المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

وَجَزَائِهِمْ عَلَيْهَا، وَلَسْتَ أَنْتَ بِصَاحِبِ هَذَا الْحَقِّ حَتَّى يَتَأَتَّى أَنْ - تفسير المنار - جـ ٧

[محمد رشيد رضا]

الفصل: وَجَزَائِهِمْ عَلَيْهَا، وَلَسْتَ أَنْتَ بِصَاحِبِ هَذَا الْحَقِّ حَتَّى يَتَأَتَّى أَنْ

وَجَزَائِهِمْ عَلَيْهَا، وَلَسْتَ أَنْتَ بِصَاحِبِ هَذَا الْحَقِّ حَتَّى يَتَأَتَّى أَنْ تَجْرِيَ فِيهِ عَلَى صِرَاطِ الْعَدْلِ، ذَلِكَ بِأَنَّ عَمَلَهُمْ هُوَ عِبَادَةُ اللهِ تَعَالَى وَحْدَهُ يُرِيدُونَ بِهَا وَجْهَهُ، فَحِسَابُهُمْ وَجَزَاؤُهُمْ عَلَيْهِ وَحْدَهُ، كَمَا قَالَ نُوحٌ عليه السلام:(إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ 26: 113) فَوَجْهُ الْكَوْنِ مِنَ الظَّالِمِينَ أَنَّ الطَّرْدَ لَوْ حَصَلَ يَكُونُ حُكْمًا غَيْرَ جَائِزٍ مِمَّنْ لَا يَمْلِكُ الْحُكْمَ لِذَاتِهِ (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ)

(57)

وَاللهُ لَمْ يُفَوِّضْ إِلَيْهِ هَذَا النَّوْعَ مِنْهُ، ثُمَّ إِنَّهُ جَائِزٌ فِي مَوْضُوعِهِ، مَعَ كَوْنِهِ غَيْرَ جَائِزٍ فِي صُورَتِهِ وَشَكْلِهِ ; إِذْ هُوَ ظُلْمٌ لِلْمَحْكُومِ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ أَوْلَى النَّاسِ بِقُرْبِهِ صلى الله عليه وسلم وَالِاسْتِفَادَةِ مِنْهُ، وَظُلْمٌ لِنَفْسِ الْحَاكِمِ - وَحَاشَا أَنْ يَقَعَ مِنْهُ - لِأَنَّهُ يُنَافِي مَصْلَحَةَ الدَّعْوَةِ، فَلَمَّا كَانَ ظُلْمًا مِنَ الْجِهَاتِ الثَّلَاثِ قَالَ:(فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ) وَلَمْ يَقُلْ: فَتَظْلِمَهُمْ، أَوْ: فَتَكُونَ ظَالِمًا، أَوْ: فَيَكُونُوا مِنَ الْمَظْلُومِينَ.

وَالْآيَةُ مُتَمِّمَةٌ لِبَيَانِ وَظَائِفِ الرَّسُولِ مِنَ الْجِهَةِ السَّلْبِيَّةِ ; إِذْ صَرَّحَ فِيهَا بِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَا يَمْلِكُ حِسَابَ الْمُؤْمِنِينَ وَلَا جَزَاءَهُمْ بَعْدَ أَنْ صَرَّحَ بِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِي الْكَوْنِ، وَلَا يَعْلَمُ الْغَيْبَ، وَبِأَنَّهُ لَيْسَ مَلِكًا، وَلَيْسَ الْغَرَضُ مِنْهَا التَّشْدِيدُ فِي تَنْفِيرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَنْ طَرْدِ الْمُؤْمِنِينَ ; لِأَنَّهُ كَانَ رَضِيَ بِذَلِكَ كَمَا زَعَمَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ، وَحَاشَاهُ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَرْضَى بِذَلِكَ أَوْ يَمِيلَ إِلَيْهِ بَعْدَ أَنْ عَاتَبَهُ رَبُّهُ عَلَى الْإِعْرَاضِ وَالتَّلَهِّي عَنِ الْأَعْمَى (عَبْدِ اللهِ بْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ) لَمَّا جَاءَهُ يَطْلُبُ الْعِلْمَ وَالْهُدَى مِنْهُ وَهُوَ صلى الله عليه وسلم مُتَصَدٍّ لِدَعْوَةِ بَعْضِ كُبَرَاءِ قُرَيْشٍ، طَامِعٍ فِي هِدَايَتِهِمْ، وَخَافَ أَنْ يَفُوتَهُ ذَلِكَ بِإِقْبَالِهِ عَلَى ذَلِكَ الْأَعْمَى الْفَقِيرِ، كَمَا هُوَ مُبَيَّنٌ فِي أَوَّلِ سُورَةِ (عَبَسَ وَتَوَلَّى) (80: 1) وَالْمَرْوِيُّ أَنَّهَا نَزَلَتْ قَبْلَ " سُورَةِ الْأَنْعَامِ "، وَقَدِ اغْتَرَّ مَنْ زَعَمَ ذَلِكَ بِرِوَايَةٍ مُنْكَرَةٍ بَاطِلَةٍ، وَهِيَ مَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ، وَغَيْرُهُمْ، عَنْ خَبَّابٍ قَالَ: جَاءَ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ التَّمِيمِيُّ، وَعُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ الْفَزَارِيُّ فَوُجِدَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَعَ صُهَيْبٍ وَبِلَالٍ وَعَمَّارٍ وَخَبَّابٍ قَاعِدًا فِي نَاسٍ مِنَ الضُّعَفَاءِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، فَلَمَّا رَأَوْهُمْ حَوْلَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حَقَرُوهُمْ، فَأَتَوْهُ فَخَلَوْا بِهِ، وَقَالُوا: نُرِيدُ أَنْ تَجْعَلَ لَنَا مِنْكَ مَجْلِسًا تَعْرِفُ لَنَا بِهِ الْعَرَبُ فَضْلَنَا ; فَإِنَّ وُفُودَ الْعَرَبِ تَأْتِيكَ فَنَسْتَحْيِي أَنْ تَرَانَا الْعَرَبُ مَعَ هَذِهِ الْأَعْبُدِ، فَإِنْ نَحْنُ جِئْنَا فَأَقِمْهُمْ عَنَّا، فَإِذَا نَحْنُ فَرَغْنَا فَاقْعُدْ مَعَهُمْ إِنْ شِئْتَ. قَالَ:" نَعَمْ " قَالُوا: اكْتُبْ لَنَا عَلَيْكَ كِتَابًا، قَالَ: فَدَعَا بِصَحِيفَةٍ، وَدَعَا عَلِيًّا لِيَكْتُبَ وَنَحْنُ قُعُودٌ فِي نَاحِيَةٍ، فَنَزَلَ جِبْرِيلُ فَقَالَ:(وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ) الْآيَةَ، فَرَمَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الصَّحِيفَةَ ثُمَّ دَعَانَا فَأَتَيْنَاهُ. قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ بَعْدَ إِيرَادِهِ لِسَنَدِهِ عِنْدَ ابْنِ أَبِي حَاتِمٍ: وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ حَدِيثِ أَسْبَاطٍ بِهِ، وَهَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ، فَإِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَكِّيَّةٌ، وَالْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ وَعُيَيْنَةَ إِنَّمَا أَسْلَمَا بَعْدَ الْهِجْرَةِ بِدَهْرٍ. اهـ. وَأَقُولُ: إِنَّ هَذِهِ الرِّوَايَةَ بَاطِلَةٌ مِنْ وُجُوهٍ؛ مِنْهَا مَا ذَكَرَهُ الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ مِنْ تَأَخُّرِ إِسْلَامِ الْأَقْرَعِ وَعُيَيْنَةَ، وَظَاهِرُ مَا فِي الْإِصَابَةِ أَنَّ الْأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ أَسْلَمَ قُبَيْلَ فَتْحِ مَكَّةَ، وَصَرَّحَ الْحَافِظُ

ص: 367

الذَّهَبِيُّ بِأَنَّهُ أَسْلَمَ بَعْدَ الْفَتْحِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا فِي السِّيَرِ. وَأَمَّا عُيَيْنَةَ فَقَدْ أَسْلَمَ سَنَةَ خَمْسٍ، وَلَمْ يَعْرِفِ الرَّجُلَانِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَبْلَ إِسْلَامِهِمَا، وَلَمْ يَكُونَا مِنْ أَشْرَافِ مَكَّةَ، بَلْ كَانَا مِنْ جُفَاةِ الْأَعْرَابِ، وَلَمَّا أَسْلَمَا كَانَا مِنْ صِنْفِ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ، وَمِنْهَا أَنَّهُمَا ذَكَرَا قُدُومَ الْوُفُودِ

عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلِمَ يَكُنْ ذَلِكَ فِي مَكَّةَ، بَلْ كَانَ النَّاسُ فِيهَا يَصُدُّونَ عَنْهُ صُدُودًا، وَإِنَّمَا كَانَ فِي أَوَاخِرِ عُمْرِهِ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ الْهِجْرَةِ، وَمِنْهَا مَا تَقَدَّمَ آنِفًا مِنْ عَدَمِ جَوَازِ إِجَابَتِهِ صلى الله عليه وسلم مِثْلَ هَذَا الطَّلَبِ، وَلَوْ مَعَ الْقَصْدِ الْحَسَنِ بَعْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى لَهُ:(كَلَّا) فِي " سُورَةِ عَبَسَ "، وَقَدِ اسْتَشْكَلَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ قَوْلَهُ تَعَالَى:(وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ) بِنَاءً عَلَى أَنَّ تَعْلِيلَ نَفِيِ مِلْكِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لِطَرْدِهِمْ يَتِمُّ بِنَفْيِ كَوْنِهِ يَمْلِكُ شَيْئًا مِنْ حِسَابِهِمْ، وَأَنَّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ وَإِنْ كَانَتْ حَقًّا لَا يَظْهَرُ لَهَا دَخْلٌ فِي التَّعْلِيلِ. وَيُجَابُ عَلَى طَرِيقَتِنَا بِأَنَّ طَرْدَ الْقَوِيِّ لِلضَّعِيفِ أَوِ الْكَبِيرِ لِلصَّغِيرِ قَدْ يَتَرَتَّبُ عَلَى مُحَاسَبَةِ كُلٍّ مِنْهُمَا لِلْآخَرِ، فَكَمْ مِنْ قَوِيٍّ حَاسَبَ ضَعِيفًا عَلَى عَمَلٍ وَجَازَاهُ عَلَيْهِ بِالطَّرْدِ، وَكَمْ مِنْ ضَعِيفٍ حَاسَبَ قَوِيًّا عَلَى حَقِّهِ وَطَالَبَهُ بِهِ، أَوْ عَلَى حَقٍّ مِنْ حُقُوقِ أُمَّتِهِ فَطَرَدَهُ الْقَوِيُّ لِمُنَاقَشَتِهِ إِيَّاهُ الْحِسَابَ، فَلَمَّا بَيَّنَ هَاهُنَا أَنَّهُ لَا حَقَّ لِأَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ فِي حِسَابِ الْآخَرِ عَلَى شَيْءٍ مَا، عُلِمَ أَنَّ الْقَوِيَّ مِنْهُمَا لَا حَقَّ لَهُ فِي طَرْدِ الضَّعِيفِ بِحَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ، فَإِذًا لَا يَكُونُ طَرْدُهُ إِيَّاهُ - إِنْ وَقَعَ - إِلَّا ظُلْمًا، وَعَلَى تَقْدِيرِ التَّسْلِيمِ يُقَالُ: إِنَّهُ لَا يُسْتَنْكَرُ فِي الْكَلَامِ الْمُرَادِ بِهِ الْهِدَايَةُ وَالْإِرْشَادُ أَنْ يُزَادَ فِيهِ مِنَ الْفَوَائِدِ الِاسْتِطْرَادِيَّةِ مَا يُنَاسِبُ الْمَقَامَ. فَلَمَّا بَيَّنَ تَعَالَى لِلرَّسُولِ أَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ مِنْ حَقِّهِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يُحَاسِبَهُمْ عَلَى أَعْمَالِهِمُ الدِّينِيَّةِ وَيُجَازِيَهُمْ عَلَيْهَا ; لِأَنَّ هَذَا مِنْ حَقِّ رَبِّهِمْ وَإِلَهِهِمْ، لَا مِنْ حَقِّ رَسُولِهِمْ - بَيَّنَ لَهُ أَيْضًا أَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ مِنْ حَقِّ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الرَّسُولِ أَنْ يُحَاسِبُوهُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ أَعْمَالِهِ الْخَاصَّةِ بِهِ وَلَا الْعَامَّةِ كَتَبْلِيغِ الدِّينِ وَبَيَانِهِ، وَلَوْ شَاءَ لَفَعَلَ، كَمَا جَعَلَ حَقَّ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ لِبَعْضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى بَعْضٍ، سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ أَئِمَّتُهُمْ وَرَعِيَّتُهُمْ، فَالْإِمَامُ (السُّلْطَانُ) رَاعٍ، وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، لِأَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ مِنَ الْأُمَّةِ أَنْ يُحَاسِبُوهُ كَمَا يُحَاسِبُ هُوَ مَنْ دُونَهُ مِنَ الْعُمَّالِ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ مِنَ النَّاسِ أَنْ يُحَاسِبَ الرَّسُولَ عَلَى سِيَاسَتِهِ أَوْ تَبْلِيغِهِ دَعْوَةَ رَبِّهِ، وَلَكِنْ لِلرَّسُولِ أَنْ يُحَاسِبَ النَّاسَ عَلَى مُعَامَلَةِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ عِنْدِمَا يَكُونُونَ أُمَّةً مُقَيَّدَةً فِي أَعْمَالِهَا الدِّينِيَّةِ بِشَرِيعَةِ ذَلِكَ الرَّسُولِ، وَلَمَّا نَزَلَتْ سُورَةُ الْأَنْعَامِ لَمْ يَكُنِ الْمُسْلِمُونَ كَذَلِكَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ عُمُومَ النَّفْيِ فِيهَا قَدْ خُصِّصَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ عِنْدَ مَنْ فَهِمَ مِنْهُ الْعُمُومَ، وَعِنْدَنَا أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ فِي الْأَصْلِ خُصُوصُ الْعِبَادَةِ وَالْإِخْلَاصُ فِيهَا، وَهُوَ مُحْكَمٌ بَاقٍ عَلَى عُمُومِهِ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي نُكْتَةِ ضَمِّ الْجُمْلَةِ

الثَّانِيَةِ إِلَى الْأُولَى: قَدْ جُعِلَتِ الْجُمْلَتَانِ بِمَنْزِلَةِ جُمْلَةٍ وَاحِدَةٍ، وَقُصِدَ بِهِمَا مُؤَدًّى وَاحِدٌ وَهُوَ الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ:(وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى)(164) وَلَا يَسْتَقِلُّ بِهَذَا الْمَعْنَى إِلَّا الْجُمْلَتَانِ جَمِيعًا، كَأَنَّهُ قِيلَ: لَا تُؤَاخَذُ أَنْتَ وَلَا هُمْ بِحِسَابِ صَاحِبِهِ. اهـ. أَيْ لَا يُؤَاخَذُ أَحَدٌ مِنْكُمَا بِحِسَابِ الْآخَرِ.

