَ غَيْرَ اللهِ تَعَالَى حَتَّى فِي حَالِ الشِّدَّةِ وَالضِّيقِ الَّتِي كَانَ مُشْرِكُو الْعَرَبِ يُخْلِصُونَ فِيهَا الدُّعَاءَ لِلَّهِ تَعَالَى، وَلَكِنَّهُمْ لَا يُسَمُّونَ هَذَا شِرْكًا كَمَا كَانَ يُسَمِّيهِ الْمُشْرِكُونَ، بَلْ يُسَمُّونَهُ تَوَسُّلًا أَوِ اسْتِشْفَاعًا أَوْ وَسَاطَةً.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى هُنَا: (انْظُرْ) مِنَ النَّظَرِ الْعَقْلِيِّ، وَكَذِبُ الْكَفَّارِ فِي الْآخِرَةِ ثَابِتٌ بِمِثْلِ قَوْلِهِ تَعَالَى:(يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ 58: 18) .
قَالَ الزَّجَّاجُ: تَأْوِيلُ هَذِهِ الْآيَةِ حَسَنٌ فِي اللُّغَةِ لَا يَعْرِفُهُ إِلَّا مَنْ وَقَفَ عَلَى مَعَانِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ كَوْنَ الْمُشْرِكِينَ مَفْتُونِينَ بِشِرْكِهِمْ مُتَهَالِكِينَ فِي حُبِّهِ، فَذَكَرَ أَنَّ عَاقِبَةَ كُفْرِهِمُ الَّذِي لَزِمُوهُ أَعْمَارَهُمْ وَقَاتَلُوا عَلَيْهِ وَافْتَخَرُوا بِهِ وَقَالُوا إِنَّهُ دِينُ آبَائِنَا لَمْ تَكُنْ إِلَّا الْجُحُودَ وَالتَّبَرُّؤَ مِنْهُ وَالْحَلِفَ عَلَى عَدَمِ التَّدَيُّنِ بِهِ، وَمِثَالُهُ أَنْ نَرَى إِنْسَانًا يُحِبُّ شَخْصًا مَذْمُومَ الطَّرِيقَةِ فَإِذَا وَقَعَ فِي مِحْنَةٍ بِسَبَبِهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ، فَيُقَالُ لَهُ: مَا كَانَتْ مَحَبَّتُكَ أَيْ عَاقِبَةُ مَحَبَّتِكَ لِفُلَانٍ إِلَّا أَنْ تَبَرَّأْتَ مِنْهُ وَتَرَكْتَهُ. فَعَلَى هَذَا تَكُونُ فِتْنَتُهُمْ هِيَ شِرْكُهُمْ فِي الدُّنْيَا كَمَا فَسَّرَهَا ابْنُ عَبَّاسٍ، وَلَكِنْ لَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيرِ مُضَافٍ وَهُوَ الْعَاقِبَةُ.
(وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْئَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ) .
كَانَ الْمُشْرِكُونَ أَصْنَافًا مُتَفَاوِتِينَ فِي الْفَهْمِ وَالْعَقْلِ وَفِي الْكُفْرِ وَأَسْبَابِهِ، وَقَدْ بَيَّنَ اللهُ أَحْوَالَ كُلِّ فَرِيقٍ مِنْهُمْ فِي كِتَابِهِ فَمِنْهُمْ أَصْحَابُ الذَّكَاءِ وَاللَّوْذَعِيَّةِ الَّذِينَ كَانُوا يَسْمَعُونَ هَذَا الْقُرْآنَ وَيَعْقِلُونَ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مِنْ كَلَامِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَلَا هُوَ بِالَّذِي
يَسْتَطِيعُ الْإِتْيَانَ بِمِثْلِهِ فِي نَظْمِهِ وَفَصَاحَتِهِ وَبَلَاغَتِهِ، وَلَا فِي عُلُومِهِ وَحِكَمِهِ وَمَعَارِفِهِ إِذْ لَوْ كَانَ مِثْلُهُ
مِمَّا تَصِلُ إِلَيْهِ قُدْرَتُهُ لَظَهَرَ عَلَى لِسَانِهِ شَيْءٌ مِنْ مِثْلِهِ أَوْ مَا يَقْرُبُ مِنْهُ فِيمَا مَضَى مِنْ حَيَاتِهِ وَهُوَ أَرْبَعُونَ سَنَةً وَنَيِّفٌ وَقَدْ أَمَرَهُ اللهُ تَعَالَى أَنْ يُقِيمَ عَلَيْهِمْ هَذِهِ الْحُجَّةَ بِقَوْلِهِ: (فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ)(10: 16) وَمَا كَانَ كُفْرُ أَمْثَالِ هَؤُلَاءِ إِلَّا عَنْ كِبْرٍ وَعِنَادٍ وَمُكَابَرَةٍ لِلْحَقِّ. وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ يُعْرِضُ عَنْ سَمَاعِ الْقُرْآنِ خَشْيَةَ أَنْ يُؤَثِّرَ فِي قَلْبِهِ، وَيَنْزِعَهُ مِنَ الدِّينِ الَّذِي أَلِفَهُ طُولَ عُمُرِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ يُصْغِي سَمْعُهُ إِلَى الْقُرْآنِ بِقَصْدِ الِاكْتِشَافِ وَالِاخْتِبَارِ، وَلَكِنَّهُ لَا يَعْقِلُ الْمُرَادَ مِنْهُ وَلَا يَفْقَهُ حُجَجَهُ وَبَيِّنَاتِهِ، إِمَّا لِعَدَمِ تَوَجُّهِ ذِهْنِهِ إِلَى ذَلِكَ لِعَرَاقَتِهِ فِي التَّقْلِيدِ وَالْأُنْسِ بِمَا دَرَجَ عَلَيْهِ الْآبَاءُ وَهُوَ الْأَكْثَرُ، وَإِمَّا لِلْبَلَادَةِ وَانْحِطَاطِ الْكُفْرِ عَنِ التَّسَامِي إِلَى هَذِهِ الْمَعَارِفِ الْعَالِيَةِ فِيهِ، وَكَانَ هَذَا قَلِيلًا فِي الْعَرَبِ وَلَا سِيَّمَا أَهْلُ مَكَّةَ وَهُمْ أَفْصَحُ قُرَيْشٍ الَّتِي هِيَ أَفْصَحُ الْعَرَبِ. وَقَدْ بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى حَالَ هَذَا الْفَرِيقِ الَّذِي لَمْ يَكُنْ حَظُّهُ مِنَ الِاسْتِمَاعِ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِلَّا كَحَظِّ النَّعَمِ مِنْ سَمَاعِ أَصْوَاتِ الْبَشَرِ فَقَالَ:(وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ) أَيُّهَا الرَّسُولُ إِذَا تَلَوْتَ الْقُرْآنَ دَاعِيًا إِلَى تَوْحِيدِ اللهِ مُنْذِرًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ (وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا) أَيْ وَجَعَلْنَا عَلَى آلَةِ الْفَهْمِ وَالْإِدْرَاكِ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَهِيَ قَلْبُ الْإِنْسَانِ وَلُبِّهِ أَغْطِيَةً حَائِلَةً دُونَ فِقْهِهِ وَنُفُوذِ الْأَفْهَامِ إِلَى أَعْمَاقِ عَمَلِهِ، وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا أَيْ ثِقَلًا أَوْ صَمَمًا حَائِلًا دُونَ سَمَاعِهِ بِقَصْدِ التَّدَبُّرِ وَاسْتِبَانَةِ الْحَقِّ. وَمَعْنَى هَذَا الْجَعْلِ مَا مَضَتْ بِهِ سُنَّةُ اللهِ تَعَالَى فِي طِبَاعِ الْبَشَرِ مِنْ كَوْنِ التَّقْلِيدِ الَّذِي يَخْتَارُهُ الْإِنْسَانُ لِنَفْسِهِ يَكُونُ مَانِعًا لَهُ بِاخْتِيَارِهِ مِنَ النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ وَالْبَحْثِ عَنِ الْحَقَائِقِ، فَهُوَ لَا يَسْتَمِعُ إِلَى مُتَكَلِّمٍ وَلَا دَاعٍ لِأَجْلِ التَّمْيِيزِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَإِذَا وَصَلَ إِلَى سَمْعِهِ قَوْلٌ مُخَالِفٌ لِمَا هُوَ دِينٌ لَهُ أَوْ عَادَةٌ لَا يَتَدَبَّرُهُ وَلَا يَرَاهُ جَدِيرًا بِأَنْ يَكُونَ مَوْضُوعَ الْمُقَابَلَةِ وَالتَّنْظِيرِ مَعَ مَا عِنْدَهُ مِنْ عَقِيدَةٍ أَوْ رَأْيٍ أَوْ عَادَةٍ، وَجَعْلُ الْأَكِنَّةِ عَلَى الْقُلُوبِ وَالْوَقْرِ فِي الْآذَانِ فِي الْآيَةِ مِنْ تَشْبِيهِ الْحُجُبِ وَالْمَوَانِعِ الْمَعْنَوِيَّةِ، بِالْحُجُبِ وَالْمَوَانِعِ الْحِسِّيَّةِ، فَإِنَّ الْقَلْبَ الَّذِي لَا يَفْقَهُ الْحَدِيثَ وَلَا يَتَدَبَّرُهُ كَالْوِعَاءِ الَّذِي وُضِعَ عَلَيْهِ الْكِنُّ أَوِ الْكِنَانُ وَهُوَ الْغِطَاءُ حَتَّى لَا يَدْخُلَ فِيهِ شَيْءٌ، وَالْآذَانُ الَّتِي لَا تَسْمَعُ الْكَلَامَ سَمَاعَ فَهْمٍ وَتَدَبُّرٍ كَالْآذَانِ
الْمُصَابَةِ بِالثِّقَلِ أَوِ الصَّمَمِ لِأَنَّ سَمْعَهَا وَعَدَمَهُ سَوَاءٌ، وَالْأَكِنَّةُ جَمْعُ كِنَانٍ كَالْأَسِنَّةِ جَمْعُ سِنَانٍ، وَالْوَقْرُ بِالْفَتْحِ الثِّقَلُ فِي السَّمْعِ وَالصَّمَمُ وَبِالْكَسْرِ الْحَمْلُ، يُقَالُ: وَقَرَ سَمْعُهُ يَقَرُ فَهُوَ مَوْقُورٌ، إِذَا كَانَ لَا يَسْمَعُ، وَأَوْقَرَ الدَّابَّةَ فَهِيَ مُوَقَّرَةٌ.
(وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا) يَقُولُ اللهُ تَعَالَى فِي هَؤُلَاءِ الَّذِينَ لَا يَسْمَعُونَ مَا يَتْلُو عَلَيْهِمُ الرَّسُولُ سَمَاعَ تَدَبُّرٍ وَلَا يَفْقَهُونَ كُنْهَ مَا يَدْعُو إِلَيْهِ: وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى صِحَّةِ نُبُّوَتِكَ وَصِدْقِ دَعْوَتِكَ وَحَقِيقَةِ مَا تَدْعُو إِلَيْهِ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا، لِأَنَّهُمْ لَا يَفْقَهُونَهَا وَلَا يُدْرِكُونَ كُنْهَ الْمُرَادِ مِنْهَا، لِعَدَمِ التَّوَجُّهِ أَوْ لِوُقُوفِ أَسْمَاعِهِمْ عِنْدَ ظَوَاهِرِ الْأَلْفَاظِ.
(حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ) أَيْ حَتَّى إِذْ صَارُوا إِلَيْكَ أَيُّهَا الرَّسُولُ مُجَادِلِينَ لَكَ فِي دَعْوَتِكَ (يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ) أَيْ يَقُولُونَ لِإِصْرَارِهِمْ عَلَى كُفْرِهِمْ وَانْتِقَاءِ فِقْهِهِمْ: مَا هَذَا الْقُرْآنُ إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ مِنَ الْأُمَمِ، أَيْ قِصَصُهُمْ وَخُرَافَاتُهُمْ، يَعْنِي أَنَّهُمْ لَا يَعْقِلُونَ مِمَّا فِي الْقُرْآنِ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ فِي قَصَصِ الْأُمَمِ مَعَ رُسُلِهِمْ إِلَّا أَنَّهَا حِكَايَاتٌ وَخُرَافَاتٌ تُسَطَّرُ وَتُكْتُبُ كَغَيْرِهَا، فَلَا عِلْمَ فِيهَا وَلَا فَائِدَةَ مِنْهَا، وَرُبَّمَا جَعَلُوا الْقُرْآنَ كُلَّهُ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ قِيَاسًا لِمَا لَمْ يَسْمَعُوا عَلَى مَا سَمِعُوا، أَوْ لِغَيْرِ الْقَصَصِ عَلَى الْقَصَصِ. وَهَكَذَا شَأْنُ مَنْ يَنْظُرُ إِلَى الشَّيْءِ نَظَرًا سَطْحِيًّا لَا لِيَسْتَنْبِطَ مِنْهُ عِلْمًا وَلَا بُرْهَانًا، وَمَنْ يَسْمَعُ الْكَلَامَ جَرْسًا لَفْظِيًّا لَا يَتَدَبَّرُهُ وَلَا يَفْقَهُ أَسْرَارَهُ، فَمَثَلُ هَذَا وَذَاكَ كَمَثَلِ الطِّفْلِ الَّذِي يُشَاهِدُ أَلْعَابَ الصُّوَرِ الْمُتَحَرِّكَةِ يُدِيرُهَا قَوْمٌ لَا يَعْرِفُ لُغَتَهُمْ، فَكُلٌّ حَظُّهِ مِمَّا يَرَى مِنَ الْمَنَاظِرِ وَمِنَ الْمَكْتُوبَاتِ الْمُفَسِّرَةِ لَهَا لَا يَعْدُو التَّسْلِيَةَ. وَلَوْ عَقَلَ هَؤُلَاءِ الْمُقَلِّدُونَ الْغَافِلُونَ قَصَصَ الْقُرْآنِ وَتَدَبَّرُوا مَعَانِيَهَا لَكَانَ لَهُمْ مِنْهَا آيَاتٌ بَيِّنَةٌ عَلَى صِدْقِ دَعْوَةِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم وَنُذُرٌ عَظِيمَةٌ مِمَّا فِيهَا مِنْ بَيَانِ سُنَنِ اللهِ تَعَالَى فِي الْأُمَمِ، وَعَاقِبَةِ أَمْرِهِمْ مَعَ الرُّسُلِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْحِكَمِ وَالْعِبَرِ.
وَإِنَّ فِي أَهْلِ هَذَا الْعَصْرِ مَنْ لَا يَكْفُرُ فِي إِتْيَانِ الْأُمِّيِّ النَّاشِئِ بَيْنَ الْأُمِّيِّينَ بِخُلَاصَةِ أَخْبَارِ أَشْهَرِ الرُّسُلِ مَعَ أَقْوَامِهِمْ لِأَنَّهُ يَرَى أَوْ يَسْمَعُ أَنَّ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ ذَلِكَ يُشْبِهُ مَا فِي غَيْرِهِ مِنْ كُتُبِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَكُتُبِ التَّارِيخِ، وَلَا يَرَى فِي هَذَا مَا يَبْعَثُهُ إِلَى الْبَحْثِ فِي الْفُرُوقِ بَيْنَ مَا فِي الْقُرْآنِ وَمَا فِي غَيْرِهِ، وَهِيَ كَثِيرَةٌ سَبَقَ بَيَانُهَا فِي بَحْثِ الْإِعْجَازِ [رَاجِعْ ص 169 181 ج 1 ط الْهَيْئَةِ] وَأَهَمُّهَا فِي بَابِ إِثْبَاتِ نُبُوَّتِهِ صلى الله عليه وسلم كَوْنُهُ
ظَهَرَ عَلَى لِسَانِ رَجُلٍ أُمِّيٍّ لَمْ يَقْرَأْ وَلَمْ يَطَّلِعْ عَلَى شَيْءٍ مِنْ كُتُبِ الدِّينِ وَلَا كُتُبِ التَّارِيخِ، وَقَدِ احْتَجَّ بِهَذَا عَلَى قَوْمِهِ فَلَمْ يَسْتَطِعْ أَحَدٌ مِمَّنِ انْتَصَبُوا لِعَدَاوَتِهِ أَنْ يَرْفَعَ فِي الْإِنْكَارِ عَلَيْهِ رَأْسًا أَوْ يَنْبِسَ فِي الرَّدِّ عَلَيْهِ بِكَلِمَةٍ:(تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا)(11: 49) .
فَإِذَا كَانَ فِي أَهْلِ هَذَا الْعَصْرِ مَنْ لَا يُفَكِّرُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَى نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَهِيَ خَاصَّةٌ بِقَصَصِ الْقُرْآنِ لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ السَّبَبِ، وَمَنْ لَا يُفَكِّرُ فِي إِعْجَازِ الْقُرْآنِ بِبَلَاغَتِهِ بَعْدَ أَنْ عَاشَ النَّبِيُّ ثُلْثَيْ عُمُرِهِ قَبْلَهُ وَلَمْ يَكُنْ فِي كَلَامِهِ مَا هُوَ مُعْجِزٌ، فَإِنَّ كُفَّارَ قُرَيْشٍ لَمْ يَكُونُوا يَسْتَطِيعُونَ إِنْكَارَ كَوْنِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم كَانَ أُمِّيًّا مِثْلَهُمْ، وَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَعْرِفُ شَيْئًا مِنْ أَخْبَارِ الرُّسُلِ مَعَ أَقْوَامِهِمْ، وَلَا كَانَ مُمْتَازًا بِالْبَلَاغَةِ وَالْفَصَاحَةِ فِيهِمْ، وَلَكِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ يَجْهَلُ مَا يَعْرِفُهُ أَهْلُ هَذَا الْعَصْرِ مِنْ كَوْنِ تِلْكَ الْقَصَصِ كَانَتْ صَحِيحَةً لَا مِنْ أَسَاطِيرِ الْأَوَّلِينَ وَأَوْضَاعِهِمُ الْخُرَافِيَّةِ الَّتِي لَا يَثْبُتُ لَهَا أَصْلٌ وَلِأَجْلِ هَذَا سَأَلَ بَعْضُهُمُ الْيَهُودَ عَنْهَا. كَمَا كَانَ بَعْضُهُمْ يَجْهَلُ مَا فِيهَا مِنَ الْآيَاتِ وَالْعِبَرِ لِعَدَمِ تَدَبُّرِهَا. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى:
الْأُسْطَارَةُ لُغَةً: الْخُرَافَاتُ وَالتُّرَّهَاتُ وَهِيَ الَّتِي تُجْمَعُ عَلَى أَسَاطِيرَ، وَقَالَ الْأَخْفَشُ: وَاحِدُ الْأَسَاطِيرِ أُسْطُورَةٌ.
(وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ) ضَمِيرُ " وَهُمْ " عَائِدٌ إِلَى الْمُشْرِكِينَ الْمُعَانِدِينَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الْجَاحِدِينَ لِنُبُوَّتِهِ الَّذِينَ وَرَدَ هَذَا السِّيَاقُ بِطُولِهِ فِيهِ. لَا إِلَى الْفَرِيقِ الَّذِي ذَكَرَ أَخِيرًا فِي قَوْلِهِ: (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ) وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ يَنْهَوْنَ النَّاسَ عَنْ سَمَاعِ الْقُرْآنِ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَيَنْأَوْنَ أَيْ يَبْعُدُونَ عَنْهُ لِيَكُونُوا نَاهِينَ مُنْتَهِينَ. وَالنَّأْيُ عَنْهُ يَشْمَلُ الْإِعْرَاضَ عَنْ سَمَاعِهِ وَالْإِعْرَاضَ عَنْ هِدَايَتِهِ. وَقِيلَ: إِنَّ الْمَعْنَى يَنْهَوْنَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَيْ يَنْهَوْنَ الْعَرَبَ عَنْ حِمَايَتِهِ وَمَنْعِهِ وَعَنِ اتِّبَاعِهِ وَالسَّمَاعِ لَهُ جَمِيعًا، وَيَبْعُدُونَ عَنْهُ بَعْدَ جَفَاءٍ وَعَدَاوَةٍ (وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ) أَيْ وَمَا يُهْلِكُونَ بِذَلِكَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ بِذَلِكَ، بَلْ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ يَقْضُونَ عَلَيْهِ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ. وَهَذَا مِنْ مُعْجِزَاتِ الْقُرْآنِ وَإِخْبَارِهِ بِالْغَيْبِ فَقَدْ هَلَكَ جَمِيعُ الَّذِينَ أَصَرُّوا عَلَى عَدَاوَةِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم بَعْضُهُمْ بِالنِّقَمِ الْخَاصَّةِ، وَبَعْضُهُمْ فِي بَدْرٍ، ثُمَّ فِي
غَيْرِهَا مِنَ الْغَزَوَاتِ، وَيَلِي هَذَا الْهَلَاكَ الدُّنْيَوِيَّ هَلَاكُ الْآخِرَةِ، وَلَفْظُ الْآيَةِ يَشْمَلُهَا وَهُوَ فِي هَلَاكِ الدُّنْيَا أَظْهَرُ.
(وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَالَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ) .
بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى لَنَا فِي الْآيَتَيْنِ اللَّتَيْنِ قَبْلَ هَاتَيْنِ حَالَ مَنْ فَقَدُوا الِاسْتِعْدَادَ لِلْإِيمَانِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ الظَّالِمِينَ لِأَنْفُسِهِمْ، وَخَصَّ بِالذِّكْرِ طَائِفَةً مِنْهُمْ وَهِيَ الَّتِي تُلْقِي السَّمْعَ مُصْغِيَةً لِلْقُرْآنِ وَلَا يَدْخُلُ مِنْ بَابِ سَمْعِهَا إِلَى بَيْتِ قَلْبِهَا شَيْءٌ مِنْهُ، لِمَا عَلَى الْقَلْبِ مِنْ أَكِنَّةِ التَّقْلِيدِ، وَالِاطْمِئْنَانِ بِالشِّرْكِ التَّلِيدِ، وَالِاسْتِنْكَارِ لِكُلِّ شَيْءٍ جَدِيدٍ، فَهُمْ يَسْتَمِعُونَ وَلَا يَسْمَعُونَ، وَلَا يَكْتَفُونَ بِذَلِكَ بَلْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ وَهُمْ نَاءُونَ مُنْتَهُونَ وَمَا يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ، ثُمَّ بَيَّنَ فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ بَعْضَ مَا يَكُونُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَأَمْرِ أَمْثَالِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَقَفَّى عَلَيْهِ بِبَيَانِ كُنْهِ حَالِهِمْ فِي فَقْدِ الِاسْتِعْدَادِ لِلْإِيمَانِ، وَأَنَّهُ بَلَغَ مَبْلَغًا لَا يُؤَثِّرُ فِيهِ كَشْفُ الْغِطَاءِ وَرُؤْيَةُ الْعِيَانِ، فَقَالَ عَزَّ مِنْ قَائِلٍ:
(وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ)" لَوْ " شَرْطِيَّةٌ حُذِفَ جَوَابُهَا لِتَذْهَبَ النَّفْسُ فِي تَصَوُّرِهِ
كُلَّ مَذْهَبٍ، وَذَلِكَ أَبْلَغُ مِنْ ذِكْرِهِ، وَمِنْهُ الْمَثَلُ " لَوْ غَيْرُ ذَاتِ سِوَارٍ لَطَمَتْنِي " وَ " وُقِفُوا " بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ أَيْ وَقَّفَهُمْ غَيْرُهُمْ، يُقَالُ: وَقَفَ الرَّجُلُ عَلَى الْأَرْضِ وُقُوفًا. وَوَقَفَ عَلَى الْأَطْلَالِ أَيْ عِنْدِهَا مُشْرِفًا عَلَيْهَا، أَوْ قَاصِرًا هَمَّهُ عَلَيْهَا وَعَلَى الشَّيْءِ عَرَفَهُ وَتَبَيَّنَهُ، وَوَقَفَ نَفْسَهُ عَلَى كَذَا وَقْفًا: حَبَسَهَا كَوَقْفِ الْعَقَارِ عَلَى الْفُقَرَاءِ، وَوَقَفَ الدَّابَّةَ وَقْفًا جَعَلَهَا تَقِفُ، وَالْمَعْنَى وَلَوْ تَرَى أَيُّهَا الرَّسُولُ أَوْ أَيُّهَا السَّامِعُ بِعَيْنَيْكَ هَؤُلَاءِ الضَّالِّينَ الْمُكَذِّبِينَ إِذْ تَقِفُهُمْ مَلَائِكَةُ الْعَذَابِ عَلَى النَّارِ فَيَقِفُونَ عِنْدَهَا مُشْرِفِينَ عَلَيْهَا مِنْ أَرْضِ الْمَوْقِفِ وَهِيَ هَاوِيَةٌ سَحِيقَةٌ أَوْ مَقْصُورَيْنِ عَلَيْهَا لَا يَتَعَاوَنُهَا، أَوْ يَقِفُونَ فَوْقَهَا عَلَى الصِّرَاطِ، أَوْ لَوْ تَرَى إِذْ
يَدْخُلُونَهَا فَيَقِفُونَ عَلَى مَا فِيهَا مِنَ الْعَذَابِ الْأَلِيمِ بِذَوْقِهِمْ إِيَّاهُ وَ " مَنْ ذَاقَ عَرَفَ " أَيْ لَوْ تَرَى مَا يَحِلُّ بِهِمْ حِينَئِذٍ وَمَا يَكُونُ مِنْ أَمْرِهِمْ، وَمِنْ نَدَمِهِمْ عَلَى كُفْرِهِمْ، وَمِنْ حَسْرَتِهِمْ وَتَمَنِّيهِمْ مَا لَا يُنَالُ لَرَأَيْتَ أَمْرًا عَظِيمًا لَا تُدْرِكُهُ الْعِبَادَةُ وَلَا يُحِيطُ بِهِ الْوَصْفُ.
وَقَدْ ذُكِرَ مَا يَكُونُ مِنْ وَقْفِهِمْ عَلَى النَّارِ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ قَوْلِهِمْ بِصِيغَةِ الْمَاضِي الْوَاقِعِ فِي حَيِّزِ الشَّرْطِ الْمُسْتَقْبَلِ لِلْإِعْلَامِ بِتَحَقُّقِ وُقُوعِهِ، عَلَى الْقَوْلِ الْمَشْهُورِ فِي مِثْلِهِ، وَقَالَ الرَّازِيُّ فِي تَعْلِيلِهِ: إِنَّ كَلِمَةَ " إِذْ " تُقَامُ مَقَامَ " إِذَا " إِذَا أَرَادَ الْمُتَكَلِّمُ الْمُبَالَغَةَ فِي التَّكْرِيرِ وَالتَّوْكِيدِ وَإِزَالَةِ الشُّبْهَةِ لِأَنَّ الْمَاضِيَ قَدْ وَقَعَ وَاسْتَقَرَّ، فَالتَّعْبِيرُ عَنِ الْمُسْتَقْبَلِ بِاللَّفْظِ الْمَوْضُوعِ لِلْمَاضِي يُفِيدُ الْمُبَالَغَةَ مِنْ هَذَا الِاعْتِبَارِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَقَالُوا يَالَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) فَقَدْ عَطَفَ بِالْفَاءِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ أَوَّلَ شَيْءٍ يَقَعُ حِينَئِذٍ فِي قُلُوبِهِمْ، وَيَسْبِقُ التَّعْبِيرَ عَنْهُ إِلَى أَلْسِنَتِهِمْ، هُوَ النَّدَمُ عَلَى مَا سَلَفَ مِنْهُمْ، وَتَمَنِّي الرُّجُوعِ إِلَى الدُّنْيَا لِيُؤْمِنُوا اخْتَلَفَ الْقُرَّاءُ فِي إِعْرَابِ " نُكَذِّبَ وَنَكُونَ " فَرَفَعَهُمَا الْجُمْهُورُ وَنَصَبَهُمَا حَمْزَةُ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ، وَنَصَبَ ابْنُ عَامِرٍ " نَكُونَ " فَقَطْ، فَقُرَّاءُ الْجُمْهُورِ بِالْعَطْفِ عَلَى " نُرَدُّ " تُفِيدُ أَنَّهُمْ تَمَنَّوْا أَنْ يُرَدُّوا إِلَى الدُّنْيَا، وَأَلَّا يُكَذِّبُوا بَعْدَ عَوْدَتِهِمْ إِلَيْهَا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ كَمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ، وَأَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ، أَيْ تَمَنَّوْا هَذِهِ الثَّلَاثَةَ، وَقِيلَ: بَلْ تَمَنَّوْا الْأَوَّلَ فَقَطْ، وَقَوْلُهُ:(وَلَا نُكَذِّبَ " إِلَخْ مَعْنَاهُ وَنَحْنُ لَا نَكْذِبَ إِلَخْ. وَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْإِيمَانُ وَعَدَمُ التَّكْذِيبِ غَيْرَ دَاخِلِينَ فِي التَّمَنِّي، وَشَبَّهَهُ سِيبَوَيْهِ بِقَوْلِهِمْ: دَعْنِي وَلَا أَعُودُ، وَهُوَ طَلَبٌ لِلتَّرْكِ فَقَطْ، وَالْوَعْدُ بِعَدَمِ الْعَوْدِ مُسْتَأْنَفٌ مَقْطُوعٌ عَمَّا قَبْلَهُ، وَالتَّقْدِيرُ: وَأَنَا لَا أَعُودُ تَرَكْتَنِي أَمْ لَمْ تَتْرُكْنِي، وَفِيهِ وَجْهٌ ثَالِثٌ وَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُ: (وَلَا نُكَذِّبَ) جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ: قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: عَلَى مَعْنَى غَيْرِ مُكَذِّبِينَ وَكَائِنِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَيَدْخُلُ فِي حِكَمِ التَّمَنِّي اهـ. وَقَدْ يُتَوَهَّمُ أَنَّ دُخُولَهُ فِي حُكْمِ التَّمَنِّي يَجْعَلُهُ بِمَعْنَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، فَإِنَّ مَعْنَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ أَنَّهُمْ يَتَمَنَّوْنَ الرَّدَّ وَعَدَمَ التَّكْذِيبِ وَالْإِيمَانَ عَلَى سَوَاءٍ، وَمَعْنَى الثَّانِي أَنَّهُمْ يَتَمَنَّوْنَ الرَّدَّ فَقَطْ وَيَعِدُونَ بِالْإِيمَانِ وَعَدَمِ التَّكْذِيبِ
وَعْدًا خَبَرِيًّا مُؤَكَّدًا غَيْرَ مُقَيَّدٍ بِإِجَابَتِهِمْ إِلَى مَا يَتَمَنَّوْنَ، وَأَمَّا إِذَا جَعَلْنَا " وَلَا نُكَذِّبَ " إِلَخْ جُمْلَةً حَالِيَّةً وَهُوَ الْوَجْهُ الثَّالِثُ فَإِنَّهَا تَصْدُقُ بِحُصُولِ كُلٍّ
مِنْ عَدَمِ التَّكْذِيبِ وَالْإِيمَانِ قَبْلَ الرَّدِّ إِلَى الدُّنْيَا. فَلَا يَكُونُ التَّمَنِّي مُتَعَلِّقًا بِهِمَا لِذَاتِهِمَا لِأَنَّهُمَا حَاصِلَانِ وَالْحَاصِلُ لَا يُتَمَنَّى وَإِنَّمَا يَكُونُ مُتَعَلِّقًا بِالرَّدِّ الْمُصَاحِبِ لَهُمَا، الَّذِي تَمَنَّى وُقُوعَهُ بَعْدَ وُقُوعِهِمَا، وَذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ خَبَرِيٍّ وَلَا إِنْشَائِيٍّ بِهِمَا; لِأَنَّ الْحَاصِلَ لَا يُوعَدُ بِهِ كَمَا أَنَّهُ لَا يُتَمَنَّى. وَقَدْ بَيَّنَّا فِي تَفْسِيرِ (لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى) (4: 43) - الْآيَةَ - الْفَرْقَ بَيْنَ الْحَالِ الْمُفْرَدَةِ وَالْجُمْلَةِ الْحَالِيَّةِ وَأَنَّ الْأَصْلَ فِي مَضْمُونِ الْحَالِيَّةِ أَنْ يَكُونَ سَابِقًا لِلْفِعْلِ الْعَامِلِ فِي الْحَالِ. وَهَؤُلَاءِ رَجَعُوا عَنِ التَّكْذِيبِ عِنْدَ وَقْفِهِمْ عَلَى النَّارِ وَحَصَلَ لَهُمُ الْإِيمَانُ الْقَاطِعُ بِصِدْقِ الرَّسُولِ فَتَمَنَّوْا أَنْ يَعُودُوا إِلَى الدُّنْيَا مُصَاحِبِينَ لِذَلِكَ، فَيَصِحُّ أَنْ يُقَالَ فِي الْجُمْلَةِ إِنَّ عَدَمَ التَّكْذِيبِ وَالْإِيمَانَ دَاخِلَانِ تَحْتَ حُكْمِ التَّمَنِّي مِنْ حَيْثُ اشْتِرَاطِهِمَا فِيهِ، لَا أَنَّهُمَا مُتَمَنَّيَانِ كَالرَّدِّ سَوَاءٌ.
وَأَمَّا قِرَاءَةُ حَمْزَةَ وَحَفْصٍ بِنَصْبِ الْفِعْلَيْنِ فَقِيلَ: إِنَّهُ عَلَى جَوَابِ التَّمَنِّي، وَقِيلَ: إِنَّ الْوَاوَ لِلْحَالِ كَقَوْلِهِمْ: لَا تَأْكُلُ السَّمَكَ وَتَشْرَبَ اللَّبَنَ. وَقِيلَ: إِنَّهَا أُجْرِيَتْ مَجْرَى فَاءَ السَّبَبِيَّةِ أَوْ أُبْدِلَتْ مِنْهَا وَأَيَّدُوهُ بِقِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ " فَلَا نُكَذِّبَ " وَقِيلَ: إِنَّ الْعَطْفَ عَلَى مَصْدَرٍ مُتَوَهَّمٍ، أَيْ يَا لَيْتَ لَنَا رَدًّا وَانْتِفَاءَ تَكْذِيبٍ وَكَوْنًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. فَعَلَى التَّوْجِيهَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ لِهَذِهِ الْقِرَاءَةِ يَدْخُلُ مَا ذُكِرَ فِي حُكْمِ التَّمَنِّي عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي وَجَّهْنَا بِهِ جَعْلَ الْجُمْلَةِ حَالِيَّةً فِي قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ، وَظَاهِرُ التَّوْجِيهِ الثَّالِثِ تَعَلُّقُ التَّمَنِّي بِالْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ عَلَى سَوَاءٍ، وَقَدْ عُلِمَ مِنْ تَوْجِيهِ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ تَوْجِيهُ قِرَاءَةِ ابْنِ عَامِرٍ أَيْضًا.
وَلَعَلَّ حِكْمَةَ اخْتِلَافِ الْقِرَاءَاتِ بَيَانُ اخْتِلَافِ أَحْوَالِ أُولَئِكَ الْمُشْرِكِينَ فِي تَمَنِّيهِمْ: بِأَنْ يَكُونَ مِنْهُمْ مَنْ يَتَمَنَّى أَنْ يُرَدَّ إِلَى الدُّنْيَا وَأَنْ يَكُونَ فِيهَا غَيْرَ مُكَذِّبٍ بِآيَاتِ اللهِ الْكَوْنِيَّةِ وَالْمُنَزَّلَةِ وَأَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَتَمَنَّى الرَّدَّ مُصَاحِبًا لِمَا حَدَثَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنَ النَّدَمِ عَلَى التَّكْذِيبِ وَمِنَ الْإِيمَانِ بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ، إِذْ لَا تَلَازُمَ بَيْنَ الرَّدِّ وَبَقَاءِ ذَلِكَ الْأَمْرِ الْحَادِثِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَتَمَنَّاهُ لِيَكُونَ سَبَبًا لِلْإِيمَانِ وَعَدَمِ التَّكْذِيبِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَعِدُ بِذَلِكَ وَعْدًا، وَهَذَا الِاخْتِلَافُ فِي كَيْفِيَّاتِ ذَلِكَ التَّمَنِّي أَقْرَبُ إِلَى الْحُصُولِ مِنَ اتِّفَاقِ أُولَئِكَ الْكُفَّارِ الْكَثِيرِينَ عَلَى كَيْفِيَّةٍ وَاحِدَةٍ مِمَّا يَدُلُّ عَلَيْهِ اخْتِلَافِ الْقِرَاءَاتِ، لِأَنَّهُ هُوَ الْمَعْهُودُ مِنَ الْبَشَرِ. وَلَعَلَّهُمْ يَتَمَنَّوْنَ ذَلِكَ جَاهِلِينَ أَنَّهُ مُحَالٌ، عَلَى أَنَّ النَّاسَ يَتَمَنَّوْنَ الْمُحَالَ وَلَوْ عَلَى سَبِيلِ التَّحَسُّرِ.
قَالَ تَعَالَى مُبَيِّنًا كُنْهَ حَالِهِمْ وَمَا يَظْهَرُ لَهُمْ مِنْهُ فِي الْآخِرَةِ وَمَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونُوا عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا لَوْ رُدُّوا إِلَيْهَا: (بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ) قَالُوا: إِنَّ الْإِضْرَابَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِضْرَابٌ عَمَّا يَدُلُّ عَلَيْهِ تَمَنِّيهِمْ مِنْ إِدْرَاكِهِمْ لِقُبْحِ الْكُفْرِ وَسُوءِ مَغَبَّتِهِ، وَلِحَقِيقَةِ الْإِيمَانِ،
وَحُسْنِ عَاقِبَتِهِ، وَعَزْمِهِمْ عَلَى الْإِيمَانِ وَتَرْكِ التَّكْذِيبِ لَوْ أُعْطَوْا مَا تَمَنَّوْا مِنَ الرَّدِّ إِلَى الدُّنْيَا، وَوَعْدِهِمْ بِذَلِكَ نَصًّا أَوْ ضِمْنًا، كَأَنَّهُ يَقُولُ: لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا يُوهِمُهُ كَلَامُهُمْ فِي التَّمَنِّي، بَلْ ظَهَرَ لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَهُ فِي الدُّنْيَا، وَفِيهِ أَقْوَالٌ:
(1)
أَنَّهُ أَعْمَالُهُمُ السَّيِّئَةُ وَقَبَائِحُهُمُ الشَّائِنَةُ ظَهَرَتْ فِي صَحَائِفِهِمْ، وَشَهِدَتْ بِهَا عَلَيْهِمْ جَوَارِحُهُمْ.
(2)
أَنَّهُ أَعْمَالُهُمُ الَّتِي كَانُوا يَغْتَرُّونَ بِهَا، وَيَظُنُّونَ أَنَّ سَعَادَتَهُمْ فِيهَا إِذْ يَجْعَلُهَا اللهُ تَعَالَى هَبَاءًا مَنْثُورًا.
(3)
أَنَّهُ كُفْرُهُمْ وَتَكْذِيبُهُمُ الَّذِي أَخْفَوْهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُوقَفُوا عَلَى النَّارِ كَمَا تَقَدَّمَ حِكَايَتُهُ عَنْهُمْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ 23)
(4)
أَنَّهُ الْحَقُّ أَوِ الْإِيمَانُ الَّذِي كَانُوا يُسِرُّونَهُ وَيُخْفُونَهُ بِإِظْهَارِ الْكُفْرِ وَالتَّكْذِيبِ عِنَادًا لِلرَّسُولِ وَاسْتِكْبَارًا عَنِ الْحَقِّ، وَهَذَا إِنَّمَا يَنْطَبِقُ عَلَى أَشَدِّ النَّاسِ كُفْرًا مِنَ الْمُعَانِدِينَ الْمُتَكَبِّرِينَ الَّذِينَ قَالَ فِي بَعْضِهِمْ:(وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا)(27: 14) .
(5)
أَنَّهُ مَا كَانَ يُخْفِيهِ الرُّؤَسَاءُ عَنْ أَتْبَاعِهِمْ مِنَ الْحَقِّ الَّذِي جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ بَدَا لِلْأَتْبَاعِ الَّذِينَ كَانُوا مُقَلِّدِينَ لَهُمْ. وَمِنْهُ كِتْمَانُ بَعْضِ عُلَمَاءِ أَهْلِ الْكِتَابِ لِرِسَالَةِ نَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلم وَصِفَاتِهِ وَبِشَارَةِ أَنْبِيَائِهِمْ بِهِ.
(6)
أَنَّهُ مَا كَانَ يُخْفِيهِ الْمُنَافِقُونَ فِي الدُّنْيَا مِنْ إِسْرَارِ الْكُفْرِ وَإِظْهَارِ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ.
(7)
أَنَّهُ الْبَعْثُ وَالْجَزَاءُ وَمِنْهُ عَذَابُ جَهَنَّمَ، وَأَنَّ إِخْفَاءَهُمْ لَهُ عِبَارَةٌ عَنْ تَكْذِيبِهِمْ بِهِ، وَهُوَ الْمَعْنَى الْأَصْلِيُّ لِمَادَّةِ الْكُفْرِ.
(8)
أَنَّ فِي الْكَلَامِ مُضَافًا مَحْذُوفًا، أَيْ بَدَا لَهُمْ وَبَالُ مَا كَانُوا يُخْفُونَهُ مِنَ الْكُفْرِ وَالسَّيِّئَاتِ، وَنَزَلَ بِهِمْ عِقَابُهُ فَتَبَرَّمُوا وَتَضَجَّرُوا، وَتَمَنَّوْا التَّقَصِّي مِنْهُ بِالرَّدِّ إِلَى الدُّنْيَا وَتَرْكِ مَا أَفْضَى إِلَيْهِ مِنَ التَّكْذِيبِ بِالْآيَاتِ وَعَدَمِ الْإِيمَانِ، كَمَا يَتَمَنَّى الْمَوْتَ مَنْ أَمَضَّهُ الدَّاءُ الْعُضَالُ لِأَنَّهُ يُنْقِذُهُ مِنَ الْآلَامِ لَا لِأَنَّهُ مَحْبُوبٌ فِي نَفْسِهِ.
وَنَحْنُ لَا نَرَى رُجْحَانَ قَوْلٍ مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ، بَلِ الصَّوَابُ عِنْدَنَا قَوْلٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّهُ يَظْهَرُ يَوْمَئِذٍ لِكُلٍّ مِنْ أُولَئِكَ الَّذِينَ وَرَدَ الْكَلَامُ فِيهِمْ وَلِأَشْبَاهِهِمْ مِنَ الْكُفَّارِ مَا كَانَ يُخْفِيهِ فِي الدُّنْيَا مِمَّا هُوَ قَبِيحٌ فِي نَظَرِهِ أَوْ نَظَرِ مَنْ يُخْفِيهِ عَنْهُمْ، فَالَّذِينَ
كَفَرُوا عِنَادًا وَاسْتِكْبَارًا كَالرُّؤَسَاءِ الَّذِينَ ظَهَرَ لَهُمُ الْحَقُّ كَانُوا يُخْفُونَ ذَلِكَ الْحَقَّ وَمِنْهُمْ بَعْضُ عُلَمَاءِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُنَافِقُونَ الَّذِينَ أَظْهَرُوا الْإِيمَانَ جُبْنًا وَضَعْفًا أَوْ مَكْرًا وَكَيْدًا كَانُوا يُخْفُونَ الْكُفْرَ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ، وَأَصْحَابُ الْأَعْمَالِ الْقَبِيحَةِ مِنَ الْفَوَاحِشِ وَالْمُنْكَرَاتِ يُخْفُونَهَا عَمَّنْ لَا يَقْتَرِفُهَا مَعَهُمْ وَالَّذِينَ يَعْتَذِرُونَ عَنْ تَرْكِ الْوَاجِبَاتِ بِالْأَعْذَارِ الْكَاذِبَةِ يُخْفُونَ حَقِيقَةَ حَالِهِمْ عَمَّنْ يَعْتَذِرُونَ إِلَيْهِمْ، وَالْمُقَلِّدُونَ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا يَلُوحُ فِيهَا أَحْيَانًا مِنْ بَرْقِ الدَّلِيلِ الْمُظْهِرِ لِمَا كَمَنَ فِي أَعْمَاقِ الْفِطْرَةِ مِنَ الْحَقِّ، سَوَاءً أَوْمَضَ ذَلِكَ الْبَرْقُ مِنْ آيَاتِ اللهِ فِي الْآفَاقِ، وَأَلْسِنَةِ حَمَلَةِ الْحُجَّةِ وَالْبُرْهَانِ، أَوْ مِنْ آيَاتِ اللهِ فِي أَنْفُسِهِمْ، قَبْلَ أَنْ تُحِيطَ بِهِمْ
خَطِيئَتُهُمْ وَيُخْتَمَ عَلَى قُلُوبِهِمْ، وَهَؤُلَاءِ الْمُقَلِّدُونَ الْعُمْيَانُ هُمُ الَّذِينَ بَيَّنَتِ الْآيَاتُ حَالَهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَإِنَّمَا جَعَلْنَا مَا تَلَا ذَلِكَ مِنْ بَيَانِ حَالِهِمْ فِي الْآخِرَةِ عَامًّا لِكُلِّ مَنْ مَاتَ عَلَى الْكُفْرِ لِتَسَاوِيهِمْ فِيهِ وَعَدَمِ اسْتِفَادَةِ أَحَدٍ مِنْهُمْ مِنَ اسْتِعْدَادِهِ لِلْإِيمَانِ، لِعَدَمِ اسْتِعْمَالِهِمْ لِذَلِكَ الِاسْتِعْدَادِ.
وَقَدْ يَعُمُّ الْإِخْفَاءُ لِلشَّيْءِ مَا كَانَ مِنْهُ بِالْقَصْدِ إِلَيْهِ وَالْإِرَادَةِ لَهُ فِي ذَاتِهِ، وَمَا كَانَ ظَاهِرًا فِي نَفْسِهِ وَخَفِيَ عَنْ أَهْلِهِ بِأَعْمَالٍ وَتَقَالِيدَ لَهُمْ عَدْوًا بِهَا مُخْفِينَ لَهُ، كَالْعَقَائِدِ وَالْفَضَائِلِ الَّتِي أُودِعَتْ فِي الْفِطْرَةِ، وَدَلَّتْ عَلَيْهَا آيَاتُ اللهِ الْبَيِّنَةُ، وَأَعْرَضَ عَنْهَا الضَّالُّونَ وَالْتَزَمُوا مَا يُضَادُّهَا فَأَخْفَوْهَا بِذَلِكَ حَتَّى عَنْ أَنْفُسِهِمْ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ اللهِ الَّذِي تُبْلَى فِيهِ السَّرَائِرُ، وَتَنْكَشِفُ جَمِيعُ الْحَقَائِقِ، وَتَشْهَدُ عَلَى النَّاسِ الْأَعْضَاءُ وَالْجَوَارِحُ، إِذْ تُنْشَرُ كُتُبُ الْأَعْمَالِ الَّتِي كَانَتْ مَطْوِيَّةً فِي زَوَايَا الْأَرْوَاحِ، فَتَتَمَثَّلُ لِكُلِّ فَرْدٍ أَعْمَالُهُ النَّفْسِيَّةُ وَالْبَدَنِيَّةُ كُلُّهَا، فِي كِتَابِهِ الَّذِي لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا، كَمَا تَتَمَثَّلُ الْوَقَائِعُ الْمُصَوَّرَةُ، فِي الْمَنْظَرَةِ الَّتِي يُعْرَضُ فِيهَا مَا يُعْرَفُ الْآنَ بِالصُّوَرِ الْمُتَحَرِّكَةِ، فَإِنَّ حِفْظَ أَلْوَاحِ الْأَنْفُسِ الْمُدْرِكَةِ لِمَا تَرْسُمُهُ وَتُطِيعُهُ الْعَقَائِدُ وَالْأَعْمَالُ فِيهَا أَقْوَى وَأَثْبَتُ مِنْ حِفْظِ أَلْوَاحِ الزُّجَاجِ الْحَسَّاسَةِ لِمَا يَرْسُمُهُ وَيَطْبَعُهُ نُورُ الشَّمْسِ عَلَيْهَا، وَعَرْضُ الصُّوَرِ الشَّمْسِيَّةِ فِي الدُّنْيَا دُونَ عَرْضِ الصُّوَرِ النَّفْسِيَّةِ فِي الْآخِرَةِ، وَبِهَذَا الْبَيَانِ تَعْلَمُ أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ يَظْهَرُ لَهُ فِي الْآخِرَةِ كُلُّ مَا كَانَ خَفِيًّا عَنْهُ مِنْ خَيْرِ نَفْسِهِ وَشَرِّهَا (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ) (69: 18) أَيْ لَا تَخْفَى عَلَى أَنْفُسِكُمْ، فَضْلًا عَنْ خَفَائِهَا عَلَى رَبِّكُمْ، وَقَدْ خَصَّ بِالذِّكْرِ هُنَا بُدُوَّ مَا كَانَ يُخْفِيهِ الْكُفَّارُ، وَلِكُلِّ مَقَامٍ مَقَالٌ.
بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى لَنَا أَنَّ تَمَنِّي أُولَئِكَ الْكُفَّارِ لِمَا تَمَنَّوْا لَا يَدُلُّ عَلَى تَبَدُّلِ حَقِيقَتِهِمْ، بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانَ خَفِيًّا عَنْهُمْ مِنْهَا، بِإِخْفَائِهِمْ إِيَّاهُ عَنِ النَّاسِ أَوْ عَنْهَا:(وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ)(39: 47، 48) فَتَمَنَّوُا الْخُرُوجَ مِمَّا حَاقَ بِهِمْ وَلَكِنَّ الْحَقِيقَةَ لَا تَتَغَيَّرُ، وَإِنَّمَا يَكُونُ لَهَا أَطْوَارٌ، تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ وَالْأَوْطَارِ.
(وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ) مِنَ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ وَالْكَيْدِ وَالْمَكْرِ وَالْمَعَاصِي، لِأَنَّ مُقْتَضَى ذَلِكَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ثَابِتٌ فِيهَا، وَمَا دَامَتِ الْعِلَّةُ ثَابِتَةً فَإِنَّ أَثَرَهَا وَهُوَ الْمَعْلُولُ لَا يَتَخَلَّفُ عَنْهَا (وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ) فِيمَا تَضَمَّنَهُ تَمَنِّيهِمْ مِنَ الْوَعْدِ بِتَرْكِ التَّكْذِيبِ بِآيَاتِ اللهِ، وَبِالْكَوْنِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ سَوَاءً عَلِمُوا حِينَ تَمَنَّوْا وَوَعَدُوا أَنَّهُمْ كَاذِبُونَ فِي هَذَا الْوَعْدِ أَمْ لَمْ يَعْلَمُوا، فَلَوْ رُدُّوا إِلَى الدُّنْيَا لَرُدَّ الْمُعَانِدُ الْمُسْتَكْبِرُ مِنْهُمْ مُشْتَمِلًا بِكِبْرِهِ وَعِنَادِهِ، وَكُلٌّ مِنَ الْمَاكِرِ وَالْمُنَافِقِ مُرْتَدِيًا بِمَكْرِهِ وَنِفَاقِهِ، وَالْمُقَلِّدُ مُقَيَّدًا بِتَقْلِيدِهِ لِغَيْرِهِ وَعَدَمِ ثِقَتِهِ بِفَهْمِهِ وَعِلْمِهِ، وَالشَّهْوَانِيُّ مُلَوَّثًا بِشَهَوَاتِهِ الْمَالِكَةِ لِرِقِّهِ.
وَأَمَّا مَا ظَهَرَ لَهُمْ إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ مِنْ حَقِيقَةِ مَا جَاءَ بِهِ الرُّسُلُ، فَإِنَّمَا مَثَلُهُ كَمَثَلِ مَا كَانَ يَلُوحُ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْعِبَرِ، أَلَمْ تَرَ كَيْفَ يُكَابِرُونَ فِيهَا أَنْفُسَهُمْ وَيُغَالِطُونَ عَقْلَهُمْ وَوِجْدَانَهُمْ، وَيُمَارُونَ مُنَاظِرِيهِمْ وَأَخْدَانَهُمْ؟ يَشْرَبُ الْفَاسِقُ الْخَمْرَ فَيُصَدَّعُ، أَوْ يَلْعَبُ الْقِمَارَ فَيَخْسَرُ، وَيَأْكُلُ الْمَرِيضُ أَوْ ضَعِيفُ الْبِنْيَةِ الطَّعَامَ الشَّهِيَّ أَوْ يُكْثِرُ مِنْهُ فَيَتَضَرَّرُ وَيُرْوَى غَيْرُ هَؤُلَاءِ مِنَ الْمُخَالِفِينَ لِشَرْعِ اللهِ الْمُنَزَّلِ بِالْحَقِّ، أَوْ لِسُنَنِهِ الثَّابِتَةِ الَّتِي أَقَامَ بِهَا نِظَامَ الْخَلْقِ، مَا حَلَّ مِنَ الشَّقَاءِ بِغَيْرِهِ مِمَّنْ سَبَقَهُ إِلَى مِثْلِ عَمَلِهِ فَيَنْدَمُ كُلُّ وَاحِدٍ مِمَّنْ ذَكَرْنَا، وَيَتُوبُ وَيَعْزِمُ عَلَى أَلَّا يَعُودَ، وَإِنَّمَا يَكُونُ هَذَا عِنْدَ فَقْدِ دَاعِيَةِ الْعَمَلِ، وَوُجُودِ دَاعِيَةِ التَّرْكِ، فَإِذَا عَادَتِ الدَّاعِيَةُ إِلَى الْعَمَلِ عَادَ إِلَيْهِ خُضُوعًا لِمَا اعْتَادَ وَأَلِفَ، وَتَرْجِيحًا لِمَا يَلَذُّ عَلَى مَا يَنْفَعُ.
وَمِنْ وَقَائِعِ الْعِبَرِ فِي ذَلِكَ مَا حَدَثَ لِأَخٍ لِي عُمِلَتْ لَهُ عَمَلِيَّةً جِرَاحِيَّةً خُدِّرَ قَبْلَهَا بِالْبَنْجِ (كُلُورُفُورْم) فَكَانَ مِنْ تَأْثِيرِهِ فِيهِ أَنَّهُ شَعَرَ بِأَنَّ رُوحَهُ تُسَلُّ مِنْ بَدَنِهِ وَأَنَّهُ قَادِمٌ عَلَى رَبِّهِ وَقَدْ طَالَ الْأَمَدُ عَلَى انْدِمَالِ جُرْحِهِ، وَكَانَ قَبْلَ ظُهُورِ أَمَارَاتِ الشِّفَاءِ مِنْهُ يَخَافُ أَنْ يَذْهَبَ بِنَفْسِهِ فَيَنْدَمُ عَلَى مَا فَاتَ وَيَتَحَسَّرُ عَلَى مَا كَانَ مِنْهُ مِنَ التَّفْرِيطِ وَالتَّقْصِيرِ فِي
الْوَاجِبَاتِ وَإِضَاعَةِ الْأَوْقَاتِ الطَّوِيلَةِ فِي الْبِطَالَةِ وَاللهْوِ وَإِنْ كَانَ مِنَ الْمُبَاحَاتِ وَعَزَمَ عَلَى الْجِدِّ وَالتَّشْمِيرِ فِيمَا بَقِيَ مِنْ عُمُرِهِ، إِنْ عَافَاهُ اللهُ مِنْ مَرَضِهِ، حَتَّى عَزَمَ عَلَى الِاسْتِمْرَارِ عَلَى تَرْكِ شُرْبِ الدُّخَّانِ، الَّذِي مَنَعَهُ الطَّبِيبُ مِنْهُ فِي أَثْنَاءِ أَخْذِهِ بِالْعِلَاجِ، وَلَكِنَّهُ لَمَّا عَادَ إِلَى مِثْلِ مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الصِّحَّةِ عَلَى أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ سَابِغَةً عَادَ كَذَلِكَ لِجَمِيعِ أَعْمَالِهِ وَعَادَاتِهِ السَّابِقَةِ، عَلَى أَنَّهُ تَذَكَّرَ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ هَذِهِ الْآيَةَ (وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ) وَعَدَّ مَا وَقَعَ لَهُ شَاهِدًا لَهَا وَمِثَالًا تُعْرَفُ بِهِ حَقِيقَةُ تَفْسِيرِهَا.
وَيُسْتَنْبَطُ مِنَ الْآيَةِ أَنَّ الطَّرِيقَةَ الْمُثْلَى لِإِقَامَةِ النَّاسِ عَلَى صِرَاطِ الْحَقِّ وَالْفَضِيلَةِ إِنَّمَا هِيَ حَمْلُهُمْ عَلَى ذَلِكَ بِالْعَمَلِ وَالتَّعْوِيدِ، مَعَ التَّعْلِيمِ وَحُسْنِ التَّلْقِينِ، كَمَا يُرَبَّى الْأَطْفَالُ فِي الصِّغَرِ، وَكَمَا يُمَرَّنُ الرِّجَالُ عَلَى أَعْمَالِ الْعَسْكَرِ، وَأَنَّ مِنْ أَكْبَرِ الْخَطَأِ أَنْ يُسْمَحَ لِلْأَحْدَاثِ بِطَاعَةِ شَهَوَاتِهِمْ، وَاتِّبَاعِ أَهْوَائِهِمْ، بِشُبْهَةِ تَرْبِيَتِهِمْ عَلَى الْحُرِّيَّةِ وَالِاسْتِقْلَالِ، الَّذِي يَهْدِيهِمْ إِلَى الْحَقِّ وَالْفَضِيلَةِ بِمَا يُفِيدُهُمُ الْعِلْمُ فِي سِنِّ الرُّشْدِ مِنَ الِاقْتِنَاعِ بِطُرُقِ الِاسْتِدْلَالِ، أَقُولُ: إِنَّ هَذَا مِنْ أَكْبَرِ الْخَطَأِ وَأَنَا عَالِمٌ بِفَضْلِ التَّرْبِيَةِ الِاسْتِقْلَالِيَّةِ وَمِنَ الدُّعَاةِ إِلَيْهَا لِأَنَّهُ قَلَّمَا يُوجَدُ فِي النَّاسِ مَنْ يَتَّبِعُ هَوَاهُ وَشَهَوَاتِهِ فِي الصِّغَرِ ثُمَّ يَرْجِعُ عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ فِي الْكِبَرِ، بَعْدَ أَنْ يَصِيرَ مَلَكَةً وَعَادَةً لَهُ، لِقِيَامِ الدَّلِيلِ عِنْدَهُ عَلَى أَنَّهُ يُنَافِي الْحَقَّ أَوِ الْعَدْلَ وَالْفَضِيلَةَ، وَإِنَّمَا يَقَعُ مِثْلُ هَذَا مِنْ أَفْرَادٍ مِنَ النَّاسِ خُلِقُوا مُسْتَعِدِّينَ لِلْحِكْمَةِ، بِمَا أُوتُوا مِنْ سَلَامَةِ الْفِطْرَةِ وَقُوَّةِ الْعَزِيمَةِ، أَوْ مِنَ اتِّبَاعِ الرُّسُلِ فِي زَمَنِ الْبَعْثَةِ، وَأَكْثَرُ الْبَشَرِ مُسَخَّرُونَ لِعَادَتِهِمْ، مُنْقَادُونَ
لِمَا أَلِفُوا فِي أَوَّلِ نَشْأَتِهِمْ، لَا يُخَالِفُونَ ذَلِكَ إِلَّا قَلِيلًا، يَتَكَلَّفُونَ الْمُخَالَفَةَ تَكَلُّفًا عِنْدَ عَرُوضِ مَا يَقْتَضِي ذَلِكَ، فَإِذَا زَالَ الْمُقْتَضَى عَادُوا إِلَى عَادَهُمْ وشِنْشِنَتِهِمْ، وَعَمِلُوا عَلَى سَابِقِ شَاكِلَتِهِمْ وَإِنَّمَا تَرْبِيَةُ الصِّغَارِ عَلَى مَا عُرِفَ مِنَ الْحَقِّ، وَتَقَرَّرَ مِنْ أُصُولِ الْفَضِيلَةِ وَالْأَدَبِ، كَتَرْبِيَتِهِمْ عَلَى النَّظَافَةِ وَمُرَاعَاةِ قَوَانِينِ الصِّحَّةِ، لَا يُشْتَرَطُ فِيهَا أَنْ يَعْرِفُوا مِنْ أَوَّلِ النَّشْأَةِ فَائِدَةَ ذَلِكَ بِالدَّلِيلِ وَالْبُرْهَانِ، وَتَأْخِيرِ تَلْقِينِهِمْ هَذِهِ الْفَائِدَةَ إِلَى وَقْتِ الِاسْتِعْدَادِ لَهَا فِي الْكِبَرِ لَا يُنَافِي تَرْبِيَةَ الِاسْتِقْلَالِ، وَأَوْضَحُ الشَّوَاهِدِ وَالْأَمْثِلَةِ الْمَعْرُوفَةِ عَلَى مَا قُلْنَا فُشُوُّ السُّكْرِ فِي أُمَمِ الْإِفْرِنْجِ وَمُقَلِّدَتِهِمْ مِنَ الشَّرْقِيِّينَ، فَإِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ ضَارٌّ قَبِيحٌ، وَلَا يَكَادُ يُوجَدُ فِي مِائَةِ الْأَلْفِ مِنْهُمْ وَاحِدٌ يَتْرُكُهُ بَعْدَ أَنِ اعْتَادَهُ وَأَدْمَنَهُ لِاقْتِنَاعِهِ بِضَرَرِهِ مِمَّا
ثَبَتَ مِنَ الدَّلَائِلِ الطِّبِّيَّةِ وَالتَّجَارِبِ الْقَطْعِيَّةِ.
(وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلَّا سَاءَ مَا يَزِرُونَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْأَخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينِ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ) .
بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى لَنَا فِي هَذِهِ الْآيَاتِ شَأْنًا آخَرَ مَنْ شُئُونِ الْكُفَّارِ الْمُكَذِّبِينَ بِآيَاتِهِ فِي الدُّنْيَا وَهُوَ غُرُورُهُمْ بِهَا، وَافْتِتَانُهُمْ بِمَتَاعِهَا، وَإِنْكَارُهُمُ الْبَعْثَ وَالْجَزَاءَ، وَمَا يُقَابِلُهُ مِنْ حَالِهِمْ فِي الْآخِرَةِ يَوْمَ يُكْشَفُ الْغِطَاءُ، وَهُوَ مَا يَكُونُ مِنْ حَسْرَتِهِمْ وَنَدَمِهِمْ عَلَى تَفْرِيطِهِمُ السَّابِقِ، وَغُرُورِهِمْ بِذَلِكَ الْمَتَاعِ الزَّائِلِ، وَقَفَّى عَلَيْهِ بِبَيَانِ حَقِيقَةِ الدُّنْيَا وَالْمُقَابَلَةِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْآخِرَةِ، فَقَالَ عَزَّ مِنْ قَائِلٍ:
(وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ) قِيلَ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَتِمَّةٌ لِمَا سَبَقَهَا، وَإِنَّ " قَالُوا " فِيهَا مَعْطُوفٌ عَلَى " عَادُوا " فِيمَا قَبْلَهَا، أَيْ لَوْ رُدَّ أُولَئِكَ إِلَى الدُّنْيَا لَعَادُوا
لِمَا نُهُوا عَنْهُ مِنَ الْكُفْرِ وَسَيِّءِ الْأَعْمَالِ، وَصَرَّحُوا ثَانِيَةً بِمَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ إِنْكَارِ الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ، وَالظَّاهِرُ الْمُخْتَارُ مَا بَيَّنَاهُ آنِفًا فَالْعَطْفُ فِيهِ عَطْفُ جُمَلٍ مُسْتَأْنَفٌ، وَ (إِنْ) فِي ابْتِدَاءِ مَقُولِ الْقَوْلِ نَافِيَةٌ بِمَعْنَى " مَا " أَيْ وَقَالَ أُولَئِكَ الْمُشْرِكُونَ: مَا الْحَيَاةُ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا لَا حَيَاةَ بَعْدَهَا، وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَسَنَذْكُرُ مَا يَسْتَلْزِمُهُ هَذَا الِاعْتِقَادُ مِنَ الشَّرِّ وَالْفَسَادِ فِي آخِرِ تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَاتِ.
(وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ) تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ مِثْلِ هَذَا التَّعْبِيرِ قَرِيبًا، وَوَقْفُهُمْ
عَلَى رَبِّهِمْ عِبَارَةٌ عَنْ وَقْفِ الْمَلَائِكَةِ إِيَّاهُمْ فِي الْمَوْقِفِ الَّذِي حَاسَبَهُمْ فِيهِ رَبُّهُمْ، وَإِمْسَاكُهُمْ فِيهِ إِلَى أَنْ يَحْكُمَ بِمَا شَاءَ فِيهِمْ، فَهُوَ مِنْ قَبِيلِ وُقُوفًا بِهَا صَحْبِي عَلَيَّ مَطِيَّهُمْ أَيْ يَقِفُونَ مَطِيَّهُمْ عِنْدِي وُقُوفًا، وَلَا يُشْتَرَطُ فِي هَذَا أَنْ يَكُونُوا فِي مَكَانٍ أَعْلَى مِنَ الْمَكَانِ الَّذِي هُوَ فِيهِ. أَوِ الْمَعْنَى يَحْبِسُونَهَا عَلَيَّ بِإِمْسَاكِهَا عِنْدِي. وَإِنَّمَا عَدَّى الْوَقْفَ وَالْوُقُوفَ الَّذِي بِهَذَا الْمَعْنَى بِعَلَيَّ وَكَذَا الْحَبْسُ وَالْإِمْسَاكُ الَّذِي فُسِّرَ بِهِ لِدَلَالَتِهِ عَلَى مَعْنَى الْقَصْرِ، قَالَ تَعَالَى:(فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ)(5: 4) أَيْ مِمَّا أَمْسَكَتْهُ الْجَوَرِاحُ مَقْصُورًا عَلَيْهِ فَلَمْ تَأْكُلْ مِنْهُ لِأَجْلِكُمْ، وَكَذَلِكَ حَبَسُ الْعَقَارِ وَوَقْفُهُ عَلَى الْفُقَرَاءِ وَسَائِرِ وُجُوهِ الْبِرِّ فِيهِ مَعْنَى قَصْرِهِ عَلَى ذَلِكَ. وَالَّذِينَ تَقِفُهُمُ الْمَلَائِكَةُ وَتَحْبِسُهُمْ فِي مَوْقِفِ الْحِسَابِ امْتِثَالًا لِأَمْرِ اللهِ تَعَالَى فِيهِمْ:(وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ)(37: 24) يَكُونُونَ مَقْصُورِينَ عَلَى أَمْرِ اللهِ تَعَالَى، أَوْ يَكُونُ أَمْرُهُمْ مَقْصُورًا عَلَى اللهِ تَعَالَى لَا يَتَصَرَّفُ فِيهِ غَيْرُهُ (يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ) (82: 19) وَإِنَّمَا أَطَلْتُ فِي بَيَانِ كَوْنِ اسْتِعْمَالِ " وَقَفَ " هُنَا مُتَعَدِّيًا بِعَلَى بِمَعْنَى مَا تَقَدَّمَ قَرِيبًا فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: (وُقِفُوا عَلَى النَّارِ)(27: 6) لِأَنَّ الْمُفَسِّرِينَ اضْطَرَبُوا فِي التَّعْدِيَةِ هُنَا فَحَمَلَ الْكَلَامَ بَعْضُهُمْ عَلَى التَّمْثِيلِ، وَبَعْضُهُمْ عَلَى الْكِنَايَةِ، وَبَعْضُهُمْ عَلَى مَجَازِ الْحَذْفِ أَوْ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَجَازِ، وَجَعَلَهُ بَعْضُهُمْ مِنَ الْوُقُوفِ عَلَى الشَّيْءِ مَعْرِفَةً وَعِلْمًا وَجَاءَ بَعْضُهُمْ بِتَأْوِيلَاتٍ أُخْرَى لَا حَاجَةَ إِلَى ذِكْرِهَا.
بَيَّنَّا آنِفًا فِي تَفْسِيرِ (وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ) أَنَّ جَوَابَ " لَوْ " حُذِفَ لِتَذْهَبَ النَّفْسُ فِي تَصَوُّرِهِ كُلَّ مَذْهَبٍ يَقْتَضِيهِ الْمَقَامُ، وَلِلْإِيذَانِ بِأَنَّهُ لَا يُحِيطُ بِهِ نِطَاقُ الْكَلَامِ، وَمِنْ شَأْنِ السَّامِعِ لِمِثْلِ هَذَا أَنْ يَنْتَظِرَ بَيَانًا لِمَا يَقَعُ فِي تِلْكَ الْحَالِ، فَإِنْ لَمْ يُوَافِهِ الْمُتَكَلِّمُ بِهِ تَوَجَّهَتْ نَفْسُهُ إِلَى السُّؤَالِ عَنْهُ، فَلِهَذَا جَاءَ الْبَيَانُ جَوَابًا لِسُؤَالٍ مُقَدَّرٍ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى:(قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ) إِدْخَالُ الْبَاءِ عَلَى الْحَقِّ يُفِيدُ تَأْكِيدَ الْمَعْنَى، أَيْ قَالَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَلَيْسَ هَذَا الَّذِي أَنْتُمْ فِيهِ مِنَ الْبَعْثِ هُوَ الْحَقُّ الَّذِي لَا رَيْبَ فِيهِ؟ (قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا) أَيْ بَلَى هَذَا الْحَقُّ الَّذِي لَا رَيْبَ فِيهِ وَلَا بَاطِلَ يَحُومُ حَوْلَهُ، اعْتَرَفُوا وَأَكَّدُوا اعْتِرَافَهُمْ بِالْيَمِينِ، فَشَهِدُوا بِذَلِكَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ، فَبِمَاذَا أَجَابَهُمْ رَبُّ الْعَالَمِينَ؟ (قَالَ
فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ
تَكْفُرُونَ) أَيْ إِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، فَذُوقُوا الْعَذَابَ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ، بِسَبَبِ كُفْرِكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ عَلَيْهِ دَائِمُونَ. ثُمَّ قَفَّى عَلَى ذِكْرِ مَا رَبِحُوا مِنَ الشَّقَاءِ وَالْعَذَابِ، بِبَيَانِ مَا خَسِرُوا مِنَ السَّعَادَةِ وَالثَّوَابِ وَإِنَّمَا هُوَ خَسْرٌ عَلَى خَسْرٍ فَقَالَ:
(قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللهِ) أَيْ خَسِرَ أُولَئِكَ الْكُفَّارُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللهِ تَعَالَى كُلَّ مَا رَبِحَهُ وَفَازَ بِهِ الْمُؤْمِنُونَ بِلِقَائِهِ مِنْ ثَمَرَاتِ الْإِيمَانِ وَعِبَادَةِ اللهِ وَمُنَاجَاتِهِ فِي الدُّنْيَا، كَالْقَنَاعَةِ وَالْإِيثَارِ وَالرِّضَاءِ مِنَ اللهِ فِي كُلِّ حَالٍ، وَالشُّكْرِ لَهُ عِنْدَ النِّعْمَةِ وَالصَّبْرِ وَالْعَزَاءِ وَالطُّمَأْنِينَةِ عِنْدَ الْمُصِيبَةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَزَايَا الَّتِي تَصْغُرُ مَعَهَا الْمَصَائِبُ وَالشَّدَائِدُ، وَيَكْبُرُ قَدْرُ النِّعَمِ وَالْمَوَاهِبِ. وَمِنْ ثَمَرَاتِ الْإِيمَانِ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْحِسَابِ الْيَسِيرِ، وَالثَّوَابِ الْكَبِيرِ وَالرِّضْوَانِ الْأَكْبَرِ، وَهُوَ " مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ " كُلُّ ذَلِكَ مِمَّا يَخْسَرُهُ الْمُكَذِّبُونَ بِلِقَاءِ اللهِ بِسَبَبِ تَكْذِيبِهِمْ; لِأَنَّهُمْ يَخْسَرُونَ فِي الْحَقِيقَةِ أَنْفُسَهُمْ، وَإِنَّمَا حَذَفَ مَفْعُولَ " خَسِرَ " لِلدَّلَالَةِ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ، وَجَعَلَ فَاعِلَهُ مَوْصُولًا لِدَلَالَةِ صِلَتِهِ عَلَى سَبَبِ الْخُسْرَانِ، لِأَنَّ التَّكْذِيبَ بِلِقَاءِ اللهِ تَعَالَى يَسْتَلْزِمُ مَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ مِنَ الْأَعْمَالِ وَالْأَحْوَالِ الَّتِي تُفْسِدُ النَّفْسَ، وَمَنْ خَسِرَ نَفْسَهُ بِفَسَادِهَا خَسِرَ كُلَّ شَيْءٍ.
(حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً) أَيْ كَذَّبُوا إِلَى أَنْ جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ مُبَاغِتَةً مُفَاجِئَةً، وَقِيلَ: إِنَّ الْغَايَةَ لِلْخُسْرَانِ بِقَصْرِهِ عَلَى مَا كَانَ مِنْهُ فِي الدُّنْيَا. وَالسَّاعَةُ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ الزَّمَنُ الْقَصِيرُ الْمُعَيَّنُ بِعَمَلٍ يَقَعُ فِيهِ، يُقَالُ: جَلَسْتُ إِلَيْهِ سَاعَةً، وَغَابَ عَنِّي سَاعَةً، وَأُطْلِقَ فِي كُتُبِ الدِّينِ عَلَى الْوَقْتِ الَّذِي يَنْقَضِي بِهِ أَجْلُ هَذِهِ الْحَيَاةِ وَيَخْرَبُ هَذَا الْعَالَمُ، وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ فِي زَمَنٍ قَصِيرٍ. وَعَلَى مَا يَلِي ذَلِكَ مِنَ الْبَعْثِ وَالْحِسَابِ وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ. فَإِنْ كَانَ إِطْلَاقُهُ عَلَيْهِ بِالتَّبَعِ لِإِطْلَاقِهِ عَلَى سَاعَةِ خَرَابِ الْعَالَمِ فَذَاكَ، وَإِلَّا كَانَ وَجْهُ تَسْمِيَتِهِ سَاعَةً بِاعْتِبَارِ سُرْعَةِ الْحِسَابِ فِيهِ [رَاجِعْ ص 190 ج 2 ط الْهَيْئَةِ] أَوْ بِالْإِضَافَةِ إِلَى مَا بَعْدَهُ قَوْلَانِ: وَهَذِهِ السَّاعَةُ سَاعَةُ هَذَا الْعَالَمِ كُلِّهِ، وَمِنْ دُونِهَا سَاعَةُ كُلِّ فَرْدٍ وَقِيَامَتِهِ، وَهُوَ الْوَقْتُ الَّذِي يَمُوتُ فِيهِ وَيَقْدَمُ عَلَى ذَلِكَ
الْعَالَمِ، وَكَذَا سَاعَةُ الْأُمَّةِ أَوِ الْجِيلِ; وَلِذَلِكَ قَالُوا: إِنَّ الْقِيَامَةَ ثَلَاثٌ: كُبْرَى وَوُسْطَى وَصُغْرَى، وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْبَحْثُ فِي الْجُزْءِ الْخَامِسِ مِنَ التَّفْسِيرِ [رَاجِعْ ص 174 ج 5 ط الْهَيْئَةِ] وَفَسَّرَ الرَّاغِبُ السَّاعَةَ هُنَا بِالْقِيَامَةِ الصُّغْرَى، إِذْ هُوَ الَّذِي يَنْطَبِقُ عَلَى الْكُفَّارِ الَّذِينَ نَزَلَتْ فِيهِمْ هَذِهِ الْآيَاتُ، وَالْقِيَامَةُ الْكُبْرَى إِنَّمَا تَقُومُ عَلَى آخِرِ مَنْ يَكُونُ مِنَ الْخَلْقِ عَلَى هَذِهِ الْأَرْضِ. وَالْجُمْهُورُ يُفَسِّرُونَهَا بِالْقِيَامَةِ الْكُبْرَى وَهِيَ بِاعْتَبَارِ غَايَتِهَا - وَهُوَ يَوْمٌ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ - تَصْدُقُ عَلَى مَنْ نَزَلَتِ الآيَةُ: فِيهِمْ وَعَلَى غَيْرِهِمْ، وَبِاعْتَبَارِ بِدَايَتِهَا تَصْدُقُ عَلَى آخِرِ مَنْ يَعِيشُ فِي الدُّنْيَا فَقَطْ. وَيَرَوْنَ أَنَّ الْبَغْتَةَ لَا تَظْهَرُ فِي مَوْتِ الْأَفْرَادِ لِمَا يَكُونُ لَهُ فِي الْغَالِبِ مِنَ الْمُقَدِّمَاتِ وَالْعَلَامَاتِ الَّتِي يُعْرَفُ بِهَا وَقْتُهُ فِي الْجُمْلَةِ، وَقَدْ ذَكَرَ مَجِيءَ السَّاعَةِ
بَغْتَةً فِي عِدَّةِ آيَاتٍ غَيْرِ هَذِهِ يَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهَا الْقِيَامَةَ الْكُبْرَى الْعَامَّةَ، وَهِيَ الَّتِيَ وَرَدَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَنَّ اللهَ تَعَالَى أَخْفَى عِلْمَهَا عَنْ كُلِّ أَحَدٍ حَتَّى الرُّسُلِ وَالْمَلَائِكَةِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى:(وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ)(31: 34) فَلَا يَدُلُّ عَلَى مَجِيءِ الْمَوْتِ بَغْتَةً، وَلَا عَلَى جَهْلِ كُلِّ أَحَدٍ بِوَقْتِهِ، فَقَدْ يُعْرَفُ بِأَسْبَابِهِ كَالْأَمْرَاضِ وَالْجُرُوحِ وَقَدْ يُقَالُ: إِنَّ الْمَرَضَ وَنَحْوَهُ لَا يَدُلُّ عَلَى الْمَوْتِ مَهْمَا يَكُنْ شَدِيدًا، فَكَمْ مِنْ مَرِيضٍ جَزَمَ الْأَطِبَّاءُ بِأَنَّهُ لَا يَعِيشُ إِلَّا أَيَّامًا أَوْ سَاعَاتٍ قَدْ شُفِيَ مِنْ مَرَضِهِ ذَاكَ وَعَاشَ بَعْدَهُ عِدَّةَ أَعْوَامٍ، عَلَى أَنَّ الْمَرِيضَ لَا يَيْئَسُ مِنَ الْحَيَاةِ مَا دَامَ فِيهِ رَمَقٌ، فَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ فِيهِ - إِنْ مَاتَ فِي مَرَضِهِ -: أَنَّ الْمَوْتَ جَاءَهُ بَغْتَةً، وَإِنْ كَانَ هَذَا لَا يُعَدُّ فِي الْعُرْفِ مِنْ مَوْتِ الْفَجْأَةِ، وَمَنْ لَمْ يَجِئْهُ الْمَوْتُ فَجْأَةً جَاءَهُ الْمَرَضُ الَّذِي يَعْقُبُهُ الْمَوْتُ فَجْأَةً، وَلَاتَ حِينَ اسْتِعْدَادٍ، وَلَا رُجُوعٍ عَنْ شِرْكٍ وَإِلْحَادٍ، بَلْ يَمُوتُ الْمَرْءُ عَلَى مَا عَاشَ عَلَيْهِ، وَيُبْعَثُ عَلَى مَا مَاتَ عَلَيْهِ، وَيَنْدُرُ أَنْ يَظْهَرَ لِأَحَدٍ فِي مَرَضِ مَمَاتِهِ ضَلَالُهُ الَّذِي عَاشَ عَلَيْهِ طُولَ حَيَاتِهِ، وَلَا يَنْكَشِفُ الْغِطَاءُ عَنِ الْإِنْسَانِ وَيَعْلَمُ أَنَّهُ فَارَقَ هَذِهِ الْحَيَاةَ إِلَى الْعَالَمِ الْآخَرِ إِلَّا عِنْدَ خُرُوجِ رُوحِهِ مِنْ بَدَنِهِ، حِينَئِذٍ يَتَحَسَّرُ الْمُفَرِّطُونَ، وَيَنْدَمُ الْمُجْرِمُونَ، ثُمَّ تَتَجَدَّدُ الْحَسْرَةُ فِي مَوْقِفِ الْحِسَابِ، وَتَتَضَاعَفُ عِنْدَ حُلُولِ الْعَذَابِ.
(قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا) هَذَا جَوَابُ " إِذَا " أَيْ: قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللهِ وَأَصَرُّوا عَلَى ذَلِكَ، حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ مَنِيَّتُهُمْ وَهِيَ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِمْ
مَبْدَأُ السَّاعَةِ الْعَامَّةِ وَالْمَرْحَلَةُ الْأُولَى مِنْ مُقَدِّمَاتِ الْقِيَامَةِ، مُفَاجِئَةً لَهُمْ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَكُونُوا يَنْتَظِرُونَهَا، وَلَا يَحْسِبُونَ حِسَابًا وَلَا يُعِدُّونَ عُدَّةً لِمَجِيئِهَا، قَالُوا: يَا حَسْرَتَنَا عَلَى تَفْرِيطِنَا! .
هَذَا أَوَانُكِ فَاحْضُرِي وَبَرِّحِي
…
بِالْأَنْفُسِ مَا شِئْتِ أَنْ تُبَرِّحِي
وَالْحَسْرَةُ - كَمَا قَالَ الرَّاغِبُ - الْغَمُّ عَلَى مَا فَاتَ وَالنَّدَمُ عَلَيْهِ، كَأَنَّ الْمُتَحَسِّرَ قَدِ انْحَسَرَ (أَيْ زَالَ وَانْكَشَفَ) عَنْهُ الْجَهْلُ الَّذِي حَمَلَهُ عَلَى مَا ارْتَكَبَهُ، أَوِ انْحَسَرَتْ عَنْهُ قُوَاهُ مِنْ فَرْطِ الْغَمِّ، أَوْ أَدْرَكَهُ إِعْيَاءٌ عَنْ تَدَارُكِ مَا فَرَطَ مِنْهُ، وَنِدَاءُ الْحَسْرَةِ فَسَّرَهُ سِيبَوَيْهِ بِالْمَعْنَى الَّذِي بَيَّنَّاهُ آنِفًا، وَقَالَ الزَّجَّاجُ: إِنَّ مَعْنَى حَرْفِ النِّدَاءِ تَنْبِيهُ الْمُخَاطَبِينَ، وَقِيلَ: بَلِ الْمُرَادُ بِهِ تَنْبِيهُ الْمُتَكَلِّمِ لِنَفْسِهِ، وَتَذْكِيرُهَا بِسَبَبِ مَا حَلَّ بِهِ. وَالتَّفْرِيطُ التَّقْصِيرُ مِمَّنْ قَدَرَ عَلَى الْجِدِّ وَالتَّشْمِيرِ. وَهُوَ مِنَ الْفَرْطِ بِمَعْنَى السَّبْقِ وَمِنْهُ الْفَارِطُ وَالْفَرَطُ: الَّذِي يَسْبِقُ الْمُسَافِرِينَ لِإِعْدَادِ الْمَاءِ لَهُمْ. وَالتَّضْعِيفُ فِيهِ لِلسَّلْبِ وَالْإِزَالَةِ كَجَلَّدْتُ الْبَعِيرَ إِذَا سَلَخْتَ جِلْدَهُ وَأَزَلْتَهُ عَنْهُ. فَيَكُونُ مَعْنَى التَّفْرِيطِ الْحَقِيقِيِّ عَدَمَ الِاسْتِعْدَادِ لِمَا يَنْفَعُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ كَتَقْدِيمِ الْفَرْطِ، أَيْ يَا حَسْرَتَنَا وَغَمَّنَا وَنَدَمَنَا عَلَى مَا كَانَ مِنْ تَفْرِيطِنَا فِيهَا، أَيْ فِي حَيَاتِنَا الدُّنْيَا الَّتِي كُنَّا نَزْعُمُ أَنْ لَا حَيَاةَ لَنَا بَعْدَهَا، أَوْ فِي السَّاعَةِ أَوْ مَا هِيَ مِفْتَاحٌ لَهُ مِنَ الدَّارِ الْآخِرَةِ وَهِيَ تَشْمَلُ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ، وَقَدْ جَعَلَهُمَا بَعْضُهُمْ مَرْجِعَيْنِ مُسْتَقِلَّيْنِ، أَيْ عَلَى تَفْرِيطِنَا
فِي شَأْنِهَا بِعَدَمِ الِاسْتِعْدَادِ لَهَا بِالْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَقِيلَ: إِنَّ الضَّمِيرَ لِلْأَعْمَالِ الصَّالِحَاتِ الْمَفْهُومَةِ مِنْ كَلِمَةِ " فَرَّطْنَا " لِأَنَّ التَّقْصِيرَ إِنَّمَا يَكُونُ فِي الْعَمَلِ، وَقِيلَ: لِلصَّفْقَةِ الْمَفْهُومَةِ مِنْ كَلِمَةِ " خَسِرَ " وَهِيَ بَيْعُهُمُ الْآخِرَةَ بِالدُّنْيَا، وَهَذَا أَضْعَفُ الْأَقْوَالِ، وَأَقْوَاهَا أَوَّلُهَا، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه. وَمِنْ غَرَائِبِ غَفَلَاتِ الْمُفَسِّرِينَ مَا نَقَلَهُ بَعْضُ أَذْكِيَائِهِمْ عَنْ بَعْضٍ مِنْ دَعْوَى أَنَّ مَرْجِعَ الضَّمِيرِ فِي هَذَا الْقَوْلِ غَيْرُ مَذْكُورٍ فِي كَلَامِهِمْ، عَلَى كَوْنهِ هُوَ الْمَذْكُورَ فِيهِ دُونَ سِوَاهُ مِنَ الْمَرَاجِعِ الثَّلَاثَةِ الْأُخْرَى، وَلَكِنَّهُمْ ذَهَلُوا عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْهُمْ:(وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا) إِلَخْ، وَعَنْ كَوْنِ مَا بَعْدَهُ بَيَانًا لِعَاقِبَتِهِ وَمَا تَرَتَّبَ عَلَيْهِ لَا سِيَاقًا جَدِيدًا مُسْتَقِلًّا، وَأَمَّا السَّاعَةُ فَهِيَ مَذْكُورَةٌ فِيمَا حَكَاهُ اللهُ مِنْ شَأْنِهِمْ لَا عَنْهُمْ، فَكَانَ عَوْدُ الضَّمِيرِ عَلَيْهَا فِي الْمَرْتَبَةِ الثَّانِيَةِ مِنَ الْقُوَّةِ.
(وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ) الْأَوْزَارُ: جَمْعُ وِزْرٍ، وَهُوَ بِالْكَسْرِ الْحِمْلُ
الثَّقِيلُ، وَوَزَرَهُ (بِوَزْنِ وَعَدَهُ) حَمَلَهُ عَلَى ظَهْرِهِ، وَيُطْلَقُ الْوِزْرُ عَلَى الْإِثْمِ وَالذَّنْبِ ; لِأَنَّ ثِقَلَهُ عَلَى النَّفْسِ كَثِقَلِ الْحِمْلِ عَلَى الظَّهْرِ، وَهُوَ الْمُرَادُ فِي الْآيَةِ، وَجَعْلُ الذُّنُوبِ مَحْمُولَةً عَلَى الظُّهُورِ مَجَازٌ مِنْ بَابِ التَّمْثِيلِ بِالِاسْتِعَارَةِ؛ لِأَنَّ حَالَةَ الْأَنْفُسِ فِيمَا تُقَاسِيهِ مِنْ سُوءِ تَأْثِيرِ الذُّنُوبِ فِيهَا وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ مِنَ التَّعَبِ وَالشَّقَاءِ وَالْآلَامِ يُشْبِهُ هَيْئَةَ الْأَبْدَانِ فِي حَالِ نَوْئِهَا بِالْأَحْمَالِ الثَّقِيلَةِ، وَمَا تُقَاسِيهِ فِي ذَلِكَ مِنَ التَّعَبِ وَالْجَهْدِ وَالزَّحِيرِ، أَوْ هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الْقَوْلِ بِتَجَسُّمِ الْمَعَانِي وَالْأَعْمَالِ فِي الْآخِرَةِ، وَتَمَثُّلِهَا هِيَ وَمَادَّتِهَا بِصُوَرٍ تُنَاسِبُهَا فِي الْحُسْنِ أَوِ الْقُبْحِ، كَمَا وَرَدَ فِي الْغُلُولِ وَالْمَالِ الَّذِي لَا تُؤَدَّى زَكَاتُهُ، وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ وَعَمْرِو بْنِ قَيْسٍ الْمُلَائِيِّ أَنَّ الْأَعْمَالَ الْقَبِيحَةَ تَتَمَثَّلُ بِصُورَةِ رَجُلٍ حَسَنٍ أَوْ صُورَةٍ حَسَنَةٍ تَحْمِلُ صَاحِبَهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْقَوْلُ مِنْ قَبِيلِ التَّمْثِيلِ أَيْضًا. وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ يُنَادُونَ الْحَسْرَةَ الَّتِي أَحَاطَتْ بِهِمْ أَسْبَابُهَا وَهُمْ فِي أَسْوَأِ حَالٍ بِمَا يَحْمِلُونَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ، وَقَدْ بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى سُوءَ تِلْكَ الْحَالِ الَّتِي تُلَابِسُهُمْ عِنْدَ اللهَجِ بِذَلِكَ الْمَقَالِ بِقَوْلِهِ:(أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ) فَبَدَأَ هَذِهِ الْجُمْلَةَ بِأَلَا الِافْتِتَاحِيَّةِ الَّتِي يُرَادُ بِهَا الْعِنَايَةُ بِمَا بَعْدَهَا وَتَوْجِيهُ ذِهْنِ السَّامِعِ إِلَيْهِ، يُفِيدُ الْمُبَالِغَةَ فِي تَقْرِيرِهِ وَتَأْكِيدِ مَضْمُونِهِ وَوُجُوبِ الِاهْتِمَامِ بِالِاعْتِبَارِ بِهِ وَ (سَاءَ) فِعْلُ ذَمٍّ أُشْرِبَ مَعْنَى التَّعَجُّبِ أَوِ التَّعْجِيبِ، أَيْ: مَا أَسْوَأَ حِمْلَهُمْ ذَاكَ! أَوْ: مَا أَسْوَأَ تِلْكَ الْأَثْقَالَ الَّتِي يَحْمِلُونَهَا، وَقِيلَ: إِنَّ (سَاءَ) هُنَا الْفِعْلُ الْمُتَعَدِّي، أَيْ سَاءَهُمْ وَأَحْزَنَهُمْ حَمْلُهُمْ لِتِلْكَ الْأَوْزَارِ، أَوْ سَاءَتْهُمْ تِلْكَ الْأَوْزَارُ الَّتِي يَحْمِلُونَهَا. وَالْأَوَّلُ أَبْلَغُ.
ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى حَقِيقَةَ مَا يَغُرُّ النَّاسَ مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُوَ التَّمَتُّعُ الْخَاصُّ بِهَا، وَالْمُقَابِلَةُ
بَيْنَ ذَلِكَ وَبَيْنَ حَظِّ الْمُتَّقِينَ لِلَّهِ فِيهَا مِنَ الدَّارِ الْآخِرَةِ، إِثْرَ بَيَانِ مَا يَلْقَاهُ أُولَئِكَ الْمَفْتُونُونَ بِالْأُولَى عِنْدَمَا يَصِيرُونَ إِلَى الثَّانِيَةِ الَّتِي كَانُوا يُكَذِّبُونَ بِهَا فَقَالَ:
(وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ) اللَّعِبُ: هُوَ الْفِعْلُ الَّذِي لَا يَقْصِدُ بِهِ فَاعِلُهُ مَقْصِدًا صَحِيحًا مِنْ تَحْصِيلِ مَنْفَعَةٍ أَوْ دَفْعِ مَضَرَّةٍ، كَأَفْعَالِ الْأَوْلَادِ الصِّغَارِ الَّتِي يَتَلَذَّذُونَ بِهَا لِذَاتِهَا، فَمَا يُعَالِجُونَهُ مِنْ كَسْرِ حَبَّةِ بَقْلٍ أَوْ إِزَالَةِ غِشَاءٍ عَنْ قِطْعَةِ حَلْوَى
لِأَجْلِ أَكْلِهَا لَا يُسَمَّى لَعِبًا، وَاللهْوُ: مَا يَشْغَلُ الْإِنْسَانَ عَمَّا يَعْنِيهِ وَيُهِمُّهُ، وَيُعَبِّرُ عَنْ كُلِّ مَا بِهِ اسْتِمْتَاعٌ بِاللهْوِ، كَذَا قَالَ الرَّاغِبُ، وَفِي اللِّسَانِ: اللهْوُ مَا لَهَوْتَ بِهِ، وَلَعِبْتَ بِهِ، وَشَغَلَكَ مِنْ هَوًى وَطَرَبٍ وَنَحْوِهَا، ثُمَّ قَالَ: يُقَالُ لَهَوْتُ بِالشَّيْءِ أَلْهُو بِهِ لَهْوًا وَتَلَهَّيْتُ بِهِ - إِذَا لَعِبْتَ بِهِ وَتَشَاغَلْتَ وَغَفَلْتَ بِهِ عَنْ غَيْرِهِ. وَأَقُولُ: إِنَّ الْأَصْلَ فِي اللهْوِ إِذَا أُطْلِقَ يُرَادُ بِهِ مَا يَشْغَلُ الْإِنْسَانَ مِنْ لَعِبٍ وَطَرَبٍ وَدَوَاعِي سُرُورٍ، وَارْتِيَاحٍ عَمَّا يُتْعِبُهُ وَيَشُقُّ عَلَيْهِ مِنَ الْجِدِّ أَوْ يُحْزِنُهُ أَوْ يَسُوءُهُ مِنْ خُطُوبِ الدُّنْيَا وَنَكَبَاتِهَا. ثُمَّ تُوُسِّعَ بِهِ فَصَارَ يُطْلَقُ أَحْيَانًا عَلَى مَا يَسُرُّ وَيَلَذُّ وَإِنْ لَمْ يُقْصَدْ بِهِ التَّشَاغُلُ عَنْ أُمُورِ الْجِدِّ، كَمُغَازَلَةِ النِّسَاءِ وَالِاسْتِمْتَاعِ بِهِنَّ، وَمِنْهُ قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ:
أَلَا زَعَمَتْ بَسْبَاسَةُ الْيَوْمَ أَنَّنِي
…
كَبِرْتُ وَأَلَّا يُحْسِنَ اللهْوَ أَمْثَالِي.
وَقَدْ يُطْلَقُ أَيْضًا عَلَى جِدٍّ يُتَشَاغَلُ بِهِ عَنْ جِدٍّ آخَرَ، وَلَكِنَّ الَّذِي عُرِفَ اسْتِعْمَالُهُ فِي ذَلِكَ الْفِعْلُ لَا الْمَصْدَرُ، فَلَا يُقَالُ: إِنَّ هَذَا الْفِعْلَ لَهْوٌ، بَلْ يُقَالُ لَهَوْتُ بِكَذَا عَنْ كَذَا، أَوْ تَلَهَّيْتُ أَوِ الْتَهَيْتُ بِهِ عَنْهُ. وَمِنْهُ (فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى) (80: 10) وَإِنَّمَا تَشَاغَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْأَعْمَى بِالتَّصَدِّي لِدَعْوَةِ كُبَرَاءِ قُرَيْشٍ إِلَى الْإِسْلَامِ لَا بِشَيْءٍ فِيهِ طَرَبٌ وَلَا سُرُورٌ نَفْسِيٌّ يُسَمَّى لَهْوًا بِإِطْلَاقٍ.
وَالْمَعْنَى أَنَّ هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا الَّتِي قَالَ الْكُفَّارُ: إِنَّهُ لَا حَيَاةَ غَيْرُهَا - وَهِيَ مَا يَتَمَتَّعُونَ بِهِ مِنَ اللَّذَّاتِ الْمَقْصُودَةِ عِنْدَهُمْ لِذَاتِهَا، أَوِ الْمُلْهِيَةِ لَهُمْ عَنْ هُمُومِهَا وَأَكْدَارِهَا - لَيْسَتْ إِلَّا لَعِبًا وَلَهْوًا أَوْ كَاللَّعِبِ وَاللهْوِ فِي عَدَمِ اسْتِتْبَاعِهَا لِشَيْءٍ مِنَ الْفَوَائِدِ وَالْمَنَافِعِ يَكُونُ فِي حَيَاةٍ بَعْدَهَا، أَوْ هِيَ دَائِرَةٌ بَيْنَ عَمَلٍ لَا يُفِيدُ فِي الْعَاقِبَةِ - فَهُوَ كَلَعِبِ الْأَطْفَالِ - وَبَيْنَ عَمَلٍ لَهُ فَائِدَةٌ عَاجِلَةٌ سَلْبِيَّةٌ، كَفَائِدَةِ اللهْوِ هُوَ دَفْعُ الْهُمُومِ وَالْآلَامِ، وَيُوَضِّحُ هَذَا قَوْلُ بَعْضِ الْحُكَمَاءِ: إِنَّ جَمِيعَ لَذَّاتِ الدُّنْيَا سَلْبِيَّةٌ؛ إِذْ هِيَ إِزَالَةُ الْآلَامِ، فَلَذَّةُ الطَّعَامِ مُزِيلَةٌ لِأَلَمِ الْجُوعِ وَبِقَدْرِ هَذَا الْأَلَمِ تَعْظُمُ اللَّذَّةُ فِي إِزَالَتِهِ، وَلَذَّةُ شُرْبِ الْمَاءِ مُزِيلَةٌ لِأَلَمِ الْعَطَشِ كَذَلِكَ.
وَأَمَّا شُرْبُ الْمُنَبِّهَاتِ وَالْمُخَدِّرَاتِ؛ كَالْخَمْرِ وَالْحَشِيشِ وَالدُّخَانِ، فَإِنَّهُ يَكُونُ أَوَّلًا بِالتَّكَلُّفِ وَاحْتِمَالِ الْمَكْرُوهِ وَالْأَلَمِ، فَإِنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ كُلَّهَا مَكْرُوهَةٌ بِالطَّبْعِ كَمَا أَخْبَرَ الْمُجَرِّبُونَ، وَإِنَّمَا يَتَكَلَّفُونَهُ طَلَبًا لِلَذَّةٍ مُتَوَهَّمَةٍ يُقَلِّدُ بِهَا الشَّارِبُ غَيْرَهُ، ثُمَّ يَصِيرُ الْمُؤْلِمُ بِالتَّعَوُّدِ مُلَائِمًا بِإِزَالَتِهِ لِلْأَلَمِ الْمُتَوَلِّدِ مِنْهُ
إِزَالَةً مُؤَقَّتَةً. ذَلِكَ بِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ سُمُومٌ مَكْرُوهَةٌ
فِي نَفْسِهَا، وَمَتَى أَثَّرَ سُمُّهَا فِي الْأَعْصَابِ بِالتَّنْبِيهِ الزَّائِدِ وَغَيْرِهِ أَعْقَبَ ذَلِكَ ضِدَّهُ مِنَ الْفُتُورِ وَالْأَلَمِ، وَهُمَا يُطَارَدَانِ بِالْعَوْدِ إِلَى الشُّرْبِ، كَمَا قَالَ أَشْعَرُ السِّكِّيرِينَ وَأَقْدَرُهُمْ عَلَى تَمْثِيلِ تَأْثِيرِ السُّكْرِ
وَدَاوِنِي بِالَّتِي كَانَتْ هِيَ الدَّاءُ
وَقَالَ:
وَكَأْسٍ شَرِبْتُ عَلَى لَذَّةٍ
…
وَأُخْرَى تَدَاوَيْتُ مِنْهَا بِهَا
وَهَذِهِ اللَّذَّةُ الْأُولَى الَّتِي ذَكَرَهَا وَهْمِيَّةٌ كَمَا قُلْنَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ ذَاقَهَا بَلْ تَوَهَّمَهَا، وَقَلَّدَ بِهَا الْمَفْتُونِينَ بِالسُّكْرِ. وَقَدْ يَقْصِدُ بِالسُّكْرِ إِزَالَةَ آلَامٍ أُخْرَى غَيْرِ أَلَمِ سُمِّ الْخَمْرِ كَالْهُمُومِ وَالْأَكْدَارِ، فَإِنَّ السَّكْرَانَ يَغِيبُ عَنْ عَقْلِهِ وَوِجْدَانِهِ فَلَا يَشْعُرُ بِآلَامِهَا فِي تِلْكَ الْحَالِ، وَقَدْ يَتَضَاعَفُ عَلَيْهِ أَلَمُ الشُّعُورِ وَالْوِجْدَانِ، وَكَثِيرًا مَا يَقَعُ فِي آلَامٍ أُخْرَى بَدَنِيَّةٍ كَالصُّدَاعِ وَالْغَثَيَانِ، أَوْ نَفْسِيَّةٍ كَالَّتِي فَرَّ مِنْهَا، أَوْ مَا هُوَ شَرٌّ مِنْهَا، وَيَصْدُقُ عَلَيْهِ فِي كُلِّ حَالٍ قَوْلُ أَبِي الطَّيِّبِ:
إِذَا اسْتَشْفَيْتَ مِنْ دَاءٍ بِدَاءٍ
…
فَأَقْتَلُ مَا أَعَلَّكَ مَا شَفَاكَا.
وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ سَمَاعَ الْغِنَاءِ وَآلَاتِ الطَّرَبِ لَا يَدْخُلُ فِي عُمُومِ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ؛ لِأَنَّهَا لَذَّةٌ رُوحِيَّةٌ لَا تُعَدُّ دَاعِيَتُهَا مِنَ الْآلَامِ، وَمَنْ دَقَّقَ النَّظَرَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلِمَ أَنَّ السَّمَاعَ لَيْسَ مِنْ ضَرُورِيَّاتِ الْحَيَاةِ الشَّخْصِيَّةِ وَلَا النَّوْعِيَّةِ ; وَلِذَلِكَ كَانَتْ دَاعِيَتُهُ ضَعِيفَةً لَيْسَتْ كَدَاعِيَةِ الْغِنَاءِ وَالْوِقَاعِ، فَكَانَ فَقْدُهُ غَيْرَ مُؤْلِمٍ إِلَّا لِمَنِ اشْتَدَّ وُلُوعُهُ بِهِ، وَهَذَا يَدْخُلُ فِي عُمُومِ الْقَاعِدَةِ. وَلَذَّةُ السَّمَاعِ عِنْدَ غَيْرِهِ - وَهُمُ الْجُمْهُورُ - ضَعِيفَةٌ بِقَدْرِ ضَعْفِ الدَّاعِيَةِ، فَالسَّمَاعُ لَا يُعَدُّ مِنْ أَرْكَانِ هَذِهِ الْحَيَاةِ، وَلَا مِنْ مَقَاصِدِهَا الذَّاتِيَّةِ لِلنَّاسِ، وَإِنَّمَا يَسْتَرْوِحُ إِلَيْهِ أَكْثَرُ أَهْلِهِ لِتَرْوِيحِ النَّفْسِ مِنْ آلَامِ الْحَيَاةِ لَا مِنْ أَلَمِ الدَّاعِيَةِ إِلَيْهِ، وَإِنَّمَا غَلَبَ اسْمُ " اللهْوِ " عَلَيْهِ وَاسْمُ " الْمَلَاهِي " عَلَى آلَاتِهِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَقْصُودٍ لِذَاتِهِ.
وَفِي الْآيَةِ وَجْهٌ آخَرُ يَصِحُّ جَمْعُهُ مَعَ الْأَوَّلِ، وَهُوَ أَنَّ مَتَاعَ هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا الْخَاصَّ بِهَا مَتَاعٌ قَلِيلٌ، أَجَلُهُ قَصِيرٌ، لَا يَصِحُّ أَنْ يَغْتَرَّ بِهِ الْعَاقِلُ الرَّاشِدُ، فَهُوَ لَيْسَ إِلَّا كَلَعِبِ الْأَطْفَالِ فِي قِصَرِ مُدَّتِهِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ الطِّفْلَ يُسْرِعُ إِلَيْهِ الْمَلَلُ مِنْ كُلِّ لُعْبَةٍ، أَوْ مِنْ حَيْثُ إِنَّ زَمَنَ الطُّفُولَةِ قَصِيرٌ، كُلُّهُ غَفْلَةٌ، أَوْ كَلَهْوِ الْمَهْمُومِ فِي قِصَرِ مُدَّتِهِ، عَلَى كَوْنِهِ غَيْرَ مَطْلُوبٍ لِذَاتِهِ.
(وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينِ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ) هَذَا خَبَرٌ مُؤَكَّدٌ بِلَامِ الْقَسَمِ،
يُفِيدُ بِمُقَابَلَتِهِ أَنَّ نَعِيمَ الْآخِرَةِ لَيْسَ كَنَعِيمِ الدُّنْيَا لَعِبًا وَلَهْوًا يَعْبَثُ بِهِ الْعَابِثُونَ، أَوْ يَتَشَاغَلُونَ وَيَتَسَلَّوْنَ بِهِ عَنِ الْأَكْدَارِ وَالْهُمُومِ، بَلْ هُوَ مِمَّا يَقْصِدُهُ الْعَاقِلُ لِفَوَائِدِهِ وَمَنَافِعِهِ الثَّابِتَةِ الدَّائِمَةِ - وَأَنَّ تِلْكَ الدَّارَ لِلَّذِينِ يَتَّقُونَ الشِّرْكَ وَالشُّرُورَ الْمُحَرَّمَةَ خَيْرٌ مِنْ هَذِهِ الدَّارِ لِلْمُشْرِكِينَ الْمُنْكِرِينَ لِلْبَعْثِ الَّذِينَ لَا حَظَّ لَهُمْ مِنْ حَيَاتِهِمْ إِلَّا التَّمَتُّعَ الَّذِي هُوَ مِنَ اللَّعِبِ فِي قِصَرِ مُدَّتِهِ، وَعَدَمِ فَائِدَتِهِ،
أَوْ مِنْ قَبِيلِ اللهْوِ فِي كَوْنِهِ دَفْعًا لِأَلَمِ الْهَمِّ وَالْكَدَرِ، أَوْ ضَجَرِ الشَّقَاءِ وَالتَّعَبِ، دَعْ مَا يَسْتَلْزِمُهُ مِنَ الْمَعَاصِي الْمُفْضِيَةِ إِلَى عَذَابِ الْأَخَرَةِ، ذَلِكَ بِأَنَّ نَعِيمَ الْآخِرَةِ الْبَدَنِيَّ أَعْلَى وَأَكْمَلُ مِنْ نَعِيمِ الدُّنْيَا فِي ذَاتِهِ، وَفِي دَوَامِهِ وَثَبَاتِهِ، وَفِي كَوْنِهِ إِيجَابِيًّا لَا سَلْبِيًّا، وَفِي كَوْنِهِ غَيْرَ مَشُوبٍ وَلَا مُنَغَّصٍ بِشَيْءٍ مِنَ الْآلَامِ، وَفِي كَوْنِهِ لَا يَعْقُبُهُ ثِقْلٌ، وَلَا مَرَضٌ، وَلَا إِزَالَةٌ أَقْذَارٍ، فَمَا الْقَوْلُ بِنَعِيمِهَا الرُّوحَانِيِّ مِنْ لِقَاءِ اللهِ وَرِضْوَانِهِ، وَكَمَالِ مَعْرِفَتِهِ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ بِرُؤْيَتِهِ؟ أَيْ أَتُغْفِلُونَ فَلَا تَعْقِلُونَ هَذَا الْفَرْقَ أَيُّهَا الْمُكَذِّبُونَ بِالْآخِرَةِ؟ أَمَا لَوْ عَقَلْتُمْ لَآمَنْتُمْ.
قَالَ الْمُنَجِّمُ وَالطَّبِيبُ كِلَاهُمَا
…
لَا تُبْعَثُ الْأَمْوَاتُ قُلْتُ إِلَيْكُمَا
إِنْ صَحَّ قَوْلُكُمَا فَلَسْتُ بِخَاسِرٍ
…
أَوْ صَحَّ قَوْلِي فَالْخَسَارُ عَلَيْكُمَا.
قَرَأَ ابْنُ عَارِمٍ (وَلَدَارُ الْآخِرَةِ) بِإِضَافَةِ الصِّفَةِ لِلْمَوْصُوفِ لِمُغَايَرَتِهَا لَهُ، وَلَا نِزَاعَ بَيْنَ النُّحَاةِ فِي وُقُوعِ مِثْلِ هَذَا فِي الْكَلَامِ الْعَرَبِيِّ، وَحَسْبُكَ وُرُودُهُ فِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ الْكُوفِيُّونَ وَالْبَصْرِيُّونَ فِي اطِّرَادِهِ وَطَرِيقَةِ إِعْرَابِهِ، فَالْأَوَّلُونَ يُعْرِبُونَهُ بِغَيْرِ تَأْوِيلٍ، وَالْآخَرُونَ يَرَوْنَ أَنَّهُ لَمْ يَرِدْ إِلَّا بِمُسَوِّغٍ، وَهُوَ هُنَا اسْتِعْمَالُ " الْآخِرَةِ " اسْتِعْمَالَ الْأَسْمَاءِ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ تَعَالَى:(وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى)(93: 4) أَوْ مُرَاعَاةُ مُضَافٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: وَلَدَارُ الْحَيَاةِ الْآخِرَةِ؛ لِأَنَّهُ فِي مُقَابَلَةِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَيَصِحُّ تَقْدِيرُ النَّشْأَةِ أَيْضًا، وَقَرَأَ بَعْضُ الْقُرَّاءِ " يَعْقِلُونَ " بِالْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ مُرَاعَاةً لِلْغَيْبَةِ، وَبَعْضُهُمْ بِالتَّاءِ الْفَوْقِيَّةِ لِلْخِطَابِ.
وَمِنْ مَبَاحِثِ نُكَتِ الْبَلَاغَةِ: أَنَّهُ وَرَدَ فِي مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي " سُورَةِ مُحَمَّدٍ ": (إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ)(47: 36) وَقَوْلُهُ فِي " سُورَةِ الْحَدِيدِ ": (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ)(57: 20) وَقَدْ قَدَّمَ فِي الْآيَاتِ الثَّلَاثِ
اللَّعِبَ عَلَى اللهْوِ، وَقَالَ تَعَالَى فِي " سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ ":(وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ)(29: 64) وَقَدْ قَدَّمَ فِي هَذِهِ ذِكْرَ اللهْوِ عَلَى اللَّعِبِ، وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ لَا يُعْنَوْنَ بِبَيَانِ نُكْتَةٍ لِذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْعَطْفَ بِالْوَاوِ لَا يُفِيدُ تَرْتِيبًا، بَلْ مُطْلَقَ الْجَمْعِ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَرَى أَنَّ مِثْلَ هَذَا لَا يَقَعُ فِي كِتَابِ اللهِ تَعَالَى إِلَّا لِفَائِدَةٍ، وَقَدْ نَقَلَ السَّيِّدُ الْأَلُوسِيُّ فِي " رُوحِ الْمَعَانِي " كَلَامًا رَكِيكًا فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الِاسْتِعْمَالَيْنِ عَزَاهُ إِلَى الدُّرَّةِ، وَقَالَ فِي آخِرِهِ: قَالَهُ مَوْلَانَا شِهَابُ الدِّينِ فَلْيُفْهَمْ، وَهُوَ أَمْرٌ بِمَا لَا يُسْتَطَاعُ مِنْ فَهْمِ ذَلِكَ الْكَلَامِ الْمُضْطَرِبِ الْمُبْهَمِ.
وَالَّذِي يَظْهَرُ لَنَا فِي نُكْتَةِ ذَلِكَ أَنَّ تَقْدِيمَ اللَّعِبِ عَلَى اللهْوِ لَا يَحْتَاجُ إِلَى تَعْلِيلٍ؛ لِأَنَّهُ الْأَصْلُ الْمُقَدَّمُ فِي الْوُجُودِ، وَقَدْ فَصَّلَتْ آيَةُ الْحَدِيدِ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا بِحَسَبِ تَرْتِيبِهِ الَّذِي تَقْتَضِيهِ الْفِطْرَةُ الْبَشَرِيَّةُ، فَقَدَّمَ فِيهَا اللَّعِبَ لِأَنَّ أَوَّلَ عَمَلٍ لِلطِّفْلِ يَلَذُّ لَهُ هُوَ اللَّعِبُ الْمَقْصُودُ عِنْدَهُ لِذَاتِهِ،
وَذَكَرَ بَعْدَهُ اللهْوَ لِمَا فِيهِ مِنَ الْقَصْدِ الَّذِي لَا يَأْتِي مِنَ الطِّفْلِ ; لِأَنَّهُ لَا يَحْصُلُ إِلَّا لِذِي الْفِكْرِ وَبَعْدَهُ الزِّينَةَ الَّتِي هِيَ شَأْنُ سِنِّ الصِّبَا، وَبَعْدَهُ التَّفَاخُرَ الَّذِي هُوَ شَأْنُ الشُّبَّانِ، وَبَعْدَهُ التَّكَاثُرَ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ الَّذِي هُوَ شَأْنُ الْكُهُولِ وَالشُّيُوخِ، فَالنُّكْتَةُ يَنْبَغِي أَنْ تُلْتَمَسَ فِي آيَةِ الْعَنْكَبُوتِ لَا فِي آيَتِي مُحَمَّدٍ وَالْأَنْعَامِ، وَهِيَ قَدْ وَرَدَتْ فِي سِيَاقِ إِقَامَةِ الْحُجَجِ الْعَقْلِيَّةِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، فَذَكَرَ فِيهَا اللهْوَ قَبْلَ اللَّعِبِ عَلَى طَرِيقَةِ التَّدَلِّي الْمُؤْذِنِ بِالِانْتِقَالِ مِنَ الشَّيْءِ إِلَى مَا هُوَ دُونَهُ فِي نَظَرِ الْعُقَلَاءِ، فَإِنَّ اللَّعِبَ مِنَ الْعَاقِلِ الَّذِي لَا يَلِيقُ بِهِ الْعَبَثُ أَقْبَحُ مِنَ اللهْوِ؛ إِذِ اللهْوُ تُقْصَدُ بِهِ فَائِدَةٌ وَلَوْ سَلْبِيَّةً، وَاللَّعِبُ هُوَ الْعَبَثُ الَّذِي لَا تُقْصَدُ بِهِ فَائِدَةٌ أَلْبَتَّةَ، فَهُوَ شَأْنُ الْأَطْفَالِ لَا الْعُقَلَاءِ الْعَالِمِينَ بِالْمَصَالِحِ، الَّذِينَ يَقْصِدُونَ بِكُلِّ عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِهِمْ، إِمَّا دَفْعَ بَعْضِ الْمَضَارِّ، وَإِمَّا تَحْصِيلَ بَعْضِ الْمَنَافِعِ ; وَلِذَلِكَ بَيَّنَ جَهْلَهُمْ بِقَوْلِهِ:(وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ)(29: 64) وَقَالَ فِي الْحُجَّةِ الَّتِي قَبْلَهَا (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ)(29: 63) وَلَا حَاجَةَ إِلَى مَثْلِ هَذَا التَّدَلِّي فِي آيَةِ الْأَنْعَامِ الَّتِي نُفَسِّرُهَا، فَإِنَّهَا لَمْ تَرِدْ فِي سِيَاقِ حُجَجِ الْإِيمَانِ الْعَقْلِيَّةِ الَّتِي يُرَادُ بِهَا بَيَانُ ضَعْفِ نَظَرِ الْمُشْرِكِينَ وَجَهْلِهِمْ، وَإِنْ ذُيِّلَتْ بِالتَّوْبِيخِ عَلَى عَدَمِ عَقْلِ مَا قَرَّرَ فِيهَا وَفِي هَذَا التَّذْيِيلِ، بَلْ وَرَدَتْ فِي بَيَانِ حَقِيقَةِ الدُّنْيَا بَعْدَ الْإِعْلَامِ بِمَا يُصِيبُ الْمَفْتُونِينَ بِهَا فِي الْآخِرَةِ بِحَصْرِ هَمِّهِمْ فِي لَذَّاتِهَا، وَتَلَاهُ بَيَانُ الْمُقَابَلَةِ بَيْنَهُمْ
وَبَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَتَّقُونَ اللهَ فِيهَا، فَفِي مِثْلِ هَذَا السِّيَاقِ - كَآيَةِ " سُورَةِ مُحَمَّدٍ " - يَحْسُنُ التَّرْتِيبُ الْوُجُودِيُّ، بِتَقْدِيمِ اللَّعِبِ عَلَى اللهْوِ الَّذِي هُوَ طَرِيقُ التَّرَقِّي ; لِأَنَّهُ انْتِقَالٌ مِنْ عَبَثٍ لَيْسَ لَهُ عَاقِبَةٌ نَافِعَةٌ إِلَى لَهْوٍ فَائِدَتُهُ سَلْبِيَّةٌ عَاجِلَةٌ ; وَلِذَلِكَ بَيَّنَ بَعْدَهُ أَنَّ عَمَلَ الْمُؤْمِنِينَ الْمُتَّقِينَ فِيهَا - وَمِنْهُ تَمَتُّعُهُمْ بِلَذَّاتِهَا - يُؤْجَرُونَ عَلَيْهِ فِي الْآخِرَةِ، وَأَنَّهَا بِسَبَبِ اعْتِصَامِهِمْ فِيهَا بِالتَّقْوَى، خَيْرٌ لَهُمْ مِنَ الْعَاجِلَةِ الدُّنْيَا.
هَذَا وَإِنَّنِي عِنْدَ بُلُوغِي هَذَا الْبَحْثَ ظَفِرْتُ بِكِتَابِ (دُرَّةِ التَّنْزِيلِ وَغُرَّةِ التَّأْوِيلِ) لِأَبِي عَبْدِ اللهِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ الْخَطِيبِ الْإِسْكَافِيِّ، فَرَاجَعْتُهُ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ فَهْمِي عَلَى مَا تَقَدَّمَ، فَعَلِمْتُ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي نَقَلَ الْأَلُوسِيُّ عَنِ الشِّهَابِ عَنْهُ مَا لَا يَكَادُ يُفْهَمُ. وَمَا ذَلِكَ إِلَّا لِلنَّقْلِ بِالْمَعْنَى دُونَ النَّصِّ، الَّذِي يَكْثُرُ بِسَبَبِهِ الْخَطَأُ فِي النَّقْلِ. وَقَدْ ذَكَرَ الْإِسْكَافِيُّ هَذَا الْبَحْثَ عِنْدَ ذِكْرِ الْآيَةِ الثَّامِنَةِ مِمَّا أَوْرَدَهُ مِنْ " سُورَةِ الْأَنْعَامِ " (وَهِيَ الْآيَةُ ال70) الْوَارِدَةُ فِي اتِّخَاذِ الْكُفَّارِ دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا - مَعَ مَا يُقَابِلُهَا فِي " سُورَةِ الْأَعْرَافِ " (7: 51) مِنِ اتِّخَاذِهِمْ دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا. وَبِهَذِهِ الْمُنَاسَبَةِ ذَكَرَ آيَتَيِ الْحَدِيدِ وَالْعَنْكَبُوتِ اللَّتَيْنِ بَيْنَهُمَا مِثْلُ هَذَا الِاخْتِلَافِ، وَنَسِيَ ذِكْرَ الْآيَةِ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِ تَفْسِيرِهَا. وَسَيَأْتِي ذِكْرُ اتِّخَاذِ الدِّينِ لَعِبًا وَلَهْوًا فِي مَحَلِّهِ. وَقَدِ اعْتَمَدَ الْخَطِيبُ فِي تَفْسِيرِ اللهْوِ فِي الْآيَاتِ أَنَّهُ اجْتِلَابُ الْمَسَرَّةِ بِمُخَالَطَةِ النِّسَاءِ وَهُوَ مُخْطِئٌ فِي ذَلِكَ. وَقَالَ فِي تَعْلِيلِ تَقْدِيمِ اللَّعِبِ عَلَى اللهْوِ فِي " سُورَةِ الْحَدِيدِ ": إِنَّ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا لِمَنِ اشْتَغَلَ بِهَا وَلَمْ يَتْعَبْ لِغَيْرِهَا مَقْسُومَةٌ مِنَ الصِّبَا وَهُوَ وَقْتُ اللَّعِبِ، وَبَعْدَهُ اللهْوُ وَهُوَ التَّرْوِيحُ عَنِ النَّفْسِ
بِمُلَاعَبَةِ النِّسَاءِ، وَيَتْبَعُ ذَلِكَ أَخْذُ الزِّينَةِ لَهُنَّ وَلِغَيْرِهِنَّ. وَمِنْ أَجْلِ الزِّينَةِ نَشَأَتْ مُبَاهَاةُ الْأَكْفَاءِ، وَمُفَاخِرَةُ الْأَشْكَالِ وَالنُّظَرَاءِ، ثُمَّ بَعْدَهُ الْمُكَاثَرَةُ بِالْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ، فَتَرَتَّبَتِ الْحَيَاةُ عَلَى هَذِهِ الْأَحْوَالِ، فَوَجَبَ تَقْدِيمُ حَالِ اللَّعِبِ عَلَى اللهْوِ. اهـ. ثُمَّ قَالَ فِي آيَةِ الْعَنْكَبُوتِ: إِنَّهُ لَا يُرَادُ بِهَا أَنَّ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا كُلُّهَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ. إِلَخْ ثُمَّ قَالَ مَا نَصُّهُ:
" بَلِ الْمُرَادُ الْمُبَالَغَةُ فِي وَصْفِ قِصَرِ مُدَّةَ الدُّنْيَا بِالْإِضَافَةِ إِلَى مُدَّةِ الْأُخْرَى، فَكَأَنَّهُ قَالَ: مَا أَمَدُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا إِلَّا كَأَمَدِ أَزْمِنَةِ اللهْوِ وَاللَّعِبِ، وَهِيَ أَزْمِنَةٌ تُسْتَقْصَرُ لِشُغْلِ النَّفْسِ بِحَلَاوَةِ مَا يُسْتَعْجَلُ، كَمَا قَالَ الْقَائِلُ:
شُهُورٌ يَنْقَضِينَ وَمَا شَعَرْنَا
…
بِأَنْصَافٍ لَهُنَّ وَلَا سِرَارِ.
وَقَالَ الْمُتَأَخِّرُ:
وَلَيْلَةٍ إِحْدَى اللَّيَالِي الْغُرِّ
…
لَمْ تَكُ غَيْرَ شَفَقٍ وَفَجْرِ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مَا ذَكَرْتُ قَبْلُ: مَا ذَكَرَهُ اللهُ بَعْدُ مِنْ قَوْلِهِ: (وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ)(29: 64) أَيْ إِنَّ حَيَاتَهَا تَبْقَى أَبَدًا، وَلَا تُعْرَفُ أَبَدًا، وَإِنَّمَا قَدَّمَ اللهْوَ هُنَا عَلَى اللَّعِبِ لِأَنَّ الْأَزْمِنَةَ الَّتِي يُقَصِّرُهَا اللهْوُ أَكْثَرُ مِنَ الْأَزْمِنَةِ الَّتِي يُقَصِّرُهَا اللَّعِبُ ; لِأَنَّ التَّشَاغُلَ بِهِ أَكْثَرُ. فَلَمَّا كَانَتْ مُعْظَمَ مَا يَسْتَقْصِرُ وَجَبَ تَقْدِيمُ مَا يَكْثُرُ عَلَى مَا هُوَ دُونَهُ فِي الْكَثْرَةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ آخَذُ بِالشَّبَهِ، وَأَبْلَغُ فِي وَصْفِ الْمُشَبَّهِ، وَلَا خِلَافَ أَنَّ النَّاسَ أَزْمِنَتُهُمُ الْمَشْغُولَةُ بِاللهْوِ أَكْثَرُ مِنْ أَزْمِنَتِهِمُ الْمَشْغُولَةِ بِاللَّعِبِ، وَأَنَّ طِيبَهَا لَهُمْ يُخَيِّلُ قِصَرَهَا إِلَيْهِمْ، وَيَتَفَاوَتُ طِيبُهَا عَلَى حَسَبِ تَفَاوُتِ مَيْلِ النَّفْسِ إِلَى مَحْبُوبِهَا، فَمُعْظَمُ مَا تَرَى الزَّمَانَ الطَّوِيلَ قَصِيرًا زَمَانُ اللهْوِ بِالنِّسَاءِ، وَهُوَ الَّذِي نَشَأَتْ مِنْهُ فِتْنَةُ الرِّجَالِ وَهَلَاكُ أَهْلِ الْحُبِّ ". اهـ. وَمَا قُلْنَاهُ أَقْرَبُ مِنَ اللَّفْظِ نَسَبًا، وَأَشَدُّ ارْتِبَاطًا بِالْمَعْنَى وَأَقْوَى سَبَبًا.