ص: 368

وَقَالَ أَبُو السُّعُودِ وَذَكَرَ قَوْلَهُ: (وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ) مَعَ أَنَّ الْجَوَابَ قَدْ تَمَّ بِمَا قَبْلَهُ لِلْمُبَالَغَةِ فِي بَيَانِ انْتِفَاءِ كَوْنِ حِسَابِهِمْ عَلَيْهِ صلى الله عليه وسلم بِنَظْمِهِ فِي سِلْكِ مَا لَا شُبْهَةَ فِيهِ أَصْلًا، وَهُوَ انْتِقَاءُ كَوْنِ حِسَابِهِ عليه السلام عَلَيْهِمْ عَلَى طَرِيقِ قَوْلِهِ تَعَالَى:(لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ) . اهـ. ثُمَّ زَعَمَ أَنَّ مَا قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ غَيْرُ حَقِيقٍ بِجَلَالَةِ شَأْنِ التَّنْزِيلِ، وَتَبِعَهُ الْأَلُوسِيُّ كَعَادَتِهِ وَلَمْ يَعْزُ الْكَلَامَ إِلَيْهِ هُنَا. وَلَعَلَّ الْمُتَأَمِّلَ يَرَى أَنَّ مَا قُلْنَاهُ هُوَ الْحَقِيقِيُّ بِجَلَالِ شَأْنِ التَّنْزِيلِ؛ لِأَنَّهُ - عَلَى كَوْنِهِ هُوَ الْمُتَبَادِرُ مِنَ الْكَلَامِ - مَبْنِيٌّ عَلَى التَّأْسِيسِ، وَبَقَائُهُ مُحْكَمًا لَمْ يَطْرَأْ عَلَيْهِ نَسْخٌ وَلَا تَخْصِيصٌ، وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ.

قَالَ الْأَلُوسِيُّ: وَتَقْدِيمُ خِطَابِهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْمَوْضِعَيْنِ قِيلَ: لِلتَّشْرِيفِ لَهُ - عَلَيْهِ أَشْرَفُ الصَّلَاةِ وَأَفْضَلُ السَّلَامِ - وَإِلَّا كَانَ الظَّاهِرُ: وَمَا عَلَيْهِمْ مِنْ حِسَابِكَ مِنْ شَيْءٍ، بِتَقْدِيمِ عَلَى وَمَجْرُورِهَا كَمَا فِي الْأَوَّلِ، وَقِيلَ: إِنَّ تَقْدِيمَ عَلَيْكَ فِي الْجُمْلَةِ الْأُولَى لِلْقَصْدِ إِلَى إِيرَادِ النَّفْيِ عَلَى اخْتِصَاصِ حِسَابِهِمْ بِهِ صلى الله عليه وسلم إِذْ هُوَ الدَّاعِي إِلَى تَصَدِّيهِ عليه الصلاة والسلام لِحِسَابِهِمْ. اهـ. وَالصَّوَابُ أَنَّ التَّقْدِيمَ فِي الْمَوْضُوعَيْنِ جَاءَ عَلَى الْأَصْلِ الْعَامِّ فِي اللُّغَةِ، وَهُوَ تَقْدِيمُ الْأَهَمِّ بِحَسَبِ سِيَاقِ الْكَلَامِ، وَالْأَهَمُّ فِي الْأَوَّلِ النَّفْيُ، وَفِي الثَّانِي الْمَنْفِيِّ، أَعْنِي الْأَهَمَّ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ صلى الله عليه وسلم. لِأَنَّهُ تَعْلِيلٌ لِانْتِفَاءِ عَمَلٍ لَهُ (وَهُوَ الطَّرْدُ) مُتَرَتِّبٌ عَلَى ذَلِكَ النَّفْيِ، وَلَوْ كَانَ الثَّانِي تَعْلِيلًا لِعَمَلٍ لَهُمْ لَقَالَ: وَمَا عَلَيْهِمْ مِنْ حِسَابِكَ مِنْ شَيْءٍ فَيَطْرُدُوكَ، وَمَا شَرَحْنَاهُ فِي تَفْسِيرِ الْجُمْلَتَيْنِ يُغْنِي عَنِ التَّفْصِيلِ فِي بَيَانِ هَذَا الْمَعْنَى.

وَالْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الرِّيَاسَةِ الدِّينِيَّةِ الْمَعْهُودَةِ فِي الْمِلَلِ الْأُخْرَى، وَهِيَ سَيْطَرَةُ رُؤَسَاءِ الدِّينِ عَلَى أَهْلِ دِينِهِمْ فِي عَقَائِدِهِمْ وَعِبَادَاتِهِمْ وَمُحَاسَبَتِهِمْ عَلَيْهَا، وَعُقَابُ مَنْ يَرَوْنَ عِقَابَهُ مِنْهُمْ حَتَّى بِالطَّرْدِ مِنَ الدِّينِ وَالْحِرْمَانِ مِنْ حُقُوقِهِ، وَيَجِبُ فِي بَعْضِ تِلْكَ الْمِلَلِ أَنْ يَعْتَرِفَ كُلُّ مُكَلَّفٍ مَنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى لِلرَّئِيسِ الدِّينِيِّ بِأَعْمَالِهِ النَّفْسِيَّةِ وَالْبَدَنِيَّةِ، وَلِلرَّئِيسِ أَنْ يَغْفِرَ لَهُ مَا يَعْتَرِفُ بِهِ مِنَ الْمَعَاصِي، وَيَعْتَقِدُونَ أَنَّ مَغْفِرَةَ اللهِ تَعَالَى تَتْبَعُ مَغْفِرَتِهِ،

وَإِذَا كَانَ اللهُ تَعَالَى لَمْ يَجْعَلْ لِلرَّسُولِ الَّذِي أَوْجَبَ طَاعَتَهُ حَقَّ مُحَاسَبَةِ النَّاسِ عَلَى أَعْمَالِهِمُ الدِّينِيَّةِ وَنِيَّتِهِمْ فِيهَا، وَلَا حَقَّ طَرْدِهِمْ مِنْ حَضْرَتِهِ - دَعْ حَقَّ طَرْدِهِمْ مِنَ الدِّينِ - فَكَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ لِمَنْ دُونَهُ مِنَ الْأُمَرَاءِ أَوِ الْقَضَاءِ أَوْ غَيْرِهِمْ مِنَ الرُّؤَسَاءِ مِثْلُ هَذَا الْحَقِّ؟ ! وَيُسْتَنْبَطُ مِنَ الْآيَةِ أَلَّا يَجُوزَ لِرُؤَسَاءِ الْمَدَارِسِ الدِّينِيَّةِ وَلَا يَنْبَغِيَ لِغَيْرِهِمْ - عِقَابُ أَحَدٍ مِنْ طُلَّابِ الْعِلْمِ بِالْحِرْمَانِ مِنْ بَعْضِ الدُّرُوسِ فَضْلًا عَنْ طَرْدِهِ مِنَ الْمَدْرَسَةِ، وَحِرْمَانِهِ مَنْ تَلَقِّي الدِّينِ وَالْعِلْمِ أَلْبَتَّةَ، وَلَكِنْ قَدْ يَجُوزُ ذَلِكَ بِمُقْتَضَى نِظَامٍ لَا لِأَجْلِ الِانْتِقَامِ. وَقَدْ كَانَ مِنْ هَدْيِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم -

ص: 369

تَأْلِيفُ قُلُوبٍ ضُعَفَاءِ الْإِيمَانِ حَتَّى بَعْدَ قُوَّةِ الْإِسْلَامِ وَإِعْزَازِهِ، بَلْ كَانَ يُعَامِلُ الْمُنَافِقِينَ بِمَا يَقْتَضِيهِ ظَاهِرُ إِسْلَامِهِمْ، عَمَلًا بِقَاعِدَةِ بِنَاءِ الْأَحْكَامِ عَلَى الظَّوَاهِرِ، وَأَنَّ اللهَ هُوَ الَّذِي يَتَوَلَّى السَّرَائِرَ فَأَيْنَ هَذَا مِنْ طَرْدِ كَمَلَةِ الْمُؤْمِنِينَ السَّابِقَيْنِ الْأَوَّلِينَ، الَّذِينَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ حَظٌّ دُنْيَوِيٌّ مِنْ إِسْلَامِهِمْ إِلَّا الصَّبْرُ وَالْبَلَاءُ الْمُبِينُ؟ .

(وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ) أَيْ: وَمِثْلُ ذَلِكَ الْفِتَنُ - أَيِ الِابْتِلَاءُ وَالِاخْتِبَارُ الْعَظِيمُ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ النَّظْمُ الْكَرِيمُ بِمَعُونَةِ وَقَائِعِ الْأَحْوَالِ، وَمَا كَانَ عِنْدَ نُزُولِ السُّورَةِ مِنَ التَّفَاوُتِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكُفَّارِ، فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ، أَيْ جَعَلْنَا - بِحَسَبِ سُنَّتِنَا فِي غَرَائِزِ الْبَشَرِ وَأَخْلَاقِهِمْ - بَعْضَهُمْ فِتْنَةً لِبَعْضٍ تَظْهَرُ بِهِ حَقِيقَةُ حَالِهِ غَيْرَ مَشُوبَةٍ بِشَيْءٍ مِنَ الشَّوَائِبِ الَّتِي تَلْتَبِسُ بِهَا فِي الْعَادَةِ، كَمَا يَظْهَرُ لِلصَّائِغِ حَقِيقَةُ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ يَفْتِنُهُمَا بِالنَّارِ أَوْ بِعَرْضِهِمَا عَلَى الْفَتَّانَةِ (حَجَرُ الصَّائِغِ)(لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا) أَيْ لِيَتَرَتَّبَ عَلَى هَذَا الْفَتْنِ أَنْ يَقُولَ الْمَفْتُونُونَ مِنَ الْأَقْوِيَاءِ الْمُسْتَكْبِرِينَ، فِي شَأْنِ الضُّعَفَاءِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ: أَهَؤُلَاءِ الصَّعَالِيكُ مِنَ الْعَبِيدِ وَالْمَوَالِي وَالْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ فَخَصَّهُمْ بِهَذِهِ النِّعْمَةِ الْعَظِيمَةِ مِنْ جُمْلَتِنَا وَمَجْمُوعِنَا أَوْ مِنْ دُونِنَا؟ الْمَنُّ: الْإِثْقَالُ بِنِعْمَةٍ عَظِيمَةٍ أَوْ نِعَمٍ كَثِيرَةٍ، وَالِاسْتِفْهَامُ لِلْإِنْكَارِ وَالتَّعْجِيبِ، يَعْنُونَ أَنَّهُ لَا يَتَأَتَّى ذَلِكَ لِأَنَّهُمْ هُمُ الْمُفَضَّلُونَ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى بِمَا أَعْطَاهُمْ مِنَ الْغِنَى وَالثَّرْوَةِ وَالْجَاهِ وَالْقُوَّةِ، فَلَوْ كَانَ هَذَا الدِّينُ خَيْرًا لَمَنْحَهُمْ إِيَّاهُ دُونَ هَؤُلَاءِ الضُّعَفَاءِ، قِيَاسًا عَلَى مَا أَعْطَاهُمْ قَبْلَهُ مِنَ الْجَاهِ وَالثَّرَاءِ، وَمِنْ شَوَاهِدِ هَذَا الْقِيَاسِ مَا حَكَاهُ اللهُ عَنْهُمْ فِي قَوْلِهِ:(وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ)(43: 31) إِلَخْ. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: أَيْ

عَظِيمٍ بِالْمَالِ وَالْجَاهِ كَالْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ الْمَخْزُومِيِّ مِنْ مَكَّةَ وَهِيَ إِحْدَى الْقَرْيَتَيْنِ، أَوْ عُرْوَةَ بْنِ مَسْعُودٍ الثَّقَفِيِّ مِنَ الطَّائِفِ وَهِيَ الْقَرْيَةُ الْأُخْرَى، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِعَظِيمِ مَكَّةَ أَبُو جَهْلٍ، وَالشَّوَاهِدُ عَلَى هَذَا الْقِيَاسِ الْحَمْلِيِّ كَثِيرَةٌ عَنْهُمْ وَعَنْ غَيْرِهِمْ.

وَقَدْ رَدَّ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: (أَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ) وَهَذَا الِاسْتِفْهَامُ التَّقْرِيرِيُّ عَلَى أَكْمَلِ وَجْهٍ؛ لِبِنَائِهِ عَلَى إِحَاطَةِ عِلْمِهِ تَعَالَى، وَوَجْهُ الرَّدِّ أَنَّ الْحَقِيقِيَّ بِمَنِّ اللهِ وَزِيَادَةِ نِعَمِهِ إِنَّمَا هُمُ الَّذِينَ يُقَدِّرُونَهَا قَدْرَهَا، وَيَعْرِفُونَ حَقَّ الْمُنْعِمِ بِهَا، فَيَشْكُرُونَهَا لَهُ بِاسْتِعْمَالِهَا فِيمَا تَتِمُّ بِهِ حِكْمَتُهُ وَتُنَالُ مَرْضَاتُهُ - لَا مَنْ سَبَقَ إِنْعَامُهُ عَلَيْهِمْ فَكَفَرُوا وَبَطَرُوا، وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِهِ، وَاسْتَكْبَرُوا بَلْ هَؤُلَاءِ جَدِيرُونَ بِأَنْ يَسْلُبَ مِنْهُمْ مَا كَانَ أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِمْ، وَبِهَذَا مَضَتْ سُنَّتُهُ فِي عِبَادِهِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَكَانَتِ النِّعَمُ خَالِدَةً تَالِدَةً لَا تُنْزَعُ مِمَّنْ أُوتِيهَا، بَلْ تُزَادُ وَتُضَاعَفُ لَهُ وَإِنْ كَفَرَ بِهَا، وَإِذًا لَمَا افْتَقَرَ غَنِيٌّ، وَلَا ضَعُفَ قَوِيٌّ، وَلَا ذَلَّ عَزِيزٌ وَلَا ثُلَّ عَرْشُ أَمِيرٍ، وَهَلِ الْحَقُّ

ص: 370

الْوَاقِعُ إِلَّا خِلَافَ هَذَا؟ وَهَلْ فُتِنَ أُولَئِكَ الْكُبَرَاءُ إِلَّا بِالْوَاقِعِ لَهُمْ مِنَ الْغِنَى وَالْقُوَّةِ، فَظَنُّوا لِقِصَرِ نَظَرِهِمْ، وَغُرُورِهِمْ بِحَاضِرِهِمْ، وَجَهْلِهِمْ بِسُنَّةِ اللهِ فِي أَمْثَالِهِمْ - أَنَّهُ تَعَالَى مَا أَعْطَاهُمْ ذَلِكَ إِلَّا تَكْرِيمًا لِذَوَاتِهِمْ، وَتَفْضِيلًا لَهُمْ عَلَى غَيْرِهِمْ، حَتَّى إِنَّ أَحَدَهُمْ لَيَحْسَبُ أَنَّ هَذَا حَقٌّ لَهُ عَلَى رَبِّهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَإِنْ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ، كَمَا بَيَّنَ تَعَالَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ:(وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى)(41: 50) وَأَنْزَلَ فِي الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ مِنْ طُغَاةِ قُرَيْشٍ (أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا)(19: 77) أَيْ فِي الْآخِرَةِ - الْآيَاتِ. وَقَالَ بَعْضُ الْمَغْرُورِينَ بِهَذَا الْقِيَاسِ:

لَقَدْ أَحْسَنَ اللهُ فِيمَا مَضَى كَذَلِكَ يُحْسِنُ فِيمَا بَقِيَ.

وَقَدْ كَشَفَ اللهُ تَعَالَى هَذَا الْغُرُورَ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ وَضَرَبَ لِأَصْحَابِهِ الْأَمْثَالَ كَمَثَلِ ذِي الْجَنَّتَيْنِ فِي سُورَةِ الْكَهْفِ، وَزَجَرَ أَهْلَهُ وَأَضْدَادَهُمْ فِي سُورَةِ الْفَجْرِ، وَفَصَّلَ لَهُمُ الْحَقِيقَةَ فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ، بِقَوْلِهِ:(كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ)(17: 20) .