هَذَا وَإِنَّنَا قَدْ وَعَدْنَا بِأَنْ نُبَيِّنَ فِي آخِرِ تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَاتِ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى إِنْكَارِ الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ مِنْ فَسَادِ الْفِطْرَةِ الْبَشَرِيَّةِ الْمُفْضِي إِلَى الشُّرُورِ الْكَثِيرَةِ، فَنَقُولُ:
إِنَّ الْكُفْرَ بِالْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ وَاعْتِقَادَ أَنَّهُ لَا حَيَاةَ بَعْدَ هَذِهِ الْحَيَاةِ يَجْعَلُ هَمَّ الْكَافِرَ مَحْصُورًا فِي الِاسْتِمْتَاعِ بِلَذَّاتِ الدُّنْيَا وَشَهَوَاتِهَا الْبَدَنِيَّةِ وَالنَّفْسِيَّةِ؛ كَالْجَاهِ وَالرِّيَاسَةِ وَالْعُلُوِّ فِي الْأَرْضِ وَلَوْ بِالْبَاطِلِ وَهُوَ مَا يُسَمُّونَهُ الشَّرَفَ، وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ يَكُونُ فِي اتِّبَاعِ هَوَاهُ وَلَذَّاتِهِ الشَّهْوَانِيَّةِ أَسْفَلَ مِنَ الْبَهَائِمِ كَالْبَقَرِ وَالْقِرَدَةِ وَالْخَنَازِيرِ، وَفِي اتِّبَاعِهِ لِهَوَاهُ فِي لَذَّاتِهِ الْغَضَبِيَّةِ أَضْرَى وَأَشَدَّ أَذًى مِنَ الْوُحُوشِ الضَّارِيَةِ الْمُفْتَرِسَةِ كَالذِّئَابِ وَالنُّمُورِ، وَفِي اتِّبَاعِهِ لِهَوَاهُ وَلَذَّتِهِ النَّفْسِيَّةِ شَرًّا
مِنَ الشَّيَاطِينِ يَكِيدُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ وَيَفْتَرِسُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، لَا يَصُدُّهُمْ عَنْ بَاطِلٍ وَلَا شَرٍّ يَهْوَوْنَهُ إِلَّا الْعَجْزَ، وَلَا يَرْجِعُونَ إِلَى حُكْمٍ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ إِلَّا الْقُوَّةَ الَّتِي جَعَلُوهَا فَوْقَ الْحَقِّ. وَطَالَمَا غَشُّوا أَنْفُسَهُمْ وَفَتَنُوا غَيْرَهُمْ فِي هَذَا الزَّمَانِ بِمَا كَانَ مِنْ تَأْثِيرِ
التَّوَازُنِ فِي الْقُوَى مِنْ مَنْعِ كَثِيرٍ مِنَ الْبَغْيِ وَالْعُدْوَانِ الَّذِي كَانَ يَصُولُ بِهِ قَوِيُّ الْأُمَمِ عَلَى ضَعِيفِهَا، وَالْحُكُومَاتُ الْجَائِرَةُ عَلَى رَعِيَّتِهَا، فَزَعَمُوا أَنَّ الْحَضَارَةَ الْمَادِّيَّةَ وَالْعُلُومَ وَالْفُنُونَ الْبَشَرِيَّةَ هِيَ الَّتِي تُفِيضُ رُوحَ الْكَمَالِ عَلَى الْإِنْسَانِ إِذَا لَمْ يُؤْمِنُ بِالْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ، وَلَا بِالْإِلَهِ الدَّيَّانِ، وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِمَا أَجْمَعَتْ عَلَيْهِ أُمَمُهُمْ وَدُوَلُهُمْ مِنْ ذَمِّ الْحَرْبِ، وَالتَّفَاخُرِ بِبِنَاءِ سِيَاسَتِهِمْ عَلَى أَمْتَنِ قَوَاعِدِ السِّلْمِ، وَزَعَمُوا أَنَّ الْبَاعِثَ عَلَى ذَلِكَ حُبُّ الْإِنْسَانِيَّةِ، وَالرَّغْبَةُ فِي الْعُرُوجِ بِجَمِيعِ الْبَشَرِ إِلَى قُنَّةِ السَّعَادَةِ الْمَدَنِيَّةِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَمَا بَالُكُمْ تُسَابِقُونَ إِلَى اسْتِذْلَالِ الْأُمَمِ الضَّعِيفَةِ فِي الشَّرْقِ وَتُسَخِّرُونَهَا لِمَنَافِعِكُمْ وَتَوْفِيرِ ثَرْوَتِكُمْ بِغَيْرِ حَقٍّ؟ قَالُوا: كَلَا إِنَّمَا نُرِيدُ أَنْ نُخْرِجَهَا مِنْ ظُلُمَاتِ الْهَمَجِيَّةِ وَالْجَهْلِ لِتُشَارِكَنَا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ نُورِ الْحَضَارَةِ وَالْعِلْمِ. فَإِنْ قِيلَ: فَمَا بَالُنَا نَرَاهَا لَمْ تَنَلْ مِنْ عُلُومِكُمْ إِلَّا بَعْضَ الْقُشُورِ، وَلَمْ تَسْتَفِدْ مِنْ مَدَنِيَّتِكُمْ إِلَّا الْفِسْقَ وَالْفُجُورَ، قَالُوا: إِنَّمَا ذَلِكَ لِضَعْفِ الِاسْتِعْدَادِ، وَمَا تَمَكَّنَ فِي نُفُوسِ هَذِهِ الشُّعُوبِ مِنَ الْفَسَادِ، عَلَى أَنَّنَا خَيْرٌ لَهَا مِنْ حُكَّامِهَا الْأَوَّلِينَ بِمَا قُمْنَا بِهِ مِنْ حِفْظِ الْأَمْنِ وَتَوْفِيرِ أَسْبَابِ النَّعِيمِ لِلْعَامِلِينَ! ذَلِكَ شَأْنُهُمْ، لَا تُقَامُ عَلَيْهِمْ حُجَّةٌ إِلَّا يُقَابِلُونَهَا بِشُبْهَةٍ تُؤَيِّدُهَا الْقُوَّةُ، وَقَدْ قَوَّضَتِ الْحَرْبُ الْمُشْتَعِلَةُ نَارُهَا فِي أُورُبَّا هَذِهِ الْأَعْوَامَ، جَمِيعَ مَا بُنِيَتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الشُّبُهَاتِ مِنَ الْمَزَاعِمِ وَالْأَوْهَامِ، إِذْ رَأَيْنَا فِيهَا أَرْقَى أَهْلِ الْأَرْضِ فِي الْحَضَارَةِ وَالْعُلُومِ وَالْفَلْسَفَةِ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ، وَيُقَوِّضُونَ صُرُوحَ مَدِينَتِهِمْ بِمَدَافِعِهِمْ، وَيَسْتَعِينُونَ بِكُلِّ مَا ارْتَقَوْا إِلَيْهِ مِنَ الْعُلُومِ وَالْفُنُونِ وَالصِّنَاعَاتِ وَالْحِكْمَةِ وَالنِّظَامِ، لِإِهْلَاكِ الْحَرْثِ وَالنَّسْلِ وَتَخْرِيبِ الْعُمْرَانِ، بِمُنْتَهَى الْقَسْوَةِ وَالشِّدَّةِ، الَّتِي لَا تَشُوبُهَا عَاطِفَةُ رَأْفَةٍ وَلَا رَحْمَةٍ، وَلَوْ كَانَ مَنْ بِأَيْدِيهِمْ أَزِمَّةُ الْأُمُورِ مِنْهُمْ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا فِيهِ مِنَ الْحِسَابِ وَالْجَزَاءِ بِالْحَقِّ، لَمَا انْتَهَوْا فِي الطُّغْيَانِ إِلَى هَذَا الْحَدِّ، نَعَمْ، إِنَّ هَذِهِ الشُّعُوبَ كَانَتْ تَتَقَابَلُ لِنَصْرِ الْمَذْهَبِ أَوِ الدِّينِ فِي الْقُرُونِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ فِيهَا كُلَّ شَيْءٍ بِاسْمِ الدِّينِ، وَلَكِنَّهَا لَمْ تَصِلْ فِي التَّقْتِيلِ وَالتَّخْرِيبِ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ إِلَى عُشْرِ مِعْشَارِ مَا هِيَ عَلَيْهِ الْآنَ، وَإِنْ كَانُوا يُسَمُّونَ هَذَا الْعَصْرَ عَصْرَ النُّورِ وَتِلْكَ الْعُصُورَ بِعُصُورِ الظُّلُمَاتِ، عَلَى أَنَّ الرُّؤَسَاءَ كَانُوا يَتَّخِذُونَ اسْمَ الدِّينِ وَتَأْوِيلَ نُصُوصِهِ وَسِيلَةً لِأَهْوَائِهِمُ الَّتِي لَيْسَتْ مِنَ الدِّينِ فِي شَيْءٍ، كَمَا يَعْلَمُ جَمِيعُ عُلَمَاءِ هَذَا الْعَصْرِ.
وَمِنَ الْعَجَائِبِ أَنَّ أَقْسَى أَهْلِ هَذِهِ الْحَرْبِ وَأَشَدَّهُمْ تَخْرِيبًا وَتَدْمِيرًا هُمُ الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ يُحَارِبُونَ لِلَّهِ وَأَنَّ اللهَ مَعَهُمْ عَلَى أَعْدَائِهِمْ، وَإِنَّمَا الْحَرْبُ الدِّينِيَّةُ الصَّحِيحَةُ حَرْبُ الْأَنْبِيَاءِ وَالْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ، وَمَنْ عَلَى مَقْرُبَةٍ مِنْ سِيرَتِهِمْ مِنَ الْمُلُوكِ الصَّالِحِينَ، وَلَمْ يَكُنْ يَسْتَحِلُّ فِيهَا فِي عَصْرِ الْإِسْلَامِ مَا يُسْتَحَلُّ الْآنَ مِنَ الْقَسْوَةِ وَالتَّخْرِيبِ وَلَا مَا نُقِلَ عَنْ أَنْبِيَاءَ وَمُلُوكِ
بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَقَدْ فَصَّلْنَا فِي الْمَنَارِ الْقَوْلَ فِي الْمُقَابَلَةِ بَيْنَ هَذِهِ الْحَرْبِ الْمَدَنِيَّةِ وَحُرُوبِ الْمُسْلِمِينَ الدِّينِيَّةِ، الَّتِي كَانَتْ دِفَاعًا عَنِ النَّفْسِ وَتَقْرِيرًا لِلْحَقِّ وَالْعَدْلِ، وَالْمُسَاوَاةِ فِي الْحُقُوقِ بَيْنَ أَصْنَافِ الْخَلْقِ، يَسِيرُونَ فِيهَا عَلَى الْقَوَاعِدِ الشَّرْعِيَّةِ الْعَادِلَةِ فِي الضَّرُورَاتِ كَكَوْنِهَا تُبِيحُ مَا ضَرَرُهُ دُونَ ضَرَرِهَا وَكَوْنِهَا تُقَدَّرُ بِقَدْرِهَا، وَتُرَاعَى فِيهَا الرَّحْمَةُ لَا الْعَدْلُ وَحْدَهُ، وَقَدْ شَهِدَ بِذَلِكَ لِسَلَفِنَا أَعْلَمُ حُكَمَاءِ الْإِفْرِنْجِ بِتَارِيخِنَا (غُوسْتَافْ لُوبُونْ) فَقَالَ كَلِمَةَ حَقٍّ حَقِيقَةٌ بِأَنْ تُكْتَبَ بِمَاءِ الذَّهَبِ، وَهِيَ:" مَا عَرَفَ التَّارِيخُ فَاتِحًا أَعْدَلَ وَلَا أَرْحَمَ مِنَ الْعَرَبِ ".
وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ أَنَّ شُبُهَاتِ الْمَفْتُونِينَ بِالْمَدَنِيَّةِ الْمَادِّيَّةِ قَدْ دُحِضَتْ بِهَذِهِ الْحَرْبِ السَّاحِقَةِ الْمَاحِقَةِ وَقَوِيَتْ بِهَا حُجَّةُ أَهْلِ الدِّينِ عَلَيْهِمْ، بَلْ تَنَبَّهَ بِهَا الشُّعُورُ الدِّينِيُّ فِي الْجَمِّ الْغَفِيرِ مِنَ الْأُورُبِّيِّينَ حَتَّى الْفَرِنْسِيسُ مِنْهُمْ، بَعْدَ أَنْ كَانُوا قَدْ نَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ، وَآثَرُوا عَلَيْهِ الشَّهَوَاتِ الْبَدَنِيَّةِ الْحَقِيرَةِ، حَتَّى ضَاقَتْ بِهِمُ الْمَعَابِدُ الَّتِي كَانَتْ مَهْجُورَةً قَلَّمَا تُفْتَحُ أَبْوَابُهَا، وَقَلَّمَا يُلِمُّ بِهَا أَحَدٌ إِنْ فُتِحَتْ. وَذَلِكَ شَأْنُ الْمُسْرِفِينَ فِي أَمْرِهِمْ مِنَ النَّاسِ، لَا يَتَوَجَّهُونَ إِلَى خَالِقِهِمْ إِلَّا عِنْدَ الشِّدَّةِ وَالْبَأْسِ (وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (10: 12) .
(قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيُحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللهِ يَجْحَدُونَ وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ
مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَأِ الْمُرْسَلِينَ وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ) .
لَا تَنْسَى أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ نَزَلَتْ فِي دَعْوَةِ مُشْرِكِي مَكَّةَ إِلَى الْإِسْلَامِ وَمُحَاجَّتِهِمْ فِي التَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ وَالْبَعْثِ، وَأَنَّهَا تَكْثُرُ فِيهَا حِكَايَةُ أَقْوَالِهِمْ فِي ذَلِكَ بِلَفْظِ (وَقَالُوا. وَقَالُوا) وَتَلْقِينِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم الْحُجَجَ بِلَفْظِ (قُلْ. . . قُلْ. . .) حَتَّى إِنَّ الْأَمْرَ بِالْقَوْلِ تَكَرَّرَ فِيهَا عَشَرَاتٍ مِنَ الْمِرَارِ، وَقَدْ سَبَقَ فِي الْآيَاتِ الَّتِي فَسَّرْنَاهَا مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى:(وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ)(8)(وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا)(29) وَأَمَرَهُ تَعَالَى بِالرَّدِّ عَلَى كُلٍّ مِنَ الْقَوْلَيْنِ وَإِقَامَةِ الْحُجَجِ فِي مَوْضُوعِهِمَا بِمَا فِيهِ بَيَانُ فَقْدِ بَعْضِهِمُ الِاسْتِعْدَادَ لِلْإِيمَانِ - بَعْدَ هَذَا كُلِّهِ ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ تَأْثِيرَ كُفْرِهِمْ فِي نَفْسِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَحُزْنَهُ مِمَّا يَقُولُونَ فِي نُبُوَّتِهِ، وَسَلَاهُ عَنْ ذَلِكَ بِبَيَانِ سُنَّتِهِ سبحانه وتعالى فِي الرُّسُلِ مَعَ أَقْوَامِهِمْ وَإِيئَاسِهِ مِنْ إِيمَانِ الْجَاحِدِينَ الْمُعَانِدِينَ مِنْهُمْ - وَقَدْ تَكَرَّرَ هَذَا الْمَعْنَى فِي السُّورَةِ الْمَكِّيَّةِ - فَقَالَ عز وجل:
(قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ) الْحُزْنُ أَلَمٌ يُلِمُّ بِالنَّفْسِ عِنْدَ فَقْدِ مَحْبُوبٍ أَوِ امْتِنَاعِ مَرْغُوبٍ، أَوْ حُدُوثِ مَكْرُوهٍ، وَتَجِبُ مُعَالَجَتُهُ بِالتَّسَلِّي وَالتَّأَسِّي وَإِنْ كَانَ بِالْحَقِّ لِلْحَقِّ كَحُزْنِ الْكَامِلِينَ عَلَى إِصْرَارِ الْكَافِرِينَ عَلَى الْكُفْرِ، وَقَدْ أَثْبَتَ اللهُ تَعَالَى لِرَسُولِهِ هَذَا الْحُزْنَ إِثْبَاتًا مُؤَكَّدًا بِتَعَلُّقِ عِلْمِهِ التَّنْجِيزِيِّ بِهِ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ، أَيْ عَنْ مَا كَانَ يَعْرِضُ لَهُ عليه السلام، وَبِأَنَّ مَعَ ضَمِيرِ الشَّأْنِ وَبِاللَّامِ، فَكَلِمَةُ " قَدْ " عَلَى أَصْلِهَا لِلتَّقْلِيلِ، وَقِيلَ: إِنَّهَا هُنَا لِلتَّكْثِيرِ، وَإِنَّمَا الْقِلَّةُ وَالْكَثْرَةُ فِي مُتَعَلِّقَاتِ الْعَلَمِ لَا الْعِلْمِ نَفْسِهِ، وَقَدْ نَهَاهُ تَعَالَى عَنْ هَذَا النَّوْعِ مِنَ الْحُزْنِ بِقَوْلِهِ فِي " سُورَةِ يُونُسَ ":
(وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)(10: 65) وَفِي " سُورَةِ يس ": (فَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ)(36: 76) كَمَا نَهَاهُ عَنِ الْحُزْنِ عَلَيْهِمْ لِعَدَمِ إِيمَانِهِمْ فِي " سُورَةِ الْحِجْرِ "(15: 88) وَالنَّحْلِ (16: 127) وَالنَّمْلِ (27: 70) وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الْحُزْنِ وَالْمُرَادُ بِالنَّهْيِ عَنْهُ، وَأَنَّ لُغَةَ قُرَيْشٍ فِيهِ أَنَّ الثُّلَاثِيَّ مِنْهُ يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ فَيُقَالُ: حَزَنَهُ الْأَمْرُ، وَتَمِيمٌ تَقُولُ: أَحْزَنَهُ وَمِنْهَا قِرَاءَةُ نَافِعٍ (لَيُحْزِنُكُ) بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الزَّايِ.
وَالْمُرَادُ بِالْقَوْلِ الَّذِي يُحْزِنُهُ مِنْهُمْ هُوَ مَا كَانُوا يَقُولُونَ فِيهِ وَفِي دَعْوَتِهِ وَنُبُوَّتِهِ مِنْ تَكْذِيبٍ وَطَعْنٍ وَتَنْفِيرٍ لِلْعَرَبِ، وَمِنْهُ بِالْأَوْلَى مَا حَكَاهُ عَنْهُمْ فِي الْآيَاتِ السَّابِقَةِ وَسَيَأْتِي تَوْضِيحُهُ. وَرُوِيَ عَنْ أَهْلِ التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ أَنَّ سَبَبَ نُزُولِ الْآيَةِ أَقْوَالٌ خَاصَّةٌ مِنْ بَعْضِ رُؤَسَائِهِمُ الْمُسْتَكْبِرِينَ تَنْطَبِقُ عَلَى قَوْلِهِ فِي تَتِمَّةِ الْآيَةِ:(فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللهِ يَجْحَدُونَ) أَيْ: فَإِنَّهُمْ لَا يَجِدُونَكَ كَاذِبًا وَلَا يَعْتَقِدُونَ أَنَّكَ كَذَبْتَ عَلَى اللهِ فِيمَا جِئْتَ بِهِ
وَهُمْ لَمْ يُجَرِّبُوا عَلَيْكَ كَذِبًا عَلَى أَحَدٍ، وَلَكِنَّهُمْ يَجْحَدُونَ بِالْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى صِدْقِكَ بِإِنْكَارِهَا بِأَلْسِنَتِهِمْ فَقَطْ، كَمَا جَحَدَ قَوْمُ فِرْعَوْنَ مِنْ قَبْلِهِمْ بِآيَاتِ اللهِ لِأَخِيكَ مُوسَى:(وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا)(27: 14) .
فَالْجُحُودُ كَمَا قَالَ الرَّاغِبُ: نَفْيُ مَا فِي الْقَلْبِ إِثْبَاتُهُ وَإِثْبَاتُ مَا فِي الْقَلْبِ نَفْيُهُ. يُقَالُ: جَحَدَ جُحُودًا وَجَحْدًا. اهـ. وَعِبَارَةُ اللِّسَانِ الْجَحْدُ، وَالْجُحُودُ ضِدُّ الْإِقْرَارِ كَالْإِنْكَارِ، ثُمَّ نَقَلَ قَوْلَ الْجَوْهَرِيِّ فِيهِ أَنَّهُ الْإِنْكَارُ مَعَ الْعِلْمِ، وَيَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ وَبِالْبَاءِ فَيُقَالُ: جَحَدَهُ وَجَحَدَ بِهِ.
قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ:
" يَقُولُ تَعَالَى مُسَلِّيًا لِنَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم فِي تَكْذِيبِ قَوْمِهِ لَهُ وَمُخَالَفَتِهِمْ إِيَّاهُ: (قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ) أَيْ وَقَدْ أَحَطْنَا عِلْمًا بِتَكْذِيبِهِمْ لَكَ وَحُزْنِكَ وَتَأَسُّفِكَ عَلَيْهِمْ كَقَوْلِهِ: (فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ)(35: 8) كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى (لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ)(26: 3) - (فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا)(18: 6) وَقَوْلُهُ: (فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللهِ يَجْحَدُونَ) أَيْ: لَا يَتَّهِمُونَكَ بِالْكَذِبِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللهِ
يَجْحَدُونَ، أَيْ: وَلَكِنَّهُمْ يُعَانِدُونَ الْحَقَّ وَيَدْفَعُونَهُ بِصُدُورِهِمْ، كَمَا قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ نَاجِيَةَ بْنِ كَعْبٍ، عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: قَالَ أَبُو جَهْلٍ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: إِنَّا لَا نُكَذِّبُكَ وَلَكِنْ نُكَذِّبُ بِمَا جِئْتَ بِهِ، فَأَنْزَلَ اللهُ:(فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللهِ يَجْحَدُونَ) وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ إِسْرَائِيلَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، ثُمَّ قَالَ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ وَلَمْ يُخْرِجَاهُ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْوَزِيرِ الْوَاسِطِيُّ بِمَكَّةَ، حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ الْمُبَشِّرِ الْوَاسِطِيُّ، عَنْ سَلَّامِ بْنِ مِسْكِينٍ، عَنْ أَبِي يَزِيدَ الْمَدَنِيِّ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَقِيَ أَبَا جَهْلٍ فَصَافَحَهُ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: أَلَا أَرَاكَ تُصَافِحُ هَذَا الصَّابِئَ؟ فَقَالَ: وَاللهِ إِنِّي لَأَعْلَمُ أَنَّهُ لَنَبِيٌّ، وَلَكِنْ مَتَى كُنَّا لِبَنِي عَبْدِ مَنَافٍ تَبَعًا؟ وَتَلَا أَبُو يَزِيدَ:(فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللهِ يَجْحَدُونَ) وَقَالَ أَبُو صَالِحٍ وَقَتَادَةُ: يَعْلَمُونَ أَنَّكَ رَسُولُ اللهِ وَيَجْحَدُونَ. وَذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنِ الزَّهْرِيِّ فِي قِصَّةِ أَبِي جَهْلٍ حِينَ جَاءَ يَسْتَمِعُ قِرَاءَةَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنَ اللَّيْلِ هُوَ وَأَبُو سُفْيَانَ صَخْرُ بْنُ حَرْبٍ وَالْأَخْنَسُ بْنُ شَرِيقٍ، وَلَا يَشْعُرُ أَحَدٌ مِنْهُمْ بِالْآخَرِ: فَاسْتَمَعُوهَا إِلَى الصَّبَاحِ، فَلَمَّا هَجَمَ الصُّبْحُ تَفَرَّقُوا، فَجَمَعَتْهُمُ الطَّرِيقُ، فَقَالَ كُلٌّ مِنْهُمْ لِلْآخَرِ مَا جَاءَ بِهِ، ثُمَّ تَعَاهَدُوا أَلَّا يَعُودُوا؛ لِمَا يَخَافُونَ مِنْ عِلْمِ شُبَّانِ قُرَيْشٍ بِهِمْ لِئَلَّا يُفْتَنُوا بِمَجِيئِهِمْ، فَلَمَّا كَانَتِ اللَّيْلَةُ الثَّانِيَةُ جَاءَ كُلٌّ مِنْهُمْ ظَنًّا أَنَّ صَاحِبَيْهِ
لَا يَجِيآنِ لِمَا سَبَقَ مِنَ الْعُهُودِ، فَلَمَّا أَصْبَحُوا جَمَعَتْهُمُ الطَّرِيقُ فَتَلَاوَمُوا ثُمَّ تَعَاهَدُوا أَلَّا يُعُودُوا، فَلَمَّا كَانَتِ اللَّيْلَةُ الثَّالِثَةُ جَاءُوا أَيْضًا، فَلَمَّا أَصْبَحُوا تَعَاهَدُوا أَلَّا يَعُودُوا لِمِثْلِهَا ثُمَّ تَفَرَّقُوا.
فَلَمَّا أَصْبَحَ الْأَخْنَسُ بْنُ شَرِيقٍ أَخَذَ عَصَاهُ، ثُمَّ خَرَجَ حَتَّى أَتَى أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ فِي بَيْتِهِ فَقَالَ: أَخْبِرْنِي يَا أَبَا حَنْظَلَةَ عَنْ رَأْيِكَ فِيمَا سَمِعْتَ مِنْ مُحَمَّدٍ. قَالَ: يَا أَبَا ثَعْلَبَةَ، وَاللهِ لَقَدْ سَمِعْتُ أَشْيَاءَ أَعْرِفُهَا وَأَعْرِفُ مَا يُرَادُ بِهَا، وَسَمِعْتُ أَشْيَاءَ مَا عَرَفْتُ مَعْنَاهَا وَلَا مَا يُرَادُ بِهَا. قَالَ الْأَخْنَسُ: وَأَنَا وَالَّذِي حَلَفْتَ بِهِ. ثُمَّ خَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ حَتَّى أَتَى أَبَا جَهْلٍ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ بَيْتَهُ، فَقَالَ: يَا أَبَا الْحَكَمِ، مَا رَأْيُكَ فِيمَا سَمِعْتَ مِنْ مُحَمَّدٍ؟ قَالَ: مَاذَا سَمِعْتَ؟ قَالَ: تَنَازَعْنَا نَحْنُ وَبَنُو عَبْدِ مَنَافٍ الشَّرَفَ، أَطْعَمُوا فَأَطْعَمْنَا، وَحَمَلُوا فَحَمَلْنَا، وَأَعْطَوْا فَأَعْطَيْنَا، حَتَّى إِذَا تَجَاثَيْنَا عَلَى الرُّكَبِ وَكُنَّا كَفَرَسَيْ
رِهَانٍ، قَالُوا: مِنَّا نَبِيٌّ يَأْتِيهِ الْوَحْيُ مِنَ السَّمَاءِ، فَمَتَى نُدْرِكُ هَذِهِ؟ وَاللهِ لَا نُؤْمِنُ بِهِ أَبَدًا وَلَا نُصَدِّقُهُ. قَالَ: فَقَامَ عَنْهُ الْأَخْنَسُ وَتَرَكَهُ.
وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ أَسْبَاطٍ، عَنِ السُّدِّيِّ فِي قَوْلِهِ:(قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللهِ يَجْحَدُونَ) لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ قَالَ الْأَخْنَسُ بْنُ شَرِيقٍ لِبَنِي زُهْرَةَ: يَا بَنِي زُهْرَةَ، إِنَّ مُحَمَّدًا ابْنُ أُخْتِكُمْ، فَأَنْتُمْ أَحَقُّ مَنْ ذَبَّ عَنِ ابْنِ أُخْتِهِ، فَإِنَّهُ إِنْ كَانَ نَبِيًّا لِمَ تُقَاتِلُونَهُ الْيَوْمَ؟ وَإِنْ كَانَ كَاذِبًا فَأَنْتُمْ أَحَقُّ مَنْ كَفَّ عَنِ ابْنِ أُخْتِهِ، قِفُوا هَاهُنَا حَتَّى أَلْقَى أَبَا الْحَكَمِ، فَإِنْ غَلَبَ مُحَمَّدٌ رَجَعْتُمْ سَالِمِينَ، وَإِنْ غُلِبَ مُحَمَّدٌ فَإِنَّ قَوْمَكُمْ لَا يَصْنَعُونَ بِكُمْ شَيْئًا، فَيَوْمَئِذٍ سُمِّيَ الْأَخْنَسُ، وَكَانَ اسْمُهُ أُبَيًّا، فَالْتَقَى الْأَخْنَسُ وَأَبُو جَهْلٍ، فَخَلَا الْأَخْنَسُ بِأَبِي جَهْلٍ فَقَالَ: يَا أَبَا الْحَكَمِ أَخْبِرْنِي عَنْ مُحَمَّدٍ، أَصَادِقٌ هُوَ أَمْ كَاذِبٌ، فَإِنَّهُ لَيْسَ هَاهُنَا مِنْ قُرَيْشٍ غَيْرِي وَغَيْرُكَ يَسْتَمِعُ كَلَامَنَا؟ فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: وَيْحَكَ، وَاللهِ إِنَّ مُحَمَّدًا لِصَادِقٌ وَمَا كَذَبَ مُحَمَّدٌ قَطُّ، وَلَكِنْ إِذَا ذَهَبَتْ بَنُو قُصِيٍّ بِاللِّوَاءِ وَالسِّقَايَةِ وَالْحِجَابَةِ وَالنُّبُوَّةِ، فَمَاذَا يَكُونُ لِسَائِرِ قُرَيْشٍ؟ فَذَلِكَ قَوْلُهُ:(فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللهِ يَجْحَدُونَ) فَآيَاتُ اللهِ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم انْتَهَى بِنَصِّهِ. وَمَا ذُكِرَ سَبَبًا لِنُزُولِ الْآيَةِ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ سَبَبًا لِنُزُولِهَا فِي ضِمْنِ السُّورَةِ، وَلَا يَصِحُّ نَصٌّ فِي نُزُولِهَا مُنْفَرِدَةٌ وَإِلَّا فَهُوَ مِنْ قَبِيلِ التَّفْسِيرِ، كَخَبَرِ الْأَخْنَسِ مَعَ أَبِي جَهْلٍ يَوْمِ بَدْرٍ، وَذَلِكَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ قَطْعًا، وَالسُّورَةُ مَكِّيَّةٌ قَطْعًا، وَلَمْ يَسْتَثْنِ أَحَدٌ هَذِهِ الْآيَةَ فِيمَا يُسْتَثْنَى.
ثُمَّ نَقُولُ: إِنَّ فِي (يُكَذِّبُونَكَ) قِرَاءَتَيْنِ: قِرَاءَةُ نَافِعٍ وَالْكِسَائِيِّ بِضَمِّ الْيَاءِ وَتَخْفِيفِ
الذَّالِ مِنْ أَكْذَبَهُ، أَيْ: وَجَدَهُ كَاذِبًا أَوْ نَسَبَهُ إِلَى رِوَايَةِ الْكَذِبِ بِأَنْ قَالَ: إِنَّ مَا جَاءَ بِهِ كَذِبٌ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُوَ الَّذِي افْتَرَاهُ بِأَنْ كَانَ نَاقِلًا لَهُ مُصَدِّقًا بِهِ. وَقِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ بِتَشْدِيدِ الذَّالِ، مِنَ التَّكْذِيبِ، وَهُوَ الرَّمْيُ بِالْكَذِبِ، بِمَعْنَى إِنْشَائِهِ وَابْتِدَائِهِ، وَبِمَعْنَى نَقْلِهِ وَرِوَايَتِهِ. وَبِهَذَا نَجْمَعُ بَيْنَ قَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّ الصِّيغَتَيْنِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَمَنْ قَالَ: إِنَّ مَعْنَاهُمَا مُخْتَلِفٌ، قَالَ ثَعْلَبٌ: أَكْذَبَهُ وَكَذَّبَهُ بِمَعْنًى، وَقَدْ يَكُونُ " أَكْذَبَهُ " بِمَعْنَى بَيَّنَ كَذِبَهُ أَوْ حَمَلَهُ عَلَى الْكَذِبِ، وَبِمَعْنَى وَجَدَهُ كَاذِبًا. اهـ. قَالَ فِي اللِّسَانِ: وَكَانَ الْكِسَائِيُّ يَحْتَجُّ لِهَذِهِ
الْقِرَاءَةِ (أَيْ قِرَاءَتِهِ) بِأَنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ: كَذَبْتُ الرَّجُلَ، إِذَا نَسَبْتُهُ إِلَى الْكَذِبِ، وَأَكْذَبْتُهُ، إِذَا أَخْبَرْتُ أَنَّ الَّذِي يُحَدِّثُ بِهِ كَذِبٌ، قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: وَيُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ " فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ " عَلَى مَعْنَى: لَا يَجِدُونَكَ كَذَّابًا عِنْدَ الْبَحْثِ وَالتَّدَبُّرِ وَالتَّفْتِيشِ. اهـ. فَعُلِمَ مِنْ هَذِهِ النُّقُولِ أَنَّ الْإِكْذَابَ يَشْتَرِكُ مَعَ التَّكْذِيبِ فِي مَعْنَى رِوَايَةِ الْكَذِبِ، وَيَنْفَرِدُ التَّكْذِيبُ بِمَعْنَى الرَّمْيِ بِافْتِرَاءِ الْكَذِبِ، إِمَّا مُخَاطَبَةً كَأَنْ يَقُولَ لَهُ: كَذَبْتَ فِيمَا قُلْتَ، وَإِمَّا بِإِسْنَادِهِ إِلَيْهِ فِي غَيْبَتِهِ كَأَنْ يَقُولَ: كَذَبَ فَلَانٌ وَافْتَرَى، وَيَنْفَرِدُ الْإِكْذَابُ بِمَعْنَى وِجْدَانِ الْمُحَدِّثِ كَاذِبًا فِيمَا قَالَهُ، بِمَعْنَى أَنَّ خَبَرَهُ غَيْرُ مُطَابِقٍ لِلْوَاقِعِ، لَا بِمَعْنَى أَنَّهُ افْتَرَاهُ، وَبِمَعْنَى الْإِخْبَارِ بِذَلِكَ، أَيْ بِعَدَمِ مُطَابَقَةِ الْخَبَرِ لِلْوَاقِعِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْمُرَادُ مِنْ مَجْمُوعِ الْقِرَاءَتَيْنِ أَنَّ أُولَئِكَ الْكُفَّارَ لَا يَنْسُبُونَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم إِلَى افْتِرَاءِ الْكَذِبِ وَلَا يَجِدُونَهُ كَاذِبًا فِي خَبَرٍ يُخْبِرُ بِهِ بِأَنْ يَتَبَيَّنَ أَنَّهُ غَيْرُ مُطَابِقٍ لِلْوَاقِعِ؛ لِأَنَّ جَمِيعَ مَا يُخْبِرُ بِهِ مِنْ أَمْرِ الْمُسْتَقْبَلِ كَنَصْرِ اللهِ تَعَالَى لَهُ، وَإِظْهَارِ دِينِهِ، وَخَذْلِ أَعْدَائِهِ وَقَهَرِهِمْ سَيَكُونُ كَمَا أَخْبَرَ وَكَذَلِكَ كَانَ. وَإِنَّمَا يَدَّعُونَ أَنَّ مَا جَاءَ بِهِ مِنْ أَخْبَارِ الْغَيْبِ - وَأَهَمُّهَا الْبَعْثُ وَالْجَزَاءُ - كَذِبٌ غَيْرُ مُطَابِقٍ لِلْوَاقِعِ. وَلَا يَقْتَضِي ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ هُوَ الَّذِي افْتَرَاهُ، فَإِنَّ التَّكْذِيبَ قَدْ يَكُونُ لِكَلَامٍ دُونَ الْمُتَكَلِّمِ النَّاقِلِ، وَلَكِنَّ هَذَا النَّفْيَ يَصْدُقُ عَلَى بَعْضِ الْمُشْرِكِينَ لَا عَلَى جَمِيعِهِمْ كَمَا يَأْتِي.
وَذَكَرَ الرَّازِيُّ فِي نَفْيِ التَّكْذِيبِ وَالْإِكْذَابِ مَعَ إِثْبَاتِ الْجُحُودِ أَرْبَعَةَ أَوْجُهٍ:
(1)
أَنَّهُمْ مَا كَانُوا يُكَذِّبُونَهُ صلى الله عليه وسلم فِي السِّرِّ، وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا يُكَذِّبُونَهُ فِي الْعَلَانِيَةِ وَيَجْحَدُونَ الْقُرْآنَ وَالنُّبُوَّةَ.
(2)
أَنَّهُمْ لَا يَقُولُونَ لَهُ: إِنَّكَ كَذَّابٌ؛ لِأَنَّهُمْ جَرَّبُوهُ الدَّهْرَ الطَّوِيلَ فَلَمْ يَكْذِبْ فِيهِ قَطُّ، وَلَكِنَّهُمْ جَحَدُوا صِحَّةَ النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ، وَاعْتَقَدُوا أَنَّهُ تَخَيَّلَ أَنَّهُ نَبِيٌّ وَصَدَّقَ مَا تَخَيَّلَهُ فَدَعَا إِلَيْهِ.
(3)
أَنَّهُمْ لَمَّا أَصَرُّوا عَلَى التَّكْذِيبِ مَعَ ظُهُورِ الْمُعْجِزَاتِ الْقَاهِرَةِ عَلَى وَفْقِ دَعْوَاهُ - كَانَ تَكْذِيبُهُمْ تَكْذِيبًا لِآيَاتِ اللهِ الْمُؤَيِّدَةِ لَهُ أَوْ تَكْذِيبًا لَهُ سبحانه وتعالى (قَالَ) : فَاللهُ تَعَالَى قَالَ لَهُ: إِنَّ الْقَوْمَ مَا كَذَّبُوكَ وَلَكِنْ كَذَّبُونِي، أَيْ عَلَى مَعْنَى أَنَّ تَكْذِيبَ الرَّسُولِ كَتَكْذِيبِ الْمُرْسِلِ الْمُصَدِّقِ لَهُ بِتَأْيِيدِهِ. وَذَكَرَ أَنَّهُ عَلَى حَدِّ (إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللهَ) (48: 10) وَمِثْلُهُ (وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى)(8: 17) .
(4)
قَالَ - وَهُوَ كَلَامٌ خَطَرَ
بِالْبَالِ -: إِنَّ الْمُرَادَ
أَنَّهُمْ لَا يَخُصُّونَكَ بِهَذَا التَّكْذِيبِ، بَلْ يُنْكِرُونَ دَلَالَةَ الْمُعْجِزَةِ عَلَى الصِّدْقِ مُطْلَقًا، وَيَقُولُونَ فِي كُلِّ مُعْجِزَةٍ: إِنَّهَا سِحْرٌ، فَكَانَ التَّقْدِيرُ أَنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ عَلَى التَّعْيِينِ، وَلَكِنْ يُكَذِّبُونَ جَمِيعَ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ " انْتَهَى مُلَخَّصًا بِالْمَعْنَى غَالِبًا وَفِيهِ قُصُورٌ. وَسَكَتَ عَنْ أَقْوَالٍ أُخْرَى قَدِيمَةٍ (مِنْهَا) قَوْلُ بَعْضِهِمْ: فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ فِيمَا وَافَقَ كُتُبَهُمْ، وَإِنْ كَذَّبُوكَ فِي غَيْرِهِنَّ، وَهُوَ أَضْعَفُ مَا قِيلَ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي مُشْرِكِي مَكَّةَ وَلَا كُتُبَ عِنْدَهُمْ (وَمِنْهَا) قَوْلُ بَعْضِهِمْ: فَإِنَّهُمْ لَا يَتَّفِقُونَ عَلَى تَكْذِيبِكَ، وَلَكِنْ يُكَذِّبُكَ الظَّالِمُونَ مِنْهُمُ الَّذِينَ يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللهِ (وَمِنْهَا) أَنَّ الْمَعْنَى: فَإِنَّهُمْ لَا يَعْتَقِدُونَ كَذِبَكَ، وَلَا يَتَّهِمُونَكَ بِهِ، وَلَكِنَّهُمْ يَجْحَدُونَ بِالْآيَاتِ لِظُلْمِهِمْ لِأَنْفُسِهِمْ، وَهَذَا أَقْوَاهَا كَمَا تَرَى.
تَقَدَّمَ أَنَّ الْمُخْتَارَ عِنْدَنَا هُوَ أَنَّ الْمُرَادَ هُنَا بِمَا يُحْزِنُهُ صلى الله عليه وسلم مِنْ قَوْلِهِمْ مَا تَقَدَّمَ فِي أَوَائِلِ السُّورَةِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْهُمْ: (وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ) وَمَا فِي مَعْنَاهُ، وَيُوَضِّحُهُ مَا رُوِيَ فِي مَوْضُوعِ الْآيَةِ وَنُزُولُهَا، وَهُوَ الْمُتَبَادِرُ مِنَ النَّظْمِ الْكَرِيمِ - فَالْكَلَامُ إِذًا فِي طَائِفَةِ الْجَاحِدِينَ كِبَرًا وَعِنَادًا كَأَبِي جَهْلٍ وَالْأَخْنَسِ وَأَضْرَابِهِمَا، وَهَؤُلَاءِ لَمْ يَكُونُوا يَعْتَقِدُونَ كَذِبَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَجِدُوهُ كَاذِبًا فِي خَبَرٍ يُخْبِرُهُمْ بِهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، كَمَا أَنَّهُمْ لَمْ يَجِدُوهُ كَاذِبًا فِي يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِهِ الْمَاضِيَةِ، بَلْ عِصْمَتُهُ مِنَ الْكَذِبِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ أَظْهَرُ وَأَوْلَى، وَلَكِنَّهُمْ - لِظُلْمِهِمْ أَنْفُسَهُمْ بِالْكِبْرِ وَالِاسْتِعْلَاءِ - يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللهِ الدَّالَّةِ عَلَى نَبُّوتِهِ وَرِسَالَتِهِ بِمِثْلِ زَعْمِهِمْ أَنَّ الْقُرْآنَ نَفْسَهُ سِحْرٌ يُؤْثَرُ، وَهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَعْتَقِدُونَ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا يُرِيدُونَ صَدَّ الْعَرَبِ عَنْهُ، وَأَمَّا إِذَا جُعِلَتِ الْآيَةُ عَامَّةً وَأُرِيدَ بِمَا يُحْزِنُهُ صلى الله عليه وسلم مَا كَانَ يَقُولُهُ الْمُشْرِكُونَ مِنْ ضُرُوبِ الْأَقْوَالِ فِي إِنْكَارِ التَّوْحِيدِ وَالْبَعْثِ وَالنُّبُوَّةِ وَسَائِرِ مَسَائِلِ الدِّينِ، فَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ يَظْهَرُ اتَّجَاهُ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ تِلْكَ الْأَقْوَالِ الْمَنْقُولَةِ بِصِدْقِ بَعْضِهَا عَلَى أُنَاسٍ وَبَعْضِهَا عَلَى آخَرِينَ، فَإِنَّ نَفْيَ التَّكْذِيبِ إِنَّمَا يَصْدُقُ عَلَى بَعْضِهِمْ كَالْجَاحِدِينَ الْمُعَانِدِينَ دُونَ جُمْهُورِ الضَّالِّينَ الْجَاهِلِينَ، وَإِنَّمَا كَانَ الْجُحُودُ مِنَ الرُّؤَسَاءِ الْمُسْتَكْبِرِينَ ظُلْمًا وَعِنَادًا عَلَى عِلْمٍ وَمِنَ الْمُقَلِّدِينَ جَهْلًا وَاحْتِقَارًا مِنْهُمْ لِأَنْفُسِهِمْ بِتَرْكِ النَّظَرِ وَغُلُوًّا فِي ثِقَتِهِمْ بِكُبَرَائِهِمْ وَآبَائِهِمْ وَلَا شَكَّ فِي أَنَّ بَعْضَ الْمُشْرِكِينَ كَانَ يُكَذِّبُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم تَكْذِيبَ الِافْتِرَاءِ عَنِ اعْتِقَادٍ أَوْ غَيْرِ اعْتِقَادٍ. قَالَ تَعَالَى فِي " سُورَةِ الْفُرْقَانِ ":(كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ)
(25: 5) إِلَى قَوْلِهِ: (بُكْرَةً وَأَصِيلًا) وَلَمْ تَكُنْ كُلُّ الْعَرَبِ تَعْرِفُ مِنْ سِيرَتِهِ وَصِدْقِهِ
صلى الله عليه وسلم -
مَا كَانَ يَعْرِفُهُ مُعَاشِرُوهُ مِنْ قُرَيْشٍ. وَسَيَأْتِي التَّصْرِيحُ بِتَكْذِيبِهِمْ إِيَّاهُ فِي جُمَلٍ شَرْطِيَّةٍ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ وَغَيْرِهَا كَالشَّوَاهِدِ الَّتِي تَرَاهَا فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ التَّالِيَةِ:
(وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا) أَكَّدَ اللهُ تَعَالَى لِرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم بِصِيغَةِ الْقَسَمِ أَنَّ الرُّسُلَ الَّذِينَ أُرْسِلُوا قَبْلَهُ قَدْ كَذَّبَتْهُمْ أَقْوَامُهُمْ فَصَبَرُوا عَلَى تَكْذِيبِهِمْ وَإِيذَائِهِمْ لَهُمْ إِلَى أَنْ نَصْرَهُمُ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ، أَيْ: فَإِنْ كُذِّبْتَ فَلَكَ أُسْوَةٌ بِمَنْ قَبْلَكَ، فَلَسْتَ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ، وَقَدْ صَرَّحَ بِالشَّرْطِيَّةِ فِي آيَاتٍ أُخْرَى كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي " سُورَةِ الْحَجِّ ":(وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ)(22: 42) إِلَخْ. وَقَوْلِهِ فِي " سُورَةِ فَاطِرٍ ": (وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ)(35: 4) إِلَخْ. (وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ)(35: 25) إِلَخْ. وَالْآيَةُ تَسْلِيَةٌ لِلرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ تَسْلِيَةٍ، وَإِرْشَادٌ لَهُ إِلَى سُنَّتِهِ تَعَالَى فِي الرُّسُلِ وَالْأُمَمِ أَوْ هِيَ تَذْكِيرٌ بِهَذِهِ السُّنَّةِ، وَمَا تَتَضَمَّنُهُ مِنْ حُسْنِ الْأُسْوَةِ، إِذْ لَمْ تَكُنْ هَذِهِ الْآيَةُ أَوَّلَ مَا نَزَلَ فِي هَذَا الْمَعْنَى، وَقَدْ صَرَّحَ بِوُجُوبِ هَذَا الصَّبْرِ عَلَيْهِ تَأَسِّيًا فِي قَوْلِهِ:(فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ)(46: 35) وَاسْتِقْلَالًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ مِنْهَا مَا نَزَلَ قَبْلَ هَذِهِ السُّورَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي " سُورَةِ الْمُزَّمِّلِ ": (وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا)(73: 10) وَقَدْ ثَبَتَ بِالتَّجَارِبِ أَنَّ التَّأَسِّيَ يُهَوِّنُ الْمُصَابَ وَيُفِيدُ شَيْئًا مِنَ السَّلْوَةِ، قَالَتِ الْخَنْسَاءُ:
وَلَوْلَا كَثْرَةُ الْبَاكِينَ حَوْلِي
…
عَلَى إِخْوَانِهِمْ لَقَتَلْتُ نَفْسِي
وَمَا يَبْكُونَ مِثْلَ أَخِي وَلَكِنْ
…
أُعَزِّي النَّفْسَ عَنْهُ بِالتَّأَسِّي.
وَلَوْلَا أَنَّ دَفْعَ الْأَسَى بِالْأَسَى مِنْ مُقْتَضَى الطَّبْعِ الْبَشَرِيِّ لَمَا ظَهَرَتْ حِكْمَةُ تَكْرَارِ التَّسْلِيَةِ بِأَمْثَالِ هَذِهِ الْآيَةِ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَتْلُو الْقُرْآنَ فِي الصَّلَاةِ وَلَا سِيَّمَا صَلَاةُ اللَّيْلِ، فَرُبَّمَا يَقْرَأُ السُّورَةَ وَلَا يَعُودُ إِلَيْهَا بَعْدَ أَيَّامٍ يَفْرَغُ فِيهَا مِنْ قِرَاءَةِ مَا نَزَلَ مِنْ سَائِرِ السُّوَرِ، فَاحْتِيجَ إِلَى تَكْرَارِ تَسْلِيَتِهِ وَأَمْرِهِ بِالصَّبْرِ الْمَرَّةَ بَعْدَ الْمَرَّةِ ; لِأَنَّ الْحُزْنَ وَالْأَسَفَ اللَّذَيْنِ كَانَا يَعْرِضَانِ لَهُ صلى الله عليه وسلم مِنْ شَأْنِهِمَا أَنْ يَتَكَرَّرَا بِتَكَرُّرِ سَبَبِهِمَا وَبِتَذَكُّرِهِ حَتَّى
عِنْدَ تِلَاوَةِ الْآيَاتِ الْوَارِدَةِ فِي بَيَانِ حَالِ الْكُفَّارِ وَمُحَاجَّتِهِمْ وَإِنْذَارِهِمْ.
وَ " مَا " فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (عَلَى مَا كُذِّبُوا) مَصْدَرِيَّةٌ (وَأُوذُوا) عَطْفٌ عَلَى (كُذِّبُوا) أَيْ فَصَبَرُوا عَلَى تَكْذِيبِ أَقْوَامِهِمْ لَهُمْ وَإِيذَائِهِمْ إِيَّاهُمْ. وَالْإِيذَاءُ فِعْلُ الْأَذَى، وَهُوَ مَا يُؤْلِمُ
النَّفْسَ أَوِ الْبَدَنَ مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ، وَقَدْ أُوذِيَ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم بِضُرُوبٍ مِنَ الْإِيذَاءِ كَمَا أُوذِيَ الرُّسُلُ قَبْلَهُ، آذَاهُ الْمُشْرِكُونَ فِي مَكَّةَ بِأَقْوَالِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ، وَالْيَهُودُ وَالْمُنَافِقُونَ فِي الْمَدِينَةِ بِقَدْرِ اسْتِطَاعَتِهِمْ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا) غَايَةٌ لِلصَّبْرِ، أَيْ: صَبَرُوا عَلَى التَّكْذِيبِ وَمَا قَارَنَهُ مِنَ الْإِيذَاءِ إِلَى أَنْ جَاءَهُمْ نَصْرُنَا الْعَظِيمُ بِالِانْتِقَامِ مِنْ أَقْوَامِهِمْ، وَإِنْجَائِنَا إِيَّاهُمْ هُمْ وَمَنْ آمَنَ مَعَهُمْ مِنْ أَذَاهُمْ وَكَيْدِهِمْ. وَفِيهِ بِشَارَةٌ لِلرَّسُولِ مُؤَكِّدَةٌ لِلتَّسْلِيَةِ بِأَنَّهُ سَيَنْصُرُهُ عَلَى الْمُكَذِّبِينَ الظَّالِمِينَ مِنْ قَوْمِهِ، وَعَلَى كُلِّ مَنْ يُكَذِّبُهُ وَيُؤْذِيهِ مِنْ أُمَّةِ الْبَعْثَةِ، وَإِيمَاءٌ إِلَى حُسْنِ عَاقِبَةِ الصَّبْرِ، فَمَنْ كَانَ أَصْبَرَ كَانَ أَجْدَرَ بِالنَّصْرِ إِذَا تَسَاوَتْ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ سَائِرُ أَسْبَابِ الْغَلَبِ وَالْقَهْرِ. وَإِضَافَةُ النَّصْرِ إِلَى ضَمِيرِ الْعَظَمَةِ الْعَائِدِ عَلَى الْعَزِيزِ الْقَدِيرِ تُشْعِرُ بِعَظَمَةِ شَأْنِهِ. وَتُشِيرُ إِلَى كَوْنِهِ مِنَ الْآيَاتِ الْمُؤَيِّدَةِ لِرُسُلِهِ.
(وَلَا مُبْدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ) فِي وَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ الَّتِي مِنْهَا وَعْدُهُ لِلرُّسُلِ بِالنَّصْرِ،
وَتَوَعُّدُهُ لِأَعْدَائِهِمْ بِالْغَلَبِ وَالْخِذْلَانِ. وَلَا فِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الشَّرَائِعِ وَالسُّنَنِ الَّتِي اقْتَضَتْهَا الْحِكْمَةُ، وَالْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ هُنَا قَوْلُهُ فِي " سُورَةِ الصَّافَّاتِ ":(وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ)(37: 171 - 173) اقْرَأِ الْآيَاتِ إِلَى آخَرِ السُّورَةِ، فَنَفْيُ جِنْسِ الْمُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِ اللهِ مُثْبِتٌ لِكَلِمَتِهِ فِي نَصْرِ الْمُرْسَلِينَ بِالدَّلِيلِ - أَيْ إِنَّ ذَلِكَ النَّصْرَ قَدْ سَبَقَتْ بِهِ كَلِمَةُ اللهِ وَكَلِمَاتُ اللهِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُبَدِّلَهَا مُبَدِّلٌ، فَنَصْرُ الرُّسُلِ حَتْمٌ لَا بُدَّ مِنْهُ. وَكَلِمَاتُ اللهِ جِنْسٌ يَشْمَلُ كَلِمَاتِ الْأَخْبَارِ وَإِنْشَاءِ الْأَحْكَامِ كَمَا سَيَأْتِي فِي تَفْسِيرِ (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ)(115) مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ. وَإِضَافَةُ الْكَلِمَاتِ هُنَا إِلَى الِاسْمِ الْأَجَلِّ الْأَعْظَمِ تُشْعِرُ بِعِلَّةِ الْقَطْعِ بِأَنَّهُ لَا مُبْدِّلَ لَهَا ; لِأَنَّ الْمُبْدِّلَ لِكَلِمَاتِ غَيْرِهِ لَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ قُدْرَتُهُ فَوْقَ قُدْرَتِهِ، وَسُلْطَانُهُ أَعْلَى مِنْ سُلْطَانِهِ. وَالتَّبْدِيلُ عِبَارَةٌ عَنْ جَعْلِ شَيْءٍ بَدَلًا مِنْ شَيْءٍ آخَرَ وَتَبْدِيلُ الْأَقْوَالِ وَالْكَلِمَاتِ نَوْعَانِ: تَبْدِيلُ ذَاتِهَا بِجَعْلِ قَوْلٍ مَكَانَ قَوْلٍ، وَكَلِمَةٍ
مَكَانَ كَلِمَةٍ. وَمِنْهُ (فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ)(2: 59) وَتَبْدِيلُ مَدْلُولِهَا وَمَضْمُونِهَا كَمَنْعِ نُفُوذِ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ أَوْ وُقُوعِهِ عَلَى خِلَافِ الْقَوْلِ الَّذِي سَبَقَ. وَالْمُتَكَلِّمُونَ الَّذِينَ يُجَوِّزُونَ إِخْلَافَ الْوَعِيدِ يَقُولُونَ: إِنَّ لِلَّهِ أَنْ يُبَدِّلَ مَا شَاءَ مِنْ كَلِمَاتِهِ، وَإِنَّمَا يَسْتَحِيلُ ذَلِكَ عَلَى غَيْرِهِ، وَتَبْدِيلُهُ إِيَّاهَا لَا يَشْمَلُهُ النَّفْيُ فِي الْآيَةِ، فَإِنْ قِيلَ لَهُمْ: قَدْ يَشْمَلُهُ مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْهُ فِي هَذَا الْمَعْنَى كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي " سُورَةِ ق ": (مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ)(50: 29) قَالُوا: إِنَّ النُّصُوصَ الْوَارِدَةَ فِي الْعَفْوِ تُخَصِّصُ الْعَامَّ مِنْ نُصُوصِ الْوَعِيدِ، أَوْ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْعَفْوَ عَنْ بَعْضِ الْمُذْنِبِينَ مِنْ قَبِيلِ التَّبْدِيلِ، وَسَيَأْتِي بَسْطُ هَذَا الْبَحْثِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ.
(وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَأِ الْمُرْسَلِينَ) هَذَا تَقْرِيرٌ وَتَأْكِيدٌ لِمَا قَبْلَهُ، أَيْ: وَلَقَدْ جَاءَكَ بَعْضُ نَبَأِ الْمُرْسَلِينَ فِي ذَلِكَ، أَوْ: وَلَقَدْ جَاءَكَ مَا ذُكِرَ أَوْ ذَلِكَ الَّذِي أُشِيرُ إِلَيْهِ مِنْ خَبَرِ التَّكْذِيبِ وَالصَّبْرِ وَالنَّصْرِ مِنْ نَبَأِ الْمُرْسَلِينَ الَّذِي قَصَصْنَاهُ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ، وَالنَّبَأُ الْخَبَرُ أَوْ ذُو الشَّأْنِ مِنَ الْأَخْبَارِ لَا كُلَّ خَبَرٍ. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ الْأَنْعَامَ نَزَلَتْ بَعْدَ الشُّعَرَاءِ وَالنَّمْلِ وَالْقَصَصِ وَهُودٍ وَالْحِجْرِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى نَبَأِ الْمُرْسَلِينَ بِالتَّفْصِيلِ. وَكَلِمَةُ " نَبَأٍ " رُسِمَتْ فِي الْمُصْحَفِ الْإِمَامِ بِيَاءٍ هَكَذَا (نبإي) وَالْيَاءُ كُرْسِيٌّ لِلْهَمْزَةِ الْمَحْذُوفَةِ كَالنُّقَطِ، فَيَنْطِقُ
بِالْهَمْزَةِ دُونَهَا كَمَا تُرْسَمُ فِي وَسَطِ الْكَلِمَةِ فِي مِثْلِ " نَبِّئْهُمْ ". وَكَانَ يَنْطِقُ بِهَا مَنْ لَا يَهْمِزُ.
وَمِنَ الْعِبْرَةِ فِي الْآيَةِ أَنَّ اللهَ تَعَالَى وَعَدَ الْمُؤْمِنِينَ مَا وَعَدَ الْمُرْسَلِينَ مِنَ النَّصْرِ، فَقَالَ:(إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ)(40: 51) وَقَالَ: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ)(30: 47) وَهِيَ نَصٌّ فِي تَعْلِيلِ النَّصْرِ بِالْإِيمَانِ. وَلَكِنَّنَا نَرَى كَثِيرًا مِنَ الَّذِينَ يَدَّعُونَ الْإِيمَانَ فِي هَذِهِ الْقُرُونِ الْأَخِيرَةِ غَيْرَ مَنْصُورِينَ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونُوا فِي دَعْوَى الْإِيمَانِ غَيْرَ صَادِقِينَ، أَوْ يَكُونُوا ظَالِمِينَ غَيْرَ مَظْلُومِينَ، وَلِأَهْوَائِهِمْ لَا لِلَّهِ نَاصِرِينَ، وَلِسُنَنِهِ فِي أَسْبَابِ النَّصْرِ غَيْرَ مُتَّبَعِينَ، وَإِنَّ اللهَ لَا يُخْلِفُ وَعْدَهُ وَلَا يُبْطِلُ سُنَنَهُ، وَإِنَّمَا يَنْصُرُ الْمُؤْمِنَ الصَّادِقَ وَهُوَ مَنْ يَقْصِدُ نَصْرَ اللهِ وَإِعْلَاءَ كَلِمَتَهُ، وَيَتَحَرَّى الْحَقَّ وَالْعَدْلَ فِي حَرْبِهِ لَا الظَّالِمَ الْبَاغِي عَلَى ذِي الْحَقِّ وَالْعَدْلِ مِنْ خَلْقِهِ، يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَوَّلُ مَا نَزَلَ فِي شَرْعِ الْقِتَالَ قَوْلُهُ تَعَالَى مِنْ " سُورَةِ الْحَجِّ ":(أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا) إِلَى قَوْلِهِ: (وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ)(22: 39، 40) فَأَمَّا الرُّسُلُ الَّذِينَ نَصَرَهُمُ اللهُ وَمَنْ مَعَهُمْ فَقَدْ كَانُوا كُلُّهُمْ مَظْلُومِينَ، وَبِالْحَقِّ وَالْعَدْلِ مُعْتَصِمِينَ، وَلِلَّهِ نَاصِرِينَ. وَقَدِ اشْتَرَطَ مِثْلَ ذَلِكَ فِي نَصْرِ سَائِرِ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ فِي " سُورَةِ الْقِتَالِ ":(يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ)(47: 7) وَالْإِيمَانُ سَبَبٌ حَقِيقِيٌّ مِنْ أَسْبَابِ النَّصْرِ الْمَعْنَوِيَّةِ، يَكُونُ مُرَجِّحًا بَيْنَ مَنْ تَسَاوَتْ أَسْبَابُهُمُ الْأُخْرَى، فَلَيْسَ النَّصْرُ بِهِ مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ. وَأَمَّا تَأْيِيدُ اللهِ تَعَالَى لِلرُّسُلِ
بِإِهْلَاكِ أَقْوَامِهِمُ الْمُعَانِدِينَ فَهُوَ أَمْرٌ آخَرُ زَائِدٌ عَلَى تَأْثِيرِ الْإِيمَانِ فِي الثَّبَاتِ وَالصَّبْرِ، وَالِاتِّكَالِ عَلَى اللهِ تَعَالَى عِنْدَ اشْتِدَادِ الْبَأْسِ وَعُرُوضِ أَسْبَابِ الْيَأْسِ. وَمَنْ كَانَ حَظُّهُ مِنْ صِفَاتِ الْإِيمَانِ وَلَوَازِمِهِ أَكْبَرَ كَانَ إِلَى نَيْلِ النَّصْرِ أَقْرَبَ إِذَا كَانَ مُسَاوِيًا لِخَصْمِهِ فِي سَائِرِ أَسْبَابِ الْقِتَالِ وَلَا سِيَّمَا حُسْنُ النِّظَامِ وَجَوْدَةُ السِّلَاحِ، وَقَدْ سَبَقَ لَنَا كَلَامٌ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي مَوَاضِعَ مِنَ التَّفْسِيرِ وَغَيْرِهِ (رَاجِعْ كَلِمَةَ " نَصْرٍ " مِنْ فَهَارِسِ أَجْزَاءِ التَّفْسِيرِ وَمُجَلَّدَاتِ الْمَنَارِ) .
(وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ) مِمَّا اقْتَرَحُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآيَاتِ لِيُؤْمِنُوا فَافْعَلْ أَوْ فَأْتِهِمْ بِهَا، يُقَالُ كَبُرَ عَلَى فُلَانٍ الْأَمْرُ، أَيْ عَظُمَ عِنْدَهُ وَشَقَّ عَلَيْهِ وَقْعُهُ. وَالْإِعْرَاضُ: التَّوَلِّي
وَالِانْصِرَافُ عَنِ الشَّيْءِ رَغْبَةً عَنْهُ أَوِ احْتِقَارًا لَهُ، وَهُوَ مِنْ إِبْدَاءِ الْمَرْءِ عَرْضَ بَدَنِهِ عِنْدَ تَوَلِّيهِ عَنِ الشَّيْءِ وَاسْتِدْبَارِهِ لَهُ، وَاسْتَطَعْتَ الشَّيْءَ: صَارَ فِي طَوْعِكَ مُنْقَادًا لَكَ بِاسْتِيفَاءِ الْأَسْبَابِ الَّتِي تُمَكِّنُكَ مِنْ فِعْلِهِ، وَالِابْتِغَاءُ: طَلَبُ مَا فِي طَلَبِهِ كُلْفَةٌ وَمَشَقَّةٌ أَوْ تَجَاوُزٌ لِلْمُعْتَادِ أَوْ لِلِاعْتِدَالِ، أَوْ طَلَبُ غَايَاتِ الْأُمُورِ وَأَعَالِيهَا، لِأَنَّهُ افْتِعَالٌ مِنَ الْبَغْيِ وَهُوَ تَجَاوُزُ الْحَدِّ فِي الطَّلَبِ أَوِ الْحَقِّ. وَيَكُونُ فِي الْخَيْرِ كَابْتِغَاءِ رِضْوَانِ اللهِ وَهُوَ غَايَةُ الْكَمَالِ، وَفِي الشَّرِّ كَابْتِغَاءِ الْفِتْنَةِ وَهُوَ غَايَةُ الضَّلَالِ، وَالنَّفَقُ: السَّرَبُ فِي الْأَرْضِ وَهُوَ حُفْرَةٌ نَافِذَةٌ لَهَا مَدْخَلٌ وَمَخْرَجٌ، كَنَافِقَاءِ الْيَرْبُوعِ، وَهُوَ جُحْرُهُ يَجْعَلُ لَهُ مَنَافِذَ يَهْرُبُ مِنْ بَعْضِهَا إِذَا دَخَلَ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِهِ مَا يَخَافُهُ. وَالسُّلَّمُ: الْمِرْقَاةُ، مُشْتَقٌّ مِنَ السَّلَامَةِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: لِأَنَّهُ الَّذِي يُسَلِّمُكَ إِلَى مِصْعَدِكَ. وَتَذْكِيرُهُ أَفْصَحُ مِنْ تَأْنِيثِهِ، وَإِنَّمَا يُؤَنَّثُ بِمَعْنَى الْآلَةِ، وَأَتَى بِ " كَانَ " فِعْلًا لِلشَّرْطِ؛ لِيَبْقَى الشَّرْطُ عَلَى الْمُضِيِّ وَلَا يَنْقَلِبَ مُسْتَقْبَلًا كَمَا قَالُوا، فَإِنَّ " إِنَّ " لَا تَقْلِبُ " كَانَ " مُسْتَقْبَلًا لِقُوَّةِ دَلَالَتِهِ عَلَى الْمُضِيِّ. وَالنَّحْوِيُّ يُؤَوِّلُ مِثْلَ هَذَا التَّرْكِيبِ بِنَحْوِ: وَإِنْ تَبَيَّنَ وَظَهَرَ أَنَّهُ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ، وَجَوَابُ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ لِلْعِلْمِ بِهِ، تَقْدِيرُهُ: فَافْعَلْ كَمَا تَقَدَّمَ.
تَقَدَّمَ فِي أَوَائِلِ السُّورَةِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَقْتَرِحُونَ الْآيَاتِ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَكَأَنَّهُ كَانَ يَتَمَنَّى لَوْ آتَاهُ اللهُ بَعْضَ مَا طَلَبُوا حِرْصًا عَلَى هِدَايَتِهِمْ، وَأَسَفًا وَحُزْنًا عَلَى إِصْرَارِهِمْ عَلَى غَوَايَتِهِمْ، وَتَأَلُّمًا مِنْ كُفْرِهِمْ وَأَذِيَّتِهِمْ، وَلَكِنَّ اللهَ تَعَالَى يَعْلَمُ أَنَّ أُولَئِكَ الْمُقْتَرِحِينَ الْجَاحِدِينَ لَا يُؤْمِنُونَ وَإِنْ رَأَوْا مِنَ الْآيَاتِ مَا يَطْلُبُونَ وَفَوْقَ مَا يَطْلُبُونَ، كَمَا تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي تَفْسِيرِ أَوَائِلِ السُّورَةِ [رَاجِعْ تَفْسِيرِ الْآيَةِ السَّابِعَةِ وَمَا بَعْدَهَا ص 258 ج 7 ط الْهَيْئَةِ] وَقَدْ أَرَادَ تَعَالَى أَنْ يُؤَكِّدَ لِرَسُولِهِ مَا يَجِبُ مِنَ الصَّبْرِ عَلَى تَكْذِيبِ الْمُشْرِكِينَ وَأَذَاهُمُ الدَّالِّ عَلَيْهِ مَا قَبْلُهُ، وَأَنْ يُرِيحَ قَلْبَهُ الرَّءُوفَ الرَّحِيمَ مِنْ إِجَابَتِهِمْ إِلَى مَا اقْتَرَحُوا مِنَ الْآيَاتِ؛ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ حِكْمَةِ ذَلِكَ، فَقَالَ لَهُ: وَإِنْ كَانَ شَأْنُكَ مَعَهُمْ أَنَّهُ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ عَنِ الْإِيمَانِ وَعَنِ الْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ الدَّالَّةِ عَلَيْهِ - وَمِنْهَا مَا سَبَقَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ - وَظَنَنْتَ أَنَّ إِتْيَانَهُمْ بِآيَةٍ مِمَّا اقْتَرَحُوا
يَدْحَضُ حُجَّتَهُمْ، وَيَكْشِفُ شُبْهَتَهُمْ، فَيَعْتَصِمُونَ بِعُرْوَةِ الْإِيمَانِ، عَنْ بَيِّنَةٍ مُلْزِمَةٍ وَبُرْهَانٍ، فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ لِنَفْسِكَ نَفَقًا كَائِنًا فِي الْأَرْضِ - أَوْ مَعْنَاهُ: تَطْلُبُهُ فِي الْأَرْضِ - فَتَذْهَبَ فِي أَعْمَاقِهَا، أَوْ سُلَّمًا فِي جَوِّ السَّمَاءِ
تَرْتَقِيَ عَلَيْهِ إِلَى مَا فَوْقِهَا، فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ مِمَّا اقْتَرَحُوهُ عَلَيْكَ مِنْهُمَا فَائْتِ بِمَا يَدْخُلُ فِي طَوْعِ قُدْرَتِكَ مِنْ ذَلِكَ، كَتَفْجِيرِ يَنْبُوعٍ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ، أَوْ تَنْزِيلِ كِتَابٍ تَحْمِلُهُ لَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ، وَقَدْ كَانُوا طَلَبُوا أَحَدَ النَّوْعَيْنِ كَمَا حَكَّاهُ اللهُ تَعَالَى عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ فِي " سُورَةِ الْإِسْرَاءِ ":(وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا) إِلَى قَوْلِهِ: (أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ)(17: 90 - 93) وَقَدْ أَمَرَهُ اللهُ تَعَالَى أَنْ يُجِيبَ عَنْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ عَقِبَ هَذَا: (قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا) أَيْ وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي قُدْرَةِ الْبَشَرِ وَإِنْ كَانَ رَسُولًا ; لِأَنَّ الرِّسَالَةَ لَا تُخْرِجُ الرَّسُولَ عَنْ طَوْرِ الْبَشَرُ فِي صِفَاتِهِمُ الْبَشَرِيَّةِ كَالْقُدْرَةِ وَالِاسْتِطَاعَةِ، فَهُمْ لَا يَسْتَطِيعُونَ إِيجَادَ شَيْءٍ مِمَّا يَعْجِزُ عَنْهُ الْبَشَرُ فِي صِفَاتِهِمُ الْبَشَرِيَّةِ كَالْقُدْرَةِ وَالِاسْتِطَاعَةِ، فَهُمْ لَا يَسْتَطِيعُونَ إِيجَادَ شَيْءٍ مِمَّا يَعْجِزُ عَنْهُ الْبَشَرُ وَلَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ غَيْرُ الْخَالِقِ تَعَالَى. وَالْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّكَ لَا تَسْتَطِيعُ أَيُّهَا الرَّسُولُ الْإِتْيَانَ بِشَيْءٍ مِنْ تِلْكَ الْآيَاتِ وَلَا ابْتِغَاءَ السُّبُلَ إِلَيْهَا فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ، وَلَا اقْتَضَتْ مَشِيئَةُ رَبِّكَ أَنْ يُؤْتِيَكَ ذَلِكَ؛ لِعِلْمِهِ بِأَنَّهُ لَا يَكُونُ سَبَبًا لِمَا تُحِبُّ مِنْ هِدَايَتِهِمْ؛ وَلِأَنَّ مِنْ سَنَّتِهِ أَنْ يَتَرَتَّبَ عَلَى الْجُحُودِ بَعْدَهُ إِنْزَالُ الْعَذَابِ عَلَيْهِمْ، وَتَقَدَّمَ بَيَانُ هَذَا فِي تَفْسِيرِ الْآيَتَيْنِ السَّادِسَةِ وَالسَّابِعَةِ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ.
(وَلَوْ شَاءَ اللهُ لِجَمْعِهِمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ) أَيْ وَلَوْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى جَمْعَهُمْ عَلَى مَا جِئْتَ بِهِ مِنَ الْهُدَى لِجَمَعَهُمْ عَلَيْهِ بِجَعْلِ الْإِيمَانِ ضَرُورِيًّا لَهُمْ كَالْمَلَائِكَةِ، أَوْ بِخَلْقِهِمْ عَلَى اسْتِعْدَادٍ وَاحِدٍ لِلْخَيْرِ وَالْحَقِّ فَقَطْ، لَا مُتَفَاوِتِي الِاسْتِعْدَادِ مُخْتَلِفِي الِاخْتِيَارِ بِاخْتِلَافِ الْعُلُومِ وَالْأَفْكَارِ وَالْأَخْلَاقِ وَالْعَادَاتِ، كَمَا اقْتَضَتْهُ حِكْمَتُهُ فِي خَلْقِ النَّاسِ، وَلَكِنَّهُ شَاءَ أَنْ يَخْلُقَ الْبَشَرَ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الِاخْتِلَافِ وَالتَّفَاوُتِ فِي الِاسْتِعْدَادِ، وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنَ اخْتِلَافِ أَسْبَابِ الِاخْتِيَارِ، فَإِذَا عَرَفْتَ سُنَّتَهُ هَذِهِ فِي خَلْقِ هَذَا النَّوْعِ، وَأَنَّهُ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ، فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الْجَاهِلِينَ بِسُنَنِ اللهِ تَعَالَى فِي خَلْقِهِ الَّذِينَ يَتَمَنَّوْنَ مَا يَرَوْنَهُ حَسَنًا وَنَافِعًا، وَإِنْ كَانَ حُصُولُهُ مُمْتَنِعًا، لِكَوْنِهِ مُخَالِفًا لِتِلْكَ السُّنَنِ الَّتِي اقْتَضَتْهَا الْحِكْمَةُ الْإِلَهِيَّةُ. فَالْجَهْلُ هُنَا ضِدُّ الْعِلْمِ لَا ضِدُّ الْحِلْمِ، وَلَيْسَ كُلُّ جَهْلٍ بِهَذَا الْمَعْنَى عَيْبًا ; لِأَنَّ الْمَخْلُوقَ لَا يُحِيطُ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا، وَإِنَّمَا يُذَمُّ الْإِنْسَانُ بِجَهْلِ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ، ثُمَّ بِجَهْلِ مَا يَنْبَغِي لَهُ وَيُعَدُّ كَمَالًا فِي حَقِّهِ إِذَا لَمْ يَكُنْ مَعْذُورًا فِي جَهْلِهِ. قَالَ تَعَالَى فِي الْفُقَرَاءِ الْمُتَعَفِّفِينَ:(يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ)(2: 273) فَوَصْفُ الْجَاهِلِ
هُنَا غَيْرُ ذَمٍّ، وَكَانَ عَدَمُ عِلْمِ خَاتَمِ الرُّسُلِ بِالْكِتَابَةِ مِنْ أَرْكَانِ آيَاتِهِ، وَعَدَمُ عِلْمِهِ بِالشِّعْرِ مِنْ أَدِلَّةِ الْوَحْيِ وَبَيِّنَاتِهِ، وَكُلُّ مَا يَتَوَقَّفُ عِلْمُهُ عَلَى الْوَحْيِ الْإِلَهِيِّ لَا يَكُونُ جَهْلُ الرَّسُولِ إِيَّاهُ قَبْلَ نُزُولِهِ عَلَيْهِ عَيْبًا يُذَمُّ بِهِ؛ إِذْ لَا يُذَمُّ الْإِنْسَانُ إِلَّا بِمَا يُقَصِّرُ فِي تَحْصِيلِهِ وَكَسْبِهِ، وَقَدْ أَمَرَ اللهُ تَعَالَى رَسُولَهُ بِأَنْ يَسْأَلَهُ
زِيَادَةَ الْعِلْمِ، وَكَانَ يَزِيدُهُ كُلَّ يَوْمٍ عِلْمًا وَكَمَالًا بِتَنْزِيلِ الْقُرْآنِ وَبِفَهْمِهِ، وَبِغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ، وَلَا يَقْتَضِي ذَلِكَ الذَّمَّ قَبْلَ هَذِهِ الزِّيَادَةِ، وَإِنَّمَا الَّذِي يُذَمُّ مُطْلَقًا هُوَ الْجَهْلُ الْمُرَادِفُ لِلسَّفَهِ وَهُوَ ضِدُّ الْحِلْمِ.
وَيُشْبِهُ مَا هُنَا قَوْلُهُ تَعَالَى لِنُوحٍ حِينَ طَلَبِ نَجَاةَ ابْنِهِ الْكَافِرِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ مِنْ أَهْلِهِ الَّذِينَ وَعَدَهُ اللهُ بِإِنْجَائِهِمْ مَعَهُ: (يَانُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ)(11: 46) أَيْ بِإِدْخَالِ وَلَدِكَ الْكَافِرِ فِي عُمُومِ أَهْلِكَ الْمُؤْمِنِينَ، وَإِنَّمَا اقْتَرَنَ النَّهْيُ هُنَا بِالْوَعْظِ لِأَنَّ عَاطِفَةَ الرَّحْمَةِ الْوَالِدِيَّةِ حَمَلَتْهُ عَلَى سُؤَالِ مَا لَيْسَ لَهُ بِهِ عِلْمٌ اعْتِمَادًا عَلَى اسْتِنْبَاطٍ اجْتِهَادِيٍّ غَيْرِ صَحِيحٍ، وَرَحْمَةُ خَاتَمِ الرُّسُلِ صلى الله عليه وسلم كَانَتْ أَعَمَّ وَأَشْمَلَ، وَغَايَةُ مَا تُشِيرُ إِلَيْهِ الْآيَةُ أَنَّهُ تَمَنَّى وَلَكِنَّهُ لَمْ يَسْأَلْ، وَلَوْ سَأَلَ لَسَأَلَ آيَةً يَهْتَدِي بِهَا الضَّالُّ مِنْ قَوْمِهِ، لَا نَجَاةَ الْكَافِرِ مِنْ أَهْلِهِ، فَاكْتَفَى فِي إِرْشَادِهِ بِالنَّهْيِ وَحَسُنَ فِي إِرْشَادِ نُوحٍ التَّصْرِيحُ بِالْوَعْظِ.
(إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ) .
بَيِّنَ لَنَا تَعَالَى فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ أَنَّهُ لَوْ شَاءَ لَجَمَعَ النَّاسَ عَلَى الْهُدَى وَلَكِنَّهُ لَمْ يَشَأْ أَنْ يَجْعَلَ الْبَشَرَ مَفْطُورِينَ عَلَى ذَلِكَ، وَلَا أَنْ يُلْجِئَهُمْ إِلَيْهِ إِلْجَاءً بِالْآيَاتِ الْقَاسِرَةِ، بَلِ اقْتَضَتْ حِكْمَتُهُ وَمَضَتْ سُنَّتُهُ فِي الْبَشَرِ بِأَنْ يَكُونُوا مُتَفَاوِتِينَ فِي الِاسْتِعْدَادِ، عَامِلِينَ بِالِاخْتِيَارِ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَخْتَارُ الْهُدَى عَلَى الضَّلَالِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَحِبُّ الْعَمَى عَلَى الْهُدَى، ثُمَّ بَيَّنَ لَنَا فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ أَنَّ الْأَوَّلِينَ هُمُ الَّذِينَ يَنْظُرُونَ فِي الْآيَاتِ، وَيَعْقِلُونَ مَا يَسْمَعُونَ مِنَ الْبَيِّنَاتِ، وَأَنَّ الْآخِرِينَ لَا يَسْمَعُونَ وَلَا يَنْظُرُونَ حَتَّى كَأَنَّهُمْ مِنَ الْأَمْوَاتِ، فَقَالَ عز وجل:
(إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ) يُقَالُ: أَجَابَ الدَّعْوَةَ إِذَا أَتَى مَا دُعِيَ إِلَيْهِ مِنْ قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ، وَأَجَابَ الدَّاعِيَ إِذَا لَبَّاهُ وَقَامَ بِمَا دَعَاهُ إِلَيْهِ، وَيُقَالُ: اسْتَجَابَ لَهُ، وَهُوَ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ، وَاسْتَجَابَ دُعَاءَهُ وَكَذَا اسْتَجَابَهُ. نَعْرِفُ مِنْهُ قَوْلَ كَعْبِ بْنِ مَرْثَدٍ الْغَنَوِيِّ فِي رِثَاءِ أَخِيهِ:
وَدَاعٍ دَعَا يَا مَنْ يُجِيبُ إِلَى النِّدَى
…
فَلَمْ يَسْتَجِبْهُ عِنْدَ ذَاكَ مُجِيبُ.
قَالُوا: إِنَّ الِاسْتِجَابَةَ بِمَعْنَى الْإِجَابَةِ، وَلِذَلِكَ قَالَ: فَلَمْ يَسْتَجِبْهُ مُجِيبٌ، وَقَالَ الرَّاغِبُ: وَالِاسْتِجَابَةُ قِيلَ: هِيَ الْإِجَابَةُ، وَحَقِيقَتُهَا هِيَ التَّحَرِّي لِلْجَوَابِ وَالتَّهَيُّؤِ لَهُ لَكِنْ عَبَّرَ بِهِ عَنِ الْإِجَابَةِ لِقِلَّةِ انْفِكَاكِهَا مِنْهَا. انْتَهَى. وَهَذَا مِنْ دَقَائِقَ تَحْدِيدِهِ لِلْمَعَانِي رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى، وَلَكِنَّهُ لَمْ يُحِطْ بِهِ، وَحَقِيقَةُ الْجَوَابِ وَالْإِجَابَةِ كَمَا يُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِ - قَطَعَ الصَّوْتَ أَوِ الشَّخْصَ الْجَوْبَ أَوِ الْجَوْبَةَ وَهِيَ الْمَسَافَةُ بَيْنَ الْبُيُوتِ أَوِ الْحُفْرَةُ، وَوُصُولُهُ إِلَى الدَّاعِي أَيْ: وُصُولُ مَا سَأَلَهُ إِلَيْهِ بِالْفِعْلِ، وَأَمَّا الِاسْتِجَابَةُ فَهِيَ التَّهَيُّؤُ لِلْجَوَابِ أَوْ لِلْإِجَابَةِ أَيِ الْمُسْتَلْزِمِ لِلشُّرُوعِ وَالْمُضِيِّ فِيهَا عِنْدَ الْإِمْكَانِ، وَغَايَتُهُ الْإِجَابَةُ التَّامَّةُ عِنْدَ عَدَمِ الْمَانِعِ، فَالسِّينُ وَالتَّاءُ عَلَى مَعْنَاهُمَا، وَمَنْ دَقَّقَ النَّظَرَ فِي اسْتِعْمَالِ الصِّيغَتَيْنِ فِي الْقُرْآنِ الْحَكِيمِ يَظْهَرُ لَهُ أَنَّ أَفْعَالَ الْإِجَابَةِ كُلَّهَا قَدْ ذُكِرَتْ فِي الْمَوَاضِعِ الْمُفِيدَةِ لِحُصُولِ السُّؤَالِ كُلِّهِ بِالْفِعْلِ حَقِيقَةً أَوِ ادِّعَاءً دُفْعَةً وَاحِدَةً، وَمِنْهُ الْإِجَابَةُ بِالْقَوْلِ كَقَوْلِكَ: نَعَمْ، وَبَلَى، وَلَبَّيْكَ، وَلَكَ ذَلِكَ، وَأَنَّ الِاسْتِجَابَةَ قَدْ ذُكِرَتْ فِي الْمَوَاضِعِ الْمُفِيدَةِ لِحُصُولِ السُّؤَالِ بِالْقُوَّةِ أَوِ التَّهَيُّؤِ وَالِاسْتِعْدَادِ لَهُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:(الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ)(3: 172) فَهُوَ قَدْ نَزَلَ فِي تَهَيُّؤِ الْمُؤْمِنِينَ لِلْقِتَالِ فِي حَمْرَاءِ الْأَسَدِ بَعْدَ أُحُدٍ، أَوْ بِالْفِعْلِ التَّدْرِيجِيِّ، كَاسْتِجَابَةِ دَعْوَةِ الدِّينِ الَّتِي تَبْدَأُ بِالْقَبُولِ وَالشَّهَادَتَيْنِ، ثُمَّ تَكُونُ سَائِرُ الْأَعْمَالِ بِالتَّدْرِيجِ وَشَوَاهِدُهُ كَثِيرَةٌ، وَالِاسْتِجَابَةُ مِنَ اللهِ الْقَادِرِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ إِنَّمَا يُعَبَّرُ بِهَا فِي الْأُمُورِ الَّتِي تَقَعُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَيَكُونُ الشَّأْنُ فِيهَا أَنْ تَقَعَ بِالتَّدْرِيجِ كَاسْتِجَابَةِ الدُّعَاءِ بِالْوِقَايَةِ مِنَ النَّارِ، وَبِالْمَغْفِرَةِ وَتَكْفِيرِ السَّيِّئَاتِ وَإِيتَاءِ مَا وَعَدَ بِهِ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْآخِرَةِ، قَالَ تَعَالَى بَعْدَ حِكَايَةِ هَذَا الدُّعَاءِ بِذَلِكَ عَنْ أُولِي الْأَلْبَابِ:(فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ)(3: 195) إِلَخْ. وَكَاسْتِجَابَتِهِ لِلْمُؤْمِنِينَ فِي بَدْرٍ بِإِمْدَادِهِمْ بِالْمَلَائِكَةِ تُثَبِّتُهُمْ كَمَا فِي " سُورَةِ الْأَنْفَالِ "(8: 9 - 12) وَمِنْ ذَلِكَ اسْتِجَابَتُهُ لِأَيُّوبَ وَذِي النُّونِ وَزَكَرِيَّا عليهم السلام كَمَا فِي " سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ "(21: 83، 90) كُلُّ ذَلِكَ مِمَّا يَقَعُ بِالتَّدْرِيجِ فِي الِاسْتِقْبَالِ،
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى لِمُوسَى وَهَارُونَ حِينَ دَعَوْا عَلَى فِرْعَوْنِ وَمَلَئِهِ: (قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا)(10: 89) فَهُوَ تَبْشِيرٌ لَهُمَا بِأَنَّهُ تَعَالَى قَدْ قَبِلَهَا بِالْفِعْلِ. وَهَذَا مِنَ الْإِجَابَةِ الْقَوْلِيَّةِ جَاءَتْ بِصِيغَةِ الْمَاضِي لِلْإِيذَانِ بِتَحَقُّقِ مَضْمُونِهَا فِي الْمُسْتَقْبَلِ حَتَّى كَأَنَّهَا أُجِيبَتْ وَانْتَهَى أَمْرُهَا، وَهَذَا الْمَعْنَى تُؤَدِّيهِ مَادَّةُ الْإِجَابَةِ دُونَ مَادَّةِ الِاسْتِجَابَةِ، وَلَوْ ذُكِرَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ بِصِيغَةِ الْحِكَايَةِ لِعَبَّرَ عَنْ إِعْطَائِهِمَا مَا سَأَلَا بِلَفْظِ الِاسْتِجَابَةِ كَمَا قَالَ فِي شَأْنِ كُلٍّ مِنْ أَيُّوبَ وَذِي النُّونِ وَزَكَرِيَّا (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ) فَيَالِلَّهِ الْعَجَبُ مِنْ هَذِهِ الدِّقَّةِ وَالْبَلَاغَةِ فِي هَذَا الْكَلَامِ الْإِلَهِيِّ الْمُعْجِزِ لِلْبَشَرِ حَتَّى فِي وَضْعِ مُفْرَدَاتِهِ فِي مَوَاضِعِهَا، دَعْ بَلَاغَةَ أَسَالِيبِهِ، وَجُمَلِهِ، وَعُلُومِهِ، وَحِكَمِهِ، وَمَا فِيهِ مِنْ أَخْبَارِ الْغَيْبِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ. هَذَا تَحْقِيقُ مَعْنَى الِاسْتِجَابَةِ، وَقِيلَ: إِنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ الْإِجَابَةِ وَالِاسْتِجَابَةِ هُوَ أَنَّ الِاسْتِجَابَةَ تَدُلُّ عَلَى الْقَبُولِ وَلَا يُعْرَفُ لَهُ أَصْلٌ مَنْقُولٌ وَلَا مَعْقُولٌ.
وَالسَّمْعُ وَالسَّمَاعُ يُطْلَقُ بِمَعْنَى إِدْرَاكِ الصَّوْتِ، وَبِمَعْنَى فَهْمِ مَا يُسْمَعُ مِنَ الْكَلَامِ وَهُوَ ثَمَرَةُ السَّمَاعِ، وَبِمَعْنَى قَبُولِ مَا يُفْهَمُ مِنْهُ وَالِاعْتِبَارِ بِهِ وَالْعَمَلِ بِمُوجِبِهِ، وَهَذِهِ ثَمَرَةُ الثَّمَرَةِ، فَهِيَ الْمَرْتَبَةُ الْكَامِلَةُ الْعُلْيَا مِنْ مَرَاتِبِ السَّمَاعِ، فَمَنْ سَمِعَ وَلَمْ يَفْهَمْ، كَانَ كَمَنْ لَمْ يَسْمَعْ، وَمَنْ فَهِمَ وَلَمْ يَعْمَلْ كَانَ كَمَنْ لَمْ يَفْهَمْ، وَهَذَا الْقَوْلُ أَقْرَبُ إِلَى الْحَقِيقَةِ وَأَبْعَدُ عَنْ قَصْدِ الْمُبَالَغَةِ مِنْ قَوْلِ الشَّاعِرِ:
خُلِقُوا وَمَا خُلِقُوا لِمَكْرُمَةٍ
…
فَكَأَنَّهُمْ خُلِقُوا وَمَا خُلِقُوا.
رُزِقُوا وَمَا رُزِقُوا سَمَاحَ يَدٍ
…
فَكَأَنَّهُمْ رُزِقُوا وَمَا رُزِقُوا.
ذَلِكَ بِأَنَّ لِلْخَلْقِ وَالرِّزْقِ ثَمَرَاتٍ وَغَايَاتٍ غَيْرِ الْمَكَارِمِ وَسَمَاحِ الْيَدِ، وَأَمَّا سَمَاعُ الْكَلَامِ فَلَا فَائِدَةَ لَهُ إِلَّا فَهْمَهُ، وَفَهْمُهُ لَا فَائِدَةَ لَهُ إِلَّا الِانْتِفَاعَ بِهِ، وَلِأَجْلِ هَذَا أَطْلَقَ الْقُرْآنُ عَلَى مَنْ لَا يَسْتَفِيدُونَ مِنْ سَمَاعِ الْآيَاتِ وَالْعِلْمِ النَّافِعِ لَفْظَ الصُّمِّ وَلَفْظَ الْمَوْتَى فِي آيَاتٍ مِنْهَا قَوْلُهُ فِيهِمَا مَعًا:(إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ)(27: 80) وَالْآيَةُ الَّتِي نُفَسِّرُهَا مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ.
فَمَعْنَى صَدْرِ الْآيَةِ: إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ لَكَ أَيُّهَا الرَّسُولُ - أَوْ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ - الَّذِينَ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللهِ الدَّاعِي إِلَيْهِ بِآيَاتِهِ سَمَاعَ فَهْمٍ وَتَدَبُّرٍ، فَيَعْقِلُونَ الْآيَاتِ، وَيُذْعِنُونَ لِمَا عَرَفُوا بِهَا مِنَ الْحَقِّ ; لِسَلَامَةِ فِطْرَتِهِمْ وَاسْتِقْلَالِ عُقُولِهِمْ، دُونَ الَّذِينَ قَالُوا: سَمِعْنَا
وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ كَالْمُقَلِّدِينَ الْجَامِدِينَ، وَدُونَ الَّذِينَ قَالُوا: سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا مِنَ الْمُسْتَكْبِرِينَ الْجَاحِدِينَ. فَكُلُّ أُولَئِكَ مِنْ مَوْتَى الْقُلُوبِ وَالْأَرْوَاحِ الَّذِينَ هُمْ أَبْعَدُ عَنْ الِانْتِفَاعِ مِنْ مَوْتَى الْجُسُومِ وَالْأَبْدَانِ.
(وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ) أَيْ وَمَوْتَى الْقُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَسْمَعُونَ هَذَا السَّمَاعَ يُخْرِجُهُمُ اللهُ تَعَالَى مِنْ قُبُورِهِمْ وَيُرْسِلُهُمْ إِلَى مَوْقِفِ الْحِسَابِ، ثُمَّ تُرْجِعُهُمُ الْمَلَائِكَةُ إِلَيْهِ فَيَنَالُونَ مَا اسْتَحَقُّوهُ مِنَ الْجَزَاءِ، فَأَصْلُ الْبَعْثِ فِي اللُّغَةِ: إِثَارَةُ الشَّيْءِ وَتَوْجِيهُهُ، كَمَا قَالَ الرَّاغِبُ: يُقَالُ: بَعَثْتُ بِالْبَعِيرِ أَيْ: أَثَرْتُهُ مِنْ مَبْرَكِهِ وَسَيَّرْتُهُ إِلَى الْمَرْعَى وَنَحْوِهِ، وَ (يُرْجَعُونَ) مَبْنِيٌّ لِلْمَفْعُولِ مِنَ الرَّجْعِ، وَ " رَجَعَ " جَاءَ لَازِمًا وَمُتَعَدِّيًا، يُقَالُ: رَجَعَ فَلَانٌ رُجُوعًا، أَيِ انْصَرَفَ وَرَجَعْتُهُ رَجْعًا، وَمِنْهُ (قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا) (23: 99، 100) وَ " أَرْجَعْتُهُ " لُغَةُ هُذَيْلٍ.
فَالظَّاهِرُ مِمَّا تَقَدَّمَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمَوْتَى هُنَا: الْكُفَّارُ الرَّاسِخُونَ فِي الْكُفْرِ، الْمَطْبُوعُ عَلَى قُلُوبِهِمُ، الْمَيْئُوسُ مِنْ سَمَاعِهِمْ سَمَاعَ فَهْمٍ وَاعْتِبَارٍ تَتْبَعُهُ الِاسْتِجَابَةُ لِدَاعِي الْإِيمَانِ، أَيْ: وَالَّذِينَ لَا تُرْجَى اسْتِجَابَتُهُمْ لِأَنَّهُمْ كَالْمَوْتَى لَا يَسْمَعُونَ السَّمَاعَ النَّافِعَ - يُتْرَكُ أَمْرُهُمْ إِلَى اللهِ فَهُوَ يَبْعَثُهُمْ بَعْدَ مَوْتِهِمْ، ثُمَّ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُجَازِيهِمْ عَلَى كُفْرِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ، وَلَا يَضُرُّكَ أَيُّهَا الرَّسُولُ كُفْرُهُمْ، وَلَيْسَ فِي اسْتِطَاعَتِكَ هِدَايَتُهُمْ، فَالْوَاجِبُ عَلَيْكَ أَنْ تُفَوِّضَ إِلَى اللهِ أَمْرَهُمْ، وَقِيلَ: إِنَّ لَفْظَ الْمَوْتَى
عَلَى حَقِيقَتِهِ، وَأَنَّ الْكَلَامَ تَمْثِيلٌ وَتَعْرِيضٌ بِالْإِيمَاءِ إِلَى عَدَمِ قُدْرَةِ الرَّسُولِ عَلَى هِدَايَتِهِمْ، كَمَا أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى إِحْيَاءِ الْمَوْتَى. وَهُوَ بَعِيدٌ وَفِيهِ مَا لَا يَخْفَى مِنَ التَّكْلِيفِ.
(وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ) أَيْ: وَقَالَ أُولَئِكَ الظَّالِمُونَ لِأَنْفُسِهِمُ الَّذِينَ يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَيُعَانِدُونَ رَسُولَهُ إِلَيْهِمْ: هَلَّا أُنْزِلَ عَلَيْهِ - أَيِ الرَّسُولِ - آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ مِنَ الْآيَاتِ الْمُخَالِفَةِ لِسُنَنِهِ تَعَالَى فِي خَلْقِهِ، مِمَّا اقْتَرَحْنَا عَلَيْهِ، وَجَعَلْنَاهُ شَرْطًا لِإِيمَانِنَا بِهِ؟ وَقِيلَ: إِنَّ مُرَادَهُمْ آيَةٌ مُلْجِئَةٌ إِلَى الْإِيمَانِ، وَالْإِلْجَاءُ اضْطِرَارٌ لَا اخْتِيَارٌ، فَلَا يُوَجَّهُ إِلَيْهِ الطَّلَبُ وَلَا يُعْتَدُّ بِهِ إِنْ حَصَلَ (قُلْ إِنَّ اللهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ) أَيْ: قُلْ أَيُّهَا الرَّسُولُ: إِنَّ اللهَ تَعَالَى
قَادِرٌ عَلَى تَنْزِيلِ آيَةٍ مِمَّا اقْتَرَحُوا، وَإِنَّمَا يُنَزِّلُهَا إِذَا اقْتَضَتْ حِكْمَتُهُ تَنْزِيلَهَا، لَا إِذَا تَعَلَّقَتْ شَهْوَتُهُمْ بِتَعْجِيزِ الرَّسُولِ بِطَلَبِهَا، فَإِنَّ إِجَابَةَ الْمُعَانِدِينَ إِلَى الْآيَاتِ الْمُقْتَرَحَةِ لَمْ يَكُنْ فِي أُمَّةٍ مِنَ الْأُمَمِ سَبَبًا لِلْهِدَايَةِ، وَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُهُ تَعَالَى فِي الْأَقْوَامِ، بِأَنْ يُعَاقِبَ الْمُعَجِّزِينَ لِلرُّسُلِ بِذَلِكَ بِعَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ، فَتَنْزِيلُ آيَةٍ مُقْتَرَحَةٍ لَا يَكُونُ خَيْرًا لَهُمْ، بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ، وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا مِنْ حِكَمِ اللهِ تَعَالَى فِي أَفْعَالِهِ، وَلَا مِنْ سُنَنِهِ فِي خَلْقِهِ، وَلَا أَنَّكَ أُرْسِلْتَ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ، فَلَا يَأْتِي عَلَى يَدَيْكَ سَبَبُ اسْتِئْصَالِ أُمَّتِكَ بِإِجَابَةِ الْمُعَانِدِينَ مِنْهَا إِلَى مَا اقْتَرَحُوا عَلَيْكَ لِإِظْهَارِ عَجْزِكَ، وَلَا يَعْلَمُونَ أَيْضًا أَنَّ إِجَابَةَ اقْتِرَاحٍ وَاحِدٍ يُؤَدِّي إِلَى اقْتِرَاحَاتٍ كَثِيرَةٍ لَا حَدَّ لَهَا، وَلَا فَائِدَةَ مِنْهَا. وَقَدْ يَعْلَمُ أَفْرَادٌ مِنْهُمْ بَعْضَ ذَلِكَ عِلْمًا نَاقِصًا لَا يَهْدِي إِلَى الِاعْتِبَارِ، وَلَا يَصُدُّ صَاحِبَهُ عَنْ مَثَلِ هَذَا الِاقْتِرَاحِ، وَمَنْ قَالَ: إِنَّهُمُ اقْتَرَحُوا آيَةً مُلْجِئَةً يَقُولُ: وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ أَنَّ تَنْزِيلَهَا يُزِيلُ الِاخْتِيَارَ الَّذِي هُوَ أَسَاسُ التَّكْلِيفِ فَلَا يَبْقَى لِدَعْوَةِ الرِّسَالَةِ فَائِدَةٌ.
قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ (يُنْزَلَ) بِالتَّخْفِيفِ مِنَ الْإِنْزَالِ، وَالْبَاقُونَ بِالتَّشْدِيدِ مِنَ التَّنْزِيلِ الدَّالِّ بِصِيغَتِهِ عَلَى التَّدْرِيجِ أَوِ التَّكْثِيرِ، وَقَالَ الْمُفَسِّرُونَ: إِنَّ مَعْنَاهُمَا هَاهُنَا وَاحِدٌ، وَالَّذِي نَرَاهُ هُوَ أَنَّ كُلَّ صِيغَةٍ مِنْهُمَا عَلَى أَصْلِ مَعْنَاهَا، وَأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا لِبَيَانِ أَنَّ بَعْضَهُمُ اقْتَرَحَ آيَةً وَاحِدَةً تَنْزِلُ دُفْعَةً وَاحِدَةً كَنُزُولِ مَلَكٍ مِنَ السَّمَاءِ عَلَيْهِمْ أَوْ عَلَيْهِ، وَهُوَ الْمُشَارُ إِلَيْهِ بِقِرَاءَةِ ابْنِ كَثِيرٍ، وَبَعْضُهُمُ اقْتَرَحَ عِدَّةَ آيَاتٍ مِنْهَا مَا لَا يَكُونُ إِلَّا بِالتَّدْرِيجِ وَهِيَ الْمُشَارُ إِلَيْهَا بِقِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ، وَلَا يُنَافِي إِفْرَادُ الْآيَةِ هُنَا طَلَبَ بَعْضِهِمْ لِعِدَّةِ آيَاتٍ ; إِذِ الْمُرَادُ بِهَا آيَةٌ مِمَّا اقْتَرَحُوا، وَقَدْ صَرَّحَ لَفْظُ الْجَمْعِ فِي آيَةِ الْعَنْكَبُوتِ الْوَارِدَةِ بِمَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ، وَسَيَأْتِي نَصُّهَا قَرِيبًا.
هَذَا وَإِنَّ بَعْضَ الْكُفَّارِ وَبَعْضَ الشَّاكِّينَ وَالْمُشَكِّكِينَ فِي الْإِسْلَامِ يَقُولُونَ: لَوْ أَنَّ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم أُوتِيَ آيَةً بَيِّنَةً وَمُعْجِزَةً وَاضِحَةً تَدُلُّ عَلَى نُبُوَّتِهِ وَرِسَالَتِهِ لَمَا طَلَبَ قَوْمُهُ الْآيَةَ، وَإِنَّ هَذَا الْجَوَابَ بِقُدْرَةِ اللهِ عَلَى تَنْزِيلِ الْآيَةِ وَنَفْيِ الْعِلْمِ عَنْ أَكْثَرِهِمْ لَا تَقُومُ بِهِ الْحُجَّةُ عَلَيْهِمُ الْمُبَطَّلَةُ لِحَقِّيَّةِ طَلَبِهِمْ، وَإِلَيْكَ الْجَوَابُ عَنْ هَذِهِ الشُّبْهَةِ:
إِنَّ الْآيَةَ الْكُبْرَى لِخَاتَمِ الرُّسُلِ صلى الله عليه وسلم عَلَى نُبُوَّتِهِ هِيَ الْقُرْآنُ، وَإِنَّهَا لَآيَةٌ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، وَقَدِ احْتَجَّ عَلَيْهِمْ بِهِ وَتَحَدَّاهُمْ بِسُورَةٍ مِنْ مَثَلِهِ فَعَجَزُوا، وَاحْتَجَّ
عَلَيْهِمْ أَيْضًا بِبَعْضِ مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مِنَ الْآيَاتِ كَأَخْبَارِ الْغَيْبِ. وَمِمَّا نَزَلَ فِي ذَلِكَ قَبْلَ " سُورَةِ الْأَنْعَامِ " فَاكْتَفَى فِيهَا بِالْإِحَالَةِ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي " سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ ": (وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)(29: 47 - 51) فَالْقُرْآنُ فِي جُمْلَتِهِ آيَةٌ عِلْمِيَّةٌ، وَفِي تَفْصِيلِهِ آيَاتٌ كَثِيرَةٌ عَقْلِيَّةٌ وَكَوْنِيَّةٌ، وَهِيَ دَائِمَةٌ لَا تَزُولُ كَمَا زَالَتِ الْآيَاتُ الْكَوْنِيَّةُ كَعَصَا مُوسَى مَثَلًا، عَامَّةٌ لَا تَخْتَصُّ بِبَعْضِ مَنْ كَانَ فِي عَصْرِ الرَّسُولِ كَمَا كَانَتْ آيَةُ مُوسَى الْكُبْرَى خَاصَّةً بِمَنْ رَآهَا فِي عَصْرِهِ، وَهِيَ أَدَلُّ عَلَى الرِّسَالَةِ مِنَ الْآيَاتِ الْكَوْنِيَّةِ ; لِأَنَّ مَوْضُوعَ الرِّسَالَةِ عِلْمِيٌّ، فَهُوَ عِلْمٌ مُوحَى بِهِ غَيْرُ مَكْسُوبٍ يُقْصَدُ بِهِ هِدَايَةُ الْخَلْقِ إِلَى الْحَقِّ، فَظُهُورُ عُلُومِ الْهِدَايَةِ عَلَى لِسَانِ أُمِّيٍّ كَانَ هُوَ وَقَوْمُهُ أَبْعَدَ النَّاسِ عَنْ كُلِّ عِلْمٍ بِعِبَارَةٍ أَعْجَزَتْ بِبَلَاغَتِهَا قَوْمَهُ كَمَا أَعْجَزَتْ غَيْرَهُمْ - عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ قَبْلُ مَعْدُودًا مِنْ بُلَغَائِهِمْ - أَدَلُّ عَلَى كَوْنِ ذَلِكَ مُوحًى بِهِ مِنَ اللهِ عز وجل مِنْ عَصَا مُوسَى عَلَى كَوْنِ مَا جَاءَ بِهِ مِنَ التَّوْرَاةِ مُوحًى بِهِ مِنْهُ تَعَالَى، وَهِيَ غَيْرُ مُعْجِزَةٍ فِي نَفْسِهَا، وَقَدْ نَشَأَ مَنْ جَاءَ بِهَا فِي دَارِ مَلِكٍ أَرْبَى عَلَى سَائِرِ مَمَالِكِ الْأَرْضِ بِالْعُلُومِ وَالشَّرَائِعِ.
فَالْآيَةُ الْعِلْمِيَّةُ الْقَطْعِيَّةُ لَا يُمْكِنُ الْمِرَاءُ فِيهَا كَالْمِرَاءِ فِي الْآيَةِ الْكَوْنِيَّةِ الَّتِي هِيَ أَمْرٌ غَرِيبٌ غَيْرُ مُعْتَادٍ يَشْتَبِهُ بِكَثِيرٍ مِنَ الْأُمُورِ النَّادِرَةِ الَّتِي لَهَا أَسْبَابٌ خُفْيَةٌ كَالسِّحْرِ وَغَيْرِهِ ; وَلِذَلِكَ اخْتَلَفَ عُلَمَاءُ الْمَعْقُولِ فِي دَلَالَةِ الْمُعْجِزَةِ عَلَى النُّبُوَّةِ، هَلْ هِيَ عَقْلِيَّةٌ أَوْ عَادِيَّةٌ أَوْ وَضْعِيَّةٌ؟ وَقَدْ جَاءَ فِي الْفَصْلِ الثَّالِثِ عَشَرَ مِنْ سِفْرِ تَثْنِيَةِ الِاشْتِرَاعِ أَنَّ مَنْ أَتَى بِآيَةٍ أَوْ أُعْجُوبَةٍ مِنْ نَبِيٍّ أَوْ حَالِمٍ وَأَمْرَ بِعِبَادَةِ غَيْرِ اللهِ تَعَالَى لَا يُسْمَعُ لَهُ، بَلْ يَجِبُ قَتْلُهُ؛ لِأَنَّهُ تَكَلَّمَ بِالزَّيْغِ. فَالْآيَاتُ الْكَوْنِيَّةُ إِذًا لَا تَدُلُّ عَلَى صِدْقِ كُلِّ مَنْ تَظْهَرُ عَلَى يَدَيْهِ، بَلْ تَخْتَلِفُ دَلَالَتُهَا بِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ مَنْ تَظْهَرُ عَلَى أَيْدِيهِمْ، وَبِذَلِكَ يَقُولُ كَثِيرٌ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ.
وَأَمَّا طَلَبُهُمْ لِلْآيَةِ وَالْآيَاتِ مَعَ وُجُودِ هَذِهِ الْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ، فَسَبَبُهُ مُحَاوَلَةُ تَعْجِيزِ
الرَّسُولِ لَا كَوْنُهُ هُوَ الدَّلِيلُ الَّذِي يَرَوْنَهُ مُوَصِّلًا إِلَى الْمَدْلُولِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى لِرَسُولِهِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ:(وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ)(7) وَقَالَ فِي أَوَّلِ " سُورَةِ الْقَمَرِ ": (وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ)(54: 2)
وَأَكْثَرُهُمْ يَقُولُ مِثْلَ هَذَا فِي كُلِّ آيَةٍ كَوْنِيَّةٍ عَنِ اعْتِقَادٍ، وَأَمَّا قَوْلُ بَعْضِهِمْ: إِنَّ الْقُرْآنَ سِحْرٌ يُؤْثَرُ فَقَدْ كَانَ عَنْ تَضْلِيلٍ وَعِنَادٍ، عَلَى أَنَّ اللهَ تَعَالَى قَدْ أَيَّدَ رَسُولَهُ بِآيَاتٍ أُخْرَى غَيْرِ الْآيَاتِ الَّتِي اقْتَرَحَهَا الْجَاحِدُونَ الْمُعَانِدُونَ ازْدَادَ بِهَا الْمُؤْمِنُونَ إِيمَانًا، وَالْجَاحِدُونَ عِنَادًا وَطُغْيَانًا، وَقَدْ سَبَقَ لَنَا بَحْثٌ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِنْ قَبْلُ وَسَيَجِيءُ مَا يَقْتَضِي الْعَوْدَةَ إِلَيْهَا بَعْدُ.
(وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَأِ اللهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) .
إِنَّ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ مُؤَيِّدَتَانِ لِمَا قَبْلَهُمَا وَمُتَمِّمَتَانِ لَهُ، فَإِنَّهُ بَيَّنَ فِي الْآيَاتِ قَبْلَهُمَا أَنَّ الظَّالِمِينَ مِنْ مُشْرِكِي مَكَّةَ جَحَدُوا بِآيَاتِ اللهِ جُحُودَ عِنَادٍ لَا تَكْذِيبٍ، وَضَرَبَ لَهُمْ مَثَلَ الَّذِينَ كَذَّبُوا الرُّسُلَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَهْتَدُوا بِمَا أُوتُوا مِنَ الْآيَاتِ الْمُقْتَرَحَةِ وَلَا غَيْرِهَا، بَعْدَ هَذَا بَيَّنَ فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ أَنْوَاعًا مِنْ آيَاتِهِ تَعَالَى فِي أَنْوَاعِ الْحَيَوَانِ، وَأَنَّ الْمُكَذِّبِينَ بِآيَاتِ اللهِ لَمْ يَهْتَدُوا بِهَا، بَلْ ظَلُّوا فِي ظُلُمَاتِ جَهْلِهِمْ حَتَّى كَأَنَّهُمْ لَمْ يَرَوْهَا وَلَمْ يَسْمَعُوا بِهَا.
وَذَكَرَ الرَّازِيُّ فِي وَجْهِ النَّظْمِ وَمُنَاسَبَةِ الْآيَةِ الْأُولَى لِمَا قَبْلَهَا وَجْهَيْنِ: (الْأَوَّلُ) أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ إِنْزَالُ سَائِرِ الْمُعْجِزَاتِ مَصْلَحَةً لَفَعَلَهَا وَلَأَظْهَرَهَا، إِلَّا أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ إِظْهَارُهَا مَصْلَحَةً لِلْمُكَلَّفِينَ لَا جَرَمَ مَا أَظْهَرَهَا، وَهَذَا الْجَوَابُ إِنَّمَا يَتِمُّ إِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ تَعَالَى يُرَاعِي مَصَالِحَ الْمُكَلَّفِينَ، وَيَتَفَضَّلُ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ، فَبَيَّنَ أَنَّ الْأَمْرَ كَذَلِكَ، وَقَرَّرَهُ بِأَنْ قَالَ:(وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ)
فِي وُصُولِ فَضْلِ اللهِ وَعِنَايَتِهِ وَرَحْمَتِهِ وَإِحْسَانِهِ إِلَيْهِمْ، وَذَلِكَ كَالْأَمْرِ الْمُشَاهَدِ الْمَحْسُوسِ، فَإِذَا كَانَتْ آثَارُ عِنَايَتِهِ وَاصِلَةً إِلَى جَمِيعِ الْحَيَوَانَاتِ، فَلَوْ كَانَ فِي إِظْهَارِ هَذِهِ الْمُعْجِزَاتِ الْقَاهِرَةِ مَصْلَحَةٌ لِلْمُكَلَّفِينَ لَفَعَلَهَا وَلَأَظْهَرَهَا، وَلَامْتَنَعَ أَنْ يَبْخَلَ بِهَا، مَعَ مَا ظَهَرَ أَنَّهُ لَمْ يَبْخَلْ عَلَى شَيْءٍ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ بِمَهَا وَمَنَافِعِهَا، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا لَمْ يُظْهِرْ تِلْكَ الْمُعْجِزَاتِ ;
لِأَنَّ إِظْهَارَهَا يُخِلُّ بِمَصَالِحِ الْمُكَلَّفِينَ، فَهَذَا هُوَ وَجْهُ النَّظْمِ وَالْمُنَاسَبَةِ بَيْنَ هَذِهِ الْآيَةِ وَبَيْنَ مَا قَبْلَهَا، وَاللهُ أَعْلَمُ.
(الْوَجْهُ الثَّانِي فِي كَيْفِيَّةِ النَّظْمِ) : قَالَ الْقَاضِي: إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَدَّمَ ذِكْرَ الْكُفَّارِ وَبَيَّنَ أَنَّهُمْ يَرْجِعُونَ إِلَى اللهِ وَيُحْشَرُونَ، بَيَّنَ أَيْضًا بَعْدَهُ بِقَوْلِهِ:(وَمَا مِنْ دَابَّةٍ. . .) فِي أَنَّهُمْ يُحْشَرُونَ وَالْمَقْصُودُ بَيَانُ أَنَّ الْحَشْرَ وَالْبَعْثَ كَمَا هُوَ حَاصِلٌ فِي حَقِّ النَّاسِ فَهُوَ أَيْضًا حَاصِلٌ فِي حَقِّ الْبَهَائِمِ. انْتَهَى بِنَصِّهِ.
وَالْقَارِئُ يَرَى أَنَّ الْوَجْهَ الثَّانِيَ الَّذِي اعْتَمَدَهُ الْقَاضِي مِنْ كِبَارِ مُفَسِّرِي الْمُعْتَزِلَةِ لَيْسَ مَبْنِيًّا عَلَى مَسْأَلَةٍ خَاصَّةٍ بِهِمْ، وَأَمَّا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ الَّذِي اعْتَمَدَهُ الرَّازِيُّ مِنْ كِبَارِ مُفَسِّرِي الْأَشْعَرِيَّةِ وَمُتَكَلِّمِيهِمْ فَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى مَذْهَبِ الْمُعْتَزِلَةِ وَفَرِيقٍ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ دُونَ الْأَشْعَرِيَّةِ فِي رِعَايَةِ مَصْلَحَةِ الْمُكَلَّفِينَ فِي أَحْكَامِ الْبَارِي تَعَالَى وَأَفْعَالِهِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِشُئُونِهِمْ، وَالْإِمَامُ الرَّازِيُّ قَدْ أَثْبَتَ الْمَصْلَحَةَ هُنَا وَفِي مَوَاضِعَ أُخْرَى، وَلَكِنَّهُ كَثِيرًا مَا يَرُدُّهَا أَوْ يَرُدُّ مَا بُنِيَ عَلَيْهَا، وَالَّذِي عَلَيْهِ الْمُحَقِّقُونَ أَنَّ مَسْأَلَةَ الصَّلَاحِ وَالْأَصْلَحِ ثَابِتَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا، وَأَنَّ الْخَطَأَ وَالضَّلَالَ إِنَّمَا هُوَ فِي قَوْلِهِمْ: إِنَّ ذَلِكَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ سبحانه وتعالى، وَلَيْسَ عِنْدَنَا نَقْلٌ صَحِيحٌ صَرِيحٌ عَنِ الْمُعْتَزِلَةِ فِي ذَلِكَ، وَنَقْلُ الْمُخَالِفِ لَا يُعْتَدُّ بِهِ كَمَا قَالَ الْفُقَهَاءُ، وَإِنَّمَا يُقَالُ فِي كُلِّ مَا ثَبَتَ لَهُ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ وَمَا تَتَعَلَّقُ بِهِ مِنَ الْأَفْعَالِ الْمُطَّرِدَةِ أَنَّهَا وَاجِبَةٌ لَهُ عَلَيْهِ ; لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ هُوَ الْأَعْلَى، فَلَا يَعْلُوا عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ شَيْءٍ، وَمَذْهَبُ الْأَشْعَرِيَّةِ أَنَّ مُرَاعَاةَ الْمَصْلَحَةِ لَيْسَ مِنَ الْكَمَالِ الْوَاجِبِ لَهُ تَعَالَى، وَيَحْتَجُّونَ عَلَى ذَلِكَ بِأَمْرَاضِ الْأَطْفَالِ وَالْبَهَائِمِ، وَفِي هَذِهِ الْحُجَّةِ بِحْثٌ لَا مَحَلَّ لَهُ هُنَا، وَقَدْ أَشَارَ الرَّازِيُّ بِقَوْلِهِ:" وَيَتَفَضَّلُ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ " إِلَى أَنَّ مُرَاعَاةَ الْمُصْلِحَةِ تَفَضُّلٌ لَا يَجِبُ اطِّرَادُهُ، فَهُوَ مِمَّا يَجُوزُ فِي حَقِّهِ لَا مِمَّا يَجِبُ فِي حَقِّهِ تَعَالَى.
وَقَالَ أَبُو السُّعُودِ فِي أَوَّلِ تَفْسِيرِ الْآيَةِ: كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ مَسُوقٌ لِبَيَانِ كَمَالِ قُدْرَتِهِ عز وجل وَشُمُولِ عِلْمِهِ وَسَعَةِ تَدْبِيرِهِ لِيَكُونَ كَالدَّلِيلِ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى
تَنْزِيلِ الْآيَةِ، وَإِنَّمَا لَا يُنْزِلُهَا مُحَافَظَةً عَلَى الْحِكَمِ الْبَالِغَةِ. انْتَهَى. وَنَقَلَ الْأَلُوسِيُّ مِثْلَهُ عَنِ الطَّبَرْسِيِّ، وَقَدْ أَخَذَهُ أَبُو السُّعُودِ مِنَ الْبَيْضَاوِيِّ.
(وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ)(الدَّابَّةُ) مَا يَدِبُّ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْحَيَوَانِ، وَالدَّبُّ وَالدَّبِيبُ الْمَشْيُ الْخَفِيفُ - زَادَ بَعْضُهُمْ - مَعَ تَقَارُبِ الْخَطْوِ، وَ (الطَّائِرُ) كُلُّ ذِي جَنَاحٍ يَسْبَحُ فِي الْهَوَاءِ وَجَمْعُهُ طَيْرٌ، كَرَاكِبٍ وَرَكْبٌ وَ (الْأُمَمُ) جَمْعُ أُمَّةٍ، وَهِيَ الْجِيلُ أَوِ الْجِنْسُ مِنَ الْأَحْيَاءِ، وَهَذَا أَحَدُ مَعَانِي اللَّفْظِ. وَقَالَ الرَّاغِبُ: الْأُمَّةُ كُلُّ جَمَاعَةٍ يَجْمَعُهُمْ أَمْرٌ مَا؛ إِمَّا دِينٌ وَاحِدٌ أَوْ زَمَانٌ وَاحِدٌ أَوْ مَكَانٌ وَاحِدٌ
سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ الْأَمْرُ الْجَامِعُ تَسْخِيرًا أَوِ اخْتِيَارًا، وَجَمْعُهَا أُمَمٌ. انْتَهَى. وَذَكَرَ بَعْدَهُ الْآيَةَ وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَزِيدَ: أَوْ صِفَاتٍ وَأَفْعَالٍ وَاحِدَةٍ.
وَالْمَعْنَى أَنَّهُ لَا يُوجَدُ نَوْعٌ مَا مِنْ أَنْوَاعِ الْأَحْيَاءِ الَّتِي تَدِبُّ عَلَى الْأَرْضِ وَلَا مِنْ أَنْوَاعِ الطَّيْرِ الَّتِي تَسْبَحُ فِي الْهَوَاءِ إِلَّا وَهِيَ أُمَمٌ مُمَاثِلَةٌ لَكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ، كَمَا يَقُولُ الْعَالِمُ بِالنَّبَاتِ: مَا مِنْ شَجَرَةٍ قَامَتْ عَلَى سَاقِهَا وَتَشَعَّبَتْ فِي الْهَوَاءِ أَغْصَانُهَا، وَلَا نَجْمٌ نَبَتَ فِي هَذِهِ الْأَرْضِ إِلَّا فَصَائِلُ لَهَا صِفَاتٌ وَخَوَاصُّ مُشْتَرِكَةٌ يَمْتَازُ بِهَا بَعْضُهَا عَنْ بَعْضٍ، فَالدَّابَّةُ وَالطَّائِرُ هُنَا مُفْرِدٌ اللَّفْظَ مُرَادٌ بِهِ الْجِنْسُ اللُّغَوِيُّ ; تَقُولُ: طَائِرُ الْحَمَامِ وَطَائِرُ النَّحْلِ، وَدَابَّةُ الْحَمِيرِ وَدَابَّةُ الْأَرْضِ، كَمَا تَقُولُ: شَجَرَةُ التِّينِ وَشَجَرَةُ الزَّقُّومِ، وَنَاهِيكَ بِوَصْفِ الدَّابَّةِ بِكَوْنِهَا فِي الْأَرْضِ، وَوَصْفِ الطَّائِرِ بِكَوْنِهِ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ فَهُوَ يَشْعُرُ بِذَلِكَ وَإِنْ كَانَ فِي وَصْفِ الطَّائِرِ بِمَا ذَكَرَ تَنْصِيصٌ عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَسَدٌّ لِطَرِيقِ الْمَجَازِ، فَقَدَ تَجَوَّزُوا بِالطَّيَرَانِ عَنِ السُّرْعَةِ، كَمَا قَالَ الْحَمَاسِيُّ:
قَوْمٌ إِذَا الشَّرُّ أَبْدَى نَاجِذَيْهِ لَهُمْ
…
طَارُوا إِلَيْهِ زَرَافَاتٍ وَوِحْدَانَا.
وَلِاحْتِمَالِ التَّجَوُّزِ بِدُونِ الْقَيْدِ الْمَذْكُورِ مُنَاسِبَةٌ قَوِيَّةٌ وَهِيَ عَطْفُ الطَّائِرِ عَلَى الدَّابَّةِ إِذْ هِيَ مِنَ الدَّبِّ الَّذِي هُوَ الْمَشْيُ الْخَفِيفُ كَمَا تَقَدَّمَ، وَيُقَابِلُهُ السَّرِيعُ الَّذِي يُشَبَّهُ بِالطَّيَرَانِ، وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ لِوَصْفِ الطَّائِرِ بِمَا ذَكَرَ نُكْتَةً أُخْرَى وَهِيَ تَصْوِيرُ هَيْئَةِ الطَّيَرَانِ الْغَرِيبَةِ الدَّالَّةِ عَلَى قُدْرَةِ الْبَارِي وَحَكْمَتِهِ لِذِهْنِ السَّامِعِ وَالْقَارِئِ، وَهُوَ حَسَنٌ لَا يُنَافِي مَا تَقَدَّمَ، وَلَا تَزَاحُمَ بَيْنَ النُّكَتِ الْمُتَّفِقَةِ، وَلَا بَيْنَ الْحِكَمِ الْمُؤْتَلِفَةِ، وَيَرَى الْكَثِيرُونَ أَنَّهُ لَا مَانِعَ مِنْ جَعْلِ كَلِمَتَيْ دَابَّةٍ وَطَائِرٍ عَلَى أَصْلِ مَعْنَاهُمَا وَهُوَ
الدَّلَالَةُ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ عَلَى اسْتِغْرَاقِ الْأَفْرَادِ، وَإِنَّمَا أَخْبَرَ عَنْهَا بِالْأُمَمِ بِاعْتِبَارِ الْحَمْلِ عَلَى مَعْنَى الْجَمْعِيَّةِ الْمُسْتَفَادِ مِنَ الْعُمُومِ.