وَهَذَا الرَّدُّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ هُنَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَدُومُ لَهُمْ مِنَ النِّعَمِ، مَا اغْتَرُّوا بِهِ، وَلَا يَبْقَى الْمُؤْمِنُونَ عَلَى الضَّعْفِ الَّذِي صَبَرُوا عَلَيْهِ، بَلْ لَا بُدَّ أَنْ تَنْعَكِسَ الْحَالُ، فَيُسْلَبُ

أُولَئِكَ الْأَقْوِيَاءُ مَا أُعْطُوا مِنَ الْقُوَّةِ وَالْمَالِ، وَتَدُولُ الدَّوْلَةُ لِهَؤُلَاءِ الضُّعَفَاءِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَيَكُونُوا هُمُ الْأَئِمَّةَ الْوَارِثِينَ؛ لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى وَفَّقَهُمْ لِلْإِيمَانِ، وَأَوْدَعَ فِي أَنْفُسِهِمُ الِاسْتِعْدَادَ لِلشُّكْرِ وَهُوَ يُوجِبُ الْمَزِيدَ (وَإِذْ تَأْذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ) (14: 76) وَكَذَلِكَ كَانَ، وَصَدَقَ وَعْدُ الرَّحْمَنِ وَظَهَرَ إِعْجَازُ الْقُرْآنِ، وَمَا بَعْدَ بَيَانِ اللهِ تَعَالَى مِنْ بَيَانٍ، وَإِنَّنَا نَرَى النَّاسَ عَنْ هِدَايَتِهِ غَافِلِينَ، وَبِوُجُوهِ إِعْجَازِهِ جَاهِلِينَ، حَتَّى إِنَّ فِيمَنْ يُسَمَّوْنَ الْمُسْلِمِينَ مِنْهُمْ مَنْ يَفْتَتِنُ بِشُبْهَةِ أُولَئِكَ الْمُشْرِكِينَ الدَّاحِضَةِ، فَيَجْعَلُهَا حُجَّةً نَاهِضَةً؛ تَارَةً عَلَى تَفْضِيلِ الْأَغْنِيَاءِ عَلَى الْفُقَرَاءِ، وَتَارَةً عَلَى تَفْضِيلِ الْأُمَمِ الْقَوِيَّةِ عَلَى الْأُمَمِ الضَّعِيفَةِ، جَاهِلِينَ أَنَّ الْفَضِيلَةَ الصَّحِيحَةَ فِي شُكْرِ النِّعَمِ بِاسْتِعْمَالِهَا فِيمَا يُرْضِي الرَّبَّ لَا فِي أَعْيَانِ النِّعَمِ الَّتِي تُرَى فِي الْيَدِ. فَرُبَّ غَنِيٍّ شَاكِرٌ، وَرَبَّ فَقِيرٍ صَابِرٌ، وَكَمْ مِنْ مُنَعَّمٍ سُلِبَ النِّعْمَةَ بِكُفْرِهَا، وَكَمْ مِنْ مَحْرُومٍ أُوتِيَ النِّعَمَ بِالِاسْتِعْدَادِ لِشُكْرِهَا، ثُمَّ زِيدَتْ بِقَدْرِ شُكْرِهِ لَهَا، وَكَمْ مِنْ قَوِيٍّ أَضْعَفَهُ اللهُ بِبَغْيِهِ، وَكَمْ مِنْ ذَلِيلٍ أَعَزَّهُ اللهُ بِإِيمَانِهِ وَعَدْلِهِ.

هَذَا وَإِنَّ ظَاهِرَ حِكَايَةِ قَوْلِ الْمَفْتُونِينَ يَدُلُّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: (فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ) فَتَنَّا كُبَرَاءَ الْمُشْرِكِينَ بِضُعَفَاءِ الْمُؤْمِنِينَ - أَيِ اخْتَبَرْنَا بِهِ حَالَهُمْ فِي كَوْنِ تَرْكِهِمْ لِلْإِيمَانِ لَمْ يَكُنْ إِلَّا جُحُودًا نَاشِئًا عَنِ الْكِبْرِ وَالْعُلُوِّ فِي الْأَرْضِ، لَا عَنْ حُجَّةٍ وَلَا شُبْهَةٍ مِمَّا يُظْهِرُونَهُ، وَمَفْهُومُهُ أَنَّ ضُعَفَاءَ الْمُؤْمِنِينَ السَّابِقِينَ لَمْ يَفْتَتِنُوا بِغِنَى كُبَرَاءِ الْمُشْرِكِينَ وَقُوَّتِهِمْ، وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُ

ص: 371

الْمُفَسِّرِينَ أَنَّهُمْ فُتِنُوا وَإِنْ لَمْ تُبَيِّنِ الْآيَةُ كَيْفَ كَانَ ذَلِكَ، إِذْ لَمْ تَحْكِ شَيْئًا عَنْ لِسَانِهِمْ. وَقَدْ وَرَدَ فِي الِاخْتِبَارِ الْعَامِّ قَوْلَهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ:(وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ)(25: 20) أَيْ جَعَلْنَا كُلًّا مِنْكُمُ اخْتِبَارًا لِلْآخَرِ فِي اخْتِلَافِ حَالِهِ مَعَهُ بِالْغِنَى وَالْفَقْرِ، أَوِ الْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ، أَوِ الصِّحَّةِ وَالْمَرَضِ، أَوِ الْعِلْمِ وَالْجَهْلِ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ - هَذَا يَحْتَقِرُ هَذَا وَيَبْغِي عَلَيْهِ، وَهَذَا يَحْسُدُ هَذَا وَيَكِيدُ لَهُ. فَاصْبِرُوا فَإِنَّهُ لَا يَسْلَمُ مِنْ هَذِهِ الْفِتَنِ إِلَّا الصَّابِرُونَ. نَسْأَلُ اللهَ تَعَالَى أَنْ يَجْعَلَنَا مِنَ الصَّابِرِينَ الشَّاكِرِينَ.

(وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ) .

هَاتَانِ الْآيَتَانِ مُتَمِّمَتَانِ لِلسِّيَاقِ فِيمَا قَبْلَهُمَا بِالْجَمْعِ بَيْنَ الْإِرْشَادِ السَّلْبِيِّ وَالْإِيجَابِيِّ لِلرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم فِي سِيَاسَتِهِ لِلْمُؤْمِنِينَ، فَبَعْدَ أَنْ نَهَاهُ رَبُّهُ عَنْ طَرْدِ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْهُمْ مِنْ حَضْرَتِهِ اسْتِمَالَةً لِكُبَرَاءَ الْمُتَكَبِّرِينَ مِنْ قَوْمِهِ، وَطَمَعًا فِي إِقْبَالِهِمْ عَلَيْهِ وَسَمَاعِهِمْ لِدَعْوَتِهِ وَإِيمَانِهِمْ بِهِ - كَمَا اقْتَرَحَ عَلَيْهِ بَعْضُهُمْ - أَمَرَهُ بِأَنْ يَلْقَاهُمْ كَسَائِرِ الْمُؤْمِنِينَ بِالتَّحِيَّةِ وَالسَّلَامِ وَالتَّبْشِيرِ بِرَحْمَةِ اللهِ وَمَغْفِرَتِهِ عَلَى الْوَجْهِ الْمُبَيَّنِ فِي الْآيَةِ الْأُولَى مِنْ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سَبَبُ نُزُولِ (وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ) مِنْ رِوَايَةِ عِكْرِمَةَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَانَ اسْتَحْسَنَ إِجَابَةَ أَشْرَافِ الْكُفَّارِ إِلَى اقْتِرَاحِهِمْ، وَأَنَّهُ لَمَّا نَزَلَتِ الْآيَاتُ فِي ذَلِكَ أَقْبَلَ فَاعْتَذَرَ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي قَبُولِ اعْتِذَارِهِ، وَتَقَدَّمَ أَنَّ الرِّوَايَةَ ضَعِيفَةً، وَأَنَّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ فِيهَا غَيْرُ مَقْبُولَةٍ، وَأَنَّ رِوَايَاتِ نُزُولِ الْأَنْعَامِ دُفْعَةً وَاحِدَةً أَقْوَى مِنْهَا، وَهِيَ مُعَارِضَةٌ لَهَا. وَالْآنَ رَأَيْتُ فِي التَّفْسِيرِ الْكَبِيرِ لِلرَّازِيِّ اسْتِشْكَالَ هَذَا بِاتِّفَاقِ النَّاسِ عَلَى نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ دُفْعَةً وَاحِدَةً، وَقَدْ تَقَدَّمَ التَّحْقِيقُ فِي مَسْأَلَةِ نُزُولِ السُّورَةِ دُفْعَةً وَاحِدَةً وَفِي زِيَادَةِ رِوَايَةِ عِكْرِمَةَ، وَيُعَارِضُهُ أَيْضًا مَا أَخْرَجَهُ جُلُّ رُوَاةِ التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ عَنْ مَاهَانَ قَالَ: أَتَى قَوْمٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا: إِنَّا أَصَبْنَا ذُنُوبًا عِظَامًا، فَمَا رَدَّ عَلَيْهِمْ شَيْئًا، فَانْصَرَفُوا، فَأَنْزَلَ اللهُ:(وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا) الْآيَةَ فَدَعَاهُمْ فَقَرَأَهَا عَلَيْهِمْ، وَلَكِنَّ الرِّوَايَةَ مِنْ مَرَاسِيلِ مَاهَانَ، لَا يُحْتَجُّ بِهَا، وَلَيْسَتْ صَرِيحَةً كَرِوَايَةِ عِكْرِمَةَ فِي مُعَارَضَةِ نُزُولِ السُّورَةِ دُفْعَةً وَاحِدَةً، إِذْ يُجِيزُ أَنْ يَكُونَ

ص: 372

النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم تَلَاهَا عَلَى مَنْ سَأَلُوهُ عَنْ ذُنُوبِهِمْ عِنْدَ نُزُولِهَا فِي ضِمْنِ السُّورَةِ، وَمِثْلُ هَذَا التَّعْبِيرِ كَثِيرٌ فِي كَلَامِ رُوَاةِ التَّفْسِيرِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي مُعَامَلَةِ جَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ لَا فِي عُمَرَ وَحْدَهُ كَمَا فِي رِوَايَةِ عِكْرِمَةَ، وَلَا فِيمَنْ سَأَلُوهُ عَنْ ذُنُوبِهِمْ كَمَا فِي رِوَايَةِ مَاهَانَ - وَإِنْ فَرَضْنَا صِحَّةَ الرِّوَايَتَيْنِ - وَلَا فِيمَنْ نُهِيَ عَنْ طَرْدِهِمْ خَاصَّةً كَمَا يَقُولُ بَعْضُ

الْمُفَسِّرِينَ، بَلْ فِي جَمَاعَةِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مِنَ الْفُقَرَاءِ الْمُسْتَضْعَفِينَ الَّذِينَ اقْتُرِحَ عَلَيْهِ صلى الله عليه وسلم طَرْدُهُمْ فَيَدْخُلُونَ فِيهَا بِمَعُونَةِ السِّيَاقِ دُخُولًا أَوَّلِيًّا، وَهَذَا مَا تُفْهِمُهُ عِبَارَتُهَا، وَمَا سِوَاهُ فَمُتَكَلَّفٌ لِتَطْبِيقِهِ عَلَى الرِّوَايَاتِ.

وَبَعْدَ كِتَابَةِ مَا تَقَدَّمَ، وَالتَّوَجُّهِ إِلَى بَيَانِ مَعْنَى الْآيَةِ وَمُرَاجَعَةِ الْمُصْحَفِ الشَّرِيفِ فِيهَا وَفِيمَا قَبْلَهَا، كَانَ أَوَّلُ مَا تَبَادَرَ إِلَى ذِهْنِي أَنَّ الْمُرَادَ بِالَّذِينِ يُؤْمِنُونَ بِالْآيَاتِ هُنَا هُمُ الَّذِينَ كَانُوا يَدْخُلُونَ فِي الْإِسْلَامِ آنًا بَعْدَ آنٍ، عَنْ بَيِّنَةٍ وَبُرْهَانٍ، لَا مَنْ آمَنُوا وَأَسْلَمُوا مِنْ قَبْلُ مِمَّنْ نُهِيَ عَنْ طَرْدِهِمْ وَغَيْرُهُمْ، ذَلِكَ بِأَنَّ الْفِعْلَ الْمُضَارِعَ " يُؤْمِنُونَ " يُفِيدُ وُقُوعَ الْإِيمَانِ فِي الْحَالِ أَوِ الِاسْتِقْبَالِ، وَلَا يُعَبَّرُ بِهِ عَمَّنْ آمَنُوا فِي الْمَاضِي إِلَّا بِضَرْبٍ مِنَ التَّجَوُّزِ فِي الِاسْتِعْمَالِ - كَمَا يُعَبَّرُ بِالْمَاضِي عَنِ الْمُسْتَقْبَلِ أَحْيَانًا لِنُكْتَةٍ تَقْتَضِي ذَلِكَ - كَإِرَادَةِ تَصْوِيرِ مَا مَضَى كَأَنَّهُ وَاقِعٌ الْآنِ، أَوْ إِفَادَةِ مَا يَتْلُو ذَلِكَ الْمَاضِي مِنَ التَّجَدُّدِ وَالِاسْتِمْرَارِ، وَلَا يَظْهَرُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ ظُهُورًا بَيِّنًا يُرَجِّحُ صَرْفَ الْفِعْلِ عَنْ أَصْلِ مَعْنَاهُ، وَلَكِنْ قَدْ يُرَادُ بِهِ التَّعْبِيرُ عَنِ الشَّأْنِ، فَإِنَّهُ يَكْثُرُ فِي الْفِعْلِ الْمُضَارِعِ إِذَا كَانَ صِلَةً لِلْمَوْصُولِ، وَيُرَجِّحُ الْأَصْلُ هُنَا تَطْبِيقَ السِّيَاقِ عَلَى حَالِ النَّاسِ فِي زَمَنِ نُزُولِ السُّورَةِ، وَالْجُمْلَةُ الشَّرْطِيَّةُ الَّتِي افْتُتِحَتْ بِهَا الْآيَةُ، وَإِنَّنَا نُبَيِّنُ ذَلِكَ بِمَا يَظْهَرُ بِهِ التَّنَاسُبُ بَيْنَ الْآيَاتِ أَتَمَّ الظُّهُورِ.