وَأَمَّا السَّمَكُ فَهُوَ أَقْرَبُ إِلَى الطَّيْرِ مِنْهُ إِلَى الدَّوَابِّ، وَلَهُ أَجْنِحَةٌ قَدْ تُسَمَّى الزَّعَانِفُ أَكْثَرُهَا صَغِيرٌ، وَمِنْهَا مَا هُوَ كَبِيرٌ كَجَنَاحِ الْخُفَّاشِ، وَهُوَ يَطِيرُ فِي الْمَاءِ غَالِبًا وَعَلَى سَطْحِهِ أَحْيَانًا، وَقَدْ يُسِفُّ إِلَى قَاعِهِ فَيُلَاصِقُ أَرْضَهُ فِي سَيْرِهِ فَيَكُونُ أَشْبَهَ بِالزَّاحِفِ مِنْهُ بِالطَّائِرِ، وَلَعَلَّ حِكْمَةَ تَرْكِ التَّصْرِيحِ بِهِ قِلَّةُ مَنْ كَانَ يَرَاهُ مِمَّنْ نَزَلَتِ السُّورَةُ فِي مُخَاطَبَتِهِمْ قَبْلَ كُلِّ أَحَدٍ بِالدَّعْوَةِ إِلَى الْإِسْلَامِ وَإِقَامَةِ الدَّلَائِلِ عَلَيْهِمْ وَهُمْ مُشْرِكُو مَكَّةَ، وَلِمِثْلِ هَذَا الْمَعْنَى خَصَّ دَوَابَّ الْأَرْضِ بِالذِّكْرِ؛ لِأَنَّهَا هِيَ الَّتِي يَرَاهَا الْمُخَاطَبُونَ عَامَّةً، وَيُدْرِكُونَ فِيهَا مَعْنَى الْمُمَاثَلَةِ دُونَ دَوَابِّ الْأَجْرَامِ السَّمَاوِيَّةِ، الْقَابِلَةِ لِلْحَيَاةِ الْحَيَوَانِيَّةِ، الَّتِي أَعْلَمَنَا بِوُجُودِهَا فِي قَوْلِهِ (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ) (42: 29) فَهِيَ قَدْ ذُكِرَتْ هُنَا بِالتَّبَعِ لِذِكْرِ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، فَكَانَ الْإِعْلَامُ بِهَا نَافِلَةً وَفَائِدَةً زَائِدَةً عَلَى مَا يَقُومُ بِهِ دَلِيلُ الْآيَةِ، وَهِيَ مِنْ أَخْبَارِ عَالَمِ الْغَيْبِ وَرَدَتْ بِعِبَارَةٍ
تُشْعِرُ بِمَا يَدُلُّ عَلَيْهَا مِنَ الْقِيَاسِ عَلَى عَالَمِ الشَّهَادَةِ، وَإِنَّمَا تَظْهَرُ صِحَّةُ هَذَا الْقِيَاسِ حَتَّى لِغَيْرِ الْمُؤْمِنِ بِالْقُرْآنِ بَعْدَ الْبَحْثِ وَسِعَةِ الْعِلْمِ بِالْهَيْئَةِ الْفَلَكِيَّةِ، وَقَدْ عَلِمَ أَهْلُ هَذَا الْعِلْمِ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ أَنَّ بَعْضَ هَذِهِ الْكَوَاكِبِ (كَالْمَرِّيخِ) فِيهِ مَاءٌ وَنَبَاتٌ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ فِيهِ أَنْوَاعٌ مِنَ الْحَيَوَانِ، بَلْ فِيهِ أَمَارَاتٌ عَلَى وُجُودِ عَالَمٍ اجْتِمَاعِيٍّ صِنَاعِيٍّ كَالْإِنْسَانِ، مِنْهَا مَا يَرَى عَلَى سَطْحِهِ بِالْمِرْآةِ الْمُقَرِّبَةِ (الْمَرْقَبُ - التِّلِسْكُوبُ) مِنَ الْجَدَاوِلِ الْمُنَظَّمَةِ وَالْخُلْجَانِ، فَالْآيَةُ الَّتِي نُفَسِّرُهَا تُرْشِدُنَا بِهَذَا وَبِوَصْفِ أَنْوَاعِ الْحَيَوَانِ بِأَنَّهَا أُمَمٌ أَمْثَالُنَا إِلَى الْبَحْثِ فِي طَبَائِعِ الْأَحْيَاءِ لِنَزْدَادَ عِلْمًا بِسُنَنِ اللهِ تَعَالَى وَأَسْرَارِهِ فِي خَلْقِهِ، وَنَزْدَادَ بِآيَاتِهِ فِيهَا إِيمَانًا وَحِكْمَةً وَحَضَارَةً وَكَمَالًا، وَنَعْتَبِرَ بِحَالِ الْمُكَذِّبِينَ بِهَا الَّذِينَ لَمَّ يَسْتَفِيدُوا مِمَّا فَضَّلَهُمُ اللهُ بِهِ عَلَى الْحَيَوَانِ شَيْئًا فَكَانُوا أَضَلَّ مِنْ جَمِيعِ أَنْوَاعِهِ الَّتِي لَا تَجْنِي عَلَى نَفْسِهَا مَا يَجْنِيهِ الْكَافِرُ عَلَى نَفْسِهِ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي وَجْهِ الْمُمَاثَلَةِ بَيْنَ الدَّوَابِّ وَالطَّيْرِ وَبَيْنَ الْإِنْسَانِ، فَفِي الدُّرِّ الْمَنْثُورِ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:(إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ) قَالَ: أَصْنَافًا مُصَنَّفَةً تُعْرَفُ بِأَسْمَائِهَا، وَعَنْ قَتَادَةَ: الطَّيْرُ أُمَّةٌ وَالْإِنْسُ أُمَّةٌ وَالْجِنُّ أُمَّةٌ، وَعَنِ السُّدِّيِّ: خَلْقٌ
أَمْثَالَكُمْ، فَالْأَوَّلَانِ عَلَى أَنَّ الْمُمَاثَلَةَ بِالصِّفَاتِ الْمُشْتَرِكَةِ الَّتِي يَتَمَيَّزُ بِهَا بَعْضُ الْأَنْوَاعِ وَالْأَصْنَافِ عَنْ بَعْضٍ، وَهِيَ الَّتِي نُسَمِّيهَا الْمُقَوِّمَاتِ وَالْمُشَخِّصَاتِ، وَالثَّالِثُ: عَلَى أَنَّ الْمُمَاثَلَةَ فِي أَصْلِ الْخَلْقِ، أَيْ كَوْنِهَا مَخْلُوقَةً مِثْلَنَا، وَيَتَّبِعُ ذَلِكَ مَا يُلَازِمُهُ مِنْ حِكْمَةِ اللهِ وَتَدْبِيرِهِ فِينَا وَفِيهَا، وَنَقَلَ الْوَاحِدِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُمَاثَلَةِ أَنَّهَا تَعْرِفُ اللهَ وَتُوَحِّدُهُ وَتُسَبِّحُهُ وَتَحْمَدُهُ كَمَا يَفْعَلُ الْمُؤْمِنُونَ مِنَّا، وَتَوَسَّعَ بَعْضُ الصُّوفِيَّةِ فِي هَذَا وَمَا قَبْلَهُ، فَقَالُوا: إِنَّهَا عَاقِلَةٌ وَمُكَلَّفَةٌ، وَأَنَّ لَهَا رُسُلًا مِنْهَا، وَقِيلَ: إِنَّ الْمُمَاثَلَةَ إِحْصَاءُ الْكِتَابِ لِجَمِيعِ الْأَحْوَالِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِحَيَاتِهَا وَمَوْتِهَا كَالْبَشَرِ، وَقِيلَ: إِنَّهَا بِحَشْرِ اللهِ تَعَالَى إِيَّاهَا كَمَا يَحْشُرُنَا، وَحِسَابِهِ لَهَا كَمَا يُحَاسِبُنَا، وَاخْتَارَ الرَّازِيُّ أَنَّهَا بِعِنَايَةِ اللهِ تَعَالَى وَرَحِمَتِهِ بِهَا وَفَضْلِهِ عَلَيْهَا، كَمَا تَقَدَّمَ فِي وَجْهِ النَّظَرِ وَمُنَاسَبَةِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا. وَنُقِلَ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ أَنَّهُ لَمَّا قَرَأَ الْآيَةَ قَالَ: مَا فِي الْأَرْضِ آدَمِيٌّ إِلَّا وَفِيهِ شِبْهٌ مِنْ بَعْضِ الْبَهَائِمِ فَمِنْهُمْ مَنْ يُقْدِمُ إِقْدَامَ الْأَسَدِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْدُو عَدْوَ الذِّئْبِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْبَحُ نُبَاحَ الْكَلْبِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَتَطَوَّسُ (أَيْ يَتَزَيَّنَ) كَفِعْلِ الطَّاوُوسِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُشْبِهُ الْخِنْزِيرَ؛ فَإِنَّهُ لَوْ أُلْقِيَ إِلَيْهِ الطَّعَامُ الطَّيِّبُ تَرَكَهُ، وَإِذَا قَامَ الرَّجُلُ عَنْ رَجِيعِهِ وَلَغَ فِيهِ، فَكَذَلِكَ نَجِدُ مِنَ الْآدَمِيِّينَ مَنْ لَوْ سَمِعَ خَمْسِينَ حِكْمَةً لَمْ يَحْفَظْ وَاحِدَةً مِنْهَا، فَإِنْ أَخْطَأْتَ مَرَّةً وَاحِدَةً حَفِظَهَا وَلَمْ يَجْلِسْ مَجْلِسًا إِلَّا رَوَاهُ عَنْكَ - ثُمَّ قَالَ - فَاعْلَمْ يَا أَخِي أَنَّكَ إِنَّمَا تُعَاشِرُ الْبَهَائِمَ وَالسِّبَاعَ، فَبَالِغْ فِي الْحِذَارِ وَالِاحْتِرَازِ. انْتَهَى. وَهَذَا الْقَوْلُ - إِذَا صَحَّ دُخُولُهُ فِي ضِمْنِ الصِّفَاتِ الْحَيَوَانِيَّةِ الْمُشْتَرِكَةِ بَيْنَ الْإِنْسَانِ وَالْحَيَوَانِ - لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ، وَإِنْ جُعِلَ الْخِطَابُ بِهَا لِلْمُشْرِكِينَ خَاصَّةً ; لِأَنَّ السِّيَاقَ هُنَا لَيْسَ لِتُحَذِّرَهُمْ شَرَّ النَّاسِ بَلْ لِبَيَانِ
عَدَمِ اسْتِعْمَالِ عُقُولِهِمْ وَحَوَاسِّهِمْ فِي آيَاتِ اللهِ كَقَوْلِهِ: (أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ)(7: 179) وَقَوْلُهُ: (أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا)(25: 44) .
وَالْمُخْتَارُ عِنْدَنَا أَنَّ اللهَ تَعَالَى أَرْشَدَنَا إِلَى أَنَّ أَنْوَاعَ الْحَيَوَانِ أُمَمٌ أَمْثَالُ النَّاسِ، وَلَمْ يُبَيِّنْ لَنَا وَجْهَ الْمُمَاثَلَةِ بَيْنَهُمَا؛ لِأَجْلِ أَنْ نَسْتَعْمِلَ حَوَاسَّنَا وَعُقُولَنَا فِي الْبَحْثِ الْمُوَصِّلِ إِلَى ذَلِكَ كَمَا قُلْنَا آنِفًا، وَلِلْمَاثَلَةِ وُجُوهٌ كَثِيرَةٌ اهْتَدَى بَعْضُ الْعُلَمَاءِ إِلَى بَعْضِهَا، وَيَجُوزُ أَنْ يَهْتَدِيَ غَيْرُهُمْ إِلَى غَيْرِ مَا اهْتَدَوْا إِلَيْهِ، وَلَا سِيَّمَا فِي هَذَا الْعَصْرِ الَّذِي كَثُرَ فِيهِ الْأَخِصَّائِيُّونَ فِي
كُلِّ عِلْمٍ وَفَنٍّ وَتَيَسَّرَتْ فِيهِ أَسْبَابُ الْبَحْثِ، إِذْ يُوجَدُ فِي بِلَادِ الْعِلْمِ وَالْحَضَارَةِ بَسَاتِينُ لِتَرْبِيَةِ أَنْوَاعِ السِّبَاعِ وَالْحَشَرَاتِ وَالْبَهَائِمِ الْوَحْشِيَّةِ وَالْآنِسَةِ وَالطَّيْرِ وَالسَّمَكِ، فَالْعُلَمَاءُ الَّذِينَ يُعْنُونَ بِتَرْبِيَتِهَا وَدَرْسِ غَرَائِزِهَا وَطِبَاعِهَا وَأَعْمَالِهَا فِي تِلْكَ الْبَسَاتِينِ وَفِي غَيْرِهَا قَدْ وَصَلُوا إِلَى عِلْمٍ جَمٍّ، وَوَقَفُوا عَلَى أَسْرَارٍ غَرِيبَةٍ، وَمِمَّا ثَبَتَ مِنْ مُشَابَهَةِ النَّمْلِ لِلنَّاسِ أَنَّهُ يَغْزُو بَعْضُهُ بَعْضًا، وَأَنَّ الْمُنْتَصِرَ يَسْتَرِقُّ الْمُنْكَسِرَ، وَيُسَخِّرُهُ فِي حَمْلِ قُوتِهِ وَبِنَاءِ قُرَاهُ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَقَدْ صَارَتْ أُمَمُ الْعِلْمِ وَالْحَضَارَةِ تَحْرِصُ عَلَى بَقَاءِ كُلِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْحَيَوَانِ، فَإِذَا رَأَتْ بَعْضَ مَا يُصَادُ مِنَ الطَّيْرِ وَغَيْرِهَا قَلَّ فِي بِلَادِهَا وَخُشِيَ انْقِرَاضُهُ مِنْهَا تُحَرِّمُ عَلَى النَّاسِ صَيْدَهُ، وَلِهَذَا الْعَمَلِ أَصْلٌ فِي السُّنَّةِ عِنْدَنَا، فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ أَحَبَّ أَنْ تُقْتَلَ الْكِلَابُ فِي الْمَدِينَةِ لِمِثْلِ السَّبَبِ الَّذِي تَقْتُلُ بِهِ حُكُومَةُ مِصْرَ وَغَيْرُهَا الْكِلَابَ الضَّالَّةَ، بَلْ كَانَ أَمَرَ بِذَلِكَ ثُمَّ نَهَى عَنْهُ وَقَالَ:" لَوْلَا أَنَّ الْكِلَابَ أُمَّةٌ مِنَ الْأُمَمِ لَأَمَرْتُ بِقَتْلِهَا كُلِّهَا، فَاقْتُلُوا مِنْهَا الْأَسْوَدَ الْبَهِيمَ " رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مُغَفَّلٍ، وَعَلَّلَ قَتْلَ الْكَلْبِ الْأَسْوَدِ الْبَهِيمِ فِي حَدِيثٍ آخَرَ عِنْدَ أَحْمَدَ وَمُسْلِمَ بِأَنَّهُ شَيْطَانٌ، أَيْ ضَارٌّ مُؤْذٍ، فَإِنَّ اسْمَ الشَّيْطَانِ يُطْلَقُ لُغَةً عَلَى الْعَارِمِ الْخَبِيثِ مِنَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ وَالْحَيَوَانِ، وَقَدْ سَأَلَ الْمَنْصُورُ الْعَبَّاسِيُّ عَمْرَو بْنَ عُبَيْدٍ عَنْ سَبَبِ هَذَا الْحَدِيثِ فَلَمْ يَعْرِفْ، فَقَالَ الْمَنْصُورُ: لِأَنَّهُ يَنْبَحُ الضَّيْفَ، وَيُرَوِّعُ السَّائِلَ.
(مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ) التَّفْرِيطُ فِي الْأَمْرِ التَّقْصِيرُ فِيهِ وَتَضْيِيعِهِ حَتَّى يَفُوتَ - كَمَا فِي الصِّحَاحِ - وَيُقَالُ: فَرَطَهُ وَفَرَّطَ فِيهِ كَمَا فِي الْقَامُوسِ وَلِسَانِ الْعَرَبِ، وَمِنْهُ قَوْلُ صَخْرِ الْغَيِّ:
وَذَلِكَ بَزِّي فَلَنْ أَفْرُطَهُ الْبَزُّ هُنَا السِّلَاحُ
، وَيُقَالُ: فَرَطَ فُلَانًا - إِذَا تَرَكَهُ وَتَقَدَّمَهُ، رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ تَفْسِيرُ الْكِتَابِ هُنَا بِأُمِّ الْكِتَابِ، وَفَسَّرُوا أُمَّ الْكِتَابِ بِأَنَّهُ أَصْلُهُ وَجُمْلَتُهُ، وَقَالُوا: إِنَّهُ اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ، وَهُوَ خَلْقٌ مِنْ عَالَمِ الْغَيْبِ أَثْبَتَ اللهُ تَعَالَى فِيهِ مَقَادِيرَ الْخَلْقِ مَا كَانَ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ بِحَسَبِ النِّظَامِ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ بِالسُّنَنِ الْإِلَهِيَّةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُفَسِّرُ الْكِتَابَ هُنَا - وَكَذَا أُمُّ الْكِتَابِ فِي آيَتِيِ الرَّعْدِ وَالزُّخْرُفِ - بِالْعِلْمِ الْإِلَهِيِّ الْمُحِيطِ بِكُلِّ شَيْءٍ، شُبِّهَ بِالْكِتَابِ
بِكَوْنِهِ ثَابِتًا لَا يُسْنَى، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْكِتَابِ هُنَا الْقُرْآنُ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الْقُرْآنُ أُمَّ الْكِتَابِ؛ لِأَنَّ أُمَّ الْكِتَابِ شَامِلٌ لَهُ وَلِغَيْرِهِ مِنْ كُتُبِ اللهِ تَعَالَى وَمِنْ مَقَادِيرِ خَلْقِهِ.
قَالَ تَعَالَى بَعْدَ ذِكْرِ الْقُرْآنِ فِي أَوَّلِ الزُّخْرُفِ: (وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ)(43: 4) .
وَمَعْنَى الْجُمْلَةِ: مَا تَرَكْنَا فِي الْكِتَابِ شَيْئًا لَمْ نُثْبِتْهُ فِيهِ تَقْصِيرًا وَإِهْمَالًا، بَلْ أَحْصَيْنَا فِيهِ كُلَّ شَيْءٍ أَوْ جَعَلْنَاهُ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ، فَإِذَا أُرِيدَ بِالْكِتَابِ الْعِلْمُ الْإِلَهِيُّ أَوِ اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ فَالِاسْتِغْرَاقُ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَإِذَا أُرِيدَ بِهِ الْقُرْآنُ فَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ:(مِنْ شَيْءٍ) - الدَّالِّ عَلَى الْعُمُومِ - الشَّيْءُ الَّذِي هُوَ مِنْ مَوْضُوعِ الدِّينِ الَّذِي يُرْسِلُ بِهِ الرُّسُلَ وَيُنْزِلُ بِهِ الْكُتُبَ وَهُوَ الْهِدَايَةُ ; لِأَنَّ الْعُمُومَ فِي كُلِّ شَيْءٍ بِحَسْبِهِ، أَيْ مَا تَرَكْنَا فِي الْكِتَابِ شَيْئًا، مَا مِنْ ضُرُوبِ الْهِدَايَةِ الَّتِي تُرْسَلُ الرُّسُلُ لِأَجْلِهَا إِلَّا وَقَدْ بَيَّنَاهُ فِيهِ، وَهِيَ أُصُولُ الدِّينِ وَقَوَاعِدُهُ وَأَحْكَامُهُ وَحُكْمُهَا، وَالْإِرْشَادُ إِلَى اسْتِعْمَالِ الْقُوَى الْبَدَنِيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ فِي الِاسْتِفَادَةِ مِنْ تَسْخِيرِ اللهِ كُلَّ شَيْءٍ لِلْإِنْسَانِ، وَمُرَاعَاةُ سُنَنِهِ تَعَالَى فِي خَلْقِهِ الَّتِي يَتِمُّ بِهَا الْكَمَالُ الْمَدَنِيُّ وَالْعَقْلِيُّ، فَالْقُرْآنُ قَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ كُلَّهُ بِالنَّصِّ أَوِ الْفَحْوَى، وَمِنْهُ مَا أَرْشَدَ إِلَيْهِ هُنَا فِي عِلْمِ الْحَيَوَانِ الَّذِي يَهْدِي إِلَى كَمَالِ الْمَعْرِفَةِ وَالْإِيمَانِ، وَقَدْ بَيَّنَا وَجْهَ اشْتِمَالِ الْكِتَابِ عَلَى جَمِيعِ أَمْرِ الدِّينِ فِي تَفْسِيرِ (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ) (5: 101) مِنْ هَذَا الْجُزْءِ، وَتَفْسِيرِ (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) (5: 3) مِنْ تَفْسِيرِ الْجُزْءِ السَّادِسِ، وَتَفْسِيرِ (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) (4: 59) مِنْ تَفْسِيرِ الْجُزْءِ الْخَامِسِ فَلْيَرْجِعْ إِلَيْهَا مَنْ شَاءَ.
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْقُرْآنَ قَدْ حَوَى عُلُومَ الْأَكْوَانِ كُلَّهَا، وَأَنَّ الشَّيْخَ مُحْيِي الدِّينِ بْنِ الْعَرَبِيِّ وَقَعَ عَنْ حِمَارِهِ فَرَضَّتْ رِجْلُهُ فَلَمْ يَأْذَنْ لِلنَّاسِ بِحَمْلِهِ إِلَّا بَعْدَ أَنِ اسْتَخْرَجَ حَادِثَةَ وُقُوعِهِ وَرَضِّ رِجْلِهِ مِنْ " سُورَةِ الْفَاتِحَةِ "، وَهَذَا الْقَوْلُ لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَلَا عُلَمَاءُ التَّابِعِينَ، وَلَا غَيْرَهُمْ مِنْ عُلَمَاءِ السَّلَفِ الصَّالِحِينَ، وَلَا يَقْبَلُهُ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ إِلَّا مَنْ يَرَوْنَ أَنَّ كُلَّ مَا كَتَبَهُ الْمَيِّتُونَ فِي كُتُبِهِمْ حُقٌّ وَإِنْ كَانَ لَا يَقْبَلُهُ عَقْلٌ، وَلَا يَهْدِي إِلَيْهِ نَقْلٌ، وَلَا تَدُلُّ عَلَيْهِ اللُّغَةُ، بَلْ قَالَ أَئِمَّةُ السَّلَفِ: إِنَّ الْقُرْآنَ لَا يَشْتَمِلُ عَلَى جَمِيعِ فُرُوعِ أَحْكَامِ الْعِبَادَاتِ الضَّرُورِيَّةِ بِدَلَالَةِ النَّصِّ وَلَا الْفَحْوَى، وَإِنَّمَا أَثْبَتَ وُجُوبَ اتِّبَاعِ الرَّسُولِ فَصَارَ دَالًّا عَلَى كُلِّ مَا ثَبَتَ فِي السُّنَّةِ، وَأَثْبَتَ قَوَاعِدَ الْقِيَاسِ الصَّحِيحِ وَقَوَاعِدَ أُخْرَى، فَصَارَ مُشْتَمِلًا عَلَى جَمِيعِ فُرُوعِهَا وَجُزْئِيَّاتِهَا، وَلَا يَخْرُجُ شَيْءٌ مِنَ الدِّينِ عَنْهَا، وَأَنَّ قَبُولَ النَّاسِ لِلْخُرَافَةِ الْمَرْوِيَّةِ عَنِ ابْنِ الْعَرَبِيِّ هِيَ الَّتِي جَرَّأَتْ مِثْلَ مَسِيحِ الْهِنْدِ أَحْمَدَ الْقَادِيَانِيِّ عَلَى
ذَلِكَ التَّفْسِيرِ الَّذِي فَسَّرَ بِهِ الْفَاتِحَةَ وَزَعَمَ أَنَّهُ مُعْجِزَتُهُ الدَّالَّةُ عَلَى كَوْنِهِ هُوَ الْمَسِيحَ الْمُنْتَظَرَ، وَكُلُّهُ لَغْوٌ وَهَذَيَانٌ، وَمِنْ أَغْرَبِهِ زَعْمُهُ أَنَّ اسْمَ الرَّحْمَنِ فِي الْفَاتِحَةِ دَلِيلٌ عَلَى بَعْثَةِ خَاتَمِ الرُّسُلِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَاسْمُ الرَّحِيمِ دَلِيلٌ عَلَى بِعْثَتِهِ هُوَ
(ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ) أَيْ ثُمَّ يُبْعَثُ أُولَئِكَ الْأُمَمُ مِنَ النَّاسِ وَالْحَيَوَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيُسَاقُونَ مُجْتَمِعِينَ إِلَى رَبِّهِمُ الْمَالِكِ لِأَمْرِهِمْ لَا إِلَى غَيْرِهِ، فَيُحَاسِبُ كُلًّا عَلَى مَا فَعَلَ، وَيَقْتَصُّ لِلْمَظْلُومِ مِمَّنْ ظَلَمَ، وَإِنَّمَا حَسُنَ عَوْدُ ضَمِيرَيِ الْغَيْبَةِ فِي رَبِّهِمْ وَفِي يُحْشَرُونَ إِلَى الدَّوَابِّ وَالطَّيْرِ وَالنَّاسِ جَمِيعًا ; لِأَنَّهُ خَبَرٌ مِنَ اللهِ تَعَالَى عُطِفَ عَلَى خِطَابِ النَّاسِ وَغَلَبَ فِيهِ ضَمِيرُ الْأَشْرَفِ، وَإِذَا جُعِلَ مِنْ جُمْلَةِ الْخِطَابِ تَعَيَّنَ رُجُوعُ الضَّمِيرَيْنِ إِلَى الدَّوَابِّ وَالطَّيْرِ، وَنُكْتَةُ جَعْلِهِمَا مِنْ ضَمَائِرِ الْعُقَلَاءِ حِينَئِذٍ تَشْبِيهُ أُمَمِهَمَا بِأُمَمِ الْبَشَرِ، وَذَلِكَ إِجْرَاءٌ لَهُمَا مَجْرَى الْعُقَلَاءِ وَيُؤَيِّدُ حَشْرَ تِلْكَ الْأُمَمِ كُلِّهَا قَوْلُهُ تَعَالَى:(وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ)(81: 5) وَحَدِيثُ أَبِي ذَرٍّ عِنْدَ أَحْمَدَ وَعَبْدِ الرَّزَّاقِ وَابْنِ جَرِيرٍ " أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم رَأَى عَنَزَيْنِ يَنْتَطِحَانِ، فَقَالَ: يَا أَبَا ذَرٍّ، هَلْ تَدْرِي فِيمَ يَنْتَطِحَانِ؟ قَالَ: لَا. قَالَ: لَكِنَّ اللهَ يَدْرِي وَسَيَقْضِي بَيْنَهُمَا " وَفِي رِوَايَةٍ " أَتَدْرُونَ فِيمَ انْتَطَحَا؟ قُلْنَا: لَا " وَزَادَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ جَرِيرٍ عَنْ أَبِي ذَرٍّ: وَلَقَدْ تَرَكَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَمَا يَقْلِّبُ طَائِرٌ جَنَاحَيْهِ إِلَّا ذَكَرَ لَنَا مِنْهُ عِلْمًا، وَالْحَدِيثُ مَرْوِيٌّ مِنْ طَرِيقِ مُنْذِرٍ الثَّوْرِيِّ وَهُوَ ثِقَةٌ، وَلَكِنْ رَوَاهُ أَحْمَدُ عَنْ شُيُوخٍ لَمْ يَسْمَعُوا، وَفِيهِ حُجَّةٌ عَلَى كَوْنِ عِلْمِ الْحَيَوَانِ مِنْ عِلْمِ الْهِدَايَةِ الْمَشْرُوعَةِ فِي الْإِسْلَامِ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ فَائِدَتِهِ آنِفًا.
وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ وَالْخَطِيبُ فِي تَالِي التَّلْخِيصِ وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ أَبِي زِيَادَةَ الْبَكْرِيِّ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى ابْنَيْ بِشْرٍ الْمَازِنِيَّيْنِ صَاحِبَيْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقُلْتُ: يَرْحَمُكُمَا اللهُ، الرَّجُلُ مِنَّا يَرْكَبُ الدَّابَّةَ فَيَضْرِبُهَا بِالسَّوْطِ أَوْ يَكْبَحُهَا بِاللِّجَامِ، فَهَلْ سَمِعْتُمَا مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي ذَلِكَ شَيْئًا؟ فَقَالَا: لَا، قَالَ عُبَيْدُ اللهِ: فَنَادَتْنِي امْرَأَةٌ مِنَ الدَّاخِلِ، فَقُلْتُ لَهُ: يَا هَذَا، إِنَّ اللهَ يَقُولُ فِي كِتَابِهِ (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ. . .) الْآيَةَ. فَقَالَا هَذِهِ أُخْتُنَا، وَهِيَ أَكْبَرُ مِنَّا، وَقَدْ أَدْرَكَتْ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم. فَهَذِهِ الصَّحَابِيَّةُ اسْتَدَلَّتْ بِالْآيَةِ عَلَى وُجُوبِ الرِّفْقِ وَالرَّحْمَةِ بِالدَّوَابِّ وَغَيْرِهَا مِنَ الْحَيَوَانِ، وَأَنَّهُ تَعَالَى يُحَاسِبُ النَّاسَ عَلَى ظُلْمِهِمْ لَهَا يَوْمَ يَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا.
وَيُؤَيِّدُهُ مَا وَرَدَ فِي ذَلِكَ مِنَ الْأَحَادِيثِ كَحَدِيثِ " مَا مِنْ إِنْسَانٍ يَقْتُلُ عُصْفُورًا فَمَا فَوْقَهَا بِغَيْرِ حَقِّهَا إِلَّا سَأَلَهُ اللهُ عز وجل عَنْهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ " وَذَكَرَ أَنَّ حَقَّهَا أَكْلُهَا، رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَفِي مَعْنَاهُ حَدِيثٌ آخَرُ عِنْدَ النَّسَائِيِّ وَابْنِ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ، وَحَدِيثُ " إِنَّ اللهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ، وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذِّبْحَةَ، وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ، وَلْيُرِحْ ذَبِيحَتُهُ " رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةُ مِنْ حَدِيثِ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ مَرْفُوعًا، وَأَخْرَجَ رُوَاةُ التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ " إِنَّ اللهَ يَحْشُرُ هَذِهِ الْأُمَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَقْتَصُّ لِبَعْضِهَا مِنْ بَعْضٍ حَتَّى يَقْتَصَّ لِلْجَلْحَاءِ
مِنْ ذَاتِ الْقَرْنِ " وَفِي رِوَايَةٍ " لِلْجَمَّاءِ مِنَ الْقَرْنَاءِ " وَغَلِطَ الْأَلُوسِيُّ فَعَزَاهُ إِلَى حَدِيثِ الصَّحِيحَيْنِ وَلَكِنْ رَوَى مُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْهُ مَرْفُوعًا " لَتُؤَدَّنَّ الْحُقُوقُ إِلَى أَهْلِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُقَادَ لِلشَّاةِ الْجَلْحَاءِ مِنَ الشَّاةِ الْقَرْنَاءِ ". وَنُقِلَ عَنِ الْمُعْتَزِلَةِ أَنَّ الْعَقْلَ يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ إِعَادَةِ الْحَيَوَانِ كَالْإِنْسَانِ لِلتَّعْوِيضِ عَلَى كُلٍّ، لَا لِمَحْضِ الْعِقَابِ عَلَى الْجِنَايَةِ، فَكُلُّ حَيٍّ أَصَابَهُ أَلَمٌ يَجِبُ أَنْ يَنَالَ عِوَضًا عَنْهُ، فَإِذَا كَانَ الْأَلَمُ بِفِعْلِ اللهِ أَوْ بِشَرْعِهِ كَالَّذِي يُذْبَحُ لِيُؤْكَلَ أَوْ يُقْتَلُ اتِّقَاءَ ضَرَرِهِ فَاللهُ يُعَوِّضُهُ عَنْ ذَلِكَ.
وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: (ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ) قَالَ: مَوْتُ الْبَهَائِمِ حَشْرُهَا. وَفِي لَفْظٍ قَالَ: يَعْنِي بِالْحَشْرِ الْمَوْتَ. قَالَ السَّيِّدُ الْأَلُوسِيُّ: وَمُرَادُهُ - رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ - عَلَى مَا قِيلَ إِنَّ قَوْلَهُ سُبْحَانَهُ: (ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ) : مَجْمُوعُهُ مُسْتَعَارٌ عَلَى سَبِيلِ التَّمْثِيلِ لِلْمَوْتِ، كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ " مَنْ مَاتَ فَقَدْ قَامَتْ قِيَامَتُهُ " فَلَا يَرِدُ عَلَيْهِ أَنَّ الْحَشْرَ بَعْثٌ مِنْ مَكَانٍ إِلَى آخَرَ، وَتَعْدِيَتُهُ بِإِلَى تَنْصِيصٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ الْمَوْتَ مَعَ أَنَّ الْمَوْتَ أَيْضًا نَقْلٌ مِنَ الدُّنْيَا إِلَى الْآخِرَةِ. انْتَهَى. وَصَوَّبَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّ الْمُرَادَ الْحَشْرَانِ جَمِيعًا حَشْرُ الْمَوْتِ وَحَشْرُ الْبَعْثِ، وَعَلَّلَهُ بِأَنَّ الْحَشْرَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ: الْجَمْعُ، وَهُوَ يَشْمَلُهَا، وَلَا مَرْجِعَ لِأَحَدِهِمَا مِنْ كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ، هَذَا مُحَصَّلُ قَوْلِهِ، وَالصَّوَابُ أَنَّ الْحَشْرَ جَمْعٌ وَبَعْثٌ، أَوْ كَمَا قَالَ
الرَّاغِبُ: إِخْرَاجُ الْجَمَاعَةِ عَنْ مَقَرِّهِمْ وَإِزْعَاجِهُمْ إِلَى الْحَرْبِ وَنَحْوِهَا، فَفِيهِ مَعْنَى الْجَمْعِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُطْلَقُ عَلَى الْوَاحِدِ. وَمَعْنَى الْحَشْرِ بِالْمَوْتِ: سَوْقُ الْأَحْيَاءِ إِلَيْهِ حَتَّى يَكُونَ هُوَ غَايَتَهُمْ.
وَأَحْسَنُ مَا قَالَهُ ابْنُ جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ بَيَانُ وَجْهِ الْعِبْرَةِ وَالْمَوْعِظَةِ فِيهَا، قَالَ: يَقُولُ اللهُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم قُلْ لِهَؤُلَاءِ الْمُعْرِضِينَ عَنْكَ الْمُكَذِّبِينَ بِآيَاتِ اللهِ: أَيُّهَا الْقَوْمُ، لَا تَحْسَبُنَّ اللهَ غَافِلًا عَمَّا تَعْمَلُونَ، أَوْ أَنَّهُ غَيْرُ مُجَازِيكُمْ عَلَى مَا تَكْسِبُونَ، وَكَيْفَ يَغْفُلُ عَنْ أَعْمَالِكُمْ، أَوْ يَتْرُكُ مُجَازَاتَكُمْ، وَهُوَ غَيْرُ غَافِلٍ عَنْ عَمَلِ شَيْءٍ دَبَّ عَلَى الْأَرْضِ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا، وَلَا عَمَلَ طَائِرٍ طَارَ بِجَنَاحَيْهِ فِي الْهَوَاءِ، بَلْ جَعَلَ ذَلِكَ كُلَّهُ أَجْنَاسًا مُجَنَّسَةً، وَأَصْنَافًا مُصَنِّفَةً، تَعْرِفُ كَمَا تَعْرِفُونَ، وَتَتَصَرَّفُ فِيمَا سُخِّرَتْ لَهُ كَمَا تَتَصَرَّفُونَ، وَمَحْفُوظٌ عَلَيْهَا مَا عَمِلَتْ مِنْ عَمَلٍ لَهَا وَعَلَيْهَا، وَمُثْبَتٌ كُلُّ ذَلِكَ مِنْ أَعْمَالِهَا فِي أُمِّ الْكِتَابِ، ثُمَّ إِنَّهُ - تَعَالَى ذِكْرُهُ - مُمِيتُهَا، ثُمَّ مُنْشِرُهَا وَمُجَازِيهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ جَزَاءَ أَعْمَالِهَا. يَقُولُ: فَالرَّبُّ الَّذِي لَمْ يُضَيِّعْ حِفْظَ الْبَهَائِمِ وَالدَّوَابِّ فِي الْأَرْضِ، وَالطَّيْرِ فِي الْهَوَاءِ حَتَّى حَفِظَ عَلَيْهَا حَرَكَاتِهَا
وَأَفْعَالَهَا، وَأَثْبَتَ ذَلِكَ مِنْهَا فِي أُمِّ الْكِتَابِ، وَحَشَرَهَا ثُمَّ جَازَاهَا عَلَى مَا سَلَفَ مِنْهَا فِي دَارِ الْبَلَاءِ، أَحْرَى أَلَّا يُضِيعَ أَعْمَالَكُمْ وَلَا يُفَرِّطَ فِي حِفْظِ أَفْعَالِكُمُ الَّتِي تَجْتَرِحُونَهَا أَيُّهَا النَّاسُ حَتَّى يَحْشُرَكُمْ فَيُجَازِيَكُمْ عَلَى جَمِيعِهَا؛ إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ؛ إِذْ كَانَ قَدْ خَصَّكُمْ مِنْ نِعَمِهِ، وَبَسَطَ عَلَيْكُمْ مِنْ فَضْلِهِ مَا لَا يَعُمُّ غَيْرَكُمْ فِي الدُّنْيَا، وَكُنْتُمْ بِشُكْرِهِ أَحَقَّ وَبِمَعْرِفَةِ وَاجِبِهِ عَلَيْكُمْ أَوْلَى، لِمَا أَعْطَاكُمْ مِنَ الْعَقْلِ الَّذِي بِهِ بَيْنَ الْأَشْيَاءِ تُمَيِّزُونَ، وَالْفَهْمِ الَّذِي لَمْ يُعْطَهُ الْبَهَائِمُ وَالطَّيْرُ الَّذِي بِهِ بَيْنَ مَصَالِحِكُمْ وَمَضَارِّكُمْ تُفَرِّقُونَ. اهـ.
(مَسَائِلُ مُسْتَنْبَطَةٌ مِنَ الْآيَةِ مَنْقُولَةٌ عَنْ " رُوحِ الْمَعَانِي " وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ بَعْضِهَا) .
الِاسْتِدْلَالُ بِهَا عَلَى التَّنَاسُخِ:
قَالَ الْأَلُوسِيُّ بَعْدَ تَفْسِيرِ الْآيَةِ: هَذَا وَرِسَالَةٌ فِي الْمَعَادِ لِأَبِي عَلِيٍّ: قَالَ الْمُعْتَرِفُونَ بِالشَّرِيعَةِ مِنْ أَهْلِ التَّنَاسُخِ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ دَلِيلٌ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ قَالَ: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ) إِلَخْ. وَفِيهِ الْحُكْمُ بِأَنَّ الْحَيَوَانَاتِ الْغَيْرَ النَّاطِقَةِ أَمْثَالُنَا وَلَيْسُوا أَمْثَالَنَا بِالْفِعْلِ، فَيَتَعَيَّنُ كَوْنُهُمْ أَمْثَالَنَا بِالْقُوَّةِ ضَرُورَةُ صِدْقِ هَذَا الْحُكْمِ وَعَدَمُ الْوَاسِطَةِ بَيْنَ الْفِعْلِ وَالْقُوَّةِ،
وَحِينَئِذٍ لَا بُدَّ مِنَ الْقَوْلِ بِحُلُولِ النَّفْسِ الْإِنْسَانِيَّةِ فِي شَيْءٍ مِنْ تِلْكَ الْحَيَوَانَاتِ وَهُوَ التَّنَاسُخُ الْمَطْلُوبُ، وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ دَلِيلٌ كَاسِدٌ عَلَى مَذْهَبٍ فَاسِدٍ.
هَلْ لِلْبَهَائِمِ نُفُوسٌ نَاطِقَةٌ؟ :
(قَالَ) : وَمِنَ النَّاسِ مَنْ جَعَلَهَا دَلِيلًا عَلَى أَنَّ لِلْحَيَوَانَاتِ بِأَسْرِهَا نُفُوسًا نَاطِقَةً كَمَا لِأَفْرَادِ الْإِنْسَانِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الصُّوفِيَّةُ وَبَعْضُ الْحُكَمَاءِ الْإِسْلَامِيِّينَ، وَأَوْرَدَ الشَّعْرَانِيُّ فِي (الْجَوَاهِرُ وَالدُّرَرُ) لِذَلِكَ أَدِلَّةً غَيْرَ مَا ذُكِرَ (مِنْهَا) أَنَّهُ - صَلَّى اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا هَاجَرَ وَتَعَرَّضَ كُلٌّ مِنَ الْأَنْصَارِ لِزِمَامِ نَاقَتِهِ قَالَ عليه الصلاة والسلام:" دَعُوهَا فَإِنَّهَا مَأْمُورَةٌ " وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِذَلِكَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَخْبَرَ أَنَّ النَّاقَةَ مَأْمُورَةَ، وَلَا يَعْقِلُ الْأَمْرَ إِلَّا مَنْ لَهُ نَفْسٌ نَاطِقَةٌ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ لِلنَّاقَةِ نَفْسًا كَذَلِكَ ثَبَتَ لِلْغَيْرِ، إِذْ لَا قَائِلَ بِالْفَرْقِ. (وَمِنْهَا) مَا يُشَاهَدُ فِي النَّحْلِ وَصَنْعَتِهَا أَقْرَاصَ الشَّمْعِ، وَالْعَنَاكِبِ وَاحْتِيَالِهَا لِصَيْدِ الذُّبَابِ، وَالنَّمْلِ وَادِّخَارِهِ لِقُوتِهِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَفْسُدُ مَعَهُ مَا ادَّخَرَهُ، وَأَوْرَدَ بَعْضُهُمْ دَلِيلًا لِذَلِكَ أَيْضًا: النَّمْلَةُ الَّتِي كَلَّمَتْ سُلَيْمَانَ عليه الصلاة والسلام بِمَا قَصَّ اللهُ تَعَالَى لَنَا عَنْهَا مِمَّا لَا يَهْتَدِي إِلَى مَا فِيهِ إِلَّا الْعَالَمُونَ، وَخَوْفُ الشَّاةِ مِنْ ذِئْبٍ لَمْ تُشَاهِدْ فِعْلَهُ قَبْلُ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا عَنِ اسْتِدْلَالٍ، وَهُوَ شَأْنُ ذَوِي النُّفُوسِ النَّاطِقَةِ، وَعَدَمُ افْتِرَاسِ الْأَسَدِ الْمُعَلَّمِ مَثَلًا صَاحِبَهُ، فَإِنَّ ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى اعْتِقَادِ النَّفْعِ وَمَعْرِفَةِ الْحَسَنِ وَهُوَ مِنْ شَأْنِ ذَوِي النُّفُوسِ.
الْقَوْلُ بِتَكْلِيفِ الْبَهَائِمِ:
(قَالَ) : وَأَغْرَبُ مِنْ هَذَا دَعْوَى الصُّوفِيَّةِ وَنَقَلَهُ الشَّعْرَانِيُّ عَنْ شَيْخِهِ عَلِيٍّ الْخَوَّاصِّ - قَدَّسَ اللهُ تَعَالَى سِرَّهُ - أَنَّ الْحَيَوَانَاتِ مُخَاطَبَةٌ مُكَلَّفَةٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ تَعَالَى مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُ الْمَحْجُوبُونَ، ثُمَّ قَالَ: وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ)(35: 24) حَيْثُ نَكَّرَ سبحانه وتعالى الْأُمَّةَ وَالنَّذِيرَ وَهُمْ مِنْ جُمْلَةِ الْأُمَمِ، وَنَقَلَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: جَمِيعُ مَا فِي الْأُمَمِ فِينَا؟ حَتَّى أَنَّ فِيهِمُ ابْنَ عَبَّاسٍ مِثْلِي، وَذَكَرَ فِي " الْأَجْوِبَةِ الْمَرْضِيَّةِ " أَنَّ فِيهِمْ أَنْبِيَاءَ، وَفِي " الْجَوَاهِرِ " أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ النَّذِيرُ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَنْ يَكُونَ خَارِجًا عَنْهُمْ مِنْ جِنْسِهِمْ، وَحَكَى شَيْخُهُ عَنْ
بَعْضِهِمْ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ تَشْبِيهَ اللهِ تَعَالَى مَنْ ضَلَّ مِنْ عِبَادِهِ بِالْأَنْعَامِ فِي قَوْلِهِ سبحانه وتعالى: (إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ) لَيْسَ لِنَقْصٍ فِيهَا وَإِنَّمَا هُوَ لِبَيَانِ كَمَالِ مَرْتَبَتِهَا فِي الْعِلْمِ بِاللهِ تَعَالَى حَتَّى حَارَتْ فِيهِ، فَالتَّشْبِيهُ فِي الْحَقِيقَةِ وَاقِعٌ فِي الْحَيْرَةِ لَا فِي الْمُحَارِ فِيهِ، فَلَا أَشَدَّ حَيْرَةً مِنَ الْعُلَمَاءِ بِاللهِ تَعَالَى، فَأَعْلَى مَا يَصِلُ إِلَيْهِ الْعُلَمَاءُ بِرَبِّهِمْ سبحانه وتعالى هُوَ مُبْتَدَأُ الْبَهَائِمِ الَّذِي لَمْ تَنْتَقِلْ عَنْهُ - أَيْ عَنْ أَصْلِهِ - وَإِنْ كَانَتْ مُتَنَقِّلَةً فِي شُئُونِهِ بِتَنَقُّلِ الشُّئُونِ الْإِلَهِيَّةِ؛ لِأَنَّهَا لَا تَثْبُتُ عَلَى حَالٍ ; وَلِذَلِكَ كَانَ مِنْ وَصَفَهُمُ اللهُ عز وجل مِنْ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ أَضَلَّ سَبِيلًا مِنَ الْأَنْعَامِ؛ لِأَنَّهُمْ يُرِيدُونَ الْخُرُوجَ مِنَ الْحَيْرَةِ مِنْ طَرِيقِ فِكْرِهِمْ وَنَظَرِهِمْ وَلَا يُمْكِنُ ذَلِكَ لَهُمْ، وَالْبَهَائِمُ عَلِمَتْ ذَلِكَ، وَوَقَفَتْ عِنْدَهُ، وَلَمْ تَطْلُبِ الْخُرُوجَ عَنْهُ، وَذَلِكَ لِشِدَّةِ عِلْمِهَا بِاللهِ تَعَالَى. انْتَهَى.
(قَالَ) : وَنَقَلَ الشِّهَابُ عَنِ ابْنِ الْمُنِيرِ أَنَّ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الْبَهَائِمَ الْهَوَامَّ مُكَلَّفَةٌ لَهَا رُسُلٌ مِنْ جِنْسِهَا فَهُوَ مِنَ الْمَلَاحِدَةِ الَّذِينَ لَا يُعَوَّلُ عَلَيْهِمْ كَالْجَاحِظِ وَغَيْرِهِ، وَعَلَى إِكْفَارِ الْقَائِلِ بِذَلِكَ نَصَّ كَثِيرٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ، وَالْجَزَاءُ الَّذِي يَكُونُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِلْحَيَوَانَاتِ عِنْدَهُمْ لَيْسَ جَزَاءَ تَكْلِيفٍ، عَلَى أَنَّ بَعْضَهُمْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الْحَيَوَانَاتِ لَا تُحْشَرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَوَّلَ الظَّوَاهِرَ الدَّالَّةَ عَلَى ذَلِكَ وَمَا نُقِلَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - مَا لَا أَصْلَ لَهُ وَالْمِثْلِيَّةُ فِي الْآيَةِ لَا تَدُلُّ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا ذُكِرَ.
الْقَوْلُ بِأَنَّ كُلَّ مَوْجُودٍ حَيٌّ:
(قَالَ) : وَأَغْرَبُ الْغَرِيبِ عِنْدَ أَهْلِ الظَّاهِرِ أَنَّ الصُّوفِيَّةَ - قَدَّسَ اللهُ تَعَالَى أَسْرَارَهُمْ - جَعَلُوا كُلَّ شَيْءٍ فِي الْوُجُودِ حَيًّا دَرَّاكًا يَفْهَمُ الْخِطَابَ، وَيَتَأَلَّمُ كَمَا يَتَأَلَّمُ الْحَيَوَانُ، وَمَا يَزِيدُ الْحَيَوَانُ عَلَى الْجَمَادِ إِلَّا بِالشَّهْوَةِ، وَيَسْتَنِدُونَ فِي ذَلِكَ إِلَى الشُّهُودِ، وَرُبَّمَا يَسْتَدِلُّونَ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى: (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ)(17: 44) وَبِنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالْأَخْبَارِ.
وَالَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ مِنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّ التَّسْبِيحَ حَالِيٌّ لَا قَالِيٌّ وَنَظِيرُ ذَلِكَ:
"
شَكَا إِلَيَّ جَمَلِي طُولَ السُّرَى
" وَ "
امْتَلَأَ الْحَوْضُ وَقَالَ قَطْنِي
" وَمَا يَصْدُرُ عَنْ بَعْضِ الْجَمَادَاتِ مِنْ تَسْبِيحٍ قَوْلِيٍّ كَتَسْبِيحِ الْحَصَى فِي كَفِّهِ الشَّرِيفِ صلى الله عليه وسلم مَثَلًا
إِنَّمَا هُوَ عَنْ خَلْقِ إِدْرَاكٍ إِذْ ذَاكَ، وَمَا يُشَاهَدُ مِنَ الصَّنَائِعِ الْعَجِيبَةِ لِبَعْضِ الْحَيَوَانَاتِ لَيْسَ كَمَا قَالَ الشَّيْخُ الرَّئِيسُ مِمَّا يَصْدُرُ عَنِ اسْتِنْبَاطٍ وَقِيَاسٍ، بَلْ عَنْ إِلْهَامٍ وَتَسْخِيرٍ ; وَلِذَلِكَ لَا تَخْتَلِفُ وَلَا تَتَنَوَّعُ، وَالنَّقْضُ بِالْحَرَكَةِ الْفَلَكِيَّةِ لَا يَرِدُ بِنَاءً عَلَى قَوَاعِدِنَا، وَعَدَمُ افْتِرَاسِ الْأَسَدِ الْمُعَلَّمِ مَثَلًا صَاحِبَهُ لَيْسَ عَنِ اعْتِقَادٍ، بَلْ هُنَاكَ هَشَّةٌ أُخْرَى نَفْسَانِيَّةٌ، وَهِيَ أَنَّ كُلَّ حَيَوَانٍ يُحِبُّ بِالطَّبْعِ مَا يُلِذُّهُ، وَالشَّخْصُ الَّذِي يُطْعِمُهُ مَحْبُوبٌ عِنْدَهُ فَيَصِيرُ ذَلِكَ مَانِعًا عَنِ افْتِرَاسِهِ، وَرُبَّمَا يَقَعُ هَذَا الْعَارِضُ عَنْ إِلْهَامٍ إِلَهِيٍّ مِثْلِ حُبِّ كُلِّ حَيَوَانِ وَلَدَهُ. وَعَلَى هَذَا الطِّرَازِ يَخْرُجُ الْخَوْفُ مَثَلًا الَّذِي يَعْتَرِي بَعْضَ الْحَيَوَانَاتِ.
(قَالَ) : وَقَدْ أَطَالُوا الْكَلَامَ فِي هَذَا الْمَقَامِ، وَأَنَا لَا أَرَى مَانِعًا مِنَ الْقَوْلِ بِأَنَّ لِلْحَيَوَانَاتِ نُفُوسًا نَاطِقَةً، وَهِيَ مُتَفَاوِتَةُ الْإِدْرَاكِ حَسَبَ تَفَاوُتِهَا فِي أَفْرَادِ الْإِنْسَانِ، وَهِيَ مَعَ ذَلِكَ كَيْفَمَا كَانَتْ لَا تَصِلُ فِي إِدْرَاكِهَا وَتَصَرُّفِهَا إِلَى غَايَةٍ يَصِلُهَا الْإِنْسَانُ وَالشَّوَاهِدُ عَلَى هَذَا كَثِيرَةٌ، وَلَيْسَ فِي مُقَابَلَتِهَا قَطْعِيٌّ يَجِبُ تَأْوِيلُهَا لِأَجْلِهِ، وَقَدْ صَرَّحَ غَيْرُ وَاحِدٍ أَنَّهَا عَارِفَةٌ بِرَبِّهَا جَلَّ شَأْنُهُ.
(قَالَ) : وَأَمَّا أَنَّ لَهَا رُسُلًا مِنْ جِنْسِهَا فَلَا أَقُولُ بِهِ وَلَا أُفْتِي بِكُفْرِ مَنْ قَالَ بِهِ. وَأَمَّا أَنَّ الْجَمَادَاتِ حَيَّةٌ مُدْرِكَةٌ فَأَمْرٌ وَرَاءَ طَوْرٍ عَقْلِيٍّ، وَاللهُ تَعَالَى عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٍ، وَهُوَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ. اهـ.
نَقُولُ: أَمَّا مَذْهَبُ التَّنَاسُخِ، فَهُوَ مِنَ الْأَسَاطِيرِ الْخُرَافِيَّةِ، الَّتِي وَلَّدَتْهَا الْخَيَالَاتُ الشِّعْرِيَّةُ، فَلَا نُضَيِّعُ الْوَقْتَ بِالْخَوْضِ فِي بَيَانِ بُطْلَانِهَا.
وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّ لِلْحَيَوَانَاتِ أَنْفُسًا نَاطِقَةً، فَإِنْ أُرِيدَ بِهِ أَنَّهَا كَنَفْسِ الْإِنْسَانِ فَتَحْقِيقُهُ يَتَوَقَّفُ عَلَى مَعْرِفَةِ كُنْهِ هَذِهِ النَّفْسِ. وَأَيْنَ مَنْ يَدَّعِي هَذَا وَيُثْبِتُ دَعْوَاهُ؟ وَلَا يُنْكِرُ مَنْ لَهُ أَدْنَى إِلْمَامٍ بِعِلْمِ الْحَيَوَانِ مَا أُوتِيَهُ بَعْضُ أَنْوَاعِهِ مِنْ أَنْوَاعِ الْإِدْرَاكِ الَّذِي يَفُوقُ بِبَعْضِهِ إِدْرَاكَاتِ النَّاسِ، وَلَكِنَّهَا تَنْحَصِرُ فِي مَنَاطِقَ ضَيِّقَةٍ جِدًّا؛ لِأَنَّهَا مُتَعَلِّقَةٌ بِحِفْظِ حَيَاتِهِ الْفَرْدِيَّةِ وَالنَّوْعِيَّةِ، وَهِيَ مَحْدُودَةٌ ضَيِّقَةٌ. وَلَعَلَّنَا نُفَصِّلُ الْقَوْلَ فِيهَا فِي تَفْسِيرِ آيَةٍ أُخْرَى. وَإِدْرَاكُ الْبَشَرِ لَا تَنْحَصِرُ أَنْوَاعُهُ وَلَا أَفْرَادُهُ، وَإِنَّمَا كَانَ اسْتِعْدَادُهُ الْعِلْمِيُّ غَيْرَ مَحْدُودٍ بِحَدٍّ؛ لِأَنَّهُ خُلِقَ لِحَيَاةٍ غَيْرِ مَحْدُودَةٍ بِحَدٍّ، وَهِيَ حَيَاةُ الْآخِرَةِ، وَدَعْوَى تَكْلِيفِ الْحَيَوَانِ الْأَعْجَمِ وَبِعْثَةِ رُسُلٍ مِنْهُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ مِنْ أُمَمِهِ
لَا يَدُلُّ عَلَيْهَا عَقْلٌ وَلَا نَقْلٌ، وَقَوْلُهُ
تَعَالَى: (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ)(35: 24) نَزَلَ فِي سِيَاقِ الْكَلَامِ عَنِ الْبَشَرِ.
وَأَمَّا الْقَوْلُ بِحَيَاةِ الْجَمَادِ فَهُوَ مَنْقُولٌ عَنْ بَعْضِ الْفَلَاسِفَةِ الْمُتَقَدِّمِينَ وَالْمُتَأَخِّرِينَ، وَعَنْ بَعْضِ الطَّبِيعِيِّينَ وَالْكِيمَاوِيِّينَ، وَلَهُمْ عَلَيْهِ دَلَائِلُ عِلْمِيَّةٌ وَنَظَرِيَّةٌ، وَيَتَوَقَّفُ بَيَانُ ذَلِكَ عَلَى تَعْرِيفِ الْحَيَاةِ وَمَظَاهِرِهَا وَخَوَاصِّهَا كَالتَّغَذِّي وَالنُّمُوِّ وَالتَّوَلُّدِ وَالْمَوْتِ، وَفِي تِلْكَ الْجَمَادَاتِ وَلَا سِيَّمَا الْأَجْسَامَ الْمُتَبَلْوِرَةِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ. وَكَانَ شَيْخُنَا الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ يَعْتَقِدُ أَنَّ الْحَيَاةَ مُنْبَثَّةٌ فِي الْعَالَمِ كُلِّهِ، وَلَعَلَّنَا نَعُودُ إِلَى هَذَا الْبَحْثِ بَعْدُ.
(وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ) أَيْ وَالْكُفَّارُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا الْمُنَزَّلَةِ وَمَا أَرْشَدْنَا إِلَيْهِ مِنْ آيَاتِنَا الدَّالَّةِ عَلَى وَحْدَانِيَّتِنَا وَصِدْقِ مَا جَاءَ بِهِ رَسُولُنَا تَكْذِيبَ جُحُودٍ وَاسْتِكْبَارٍ، أَوْ تَكْذِيبَ جُمُودٍ عَلَى تَقْلِيدِ الْآبَاءِ وَطَاعَةِ الْكُبَرَاءِ صُمٌّ لَا يَسْمَعُونَ دَعْوَةَ الْحَقِّ وَالْهُدَى سَمَاعَ فَهْمٍ وَقَبُولٍ، وَبُكْمٌ لَا يَنْطِقُونَ بِمَا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ، وَلَا يُقِرُّونَ بِمَا يَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ الرَّسُولُ، مُتَسَكِّعُونَ أَوْ حَالَ كَوْنِهِمْ مُتَسَكِّعِينَ خَابِطِينَ فِي تِلْكَ الظُّلُمَاتِ الْحَالِكَةِ ظُلْمَةِ الشِّرْكِ وَالْوَثَنِيَّةِ، وَظُلْمَةِ تَقَالِيدِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَظُلْمَةِ كِبْرِيَاءِ الْعَصَبِيَّةِ، وَظُلْمَةِ الْجَهْلِ وَالْأُمِّيَّةِ، ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ، لَا يَنْفُذُ مِنْهَا إِلَيْهِمْ مِنْ نُورِ الْهِدَايَةِ شَيْءٌ، فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ صِرَاطَهَا، وَلَا يَرَوْنَ مِنْهَاجَهَا، وَذَلِكَ مَا جَنَوْهُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِسُوءِ اخْتِيَارِ الْأَفْرَادِ وَفَسَادِ تَرْبِيَةِ الْمَجْمُوعِ، وَلِكُلِّ سِيرَةٍ غَايَةٌ تَنْتَهِي إِلَيْهَا بِحَسَبِ سُنَنِ اللهِ الَّتِي قَضَتْ بِهَا حِكْمَتُهُ، وَنَفَذَتْ بِهَا مَشِيئَتُهُ.
(مَنْ يَشَأِ اللهُ يُضْلِلْهُ) أَيْ مَنْ تَعَلَّقَتْ مَشِيئَةُ اللهِ بِإِضْلَالِهِ يُضْلِلْهُ كَمَا أَضَلَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ اسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى، فَلَمْ يَسْتَعْمِلُوا أَسْمَاعَهُمْ وَلَا أَفْوَاهَهُمْ وَلَا عُقُولَهُمْ فِي آيَاتِ اللهِ تَعَالَى الدَّالَّةِ عَلَى حَقِّيَّةِ مَا جَاءَ بِهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَإِنَّمَا إِضْلَالُهُ إِيَّاهُمُ اقْتِضَاءَ سُنَنِهِ فِي عُقُولِ الْبَشَرِ وَغَرَائِزِهِمْ وَأَخْلَاقِهِمْ أَنْ يُعْرِضَ الْمُسْتَكْبِرَ عَنْ دَعْوَةِ مَنْ يَرَاهُ دُونَهُ، وَاتِّبَاعِ مَنْ يَرَاهُ مِثْلَهُ، وَإِنْ ظَهَرَ لَهُ أَنَّ الْحَقَّ مَعَهُ، وَأَنْ يُعْرِضَ الْمُقَلِّدُ عَنِ النَّظَرِ فِي الْآيَاتِ وَالدَّلَائِلِ الَّتِي تَنْصَبُّ لِبَيَانِ بُطْلَانِ تَقَالِيدِهِ وَإِثْبَاتِ خِلَافِهَا، مَا دَامَ مَغْرُورًا بِهَا مُكَبِّرًا لِمَنْ جَرَى مِنَ الْآبَاءِ وَالْكُبَرَاءِ عَلَيْهَا، وَلَيْسَ مَعْنَى ذَلِكَ أَنْ يَخْلُقَ اللهُ تَعَالَى الضَّلَالَ لِمَنْ شَاءَ إِضْلَالَهُ خَلْقًا وَيَجْعَلُهُ لَهُ غَرِيزَةً وَطَبْعًا، وَلَا أَنْ يُلْجِئَهُ إِلَيْهِ إِلْجَاءً، وَيُكْرِهَهُ عَلَيْهِ إِكْرَاهًا، فَيَكُونُ إِعْرَاضُهُ عَنِ الْحَقِّ وَالْخَيْرِ وَإِقْبَالُهُ عَلَى الْبَاطِلِ وَالشَّرِّ كَحَرَكَةِ
الدَّمِ فِي الْجَسَدِ، وَعَمَلِ الْمَعِدَةِ فِي الْهَضْمِ (وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) أَيْ وَمَنْ يَشَأْ هِدَايَتَهُ وَاسْتِقَامَتَهُ يَجْعَلْهُ عَلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ، وَهُوَ طَرِيقُ الْحَقِّ الَّذِي لَا يَضِلُّ سَالِكُهُ، وَلَا يَنْجُو تَارِكُهُ، بِأَنْ يُوَفِّقَهُ لِاسْتِعْمَالِ سَمْعِهِ وَبَصَرِهِ وَعَقْلِهِ فِي آيَاتِ اللهِ الْمُنَزَّلَةِ وَآيَاتِهِ الْمُكَوِّنَةِ، اسْتِعْمَالًا يَعْرِفُ بِهِ الْحَقَّ وَيَعْتَرِفُ
بِهِ، وَيَعْرِفُ بِهِ الْخَيْرَ وَيَعْمَلُ بِهِ بِحَسَبِ سُنَنِهِ سبحانه وتعالى فِي الِارْتِبَاطِ بَيْنَ الْأَعْمَالِ الْبَدَنِيَّةِ وَالْعَقَائِدِ وَالْوِجْدَانَاتِ النَّفْسِيَّةِ، وَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنْ يَخْلُقَ لَهُ الْهِدَايَةَ خَلْقًا كَمَا خَلَقَ رُوحَهُ وَبَدَنَهُ، وَلَا أَنَّهُ يُجْبِرُهُ عَلَيْهَا فَيُلْصِقُ بِهِ كَارِهًا غَيْرَ مُخْتَارٍ، وَفِي الْقُرْآنِ آيَاتٌ كَثِيرَةٌ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَشِيئَةَ الْإِضْلَالِ إِنَّمَا تَتَعَلَّقُ بِأَصْحَابِ الْأَعْمَالِ الْكَسْبِيَّةِ الَّتِي هِيَ الضَّلَالُ أَوْ سَبَبُ الضَّلَالِ، وَمَشِيئَةُ الْهِدَايَةِ تَتَعَلَّقُ بِمَا يُقَابِلُ ذَلِكَ.
قَالَ تَعَالَى: (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَعْقِلُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ 7: 179) وَقَالَ تَعَالَى: (وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللهُ مَا يَشَاءُ 14: 27) وَقَالَ: (وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ 2: 26) كَمَا قَالَ: (يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ 5: 16) فَالْجَمْعُ بَيْنَ الْآيَاتِ هُوَ الْمُوَافِقُ لِفِطَرِ الْبَشَرِ وَعُقُولِهِمْ وَإِنْ خَالَفَ بَعْضَ نَظَرِيَّاتِ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْجَبْرِيَّةِ وَالْأَشْعَرِيَّةِ، فَلَيْسَ الْإِنْسَانُ خَالِقًا لِأَفْعَالِ نَفْسِهِ، مُسْتَقِلًّا بِهَا دُونَ مَشِيئَةِ خَالِقِهِ وَسُنَنِهِ فِي خَلْقِهِ، وَلَمْ يَجْعَلِ الرَّبُّ مَا يَصْدُرُ عَنِ النَّاسِ مِنَ الْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ وَالْخَيْرِ وَالشَّرِّ مِنْ قَبِيلِ مَا خَلَقَهُ لَهُمْ مِنْ حَرَكَاتِ دِمَائِهِمْ فِي أَبْدَانِهِمْ وَأَعْمَالِ مَعِدِهِمْ وَأَمْعَائِهِمْ، وَلَا مِنْ قَبِيلِ حَرَكَاتِ الْمُرْتَعِشِ مِنْهُمْ، فَلَا نَغْلُو فِي التَّنْزِيهِ وَالْحِكْمَةِ الْإِلَهِيَّةِ غُلُوًّا نَجْعَلُ بِهِ ضَلَالَ مَنْ ضَلَّ وَاقَعًا بِغَيْرِ مَشِيئَةِ اللهِ تَعَالَى مُقَدِّرِ الْمَقَادِيرِ، وَوَاضِعِ السُّنَنِ الْحَكِيمَةِ فِي الْخَلْقِ كُلِّهِ، وَلَا نَغْلُو فِي الْمَشِيئَةِ فَنَجْعَلَهَا مُنَافِيَةً لِلْحِكْمَةِ وَالرَّحْمَةِ سَالِبَةً لِمَا عُلِمَ مِنْ فِطْرَةِ اللهِ بِالضَّرُورَةِ.
وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُ الْمُعْتَزِلَةِ أَنَّ الْآيَةَ فِي بَيَانِ مَا يَكُونُ عَلَيْهِ الْكَافِرُونَ وَالْمُؤْمِنُونَ فِي الْآخِرَةِ، كَمَا قَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى:(وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا 17: 97) قَالَ: وَإِنَّ الْمُرَادَ بِالْإِضْلَالِ إِضْلَالُهُمْ عَنْ طَرِيقِ الْجَنَّةِ جَزَاءً لَهُمْ، وَيُقَابِلُهُ جَعْلُ الْمُتَّقِينَ عَلَى صِرَاطٍ مُوصِّلٍ إِلَى الْجَنَّةِ، وَيَرُدُّ هَذَا التَّأْوِيلَ وُرُودُ الْآيَةِ فِي وَصْفِ
حَالِ الْمُكَذِّبِينَ بِآيَاتِ اللهِ فِي سِيَاقِ إِقَامَةِ الْحُجَجِ عَلَيْهِمْ، وَلَيْسَ فِيهَا ذِكْرٌ لِلْآخِرَةِ وَلَا هِيَ وَارِدَةٌ فِي سِيَاقِ الْجَزَاءِ، وَإِسْنَادُ الْإِضْلَالِ إِلَى اللهِ تَعَالَى لَا يَقْتَضِي إِخْرَاجَهَا عَنْ ظَاهِرِهَا، فَمِثْلُهُ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ.
وَمِنْ نُكَتِ الْبَلَاغَةِ فِي الْآيَةِ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: (صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ) فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى فِي " سُورَةِ الْبَقَرَةِ ": (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ 2: 18، 171) فَلِمَاذَا سُرِدَتِ الصِّفَاتُ الثَّلَاثُ
فِي الْبَقَرَةِ مَفْصُولَةً وَوُصِلَتْ كُلُّهَا بِالْعَطْفِ فِي آيَةِ الْإِسْرَاءِ (17: 97) الَّتِي ذُكِرَتْ آنِفًا، وَعَطْفُ الثَّانِيَةَ عَلَى الْأُولَى هُنَا دُونَ قَوْلِهِ:(فِي الظُّلُمَاتِ) الَّذِي هُوَ فِي مَعْنَى الثَّالِثَةِ؟ لَمْ أَرَ لِأَحَدٍ كَلَامًا فِي الْفَرْقِ بَيْنَ هَذِهِ الْآيَاتِ، وَلَكِنْ ذَكَرَ فِي " رُوحِ الْمَعَانِي " أَنَّ الْعَطْفَ بَيْنَ الصُّمِّ وَالْبُكْمِ لِتَلَازُمِهِمَا، وَتَرْكَهُ فِيمَا بَعْدَهُمَا لِلْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّهُ كَافٍ لِلْإِعْرَاضِ عَنِ الْحَقِّ، وَالَّذِي يَظْهَرُ لَنَا فِي الْمُقَابَلَةِ أَنَّ تَرْكَ الْعَطْفِ فِي آيَتَيِ الْبَقَرَةِ لِبَيَانِ أَنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ لَاصِقَةٌ بِالْمَوْصُوفِينَ بِهَا مُجْتَمِعَةٌ فِي آنٍ وَاحِدٍ، وَالْأُولَى مِنْهُمَا فِي الْمَخْتُومِ عَلَى قُلُوبِهِمُ الْمَيْئُوسِ مِنْ إِيمَانِهِمْ مِنَ الْمُنَافِقِينَ وَغَيْرِهِمْ، وَالثَّانِيَةُ فِي الْمُقَلِّدِينِ الْجَامِدِينِ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا لَا يَسْتَمِعُ لِدَعْوَةِ الْحَقِّ عِنْدَ تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ وَغَيْرِهِ وَلَا يَسْأَلُ الرَّسُولَ وَلَا غَيْرَهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ عَمَّا يَحُوكُ فِي قَلْبِهِ وَيَجُولُ فِي ذِهْنِهِ مِنَ الْكُفْرِ وَالشَّكِّ، وَلَا يَنْطِقُ بِمَا عَسَاهُ يَعْرِفُ مِنَ الْحَقِّ، وَلَا يَسْتَدِلُّ بِآيَاتِ اللهِ الْمَرْئِيَّةِ فِي نَفْسِهِ وَلَا فِي الْآفَاقِ، فَكَأَنَّهُ أَصَمُّ أَبْكَمُ أَعْمَى فِي آنٍ وَاحِدٍ، وَأَمَّا الْآيَةُ الَّتِي نُفَسِّرُهَا فَهِيَ فِي مُشْرِكِي مَكَّةَ، وَلَمْ يَكُونُوا كُلُّهُمْ مِنَ الْمَخْتُومِ عَلَى قُلُوبِهِمُ الْمَيْئُوسِ مِنْ إِيمَانِهِمْ، وَلَا مِنَ الْمُقَلِّدِينَ الْجَامِدِينَ الَّذِينَ لَا يَنْظُرُونَ فِي شَيْءٍ مِنَ الْآيَاتِ الْإِلَهِيَّةِ الْمُنَزَّلَةِ وَالْمُكَوَّنَةِ، بَلْ كَانَ مِنْهُمُ الْجَامِدُ عَلَى التَّقْلِيدِ وَالْإِعْرَاضِ عَنْ سَمَاعِ الْقُرْآنِ حَتَّى كَأَنَّهُ أَصَمُّ (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا 31: 7) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْمَعُ وَيَعْلَمُ أَنَّهَا الْحَقُّ، وَلَكِنَّهُ لَا يَنْطِقُ بِمَا يَعْلَمُ عِنَادًا، فَهَذَانِ فَرِيقَانِ مُنْفَصِلَانِ، عَطَفَ أَحَدَهُمَا عَلَى الْآخَرِ لِبَيَانِ هَذَا الِانْفِصَالِ. وَقَوْلُهُ:(فِي الظُّلُمَاتِ) إِمَّا حَالٌ مِنْهُمَا لِبَيَانِ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا خَابِطٌ فِي الظُّلُمَاتِ الْمُشْتَرِكَةِ كَظُلْمَتَيِ الشِّرْكِ وَالْجَهْلِ، أَوِ الْخَاصَّةِ بِفَرِيقٍ دُونَ آخَرَ كَظُلْمَتَيِ التَّقْلِيدِ وَالْكِبْرِ، فَبَعْضُ الْمُقَلِّدِينَ غَيْرُ مُسْتَكْبِرِينَ وَهُمُ الْفُقَرَاءُ، وَبَعْضُ الْمُسْتَكْبِرِينَ غَيْرُ جَامِدَيْنِ عَلَى تَقْلِيدِ الْآبَاءِ، وَإِمَّا صِفَةٌ لِبُكْمٍ فَيَكُونُ الْمُكَذِّبُونَ الْمَحْكِيُّ عَنْهُمْ قِسْمَيْنِ
كُلٌّ مِنْهُمَا فَرِيقَانِ (الْأَوَّلُ) الَّذِينَ شُبِّهُوا بِالصُّمِّ، وَهُمُ الَّذِينَ لَا يَسْمَعُونَ الْقُرْآنَ مُطْلَقًا اسْتِغْنَاءً عَنْ هِدَايَتِهِ بِضَلَالِهِمْ وَمُشَاغَبَةً لِلدَّاعِي إِلَيْهِ (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغُوَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ 41: 26) وَالَّذِينَ لَا يَسْمَعُونَ سَمَاعَ فَهْمٍ وَتَأَمُّلٍ، لِتَوَهُّمِهِمْ عَدَمَ الْحَاجَةِ إِلَى دِينٍ غَيْرِ دِينِ آبَائِهِمْ، أَوْ لِأَنَّ رُؤَسَاءَهُمْ يَنْهَوْنَهُمْ وَيَصُدُّونَهُمْ عَنْهُ، وَلَمْ يُوصَفْ هَؤُلَاءِ بِأَنَّهُمْ فِي الظُّلُمَاتِ - عَلَى هَذَا الْوَجْهِ - لِأَنَّ سَمَاعَهُمْ مَرْجُوٌّ وَهِدَايَتَهُمْ مَأْمُولَةٌ عِنْدَ زَوَالِ الْمَانِعِ. (الثَّانِي) الَّذِينَ شُبِّهُوا بِالْبُكْمِ وَهُمُ الَّذِينَ عَرَفُوا الْحَقَّ وَاسْتَيْقَنُوا صِدْقَ الرَّسُولِ بِالْآيَاتِ وَالدَّلَائِلِ، وَلَكِنَّهُمْ يَكْتُمُونَهَا أَوْ يَجْحَدُونَ بِهَا كِبْرًا وَعِنَادًا لَا تَكْذِيبًا لَهُ وَلَا إِكْذَابًا، كَمَا تَقَدَّمَ قَرِيبًا
فِي الْآيَةِ (39) ، وَالَّذِينَ لَمْ يَعْرِفُوا الْحَقَّ وَلَمْ يَسْأَلُوا وَلَمْ يَبْحَثُوا فَهُمْ كَالْبُكْمِ لِعَدَمِ اسْتِفَادَتِهِمْ مِنَ الْكَلَامِ. وَوَصَفَ هَذَا الْفَرِيقِ مِنَ الْبُكْمِ - وَهُمُ الْجَاهِلُونَ - بِأَنَّهُمْ فِي الظُّلُمَاتِ لِأَنَّهُمْ لَا يَنْظُرُونَ فِي دَلَالَةِ الْآيَاتِ الْمَرْئِيَّةِ، وَوَصَفَ بِذَلِكَ الْفَرِيقَ الْأَوَّلَ أَيْضًا - وَهُمُ الْمُسْتَكْبِرُونَ؛ لِأَنَّهُمْ لَا تُؤَثِّرُ فِي قُلُوبِهِمْ رُؤْيَةُ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم وَصِفَاتُهُ الْقُدْسِيَّةُ، وَقَدْ كَانَتْ شَمَائِلُهُ الشَّرِيفَةُ الْمَرْضِيَّةُ وَرُوحَانِيَّتُهُ الَّتِي هِيَ أَقْوَى مِنَ الْكَهْرَبَائِيَّةِ تُؤَثِّرُ فِي النُّفُوسِ الْمُسْتَعِدَّةِ فَتَجْذِبُهَا إِلَى الْإِيمَانِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إِلَى إِقَامَةِ حَجَّةٍ وَلَا تَأْلِيفِ بُرْهَانٍ، وَقَدْ كَانَ يَجِيئُهُ الْأَعْرَابِيُّ السَّلِيمُ الْفِطْرَةُ مُمْتَحِنًا أَوْ مُعَادِيًا، فَإِذَا رَآهُ آمَنَ وَقَالَ: مَا هَذَا وَجْهُ كَذَّابٍ، وَدَخَلَ عَلَيْهِ رَجُلٌ فَأَخَذَتْهُ رِعْدَةٌ شَدِيدَةٌ مِنْ مَهَابَتِهِ، فَقَالَ لَهُ صلى الله عليه وسلم " هَوِّنْ عَلَيْكَ؛ فَإِنِّي لَسْتُ بِمَلِكٍ وَلَا جَبَّارٍ، إِنَّمَا أَنَا ابْنُ امْرَأَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ تَأْكُلُ الْقَدِيدَ بِمَكَّةَ " فَنَطَقَ الرَّجُلُ بِحَاجَتِهِ. رَوَاهُ الْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ، وَقَالَ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ.
وَمِنَ الشَّوَاهِدِ الْمُؤَيِّدَةِ لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ التَّقْسِيمِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي " سُورَةِ يُونُسَ ": (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ 10: 42، 43) وَأَمَّا آيَةُ الْإِسْرَاءِ فَلَا يَظْهَرُ فِيهَا هَذَا التَّقْسِيمُ وَلَا مَعْنَى مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ آيَتَا الْبَقَرَةِ مِنْ إِرَادَةِ اجْتِمَاعِ تِلْكَ الصِّفَاتِ الثَّلَاثِ الْحَائِلَةِ دُونَ جَمِيعِ طُرُقِ الْهِدَايَةِ، وَإِنَّمَا تُفِيدُ أَنَّ هَذِهِ الْعِلَلَ تَعْرِضُ لَهُمْ فِي حَالَاتٍ وَأَوْقَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ مِنْ يَوْمِ الْحَشْرِ وَالْجَزَاءِ، فَيَكُونُونَ عُمْيًا هَائِمِينَ فِي الظُّلُمَاتِ عَلَى وُجُوهِهِمْ (يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ 57: 12) فَلَا يَرَوْنَ الطَّرِيقَ الْمُوصِّلَ إِلَى الْجَنَّةِ عِنْدَمَا يُسَاقُ أَهْلُهَا إِلَيْهَا وَيَكُونُونَ بُكْمًا (هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ 77: 35، 36) وَذَلِكَ فِي بَعْضِ
مَوَاقِفِ الْقِيَامَةِ وَأَحْوَالِهَا،، وَيَكُونُونَ صُمًّا لَا يَسْمَعُونَ شَيْئًا يَسُرُّهُمْ عِنْدَمَا يَسْمَعُ الْمُؤْمِنُونَ الْمُتَّقُونَ بُشْرَى الْمَغْفِرَةِ مِنْ رَبِّهِمْ. وَيُؤَيِّدُ هَذَا التَّفْسِيرَ مَجْمُوعُ مَا وَرَدَ فِي الْآيَاتِ وَالرِّوَايَاتِ مِنْ بَيَانِ حَالِ الْكُفَّارِ فِي الْآخِرَةِ، وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه فَظَهَرَ الْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ آيَتَيِ الْبَقَرَةِ الْمُرَادُ بِهَا اجْتِمَاعُ الصَّمَمِ وَالْبَكَمِ وَالْعَمَى فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ وَوَقْتٍ وَاحِدٍ، كَأَنَّهَا صِفَةٌ وَاحِدَةٌ، وَلَوْ حَصَلَ بَعْضُهَا دُونَ بَعْضٍ لَمَا أَفَادَتْ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ.
وَتَأَمَّلْ كَيْفَ بَدَأَ بِذِكْرِ الصُّمِّ فِي سِيَاقِ الْكَلَامِ عَنْ دَعْوَةِ الْإِسْلَامِ وَبَيَانِ إِعْرَاضِهِمْ عَنْ قَبُولِهَا، وَبَدَأَ بِذِكْرِ الْعَمَى فِي سِيَاقِ الْكَلَامِ عَنِ الْحَشْرِ، فَيَا لِلَّهِ الْعَجَبُ مِنْ دَقَائِقِ بَلَاغَةِ هَذَا الْقُرْآنِ الَّتِي أَعْجَزَتِ الْبَشَرَ، وَكُلَّمَا غَاصَ غَائِصٌ فِي بِحَارِهَا اسْتَفَادَ شَيْئًا جَدِيدًا مِنْ فَوَائِدِ الدُّرَرِ، فَلَا تَنْفَدُ عَجَائِبُ إِعْجَازِ مَبَانِيهِ، وَلَا تَنْتَهِي عَجَائِبُ إِعْجَازِ مَعَانِيهِ.
(قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) .
هَذَا قَوْلٌ مُسْتَأْنَفٌ أَمَرَ اللهُ تَعَالَى رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُوَجِّهَهُ إِلَى الْمُشْرِكِينَ مُذَكِّرًا إِيَّاهُمْ بِمَا أَوْدَعَ فِي فِطْرَتِهِمْ مِنْ تَوْحِيدِهِ عز وجل، لِيَعْلَمُوا أَنَّ مَا تَقَلَّدُوهُ مِنَ الشِّرْكِ عَارِضٌ شَاغِلٌ يُفْسِدُ أَذْهَانَهُمْ وَمُخَيِّلَاتِهِمْ فِي وَقْتِ الرَّخَاءِ، وَمَا يَخِفُّ حِمْلُهُ مِنَ الْبَلَاءِ،
حَتَّى إِذَا مَا نَزَلَ بِهِمْ مَا لَا يُطَاقُ مِنَ اللَّأْوَاءِ، وَأَثَارَ تَقَطُّعُ الْأَسْبَابِ فِي أَنْفُسِهِمْ ضَرَاعَةَ الدُّعَاءِ، دَعَوُا اللهَ وَحْدَهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ (لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لِنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ 10: 22) وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَدْعُونَ مِنَ الْأَصْنَامِ وَالْأَوْثَانِ وَمَا وَضَعَتْ رَمْزًا لَهُ مِنْ مَلَكٍ أَوْ إِنْسَانٍ؛ لِأَنَّ هَذَا دُعَاءُ الْقَلْبِ لَا دُعَاءُ اللِّسَانِ، ذَكَّرَهُمْ بِهَذَا بَعْدَ تَذْكِيرِهِمْ بِالْمُشَابَهَةِ بَيْنَ أُمَمِ النَّاسِ وَأُمَمِ الْحَيَوَانِ وَحَالِ مَنْ فَسَدَتْ قُوَاهُمُ الْفِطْرِيَّةُ مِنَ النَّاسِ، وَلِذَلِكَ قَفَّى عَلَيْهِ بِذِكْرِ مَنْ تَرَكُوا التَّضَرُّعَ لَهُ تَعَالَى حِينَ الْبَأْسِ، وَقَبْلَ أَنْ يُحِيطَ بِهِمُ الْيَأْسُ، فَابْتَلَاهُمْ بِالسَّرَّاءِ وَالنَّعْمَاءِ، بَعْدَ الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ، فَأَعْقَبَهُمْ بَدَلَ الشُّكْرِ فَرَحَ الْبَطَرِ، فَأَخَذَهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ، قَالَ تَعَالَى:
(قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) . قَوْلُهُ تَعَالَى: (أَرَأَيْتَكُمْ) هُوَ عِنْدَ جُمْهُورِ عُلَمَاءِ الْعَرَبِيَّةِ بِمَعْنَى (أَخْبِرُونِي) وَالتَّاءُ ضَمِيرُ
رَفْعٍ، وَالْكَافُ حَرْفُ خِطَابٍ أُكِّدَ بِهِ الضَّمِيرُ لَا مَحَلَّ لَهُ، وَتَتَغَيَّرُ حَرَكَتُهُ بِاخْتِلَافِ الْمُخَاطَبِ دُونَ التَّاءِ؛ فَتَظَلُّ مَفْتُوحَةً فِي الْمُؤَنَّثِ وَالْمُثَنَّى وَالْجَمْعِ، وَقَدْ أَطَالُوا الْقَوْلَ فِي الْمَذَاهِبِ وَالْآرَاءِ فِي إِعْرَابِهِ وَمَعْنَاهُ فِي كُتُبِ اللُّغَةِ وَبَعْضِ كُتُبِ التَّفْسِيرِ. وَأَقُولُ: إِنَّ هَذِهِ الصِّيغَةَ (أَرَأَيْتَكُمْ) فِي خِطَابِ الْجَمْعِ بِالْكَافِ وَالْمِيمِ لَمْ تُذْكَرْ إِلَّا فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَفِي الْآيَةِ الْآتِيَةِ بَعْدَ بِضْعِ آيَاتٍ، وَذُكِرَتْ فِي خِطَابِ الْمُفْرَدِ بِالْكَافِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ " سُورَةِ الْإِسْرَاءِ ":(أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ)(17: 62) إِلَخْ، وَلَيْسَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ اسْتِفْهَامٌ فِي الْجُمْلَةِ الشَّرْطِيَّةِ، وَلَكِنَّ الْمُفَسِّرِينَ قَدَّرُوا فِيهَا اسْتِفْهَامًا مَحْذُوفًا. قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ كَغَيْرِهِ: وَالْمَعْنَى: أَخْبِرْنِي عَنْ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ بِأَمْرِي بِالسُّجُودِ لَهُ، لِمَ كَرَّمْتَهُ عَلَيَّ؟ وَجَعَلَ قَوْلَهُ بَعْدَ ذَلِكَ:(لَئِنْ أَخَّرْتَنِي إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ)(17: 62) إِلَخْ كَلَامًا مُبْتَدَأً.
وَقَدِ اسْتَعْمَلَ " أَرَأَيْتَ " وَ " أَرَأَيْتُمْ " - بِدُونِ كَافٍ - مِثْلَ هَذَا الِاسْتِعْمَالِ فِي أَكْثَرِ مِنْ عِشْرِينَ آيَةً أَكْثَرُهَا قَدْ صَرَّحَ فِيهِ بَعْدَهَا بِالِاسْتِفْهَامِ، فَمِنْهُ فِي جُمْلَةٍ غَيْرِ شَرْطِيَّةٍ قَوْلُهُ تَعَالَى:(أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتِ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا)(25: 43) وَقَوْلُهُ: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ)(46: 4) وَمِثْلُهَا الْآيَاتُ الَّتِي فِي " سُورَةِ الْوَاقِعَةِ ". وَمِنْهُ فِي الْجُمَلِ الشَّرْطِيَّةِ (أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ
سِنِينَ ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ) (26: 205 - 207) وَمِثْلُهَا الْآيَاتُ الَّتِي فِي آخِرِ " سُورَةِ الْعَلَقِ " وَالْآيَاتُ الَّتِي فِي آخِرِ " سُورَةِ الْمُلْكِ ". فَمَنْ تَأَمَّلَ هَذِهِ الْآيَاتِ كُلَّهَا لَا يَظْهَرُ لَهُ فِيهَا مَا قَالُوهُ مِنْ أَنَّ مَعْنَاهَا أَخْبِرْنِي وَأَخْبِرُونِي إِلَّا بِمَا يَأْتِي مِنَ التَّوْجِيهِ. قَالَ الْقَاضِي الْبَيْضَاوِيُّ فِي (أَرَأَيْتَكُمْ) : اسْتِفْهَامٌ وَتَعْجِيبٌ. وَقَالَ الرَّاغِبُ فِي مُفْرَدَاتِهِ بَعْدَ الْإِشَارَةِ إِلَى عِدَّةِ آيَاتٍ مُصَدَّرَةٍ بِهَذَا اللَّفْظِ: كُلُّ ذَلِكَ فِيهِ مَعْنَى التَّنْبِيهِ. وَقَدْ سَدَّدَ كُلٌّ مِنْهُمَا وَقَارَبَ. وَالَّذِي أَرَاهُ جَامِعًا بَيْنَ الْأَقْوَالِ أَنَّ (أَرَأَيْتَكُمْ) وَ (أَرَأَيْتُمْ) اسْتِفْهَامٌ عَنِ الرَّأْيِ أَوْ عَنِ الرُّؤْيَةِ الَّتِي بِمَعْنَى الْعِلْمِ، وَأَنَّ الِاسْتِفْهَامَ فِي هَذَا الِاسْتِعْمَالِ لِلتَّقْرِيرِ وَأَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ التَّنْبِيهَ وَالتَّمْهِيدَ لِمَا يُذْكَرُ بَعْدَهُ مِنْ نَبَأٍ غَرِيبٍ أَوْ عَجِيبٍ، أَوِ اسْتِفْهَامٍ تَقُومُ بِهِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْحُجَّةُ، وَتُدْحَضُ الشُّبْهَةُ، وَلَوْلَا أَنَّ الِاسْتِفْهَامَ لِلتَّقْرِيرِ لَمَا كَانَ لِقَوْلِ الْجُمْهُورِ أَنَّهُ بِمَعْنَى طَلَبِ الْإِخْبَارِ وَجْهٌ وَجِيهٌ، وَالْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ لِ " أَرَأَيْتَ " أَوْ " أَرَأَيْتُمُ " الَّتِي تَتْلُوهَا الْجُمْلَةُ الشَّرْطِيَّةُ مَحْذُوفٌ يُفْهَمُ مِنْ مَضْمُونِهَا وَيُقَدَّرُ بِحَسَبِ الْمَقَامِ، وَقَدْ تَسُدُّ الْجُمْلَةُ الِاسْتِفْهَامِيَّةُ مَسَدَّ الْمَفْعُولَيْنِ.
وَالْمَعْنَى: قُلْ أَيُّهَا الرَّسُولُ لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ الْمُكَذِّبِينَ: أَرَأَيْتُمْ أَنْفُسَكُمْ كَيْفَ تَكُونُ حَالُكُمْ مَعَ مَنْ تَعْبُدُونَ - أَوْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ - أَيْ أَخْبِرُونِي عَنْ رَأْيِكُمْ أَوْ عَنْ مَبْلَغِ عِلْمِكُمْ، فِي ذَلِكَ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللهِ الَّذِي نَزَلَ بِمَنْ كَانَ مِنْ أَقْوَالِ الرُّسُلِ قَبْلَكُمْ، كَالرِّيحِ الصَّرْصَرِ الْعَاتِيَةِ وَالصَّاعِقَةِ أَوِ الرَّجْفَةِ الْقَاضِيَةِ، وَمِيَاهِ الطُّوفَانِ الْمُغْرِقَةِ، وَحَرَارَةِ الظُّلَّةِ الْمُحْرِقَةِ، أَوْ أَتَتْكُمْ
السَّاعَةُ بِمُقَدِّمَاتِ أَهْوَالِهَا أَوْ مَا يَلِي الْبَعْثَ مِنْ خَزِينِهَا وَنَكَالِهَا، أَغَيْرَ اللهِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ تَدْعُونَ أَمْ إِلَى غَيْرِهِ فِيهَا تَجْأَرُونَ؟ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فِي دَعْوَاكُمْ أُلُوهِيَّةِ هَؤُلَاءِ الشُّرَكَاءِ الَّذِينَ اتَّخَذْتُمُوهُمْ أَوْلِيَاءَ، وَزَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُفَعَاءُ، أَوْ إِنْ كَانَ مِنْ شَأْنِكُمُ الصِّدْقُ فَأَخْبِرُونِي أَغَيْرَ اللهِ تَدْعُونَ إِذَا أَتَاكُمْ أَحَدُ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ اللَّذَيْنِ يَحْلُو دُونَهُمَا الْأَمْرَيْنِ؟ وَذَهَبَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى كَوْنِ مُتَعَلَّقِ الِاسْتِخْبَارِ مَحْذُوفًا تَقْدِيرُهَا: أَخْبِرُونِي إِنْ أَتَاكُمْ مَا ذُكِرَ، مَنْ تَدْعُونَ لِكَشْفِهِ، أَتَخُصُّونَ غَيْرَ اللهِ بِالدُّعَاءِ، كَمَا هُوَ شَأْنُكُمْ وَقْتَ الرَّخَاءِ؟ أَمْ تَخُصُّونَهُ وَحْدَهُ بِالدُّعَاءِ وَتَنْسَوْنَ مَا اتَّخَذْتُمْ مِنَ الشُّرَكَاءِ إِذْ يَضِلُّ عَنْكُمْ مَنْ تَرْجُونَ مِنَ الشِّفَاءِ؟ ثُمَّ أَجَابَ تَعَالَى عَنْهُمْ مُخْبِرًا إِيَّاهُمْ عَمَّا تَقْتَضِيهِ فِطْرَتُهُمْ فَقَالَ:
(بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ) أَيْ لَا تَدْعُونَ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ غَيْرَهُ - لَا وَحْدَهُ وَلَا مَعَهُ - بَلْ تَخُصُّونَهُ وَحْدَهُ بِالدُّعَاءِ، فَيَكْشِفُ أَيْ يُزِيلُ مَا تَدْعُونَهُ إِلَى كَشْفِهِ إِنْ شَاءَ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْقَادِرُ عَلَيْهِ دُونَ جَمِيعِ الْعِبَادِ، وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ الْآنَ مِنَ الشُّفَعَاءِ وَالْأَنْدَادِ؛ لِأَنَّ الْفَزَعَ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ عِنْدَ شِدَّةِ الضِّيقِ وَالْيَأْسِ مِنَ الْأَسْبَابِ مَرْكُوزٌ فِي فِطْرَةِ الْبَشَرِ، تَنْبَعِثُ إِلَيْهِ بِذَاتِهَا كَمَا تَنْبَعِثُ إِلَى طَلَبِ الْغِذَاءِ عِنْدَ الْجُوعِ مَثَلًا، فَلَا يَذْهَبُ بِهِ مَا يُتَلَقَّى بِالتَّعْلِيمِ الْبَاطِلِ مِنْ مَسَائِلِ الدِّينِ غَالِبًا إِلَّا مَنْ تَمَّ فَسَادُ فِطْرَتِهِ، وَانْتَهَتْ سَفَالَةُ طِينَتِهِ، حَتَّى كَانَ كَالْأَعْجَمِ، لَا يَفْهَمُ وَلَا يُفْهِمُ، وَإِنَّمَا مَثَلُ تَعَالِيمِ الشِّرْكِ مَعَ هَذِهِ الْغَرِيزَةِ الْفِطْرِيَّةِ كَمَثَلِ مَا كَانَ عِنْدَ الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَحْكَامِ الطَّعَامِ الْبَاطِلَةِ مَعَ غَرِيزَةِ التَّغَذِّي، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يُحَرِّمُونَ بَعْضَ الطَّيِّبَاتِ كَالْبَحَائِرِ وَالسَّوَائِبِ وَيُبِيحُونَ بَعْضَ الْخَبَائِثِ كَالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ الْمَسْفُوحِ، فَيَجْنُونَ عَلَى غَرِيزَةِ التَّغَذِّي بِأَكْلِ هَذَا وَالْحِرْمَانِ مِنْ ذَاكَ، ثُمَّ يَأْكُلُونَ كُلَّ شَيْءٍ عِنْدَ الِاضْطِرَارِ كَذَلِكَ يَجْنُونَ عَلَى غَرِيزَةِ التَّوَجُّهِ إِلَى خَالِقِهِمْ وَخَالِقِ الْعَالَمِ كُلِّهِ بِمَا يَتَّخِذُونَ مِنَ الْأَنْدَادِ وَالْأَوْلِيَاءِ وَالشُّفَعَاءِ الَّذِينَ يَتَوَجَّهُونَ إِلَيْهِمْ كَمَا يَتَوَجَّهُونَ إِلَى اللهِ وَيُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ، ذَلِكَ الْحُبُّ الَّذِي مَنْشَؤُهُ التَّقْدِيسُ وَاعْتِقَادُ الْقُدْرَةِ عَلَى النَّفْعِ وَدَفْعِ الضُّرِّ مِنْ غَيْرِ طَرِيقِ الْأَسْبَابِ، فَإِنَّهُمْ عِنْدَ الشِّدَّةِ يَنْسَوْنَهَا وَيَدْعُونَ اللهَ وَحْدَهُ.
وَلِهَذَا الِاعْتِقَادِ وَمَا يَسْتَلْزِمُهُ مِنَ الْحُبِّ وَالتَّعْظِيمِ ثَلَاثُ دَرَجَاتٍ: أَسْفَلُهَا وَأَعْرَقُهَا فِي الْجَهْلِ أَنْ يَعْتَقِدَ فِي شَيْءٍ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ أَنَّهُ هُوَ الْإِلَهُ الَّذِي يَنْفَعُ وَيَضُرُّ بِذَاتِهِ فَيَتَوَجَّهُ إِلَيْهِ وَيَدْعُوهُ وَيَتَضَرَّعُ إِلَيْهِ حَتَّى عِنْدَ اشْتِدَادِ الْبَأْسِ بَاكِيًا مُتَضَرِّعًا ; لِأَنَّ غَرِيزَةَ الْإِيمَانِ بِالسُّلْطَةِ الْغَيْبِيَّةِ حُصِرَتْ عِنْدَهُ فِي هَذَا الْمَخْلُوقِ أَوْ هَذِهِ الْمَخْلُوقَاتِ كَمَا تَلْقَى عَنْ قَوْمِهِ، وَهُوَ لَا يُفَكِّرُ فِي كَوْنِ ذَلِكَ مَعْقُولًا أَوْ غَيْرَ مَعْقُولٍ، وَيَلِي هَذِهِ الدَّرَجَةَ أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّ الْإِلَهَ نَفْسَهُ قَدْ حَلَّ فِي بَعْضِ الْمَخْلُوقَاتِ وَاتَّحَدَ بِهَا كَمَا تَحِلُّ الرُّوحُ فِي الْبَدَنِ وَتُدَبِّرُهُ فَيَكُونَانِ بِذَلِكَ شَيْئًا وَاحِدًا، وَالْفَصْلُ بَيْنَ هَذِهِ الدَّرَجَةِ وَمَا قَبْلَهَا هُوَ أَنَّ هَذِهِ مُفَرَّغَةٌ فِي قَالَبٍ مِنَ النَّظَرِيَّاتِ الْفَلْسَفِيَّةِ،
مُزَيَّنَةٌ بِحُلِيٍّ وَحُلَلٍ مِنَ التَّخَيُّلَاتِ الشِّعْرِيَّةِ، وَتِلْكَ سَاذَجَةٌ غُفْلٌ مِنَ الْفَلْسَفَةِ الْجَدَلِيَّةِ عُطْلٌ مِنَ الْمُزَيِّنَاتِ الْخَيَالِيَّةِ، وَيَشْتَرِكَانِ فِي أَنَّ مُنْتَحِلِيهِمَا يَعْبُدُونَ ذَلِكَ الْمَخْلُوقَ الْمُدْرَكَ بِالْحَوَاسِّ وَيَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً حَتَّى عِنْدَ اشْتِدَادِ الْكَرْبِ وَالْبَأْسِ،
وَوَرَاءَهُمَا الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ الَّتِي هِيَ أَرْقَى دَرَجَاتِ الشِّرْكِ إِذْ هِيَ أَرَقُّهَا وَأَضْعَفُهَا، وَهِيَ أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى هُوَ الْخَالِقُ لِكُلِّ شَيْءِ، الْقَادِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءِ، الْمُتَصَرِّفِ فِي كُلِّ شَيْءٍ وَلَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ مِنْ دُونِهِ شَيْئًا، وَلَكِنْ لَهُ وُسَطَاءُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عِبَادِهِ يُقَرِّبُونَهُمْ إِلَيْهِ زُلْفَى وَيَشْفَعُونَ لَهُمْ عِنْدَهُ، فَهُوَ لِأَجْلِهِمْ يُعْطِي وَيَمْنَعُ، وَيَضُرُّ وَيَنْفَعُ، وَيَغْفِرُ وَيَرْحَمُ، وَيُوجِدُ وَيُعْدِمُ، وَهَذِهِ هِيَ الدَّرَجَةُ الَّتِي ارْتَقَتْ إِلَيْهَا وَثَنِيَّةُ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ، فَقَدْ حَكَى اللهُ تَعَالَى عَنْهُمْ فِي كِتَابِهِ أَنَّهُمْ يُقِرُّونَ بِأَنَّهُ هُوَ الْخَالِقُ لِكُلِّ شَيْءٍ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ، وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ فِيمَا اتَّخَذُوهُ مِنْ دُونِهِ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى) (39: 3) (هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللهِ)(10: 18) فَلَمَّا كَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّ لَهُمْ تَأْثِيرًا وَوَسَاطَةً فِي أَفْعَالِ اللهِ تَعَالَى - كَدَفْعِ الضُّرِّ وَجَلْبِ النَّفْعِ - يَدْعُونَهُمْ وَيُعَظِّمُونَهُمْ لِأَجْلِهَا، كَانَ دُعَاؤُهُمْ وَتَعْظِيمُهُمْ إِيَّاهُمْ عِبَادَةً، إِذْ لَا مَعْنًى لِلْعِبَادَةِ إِلَّا هَذَا، وَلَمَّا كَانُوا عِنْدَهُمْ غَيْرَ مُسْتَقِلِّينَ بِذَلِكَ مِنْ دُونِ اللهِ، وَكَانَ اللهُ تَعَالَى - بِزَعْمِهِمْ - غَيْرَ فَاعِلٍ ذَلِكَ بِمَحْضِ إِرَادَتِهِ الْأَزَلِيَّةِ مِنْ دُونِ شَفَاعَتِهِمْ وَوَسَاطَتِهِمْ - سُمُّوا شُرَكَاءَ لِلَّهِ.
وَأَمَّا التَّوْحِيدُ الْخَالِصُ فَهُوَ الْإِيمَانُ الْجَازِمُ بِأَنَّ اللهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ بِمَحْضِ إِرَادَتِهِ الْأَزَلِيَّةِ الْمُنَزَّهَةِ عَنْ تَأْثِيرِ الْحَوَادِثِ فِيهَا، وَأَنَّ جَمِيعَ الْخَلْقِ مُسَخَّرُونَ بِإِرَادَتِهِ وَتَدْبِيرِهِ، خَاضِعُونَ لِسُنَنِهِ وَتَقْدِيرِهِ، لَا يَمْلِكُ أَحَدٌ مِنْهُمْ لِنَفْسِهِ وَلَا لِغَيْرِهِ شَيْئًا إِلَّا فِي دَائِرَةِ الْأَسْبَابِ الَّتِي جَعَلَهَا بَيْنَهُمْ شَرَعَا، وَأَنَّ الْوَسَاطَةَ بَيْنَ اللهِ تَعَالَى وَعِبَادِهِ مَحْصُورَةٌ فِي تَبْلِيغِ رِسَالَتِهِ إِلَيْهِمْ دُونَ تَصَرُّفِهِ فِيهِمْ، وَأَنَّ شَفَاعَةَ الْآخِرَةَ لِلَّهِ وَحْدَهُ، يَأْذَنُ لِمَنْ شَاءَ إِذَا شَاءَ بِمَا شَاءَ مِنَ الدُّعَاءِ لِمَنْ يَشَاءُ مِمَّنِ ارْتَضَى. وَمِنْ دَلَائِلِ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى لِخَاتَمِ رُسُلِهِ:(لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ)(3: 128)(قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ)(3: 154)(قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ)(7: 188)(إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مِنْ يَشَاءُ)(28: 56)(قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا إِلَّا بَلَاغًا مِنَ اللهِ وَرِسَالَاتِهِ)(72: 21 - 23)(قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا)(39: 44)(مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ)(2: 255)(وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ)(21: 28) إِلَخْ. .
وَلَمَّا كَانَتْ تِلْكَ الْوَسَاطَةُ الشِّرْكِيَّةُ وَهْمِيَّةً لَا أَثَرَ لَهَا فِي الْوُجُودِ، وَإِنَّمَا هِيَ تَقَالِيدُ
مَوْرُوثَةٌ كَانَ أُولَئِكَ الْأَذْكِيَاءُ جَدِيرِينَ بِأَنْ يَنْسَوْهَا إِذَا جَدَّ الْجَدُّ وَعَظُمَ الْخَطْبُ كَالْحَالَتَيْنِ اللَّتَيْنِ ذَكَرَهُمَا اللهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَوْ مَا دُونَهُمَا كَالْحَالَةِ الَّتِي بَيَّنَهَا اللهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ: (فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ)(29: 65)
وَقَوْلُهُ: (وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ)(31: 32) وَمِثْلُهَا فِي " سُورَةِ يُونُسَ " الْآيَةَ 22 وَقَالَ تَعَالَى فِي " سُورَةِ الْإِسْرَاءِ ": (وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا)(17: 67) فَسَّرُوا الضَّلَالَ هُنَا بِالنِّسْيَانِ فَهُوَ بِمَعْنَى الْآيَةِ الَّتِي نُفَسِّرُهَا، وَأَمَّا ضَلَالُ آلِهَتِهِمْ عَنْهُمْ فِي الْآخِرَةِ فَقَدْ ذُكِرَ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ فِي سُوَرٍ مُتَفَرِّقَةٍ، وَيُرَادُ بِبَعْضِهَا غَيْبَتُهَا عَنْهُمْ بِعَدَمِ وُجُودِهَا مَعَهُمْ هُنَالِكَ وَحِرْمَانِهِمْ مِمَّا كَانُوا يَرْجُونَ مِنْ شَفَاعَتِهَا، لَا غَيْبَتُهَا عَنْ قُلُوبِهِمْ وَخَوَاطِرِهِمْ كَمَا هُوَ الْمُرَادُ هُنَا، وَرُوِيَ عَنْ بَعْضِ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ الْمُرَادَ بِنِسْيَانِهِمْ إِيَّاهَا جَعْلَهَا بِمَنْزِلَةِ الْمَنْسِيِّ بِعَدَمِ دُعَائِهَا، فَقَدْ ذَكَرَ الرَّازِيُّ فِي النِّسْيَانِ قَوْلَيْنِ، قَالَ:(الْأَوَّلُ) قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْمُرَادُ تَتْرُكُونَ الْأَصْنَامَ وَلَا تَدْعُونَهُمْ لِعِلْمِكُمْ أَنَّهَا لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ (الثَّانِي) قَالَ الزَّجَّاجُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى أَنَّكُمْ فِي تَرْكِكُمْ دُعَاءَهُمْ بِمَنْزِلَةِ مَنْ قَدْ نَسِيَهُمْ، وَهَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ؛ لِأَنَّهُ قَالَ: يُعْرِضُونَ عَنْهُ إِعْرَاضَ النَّاسِي. اهـ. أَقُولُ: لَمْ يَنْقِلِ ابْنُ جَرِيرٍ وَلَا ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفَاسِيرِهِمَا وَلَا السُّيُوطِيُّ فِي الدُّرِّ الْمَنْثُورِ شَيْئًا فِي الْآيَةِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَلَا الْحَسَنِ وَلَا غَيْرِهِمَا مِنْ مُفَسِّرِي الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ.
وَقَدِ اسْتَشْكَلَ الْمُفَسِّرُونَ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآيَةُ مِنْ جَوَازِ كَشْفِ عَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ وَعَذَابِ السَّاعَةِ عَنِ الْمُشْرِكِينَ بِدُعَائِهِمْ لِمُخَالَفَتِهِمْ لِمَا عُرِفَ مِنْ سَائِرِ النُّصُوصِ مَعَ قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ)(13: 14) وَأُجِيبُ بِأَنَّ مَا مَضَتْ بِهِ سُنَّتُهُ تَعَالَى فِي الْأُمَمِ وَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ النُّصُوصُ إِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ وُقُوعِ هَذَا الْكَشْفِ لَا عَلَى عَدَمِ جَوَازِهِ، وَقَدْ عَلَّقَ كَشْفَ ذَلِكَ هُنَا بِمَشِيئَتِهِ تَعَالَى، فَهُوَ يَقُولُ إِنَّهُ يَكْشِفُ ذَلِكَ إِنْ شَاءَ؛ لِأَنَّ مَشِيئَتَهُ نَافِذَةٌ حَتَّى فِي كَشْفِ عَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ وَأَهْوَالِ السَّاعَةِ، وَهُمَا النَّوْعَانِ اللَّذَانِ لَا تَتَعَلَّقُ قُدَرُ الْمَخْلُوقِينَ الْمَوْهُوبَةُ لَهُمْ مِنَ اللهِ تَعَالَى بِشَيْءٍ مِنْ أَمْرِهِمَا ; لِأَنَّهُمَا فَوْقَ الْأَسْبَابِ الَّتِي سَخَّرَهَا اللهُ تَعَالَى لِخَلْقِهِ، وَلَكِنَّهُ تَعَالَى لَا يَشَاءُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يُنَافِي حِكْمَتَهُ
وَتَقْدِيرَهُ الَّذِي جَرَتْ بِهِ سُنَنُهُ فِي الْأُمَمِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ أَيْضًا بِأَنَّ الْمُرَادَ بِإِتْيَانِ عَذَابِ اللهِ ظُهُورُ أَمَارَاتِهِ وَمُقَدِّمَاتِهِ، وَبِالسَّاعَةِ الْقِيَامَةُ الصُّغْرَى أَيِ الْمَوْتُ بِظُهُورِ عَلَامَاتِهِ وَنُزُولِ سَكَرَاتِهِ، وَالْإِيمَانُ يُقْبَلُ قَبْلَ وُصُولِ عَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ إِلَى مُسْتَحِقِّيهِ بِالْفِعْلِ وَقَبْلَ بُلُوغِ الرُّوحِ الْحُلْقُومَ مِنَ الْمُحْتَضِرِ، وَقِيلَ: إِنَّ بَعْضَ كُرُوبِ السَّاعَةِ تُكْشَفُ حَتَّى عَنِ الْكُفَّارِ كَكَرْبِ طُولِ الْوُقُوفِ بِالشَّفَاعَةِ الْعُظْمَى، وَلَكِنَّ هَذَا لَا يَصِحُّ جَوَابًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ بِدُعَائِهِمْ.
وَمِنْ مَبَاحِثِ اخْتِلَافِ الْأَدَاءِ فِي الْقِرَاءَةِ أَنَّ نَافِعًا قَرَأَ أَرَأَيْتَ وَأَرَأَيْتُمْ - بِكَافٍ وَبِغَيْرِ كَافٍ فِي جَمِيعِ الْقُرْآنِ - بِتَسْهِيلِ الْهَمْزَةِ الثَّانِيَةِ بِأَنْ جَعَلَهَا بَيْنَ الْهَمْزَةِ وَالْأَلِفِ، وَقَرَأَ الْكِسَائِيُّ
بِحَذْفِهَا وَالْبَاقُونَ بِإِثْبَاتِهَا، وَهِيَ لُغَاتٌ لِلْعَرَبِ مَعْرُوفَةٌ، وَمِنْ شَوَاهِدَ حَذْفِ الْهَمْزَةِ (سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ) (2: 211) أَصْلُهَا: اسْأَلْ. وَمِنْهَا فِي الشِّعْرِ
إِنْ لَمْ أُقَاتِلْ فَالْبِسُونِي بُرْقُعًا
أَصْلُهُ فَأَلْبِسُونِي.
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ) أَقْسَمَ اللهُ تَعَالَى لِرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ أَرْسَلَ رُسُلًا قَبْلَهُ إِلَى أُمَمٍ قَبْلَ أُمَّتِهِ فَكَانُوا أَرْسَخَ مِنْ قَوْمِهِ فِي الشِّرْكِ وَأَشَدَّ مِنْهُمْ إِصْرَارًا عَلَى الظُّلْمِ، فَإِنَّ قَوْمَهُ يَدْعُونَ اللهَ تَعَالَى وَحْدَهُ عِنْدَ شِدَّةِ الضِّيقِ وَيَنْسَوْنَ مَا اتَّخَذُوهُ مِنْ دُونِهِ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ وَالْأَنْدَادِ، وَأَمَّا تِلْكَ الْأُمَمُ فَلَمْ تُلِنِ الشَّدَائِدُ قُلُوبَهُمْ، وَلَمْ تُصْلِحْ مَا أَفْسَدَ الشَّيْطَانُ مِنْ فِطْرَتِهِمْ.
الْأَخْذُ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ عِبَارَةٌ عَنْ إِنْزَالِهِمَا بِهِمْ، وَأَخْذُ الشَّيْءِ يُطْلَقُ عَلَى حَوْزِهِ وَتَحْصِيلِهِ بِالتَّنَاوُلِ وَالْمِلْكِ أَوِ الِاسْتِيلَاءِ وَالْقَهْرِ، وَقَدْ يُسْنَدُ هَذَا إِلَى الْأَسْبَابِ غَيْرِ الْفَاعِلَةِ الْمُرِيدَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:(أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ - فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ - فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ - فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ. . الصَّاعِقَةُ. . الرَّجْفَةُ) وَالْبَأْسَاءُ: اسْمٌ يُطْلَقُ عَلَى الْحَرْبِ وَالْمَشَقَّةِ. وَالْبَأْسُ: الشِّدَّةُ فِي الْحَرْبِ، وَالْخَوْفُ فِي الشِّدَّةِ، وَالْعَذَابُ الشَّدِيدُ، وَالْقُوَّةُ، وَالشَّجَاعَةُ، وَالْبُؤْسُ، وَالْخُضُوعُ، وَالْفَقْرُ كَذَا فِي لِسَانِ الْعَرَبِ وَقَالَ الرَّاغِبُ: الْبُؤْسُ وَالْبَأْسُ. وَالْبَأْسَاءُ: الشِّدَّةُ وَالْمَكْرُوهُ، إِلَّا أَنَّ الْبُؤْسَ فِي الْفَقْرِ وَالْحَرْبِ أَكْثَرُ، وَالْبَأْسُ وَالْبَأْسَاءُ فِي النِّكَايَةِ، وَأَوْرَدَ الشَّوَاهِدَ عَلَى ذَلِكَ، وَالضَّرَّاءُ فَعْلَاءُ مِنَ الضُّرِّ - وَهُوَ ضِدُّ النَّفْعِ وَتُطْلَقُ عَلَى السَّنَةِ - أَيِ الْجَدْبِ - وَالْأَذَى وَسُوءِ الْحَالِ حِسِّيًّا كَانَ أَوْ مَعْنَوِيًّا كَالسَّرَّاءِ مِنَ السُّرُورِ، وَهِيَ ضِدُّهَا الَّتِي
تُقَابِلُهَا كَالنَّعْمَاءِ، وَأَمَّا الضُّرُّ فَيُقَابِلُهُ النَّفْعُ، وَفَسَّرَ ابْنُ جَرِيرٍ الْبَأْسَاءَ بِشِدَّةِ الْفَقْرِ وَالضِّيقِ فِي الْمَعِيشَةِ، وَالضَّرَّاءَ بِالْأَسْقَامِ وَالْعِلَلِ الْعَارِضَةِ فِي الْأَجْسَامِ، وَنَقَلَ نَحْوَهُ الرَّازِيُّ عَنِ الْحَسَنِ، وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّ الْبَأْسَاءَ خَوْفُ السُّلْطَانِ وَغَلَاءُ السِّعْرِ، وَالْأَقْوَالُ فِي الْكَلِمَتَيْنِ مُتَقَارِبَةٌ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا - كَمَا أَفْهَمُ - أَنَّ الْبَأْسَاءَ مَا يَقَعُ فِي الْخَارِجِ مِنَ الْأُمُورِ الشَّدِيدَةِ الْوَقْعِ عَلَى مَنْ يَمَسُّهُ تَأْثِيرُ الْحَرْبِ الْحَاضِرَةِ الْآنَ، فَإِنَّ وَقْعَهَا أَلِيمٌ شَدِيدٌ عَلَى مَنْ أُصِيبُوا بِفَقْدِ أَوْلَادِهِمْ، أَوْ تَخْرِيبِ بِلَادِهِمْ، أَوْ ضِيقِ مَعَايِشِهِمْ، وَأَمَّا الضَّرَّاءُ فَهِيَ كُلُّ مَا يُؤْلِمُ النَّفْسَ أَلَمًا شَدِيدًا سَوَاءٌ كَانَ سَبَبُهُ نَفْسِيًّا أَوْ بَدَنِيًّا أَوْ خَارِجِيًّا - فَعَلَى هَذَا تَكُونُ الْبَأْسَاءُ مِنْ أَسْبَابِ الضَّرَّاءِ، وَقَالُوا: إِنَّهُمَا جَاءَتَا عَلَى وَزْنِ حَمْرَاءَ، وَلَمْ يَرِدْ فِي مُذَكَّرِهِمَا وَزْنُ أَحْمَرَ صِفَةً، بَلْ وَرَدَ اسْمُ تَفْضِيلٍ، وَالتَّضَرُّعُ إِظْهَارُ الضَّرَاعَةِ بِتَكَلُّفٍ أَوْ تَكَثُّرٍ، وَهِيَ الضَّعْفُ أَوِ الذُّلُّ وَالْخُضُوعُ.
وَمَعْنَى الْآيَةِ: نُقْسِمُ أَنَّنَا قَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَدَعَوْهُمْ إِلَى تَوْحِيدِنَا وَعِبَادَتِنَا فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ، فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ ابْتِلَاءٍ وَاخْتِبَارٍ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ؛ لِيَكُونَ ذَلِكَ مُعِدًّا لَهُمْ لِلْإِيمَانِ لِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ - بِحَسَبِ طِبَاعِ الْبَشَرِ وَأَخْلَاقِهِمْ - مِنَ التَّضَرُّعِ وَالْجُؤَارِ بِالدُّعَاءِ لِرَبِّهِمْ، إِذْ مَضَتْ سُنَّتُنَا بِجَعْلِ الشَّدَائِدِ مُرَبِّيَةً لِلنَّاسِ بِمَا تُرْجِعُ الْمَغْرُورِينَ عَنْ غُرُورِهِمْ، وَتَكُفُّ الْفُجَّارَ
عَنْ فُجُورِهِمْ، فَمَا أَجْدَرَهَا بِإِرْجَاعِ أَهْلِ الْأَوْهَامِ، عَنْ دُعَاءِ أَمْثَالِهِمْ مِنَ الْبَشَرِ وَمَا دُونَهُمْ مِنَ الْأَصْنَامِ، وَلَكِنْ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَصِلُ إِلَى غَايَةٍ مِنَ الشِّرْكِ وَالْفِسْقِ لَا يُزِيلُهَا بَأْسٌ، وَلَا يُزَلْزِلُهَا بُؤْسٌ، فَلَا تَنْفَعُ مَعَهُمُ الْعِبَرُ وَلَا تُؤَثِّرُ فِيهِمُ الْغِيَرُ، وَكَانَ أُولَئِكَ الْأَقْوَامُ مِنْهُمْ، وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى فِيهِمْ:
(فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا) جَعَلَ ابْنُ جَرِيرٍ " لَوْلَا " هُنَا لِلتَّحْضِيضِ بِمَعْنَى " هَلَّا "، وَجَعَلَهَا الْجُمْهُورُ نَافِيَةً، أَيْ فَهَلَّا تَضَرَّعُوا خَاشِعِينَ لَنَا تَائِبِينَ إِلَيْنَا عِنْدَمَا جَاءَهُمُ الْبَئِيسُ مِنْ عَذَابِنَا، فَرَأَوْا بَوَادِرَهُ وَحَذِرُوا أَوَاخِرَهُ، لِنَكْشِفَهُ عَنْهُمْ قَبْلَ أَنْ يُحِيطَ بِهِمْ؟ أَوْ فَمَا خَشَعُوا وَلَا تَضْرَّعُوا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا (وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ) فَكَانَتْ أَقْسَى مِنَ الْحَجَرِ، إِذْ لَمْ تُؤَثِّرْ فِيهَا النُّذُرُ (وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) مِنَ الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي بِمَا يُوَسْوِسُ إِلَيْهِمْ مِنْ تَحْسِينِ الثَّبَاتِ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِمْ آبَاؤُهُمْ
وَأَجْدَادُهُمْ، وَتَقْبِيحِ الطَّاعَةِ وَالِانْقِيَادِ إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ لَا مَزِيَّةَ لَهُ عَلَيْهِمْ. وَقَدْ فَصَّلْنَا الْقَوْلَ مِنْ قَبْلُ فِي تَزْيِينِ أَعْمَالِ النَّاسِ إِلَيْهِمْ وَمَا يُنْسَبُ مِنْهَا إِلَى الشَّيْطَانِ لِقُبْحِهِ، وَمَا يُنْسَبُ إِلَى اللهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ تَعْبِيرٌ عَنْ خَلْقِهِ وَتَقْدِيرِهِ وَسُنَنِهِ فِي عِبَادِهِ، وَمَا يُحْسِنُ إِسْنَادُهُ إِلَى الْمَجْهُولِ، فَيُرَاجِعُ فِي تَفْسِيرِ (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ 3: 14) مِنْ جُزْءِ التَّفْسِيرِ الثَّالِثِ [رَاجِعْ ص 196 وَمَا بَعْدَهَا ج 3 ط الْهَيْئَةِ] .
(فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كَلِّ شَيْءٍ) أَيْ: فَلَمَّا أَعْرَضُوا عَمَّا أَنْذَرَهُمْ وَوَعَظَهُمْ بِهِ الرُّسُلُ، وَتَرَكُوا الِاهْتِدَاءَ بِهِ حَتَّى نَسَوْهُ أَوْ جَعَلُوهُ كَالْمَنْسِيِّ فِي عَدَمِ الِاعْتِبَارِ وَالِاتِّعَاظِ بِهِ - لِإِصْرَارِهِمْ عَلَى كُفْرِهِمْ، وَجُمُودِهِمْ عَلَى تَقْلِيدِ مَنْ قَبْلَهُمْ، بَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ بِمَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ مِنْ أَبْوَابِ كُلِّ شَيْءٍ مِنْ أَنْوَاعِ سَعَةِ الرِّزْقِ وَرَخَاءِ الْعَيْشِ وَصِحَّةِ الْأَجْسَامِ وَالْأَمْنِ عَلَى الْأَنْفُسِ وَالْأَمْوَالِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي قَوْمِ مُوسَى:(وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)(7: 168) فَلَمْ يَتَرَبَّوْا بِالنِّعَمِ، وَلَا شَكَرُوا الْمُنْعِمَ، بَلْ أَفَادَتْهُمُ النِّعَمُ فَرَحًا وَبَطَرًا كَمَا أَفَادَتْهُمُ الشَّدَائِدُ قَسْوَةً وَأَشَرًا (حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا) مِنْهَا، وَفَسَقُوا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ بَطَرًا وَغُرُورًا بِهَا (أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ) أَيْ: أَخَذْنَاهُمْ بِعَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ حَالَ كَوْنِنَا مُبَاغِتِينَ لَهُمْ أَوْ حَالَ كَوْنِهِمْ مَبْغُوتِينَ إِذْ فَجَأَهُمْ عَلَى غِرَّةٍ مِنْ غَيْرِ سَبْقِ أَمَارَةٍ وَلَا إِمْهَالٍ لِلِاسْتِعْدَادِ أَوْ لِلْهَرَبِ فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ، أَيْ مُتَحَسِّرُونَ يَائِسُونَ مِنَ النَّجَاةِ أَوْ هَالِكُونَ مُنْقَطِعَةٌ حُجَجُهُمْ، وَالْإِبْلَاسُ فِي اللُّغَةِ: الْيَأْسُ وَالْقُنُوطُ مِنَ الْخَيْرِ وَالرَّحْمَةِ، وَالتَّحَيُّرِ: الدَّهْشَةُ، وَانْقِطَاعُ الْحُجَّةِ، وَالسُّكُوتُ مِنَ الْحُزْنِ أَوِ الْخَوْفِ وَالْغَمِّ، وَاسْتَشْهَدُوا لَهُ بِقَوْلِ الْعَجَّاجِ:
يَا صَاحِ هَلْ تَعْرِفُ رَسْمًا مُكْرَسَا
…
قَالَ نَعَمْ أَعْرِفُهُ وَأَبْلَسَا
وَلِقَوْلِهِمْ: أَبْلَسَتِ النَّاقَةُ إِذَا لَمْ تَرْغُ مِنْ شِدَّةِ الضَّبَعَةِ، وَهِيَ بِالتَّحْرِيكِ شِدَّةُ شَهْوَةِ الْفَحْلِ، يُقَالُ: ضَبِعَتِ النَّاقَةُ ضَبَعًا وَضَبَعَةً (مِنْ بَابِ فَرِحَ) .