كَانَ جُمْهُورُ النَّاسِ كَافِرِينَ، إِمَّا كَفْرُ جَحُودٍ وَعِنَادٍ، وَإِمَّا كُفْرُ جَهْلٍ وَتَقْلِيدٍ لِلْآبَاءِ وَالْأَجْدَادِ، وَكَانَ يَدْخُلُ فِي الْإِسْلَامِ الْأَفْرَادُ بَعْدَ الْأَفْرَادِ، وَكَانَ أَكْثَرُ السَّابِقِينَ مِنَ الْمُسْتَضْعَفِينَ وَالْفُقَرَاءِ، وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَكُونُ تَارَةً مَعَ هَؤُلَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُعَلِّمُهُمْ وَيُرْشِدُهُمْ، وَتَارَةً يَتَوَجَّهُ إِلَى أُولَئِكَ الْكَافِرِينَ يَدْعُوهُمْ وَيُنْذِرُهُمْ، وَكَانَ الْمُعَانِدُونَ مِنْ كُبَرَائِهِمْ يَقْتَرِحُونَ عَلَيْهِ الْآيَاتِ الْكَوْنِيَّةَ لِلتَّعْجِيزِ، وَتَارَةً يُحَقِّرُونَ شَأْنَهُ بِوُجُودِهِ فِي عَامَّةِ أَوْقَاتِهِ مَعَ أُولَئِكَ الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ، وَقَدِ اقْتَرَحُوا عَلَيْهِ طَرَدَهُمْ مِنْ حَضْرَتِهِ،

وَلَعَلَّهُمْ كَانُوا يُرِيدُونَ بِذَلِكَ أَنْ يَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِهِ، وَأَنْ يَكُونَ مُنْفَرِدًا لِغَيْرِهِمْ عَنِ الْإِيمَانِ بِهِ، وَكَانَ صلى الله عليه وسلم حَرِيصًا عَلَى إِيمَانِ أُولَئِكَ الْكُبَرَاءِ لِمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ، فَأَرْشَدَهُ رَبُّهُ جَلَّتْ حِكْمَتُهُ فِي هَذَا السِّيَاقِ الْقَوْلِيِّ الْأَخِيرِ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ إِلَى أَنْ يُبَيِّنَ لِمُقْتَرِحِي الْآيَاتِ الْكَوْنِيَّةِ مِنَ الْكُفَّارِ أَنَّ حَقِيقَةَ الرِّسَالَةِ لَا تَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ قُدْرَةُ

ص: 373

الرَّسُولِ وَعِلْمُهُ كَقُدْرَةِ اللهِ تَعَالَى وَعَلْمِهِ، وَلَا أَنْ يَكُونَ مَلَكًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ حَتَّى يَقْدِرَ عَلَى مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ الْبَشَرُ مِنَ الْآيَاتِ، وَبِأَنْ يُنْذِرَ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ إِنْذَارًا خَاصًّا بِهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ يُرْجَى أَنْ يَنْتَفِعُوا بِكُلِّ إِنْذَارٍ، وَبِأَلَّا يَطْرُدَ مِنْ حَضْرَتِهِ مِنْهُمْ أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ، بِبَاعِثِ النِّيَّةِ الصَّحِيحَةِ وَالْإِخْلَاصِ، وَيَسْتَلْزِمُ ذَلِكَ أَنْ يَسْتَمِرَّ عَلَى مُعَامَلَتِهِمُ الْأَوْلَى الَّتِي أَمَرَهُ اللهُ تَعَالَى بِهَا فِي قَوْلِهِ:(وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا)(18: 28) فَبَعْدَ هَذَا الْإِرْشَادِ فِي شَأْنِ الْكُفَّارِ الْمُعَانِدِينَ وَالْمُؤْمِنِينَ السَّابِقِينَ حَسُنَ أَنْ يُرْشِدَ اللهُ رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم إِلَى شَيْءٍ فِي شَأْنِ الْفَرِيقِ الثَّالِثِ مِنَ النَّاسِ، وَهُمُ الَّذِينَ يَجِيئُونَ الرَّسُولَ آنًا بَعْدَ آنٍ مُؤْمِنِينَ بِآيَاتِ اللهِ الْمُثْبِتَةِ لِلتَّوْحِيدِ وَالرِّسَالَةِ، فَيَدْخُلُونَ فِي الْإِسْلَامِ مُذْعِنِينَ لِأَمْرِ اللهِ وَرَسُولِهِ - وَهُمُ الَّذِينَ أَرَادَ رُؤَسَاءُ الْمُشْرِكِينَ تَنْفِيرَهُمْ وَحَاوَلُوا صَدَّهُمْ - فَأَمَرَهُ أَنْ يُبَيِّنَ لَهُمْ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ أَنَّهُمْ صَارُوا فِي سَلَامٍ وَأَمَانٍ مِنَ اللهِ تَعَالَى ; لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ فَهُوَ لَا يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَانَ قَبْلَ الْإِسْلَامِ، وَمَنْ عَمِلَ بَعْدَهُ سُوءًا بِجَهَالَةٍ فَمَا عَلَيْهِ إِلَّا أَنْ يَمْحُوَ أَثَرَهُ بِالتَّوْبَةِ وَالْإِصْلَاحِ، قَالَ:

(وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ) السَّلَامُ وَالسَّلَامَةُ مَصْدَرَانِ مِنَ الثُّلَاثِيِّ، يُقَالُ: سَلِمَ فَلَانُ مِنَ الْمَرَضِ أَوْ مِنَ الْبَلَاءِ سَلَامًا وَسَلَامَةً، وَمَعْنَاهُمَا الْبَرَاءَةُ وَالْعَافِيَةُ، وَالسَّلَامُ وَالْمُسَالَمَةُ مَصْدَرَانِ مِنَ الرُّبَاعِيِّ أَيْضًا، يُقَالُ: سَالَمَهُ أَيْ بَارَأَهُ وَتَارَكَهُ، وَمِنْهُ تَرْكُهُ الْحَرْبَ. وَالسَّلَامُ مِنْ أَسْمَاءِ اللهِ تَعَالَى، يَدُلُّ عَلَى تَنْزِيهِهِ عَنْ كُلِّ مَا لَا يَلِيقُ بِهِ مِنْ نَقْصٍ، وَعَجْزٍ، وَفَنَاءٍ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ عُيُوبِ الْخَلْقِ وَضَعْفِهِمْ. وَاسْتُعْمِلَ السَّلَامُ فِي الْمُتَارَكَةِ وَفِي التَّحِيَّةِ مَعْرِفَةً وَنَكِرَةً، يُقَالُ: سَلَامٌ عَلَيْكُمْ، وَالسَّلَامُ عَلَيْكُمْ، وَهُوَ بِمَعْنَى الدُّعَاءِ بِالسَّلَامَةِ مِنْ كُلِّ مَا يَسُوءُ، وَيُفِيدُ تَأْمِينَ الْمُسَلَّمِ عَلَيْهِ مِنْ كُلِّ أَذًى يَنَالُهُ مِنَ الْمُسْلِمِ،

فَهُوَ آيَةُ الْمَوَدَّةِ وَالصَّفَاءِ، وَثَبَتَ فِي التَّنْزِيلِ أَنَّ السَّلَامَ تَحِيَّةُ أَهْلِ الْجَنَّةِ يُحَيِّيهِمْ بِهَا رَبُّهُمْ جَلَّ وَعَلَا، وَمَلَائِكَتُهُ الْكِرَامُ وَيُحَيِّي بِهَا بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَهُوَ تَحِيَّةُ الْإِسْلَامِ الَّذِي هُوَ دِينُ السِّلْمِ وَالْمُسَالَمَةِ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً) (2: 208) وَاخْتَلَفُوا فِي هَذَا السَّلَامِ هُنَا: أَهْوَ تَحِيَّةٌ أَمَرَ اللهُ تَعَالَى رَسُولَهُ أَنْ يَبْدَأَ بِهَا الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِهِ إِذَا جَاءُوهُ إِكْرَامًا خَاصًّا بِهِمْ مُخَالِفًا لِلْأَصْلِ الْعَامِّ - وَهُوَ كَوْنُ الْقَادِمِ هُوَ الَّذِي يُلْقِي السَّلَامَ - أَمْ هُوَ تَحِيَّةٌ مِنْهُ تَعَالَى أَمَرَ رَسُولَهُ أَنْ يُبَلِّغَهُمْ إِيَّاهَا عَنْهُ، أَمْ هُوَ إِخْبَارٌ عَنْهُ تَعَالَى بِسَلَامَتِهِمْ وَأَمْنِهِمْ مِنْ عِقَابِهِ، قَفَّى عَلَيْهِ بِبِشَارَتِهِمْ بِمَغْفِرَتِهِ وَرَحْمَتِهِ؟ رُوِيَ الْأَوَّلُ عَنْ عِكْرِمَةَ فَهُوَ، خَاصٌّ بِمَنْ قَالَ: إِنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِيهِمْ، وَالثَّانِي عَنِ الْحَسَنِ، وَالثَّالِثُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَهُوَ أَظْهَرُهَا، وَالْمُرَادُ بِالْآيَاتِ آيَاتُ الْقُرْآنِ، الْمُشْتَمِلَةُ عَلَى حُجَجِ اللهِ وَآيَاتِهِ فِي الْأَنْفُسِ وَالْآفَاقِ، وَهَذِهِ

ص: 374

الْآيَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى آيَةِ النَّهْيِ (وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ) . إِلَخْ. وَالْآيَةُ الَّتِي بَيْنَهُمَا مُعْتَرِضَةٌ بَيَّنَ فِيهَا ابْتِلَاءَ كُبَرَاءِ الْمُشْرِكِينَ بِضُعَفَاءِ الْمُؤْمِنِينَ وَرَغْبَتَهُمْ فِي طَرْدِهِمْ.

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) تَقَدَّمَ مِثْلَهُ فِي الْآيَةِ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ، وَكِتَابَتُهَا إِيجَابُهَا عَلَى ذَاتِهِ الْعَلِيَّةِ، وَلَهُ أَنْ يُوجِبَ عَلَى نَفْسِهِ مَا شَاءَ وَلَا يُوجِبُ عَلَيْهِ أَحَدٌ شَيْئًا. فَالرَّحْمَةُ مِنْ شُئُونِ الرُّبُوبِيَّةِ الْوَاجِبَةِ لَهَا لَا عَلَيْهَا، وَإِنَّ فِي نِظَامِ الْفِطْرَةِ الْبَشَرِيَّةِ وَمَا سَخَّرَ اللهُ لِلْبَشَرِ مِنْ أَسْبَابِ الْمَعِيشَةِ الْمَادِّيَّةِ، وَمَا آتَاهُمْ مِنْ وَسَائِلِ الْعُلُومِ الْكَسْبِيَّةِ، وَمِنْ هِدَايَةِ الْوَحْيِ الْوَهْبِيَّةِ - لَآيَاتٍ بَيِّنَاتٍ عَلَى سَعَةِ الرَّحْمَةِ الرَّبَّانِيَّةِ، وَتَرْبِيَةِ عِبَادِهِ بِهَا فِي حَيَاتِهِمُ الْجَسَدِيَّةِ وَالرُّوحِيَّةِ، بَلْ هِيَ الَّتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ، وَلَكِنَّ كِتَابَتَهَا أَمْرٌ آخَرُ خَصَّ بِهِ بَعْضَ الْخَلْقِ كَمَا يَأْتِي فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ. وَقَدْ بَيَّنَ لَنَا سُبْحَانَهُ أَصْلًا مِنْ أُصُولِ الدِّينِ، فِي هَذِهِ الرَّحْمَةِ الْمَكْتُوبَةِ لِلْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ:

(أَنَّهُ مَنْ عَمِلِ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ) إِلَخْ. قَرَأَ نَافِعٌ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَعَاصِمٌ، وَيَعْقُوبُ " أَنَّهُ " بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ " إِنَّهُ " بِكَسْرِهَا، فَأَمَّا قِرَاءَةُ الْفَتْحِ فَعَلَى الْبَدَلِ مِنَ الرَّحْمَةِ، أَيْ بَدَلِ الْبَعْضِ مِنَ الْكُلِّ؛ إِذْ ذَكَرَ مِنْ أَنْوَاعِ الرَّحْمَةِ الْمَكْتُوبَةِ مَا هُمْ أَحْوَجُ إِلَى مَعْرِفَتِهِ بِنَصِّ الْوَحْيِ، وَهُوَ حُكْمُ مَنْ يَعْمَلُ السُّوءَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَكَيْفَ يُعَامِلُهُ اللهُ تَعَالَى، وَأَمَّا سَائِرُ أَنْوَاعِهَا، وَمَا هُوَ إِحْسَانٌ غَيْرُ مَكْتُوبٍ مِنْهَا، فَيُمْكِنُ أَنْ يُسْتَدَلَّ عَلَيْهِمَا بِالنَّظَرِ

فِي الْأَنْفُسِ وَالْآفَاقِ، وَهُوَ مَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ فِي تَفْسِيرِ كِتَابَتِهَا. وَأَمَّا قِرَاءَةُ الْكَسْرِ فَعَلَى الِاسْتِئْنَافِ النَّحْوِيِّ أَوِ الْبَيَانِيِّ، كَأَنَّهُ قِيلَ: مَا هَذِهِ الرَّحْمَةُ؟ أَوْ: مَا حَظُّنَا مِنْهَا فِي أَعْمَالِنَا؟ وَهَلْ مِنْ مُقْتَضَاهَا أَلَّا نُؤَاخَذَ بِذَنْبٍ، وَأَنْ يُغْفَرَ لَنَا كُلُّ سُوءٍ بِلَا شَرْطٍ وَلَا قَيْدٍ؟ فَجَاءَ الْجَوَابُ: إِنَّهُ - أَيِ الْحَالَ وَالشَّأْنَ - مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ عَمَلًا تَسُوءُ عَاقِبَتُهُ وَتَأْثِيرُهُ لِضَرَرِهِ الَّذِي حَرَّمَهُ اللهُ لِأَجْلِهِ حَالَ كَوْنِهِ مُتَلَبِّسًا بِجَهَالَةٍ دَفَعَتْهُ إِلَى ذَلِكَ السُّوءِ، كَغَضَبٍ شَدِيدٍ حَمَلَهُ عَلَى السَّبِّ أَوِ الضَّرْبِ، أَوْ شَهْوَةٍ مُغْتَلِمَةٍ قَادَتْهُ إِلَى انْتِهَاكٍ عِرْضٍ، فَالْجَهَالَةُ هُنَا هِيَ السَّفَهُ وَالْخِفَّةُ الَّتِي تُقَابِلُهَا الرَّوِيَّةُ وَالْحِكْمَةُ وَالْعِفَّةُ، وَقِيلَ: إِنَّهَا الْجَهْلُ الَّذِي يُقَابِلُهُ الْعِلْمُ ; لِأَنَّ كُلَّ مَنْ يَعْمَلِ السُّوءَ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ جَاهِلًا، فَإِمَّا أَنْ يَجْهَلَ مَا فِيهِ مِنَ الْقُبْحِ وَالضَّرَرِ، وَإِمَّا أَنْ يَجْهَلَ سُوءَ عَاقَبَتِهِ وَقُبْحَ تَأْثِيرِهِ فِي نَفْسِهِ، وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ سُخْطِ رَبِّهِ وَعِقَابِهِ، ذَهَابًا مَعَ الْأَمَانِي وَاغْتِرَارًا بِتَأَوُّلِ النُّصُوصِ. وَمِنْ هُنَا قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: كُلُّ مَنْ عَمِلَ مَعْصِيَةً فَهُوَ جَاهِلٌ.

وَحَاصِلُ الْمَعْنَى عَلَى الْقِرَاءَةِ الْأُولَى: كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ الْخَاصَّةَ الَّتِي هِيَ الْمَغْفِرَةُ وَالرَّحْمَةُ لِمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ عَمَلِ السُّوءِ بِجَهَالَةٍ وَأَصْلَحَ عَمَلَهُ، وَعَلَى الثَّانِيَةِ: إِنْ سَأَلْتُمْ عَنْ حَظِّكُمْ مِنْ هَذِهِ الرَّحْمَةِ فَالْجَوَابُ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ (ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ) أَيْ ثُمَّ رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ السُّوءِ بَعْدَ أَنْ عَمِلَهُ شَاعِرًا بِقُبْحِهِ، نَادِمًا عَلَيْهِ خَائِفًا مِنْ عَاقِبَتِهِ، وَأَصْلَحَ

ص: 375

عَمَلَهُ بِأَنْ أَتْبَعَ الْعَمَلَ السَّيِّئَ التَّأْثِيرَ فِي النَّفْسِ عَمَلًا يُضَادُّهُ وَيَذْهَبُ بِأَثَرِهِ مِنْ قَلْبِهِ، حَتَّى يَعُودَ إِلَى النَّفْسِ زَكَاؤُهَا وَطَهَارَتُهَا، وَتَصِيرَ كَمَا كَانَتْ أَهْلًا لِنَظَرِ الرَّبِّ وَقُرْبِهِ (فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أَيْ: فَشَأْنُهُ سُبْحَانَهُ فِي مُعَامَلَتِهِ أَنَّهُ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ، فَيَغْفِرُ لَهُ مَا تَابَ عَنْهُ، وَيَتَغَمَّدُهُ بِرَحْمَتِهِ وَإِحْسَانِهِ.