وَالْآيَةُ تُفِيدُ أَنَّ الْبَأْسَاءَ وَالضَّرَّاءَ، وَمَا يُقَابِلُهُمَا مِنَ السَّرَّاءِ وَالنَّعْمَاءِ مِمَّا يَتَرَبَّى وَيَتَهَذَّبُ بِهِ الْمُوَفَّقُونَ مِنَ النَّاسِ، وَإِلَّا كَانَتِ النِّعَمُ أَشَدَّ وَبَالًا عَلَيْهِمْ مِنَ النِّقَمِ وَهَذَا ثَابِتٌ بِالِاخْتِبَارِ، فَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ الشَّدَائِدَ مُصْلِحَةٌ لِلْفَسَادِ، وَأَجْدَرُ النَّاسِ بِالِاسْتِفَادَةِ مِنَ
الْحَوَادِثِ الْمُؤْمِنُ، كَمَا ثَبَتَ فِي حَدِيثِ صُهَيْبٍ مَرْفُوعًا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ " عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ لَهُ خَيْرٌ وَلَيْسَ ذَلِكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ؛ إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ " وَقَدْ بَيَّنَّا وَجْهَ اسْتِفَادَةِ الْمُؤْمِنِ مِنَ الشَّدَائِدِ فِي تَفْسِيرِ الْآيَاتِ الَّتِي نَزَلَتْ فِي شَأْنِ غَزْوَةِ أُحُدٍ مِنْ " سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ "، وَهَاكَ بَعْضُ مَا رَوَوْهُ فِي ذَلِكَ مِنَ الْآثَارِ، قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ:
" قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: مَنْ وَسَّعَ اللهُ عَلَيْهِ فَلَمْ يَرَ أَنَّهُ يَمْكُرُ بِهِ فَلَا رَأْيَ لَهُ، وَمَنْ قَتَّرَ عَلَيْهِ فَلَمْ يَرَ أَنَّهُ يَنْظُرُ لَهُ فَلَا رَأْيَ لَهُ. ثُمَّ قَرَأَ:(فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ) الْآيَةَ. قَالَ الْحَسَنُ: مُكِرَ بِالْقَوْمِ وَرَبَّ الْكَعْبَةِ، أُعْطُوا حَاجَتَهُمْ ثُمَّ أُخِذُوا. رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ. وَقَالَ قَتَادَةُ. بَغَتَ الْقَوْمَ أَمْرُ اللهِ، مَا أَخَذَ اللهُ قَوْمًا قَطُّ إِلَّا عِنْدَ سَكْرَتِهِمْ وَغِرَّتِهِمْ وَنِعْمَتِهِمْ، فَلَا تَغْتَرُّوا بِاللهِ، فَإِنَّهُ لَا يَغْتَرُّ بِاللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ. رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ أَيْضًا. وَقَالَ مَالِكٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ (فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ) قَالَ: رَخَاءَ الدُّنْيَا وَسَتْرَهَا.
وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ غَيْلَانَ، حَدَّثَنَا رِشْدِينُ بْنُ سَعْدٍ أَبُو الْحَجَّاجِ الْمَهْرِيُّ، عَنْ حَرْمَلَةَ بْنِ عِمْرَانَ التُّجِيبِيِّ عَنْ عُقْبَةَ، عَنْ مُسْلِمٍ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:" إِذَا رَأَيْتَ اللهَ يُعْطِي الْعَبْدَ مِنَ الدُّنْيَا عَلَى مَعَاصِيهِ مَا يُحِبُّ فَإِنَّمَا هُوَ اسْتِدْرَاجٌ " ثُمَّ تَلَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ) الْآيَةَ وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، مِنْ حَدِيثِ حَرْمَلَةَ وَابْنِ لَهِيعَةَ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ بِهِ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثْنَا هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ، حَدَّثَنَا عِرَاكُ بْنُ خَالِدِ بْنِ يَزِيدَ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَبِي عَبْلَةَ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ:" إِذَا أَرَادَ اللهُ بِقَوْمٍ اقْتِطَاعًا فَتَحَ لَهُمْ أَوْ فَتَحَ عَلَيْهِمْ بَابَ خِيَانَةٍ (حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ) " كَمَا قَالَ: (فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ. اهـ.
وَسَيُعَادُ هَذَا الْبَحْثُ فِي تَفْسِيرِ " سُورَةِ الْأَعْرَافِ 7: 94 " وَمَا يَلِيهَا مِنْ آيَاتٍ وَغَيْرِهَا مِمَّا فِي مَعْنَاهَا.
وَمِنْ مَبَاحِثِ اللَّفْظِ النَّحْوِيَّةِ أَنَّ " إِذَا " مِنْ قَوْلِهِ: (فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ) هِيَ الَّتِي يُسَمُّونَهَا الْفُجَائِيَّةَ لِإِفَادَتِهَا تَرَتُّبُ مَا بَعْدَهَا عَلَى مَا قَبْلَهَا فَجْأَةً، وَهِيَ حَرْفٌ عِنْدَ الْكُوفِيِّينَ، وَظَرْفُ زَمَانٍ
أَوْ مَكَانٍ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ (قَوْلَانِ) مَنْصُوبَةٌ بِخَبَرِ الْمُبْتَدَأِ، فَالْمَعْنَى عَلَيْهِ هُنَا أَنَّهُمْ أَبْلَسُوا فِي مَكَانِ إِقَامَتِهِمْ أَوْ فِي زَمَانِهَا، عَلَى أَنَّ الْفَاءَ وَحْدَهَا تُفِيدُ التَّعْقِيبَ، وَهُوَ تَرَتُّبُ مَا بَعْدَهَا عَلَى مَا قَبْلَهَا مِنْ غَيْرِ فَاصِلٍ، وَلَكِنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ " فَهُمْ مُبْلِسُونَ " وَبَيْنَ " فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ " عَظِيمٌ، لَا يَخْفَى عَلَى ذِي ذَوْقٍ سَلِيمٍ. فَذَاكَ خَبَرٌ مُجَرَّدٌ، وَهَذَا تَمْثِيلٌ لِمَعْنًى مُؤَكَّدٍ مُجَدَّدٍ.
(فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا) أَيْ فَهَلَكَ أُولَئِكَ الْقَوْمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بِتَكْذِيبِ الرُّسُلِ وَالْإِصْرَارِ عَلَى الشِّرْكِ وَأَعْمَالِهِ، وَاسْتُؤْصِلُوا فَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ أَحَدٌ. كَنَّى عَنْ ذَلِكَ بِقَطْعِ دَابِرِهِمْ، وَهُوَ آخَرُ الْقَوْمِ الَّذِي يَكُونُ فِي أَدْبَارِهِمْ، وَقِيلَ: دَابِرُهُمْ أَصْلُهُمْ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ السُّدِّيِّ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ، وَالْأَصْمَعِيِّ مِنْ نَقَلَةِ اللُّغَةِ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ، وَالْمَعْنَى عَلَى الْقَوْلَيْنِ وَاحِدٌ، وَوَضَعَ الْمُظْهَرَ الْمَوْصُوفَ بِالْمَوْصُولِ مَوْضِعَ الْمُضْمَرِ؛ لِلْإِشْعَارِ بِعِلَّةِ الْإِهْلَاكِ وَسَبَبِهِ وَهُوَ الظُّلْمُ، وَلَا بُدَّ مِنْ زُهُوقِ الْبَاطِلِ فَظُهُورِ الْحَقِّ.
(وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) أَيْ: وَالثَّنَاءُ الْحَسَنُ فِي ذَلِكَ الَّذِي جَرَى مِنْ نَصْرِ اللهِ تَعَالَى لِرُسُلِهِ بِإِظْهَارِ حُجَجِهِمْ، وَتَصْدِيقِ نُذُرِهِمْ، وَإِهْلَاكِ الْمُشْرِكِينَ الظَّالِمِينَ، وَإِرَاحَةِ الْأَرْضِ مِنْ شِرْكِهِمْ وَظُلْمِهِمْ - ثَابِتٌ وَمُسْتَحَقٌّ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الْمُدَبِّرِ لِأُمُورِهِمُ، الْمُقِيمِ لِأَمْرِ اجْتِمَاعِهِمْ بِحِكْمَتِهِ الْبَالِغَةِ، وَسُنَنِهِ الْعَادِلَةِ. فَهَذِهِ الْجُمْلَةُ بَيَانٌ لِلْحَقِّ الْوَاقِعِ مِنْ كَوْنِ الْحَمْدِ وَالثَّنَاءِ عَلَى ذَلِكَ مُسْتَحَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى وَحْدَهُ، وَإِرْشَادٌ لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ، يُذَكِّرُهُمْ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ مِنْ حَمْدِهِ عَلَى نَصْرِ الْمُرْسَلِينَ الْمُصْلِحِينَ، وَقَطْعِ دَابِرِ الظَّالِمِينَ الْمُفْسِدِينَ، وَحَمْدِهِ فِي عَاقِبَةِ كُلِّ أَمْرٍ، وَخَاتِمَةِ كُلِّ عَمَلٍ كَمَا قَالَ فِي عِبَادِهِ الْمُتَّقِينَ:(وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)(10: 10) وَسَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ الْأَمْرُ الَّذِي تَمَّ مِنَ السَّرَّاءِ أَوِ الضَّرَّاءِ فَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا عِبْرَةً وَفَائِدَةً، وَنِعْمَةً ظَاهِرَةً أَوْ بَاطِنَةً.
(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ) .
إِنَّ الْقَوْلَ فِي مُنَاسَبَةِ هَذِهِ الْآيَاتِ لِمَا قَبْلَهَا كَالْقَوْلِ فِيمَا قَبْلَهَا سَوَاءٌ، فَهِيَ ضَرْبٌ مِنْ ضُرُوبِ الدَّعْوَةِ إِلَى التَّوْحِيدِ وَالرِّسَالَةِ بِوَجْهٍ آخَرَ مِنْ وُجُوهِ الِاحْتِجَاجِ،، قَالَ تَعَالَى:
(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِهْ) أَيْ قُلْ أَيُّهَا الرَّسُولُ لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ الْمُكَذِّبِينَ بِكَ وَبِمَا جِئْتَ مِنَ التَّوْحِيدِ وَالْهُدَى: أَرَأَيْتُمْ مَاذَا يَكُونُ مِنْ شَأْنِكُمْ مِنْ آلِهَتِكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَهُمْ رَاجِينَ شَفَاعَتَهُمْ إِنْ أَصَمَّكُمُ اللهُ تَعَالَى فَذَهَبَ بِسَمْعِكُمْ، وَأَعْمَالِكُمْ فَذَهَبَ بِأَبْصَارِكُمْ، وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَأَلْبَابِكُمُ الَّتِي هِيَ مَرَاكِزُ الْفَهْمِ وَالشُّعُورِ وَالْعَقْلِ مِنْ أَنْفُسِكُمْ، فَأَصْبَحْتُمْ لَا تَسْمَعُونَ قَوْلًا وَلَا تُبْصِرُونَ طَرِيقًا، وَلَا تَعْقِلُونَ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا،، وَلَا تُدْرِكُونَ حَقًّا وَلَا بَاطِلًا - مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِذَلِكَ، أَوْ بِمَا ذُكِرَ مِمَّا أَخَذَ اللهُ مِنْكُمْ؟ أَيْ: لَا إِلَهَ غَيْرُهُ يَقْدِرُ عَلَى إِتْيَانِكُمْ بِهِ. وَلَوْ كَانَ مَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ مِنَ الْأَنْدَادِ وَالْأَوْلِيَاءِ آلِهَةً لَقَدَرُوا عَلَى ذَلِكَ، وَإِذَا كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّهُمْ لَا يَقْدِرُونَ، فَلِمَاذَا تَدْعُونَهُمْ وَالدُّعَاءُ عِبَادَةٌ لَا يَكُونُ إِلَّا لِلْإِلَهِ الْقَدِيرِ؟ (انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ) أَيِ: انْظُرْ كَيْفَ نُنَوِّعُ الْحُجَجَ وَالْبَيِّنَاتِ الْكَثِيرَةِ وَنَجْعَلُهَا عَلَى وُجُوهٍ شَتَّى لِيَتَذَكَّرُوا وَيَقْتَنِعُوا، فَيُنِيبُوا وَيَرْجِعُوا، ثُمَّ هُمْ يُعْرِضُونَ عَنْهَا، وَيَتَجَنَّبُونَ التَّأَمُّلَ فِيهَا، يُقَالُ: صَدَفَ عَنِ الشَّيْءِ صَدْفًا وَصُدُوفًا إِذَا أَعْرَضَ إِعْرَاضًا شَدِيدًا، وَقِيلَ: إِنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ صَدَفَةِ الْجَبَلِ أَيْ جَانِبِهِ وَمُنْقَطَعِهِ. وَالْعَطْفُ بِ " ثُمَّ " يُفِيدُ الِاسْتِبْعَادَ ; لِأَنَّ تَصْرِيفَ الْآيَاتِ وَالدَّلَائِلِ
سَبَبُ غَايَةِ الْإِقْبَالِ، فَكَانَ مِنَ الْمُسْتَبْعَدِ فِي الْمُعْتَادِ وَالْمَعْقُولِ أَنْ يَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ مُنْتَهَى الْإِعْرَاضِ، وَقَدْ سَبَقَ مِثْلُ هَذَا فِي أَوَّلِ السُّورَةِ، وَيَلِيهِ فِي أَوَائِلِهَا الْكَلَامُ فِي إِعْرَاضِهِمْ عَنِ الْآيَاتِ، وَقَدْ فَصَّلْنَا الْقَوْلَ فِي تَفْسِيرِهِ تَفْصِيلًا.
(قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ) أَيْ: قُلْ أَيُّهَا الرَّسُولُ لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ الظَّالِمِينَ: أَرَأَيْتَكُمْ أَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ كَيْفَ يَكُونُ شَأْنُكُمْ - أَوْ أَخْبِرُونِي عَنْ مَصِيرِكُمْ - إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللهِ الَّذِي مَضَتْ سُنَّتُهُ فِي الْأَوَّلِينَ، بِإِنْزَالِهِ بِأَمْثَالِكُمْ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الْمُعَانِدِينَ، مُبَاغِتًا وَمُفَاجِئًا لَكُمْ - أَوْ إِتْيَانَ مُبَاغَتَةٍ - فَأَخَذَكُمْ عَلَى غِرَّةٍ لَمْ تَتَقَدَّمْهُ أَمَارَةٌ تُشْعِرُكُمْ بِقُرْبِ نُزُولِهِ بِكُمْ، أَوْ أَتَاكُمْ ظَاهِرًا مُجَاهِرًا - أَوْ إِتْيَانَ جَهْرَةٍ - بِحَيْثُ تَرَوْنَ مَبَادِيهِ وَمُقَدِّمَاتِهِ بِأَبْصَارِكُمْ، هَلْ يُهْلَكُ بِهِ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ مِنْكُمْ وَهُمُ الْمُصِرُّونَ عَلَى الشِّرْكِ وَأَعْمَالِهِ عِنَادًا وَجُحُودًا، إِذْ مَضَتْ سُنَّتُهُ تَعَالَى فِي مِثْلِ هَذَا الْعَذَابِ أَنْ يُنْجِيَ مِنْهُ الرُّسُلَ وَمَنِ اتَّبَعَهُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: لَا يَهْلِكُ بِهِ غَيْرُكُمْ، وَإِنَّمَا تَهْلِكُونَ بِظُلْمِكُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَجِنَايَتِكُمْ عَلَيْهَا. وَقَدْ ظَنَّ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ هَذَا مِنَ الْعَذَابِ الَّذِي يَكُونُ عَامًّا، يُؤْخَذُ فِيهِ غَيْرُ الظَّالِمِ بِجَرِيرَةِ الظَّالِمِ، كَالْمَصَائِبِ الَّتِي تَحِلُّ بِالْأُمَمِ مِنْ جَرَّاءَ ظُلْمِهِمْ وَفُجُورِهِمُ الَّذِي يُفْضِي إِلَى ضَعْفِهِمْ وَالِاعْتِدَاءِ عَلَى اسْتِقْلَالِهِمْ، أَوْ إِلَى تَفَشِّي الْأَمْرَاضِ أَوِ الْمَجَاعَاتِ فِيهِمْ، فَتَكَلَّفُوا فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ تَكَلُّفًا يُصَحِّحُونَ بِهِ ظَنَّهُمْ، فَزَعَمُوا أَنَّ هَلَاكَ غَيْرِ الظَّالِمِ بِهَذَا الْعَذَابِ لَا يُنَافِي الْحَصْرَ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ عَذَابًا فِي الظَّاهِرِ فَقَطْ.
وَأَمَّا فِي الْبَاطِنِ وَالْحَقِيقَةِ فَهُوَ سَعَادَةٌ لِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنَ الثَّوَابِ وَالدَّرَجَاتِ الرَّفِيعَةِ، وَمِنْ أَشْهَرِ هَؤُلَاءِ الظَّانِّينَ فِي الْآيَةِ غَيْرَ الْحَقِّ: الرَّازِيُّ وَالطَّبَرَسِيُّ. وَيَدُلُّ عَلَى مَا اخْتَرْنَاهُ مَا ذُكِرَ مِنَ الْجَزَاءِ عَلَى تَكْذِيبِ الرُّسُلِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
(وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ) أَيْ: تِلْكَ سُنَّتُنَا فِي إِهْلَاكِ الْمُكَذِّبِينَ لِلرُّسُلِ: مَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَيْهِمْ إِلَّا مُبَشِّرِينَ مَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ عَمَلًا بِالْجَزَاءِ الْحَسَنِ اللَّائِقِ بِهِمْ، وَمُنْذِرِينَ مَنْ أَصَرَّ عَلَى الشِّرْكِ وَالْإِفْسَادِ فِي الْأَرْضِ بِالْجَزَاءِ السَّيِّئِ الَّذِي يَسْتَحِقُّونَهُ (فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) أَيْ: فَلَا خَوْفٌ
عَلَيْهِمْ مِنْ عَذَابِ الدُّنْيَا الَّذِي يَنْزِلُ بِالْجَاحِدِينَ، وَلَا مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ الَّذِي أَعَدَّهُ اللهُ لِلْكَافِرِينَ، وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ يَوْمَ لِقَاءِ اللهِ تَعَالَى عَلَى شَيْءٍ فَاتَهُمْ ; لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى يَقِيهِمْ مِنْ كُلِّ فَزَعٍ:(وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ)(75: 22، 23)(وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ)(80: 38، 39) وَلَكَ أَنْ تَقُولَ: إِنَّ هَؤُلَاءِ الْكَمَلَةَ لَا يَحْزَنُونَ فِي الدُّنْيَا أَيْضًا مِمَّا يَحْزَنُ مِنْهُ الْكُفَّارُ وَالْفُسَّاقُ كَفَوَاتِ شَهَوَاتِ الدُّنْيَا وَلَذَّاتِهَا، أَوْ لَا يَكُونُ حُزْنُهُمْ كَحُزْنِهِمْ فِي شِدَّتِهِ وَطُولِ أَمَدِهِ، فَإِنَّهُمْ إِذَا عَرَضَ لَهُمُ الْحُزْنُ لِسَبَبٍ صَرِيحٍ كَمَوْتِ الْوَلَدِ، وَالْقَرِيبِ، وَالصَّدِيقِ، أَوْ فَقْدِ الْمَالِ، وَقِلَّةِ النَّصِيرِ - يَكُونُ حُزْنُهُمْ رَحْمَةً وَعِبْرَةً، مَقْرُونًا بِالصَّبْرِ وَحُسْنِ الْأُسْوَةِ، لَا يَضُرُّهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ وَلَا أَبْدَانِهِمْ، وَلَا يُغَيِّرُ شَيْئًا مِنْ عَادَاتِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ، فَالْإِيمَانُ بِاللهِ يَعْصِمُهُمْ مِنْ إِرْهَاقِ الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ، وَمِنْ بَطَرِ السَّرَّاءِ وَالنَّعْمَاءِ، عَمَلًا بِقَوْلِهِ عز وجل:(مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ)(57: 23) .
(وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ) أَيْ: وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا الَّتِي أَرْسَلْنَا بِهَا الرُّسُلَ يُصِيبُهُمُ الْعَذَابُ فِي الدُّنْيَا أَحْيَانًا، وَلَا سِيَّمَا عِنْدَ الْجُحُودِ وَالْعِنَادِ الَّذِي يَكُونُ فِي الْمَجْمُوعِ دُونَ بَعْضِ الْأَفْرَادِ، وَفِي الْآخِرَةِ عَلَى سَبِيلِ الشُّمُولِ وَالِاطِّرَادِ، وَذَلِكَ بِسَبَبِ فِسْقِهِمْ، أَيْ كُفْرِهِمْ وَإِفْسَادِهِمْ، فَهَؤُلَاءِ قَدْ ذُكِرُوا فِي مُقَابِلِ الَّذِينَ آمَنُوا وَأَصْلَحُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَعْمَالَهُمْ وَمُعَامَلَاتِهِمْ، فَالتَّكْذِيبُ يُقَابِلُ الْإِيمَانَ، وَالْفِسْقُ يُقَابِلُ الْإِصْلَاحَ، وَإِنْ كَانَ أَعَمَّ مِنْهُ فِي اللُّغَةِ وَالِاصْطِلَاحِ، فَهُوَ يُطْلَقُ عَلَى الْكُفْرِ وَالْخُرُوجِ مِنَ الطَّاعَةِ، وَفَسَّرَ ابْنُ زَيْدٍ الْفِسْقَ بِالْكَذِبِ هُنَا وَفِي كُلِّ الْقُرْآنِ، وَهُوَ تَفْسِيرٌ غَيْرُ مُسَلَّمٍ.
وَالْمَسُّ: اللَّمْسُ بِالْيَدِ وَمَا يُدْرَكُ بِهِ، وَيُطْلَقُ عَلَى مَا يُصِيبُ الْمُدْرِكَ مِمَّا يَسُوءُهُ غَالِبًا مِنْ ضُرٍّ، وَشَرٍّ، وَكِبَرٍ، وَنَصَبٍ، وَلُغُوبٍ، وَعَذَابِ الضَّرَّاءِ وَالْبَأْسَاءِ، وَهَذَا الِاسْتِعْمَالُ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ يُعَدُّ بِالْعَشَرَاتِ، وَيُسْنَدُ الْفِعْلُ إِلَى سَبَبِ السُّوءِ وَالْأَلَمِ، وَقَدْ أُسْنِدَ إِلَى مَا يَسُرُّ فِي مُقَابَلَةِ إِسْنَادِهِ
إِلَى مَا يَسُوءُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا)(3: 120) وَفِي الْآيَةِ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ وَقَدْ
تَقَدَّمَ، وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى:(إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا إِلَّا الْمُصَلِّينَ)(70: 19 - 22) وَذَكَرَ مَسَّ الضُّرِّ فِي أَوَاخِرِ " سُورَةِ يُونُسَ "(10: 107) وَقَابَلَهُ بِإِرَادَةِ الْخَيْرِ. وَقَدْ وَرَدَ الْمَسُّ بِمَعْنَى الْوِقَاعِ فِي " سُورَةِ الْبَقَرَةِ "، وَلَمْ يَرِدْ فِي الْقُرْآنِ بِمَعْنَى اللَّمْسِ بِالْيَدِ إِلَّا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:(لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ)(56: 79) أَيِ الْقُرْآنَ، وَفَسَّرَ بَعْضُهُمُ الْمَسَّ بِالِاطِّلَاعِ وَالْمُطَهَّرِينَ بِالْمَلَائِكَةِ.
(قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ) .
إِنَّ الْآيَاتِ الْأَرْبَعَ الَّتِي قَبْلَ هَذِهِ الْآيَاتِ قَدْ بَيَّنَتْ أَرْكَانَ الدِّينِ وَأُصُولَ الْعَقَائِدِ، وَهِيَ تَوْحِيدُ اللهِ عز وجل، وَالرِّسَالَةُ أَوْ وَظِيفَةُ الرُّسُلِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَالْجَزَاءُ عَلَى الْأَعْمَالِ، وَقَدْ جَاءَتِ الْآيَتَانِ الْأُولَيَانِ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ الْأَرْبَعِ بَعْدَهُنَّ مُفَصَّلَتَيْنِ لِمَا فِيهِنَّ
مِنْ بَيَانِ وَظِيفَةِ الرُّسُلِ الْعَامَّةِ بِتَطْبِيقِهَا عَلَى خَاتَمِ الرُّسُلِ - صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَعَلَى
آلِهِ - وَإِزَالَةُ أَوْهَامِ النَّاسِ فِيهَا، وَمِنْ بَيَانِ أَمْرِ الْجَزَاءِ فِي الْآخِرَةِ، وَكَوْنِ الْأَمْرِ فِيهِ لِلَّهِ تَعَالَى وَحْدَهُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَزِيدُ عَقِيدَةَ التَّوْحِيدِ تَقْرِيرًا وَتَأْكِيدًا وَبَيَانًا وَتَفْصِيلًا، وَذَهَبَ الرَّازِيُّ إِلَى أَنَّ هَذَا مِنْ بَقِيَّةِ الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ:(وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهْ)(37) وَمَا قُلْنَاهُ أَظْهَرُ. وَقَدْ بُدِئَتِ الْآيَةُ الْأَوْلَى بِالْأَمْرِ بِالْقَوْلِ - عَلَى مَا عَلِمْنَا مِنْ أُسْلُوبِ هَذِهِ السُّورَةِ فِي بَيَانِ الْمَسَائِلِ الَّتِي يَتَعَلَّقُ بِهَا التَّبْلِيغُ - فَقَالَ عز وجل:
(قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ) أَيْ قُلْ أَيُّهَا الرَّسُولُ الَّذِي لَمْ يُبْعَثْ إِلَّا كَمَا بُعِثَ غَيْرُهُ مِنَ الرُّسُلِ مُبَشِّرًا مَنْ أَجَابَ دَعْوَتَهُ بِحُسْنِ الثَّوَابِ وَمُنْذِرًا مَنْ رَدَّهَا سُوءَ الْعِقَابِ، لِهَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ الْمُشَاغِبِينَ لَكَ بِغَيْرِ عِلْمٍ يُمَيِّزُونَ بِهِ بَيْنَ شُئُونِ الْأُلُوهِيَّةِ وَحَقِيقَةِ الرِّسَالَةِ، الَّذِينَ يَقْتَرِحُونَ عَلَيْكَ مِنَ الْآيَاتِ الْكَوْنِيَّةِ مَا يَعْلَمُونَ أَنَّ الْبَشَرَ لَا يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ ; لِأَنَّهُمْ - وَإِنْ قَالُوهُ تَعْجِيزًا - يَتَوَهَّمُونَ أَنَّ الرَّجُلَ مِنَ الْبَشَرِ لَا يَكُونُ رَسُولًا إِلَّا أَنْ يَخْرُجَ مِنْ حَقِيقَةِ الْبَشَرِيَّةِ وَيَصِيرَ إِلَهًا قَادِرًا عَلَى مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ الْبَشَرُ، وَعَالِمًا بِكُلِّ مَا يَعْجِزُ عَنْ عِلْمِهِ الْبَشَرُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ مَوْضُوعِ الرِّسَالَةِ الَّتِي عُهِدَ إِلَيْهِ أَمْرُ تَبْلِيغِهَا، أَوْ يَصِيرَ مَلَكًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ فِي مُتَعَلِّقِ قُدْرَتِهِ وَمُتَنَاوَلِ عِلْمِهِ ; لِأَنَّ أَمْرَ الرِّسَالَةِ فِي خَيَالِهِمْ يُنَافِي الْبَشَرِيَّةَ الَّتِي حَقَّرَهَا فِي أَنْفُسِهِمْ جَهْلُهُمْ وَسُوءُ حَالِهِمْ وَفَسَادُ أَعْمَالِهِمْ - قُلْ لِهَؤُلَاءِ: لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللهِ أَتَصَرَّفُ بِمَا خَزَنَهُ وَحَفِظَهُ فِيهَا مِنْ أَرْزَاقِ الْعِبَادِ وَشُئُونِ الْمَخْلُوقَاتِ، بِمَعْنَى الْمَخْزُونَاتِ، فَالْخَزَائِنُ جَمْعُ خَزِينَةٍ أَوْ خِزَانَةٍ، وَهِيَ مَا يَخْزُنُ فِيهَا الشَّيْءَ مَنْ يُرِيدُ حِفْظَهُ وَمَنْعَ غَيْرِهِ مِنَ التَّصَرُّفِ فِيهِ (وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) (63: 7) يَتَصَرَّفُ فِيهَا كَمَا يَشَاءُ، وَلَا يَقْدِرُ أَحَدٌ مِنْ خَلْقِهِ عَلَى التَّصَرُّفِ فِي شَيْءٍ مِنْهَا إِلَّا مَا أَعْطَاهُ تَعَالَى إِيَّاهُ، وَمَكَّنَهُ مِنَ التَّصَرُّفِ فِيهِ، وَالْمُتَصَرِّفُ بِمَا يُعْطَى مِنَ الْخِزَانَةِ لَا يَكُونُ مُتَصَرِّفًا فِي الْخِزَانَةِ نَفْسِهَا، فَالْمُسْتَخْدَمُونَ عِنْدَ الْمَلِكِ أَوِ الرَّجُلِ الْغَنِيِّ يُعْطَوْنَ أُجُورَهُمْ مِنْ خِزَانَتِهِ، فَيَتَصَرَّفُونَ فِيهَا دُونَ الْخِزَانَةِ، وَجَمِيعُ الْأَحْيَاءِ الْعَامِلِينَ يَتَصَرَّفُونَ بِمَا يُعْطِيهِمُ اللهُ تَعَالَى مِنْ خَزَائِنَ الْمَوْجُودَاتِ، كُلٌّ بِحَسَبِ مَا أُوتِيَ مِنَ الِاسْتِعْدَادِ فِي دَائِرَةِ ارْتِبَاطِ الْأَسْبَابِ بِالْمُسَبِّبَاتِ، وَلَا يَقْدِرُ أَحَدٌ مِنْهُمْ أَنْ يَتَجَاوَزَ ذَلِكَ إِلَى مَا لَمْ يُؤْتَهُ وَلَمْ يَصِلْ إِلَيْهِ اسْتِعْدَادُهُ، فَالتَّصَرُّفُ الْمُطْلَقُ فِي كُلِّ شَيْءٍ إِنَّمَا هُوَ لِلَّهِ الْقَادِرِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، وَلَيْسَ مِنْ مَوْضُوعِ الرِّسَالَةِ أَنْ يَكُونَ الرَّسُولُ - الْمُبَلِّغُ عَنِ
اللهِ تَعَالَى أَمْرَ دِينِهِ - قَادِرًا عَلَى مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ الْبَشَرُ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي الْمَخْلُوقَاتِ بِالْأَسْبَابِ، فَضْلًا عَنِ التَّصَرُّفِ الذَّاتِيِّ بِغَيْرِ سَبَبٍ الَّذِي طَلَبَهُ الْمُشْرِكُونَ مِنْهُ، وَجَعَلُوهُ شَرْطًا لِلْإِيمَانِ لَهُ، كَتَفْجِيرِ الْيَنَابِيعِ وَالْأَنْهَارِ مِنْ أَرْضِ مَكَّةَ وَإِيجَادِ الْجَنَّاتِ وَالْبَسَاتِينِ فِيهَا، وَإِسْقَاطِ السَّمَاءِ عَلَيْهِمْ كِسَفًا، وَالْإِتْيَانِ بِاللهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا اقْتَرَحُوهُ وَحَكَاهُ اللهُ تَعَالَى عَنْهُمْ فِي " سُورَةِ الْإِسْرَاءِ " وَغَيْرِهَا.
بَدَأَ بِنَفْيِ الْقُدْرَةِ عَلَى التَّصَرُّفِ فِيمَا لَيْسَ مِنْ شَأْنِ الْبَشَرِ التَّصَرُّفُ فِيهِ؛ لِعَدَمِ تَسْخِيرِ اللهِ تَعَالَى إِيَّاهُ لَهُمْ بِإِقْدَارِهِمْ عَلَى أَسْبَابِهِ، وَثَنَّى بِنَفْيِ عِلْمِ الْغَيْبِ الْخَاصِّ بِاللهِ تَعَالَى فَقَالَ:(وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ) أَيْ: وَلَا أَقُولُ لَكُمْ: إِنِّي أَعْلَمُ الْغَيْبَ، وَهُوَ مَا حَجَبَ اللهُ عِلْمَهُ عَنِ النَّاسِ بِعَدَمِ تَمْكِينِهِمْ مِنْ أَسْبَابِ الْعِلْمِ بِهِ كَكَوْنِهِ مِمَّا لَا تُدْرِكُهُ مَشَاعِرُهُمُ الظَّاهِرَةُ وَلَا الْبَاطِنَةُ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تُخْلَقْ مُسْتَعِدَّةً لِإِدْرَاكِهِ وَلَا لِطُرُقِ الِاسْتِدْلَالِ عَلَيْهِ، أَوْ لِأَنَّهَا مُسْتَعِدَّةٌ لَهُ بِالْقُوَّةِ غَيْرُ مُتَمَكِّنَةٍ مِنْ أَسْبَابِهِ بِالْفِعْلِ كَعَالَمِ الْآخِرَةِ، فَالْغَيْبُ مِنْ جِنْسِ الْمَعْلُومَاتِ كَخَزَائِنِ اللهِ مِنْ جِنْسِ الْمَقْدُورَاتِ، يُرَادُ بِهِمَا مَا اخْتُصَّ بِاللهِ تَعَالَى، فَلَمْ يُمَكِّنْ عِبَادَهُ مِنْ عَلْمِهِ وَالتَّصَرُّفِ فِيهِ، أَيْ: لَمْ يُعْطِهِمُ الْقُوَى، وَلَمْ يُسَخِّرْ لَهُمُ الْأَسْبَابَ الْمُوصِّلَةَ إِلَى ذَلِكَ.
وَالْغَيْبُ قِسْمَانِ: غَيْبٌ حَقِيقِيٌّ مُطْلَقٌ، وَهُوَ مَا غَابَ عِلْمُهُ عَنْ جَمِيعِ الْخَلْقِ حَتَّى الْمَلَائِكَةِ، وَفِيهِ يَقُولُ اللهُ عز وجل:(قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللهُ)(27: 65) وَغَيْبٌ إِضَافِيٌّ، وَهُوَ مَا غَابَ عِلْمُهُ عَنْ بَعْضِ الْمَخْلُوقِينَ دُونَ بَعْضٍ، كَالَّذِي يَعْلَمُهُ الْمَلَائِكَةُ مِنْ أَمْرِ عَالَمِهِمْ وَغَيْرِهِ وَلَا يَعْلَمُهُ الْبَشَرُ مَثَلًا، وَأَمَّا مَا يَعْلَمُهُ بَعْضُ الْبَشَرِ بِتَمْكِينِهِمْ مِنْ أَسْبَابِهِ وَاسْتِعْمَالِهِمْ لَهَا، وَلَا يَعْلَمُهُ غَيْرُهُمْ لِجَهْلِهِمْ بِتِلْكَ الْأَسْبَابِ أَوْ عَجْزِهِمْ عَنِ اسْتِعْمَالِهَا، فَلَا يَدْخُلُ فِي عُمُومِ مَعْنَى الْغَيْبِ الْوَارِدِ فِي كِتَابِ اللهِ، وَهَذِهِ الْأَسْبَابُ مِنْهَا مَا هُوَ عِلْمِيٌّ كَالدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ وَالْعَمَلِيَّةِ، فَإِنَّ بَعْضَ عُلَمَاءِ الرِّيَاضِيَّاتِ وَغَيْرِهَا يَسْتَخْرِجُونَ مِنْ دَقَائِقَ الْمَجْهُولَاتِ مَا يَعْجِزُ عَنْهُ أَكْثَرُ النَّاسِ، وَيَضْبُطُونَ مَا يَقَعُ مِنَ الْخُسُوفِ وَالْكُسُوفِ بِالدَّقَائِقِ وَالثَّوَانِي قَبْلَ وُقُوعِهِ بِالْأُلُوفِ مِنَ الْأَعْوَامِ، وَمِنْهَا مَا هُوَ عَمَلِيٌّ كَالتِّلِغْرَافِ الْهَوَائِيِّ أَوِ اللَّاسِلْكِيِّ الَّذِي يَعْلَمُ الْمَرْءُ بِهِ بَعْضَ مَا يَقَعُ فِي أَقَاصِي الْبِلَادِ وَأَجْوَازِ الْبِحَارِ الَّتِي بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا أُلُوفٌ مِنَ الْأَمْيَالِ، وَمِنْهَا مَا قَدْ يَصِلُ إِلَى حَدِّ الْعِلْمِ مِنَ
الْإِدْرَاكَاتِ النَّفْسِيَّةِ الْخَفِيَّةِ كَالْفِرَاسَةِ وَالْإِلْهَامِ، وَأَكْثَرُ هَذَا النَّوْعِ مِنَ الِانْكِشَافِ لَوَائِحُ تَلُوحُ لِلنَّفْسِ لَا تَجْزِمُ بِهَا إِلَّا بَعْدَ وُقُوعِهَا، فَمَا يَصِلُ مِنْهَا إِلَى حَدِّ الْعِلْمِ الَّذِي يَجْزِمُ بِهِ صَاحِبُهُ لِاسْتِكْمَالِ شُرُوطِهِ يُشْبِهُ مَا يَنْفَرِدُ بِإِدْرَاكِهِ بَعْضُ الْمُمْتَازِينَ بِقُوَّةِ الْحَاسَّةِ، كَزَرْقَاءِ الْيَمَامَةِ الَّتِي كَانَتْ تَرَى عَلَى بُعْدٍ عَظِيمٍ مَا لَا يَرَاهُ غَيْرُهَا، أَوْ بِقُوَّةِ بَعْضِ الْمَدَارِكِ الْعَقْلِيَّةِ كَالْعُلَمَاءِ الَّذِينَ أَشَرْنَا إِلَيْهِمْ آنِفًا، وَأَظْهَرُ شُرُوطِ هَذَا النَّوْعِ مِنَ الْإِدْرَاكِ قُوَّةُ الِاسْتِعْدَادِ الْفِطْرِيَّةِ فِي النَّفْسِ لِذَلِكَ، وَتَوَجُّهُ النَّفْسِ إِلَى الْمَدَارِكِ تَوَجُّهًا قَوِيًّا لَا يُعَارِضُهُ اشْتِغَالُ قُوًى بِغَيْرِهَا مِنَ الْمُدْرَكَاتِ. وَكَثِيرًا مَا يَقَعُ هَذَا فِي حَالِ مَرَضٍ عَصَبِيٍّ أَوِ انْفِعَالٍ نَفْسِيٍّ قَوِيٍّ يَحْصُرُ هَمَّ النَّفْسِ كُلَّهُ فِيهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ (وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا)(9) مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ فِي هَذَا الْجُزْءِ كَلَامٌ نَفِيسٌ فِي هَذِهِ الْإِدْرَاكَاتِ الْخَفِيَّةِ الْخَاصَّةِ. وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعُدُّهَا مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ؛ لِخَفَاءِ أَسْبَابِهَا عَنْهُ، وَيَرُدُّهُ أَنَّهَا مِمَّا يَكْثُرُ وَيَتَكَرَّرُ حَتَّى صَارَ مُعْتَادًا مِنْ أَهْلِهِ الْكَثِيرِينَ الْمُخْتَلِفِينَ فِي الْمِلَلِ وَالنِّحَلِ وَالْأَخْلَاقِ وَالْآدَابِ، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ لَا يَكُونُ مِنَ الْخَوَارِقِ كَمَا قَالَ مُحْيِي
الدِّينِ بْنُ الْعَرَبِيِّ، وَلَكِنَّا مَعَ هَذَا نَقُولُ: إِنَّ بَعْضَهُ يَصِحُّ أَنْ يُسَمَّى كَرَامَةً كَمَا يُعْلَمُ مِنْ تَفْسِيرِنَا لِلْآيَةِ التَّاسِعَةِ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ.
فَإِنْ قِيلَ: قَدْ عَلِمْنَا أَنَّ الرِّسَالَةَ الْإِلَهِيَّةَ لَا تَتَوَقَّفُ عَلَى إِقْدَارِ الرَّسُولِ عَلَى التَّصَرُّفِ فِي الْمَخْلُوقَاتِ مِنْ غَيْرِ طَرِيقِ الْأَسْبَابِ الَّتِي سَخَّرَهَا اللهُ لِلنَّاسِ؛ لِأَنَّ مَوْضُوعَهَا عِلْمِيٌّ تَعْلِيمِيٌّ، فَهِيَ عِبَارَةٌ عَنْ تَبْلِيغِ مَا عَلَّمَهُ اللهُ لِلرَّسُولِ بِوَحْيِهِ إِلَيْهِ، وَلَيْسَ مِنْ مَوْضُوعِهَا تَغْيِيرُ شَيْءٍ مِنْ خَلْقٍ ; وَلِذَلِكَ لَمْ يُعْطِ اللهُ تَعَالَى أَحَدًا مِنْ رُسُلِهِ قُدْرَةً عَلَى هِدَايَةِ أَحَدٍ بِالْفِعْلِ. قَالَ تَعَالَى لِخَاتَمِ رُسُلِهِ:(لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ)(2: 272) وَقَالَ لَهُ: (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ)(28: 56) وَلَوْ كَانَ لَهُمْ شَيْءٌ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي الْخَلْقِ لَجَعَلَهُ نُوحٌ - نَبِيُّ اللهِ - فِي هِدَايَةِ وَلَدِهِ، وَإِبْرَاهِيمُ - خَلِيلُ اللهِ - فِي هِدَايَةِ أَبِيهِ آزَرَ، وَلَكِنَّ عِلْمَ الْغَيْبِ مِنْ مَوْضُوعِ الرِّسَالَةِ، فَإِنَّ أَصْلَ مَوْضُوعِهَا رُؤْيَةُ الْمَلَائِكَةِ، وَالتَّلَقِّي عَنْهُمْ، وَذَلِكَ مِنْ عَالَمِ الْغَيْبِ الَّذِي أُمِرْنَا بِالْإِيمَانِ بِهِ اتِّبَاعًا لِلرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم الَّذِي رَأَى بِعَيْنَيْهِ وَسَمِعَ بِأُذُنَيْهِ وَوَعَى بِقَلْبِهِ، وَقَدْ أَثْبَتَ تَعَالَى عَالَمَ الْغَيْبِ الْمُتَعَلِّقِ بِالرِّسَالَةِ لِلرُّسُلِ عليهم السلام، فَقَالَ فِي آخِرِ " سُورَةِ الْجِنِّ ": (عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا
إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا) (72: 26 - 28) فَكَيْفَ أَمَرَ رَسُولَهُ أَنْ يَتَنَصَّلَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنِ ادِّعَاءِ عَالَمِ الْغَيْبِ، وَأَنْ يَسْتَدِلَّ عَلَى ذَلِكَ بَعْدَ نَفْيِ التَّصَرُّفِ بِقَوْلِهِ فِي أَوَاخِرِ الْأَعْرَافِ:(قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)(7: 188) .
نَقُولُ: (أَوَّلًا) إِنَّ مَا يُظْهِرُ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِ الرُّسُلَ هُوَ مِنَ الْغَيْبِ الْإِضَافِيِّ لَا الْحَقِيقِيِّ الْمُطْلَقِ الَّذِي لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنْ خَلْقِهِ الِاسْتِعْدَادَ لِعِلْمِهِ.
(ثَانِيًا) إِنَّ إِظْهَارَهُ تَعَالَى إِيَّاهُمْ عَلَى شَيْءٍ خَاصٍّ مِنْ هَذَا الْغَيْبِ لَا يَجْعَلُ ذَلِكَ دَاخِلًا فِي عُلُومِهِمُ الْكَسْبِيَّةِ، فَإِنَّ الْوَحْيَ ضَرْبٌ مِنَ الْعِلْمِ الضَّرُورِيِّ يَجِدُهُ النَّبِيُّ فِي نَفْسِهِ عِنْدَمَا يُظْهِرُهُ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِ، فَإِذَا حُبِسَ عَنْهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ قُدْرَةً وَلَا وَسِيلَةً كَسْبِيَّةً إِلَيْهِ كَمَا يَعْلَمُ مِمَّا وَرَدَ فِي فَتَرَاتِ الْوَحْيِ، وَهُوَ مُقْتَضَى الْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ النُّبُوَّةَ غَيْرُ مُكْتَسَبَةٍ. نَعَمْ قَدْ يَكُونُ تَوَجُّهُ قَلْبِ الرَّسُولِ إِلَى اللهِ تَعَالَى عِنْدَ بَعْضِ الْحَوَادِثِ مُقَدِّمَةً لِنُزُولِ الْوَحْيِ فِي الْحُكْمِ الَّذِي اسْتَشْرَفَ لَهُ وَتَوَجَّهَ إِلَى اللهِ تَعَالَى لِيُبَيِّنَهُ لَهُ كَمَا يُرْشِدُ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى:(قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلْنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا)(2: 144) إِلَخْ. وَكَذَلِكَ رُؤْيَةُ نَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلم لِلْمَلَكِ عَلَى هَيْئَتِهِ الَّتِي خَلَقَهُ اللهُ عَلَيْهَا مَرَّتَيْنِ، هِيَ خُصُوصِيَّةٌ لَا يُعَدُّ مِثْلُهَا مِنْ عُلُومِ الرُّسُلِ الْكَسْبِيَّةِ. وَأَمَّا رُؤْيَةُ
الْمَلَكِ مُتَمَثِّلًا بِصُورَةِ بَشَرٍ أَوْ جِسْمٍ آخَرَ فَهُوَ سَبَبٌ عَامٌّ لِرُؤْيَتِهِ، وَلَكِنَّهُ لَا يَتَمَثَّلُ إِلَّا لِأَمْرٍ عَظِيمٍ، أَوْ آيَةٍ لِنَبِيٍّ أَوْ صِدِّيقٍ.
فَعُلِمَ مِمَّا قَرَّرْنَاهُ أَنَّ الرُّسُلَ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمْ يُعْطَوْا عِلْمَ الْغَيْبِ بِحَيْثُ يَكُونُ إِدْرَاكُهُ مِنْ عُلُومِهِمُ الْكَسْبِيَّةِ، كَمَا أَنَّهُمْ لَمْ يُعْطَوْا قُوَّةَ التَّصَرُّفِ فِي خَزَائِنِ مُلْكِ اللهِ، وَهِيَ مَا لَمْ يُمَكِّنِ الْبَشَرَ مِنْ أَسْبَابِهِ فَيَكُونَ مِنْ أَعْمَالِهِمُ الْكَسْبِيَّةِ، وَلَا أَعْطَاهُمْ إِيَّاهُ أَيْضًا عَلَى سَبِيلِ الْخُصُوصِيَّةِ. كَمَا أَظْهَرَهُمْ عَلَى بَعْضِ الْغَيْبِ الَّذِي هُوَ مَوْضُوعُ الرِّسَالَةِ. وَنَفْيُ ادِّعَاءِ الرَّسُولِ لِكُلٍّ مِنَ الْأَمْرَيْنِ يَتَضَمَّنُ التَّبَرُّؤَ مِنِ ادِّعَاءِ الْإِلَهِيَّةِ - كَمَا قِيلَ - أَوِ ادِّعَاءِ شَيْءٍ مِنْ صِفَاتِ الْإِلَهِ وَهُوَ أَوْلَى وَيَسْتَلْزِمُ الْأَوَّلَ؛ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا خَاصٌّ بِالْإِلَهِ الَّذِي هُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَبِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ، وَقُدْرَتُهُ وَعِلْمُهُ صِفَتَانِ ذَاتِيَّتَانِ
لَهُ، وَيَتَضَمَّنُ بَيَانَ جَهْلِ الْمُشْرِكِينَ بِحَقِيقَةِ الْإِلَهِيَّةِ وَحَقِيقَةِ الرِّسَالَةِ؛ إِذْ كَانُوا يَقْتَرِحُونَ عَلَى الرَّسُولِ مِنَ الْأَعْمَالِ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إِلَّا مَنْ لَهُ التَّصَرُّفُ فِيمَا وَرَاءِ الْأَسْبَابِ، وَمِنَ الْإِخْبَارِ بِمَا يَكُونُ فِي مُسْتَقْبَلِ الزَّمَانِ مَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا مَنْ كَانَ عِلْمُ الْغَيْبِ صِفَةً لَهُ كَسَائِرِ الصِّفَاتِ، فَقَدْ سَأَلُوهُ عَنْ وَقْتِ السَّاعَةِ، وَعَنْ وَقْتِ نُزُولِ الْعَذَابِ الدُّنْيَوِيِّ بِهِمْ، وَعَنْ وَقْتِ نَصْرِ اللهِ تَعَالَى إِيَّاهُ عَلَيْهِمْ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أُمُورِ الْغَيْبِ.
وَإِذَا كَانَ اللهُ تَعَالَى لَمْ يُؤْتِ الرُّسُلَ مَا لَمْ يُؤْتِ غَيْرَهُمْ مِنْ أَسْبَابِ التَّصَرُّفِ فِي الْمَخْلُوقَاتِ وَمَنْ عَلْمِ الْغَيْبِ، وَكَانَ كُلٌّ مِنَ التَّصَرُّفِ بِالْقُدْرَةِ الذَّاتِيَّةِ وَعِلْمِ الْغَيْبِ خَاصًّا بِهِ عز وجل يَسْتَحِيلُ أَنْ يُشَارِكَهُ غَيْرُهُ فِيهِ - فَمِنْ أَيْنَ جَاءَتْ دَعْوَى التَّصَرُّفِ فِي الْكَوْنِ وَعِلْمِ الْغَيْبِ لِمَنْ هُمْ دُونَ الرُّسُلِ مَنْزِلَةً وَكَرَامَةً عِنْدَ اللهِ تَعَالَى مِنَ الْمَشَايِخِ الْمَعْرُوفِينَ وَغَيْرِ الْمَعْرُوفِينَ، حَتَّى صَارُوا يُدْعَوْنَ مِنْ دُونِ اللهِ تَعَالَى لِمَا عَزَّ نَيْلُهُ بِالْأَسْبَابِ وَالسُّنَنِ الْإِلَهِيَّةِ " وَالدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَةُ " كَمَا صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام؟ وَقَدْ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: إِنَّ نَفْيَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِهَذَيْنِ عَنْ نَفْسِهِ هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ نَفْيِ ادِّعَاءِ الْإِلَهِيَّةِ وَبَيَانٌ لِكَوْنِ مَا اقْتَرَحُوهُ عَلَيْهِ مِمَّا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ غَيْرُ اللهِ تَعَالَى. فَضَلَالُ الْمُشْرِكِينَ فِي فَهْمِ الرِّسَالَةِ وَجَعْلِهِمْ إِيَّاهَا شُعْبَةً مِنَ الرُّبُوبِيَّةِ لَا يَزَالُ مُنْتَشِرًا فِي أَذْهَانِ النَّاسِ، حَتَّى بَعْضِ الْمُؤْمِنِينَ بِاسْمِ الْقُرْآنِ الْمُتَبَرِّكِينَ بِجِلْدِ مُصْحَفِهِ وَوَرَقِهِ وَبِالتَّغَنِّي بِهِ فِي الْمَآتِمِ وَغَيْرِهَا، الْجَاهِلِينَ بِمَا أُنْزِلَ لِبَيَانِهِ مِنْ تَوْحِيدِ اللهِ تَعَالَى وَشُئُونِ رُبُوبِيَّتَهِ وَأُلُوهِيَّتِهِ، وَمِنْ حَقِيقَةِ الرِّسَالَةِ وَوَظِيفَةِ الرُّسُلِ، وَمِنْ مَعْنَى الْجَزَاءِ عَلَى الْعَقَائِدِ وَالْأَعْمَالِ. دَعْ مَا دُونَ هَذِهِ الْأُصُولِ الثَّلَاثَةِ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ، إِذْ نَرَى بَعْضَ هَؤُلَاءِ الْمَعْدُودِينَ فِي عُرْفِهِمْ وَعُرِفِ النَّاسِ مِنْ أَتْبَاعِ الْقُرْآنِ يَدَّعُونَ التَّصَرُّفَ فِي خَزَائِنِ اللهِ وَعَلْمِ الْغَيْبِ لِمَنْ دُونَ الرُّسُلِ كَمَا قُلْنَا آنِفًا.
وَمِنْ مَبَاحِثِ الْبَلَاغَةِ فِي قَوْلِهِ: (وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ) أَنَّهُ أَعَادَ فِيهِ " لَا أَقُولُ لَكُمْ " وَلَمْ يَعِدْهَا فِي نَفْيِ عِلْمِ الْغَيْبِ، وَنُكْتَةُ ذَلِكَ أَنَّ نَفْيَ عِلْمِ الْغَيْبِ وَنَفْيَ التَّصَرُّفِ فِي خَزَائِنِ اللهِ يُؤَلِّفَانِ
التَّبَرُّؤَ مِنْ دَعْوَى وَاحِدَةٍ، هِيَ دَعْوَى الصِّفَاتِ الْخَاصَّةِ بِاللهِ تَعَالَى، وَأَمَّا نَفْيُ ادِّعَاءِ الْمَلَكِيَّةِ فَهُوَ شَيْءٌ آخَرُ، فَأُعِيدَ الْعَامِلَ لِإِفَادَةِ ذَلِكَ، كَأَنَّهُ قَالَ: إِنَّنِي لَا أَدَّعِي صِفَاتَ الْإِلَهِ حَتَّى تَطْلُبُوا مِنِّي مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ أَوْ مَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللهُ، وَلَا أَدَّعِي أَنِّي مَلَكٌ - وَهُوَ دُونُ مَا قَبْلَهُ - حَتَّى تَطْلُبُوا مِنِّي مَا جَعَلَهُ اللهُ فِي قُدْرَةِ الْمَلَائِكَةِ وَلَمْ يَجْعَلْهُ مِنْ مَقْدُورِ الْبَشَرِ، بَلِ ادَّعَيْتُ
أَنِّي عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ، وَإِنَّمَا وَظِيفَةُ الْعَبْدِ الطَّاعَةُ، وَوَظِيفَةُ الرَّسُولِ التَّبْلِيغُ، وَعَبَّرَ عَنْ هَذَا بِقَوْلِهِ:(إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ) أَيْ: مَا أَفْعَلُ مِنْ حَيْثُ أَنَا عَبْدٌ رَسُولٌ إِلَّا اتِّبَاعَ مَا يُوحِيهِ إِلَى مَنْ أَرْسَلَنِي مِنْ تَبْلِيغِ دِينِهِ بِالتَّبْشِيرِ وَالْإِنْذَارِ وَالْعَمَلِ بِهِ كَمَا بَيَّنْتُ لَكُمْ آنِفًا - أَيْ فِي الْآيَتَيْنِ اللَّتَيْنِ قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ.
ثُمَّ قَالَ عز وجل: (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ) أَيْ قُلْ أَيُّهَا الرَّسُولُ لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ: هَلْ يَسْتَوِي أَعْمَى الْبَصِيرَةِ الضَّالُّ عَنِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ الَّذِي دَعَوْتُكُمْ إِلَيْهِ فَلَا يُمَيِّزُ بَيْنَ التَّوْحِيدِ وَالشِّرْكِ، وَلَا بَيْنَ صِفَاتِ اللهِ وَصِفَاتِ الْخَلْقِ، الْمُقَلِّدُ فِي ضَلَالِهِ وَجَهَالَاتِهِ لِمَنْ لَا عِلْمَ عِنْدَهُ وَلَا عَقْلَ مِنْ آبَائِهِ وَأَجْدَادِهِ، وَذُو الْبَصِيرَةِ الْمُهْتَدِي إِلَيْهِ، الْمُسْتَقِيمُ فِي سَيْرِهِ عَلَيْهِ، عَلَى بَيِّنَةٍ وَبُرْهَانٍ، يَجْعَلُ مَا يَرَى الْقَلْبُ أَوْضَحَ مِمَّا تَرَى الْعَيْنَانِ؟ الِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارِيٌّ، أَيْ: لَا يَسْتَوِيَانِ كَمَا أَنَّ أَعْمَى الْعَيْنَيْنِ وَبِصِيرِهِمَا لَا يَسْتَوِيَانِ، بَلِ الْفَرْقُ بَيْنَ الْأَوَّلِينَ أَقْوَى وَأَظْهَرُ، فَكَأَيِّنْ مِنْ أَعْمَى الْعَيْنَيْنِ بَصِيرُ الْقَلْبِ كَانَ مِنْ أَعْلَمِ الْعُلَمَاءِ وَأَهْدَى الْفُضَلَاءِ، وَكَأَيِّنْ مِنْ بَصِيرِ الْعَيْنَيْنِ أَعْمَى الْقَلْبِ هُوَ أَضَلُّ مِنَ الْأَنْعَامِ ; وَلِذَلِكَ قَالَ مُقَرِّعًا لَهُمْ:(أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ) أَيْ فِي ذَلِكَ، فَتُمَيِّزُوا بَيْنَ ضَلَالَةِ الشِّرْكِ وَهِدَايَةِ الْإِسْلَامِ، وَتُفَرِّقُوا بَيْنَ صِفَاتِ الرَّبِّ الْإِلَهِ وَصِفَاتِ الْإِنْسَانِ، وَتَعْقِلُوا حُجَّةَ الرِّسَالَةِ مِمَّا فِي هَذِهِ الْأَرْضِ مِنْ أَنْوَاعِ الْهِدَايَةِ وَالْعِرْفَانِ، وَأَخْبَارِ الْغَيْبِ الَّتِي لَمَّ يُؤْتَهَا إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ، عَلَى مَا فِيهِ مِنْ بَلَاغَةِ الْبَيَانِ، وَالْأُسْلُوبِ الْبَدِيعِ الَّذِي لَمْ يَعْهَدُوهُ قَبْلَ الْآنِ. فَمَتَى كَانَ فِي قُدْرَةِ مِثْلِي شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، وَلَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ يَزِيدُ عَلَى الْأَرْبَعِينَ سَنَةً، عَاطِلًا مِنْ هَذِهِ الْبَلَاغَةِ وَهَذِهِ الْمَعْرِفَةِ.! .
هَذِهِ الْآيَةُ حُجَّةٌ مِنْ حُجَجِ اللهِ تَعَالَى لِلْمُسْتَقِلِّينَ فِي هِدَايَةِ الدِّينِ، عَلَى الْمُقَلِّدِينَ فِيهِ لِآبَائِهِمْ وَمَشَايِخِهِمُ الْجَاهِلِينَ.
وَمِنْ مَبَاحِثِ اسْتِنْبَاطِ الْمَذَاهِبِ فِي الْآيَةِ أَنَّ الْمُعْتَزِلَةَ اسْتَدَلَّتْ بِهَا عَلَى تَفْضِيلِ الْمَلَائِكَةِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ، وَنَاقَشَهُمْ جُمْهُورُ الْأَشَاعِرَةِ فِي ذَلِكَ لِمُخَالَفَتِهِ لِمَذْهَبِهِمْ، وَقَدْ قَرَّرَ الطُّوفِيُّ الْمَسْأَلَةَ فِي تَفْسِيرِهِ " الْإِشَارَاتُ الْإِلَهِيَّةُ، إِلَى الْمَبَاحِثِ الْأُصُولِيَّةِ " عِنْدَ قَوْلِهِ: (وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ) بِقَوْلِهِ: يَحْتَجُّ بِهِ مَنْ يَرَى الْمَلَائِكَةَ أَفْضَلَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَقَدْ سَبَقَ ذَلِكَ، وَتَقْرِيرُهُ هَاهُنَا أَنَّ الْكُفَّارَ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّ الْمَلَكَ أَفْضَلُ
مِنَ النَّبِيِّ ; وَلِذَلِكَ طَلَبُوا رُؤْيَةَ الْمَلَائِكَةِ وَأَنْ يُرْسَلَ إِلَيْهِمْ مَلَكٌ، ثُمَّ إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَقَرَّهُمْ عَلَى هَذَا الِاعْتِقَادِ وَقَالَ:
أَنَا لَا أَدَّعِي أَنِّي مَلَكٌ كَمَا يَعْتَقِدُونَ فِي الْمَلَكِ، بَلْ أَنَا بَشَرٌ أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ، وَحِينَئِذٍ يُقَالُ: النَّبِيُّ عليه السلام أَقَرَّهُمْ عَلَى اعْتِقَادِ تَفْضِيلِ الْمَلَكِ، وَكُلُّ مَا أَقَرَّ النَّبِيُّ عليه السلام عَلَيْهِ فَهُوَ حَقٌّ، وَلِلْخَصْمِ مَنْعُ الْأُولَى. انْتَهَى كَلَامُ الطُّوفِيِّ، وَمُرَادُهُ بِمَنْعِ الْأُولَى مَنْعُ الْمُقَدِّمَةَ الْأُولَى مِنَ الْقِيَاسِ الَّتِي يُسَمُّونَهَا الصُّغْرَى، وَهِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَقَرَّهُمْ عَلَى التَّفْضِيلِ.
وَقَرَّرَ الزَّمَخْشَرِيُّ ذَلِكَ فِي ضِمْنِ تَفْسِيرِ الْآيَةِ، فَقَالَ: أَيْ لَا أَدَّعِي مَا يُسْتَبْعَدُ فِي الْعُقُولِ أَنْ يَكُونَ لِبَشَرٍ مِنْ مُلْكِ خَزَائِنِ اللهِ - وَهِيَ قَسْمُهُ بَيْنَ الْخَلْقِ أَرْزَاقَهُ وَعِلْمَ الْغَيْبِ - وَأَنِّي مِنَ الْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ هُمْ أَشْرَفُ جِنْسٍ خَلَقَهُ اللهُ تَعَالَى وَأَفْضَلُهُ وَأَقْرَبُهُ مَنْزِلَةً مِنْهُ، أَيْ لَمْ أَدَّعِ إِلَهِيَّةً وَلَا مَلَكِيَّةً؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بَعْدَ الْإِلَهِيَّةِ مَنْزِلَةٌ أَرْفَعَ مِنْ مَنْزِلَةِ الْمَلَائِكَةِ حَتَّى تَسْتَبْعِدُوا دَعْوَايَ وَتَسْتَنْكِرُوهَا، وَإِنَّمَا أَدَّعِي مَا كَانَ مِثْلَهُ لِكَثِيرٍ مِنَ الْبَشَرِ وَهُوَ النُّبُوَّةُ. اهـ.
وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ الْمُنِيرِ فِي تَعَقُّبِهِ لَهُ: وَهُوَ يَنْبَنِي عَلَى الْقَاعِدَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ فِي تَفْضِيلِ الْمَلَائِكَةِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ، وَلَعَمْرِي إِنَّ ظَاهِرَ هَذِهِ الْآيَةِ يُؤَيِّدُهُ، فَلِذَلِكَ انْتَهَزَ الْفُرْصَةَ فِي الِاسْتِدْلَالِ بِهَا، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ لِمُخَالِفِهِ أَنْ يَجْعَلَهَا رَدًّا عَلَى إِنْكَارِهِمُ الشُّئُونَ الْبَشَرِيَّةَ عَلَى الرَّسُولِ كَأَكْلِ الطَّعَامِ وَالْمَشْيِ فِي الْأَسْوَاقِ، بِأَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ لَمْ يَدَّعِ الْمَلَكِيَّةَ حَتَّى يُسْتَنْكَرَ مِنْهُ ذَلِكَ، وَهَذِهِ التَّفْرِقَةُ بَيْنَ الرَّسُولِ وَالْمَلَكِ لَا تَسْتَلْزِمُ تَفْضِيلًا، وَقَدْ أَرَادَ ابْنُ الْمُنِيرِ بِالْقَاعِدَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ لَهُ مَا ذَكَرَهُ فِي تَفْسِيرِ:(لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ)(4: 172) وَقَدْ ذَكَرْنَا مُلَخَّصَ مَا قَرَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ فِيهَا وَمَا رَدَّ بِهِ عَلَيْهِ ابْنُ الْمُنِيرِ فِي تَفْسِيرِهَا، وَهِيَ فِي أَوَاخِرِ " سُورَةِ النِّسَاءِ " مِنْ أَوَائِلِ الْجُزْءِ السَّادِسِ.