وَهَذِهِ قَاعِدَةٌ مِنْ قَوَاعِدِ الدِّينِ وَأُسٌّ مِنْ إِسَاسِهِ، أَمَرَ اللهُ تَعَالَى رَسُولَهُ أَنْ يُبَلِّغَهَا لِمَنْ يَدْخُلُونَ فِيهِ لِيَهْتَدُوا بِهَا، حَتَّى لَا يَغْتَرُّوا بِمَغْفِرَةِ اللهِ وَرَحْمَتِهِ فَيَحْمِلَهُمُ الْغُرُورُ عَلَى التَّفْرِيطِ فِي جَنْبِ اللهِ، وَالْغَفْلَةِ عَنْ تَزْكِيَةِ أَنْفُسِهِمْ، وَالْمُبَادَرَةِ إِلَى تَطْهِيرِهَا مِنْ إِفْسَادِ الذُّنُوبِ لَهَا، إِلَى أَنْ تُحِيطَ بِهَا خَطِيئَتُهَا، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذِهِ الْقَاعِدَةَ مِرَارًا فِي تَفْسِيرِ الْآيَاتِ الْمُقَرَّرَةِ لَهَا؛ تَارَةً بِالْإِيجَازِ، وَتَارَةً بِالْإِطْنَابِ، وَتَارَةً بِالتَّوَسُّطِ بَيْنَهُمَا. وَكَانَ أَوْسَعُ مَا كَتَبْنَاهُ فِيهَا تَفْسِيرَ قَوْلِهِ تَعَالَى:(إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينِ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ)

إِلَى قَوْلِهِ: (أَلِيمًا)(4: 17، 18) فَيُرَاجَعُ فِي الْجُزْءِ الرَّابِعِ مِنَ التَّفْسِيرِ [رَاجِعْ ص 361 - 370 ج 4 ط الْهَيْئَةِ] ، وَنَدَعُ أَصْحَابَ الْمَذَاهِبِ الْكَلَامِيَّةِ وَالْفِقْهِيَّةِ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ يَتَجَادَلُونَ فِي كَوْنِ الْآيَةِ مُؤَيِّدَةً لِمَذْهَبِ الْمُعْتَزِلَةِ أَوْ غَيْرَ مُؤَيِّدَةٍ لَهُ، فَإِنَّ هَذِهِ الْمُجَادَلَاتِ تَصْرِفُ الْمُشْتَغِلِينَ بِهَا عَنِ الْمَوْعِظَةِ وَالْحِكْمَةِ الَّتِي أَنْزَلَهَا اللهُ تَعَالَى لِبَيَانِهِمَا.

وَقَدْ فَتَحَ هَمْزَةَ " فَأَنَّهُ " فِي الْآيَةِ مَنْ فَتَحَ هَمْزَةَ " أَنَّهُ " مِنَ الْقُرَّاءِ سِوَى نَافِعٍ، فَإِنَّهُ قَرَأَ بِالْكَسْرِ كَبَاقِي الْقُرَّاءِ. وَأَجَازَ الزَّجَّاجُ كَسْرَ الْأُولَى وَفَتْحَ الثَّانِيَةِ، وَهِيَ قِرَاءَةُ الْأَعْرَجِ وَالزُّهْرِيِّ وَأَبِي عَمْرٍو الدَّانِي.

(وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ) أَيْ: وَمِثْلُ ذَلِكَ التَّفْصِيلِ الْوَاضِحِ وَعَلَى نَحْوِهِ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ الْمُنَزَّلَةِ فِي بَيَانِ الْحَقَائِقِ الَّتِي يَهْتَدِي بِهَا أَهْلُ النَّظَرِ الصَّحِيحِ وَالْفِقْهِ الدَّقِيقِ لِمَا فِيهَا مِنَ الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ وَالْمَوَاعِظِ وَالْعِبْرَةِ، (وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ) أَيْ وَلِأَجْلِ أَنْ يَظْهَرَ بِهَا طَرِيقُ الْمُجْرِمِينَ فَيَمْتَازُونَ بِهَا عَنْ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ. قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَأَبُو عُمَرَ، وَيَعْقُوبَ، وَحَفْصٌ، عَنْ عَاصِمٍ " وَلِتَسْتَبِينَ " بِالتَّاءِ وَ " سَبِيلٌ " بِالرَّفْعِ - أَيْ وَلِتَظْهَرَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ وَتُعْرَفَ - وَالسَّبِيلُ يُؤَنِّثُهُ أَهْلُ الْحِجَازِ، وَيُذَكِّرُهُ بَنُو تَمِيمٍ، وَجَاءَ التَّنْزِيلُ بِاللُّغَتَيْنِ - وَقَرَأَ نَافِعٌ بِالتَّاءِ وَنَصَبَ السَّبِيلَ عَلَى أَنَّهُ خِطَابٌ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَيْ وَلِتَتَبَيَّنَ أَيُّهَا الرَّسُولُ طَرِيقَ الْمُجْرِمِينَ فَلَا يَخْفَى عَلَيْكَ شَيْءٌ مِنْهَا، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ " وَلِيَسْتَبِينَ " بِالْيَاءِ وَرَفْعِ " سَبِيلُ " عَلَى لُغَةِ التَّذْكِيرِ، فَفَائِدَةُ اخْتِلَافِ الْقِرَاءَاتِ هُنَا لَفْظِيَّةٌ، وَهِيَ تَذْكِيرُ السَّبِيلِ وَتَأْنِيثُهَا، وَمَجِيءُ فِعْلِ الِاسْتِبَانَةِ لَازِمًا وَمُتَعَدِّيًا، يُقَالُ: بَانَ الشَّيْءُ وَاسْتَبَانَ بِمَعْنَى: وَضَحَ وَظَهَرَ، وَيُقَالُ: اسْتَبَنْتُ الشَّيْءَ بِمَعْنَى اسْتَوْضَحْتُهُ وَتَبَيَّنْتُهُ، أَيْ: عَرَفْتُهُ بَيِّنًا، وَأَمَّا فَائِدَةُ الْجَمْعِ بَيْنَ الْغَيْبَةِ وَالْخِطَابِ فِيهَا فَهِيَ أَنَّ تَفْصِيلَ الْآيَاتِ هُوَ فِي نَفْسِهِ مُوَضِّحٌ لِسَبِيلِ الْمُجْرِمِينَ، وَأَنَّهُ يَنْبَغِي لِلْمُخَاطَبِ بِذَلِكَ أَوَّلًا وَبِالذَّاتِ ثُمَّ لِغَيْرِهِ أَنْ يَسْتَبِينَهُ

ص: 376

مِنْهَا بِتَأَمُّلِهَا وَفَهْمِهَا وَالِاعْتِبَارِ بِهَا، فَكَمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ فِي نَفْسِهَا يَغْفُلُ النَّاسُ عَنْهَا (وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ) (12: 105) وَالْعَطْفُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَلِتَسْتَبِينَ) قِيلَ: إِنَّهُ عَطْفٌ عَلَى عِلَّةٍ مَحْذُوفَةٍ لِقَوْلِهِ: (نُفَصِّلُ) لَمْ يَقْصِدْ تَعْلِيلَهُ بِهَا بِخُصُوصِهَا، وَإِنَّمَا قَصَدَ الْإِشْعَارَ بِأَنَّ لَهُ فَوَائِدَ جَمَّةً مِنْ جُمْلَتِهَا مَا ذُكِرَ، أَيْ: وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِمَا فِي تَفْصِيلِهَا مِنَ الْأَحْكَامِ وَالْحِكَمِ، وَبَيَانِ الْحُجَجِ وَالْمَوَاعِظِ وَالْعِبَرِ، وَلِأَجْلِ أَنْ تَسْتَبِينَ سَبِيلُ

الْمُجْرِمِينَ، فَيَكُونَ مِنْ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ. وَقِيلَ: إِنَّهُ عِلَّةٌ لِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ هُوَ عَيْنُ الْمَذْكُورِ، أَيْ: وَلِأَجْلِ أَنْ تَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ؛ لِأَنَّ الشَّيْءَ يُعْرَفُ بِضِدِّهِ، بَلْ بَيَّنَ قَبْلَهُ سَبِيلَ الْمُجْرِمِينَ مِنَ الْكُفَّارِ أَيْضًا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَمِثْلُ ذَلِكَ التَّفْصِيلِ الْبَيِّنِ نُفَصِّلُ آيَاتِ الْقُرْآنِ وَنُلَخِّصُهَا فِي صِفَةِ أَحْوَالِ الْمُجْرِمِينَ؛ مَنْ هُوَ مَطْبُوعٌ عَلَى قَلْبِهِ لَا يُرْجَى إِسْلَامُهُ، وَمَنْ يُرَى فِيهِ أَمَارَةُ الْقَبُولِ وَهُوَ الَّذِي يَخَافُ إِذَا سَمِعَ ذِكْرَ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ دَخَلَ فِي الْإِسْلَامِ إِلَّا أَنَّهُ لَا يَحْفَظُ حُدُودَهُ، وَلِتَسْتَوْضِحَ سَبِيلَهُمْ فَتُعَامِلَ كُلًّا مِنْهُمْ بِمَا يَجِبُ أَنْ يُعَامَلَ بِهِ فَصَّلْنَا ذَلِكَ التَّفْصِيلَ. انْتَهَى. وَيَسُرُّنِي أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ يُؤَيِّدُ مَا قَدَّمْتُهُ فِي بَيَانِ أَصْنَافِ النَّاسِ فِي زَمَنِ نُزُولِ السُّورَةِ، وَمَا أَرْشَدَتْ إِلَيْهِ الْآيَاتُ فِي مُعَامَلَةِ كُلِّ صِنْفٍ مِنْهُمْ، وَأَنَّ مَا قَلْتُهُ خَيْرٌ مِمَّا قَالَهُ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ: وَفِي الْآيَةِ مِنْ مَحَاسِنِ إِيجَازِ الْقُرْآنِ مَا لَا يَخْفَى.

وَسَيَأْتِي مِثْلُ هَذَا التَّعْبِيرِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ: (وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ)(105) وَقَوْلُهُ مِنْ سُورَةِ الْأَعْرَافِ: (وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)(7: 174) وَلَا أَذْكُرُ أَنَّ فِي الْقُرْآنِ غَيْرَهُمَا.

(قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ) .

ص: 377

بَعْدَ أَنْ أَرْشَدَ اللهُ تَعَالَى رَسُولَهُ إِلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ سِيَاسَةِ الْمُؤْمِنِينَ، وَتَبْلِيغِهِمْ مَا ذَكَرَ مِنْ أُصُولِ حِكْمَةِ الدِّينِ، عَادَ إِلَى تَلْقِينِهِ مَا يُحَاجُّ بِهِ الْمُشْرِكِينَ، مِنْ بَلَاغِ الْوَحْيِ وَنَاصِعِ الْبَرَاهِينِ، فَقَالَ:

(قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) النَّهْيُ: الزَّجْرُ عَنِ الشَّيْءِ بِالْقَوْلِ - مِثْلَ: لَا تَكْذِبْ وَاجْتَنِبْ قَوْلَ الزُّورِ - وَالْكَفُّ عَنْهُ بِالْفِعْلِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:(وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى)(79: 40) وَالدُّعَاءُ: النِّدَاءُ وَطَلَبُ الْخَيْرِ أَوْ دَفْعُ الضُّرِّ مِنَ الْأَعْلَى، وَإِنَّمَا يَكُونُ عِبَادَةً إِذَا كَانَ فِي أَمْرٍ وَرَاءَ الْأَسْبَابِ الْمُسَخَّرَةِ لِلْعِبَادِ الَّتِي يَنَالُونَهَا بِكَسْبِهِمْ لَهَا وَاجْتِهَادِهِمْ فِيهَا وَتَعَاوُنِهِمْ عَلَيْهَا، فَإِنَّ مَا نَعْجِزُ عَنْ نَيْلِهِ بِالْأَسْبَابِ الْمُسَخَّرَةِ لَنَا لَا نَطْلُبُهُ إِلَّا مِنَ الْخَالِقِ الْمُسَخِّرِ لِلْأَسْبَابِ - وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ مِرَارًا كَثِيرَةً - فَاللهُ تَعَالَى يَقُولُ لِرَسُولِهِ هُنَا: قُلْ أَيُّهَا الرَّسُولُ لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يَدْعُونَ مَعَ اللهِ آلِهَةً أُخْرَى: إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَهُمْ وَتَسْتَغِيثُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ، أَيْ غَيْرَ اللهِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَعِبَادِ اللهِ الصَّالِحِينَ، بَلْهَ مَا دُونَهُمْ مِنَ الْأَصْنَامِ وَالْأَوْثَانِ الَّتِي لَا عِلْمَ لَهَا وَلَا عَمَلَ، وَهَذَا النَّهْيُ يُصَدَّقُ بِنَهْيِ اللهِ تَعَالَى إِيَّاهُ عَنْ ذَلِكَ فِي آيَاتِ الْقُرْآنِ الْكَثِيرَةِ وَأَمْرِهِ بِضِدِّهِ وَهُوَ دُعَاءُ اللهِ تَعَالَى وَحْدَهُ، وَبِنَهْيِ الْعَقْلِ وَالْفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ قَبْلَ الْبَعْثَةِ مُوَحِّدًا، وَلَمْ يَكُنْ قَطُّ مُشْرِكًا، وَلِأَجْلِ هَذَا قَالَ:" نُهِيتُ " بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ.

(قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ) أَيْ قُلْ لَهُمْ: لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ فِي عِبَادَتِهِمْ وَلَا فِي غَيْرِهَا مِنْ أَعْمَالِكُمُ الَّتِي تَتَّبِعُونَ بِهَا الْهَوَى، وَلَسْتُمْ فِي شَيْءٍ مِنْهَا عَلَى بَيِّنَةٍ وَلَا هُدًى، وَلِمَاذَا؟ لِأَنَّنِي إِنِ اتَّبَعْتُهَا فَقَدْ ضَلَلْتُ ضَلَالًا أَخْرُجُ بِهِ مِنْ جِنْسِ الْمُهْتَدِينَ، فَلَا أَكُونُ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ، فَإِنَّ هَذَا الضَّلَالَ لَا يُقَاسُ بِغَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ عَنْ صِرَاطِ الْهُدَى.

(قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي) أَيْ: قُلْ لَهُمْ أَيُّهَا الرَّسُولُ أَيْضًا: إِنِّي فِيمَا أُخَالِفُكُمْ فِيهِ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي هَدَانِي إِلَيْهَا بِالْوَحْيِ وَالْعَقْلِ، وَالْبَيِّنَةُ كُلُّ مَا يُتَبَيَّنُ بِهِ الْحَقُّ مِنَ الْحُجَجِ وَالدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ، وَالشَّوَاهِدِ وَالْآيَاتِ الْحِسِّيَّةِ، وَمِنْهُ تَسْمِيَةُ شَهَادَةِ الشُّهُودِ بَيِّنَةً، وَالْقُرْآنُ بَيِّنَةٌ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى أَنْوَاعٍ كَثِيرَةٍ مِنَ الْبَيِّنَاتِ الْعَقْلِيَّةِ وَالْكَوْنِيَّةِ، فَهُوَ عَلَى كَوْنِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ تَعَالَى - لِلْقَطْعِ بِعَجْزِ الرَّسُولِ كَغَيْرِهِ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ - مُؤَيِّدٌ بِالْحُجَجِ وَالْبَيِّنَاتِ الْمُثْبِتَةِ لِمَا فِيهِ مِنْ قَوَاعِدِ الْعَقَائِدِ وَأُصُولِ الْهِدَايَةِ (وَكَذَّبْتُمْ بِهِ) أَيْ وَالْحَالُ أَنَّكُمْ كَذَّبْتُمْ بِهِ، أَيْ بِالْقُرْآنِ الَّذِي هُوَ بَيِّنَتِي مِنْ رَبِّي، فَكَيْفَ تُكَذِّبُونَ أَنْتُمْ

بِبَيِّنَةِ الْبَيِّنَاتِ عَلَى أَظْهَرِ الْحَقَائِقِ وَأَبْيَنِ الْهِدَايَاتِ، ثُمَّ تَطْمَعُونَ أَنْ أَتَّبِعَكُمْ عَلَى ضَلَالٍ مُبِينٍ لَا بَيِّنَةَ لَكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا مَحْضَ التَّقْلِيدِ، وَمَا كَانَ التَّقْلِيدُ بَيِّنَةً مِنَ الْبَيِّنَاتِ، وَإِنَّمَا هُوَ بَرَاءَةٌ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ، وَرِضَاءٌ بِجَهْلِ الْآبَاءِ وَالْأَجْدَادِ، فَالْكَلَامُ حُجَّةٌ مُسَكِّتَةٌ مُبَكِّتَةٌ عَلَى مَا قَبْلَهَا مِنْ نَفْيِ عِبَادَتِهِ صلى الله عليه وسلم لِلَّذِينِ يَدْعُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ، وَقِيلَ: إِنَّ الْمَعْنَى وَكَذَّبْتُمْ بِرَبِّي، أَيْ: بِآيَاتِهِ أَوْ بِدِينِهِ، وَإِلَّا فَإِنَّ الْقَوْمَ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ رَبُّهُمْ وَرَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا، وَالْقُرْآنُ نَاطِقٌ بِذَلِكَ، وَفَسَّرَ بَعْضُهُمُ التَّكْذِيبَ بِالرَّبِّ بِاتِّخَاذِ شَرِيكٍ لَهُ، وَلَمْ يَكُنِ اتِّخَاذُهُمُ الشُّرَكَاءَ تَكْذِيبًا بِالرُّبُوبِيَّةِ؛ إِذْ لَمْ يَكُونُوا يَقُولُونَ: إِنَّ غَيْرَهُ تَعَالَى يَخْلُقُ

ص: 378

مَعَهُ أَوْ يَرْزُقُ، وَإِنَّمَا كَانُوا يَدْعُونَ غَيْرَهُ لِيُقَرِّبَهُمْ إِلَيْهِ وَيَشْفَعُ لَهُمْ عِنْدَهُ، وَهَذَا الدُّعَاءُ عِبَادَةٌ وَشِرْكٌ بِالْإِلَهِيَّةِ لَا تَكْذِيبٌ بِالرُّبُوبِيَّةِ.

وَلَمَّا ذَكَرَ بَيِّنَتَهُ وَتَكْذِيبَهُمْ بِهِ قَفَّى بِرَدِّ شُبْهَةٍ تَخْطُرُ عِنْدَ ذَلِكَ بِالْبَالِ، وَمِنْ شَأْنِهَا أَنْ يَقَعَ عَنْهَا مِنْهُمُ السُّؤَالُ، وَهِيَ أَنَّ اللهَ أَنْذَرَهُمْ عَذَابًا يَحِلُّ بِهِمْ إِذَا أَصَرُّوا عَلَى عِنَادِهِمْ وَكُفْرِهِمْ، وَوَعَدَ بِأَنْ يُنْصَرَ رَسُولَهُ عَلَيْهِمْ، وَقَدِ اسْتَعْجَلُوا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم ذَلِكَ، فَكَانَ عَدَمُ وُقُوعِهِ شُبْهَةً لَهُمْ عَلَى صِدْقِ الْقُرْآنِ، لِجَهْلِهِمْ بِسُنَنِ اللهِ تَعَالَى فِي شُئُونِ الْإِنْسَانِ، فَأَمَرَ اللهُ تَعَالَى رَسُولَهُ أَنْ يَقُولَ لَهُمْ:(مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ) أَيْ لَيْسَ عِنْدَمَا تَطْلُبُونَ أَنْ يُعَجِّلَ اللهُ لَكُمْ مِنْ وَعِيدِهِ، وَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ: إِنَّ اللهَ فَوَّضَ أَمْرَهُ إِلَيَّ حَتَّى تُطَالِبُونِي بِهِ وَتَعُدُّونَ عَدَمَ إِيقَاعِهِ حُجَّةً عَلَى تَكْذِيبِهِ (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ) أَيْ مَا الْحُكْمُ فِي ذَلِكَ وَفِي غَيْرِهِ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي شُئُونِ الْأُمَمِ إِلَّا لِلَّهِ وَحْدَهُ، وَلَهُ فِي ذَلِكَ سُنَنٌ حَكِيمَةٌ وَمَقَادِيرُ مُنْتَظِمَةٌ تَجْرِي عَلَيْهَا أَفْعَالُهُ وَآجَالٌ مُسَمَّاةٌ تَقَعُ فِيهَا، فَلَا يَتَقَدَّمُ شَيْءٌ عَنْ أَجَلِهِ وَلَا يَتَأَخَّرُ (وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ) (13: 8) (وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمَّى) .

(يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ) قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَنَافِعٌ وَعَاصِمٌ " يَقُصُّ " مِنَ الْقَصَصِ، وَهُوَ ذِكْرُ الْخَبَرِ أَوْ تَتَبُّعُ الْأَثَرِ، أَيْ يَقُصُّ عَلَى رَسُولِهِ الْقَصَصَ الْحَقَّ فِي جَمِيعِ أَخْبَارِهِ وَوَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ، أَوْ يَتَتَبَّعُ الْحَقَّ وَيُصِيبُهُ فِي أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ الَّتِي يَتَصَرَّفُ بِهَا فِي عِبَادِهِ، وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ " يَقْضِ " مِنَ الْقَضَاءِ وَأَصْلُهُ يَقْضِي بِالْيَاءِ فَحُذِفَتِ الْيَاءُ فِي الْخَطِّ كَمَا حُذِفَتْ فِي اللَّفْظِ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ، وَلَمَّا كَانَتِ الْمَصَاحِفُ غَيْرَ مَنْقُوطَةٍ كَانَتِ الْكَلِمَةُ فِي

الْمُصْحَفِ الْإِمَامِ هَكَذَا " نقص " فَاحْتَمَلَتِ الْقِرَاءَتَيْنِ، وَحَذْفُ حَرْفِ الْمَدِّ الَّذِي يَسْقُطُ مِنَ اللَّفْظِ مَعْهُودٌ فِي الْمَصَاحِفِ، وَمِنْهُ (حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرِ) (سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ) (96: 18) وَمَعْنَاهُ يَقْضِي فِي أَمْرِكُمْ وَغَيْرِهِ الْقَضَاءَ الْحَقَّ، أَوْ يُنْفِذُ الْأَمْرَ وَيُفَصِّلُهُ بِالْحَقِّ، وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ فِي كُلِّ أَمْرٍ؛ لِأَنَّهُ الْحَكَمُ الْعَدْلُ، الْمُحِيطُ عِلْمُهُ وَالنَّافِذُ حُكْمُهُ فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَتَقَدَّمَ تَحْقِيقُ مَعْنَى الْقَضَاءِ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ.

(قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) أَيْ قُلْ أَيُّهَا الرَّسُولُ لِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ كَقَوْلِهِمْ (اللهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ)(8: 32) : " لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ " بِأَنْ كَانَ مِمَّا جَعَلَهُ اللهُ فِي مَكِنَتِي وَتَصَرُّفِي بِقُدْرَتِي الْكَسْبِيَّةِ أَوْ بِجَعْلِهِ آيَةً خَاصَّةً بِي " لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ " بِإِهْلَاكِي لِلظَّالِمِينَ مِنْكُمُ الَّذِينَ يَصُدُّونَنِي عَنْ تَبْلِيغِ دَعْوَةِ رَبِّي وَيَصُدُّونَ النَّاسَ عَنِّي، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ مِنْ عَجَلٍ، وَإِنَّمَا أَسْتَعْجِلُ أَنَا بِإِهْلَاكِ الظَّالِمِينَ مِنْكُمْ مَا وَعَدَنِي رَبِّي مِنْ نَصْرِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُصْلِحِينَ الْمَظْلُومِينَ، وَخِذْلَانِ الْكَافِرِينَ الْمُفْسِدِينَ الظَّالِمِينَ، وَهُوَ اسْتِعْجَالٌ لِلْخَيْرِ، وَأَنْتُمْ تَسْتَعْجِلُونَ الشَّرَّ لِأَنْفُسِكُمْ، وَتَقْطَعُونَ عَلَيْهَا طَرِيقَ الْهِدَايَةِ بِإِمْهَالِ اللهِ لَكُمْ (وَاللهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ)

ص: 379

الَّذِينَ تَمَكَّنَ الظُّلْمُ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، وَأَحَاطَ بِهَا، فَلَا رَجَاءَ بِرُجُوعِهِمْ عَنْهُ إِلَى الْإِيمَانِ وَالْحَقِّ وَالْعَدْلِ، وَبِمَنْ أَلَمَّ بِهِمُ الظُّلْمُ أَوْ أَلَمُّوا بِهِ، لَكِنَّهُ لَمْ يَمْحُ نُورَ الْفِطْرَةِ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، وَلَمْ يَذْهَبْ بِاسْتِعْدَادِهِمْ لِلِاهْتِدَاءِ إِلَى الْحَقِّ الَّذِي أَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ. وَلَمَّا كَانَ سبحانه وتعالى أَعْلَمَ بِالظَّالِمِينَ لَمْ يَجْعَلْ أَمْرَ عِقَابِهِمْ إِلَيَّ، فَهُوَ عِنْدَهُ لَا عِنْدِي، وَلِكُلٍّ مِنْ عَذَابِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ أَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ، يَرَاهُ قَرِيبًا وَتَرَوْنَهُ بَعِيدًا، وَأَيَّامُهُ تَعَالَى فِي عَالَمِ التَّكْوِينِ وَشُئُونِ الْأُمَمِ لَيْسَتْ قَصِيرَةً كَأَيَّامِنَا بَلْ طَوِيلَةً (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ) (22: 47، 48) فَهُوَ لَا يُؤَخِّرُ مَا وَعَدَ بِهِ إِلَى الْأَجَلِ الْمُسَمَّى عِنْدَهُ إِلَّا لِحِكْمَةٍ (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجْلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ) (7: 34) .

هَذَا مَا ظَهَرَ لَنَا فِي قَضَاءِ الْأَمْرِ عَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِ مَا يَسْتَعْجِلُونَ بِهِ فِي مَكِنَتِهِ صلى الله عليه وسلم وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ إِنْ كَانَ يُهْلِكُهُمْ كُلُّهُمْ كَمَا هَلَكَتِ الْأُمَمُ الَّتِي كَذَّبَتِ الرُّسُلَ مِنْ قَبْلِهِمْ، أَيْ: لَيْسَ الْمُرَادُ بِمَا يَقْضِي مِنَ الْأَمْرِ هُنَا عَذَابَ الِاسْتِئْصَالِ وَلَا عَذَابَ الْآخِرَةِ، وَإِنْ كَانُوا قَدِ

اسْتَعْجَلُوا كُلًّا مِنْهُمَا، بَلْ نَصْرَ الرَّسُولَ عَلَيْهِمْ. وَفِي قَوْلِهِ:(لَقُضِيَ الْأَمْرُ) بِإِسْنَادِ الْفِعْلِ إِلَى الْمَفْعُولِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ عِنْدَهُ صلى الله عليه وسلم وَقُضِيَ لَمَا قُضِيَ إِلَّا بِمَشِيئَةِ اللهِ تَعَالَى وَقُدْرَتِهِ.

(وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ) .

ص: 380

لَمَّا أَمَرَ اللهُ تَعَالَى رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُبَيِّنَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنَّهُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ فِيمَا بَلَّغَهُمْ إِيَّاهُ مِنْ رِسَالَتِهِ، وَأَنَّ مَا يَسْتَعْجِلُونَ بِهِ مِنْ عَذَابِ اللهِ وَنَصْرِهِ عَلَيْهِمْ - تَعْجِيزًا أَوْ تَهَكُّمًا أَوْ عِنَادًا - لَيْسَ عِنْدَهُ، وَإِنَّمَا هُوَ عِنْدَ اللهِ الَّذِي قَضَتْ سُنَّتُهُ أَنْ يَكُونَ لِكُلِّ شَيْءٍ أَجَلٌ وَمَوْعِدٌ لَا يَتَقَدَّمُ وَلَا يَتَأَخَّرُ عَنْهُ، وَأَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الَّذِي يَقْضِي الْحَقَّ وَيَقُصُّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَبِيَدِهِ تَنْفِيذُ وَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ - قَفَّى عَلَى ذَلِكَ بِبَيَانِ كَوْنِ مَفَاتِحِ الْغَيْبِ عِنْدَهُ، وَكَوْنِ التَّصَرُّفِ فِي الْخَلْقِ بِيَدِهِ، وَكَوْنِهِ هُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ لَا يُشَارِكُهُ أَحَدٌ مِنْ رُسُلِهِ وَلَا غَيْرِهِمْ فِي ذَلِكَ حَتَّى يَصِحَّ أَنْ يُطَالَبُوا بِهِ، فَقَالَ عز وجل:

(وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ) الْمَفَاتِحُ جَمْعُ مَفْتَحٍ - بِفَتْحِ الْمِيمِ - وَهُوَ الْمَخْزَنُ، وَبِكَسْرِهَا وَهُوَ الْمِفْتَاحُ الَّذِي تُفْتَحُ بِهِ الْأَقْفَالُ، وَقُرِئَ فِي الشَّوَاذِّ " مَفَاتِيحُ الْغَيْبِ " وَيُؤَيِّدُ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ الْآتِي فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ، وَيَجُوزُ اسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ فِي مَعْنَيَيْهِ، أَيْ أَنَّ خَزَائِنَ الْغَيْبِ - وَهُوَ مَا غَابَ عِلْمُهُ عَنِ الْخَلْقِ - هِيَ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى وَفِي