وَقَالَ الرَّازِيُّ فِي ذَلِكَ: قَالَ الْجُبَّائِيُّ: الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الْمَلَكَ أَفْضَلُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ لَا أَدَّعِي مَنْزِلَةً فَوْقَ مَنْزِلَتِي، وَلَوْلَا أَنَّ الْمَلَكَ أَفْضَلُ لَمْ يَتِمَّ ذَلِكَ. قَالَ الْقَاضِي: إِنْ كَانَ الْغَرَضُ بِمَا نُفِيَ طَرِيقَةَ التَّوَاضُعِ فَالْأَقْرَبُ أَنْ يَدُلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْمَلَكَ أَفْضَلُ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ نَفْيَ قُدْرَتِهِ عَنْ أَفْعَالٍ لَا يَقْوَى عَلَيْهَا إِلَّا الْمَلَائِكَةُ لَمْ يَدُلَّ عَلَى كَوْنِهِمْ أَفْضَلَ. اهـ.
وَاخْتَارَ أَبُو السُّعُودِ وَتَبِعَهُ الْأَلُوسِيُّ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ ابْنُ الْمُنِيرِ مِنْ كَوْنِ نَفْيِ دَعْوَى
الْمَلَكِيَّةِ لِلرَّدِّ عَلَى اسْتِنْكَارِهِمْ أَكْلَ الطَّعَامِ وَالْمَشْيَ فِي الْأَسْوَاقِ، وَتَكْلِيفِهِمْ إِيَّاهُ نَحْوَ الرُّقِيِّ فِي السَّمَاءِ وَكَوْنِ هَذَا لَا يَقْتَضِي التَّفْضِيلَ فِيمَا هُوَ مَحَلُّ النِّزَاعِ. قَالَ الْأَلُوسِيُّ: وَهَذَا الْجَوَابُ أَظْهَرُ مِمَّا نُقِلَ عَنِ الْقَاضِي زَكَرِيَّا مِنْ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ مِنْهُ صلى الله عليه وسلم مِنْ بَابِ التَّوَاضُعِ وَإِظْهَارِ الْعُبُودِيَّةِ نَظِيرَ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: " لَا تُفَضِّلُونِي عَلَى ابْنِ مَتَّى " فِي رَأْيٍ، بَلْ هُوَ لَيْسَ بِشَيْءٍ كَمَا لَا يَخْفَى. وَقِيلَ: إِنَّ الْأَفْضَلِيَّةَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى زَعْمِ الْمُخَاطَبِينَ، وَهُوَ مِنْ ضِيقِ الْعَطَنِ. اهـ.
وَمَا نَقَلَهُ الْأَلُوسِيُّ عَنِ الْقَاضِي زَكَرِيَّا لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مَا نَقَلَهُ الرَّازِيُّ عَنِ الْقَاضِي.
وَإِذَا أُطْلِقَ الْقَاضِي عِنْدَ مُتَكَلِّمِي الْأَشَاعِرَةِ كَالرَّازِيِّ يَنْصَرِفُ إِلَى أَبِي بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيِّ، وَالْقَاضِي زَكَرِيَّا عِنْدَ الْمُتَأَخِّرِينَ. كَالْأَلُوسِيِّ هُوَ زَكَرِيَّا الْأَنْصَارِيِّ، وَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّ الْقَاضِيَ الَّذِي ذَكَرَهُ الرَّازِيُّ جَعَلَ إِرَادَةَ التَّوَاضُعِ بِنَفْيِ الْمَلَكِيَّةِ مُقْتَضِيًا تَفْضِيلَ الْمَلَكِ عَلَى الرَّسُولِ، وَمَا نَقَلَهُ الْأَلُوسِيُّ عَنِ الْقَاضِي زَكَرِيَّا ضِدُّهُ.
وَقَدْ ذَكَرُوا فِي الْمَقَامِ الْفَرْقَ بَيْنَ الِانْتِقَالِ هُنَا مِنْ نَفْيِ دَعْوَى الْإِلَهِيَّةِ إِلَى نَفْيِ دَعْوَى الْمَلَكِيَّةِ، وَالِانْتِقَالِ فِي آيَةِ " سُورَةِ النِّسَاءِ " مِنْ عَدَمِ اسْتِنْكَافِ الْمَسِيحِ مِنَ الْعُبُودِيَّةِ لِلَّهِ إِلَى نَفْيِ اسْتِنْكَافِ الْمَلَائِكَةِ عَنْهَا عَلَى طَرِيقَةِ التَّرَقِّي، وَقَدْ بَيَّنَ الْمُحَقِّقُونَ أَنَّ كُلًّا مِنَ الِانْتِقَالَيْنِ وَقَعَ فِي مَوْقِعِهِ الَّذِي اقْتَضَتْهُ الْبَلَاغَةُ؛ فَإِنَّ مَقَامَ الِاسْتِنْكَافِ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْمُتَأَخِّرَ فِيهِ هُوَ الْأَعْلَى؛ لِئَلَّا يَكُونَ ذِكْرُهُ لَغْوًا، وَمُقَامُ نَفْيِ الِادِّعَاءِ يَقْتَضِي الْعَكْسَ لَا مَنْ لَا يَتَجَزَّأُ عَلَى دَعْوَى الْإِلَهِيَّةِ قَدْ يَتَجَزَّأُ عَلَى مَا دُونِهَا وَلَا عَكْسَ، أَيْ أَنَّ مَنْ لَا يَتَسَامَى إِلَى دَعْوَى الْمَلَكِيَّةِ لَا يَتَسَامَى إِلَى مَا فَوْقَهَا مِنْ دَعْوَى الْإِلَهِيَّةِ بِالْأَوْلَى. هَذَا صَفْوَةُ مَا قَالُوا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.
وَالْحَقُّ أَنَّ ظَوَاهِرَ الْقُرْآنِ الْوَارِدَةَ فِي الْمَلَائِكَةِ وَالرُّسُلِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَلَائِكَةَ أَفْضَلُ مِنَ الْبَشَرِ، وَلَعَلَّهُ لَوْلَا ذَلِكَ لَمَا قَالَ تَعَالَى فِي بَنِي آدَمَ:(وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا)(17: 70) بَلْ لَقَالَ عَلَى جَمِيعِ مَنْ خَلَقْنَا، وَمُقْتَضَى ذَلِكَ أَنَّ خَوَاصَّ الْمَلَائِكَةِ - كَالْمُقَرَّبِينَ - أَفْضَلُ مِنْ خَوَاصِّ الْبَشَرِ كَالرُّسُلِ، وَلَا يَتَحَتَّمُ أَنْ يَقْتَضِيَ كَوْنَ عَوَامِّ الْمَلَائِكَةِ أَفْضَلَ مِنْ خَوَاصِّ الْبَشَرِ كَالرُّسُلِ، وَقَدْ يُنَافِيهِ كَوْنُ بَعْضِ الْمَلَائِكَةِ مُسَخَّرِينَ لِمَصَالِحِ الْبَشَرِ، وَلَكِنْ لَيْسَ فِي الْمَسْأَلَةِ نَصٌّ قَاطِعٌ فِي الْمَعْنَى الَّذِي جَعَلُوهُ مَحَلَّ الْخِلَافِ كَمَا قُلْنَا فِي تَفْسِيرِ آيَةِ النِّسَاءِ الْمُشَارِ
إِلَيْهَا هُنَا. وَإِنَّ النَّفْيَ هُنَا وَارِدٌ فِي بَيَانِ تَحْقِيقِ مَعْنَى الرِّسَالَةِ وَوَظِيفَةِ الرَّسُولِ وَكَوْنِهَا لَا تَسْتَلْزِمُ أَنْ يَقْدِرَ عَلَى مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إِلَّا اللهُ، أَوْ أَنْ يَعْلَمَ بِكَسْبِهِ مَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللهُ، وَلَا تَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ؛ يَقْدِرُ عَلَى مَا يَقْدِرُونَ، وَيَعْلَمُ مَا يَعْلَمُونَ. وَالْأَشَاعِرَةُ لَا يُنْكِرُونَ تَفْضِيلَ الْمَلَائِكَةِ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ، وَإِنَّمَا يُفَضِّلُونَ الْأَنْبِيَاءَ عَلَيْهِمْ بِكَثْرَةِ الثَّوَابِ فِي الْآخِرَةِ لِمَا احْتَمَلُوهُ مِنَ الْمَشَقَّةِ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَالْأَوْلَى أَنْ يُفَوَّضَ هَذَا الْأَمْرَ إِلَى اللهِ تَعَالَى، وَلَا يُجْعَلَ مَحَلَّ الْقِيلِ وَالْقَالِ؛ إِذْ لَا فَائِدَةَ لَنَا فِي ذَلِكَ، وَلَا عِلْمَ لَنَا بِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى أَعْمَالِ الْمَلَائِكَةِ مِنَ الْجَزَاءِ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى.
وَاسْتَنْبَطُوا مِنَ الْآيَةِ أَيْضًا أَصْلَيْنِ مِنْ أُصُولِ الْفِقْهِ وَقَوَاعِدِ الشَّرْعِ، قَالَ الرَّازِيُّ فِي بَيَانِهِمَا: قَوْلُهُ: (إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ) ظَاهِرُهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَعْمَلُ إِلَّا بِالْوَحْيِ، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى حُكْمَيْنِ:
(الْحُكْمُ الْأَوَّلُ) : أَنَّ هَذَا النَّصَّ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَكُنْ يَحْكُمُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَحْكَامِ، وَأَنَّهُ مَا كَانَ يَجْتَهِدُ، بَلْ جَمِيعُ أَحْكَامِهِ صَادِرَةٌ عَنِ الْوَحْيِ، وَيَتَأَكَّدُ هَذَا بِقَوْلِهِ:(وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى)(53: 3، 4) .
(الْحُكْمُ الثَّانِي) : أَنَّ نُفَاةَ الْقِيَاسِ قَالُوا: ثَبَتَ بِهَذَا النَّصِّ أَنَّهُ عليه السلام مَا كَانَ يَعْمَلُ إِلَّا بِالْوَحْيِ النَّازِلِ عَلَيْهِ، فَوَجَبَ أَلَّا يَجُوزَ لِأَحَدٍ مِنْ أُمَّتِهِ أَنْ يَعْمَلُوا إِلَّا بِالْوَحْيِ النَّازِلِ عَلَيْهِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:(فَاتَّبِعُوهُ)(6: 153 - 155) وَذَلِكَ يَنْفِي جَوَازَ الْعَمَلِ بِالْقِيَاسِ، ثُمَّ أَكَّدَ هَذَا الْكَلَامَ بِقَوْلِهِ:(قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ) وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعَمَلَ بِغَيْرِ الْوَحْيِ يَجْرِي مَجْرَى عَمَلِ الْأَعْمَى، وَالْعَمَلَ بِالْوَحْيِ يَجْرِي مَجْرَى عَمَلِ الْبَصِيرِ، ثُمَّ قَالَ:(أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ) وَالْمُرَادُ مِنْهُ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْعَاقِلِ أَنْ يَعْرِفَ الْفَرْقَ بَيْنَ هَذَيْنِ الْبَابَيْنِ، وَأَلَّا يَكُونَ غَافِلًا عَنْ مَعْرِفَتِهِ، وَاللهُ أَعْلَمُ. انْتَهَى كَلَامُهُ.
أَقَرَّ الرَّازِيُّ هُنَا هَاتَيْنِ الْمَسْأَلَتَيْنِ وَأَيَّدَهُمَا أَشَدَّ التَّأْيِيدِ، وَلَمْ يُحَامِ عَنِ الْقِيَاسِ وَهُوَ الرُّكْنُ الَّذِي بَنَى عَلَيْهِ جُلَّ فِقْهِ أَصْحَابِهِ الشَّافِعِيَّةِ وَالْجُمْهُورِ، حَتَّى كَأَنَّهُ مِنْ غُلَاةِ الظَّاهِرِيَّةِ، وَقَدْ حَرَّرَنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي هَذَا الْجُزْءِ مِنَ التَّفْسِيرِ (السَّابِعِ) عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ)(5: 101) بَعْدَ كَلَامٍ فِي ذَلِكَ فِي الْجُزْءِ السَّادِسِ عِنْدَ تَفْسِيرِ (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ)(5: 3) وَنَقُولُ هُنَا
رَدًّا عَلَى الْمَسْأَلَتَيْنِ: إِنَّ الْآيَةَ لَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَكُنْ يَجْتَهِدُ فِي الْأَحْكَامِ، وَأَنَّ جَمِيعَ أَحْكَامِهِ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ بِالنَّصِّ؛ فَإِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَكِّيَّةٌ، نَزَلَتْ فِي أَوَائِلِ الْإِسْلَامِ حَيْثُ لَا حُكُومَةَ لِلْإِسْلَامِ وَلَا أَحْكَامَ، وَحَيْثُ الدَّعْوَةُ الْإِسْلَامِيَّةُ قَاصِرَةٌ عَلَى أُصُولِ الدِّينِ وَكُلِّيَّاتِهِ وَهِيَ التَّوْحِيدُ وَالرِّسَالَةُ وَالْبَعْثُ وَالْجَزَاءُ، وَالتَّرْغِيبُ فِي الْفَضَائِلِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَالتَّنْفِيرُ عَنِ الرَّذَائِلِ وَعَمَلِ السُّوءِ، وَلَا حَاجَةَ إِلَى الِاجْتِهَادِ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ. وَيَقُولُ مُثْبِتُوا الِاجْتِهَادِ لَهُ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ اللهَ تَعَالَى أَذِنَ لَهُ بِهِ عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ، وَاسْتَدَلَّ بَعْضُهُمْ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:(إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ)(4: 105) أَيْ بِمَا أَرَاكَهُ فِيهِ نَصًّا أَوْ دَلَالَةً وَاجْتِهَادًا، وَبَيَّنَّا فِي تَفْسِيرِهَا أَنَّ الْمَانِعِينَ يَسْتَدِلُّونَ بِهَا أَيْضًا، وَأَنَّهَا لَيْسَتْ نَصًّا فِي الْمَنْعِ وَلَا الْإِثْبَاتِ [رَاجِعْ ص 322 ج 5 ط الْهَيْئَةِ] وَبَيَّنَاهُ هُنَالِكَ أَنَّ آيَةَ النَّجْمِ خَاصَّةٌ بِالْقُرْآنِ، إِذْ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ: إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَنْطِقْ إِلَّا بِالْوَحْيِ، بَلْ ثَبَتَ أَنَّ الْوَحْيَ كَانَ يَنْقَطِعُ عَنْهُ أَيَّامًا كَثِيرَةً، وَقَدْ حَكَمَ صلى الله عليه وسلم فِي أَسْرَى بَدْرٍ بِاجْتِهَادِهِ، وَعَاتَبَهُ اللهُ تَعَالَى عَلَى ذَلِكَ وَلَمْ يُقِرُّهُ عَلَيْهِ. وَالْقَائِلُونَ بِالْمَنْعِ لَا يَحْصُرُونَ الْوَحْيَ فِي الْقُرْآنِ. وَإِذَا كَانَ حُكْمُهُ صلى الله عليه وسلم بِالِاجْتِهَادِ فِيمَا لَا نَصَّ فِيهِ مِنَ الْوَحْيِ مَبْنِيًّا عَلَى إِذْنِ اللهِ تَعَالَى لَهُ بِالِاجْتِهَادِ - يَكُونُ مُتَّبِعًا فِيهِ لِمَا أُوحِيَ إِلَيْهِ.
وَكَذَلِكَ يُقَالُ فِي الْقِيَاسِ: إِذَا ثَبَتَ الْإِذْنُ بِهِ فِي كِتَابِ اللهِ تَعَالَى أَوْ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم يَكُونُ الْحُكْمُ بِهِ اتِّبَاعًا لِلْوَحْيِ، وَثُبُوتُهُ فِي السُّنَّةِ يَرْجِعُ إِلَى الْقُرْآنِ، إِذْ أَمَرَ بِاتِّبَاعِ الرَّسُولِ، وَشَهِدَ لَهُ بِأَنَّهُ لَا يَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيْهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْقِيَاسَ
الْمَنْصُوصَ عَلَى عِلَّتِهِ فِي الْكِتَابِ أَوِ السُّنَّةِ وَمَا قُطِعَ فِيهِ بِنَفْيِ الْفَارِقِ هُوَ الْقِيَاسُ الصَّحِيحُ الَّذِي لَا وَجْهَ لِلْخِلَافِ فِيهِ - وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ لَا يُسَمِّيهِ قِيَاسًا - وَأَنَّ قِيَاسَ الشَّبَهِ وَنَحْوَهُ مِنَ الْأَقْيِسَةِ الْبَعِيدَةِ عَنِ النُّصُوصِ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ وَلَا حُجَّةَ فِيهِ، وَرَاجِعْ تَفْصِيلِ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ الْأُولَى وَالْآيَةِ الثَّانِيَةِ بَعْدَ الْمِائَةِ مِنْ " سُورَةِ الْمَائِدَةِ ".
(وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) أَمَرَ اللهُ تَعَالَى رَسُولَهُ بِهَذَا الْإِنْذَارِ الْخَاصِّ بَعْدَ أَمْرِهِ بِتَبْلِيغِ النَّاسِ حَقِيقَةَ رِسَالَتِهِ، وَكَوْنِهَا لَا تَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونَ لَهُ مِنَ التَّصَرُّفِ وَالْعِلْمِ مَا لَا يَكُونُ إِلَّا لِلَّهِ تَعَالَى، وَلَا أَنْ يَكُونَ مَلَكًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَالْمُنَاسَبَةُ بَيْنَهَا أَنَّ الْمَوْصُوفِينَ بِمَا ذُكِرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ
أَجْدَرُ مِنْ غَيْرِهِمْ بِفَهْمِ حَقِيقَةِ الرِّسَالَةِ وَالِانْتِفَاعِ بِنَذْرِ الرَّسُولِ، فَهِيَ كَقَوْلِهِ:(إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ)(35: 18) وَقَوْلُهُ: (إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ)(36: 11) أَيْ: وَأَنْذِرْ بِمَا يُوحَى إِلَيْكَ جَمَاعَةَ الْمُؤْمِنِينَ بِكَ، الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ، أَيْ: يَخَافُونَ شِدَّةَ وَطْأَةِ الْحَشْرِ وَالْقُدُومَ عَلَى اللهِ عز وجل، وَمَا فِيهِ مِنْ شِدَّةِ الْحِسَابِ وَمَا يَتْبَعُهُ مِنَ الْجَزَاءِ عَلَى الْأَعْمَالِ فِي يَوْمٍ (لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ) (2: 254) (يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرَ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ)(82: 19) وَكُلٌّ يَأْتِيهِ فِيهِ فَرْدًا لَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ يَنْصُرُهُ، وَلَا شَفِيعٌ يَدْفَعُ عَنْهُ، إِذْ أَمْرُ النَّجَاةِ مُتَوَقِّفٌ عَلَى مَرْضَاتِهِ عز وجل، فَإِنَّ هَؤُلَاءِ هُمُ الَّذِينَ يُرْجَى أَنْ يَتَّقُوا اللهَ تَعَالَى اهْتِدَاءً بِإِنْذَارِكَ، وَيَتَحَرَّوْا مَا يُؤَدِّي إِلَى مَرْضَاتِهِ، لَا يَصُدُّهُمْ عَنْ تَقْوَاهُ الِاتِّكَالُ عَلَى الْأَوْلِيَاءِ، وَلَا الِاعْتِمَادُ عَلَى الشُّفَعَاءِ؛ لِصِحَّةِ تَوْحِيدِهِمْ، وَعِلْمِهِمْ أَنَّ الشَّفَاعَةَ لِلَّهِ جَمِيعًا (مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ) (1: 3) (وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ)(21: 28) وَأَنَّ نَجَاتَهُمْ وَسَعَادَتَهُمْ إِنَّمَا تَكُونُ بِإِيمَانِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ وَتَزْكِيَتِهِمْ لِأَنْفُسِهِمْ لَا بِانْتِفَاعِهِمْ بِصَلَاحِ غَيْرِهِمْ، أَوِ اعْتِمَادِهِمْ عَلَى شَفَاعَةِ الشُّفَعَاءِ لَهُمْ، كَالْمُشْرِكِينَ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْكَافِرِينَ الَّذِينَ جَهِلُوا أَنَّ مَدَارَ سَعَادَةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ عَلَى تَزَكِّي النَّفْسِ وَطِهَارَتِهَا بِالْإِيمَانِ الصَّحِيحِ وَالْأَخْلَاقِ الْكَرِيمَةِ، وَمَا يَلْزَمُ مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ الَّتِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا رِضَاءُ اللهِ عَنْهَا لَا عَلَى أَمْرٍ خَارِجٍ عَنِ النَّفْسِ لَا تَأْثِيرَ لَهُ فِيهَا.
هَذَا مَا يَتَبَادَرُ إِلَى الْفَهْمِ مِنْ مَعْنَى الْآيَةِ مُؤَيَّدًا بِآيَاتٍ كَثِيرَةٍ أُخْرَى، بَلْ بِجُمْلَةِ الدِّينِ وَكُلِّيَّاتِهِ الَّتِي أَشَرْنَا إِلَيْهَا آنِفًا، وَبِنَحْوِهِ فَسَّرَهَا الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ الْمَأْثُورِ، وَهَاكَ نَصُّ عِبَارَتِهِ: أَيْ: وَأَنْذِرْ بِالْقُرْآنِ يَا مُحَمَّدُ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ، الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ، (الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ) أَيْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، (لَيْسَ لَهُمْ) أَيْ يَوْمَئِذٍ (مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ) أَيْ لَا قَرِيبَ لَهُمْ وَلَا شَفِيعَ فِيهِمْ مِنْ عَذَابِهِ إِنْ أَرَادَهُ بِهِمْ، (لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) أَيْ
أَنْذِرْ هَذَا الْيَوْمَ الَّذِي لَا حَاكِمَ فِيهِ إِلَّا اللهُ عز وجل، لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ فَيَعْمَلُونَ فِي هَذِهِ الدَّارِ عَمَلًا يُنْجِيهِمُ اللهُ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ عَذَابِهِ، وَيُضَاعِفُ لَهُمْ بِهِ الْجَزِيلَ مِنْ ثَوَابِهِ. اهـ.
فَالْآيَةُ قَدْ نَزَلَتْ فِي إِنْذَارِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَخَافُونَ اللهَ وَيَرْجُونَهُ، وَقَدْ رَوَى
أَحْمَدُ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَأَبُو الشَّيْخِ، وَغَيْرُهُمْ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهَا نَزَلَتْ هِيَ وَمَا بَعْدَهَا فِي صُهَيْبٍ وَعَمَّارٍ وَبِلَالٍ وَخَبَّابٍ وَنَحْوِهِمْ مِنْ ضُعَفَاءِ الْمُسْلِمِينَ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ. وَلَمَّا كَانَتْ نَافِيَةً لِلشَّفَاعَةِ عَنْهُمْ لَجَأَ بَعْضُ مُفَسِّرِي الْخَلَفِ إِلَى تَأْوِيلِهَا،، وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ أَنَّهَا لَا تَحْتَاجُ إِلَى تَأْوِيلٍ " لِأَنَّ شَفَاعَةَ الْمَلَائِكَةِ وَالرُّسُلِ لِلْمُؤْمِنِينَ إِنَّمَا تَكُونُ بِإِذْنِ اللهِ؛ لِقَوْلِهِ:(مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ)(2: 255) فَلَمَّا كَانَتْ تِلْكَ الشَّفَاعَةُ بِإِذْنِ اللهِ كَانَتْ فِي الْحَقِيقَةِ مِنَ اللهِ تَعَالَى " قَالَهُ الرَّازِيُّ فِي وَجْهِ نُزُولِ الْآيَةِ فِي الْمُؤْمِنِينَ، وَذَكَرَ فِيهَا وَجْهَيْنِ آخَرَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْكُفَّارِ. وَثَانِيهِمَا: أَنَّهَا عَامَّةٌ. وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ كُلَّ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْكَفَّارِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ فَالْمُرَادُ بِهِ مُشْرِكُو مَكَّةَ وَمَاحَوْلَهَا، وَإِنَّمَا يَدْخُلُ فِيهِ غَيْرُهُمْ بِدَلَائِلِ الْعُمُومِ، وَكَانَ أُولَئِكَ الْمُشْرِكُونَ يُنْكِرُونَ الْحَشْرَ وَيَثْبِتُونَ الشَّفَاعَةَ عِنْدَ اللهِ لِآلِهَتِهِمْ وَأَوْلِيَائِهِمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا لَهُمُ التَّمَاثِيلَ وَالْأَصْنَامَ، كَإِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، إِلَّا مَنْ شَذَّ مِنْهُمْ فَقَالَ بِالْبَعْثِ، وَلَا أَذْكُرُ الْآنَ أَنَّهُ كَانَ فِي مَكَّةَ أَحَدٌ مِنْهُمْ عِنْدَ نُزُولِ السُّورَةِ، وَلَا يَعْقِلُ أَنْ تَكُونَ الْآيَةُ نَزَلَتْ فِي إِنْذَارِ هَذَا الشَّاذِّ النَّادِرِ.
وَلَكِنَّ أَبَا السُّعُودِ تَنَطَّعَ فِي التَّأْوِيلِ فَذَهَبَ إِلَى أَنَّ الْإِنْذَارَ هُنَا مُوَجَّهٌ " إِلَى مَنْ يُتَوَقَّعُ مِنْهُمُ التَّأَثُّرُ فِي الْجُمْلَةِ وَهُمُ الْمُجَوِّزُونَ مِنْهُمْ لِلْحَشْرِ عَلَى الْوَجْهِ الْآتِي سَوَاءٌ كَانُوا جَازِمِينَ بِأَصْلِهِ كَأَهْلِ الْكِتَابِ وَبَعْضِ الْمُشْرِكِينَ الْمُعْتَرِفِينَ بِالْبَعْثِ الْمُتَرَدِّدِينَ فِي شَفَاعَةِ آبَائِهِمُ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَالْأَوَّلِينَ، أَوْ فِي شَفَاعَةِ الْأَصْنَامِ كَالْآخَرِينَ، أَوْ مُتَرَدِّدِينَ فِيهِمَا مَعًا كَبَعْضِ الْكَفَرَةِ الَّذِينَ يُعْلَمُ مِنْ حَالِهِمْ أَنَّهُمْ إِذَا سَمِعُوا بِحَدِيثِ الْبَعْثِ يَخَافُونَ أَنْ يَكُونَ حَقًّا، وَأَمَّا الْمُنْكِرُونَ لِلْحَشْرِ رَأْسًا، وَالْقَائِلُونَ بِهِ الْقَاطِعُونَ بِشَفَاعَةِ آبَائِهِمْ أَوْ بِشَفَاعَةِ الْأَصْنَامِ، فَهُمْ خَارِجُونَ مِمَّنْ أُمِرَ بِإِنْذَارِهِمْ، وَقَدْ قِيلَ: هُمُ الْمُفَرِّطُونَ فِي الْأَعْمَالِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَلَا يُسَاعِدُهُ سِبَاقُ النَّظْمِ الْكَرِيمِ وَلَا سِيَاقُهُ، بَلْ فِيهِ مَا يَقْضِي بِاسْتِحَالَةِ صِحَّتِهِ، كَمَا سَتَقِفُ عَلَيْهِ " - هَذِهِ عِبَارَتُهُ - وَقَدْ جَعَلَ جُمْلَةَ (لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ) حَالًا مِنْ ضَمِيرِ (يُحْشَرُوا) قَالَ: " وَالْمَعْنَى: أَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا غَيْرَ مَنْصُورِينَ مِنْ جِهَةِ أَنْصَارِهِمْ عَلَى زَعْمِهِمْ، وَمِنْ هَذَا اتَّضَحَ أَنْ لَا سَبِيلَ إِلَى كَوْنِ الْمُرَادِ بِالْخَائِفِينَ الْمُفْرِّطِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ؛ إِذْ لَيْسَ لَهُمْ وَلِيٌّ سِوَاهُ تَعَالَى يَخَافُونَ
الْحَشْرَ بِدُونِ نُصْرَتِهِ، وَإِنَّمَا الَّذِي يَخَافُونَهُ الْحَشْرَ بِدُونِ نُصْرَتِهِ عز وجل " انْتَهَى. وَقَدْ لَخَّصَ كَلَامَهُ السَّيِّدُ الْأَلُوسِيُّ فِي " رُوحِ الْمَعَانِي " وَقَالَ: " هُوَ تَحْقِيقٌ لَمْ أَرَهُ لِغَيْرِهِ، وَيَصْغُرُ لَدَيْهِ مَا فِي التَّفْسِيرِ الْكَبِيرِ، وَلَعَلَّ
مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ رضي الله عنهما لَمْ يَثْبُتْ عَنْهُمَا فَتَدَبَّرْ " انْتَهَى. وَمُرَادُهُ بِمَا رُوِيَ عَنِ الْحَبْرِ وَالْحَسَنِ هُوَ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي الْمُؤْمِنِينَ.
وَنَقُولُ: قَدْ تَدَبَّرْنَا الْكَلَامَ فَوَجَدْنَا أَنَّ هَذَا الَّذِي سَمَّيْتَهُ تَحْقِيقًا تَنَطُّعٌ وَتَكَلُّفٌ بَعِيدٌ عَنْ سِبَاقِ الْآيَةِ وَسِيَاقِهَا، وَلَوْلَا إِعْجَابُكَ بِهَذَا الرَّجُلِ وَاعْتِمَادُكَ عَلَيْهِ فِي حَلِّ تَفْسِيرِكَ لَمَا خَفِيَ عَنْ ذِهْنِكَ الْمُنِيرِ تَكَلُّفُهُ هَذَا الَّذِي خَالَفَ فِيهِ الْمَأْثُورَ الْمُتَبَادِرَ مِنَ النَّظْمِ الْكَرِيمِ الْمُوَافِقِ لِلْحَالِ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ السُّورَةُ، فَجَعَلَ الْإِنْذَارَ مُوَجَّهًا إِلَى مَنْ لَا يَكَادُ يُوجَدُ أَحَدٌ مِنْهُمْ فِي مَكَّةَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَشُذَّاذِ الْمُشْرِكِينَ، وَلَا حَاجَةَ فِي حَالِ تَوْجِيهِ الْإِنْذَارِ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ إِلَى تَخْصِيصِهِ بِالْمُفَرِّطِينَ مِنْهُمْ، وَلَمْ يَكُنْ فِي الْمُؤْمِنِينَ يَوْمَئِذٍ مُفَرِّطٌ وَلَا مُقَصِّرٌ، بَلْ كُلُّهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ مُشَمِّرٌ، فَهُمُ السَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ الَّذِينَ شَهِدَ اللهُ تَعَالَى لَهُمْ، وَأَثْبَتَ فِي كِتَابِهِ رِضَاءَهُ عَنْهُمْ. وَالْمَأْثُورُ أَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أُمِرَ صلى الله عليه وسلم بِإِنْذَارِهِمْ هُمُ الَّذِينَ نَهَى عَنْ طَرْدِهِمْ بِقَوْلِهِ عز وجل:
(وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) رَوَى أَحْمَدُ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ وَغَيْرُهُمْ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: مَرَّ الْمَلَأُ مِنْ قُرَيْشٍ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَعِنْدَهُ صُهَيْبٌ وَعَمَّارٌ وَخَبَّابٌ وَنَحْوُهُمْ مِنْ ضُعَفَاءِ الْمُسْلِمِينَ، فَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ أَرَضِيتَ بِهَؤُلَاءِ مِنْ قَوْمِكَ؟ أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا؟ أَنْحَنُ نَكُونُ تَبَعًا لِهَؤُلَاءِ؟ اطْرُدْهُمْ عَنْكَ، فَلَعَلَّكَ إِنْ طَرَدْتَهُمْ أَنْ نَتَّبِعَكَ، فَأُنْزِلَ فِيهِمُ الْقُرْآنُ (وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ) إِلَى قَوْلِهِ:(أَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ) وَقِيلَ: إِلَى قَوْلِهِ: (سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ)(55) وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: مَشَى عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَشَبْيَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَقَرَظَةُ بْنُ عَمْرِو بْنِ نَوْفَلٍ، وَالْحَارِثُ بْنُ عَامِرِ بْنِ نَوْفَلٍ فِي أَشْرَافِ الْكُفَّارِ مِنْ بَنِي عَبْدِ مُنَافٍ إِلَى أَبِي طَالِبٍ، فَقَالُوا لَهُ: لَوْ أَنَّ ابْنَ أَخِيكَ طَرَدَ عَنَّا هَؤُلَاءِ الْأَعْبُدَ، فَإِنَّهُمْ عَبِيدُنَا وَعُسَفَاؤُنَا - كَانَ لَهُ أُعْظَمَ فِي صُدُورِنَا، وَأَطْوَعَ لَهُ عِنْدَنَا، وَأَدْنَى لِاتِّبَاعِنَا إِيَّاهُ وَتَصْدِيقِهِ. فَذَكَرَ ذَلِكَ أَبُو طَالِبٍ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ:
لَوْ فَعَلْتَ يَا رَسُولَ اللهِ حَتَّى نَنْظُرَ مَا يُرِيدُونَ بِقَوْلِهِمْ وَمَا يَصِيرُونَ إِلَيْهِ مِنْ أَمْرِهِمْ. فَأَنْزَلَ اللهُ (وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ) إِلَى قَوْلِهِ: (أَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمِ بِالشَّاكِرِينَ) قَالَ: وَكَانُوا بِلَالًا، وَعَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ، وَسَالِمًا مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ، وَصُبَيْحًا مَوْلَى أُسَيْدٍ، وَمِنَ الْحُلَفَاءِ: ابْنُ مَسْعُودٍ، وَالْمِقْدَادُ بْنُ عَمْرٍو، وَوَاقِدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ الْحَنْظَلِيُّ، وَعَمْرُو بْنُ عَبْدِ عَمْرٍو ذُو الشِّمَالَيْنِ، وَمَرْثَدُ بْنُ أَبِي مَرْثَدٍ، وَأَشْبَاهُهُمْ، وَنَزَلَتْ فِي أَئِمَّةِ الْكُفْرِ مِنْ قُرَيْشٍ وَالْمَوَالِي وَالْحُلَفَاءِ (وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا) الْآيَةَ، فَلَمَّا نَزَلَتْ أَقْبَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فَاعْتَذَرَ، فَأَنْزَلَ اللهُ:(وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا)(54) الْآيَةَ. هَذَا أَقْوَى مَا أَوْرَدَ
السُّيُوطِيُّ فِي الدُّرِّ الْمَنْثُورِ، وَاخْتَصَرَ الرِّوَايَتَيْنِ فِي لُبَابِ النُّقُولِ، وَلَا يُنَافِي هَذَا نُزُولُ السُّورَةِ دُفْعَةً وَاحِدَةً، وَكَوْنُ هَذِهِ الْآيَاتِ لَيْسَتْ مِمَّا اسْتَثْنَاهُ بَعْضُهُمْ وَبَيَّنَاهُ فِي الْكَلَامِ عَلَيْهَا قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي تَفْسِيرِهَا ; لِأَنَّ قَوْلَهُمْ إِنْ كَذَا نَزَلَ فِي كَذَا يُصَدَّقُ بِنُزُولِهِ وَحْدَهُ وَبِنُزُولِهِ فِي ضِمْنِ سُورَةٍ كَامِلَةٍ أَوْ سِيَاقٍ مِنْ سُورَةٍ، لَكِنَّ ظَاهِرَ مَا زَادَهُ عِكْرِمَةُ مِنْ نُزُولِ (وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا) فِي عُمَرَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ نُزُولَهَا كَانَ بَعْدَ اعْتِذَارِهِ، وَأَنَّ اعْتِذَارَهُ كَانَ بَعْدَ نُزُولِ مَا قَبْلَهَا. وَيُعَارِضُ هَذَا الظَّاهِرَ مَا وَرَدَ فِي نُزُولِهَا دُفْعَةً وَاحِدَةً، وَكَوْنَ هَذِهِ الْآيَةِ لَيْسَتْ مِمَّا اسْتُثْنِيَ، وَهُوَ أَثْبَتُ مِنْ هَذِهِ الرِّوَايَةِ، وَمَا وَرَدَ فِي سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ أَيْضًا وَسَيَأْتِي قَرِيبًا، وَحِينَئِذٍ يُقَالُ: إِمَّا أَنَّ الزِّيَادَةَ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ، وَإِمَّا أَنَّ ظَاهِرَ الْعِبَارَةِ غَيْرُ مُرَادٍ، وَإِنَّمَا لَمْ نَرُدَّ الرِّوَايَةَ مِنْ أَصْلِهَا مَعَ أَنَّ فِي سَنَدِهَا مِنَ الْمَقَالِ مَا فِيهِ؛ لِأَنَّ نُزُولَ الْآيَاتِ الْأُولَى فِي ضُعَفَاءِ الصَّحَابَةِ هُوَ الْوَاقِعُ الَّذِي لَا مَنْدُوحَةَ عَنْهُ، وَالرِّوَايَاتُ فِيهِ مَبْنِيَّةٌ لِلْوَاقِعِ، يُؤَيِّدُ فِيهِ بَعْضُهَا بَعْضًا، فَلَا يَضُرُّ فِي مَثَلِهِ ضَعْفُ الرَّاوِي بِبِدْعَةٍ أَوْ بِتَدْلِيسٍ أَوْ تَحْدِيثٍ بَعْدَ اخْتِلَاطٍ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الْعِلَلِ الَّتِي فِي رِجَالِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ.
أَمَّا كَوْنُ هَذَا هُوَ الْوَاقِعُ فَمَعْلُومٌ مِنَ السِّيرَةِ النَّبَوِيَّةِ وَمِنْ سُنَّةِ اللهِ تَعَالَى فِي خَلْقِهِ
الْمُبَيَّنَةِ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ مِنْ كِتَابِهِ، وَهُوَ أَنْ أَوَّلَ أَتْبَاعِ خَاتَمِ الرُّسُلِ صلى الله عليه وسلم كَأَتْبَاعِ مَنْ تَقَدَّمَهُ مِنْ إِخْوَانِهِ الرُّسُلِ - صَلَّى الله عَلَيْهِمْ وَسَلَّمَ - أَكْثَرُهُمْ مِنَ الضُّعَفَاءِ الْفُقَرَاءِ، وَأَنَّ أَعْدَاءَهُ كَأَعْدَائِهِمْ هُمُ الْمُتْرَفُونَ مِنَ الْأَكَابِرِ وَالرُّؤَسَاءِ، وَأَنَّ هَؤُلَاءِ الْأَعْدَاءَ الْمُسْتَكْبِرِينَ عَنِ الْإِيمَانِ كَانُوا يَحْتَقِرُونَ السَّابِقَيْنِ إِلَى الْإِيمَانِ وَيَذُمُّونَهُمْ وَيَعُدُّونَ أَنْفُسَهُمْ مَعْذُورِينَ أَوْ مُحِقِّينَ بِعَدَمِ رِضَائِهِمْ لِأَنْفُسِهِمْ بِمُسَاوَاتِهِمْ، وَتَارَةً يَقْتَرِحُونَ عَلَى الرُّسُلِ طَرْدَهُمْ وَإِبْعَادَهُمْ، قَالَ اللهُ تَعَالَى فِي " سُورَةِ سَبَأٍ ":(وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ)(34: 34، 35) وَقَالَ تَعَالَى فِي " سُورَةِ هُودٍ " حَاكِيًا قَوْلَ الْمَلَأِ، أَيِ الْأَشْرَافِ مِنْ قَوْمِ نُوحٍ عليه السلام لَهُ:(وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ)(11: 27) وَقَوْلُهُ لَهُمْ: (وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُوا رَبِّهِمْ) إِلَى قَوْلِهِ: (أَفَلَا تَذَكُّرُونَ)(11: 29، 30) وَقَدْ حَكَى الله عَنْ كُفَّارِ قُرَيْشٍ أَنَّهُمْ قَالُوا فِي هَؤُلَاءِ الضُّعَفَاءِ السَّابِقِينَ إِلَى الْإِسْلَامِ: (لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ)(46: 11) وَقَالَ فِي شَأْنِهِمْ مِنْ " سُورَةِ مَرْيَمَ ": (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا)(19: 73، 74) .
وَمَعْنَى الْآيَةِ هُنَا: وَلَا تَطْرُدْ أَيُّهَا الرَّسُولُ هَؤُلَاءِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُوَحِّدِينَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ
بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ، أَيْ فِي النَّهَارِ وَآخِرِهِ أَوْ فِي عَامَّةِ الْأَوْقَاتِ ; لِأَنَّهُ يُكَنَّى بِطَرَفَيِ الشَّيْءِ عَنْ جُمْلَتِهِ، يُقَالُ: يَفْعَلُ كَذَا صَبَاحًا وَمَسَاءًا إِذَا كَانَ مُدَاوِمًا عَلَيْهِ، وَإِذَا أُرِيدَ بِالْغُدُوِّ وَالْعَشِيِّ حَقِيقَتَهُمَا فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِالدُّعَاءِ الصَّلَاةُ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ صَلَاتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا فِي الصَّبَاحِ وَالْأُخْرَى فِي الْمَسَاءِ، وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّ الْمُرَادَ صَلَاتَا الصُّبْحِ وَالْعَصْرِ ; وَإِلَّا فَالدُّعَاءُ يَشْمَلُ الدُّعَاءَ الْحَقِيقِيَّ وَالصَّلَاةَ وَالْقُرْآنَ الْمُشْتَمِلَيْنِ عَلَيْهِ، وَالْغَدَاةُ وَالْغُدْوَةُ كَالْبُكْرَةِ مَا بَيْنَ طُلُوعِ الْفَجْرِ إِلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَالْعَشِيِّ آخِرُ النَّهَارِ، وَقِيلَ: مِنَ الْمَغْرِبِ إِلَى الْعِشَاءِ، وَقِيلَ: مِنْ بَعْدِ الزَّوَالِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ (بِالْغُدْوَةِ) بِضَمِّ الْغَيْنِ وَفَتْحِ الْوَاوِ، وَيُسَاعِدُهُ رَسْمُ الْمُصْحَفِ؛ لِأَنَّ الْكَلِمَةَ فِيهِ بِالْوَاوِ كَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ، وَالْبَاقُونَ بِالْغَدَاةِ بِفَتْحِ الْغَيْنِ، وَقَلْبِ الْوَاوِ أَلِفًا لِتَحَرُّكِهَا وَانْفِتَاحِ مَا قَبْلَهَا حَسَبَ الْقَاعِدَةِ. وَاسْتُعْمِلَتْ " غُدْوَةٌ " بِالضَّمِّ - بِالتَّنْوِينِ وَبِغَيْرِ التَّنْوِينِ كَبُكْرَةٍ، وَمُعَرَّفَةٌ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ كَمَا
نَقَلَ سِيبَوَيْهِ عَنِ الْخَلِيلِ، فَإِذَا نُوِّنَتْ قُصِدَ بِهَا صَبَاحَ يَوْمٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ، وَإِذَا لَمْ تُنَوَّنْ قُصِدَ بِهَا صَبَاحَ مُعَيَّنٍ، وَلَعَلَّ الْأَكْثَرَ فِي اسْتِعْمَالِهَا أَنْ تَكُونَ بِغَيْرِ الْأَلِفِ وَاللَّامِ، وَقَدْ ظَنَّ أَبُو عُبَيْدٍ أَنَّ هَذَا مُطَّرِدٌ، وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ قِرَاءَةَ ابْنِ عَامِرٍ رِوَايَةٌ مُتَوَاتِرَةٌ يَثْبُتُ بِهَا تَعْرِيفُ الْغُدْوَةَ فِي أَصَحِّ الْكَلَامِ، بَلْ ظَنَّ أَنَّهَا خَطَأٌ جَاءَ مِنْ جِهَةِ الرَّسْمِ فَخَطَّأَ مَنْ قَرَأَ بِذَلِكَ، وَحَسْبُكَ فِي تَخْطِئَتِهِ هُوَ أَنَّ الْقِرَاءَةَ مُتَوَاتِرَةٌ، وَإِنْ لَمْ يَنْقُلِ الْخَلِيلُ وَكَذَا الْمُبَرِّدُ تَعْرِيفَهَا عَنِ الْعَرَبِ. وَالْمَشْهُورُ أَنَّ مَنْعَ صَرْفِ (غُدْوَةَ وَبُكْرَةَ) لِلْعَلَمِيَّةِ الْجِنْسِيَّةِ، وَقِيلَ لِلْعَلَمِيَّةِ الشَّخْصِيَّةِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ " يَدْعُونَ "، أَيْ: يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ مُرِيدِينَ بِهَذَا الدُّعَاءِ وَجْهَهُ سبحانه وتعالى، مُبْتَغِينَ مَرْضَاتَهُ، أَيْ يَتَوَجَّهُونَ بِهِ إِلَيْهِ وَحْدَهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ، فَلَا يُشْرِكُونَ مَعَهُ أَحَدًا، وَلَا يَرْجُونَ مِنْ غَيْرِهِ عَلَيْهِ ثَوَابًا، وَلَا يَتَوَقَّعُونَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ مَدْحًا وَلَا نَفْعًا، فَهَذَا التَّعْبِيرُ يَدُلُّ عَلَى الْإِخْلَاصِ لِلَّهِ تَعَالَى فِي الْعَمَلِ وَابْتِغَاءِ مَرْضَاتِهِ بِهِ وَحْدَهُ وَعَدَمِ الرِّيَاءِ فِيهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنِ الْمُطْعِمِينَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ:(إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا 76: 9) وَكَمَا قَالَ فِي الْأَتْقَى الَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ لِيَتَزَكَّى بِهِ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى وَيَكُونَ مَقْبُولًا
مَرْضِيًّا لَدَيْهِ: (وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى وَلَسَوْفَ يَرْضَى)(92: 19 - 21)
وَلَعَلَّ أَصْلَ ابْتِغَاءِ الْوَجْهِ بِالْعَمَلِ هُوَ أَنْ يَعْمَلَ لِيُوَاجِهَ بِهِ مَنْ عَمِلَ لِأَجْلِهِ، فَيَعْتَنِي بِإِتْقَانِهِ مَا لَا يَعْتَنِي بِإِتْقَانِ مَا يَعْمَلُ لِيُرْسَلَ إِلَى مَنْ عَمِلَ لَهُ، أَوْ لِأَنَّهُ مَطْلُوبٌ فِي الْجُمْلَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُلَاحِظَ الْعَامِلُ أَنَّ مَنْ يَعْمَلُ لَهُ يَرَاهُ، فَضْلًا عَنْ كَوْنِهِ هُوَ الَّذِي يَعْرِضُهُ بِنَفْسِهِ عَلَى مَنْ يُرِيدُ التَّقَرُّبَ إِلَيْهِ بِهِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْأَعْمَالَ الَّتِي تُعْمَلُ لِلْمُلُوكِ وَالْأُمَرَاءِ مِنْهَا مَا لَا يَرَوْنَهُ الْبَتَّةَ كَأَنْ يَكُونَ لِمَا لَا يَطَّلِعُونَ عَلَيْهِ مِنْ أَعْمَالِ الْخِدْمَةِ فِي قُصُورِهِمْ، وَمِنْهَا مَا يَرَوْنَهُ رُؤْيَةً إِجْمَالِيَّةً مَعَ كَثِيرٍ مِنْ أَمْثَالِهِ، وَمَا يَرَوْنَهُ مِنْهَا يَعْرِضُهُ عَلَيْهِمْ عُمَّالُهُمْ وَحُجَّابُهُمْ، وَمِنْهَا مَا قَدْ يَعْرِضُهُ الْعَامِلُ بِنَفْسِهِ وَيُقَابِلُ وَجْهَ الْمَلِكِ بِهِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنَ الْعَمَلِ هُوَ الَّذِي يُعْتَنَى بِهِ أَكْمَلَ الِاعْتِنَاءَ، وَلَا يُفَكِّرُ الْعَامِلُ لَهُ فِي وَقْعِهِ عِنْدَ الْحُجَّابِ أَوِ الْوُزَرَاءِ أَوْ غَيْرِهِمْ مِنْ بِطَانَةِ الْمَلِكِ أَوْ حَاشِيَتِهِ ; لِعِلْمِهِ بِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي سَيَعْرِضُهُ عَلَيْهِ وَيَلْقَاهُ بِهِ، فَيَكُونُ هَمُّهُ مَحْصُورًا فِي جَعْلِهِ مَرْضِيًّا عِنْدَهُ، جَدِيرًا بِقَبُولِهِ وَحُسْنِ الْجَزَاءِ عَلَيْهِ.
وَلَا يَغُرَّنَّكَ مَا تَخَيَّلَهُ بَعْضُ الصُّوفِيَّةِ مِنْ جَعْلِ ابْتِغَاءِ اللهِ تَعَالَى مُنَافِيًا لِابْتِغَاءِ مَرْضَاتِهِ أَوِ ابْتِغَاءِ وَجْهِهِ، فَالْحَقُّ أَنْ لَا مُنَافَاةَ، وَأَنَّ الْكَمَالَ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ، وَأَنَّ الْعَمَلَ لِأَجْلِ الذَّاتِ الَّتِي يُفَسِّرُونَ بِهَا الْوَجْهَ مَعَ عَدَمِ قَصْدِ الرِّضَاءِ وَلَا الثَّوَابِ مِنَ النَّظَرِيَّاتِ الَّتِي لَا يَسْهُلُ إِثْبَاتُ إِمْكَانِهَا وَلَا مَشْرُوعِيَّتِهَا، وَلَا يُنْكَرُ مَا يَعْرِضُ لِبَعْضِ النَّاسِ مِنَ الْأَحْوَالِ النَّفْسِيَّةِ الَّتِي يَنْحَصِرُ تَخَيُّلُهُمْ فِيهَا، حَتَّى يَظُنُّوا أَنَّهَا حَقِيقَةٌ ثَابِتَةٌ فِي نَفْسِهَا، وَصَاحِبُ تِلْكَ الْحَالِ لَا يَعْرِفُ حَقِيقَةَ الذَّاتِ، وَلَا يَعْقِلُ مَعْنَى كَوْنِ الْعَمَلِ لَهَا، نَعَمْ إِنَّ مِنَ الْوَاقِعِ الَّذِي لَا يُنْكَرُ أَنْ يَقْصِدَ الْعَامِلُ بِعَمَلِهِ النَّجَاةَ مِنْ عِقَابِ النَّارِ أَوِ الْفَوْزَ بِنَعِيمِ الْجَنَّةِ، وَإِنَّ هَذَا حَسَنٌ وَمَحْمُودٌ شَرْعًا، وَلَكِنَّهُ دُونَ مَرْتَبَةِ الْكَمَالِ الَّذِي هَدَى إِلَيْهِ الْقُرْآنُ، وَهُوَ أَنْ يَقْصِدَ الْمُؤْمِنُ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ تَزْكِيَةَ نَفْسِهِ وَتَكْمِيلَهَا؛ لِتَكُونَ أَهْلًا لِلِقَاءِ اللهِ، وَمَحَلًّا لِمَرْضَاتِهِ وَثَوَابِهِ فِي دَارِ كَرَامَتِهِ، وَأَعْلَى الثَّوَابِ رِضْوَانُ اللهِ تَعَالَى، وَكَمَالُ الْعِرْفَانِ وَالْعِلْمِ بِهِ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ فِي الْأَحَادِيثِ الشَّرِيفَةِ بِرُؤْيَةِ وَجْهِهِ الْكَرِيمِ، بِلَا كَيْفَ وَلَا تَشْبِيهٍ وَلَا تَمْثِيلٍ، وَقَدْ قَرَّبْنَا هَذَا الْمَعْنَى الْعَالِيَ فِي بَابِ الْفَتْوَى مِنَ الْمَنَارِ فَيُرَاجَعُ فِيهِ، وَلَعَلَّنَا نَعُودُ إِلَيْهِ فِي التَّفْسِيرِ.
(مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ) أَيْ مَا عَلَيْكَ شَيْءٌ مَا مِنْ أَمْرِ حِسَابِ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ، لَا عَلَى دُعَائِهِمْ وَلَا عَلَى غَيْرِهِ مِنْ أَعْمَالِهِمُ الدِّينِيَّةِ - كَمَا تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ صِلَةُ الْمَوْصُولِ - وَإِلَّا فَظَاهِرُ تَأْكِيدِ النَّفْيِ عُمُومُهُ. كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِمْ شَيْءٌ مَا مِنْ أَمْرِ حِسَابِكَ عَلَى أَعْمَالِكَ حَتَّى يُمْكِنَ أَنْ يَتَرَتَّبَ عَلَى هَذَا أَوْ ذَاكَ طَرْدُكَ إِيَّاهُمْ بِإِسَاءَتِهِمْ فِي عَمَلِهِمْ أَوْ مُحَاسَبَتِكَ عَلَى عَمَلِكَ، فَإِنَّ الطَّرْدَ جَزَاءٌ، وَإِنَّمَا يَكُونُ عَلَى عَمَلٍ سَيِّئٍ يَسْتَوْجِبُهُ، وَلَا يَثْبُتُ إِلَّا بِحِسَابٍ، وَالْمُؤْمِنُونَ لَيْسُوا عَبِيدًا لِلرُّسُلِ وَلَا أَعْمَالُهُمُ الدِّينِيَّةِ لَهُمْ، بَلْ هِيَ لِلَّهِ تَعَالَى يُرِيدُونَ بِهَا وَجْهَهُ لَا أَوْجُهَ الرُّسُلِ، وَحِسَابُهُمْ عَلَيْهِ تَعَالَى لَا عَلَيْهِمْ، وَإِنَّمَا الرُّسُلُ هُدَاةٌ مُعَلِّمُونَ، لَا أَرْبَابٌ وَلَا مُسَيْطِرُونَ (فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ) (88: 21، 22) وَإِذَا لَمْ يَكُنْ لِلرُّسُلِ حَقُّ السَّيْطَرَةِ عَلَى النَّاسِ وَمُحَاسَبَتِهِمْ عَلَى أَعْمَالِهِمُ الدِّينِيَّةِ
فَلَيْسَ لِلنَّاسِ عَلَيْهِمْ هَذَا الْحَقُّ بِالْأَوْلَى، وَالْمَأْثُورُ عَنِ النَّصَارَى أَنَّ الْمَسِيحَ عليه السلام كَانَ يُسَمَّى مُعَلِّمًا، وَأَنَّ أَتْبَاعَهُ فِي عَهْدِهِ كَانُوا يُسَمَّوْنَ تَلَامِيذَ. وَأَمَّا أَتْبَاعُ نَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلم فَقَدِ اخْتَارَ لَهُمْ كَلِمَةَ الْأَصْحَابِ الدَّالَّةَ عَلَى الْمُسَاوَاةِ تَوَاضُعًا، عَلَى أَنَّ مِنْ أُصُولِ شَرِيعَتِهِ الْكَامِلَةِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم مُسَاوٍ فِي أَحْكَامِهَا لِسَائِرِ الْمُؤْمِنِينَ فِيمَا يَجِبُ وَيُنْدَبُ وَيَحِلُّ وَيُحْرُمُ وَيُبَاحُ وَيُكْرَهُ إِلَّا مَا خَصَّهُ اللهُ تَعَالَى بِهِ مِنَ الْأَحْكَامِ، وَلَمْ تَكُنْ تِلْكَ الْأَحْكَامُ الْخَاصَّةُ مِنْ قَبِيلِ مَا يَعْهَدُ النَّاسُ مِنِ امْتِيَازِ الْمُلُوكِ عَلَى الرَّعَايَا مِنْ أُمُورِ الْأُبَّهَةِ وَالزِّينَةِ وَالْعَظَمَةِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَالنَّعِيمِ، بَلْ هِيَ أَحْكَامٌ شَاقَّةٌ لَا يَقْوَى عَلَى الْقِيَامِ بِهَا غَيْرُهُ صلى الله عليه وسلم كَوُجُوبِ قِيَامِ اللَّيْلِ عَلَيْهِ، وَكَوْنِ مَا يَتْرُكُهُ صَدَقَةٌ لِلْأُمَّةِ لَا إِرْثًا لِذَرِّيَّتِهِ، وَكَفَالَتِهِ عِدَّةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الْأَرَامِلِ أَكْثَرُهُنَّ مُسِنَّاتٌ يُسَاوِي بَيْنَهُنَّ وَبَيْنَ عَائِشَةَ الْجَمِيلَةِ الصُّورَةِ الْبَارِعَةِ الذَّكَاءِ فِي كُلِّ مَا يَمْلِكُ مِنْ نَفْسِهِ وَذَاتِ يَدِهِ (وَحِكْمَةُ تَعْدُدِهِنَّ قَدْ فَصَلْنَاهَا فِي تَفْسِيرِ آيَةِ تَعَدُّدِ الزَّوْجَاتِ مِنْ أَوَّلِ " سُورَةِ النِّسَاءِ " [رَاجِعْ ص 287 وَمَا بَعْدَهَا ج 4 ط الْهَيْئَةِ] ثُمَّ زِدْنَاهَا بَيَانًا فِي الْمَنَارِ) .
وَقِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ هُنَا الْحِسَابُ عَلَى الرِّزْقِ إِذْ زَعَمَ الْمُشْرِكُونَ أَنَّ أُولَئِكَ الضُّعَفَاءَ مَا آمَنُوا بِهِ صلى الله عليه وسلم إِلَّا لِأَنَّهُمْ يَجِدُونَ عِنْدَهُ رِزْقًا، وَأَنَّهُمْ لَيْسُوا بِصَادِقِينَ فِي إِيمَانِهِمْ فَكَأَنَّ اللهَ تَعَالَى يَقُولُ لَهُ لَيْسَ عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِ رِزْقِهِمْ وَلَا عَلَيْهِمْ مِنْ حِسَابِ رِزْقِكَ شَيْءٌ وَإِنَّمَا يَرْزُقُكُمُ اللهُ جَمِيعًا، وَحَمْلُ الْآيَةِ عَلَى هَذَا ضَعِيفٌ، وَإِنْ نُقِلَ
عَنِ ابْنِ زَيْدٍ، وَالْأَوَّلُ مَنْقُولٌ عَنْ عَطَاءٍ، وَعَلَيْهِ الْجُمْهُورُ. وَإِذَا صَحَّ أَنَّ كُبَرَاءَ الْمُشْرِكِينَ طَعَنُوا فِي إِيمَانِ ضُعَفَاءَ الْمُسْلِمِينَ فَالْأَقْرَبُ أَنَّهُمْ قَصَدُوا بِذَلِكَ الْكَيْدَ؛ لِلتَّفْرِقَةِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم وَصَدَّ سَائِرِ الضُّعَفَاءِ عَنْهُ بِأَنَّ عَاقِبَتُهُمُ الطَّرْدَ وَالْإِبْعَادَ، كَمَا يَصُدُّونَ الْأَقْوِيَاءَ وَالْكُبَرَاءَ بِإِثَارَةِ الْحَمِيَّةِ وَالْكِبْرِيَاءِ، فَإِنْ كَانَ فِيهِمْ مَنْ أَسَاءَ الظَّنَّ بِبَعْضِ أُولَئِكَ السَّابِقِينَ الْكِرَامِ لِاحْتِقَارِهِمْ إِيَّاهُمْ، فَإِنَّمَا كَانَ فِي أَوَّلِ الْعَهْدِ بِإِسْلَامِهِمْ، قَبْلَ أَنْ كَانَ مَا كَانَ مِنْ فِتْنَتِهِمْ، فَقَدْ فَتَنُوهُمْ بِأَنْوَاعٍ مِنَ الْعَذَابِ لِيَرْجِعُوا إِلَى الشِّرْكِ كَالْجُوعِ وَالْحَبْسِ، وَالضَّرْبِ، بَلْ كَانُوا يَكْوُونَ بَعْضَهُمْ بِالنَّارِ كَمَا فَعَلُوا بِآلِ يَاسِرٍ، أَوْ بِوَضْعِهِمْ عُرَاةَ الْأَبْدَانِ عَلَى الرَّمْلِ الْمُحْمَّى بِهَجِيرِ الصَّيْفِ كَمَا فَعَلُوا بِبِلَالٍ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ) جَوَابٌ لِلنَّهْيِ عَنِ الطَّرْدِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ قَبْلَهُ:(فَتَطْرُدَهُمْ) فَهُوَ جَوَابٌ لِنَفْيِ الْحِسَابِ تَنْتَهِي بِهِ الْجُمْلَةُ الِاعْتِرَاضِيَّةُ الْمُعَلِّلَةُ لِعَدَمِ جَوَازِ الطَّرْدِ بِبِنَاءِ نَفْيِهِ عَلَى نَفْيِ سَبَبِهِ الَّذِي يَتَوَقَّفُ جَوَازُهُ عَلَيْهِ. وَجَوَّزَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَغَيْرُهُ عَطْفَ الثَّانِي عَلَى الْأَوَّلِ، وَأَوْرَدَ عَلَيْهِ إِيرَادَاتٍ أُجِيبَ عَنْهَا بِسُهُولَةٍ، وَجَوَّزَ بَعْضُهُمْ كَوْنَ الْأَوَّلِ جَوَابَ النَّهْيِ وَالثَّانِي مَعْطُوفًا عَلَيْهِ، وَأَوْرَدُوا عَلَيْهِ مَا لَا يُجَابُ عَنْهُ إِلَّا بِتَكَلُّفٍ. وَالْمَعْنَى عَلَى الْأَوَّلِ - وَهُوَ الصَّحِيحُ - لَا تَطْرُدْ هَؤُلَاءِ فَتَكُونَ بِطَرْدِكَ إِيَّاهُمْ مِنْ جِنْسِ الظَّالِمِينَ وَمَعْدُودًا فِي زُمْرَتِهِمْ ; لِأَنَّ طَرْدَهُمْ لَا يَكُونُ حَقًّا وَعَدْلًا إِلَّا إِذَا كَانَ جَزَاءً عَلَى إِسَاءَتِهِمْ فِي الْأَعْمَالِ الَّتِي يَعْمَلُونَهَا لِمَنْ لَهُ حَقُّ حِسَابِهِمْ