تَصَرُّفِهِ وَحْدَهُ، وَأَنَّ الْمَفَاتِيحَ - أَيِ الْوَسَائِلَ الَّتِي يُتَوَصَّلُ بِهَا إِلَى عِلْمِ الْغَيْبِ - هِيَ عِنْدَهُ أَيْضًا لَا يَعْلَمُهَا عِلْمًا ذَاتِيًّا إِلَّا هُوَ، فَهُوَ الَّذِي يُحِيطُ بِهَا عِلْمًا وَسِوَاهُ جَاهِلٌ بِذَاتِهِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُحِيطَ عِلْمًا بِهَا وَلَا أَنْ يَعْلَمَ شَيْئًا مِنْهَا إِلَّا بِإِعْلَامِهِ عز وجل، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَالْوَاجِبُ أَنْ يُفَوَّضَ إِلَيْهِ إِنْجَازُ وَعْدِهِ لِرَسُولِهِ بِالنَّصْرِ، وَوَعِيدِهِ لِأَعْدَائِهِ بِالْعَذَابِ وَالْقَهْرِ، مَعَ الْقَطْعِ بِأَنَّهُ لَا يُخْلِفُ وَعْدَهُ رُسُلَهُ، وَإِنَّمَا يُؤَخِّرُ إِنْجَازَهُ إِلَى الْأَجَلِ الَّذِي اقْتَضَتْهُ حِكْمَتُهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ السُّورَةِ بَيَانُ حَقِيقَةِ الْغَيْبِ وَاسْتِئْثَارِ اللهِ تَعَالَى بِعِلْمِهِ، وَمَا يُعَلِّمُهُ بَعْضَ خَلْقِهِ مِنَ الْحَقِيقِيِّ أَوِ الْإِضَافِيِّ مِنْهُ، وَسَنَزِيدُ ذَلِكَ بَيَانًا (وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) قَالَ الرَّاغِبُ: أَصْلُ الْبَحْرِ كُلُّ مَكَانٍ وَاسِعٍ جَامِعٍ لِلْمَاءِ الْكَثِيرِ. وَقِيلَ: إِنَّ أَصْلَهُ الْمَاءُ الْمِلْحُ، وَأُطْلِقَ عَلَى الْأَنْهَارِ بِالتَّوَسُّعِ أَوِ التَّغْلِيبِ. وَالْبَرُّ مَا يُقَابِلُهُ مِنَ الْأَرْضِ، وَهُوَ مَا يُسَمِّيهِ عُلَمَاءُ خَرْتِ الْأَرْضِ بِالْيَابِسَةِ. وَعِلْمُهُ تَعَالَى بِمَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ مِنْ عِلْمِ الشَّهَادَةِ الْمُقَابِلِ لِعِلْمِ الْغَيْبِ. عَلَى أَنَّ أَكْثَرَ مَا فِي خَفَايَا الْبَرِّ وَالْبَحْرِ غَائِبٌ عَنْ عِلْمِ أَكْثَرِ الْخَلْقِ، وَإِنْ كَانَ فِي نَفْسِهِ مَوْجُودًا يُمْكِنُ أَنْ يَعْلَمَهُ الْبَاحِثُ مِنْهُمْ عَنْهُ، وَقَدَّمَ ذِكْرَ الْبَرِّ عَلَى الْبَحْرِ عَلَى طَرِيقَةِ التَّرَقِّي مِنَ الْأَدْنَى إِلَى مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهُ، فَإِنَّ قَسْمَ الْبَحْرِ مِنَ الْأَرْضِ أَعْظَمُ مِنْ قَسْمِ الْبَرِّ، وَخَفَايَاهُ أَكْثَرُ وَأَعْظَمُ (وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا) أَيْ وَمَا تَسْقُطُ وَرَقَةٌ مَا مِنْ نَجْمٍ أَوْ شَجَرٍ مَا إِلَّا يَعْلَمُهَا؛ لِإِحَاطَةِ عِلْمِهِ بِالْجُزْئِيَّاتِ كُلِّهَا (وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) أَيْ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ حَبَّةٍ بِفِعْلِ فَاعِلٍ مُخْتَارٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ كَالْحَبِّ الَّذِي يُلْقِيهِ الزُّرَّاعُ فِي بُطُونِ الْأَرْضِ يَسْتُرُونَهُ بِالتُّرَابِ فَيَحْتَجِبُ عَنْ نُورِ النَّهَارِ، وَالَّذِي تَذْهَبُ بِهِ النَّمْلُ وَغَيْرِهَا مِنَ الْحَشَرَاتِ فِي قُرَاهَا وَجُحُورِهَا، أَوْ بِغَيْرِ فِعْلِ فَاعِلٍ كَالَّذِي يَسْقُطُ مِنَ النَّبَاتِ فِي شُقُوقِهَا وَأَخَادِيدِهَا، وَمَا يَسْقُطُ

ص: 381

مِنْ رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ مِنَ الثِّمَارِ وَنَحْوِهَا - إِلَّا كَائِنٌ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ - وَهُوَ عِلْمُ اللهِ تَعَالَى الَّذِي يُشْبِهُ الْمَكْتُوبَ فِي الصُّحُفِ بِثَبَاتِهِ وَعَدَمِ تَغَيُّرِهِ - أَوْ كِتَابُهُ الَّذِي كَتَبَ فِيهِ مَقَادِيرَ الْخَلْقِ كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ وَسَيَأْتِي ذِكْرُهُ، وَهُوَ بِمَعْنَى قَوْلِهِ فِيمَا قَبْلَهُ:(إِلَّا يَعْلَمُهَا) وَلِذَلِكَ قِيلَ: إِنَّهُ تَكْرِيرٌ لَهُ

بِالْمَعْنَى، وَقِيلَ: بَدَلُ كُلٍّ أَوْ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْهُ.

فَإِنْ قِيلَ: مَا حِكْمَةُ تَخْصِيصِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ بِالذِّكْرِ؟ قُلْنَا: إِنَّ الْمَعْلُومَ - أَوْ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْعِلْمُ إِمَّا مَوْجُودٌ وَإِمَّا مَعْدُومٌ، وَالْمَوْجُودُ إِمَّا حَاضِرٌ مَشْهُودٌ، وَإِمَّا غَائِبٌ فِي حُكْمِ الْمَفْقُودِ، وَلَيْسَ فِي الْوُجُودِ شَيْءٌ غَائِبٌ عَنِ اللهِ تَعَالَى، فَعِلْمُهُ تَعَالَى بِالْأَشْيَاءِ إِمَّا عِلْمُ غَيْبٍ وَهُوَ عِلْمُهُ بِالْمَعْدُومِ، وَإِمَّا عِلْمُ شَهَادَةٍ وَهُوَ عِلْمُهُ بِالْمَوْجُودِ، وَأَمَّا أَهْلُ الْعِلْمِ مِنَ الْخَلْقِ فَمِنَ الْمَوْجُودَاتِ مَا هُوَ حَاضِرٌ مَشْهُودٌ لَدَيْهِمْ، وَمِنْهَا مَا هُوَ حَاضِرٌ غَيْرُ مَشْهُودٍ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَخْلُقْ لَهُمْ آلَةً لِلْعِلْمِ بِهِ كَعَالَمِ الْجِنِّ وَالْمَلَائِكَةِ مَعَ الْإِنْسِ، وَمِنْهَا مَا هُوَ غَائِبٌ عَنْ شُهُودِهِمْ وَهُمْ مُسْتَعِدُّونَ لِإِدْرَاكِهِ لَوْ كَانَ حَاضِرًا، وَمَا هُوَ غَائِبٌ وَهُمْ غَيْرُ مُسْتَعِدِّينَ لِإِدْرَاكِهِ لَوْ حَضَرَ، فَكُلُّ مَا خُلِقُوا غَيْرُ مُسْتَعِدِّينَ لِإِدْرَاكِهِ مِنْ مَوْجُودٍ وَمَعْدُومٍ فَهُوَ غَيْبٌ حَقِيقِيٌّ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِمْ، وَكُلُّ مَا خُلِقُوا مُسْتَعِدِّينَ لِإِدْرَاكِهِ دَائِمًا أَوْ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ فَهُوَ - إِنْ غَابَ عَنْهُمْ - غَيْبٌ إِضَافِيٌّ. وَقَدْ بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى لَنَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ خَزَائِنَ عَالَمِ الْغَيْبِ كُلِّهَا عِنْدَهُ، وَعِنْدَهُ مَفَاتِيحُهَا وَأَسْبَابُهَا الْمُوصِلَةُ إِلَيْهَا، وَأَنَّ عِنْدَهُ مِنْ عِلْمِ الشَّهَادَةِ مَا لَيْسَ عِنْدَ غَيْرِهِ، وَذَكَرَ عَلَى سَبِيلِ الْمَثَلِ عِلْمَهُ بِكُلِّ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ مِنْ ظَاهِرٍ وَخَفِيٍّ، ثُمَّ خَصَّ بِالذِّكْرِ ثَلَاثَةَ أَشْيَاءَ مِمَّا فِي الْبَرِّ: إِحَاطَةُ عِلْمِهِ بِكُلِّ وَرَقَةٍ تَسْقُطُ مِنْ نَبْتَةٍ، وَكُلِّ حَبَّةٍ تَسْقُطُ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ، وَكُلِّ رَطْبٍ وَيَابِسٍ. فَأَمَّا الْوَرَقُ الَّذِي يَسْقُطُ فَهُوَ مَا كَانَ حَبًّا رَطْبًا مِنَ النَّبَاتِ فَأَشْرَفَ عَلَى الْيُبْسِ وَفَقَدَ الْحَيَاةَ النَّبَاتِيَّةَ وَالْتَحَقَ بِمَوَادَّ الْأَرْضِ الْمَيْتَةِ، وَقَدْ يَتَغَذَّى بِهِ حَيَوَانٌ بَعْدَ يُبْسِهِ أَوْ قَبْلَهُ، أَوْ يَتَحَلَّلُ فِي الْأَرْضِ بَعْدَ سُقُوطِهِ، وَيَتَغَذَّى بِهِ نَبَاتٌ آخَرُ فَيَدْخُلُ فِي عَالَمِ الْأَحْيَاءِ بِطَوْرٍ آخَرَ، وَأَمَّا الْحَبُّ فَهُوَ أَصْلُ تَكْوِينِ النَّبَاتِ الْحَيِّ يَسْقُطُ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ، فَمِنْهُ مَا يَنْبُتُ وَيَكُونُ نَجْمًا أَوْ شَجَرًا، وَمِنْهُ مَا يَتَغَذَّى بِهِ بَعْضُ الْأَحْيَاءِ مِنَ الْحَيَوَانِ، كَالطَّيْرِ وَالْحَشَرَاتِ، فَيَدْخُلُ فِي بِنْيَتِهَا كَمَا قُلْنَا فِيمَا قَبْلَهُ. وَأَمَّا ذِكْرُ الرَّطْبِ وَالْيَابِسِ فَهُوَ تَعْمِيمٌ بَعْدَ تَخْصِيصٍ فِي هَذَا الْبَابِ، فَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ مِنْ عَالَمِ الشَّهَادَةِ تَدْخُلُ فِي عَالَمِ الْغَيْبِ، ثُمَّ تَبْرُزُ فِي عَالَمِ الشَّهَادَةِ. وَعِلْمُ اللهِ تَعَالَى مُحِيطٌ بِكُلِّ شَيْءٍ مِنْهَا عَلَى كَثْرَتِهَا وَدِقَّةِ بَعْضِهَا وَصِغَرِهِ، وَتَنَقُّلِهِ فِي أَطْوَارِ الْخَلْقِ وَالتَّكْوِينِ وَمَا يَتْبَعْهُمَا مِنَ الصُّوَرِ وَالْمَظَاهِرِ، وَحَسْبُكَ هَذَا الْإِيمَاءُ مِنْ حِكْمَةِ تَخْصِيصِهَا بِالذِّكْرِ.

وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ مَبَاحِثُ لِعُلَمَاءِ الْآثَارِ، وَجَوْلَاتٌ لِلنُّظَّارِ، نَذْكُرُ الْمُهِمَّ مِنْهَا فِي فُصُولٍ:

ص: 382

فَهْمُ عُلَمَاءِ الْكَلَامِ وَالْحُكَمَاءِ لِلْآيَةِ

قَالَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ الْكَبِيرِ الَّذِي سَمَّاهُ (مَفَاتِحُ الْغَيْبِ) مَا نَصُّهُ:

" اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى: (وَاللهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ) يَعْنِي أَنَّهُ سُبْحَانَهُ هُوَ الْعَالِمُ بِكُلِّ شَيْءٍ، فَهُوَ يُعَجِّلُ مَا تَعْجِيلُهُ أَصْلَحُ وَيُؤَخِّرُ مَا تَأْخِيرُهُ أَصْلَحُ. وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:

(الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى) الْمَفَاتِحُ جَمْعُ مِفْتَحٍ، وَمَفْتَحٍ وَالْمِفْتَحُ بِالْكَسْرِ الْمِفْتَاحُ الَّذِي يُفْتَحُ بِهِ، وَالْمَفْتَحُ بِفَتْحِ الْمِيمِ الْخِزَانَةُ، وَكُلُّ خِزَانَةٍ كَانَتْ لِصِنْفٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ فَهُوَ مَفْتَحٌ، قَالَ الْفَرَّاءُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:(مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ)(28: 76) يَعْنِي خَزَائِنَهُ، فَلَفْظُ الْمَفَاتِحِ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادَ مِنْهُ الْمَفَاتِيحُ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ مِنْهُ الْخَزَائِنُ. أَمَّا عَلَى التَّقْدِيرِ الْأَوَّلِ فَقَدْ جَعَلَ لِلْغَيْبِ مَفَاتِيحَ عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِعَارَةِ ; لِأَنَّ الْمَفَاتِيحَ يُتَوَصَّلُ بِهَا إِلَى مَا فِي الْخَزَائِنِ الْمُسْتَوْثَقِ مِنْهَا بِالْأَغْلَاقِ وَالْأَقْفَالِ، فَالْعَالِمُ بِتِلْكَ الْمَفَاتِيحِ وَكَيْفِيَّةِ اسْتِعْمَالِهَا فِي فَتْحِ تِلْكَ الْأَغْلَاقِ وَالْأَقْفَالِ يُمْكِنُهُ أَنْ يَتَوَصَّلَ بِتِلْكَ الْمَفَاتِيحِ إِلَى مَا فِي تِلْكَ الْخَزَائِنِ، فَكَذَلِكَ هَاهُنَا الْحَقُّ سُبْحَانَهُ، لَمَّا كَانَ عَالِمًا بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ عَبَّرَ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى بِالْعِبَارَةِ الْمَذْكُورَةِ، وَقُرِئَ " مَفَاتِيحُ ". وَأَمَّا عَلَى التَّقْدِيرِ الثَّانِي فَالْمَعْنَى وَعِنْدَهُ خَزَائِنُ الْغَيْبِ، فَعَلَى التَّقْدِيرِ الْأَوَّلِ يَكُونُ الْمُرَادُ الْعِلْمَ بِالْغَيْبِ، وَعَلَى التَّقْدِيرِ الثَّانِي الْمُرَادُ مِنْهُ: الْقُدْرَةُ عَلَى كُلِّ الْمُمْكِنَاتِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ)(15: 21) .

" وَلِلْحُكَمَاءِ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ كَلَامٌ عَجِيبٌ مُفَرَّعٌ عَلَى أُصُولِهِمْ، فَإِنَّهُمْ قَالُوا: ثَبَتَ أَنَّ الْعِلْمَ بِالْعِلَّةِ عِلَّةٌ لِلْعِلْمِ بِالْمَعْلُولِ، وَأَنَّ الْعِلْمَ بِالْمَعْلُولِ لَا يَكُونُ عِلَّةً لِلْعِلْمِ بِالْعِلَّةِ، قَالُوا: وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: الْمَوْجُودُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا لِذَاتِهِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُمْكِنًا لِذَاتِهِ. وَالْوَاجِبُ لِذَاتِهِ لَيْسَ إِلَّا اللهُ سبحانه وتعالى، وَكُلُّ مَا سِوَاهُ فَهُوَ مُمْكِنٌ لِذَاتِهِ، وَالْمُمْكِنُ لِذَاتِهِ لَا يُوجَدُ إِلَّا بِتَأْثِيرِ الْوَاجِبِ لِذَاتِهِ، وَكُلُّ مَا سِوَى الْحَقِّ سُبْحَانَهُ فَهُوَ مَوْجُودٌ بِإِيجَادِهِ، كَائِنٌ بِتَكْوِينِهِ وَاقِعٌ بِإِيقَاعِهِ، إِمَّا بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ وَإِمَّا بِوَاسِطَةٍ وَاحِدَةٍ، وَإِمَّا بِوَسَائِطَ كَثِيرَةٍ عَلَى التَّرْتِيبِ النَّازِلِ مِنْ عِنْدِهِ طُولًا وَعَرْضًا، إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: عِلْمُهُ بِذَاتِهِ يُوجِبُ عِلْمَهُ بِالْأَثَرِ الْأَوَّلِ الصَّادِرِ مِنْهُ، ثُمَّ عِلْمُهُ بِذَلِكَ الْأَثَرِ الْأَوَّلِ يُوجِبُ عِلْمَهُ بِالْأَثَرِ الثَّانِي؛ لِأَنَّ الْأَثَرَ الْأَوَّلَ عِلَّةٌ قَرِيبَةٌ لِلْأَثَرِ الثَّانِي، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْعِلْمَ بِالْعِلَّةِ يُوجِبُ الْعِلْمَ بِالْمَعْلُولِ، فَبِهَذَا عِلْمُ الْغَيْبِ

لَيْسَ إِلَّا عِلْمُ الْحَقِّ بِذَاتِهِ الْمَخْصُوصَةِ، ثُمَّ يَحْصُلُ بِهِ مِنْ عِلْمِهِ بِذَاتِهِ عِلْمُهُ بِالْآثَارِ الصَّادِرَةِ عَنْهُ عَلَى تَرْتِيبِهَا الْمُعْتَبَرِ، وَلَمَّا كَانَ عِلْمُهُ بِذَاتِهِ لَمْ يَحْصُلْ إِلَّا لِذَاتِهِ - لَا جَرَمَ - صَحَّ أَنْ يُقَالَ (وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ) فَهَذَا هُوَ طَرِيقَةُ هَؤُلَاءِ الْفِرْقَةِ الَّذِينَ فَسَّرُوا هَذِهِ الْآيَةَ بِنَاءً عَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ.

" ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ هَاهُنَا دَقِيقَةً أُخْرَى، وَهِيَ أَنَّ الْقَضَايَا الْعَقْلِيَّةَ الْمَحْضَةَ يَصْعُبُ تَحْصِيلُ

ص: 383

الْعِلْمِ بِهَا عَلَى سَبِيلِ التَّمَامِ وَالْكَمَالِ إِلَّا لِلْعُقَلَاءِ الْكَامِلِينَ الَّذِينَ تَعَوَّدُوا الْإِعْرَاضَ عَنْ قَضَايَا الْحِسِّ وَالْخَيَالِ، وَأَلِفُوا اسْتِحْضَارَ الْمَعْقُولَاتِ الْمُجَرَّدَةِ، وَمِثْلُ هَذَا الْإِنْسَانِ يَكُونُ كَالنَّادِرِ، وَقَوْلُهُ:(وَعِنْدَهَ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ) قَضِيَّةٌ عَقْلِيَّةٌ مَحْضَةٌ مُجَرَّدَةٌ، فَالْإِنْسَانُ الَّذِي يَقْوَى عَقْلُهُ عَلَى الْإِحَاطَةِ بِمَعْنَى هَذِهِ الْقَضِيَّةِ نَادِرٌ جِدًّا، وَالْقُرْآنُ إِنَّمَا أُنْزِلَ لِيَنْتَفِعَ بِهِ جَمِيعُ الْخَلْقِ. فَهَاهُنَا طَرِيقٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّ مَنْ ذَكَرَ الْقَضِيَّةَ الْعَقْلِيَّةَ الْمَحْضَةَ الْمُجَرَّدَةَ، فَإِذَا أَرَادَ إِيصَالَهَا إِلَى عَقْلِ كُلِّ أَحَدٍ ذَكَرَ لَهَا مِثَالًا مِنَ الْأُمُورِ الْمَحْسُوسَةِ الدَّاخِلَةِ تَحْتَ الْقَضِيَّةِ الْعَقْلِيَّةِ الْكُلِّيَّةِ لِيَصِيرَ ذَلِكَ الْمَعْقُولُ بِمُعَاوَنَةِ هَذَا الْمِثَالِ الْمَحْسُوسِ مَفْهُومًا لِكُلِّ أَحَدٍ، وَالْأَمْرُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَرَدَ عَلَى هَذَا الْقَانُونِ؛ لِأَنَّهُ قَالَ أَوَّلًا:(وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ) ثُمَّ أَكَّدَ هَذَا الْمَعْقُولَ الْكُلِّيَّ الْمُجَرَّدَ بِجُزْئِيٍّ مَحْسُوسٍ فَقَالَ: (وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) وَذَلِكَ لِأَنَّ أَحَدَ أَقْسَامِ مَعْلُومَاتِ اللهِ هُوَ جَمِيعُ دَوَابِّ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ. وَالْحِسُّ وَالْخَيَالُ قَدْ وَقَفَ عَلَى عَظَمَةِ أَحْوَالِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، فَذِكْرُ هَذَا الْمَحْسُوسِ يَكْشِفُ عَنْ حَقِيقَةِ عَظَمَةِ ذَلِكَ الْمَعْقُولِ. وَفِيهِ دَقِيقَةٌ أُخْرَى وَهِيَ أَنَّهُ تَعَالَى قَدَّمَ ذِكْرَ الْبَرِّ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ شَاهَدَ أَحْوَالَ الْبَرِّ وَكَثْرَةِ مَا فِيهِ مِنَ الْمُدُنِ وَالْقُرَى وَالْمَفَاوِزِ وَالْجِبَالِ وَالتِّلَالِ، وَكَثْرَةِ مَا فِيهَا مِنَ الْحَيَوَانِ وَالنَّبَاتِ وَالْمَعَادِنِ، وَأَمَّا الْبَحْرُ فَإِحَاطَةُ الْعَقْلِ بِأَحْوَالِهِ أَقَلُّ، إِلَّا أَنَّ الْحِسَّ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عَجَائِبَ الْبَحَّارِ فِي الْجُمْلَةِ أَكْثَرُ، وَطُولُهَا وَعَرْضُهَا أَعْظَمُ. وَمَا فِيهَا مِنَ الْحَيَوَانَاتِ وَأَجْنَاسِ الْمَخْلُوقَاتِ أَعْجَبُ. فَإِذَا اسْتَحْضَرَ الْخَيَالُ صُورَةَ الْبَحْرِ وَالْبَرِّ عَلَى هَذِهِ الْوُجُوهِ ثُمَّ عَرَفَ أَنَّ مَجْمُوعَهَا قِسْمٌ حَقِيرٌ مِنَ الْأَقْسَامِ الدَّاخِلَةِ تَحْتَ قَوْلِهِ:(وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ) فَيَصِيرُ هَذَا الْمِثَالُ الْمَحْسُوسُ مُقَوِّيًا وَمُكَمِّلًا لِلْعَظَمَةِ الْحَاصِلَةِ تَحْتَ قَوْلِهِ: (وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ) ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى كَمَا كَشَفَ عَنْ عَظَمَةِ قَوْلِهِ: (وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ) بِذِكْرِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ

كَشَفَ عَنْ عَظَمَةِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِقَوْلِهِ: (وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا) وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعَقْلَ يَسْتَحْضِرُ جَمِيعَ مَا فِي وَجْهِ الْأَرْضِ مِنَ الْمُدُنِ وَالْمَفَاوِزِ وَالْجِبَالِ وَالتِّلَالِ، ثُمَّ يَسْتَحْضِرُكُمْ فِيهَا مِنَ النَّجْمِ وَالشَّجَرِ، ثُمَّ يَسْتَحْضِرُ أَنَّهُ لَا يَتَغَيَّرُ حَالُ وَرَقِهِ إِلَّا وَالْحَقُّ سُبْحَانَهُ يَعْلَمُهَا ثُمَّ يَتَجَاوَزُ مِنْ هَذَا الْمِثَالِ إِلَى مِثَالٍ آخَرَ أَشَدَّ هَيْبَةً مِنْهُ وَهُوَ قَوْلُهُ:(وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ) وَذَلِكَ لِأَنَّ الْحَبَّةَ فِي غَايَةِ الصِّغَرِ، وَظُلُمَاتِ الْأَرْضِ مَوَاضِعُ يَبْقَى أَكْبَرُ الْأَجْسَامِ وَأَعْظَمُهَا مَخْفِيًّا فِيهَا، فَإِذَا سُمِعَ أَنَّ تِلْكَ الْحَبَّةَ الصَّغِيرَةَ الْمُلْقَاةَ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ عَلَى اتِّسَاعِهَا وَعَظَمَتِهَا لَا تَخْرُجُ مِنْ عِلْمِ اللهِ تَعَالَى أَلْبَتَّةَ صَارَتْ هَذِهِ الْأَمْثِلَةُ مُنَبِّهَةً عَلَى عَظَمَةٍ عَظِيمَةٍ وَجَلَالَةٍ عَالِيَةٍ مِنَ الْمَعْنَى الْمُشَارِ إِلَيْهَا بِقَوْلِهِ:(وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ) بِحَيْثُ تَتَحَيَّرُ الْعُقُولُ فِيهَا، وَتَتَقَاصَرُ الْأَفْكَارُ وَالْأَلْبَابُ عَنِ الْوُصُولِ إِلَى مَبَادِيهَا. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَوَّى أَمْرَ ذَلِكَ الْمَعْقُولِ الْمَحْضِ الْمُجَرَّدِ بِذِكْرِ هَذِهِ الْجُزْئِيَّاتِ الْمَحْسُوسَةِ، فَبَعْدَ ذِكْرِهَا عَادَ إِلَى ذِكْرِ تِلْكَ الْقَضِيَّةِ الْعَقْلِيَّةِ الْمَحْضَةِ الْمُجَرَّدَةِ بِعِبَارَةٍ أُخْرَى، فَقَالَ:(وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) وَهُوَ عَيْنُ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ: (وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ) فَهَذَا مَا عَقَلْنَاهُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الشَّرِيفَةِ الْعَالِيَةِ، وَمِنَ اللهِ التَّوْفِيقُ.

ص: 384

(الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ) : الْمُتَكَلِّمُونَ قَالُوا: إِنَّهُ تَعَالَى فَاعِلُ الْعَالَمِ بِجَوَاهِرِهِ وَأَعْرَاضِهِ عَلَى سَبِيلِ الْإِحْكَامِ وَالْإِتْقَانِ. وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ كَانَ عَالِمًا بِهَا، فَوَجَبَ كَوْنُهُ تَعَالَى عَالِمًا بِهَا. وَالْحُكَمَاءُ قَالُوا: إِنَّهُ تَعَالَى مَبْدَأٌ لِجَمِيعِ الْمُمْكَّنَاتِ، وَالْعِلْمُ بِالْمَبْدَأِ يُوجِبُ الْعِلْمَ بِالْأَثَرِ، فَوَجَبَ كَوْنُهُ تَعَالَى عَالِمًا بِكُلِّهَا. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ مِنْ أَدَلِّ الدَّلَائِلِ عَلَى كَوْنِهِ تَعَالَى عَالِمًا بِجَمِيعِ الْجُزْئِيَّاتِ الزَّمَانِيَّةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ أَنَّهُ تَعَالَى مَبْدَأٌ لِكُلِّ مَا سِوَاهُ وَجَبَ كَوْنُهُ مَبْدَأً لِهَذِهِ الْجُزْئِيَّاتِ بِالْأَثَرِ، فَوَجَبَ كَوْنُهُ تَعَالَى عَالِمًا بِهَذِهِ التَّغْيِيرَاتِ وَالزَّمَانِيَّاتِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا مُتَغَيِّرَةٌ وَزَمَانِيَّةٌ، وَذَلِكَ هُوَ الْمَطْلُوبُ.

(الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ) قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ) يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ تَعَالَى مُنَزَّهًا عَنِ الضِّدِّ وَالنِّدِّ، وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ قَوْلَهُ:(وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ) يُفِيدُ الْحَصْرُ، أَيْ: عِنْدَهُ لَا عِنْدَ غَيْرِهِ، وَلَوْ حَصَلَ مَوْجُودٌ آخَرُ وَاجِبُ الْوُجُودِ لَكَانَ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ حَاصِلَةٌ أَيْضًا عِنْدَ ذَلِكَ الْآخَرِ، وَحِينَئِذٍ يَبْطُلُ الْحَصْرُ، وَأَيْضًا فَكَمَا أَنَّ لَفْظَ

الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى هَذَا التَّوْحِيدِ، فَكَذَلِكَ الْبُرْهَانُ الْعَقْلِيُّ يُسَاعِدُ عَلَيْهِ، وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الْمَبْدَأَ لِحُصُولِ الْعِلْمِ بِالْآثَارِ وَالنَّتَائِجِ وَالصَّنَائِعِ هُوَ الْعِلْمُ بِالْمُؤَثِّرِ، وَالْمُؤَثِّرُ الْأَوَّلِ فِي كُلِّ الْمُمَكَّنَاتِ هُوَ الْحَقُّ سُبْحَانَهُ، فَالْمِفْتَحُ الْأَوَّلُ لِلْعِلْمِ بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ هُوَ الْعِلْمُ بِهِ سُبْحَانَهُ، لَكِنَّ الْعِلْمَ بِهِ لَيْسَ إِلَّا لَهُ؛ لِأَنَّ مَا سِوَاهُ أَثَرٌ، وَالْعِلْمُ بِالْأَثَرِ لَا يُفِيدُ الْعِلْمَ بِالْمُؤَثِّرِ، فَظَهَرَ بِهَذَا الْبُرْهَانِ أَنَّ مَفَاتِحَ الْغَيْبِ لَيْسَتْ إِلَّا عِنْدَ الْحَقِّ سُبْحَانَهُ، وَاللهُ أَعْلَمُ.

(الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ) : قُرِئَ (وَلَا حَبَّةٌ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٌ وَلَا يَابِسٌ) بِالرَّفْعِ وَفِيهِ وَجْهَانِ؛ (الْأَوَّلُ) أَنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلَى مَحَلٍّ مِنْ " وَرَقَةٍ "، وَأَنْ يَكُونَ رَفْعًا عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَخَبَرُهُ " إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ "، كَقَوْلِكَ: لَا رَجُلٌ مِنْهُمْ، وَلَا امْرَأَةٌ إِلَّا فِي الدَّارِ.

(الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ) : قَوْلُهُ (إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) فِيهِ قَوْلَانِ: (الْأَوَّلُ) أَنَّ ذَلِكَ الْكِتَابَ الْمُبِينَ هُوَ عِلْمُ اللهِ تَعَالَى لَا غَيْرَ، وَهَذَا هُوَ الْأَصْوَبُ، (وَالثَّانِي) قَالَ الزَّجَّاجُ: يَجُوزُ أَنَّ اللهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَثْبَتَ كَيْفِيَّةَ الْمَعْلُومَاتِ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَخْلُقَ الْخَلْقَ كَمَا قَالَ عز وجل: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا)(57: 22) .

وَفَائِدَةُ هَذَا الْكِتَابِ أُمُورٌ: (أَحَدُهَا) أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا كَتَبَ هَذِهِ الْأَحْوَالَ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ لِتَقِفَ الْمَلَائِكَةُ عَلَى نَفَاذِ عِلْمِ اللهِ تَعَالَى فِي الْمَعْلُومَاتِ، وَأَنَّهُ لَا يَغِيبُ عَنْهُ مِمَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْءٌ، فَيَكُونُ فِي ذَلِكَ عِبْرَةً تَامَّةً كَامِلَةً لِلْمَلَائِكَةِ الْمُوَكَّلِينَ بِاللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ ; لِأَنَّهُمْ يُقَابِلُونَ بِهِ مَا يَحْدُثُ فِي صَحِيفَةِ هَذَا الْعَالَمِ فَيَجِدُونَهُ مُوَافِقًا لَهُ.

(وَثَانِيهَا) يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ مَا ذَكَرَ مِنَ الْوَرَقَةِ وَالْحَبَّةِ تَنْبِيهًا لِلْمُكَلَّفِينَ عَلَى أَمْرِ الْحِسَابِ وَإِعْلَامًا بِأَنَّهُ لَا يَفُوتُهُ مِنْ كُلِّ مَا يَصْنَعُونَ فِي الدُّنْيَا شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ لَا يُهْمِلُ

ص: 385

الْأَحْوَالَ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا ثَوَابٌ وَلَا عِقَابٌ وَلَا تَكْلِيفٌ، فَبِأَنْ لَا يُهْمِلَ الْأَحْوَالَ الْمُشْتَمِلَةَ عَلَى الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ أَوْلَى.

(وَثَالِثُهَا) أَنَّهُ تَعَالَى عَلِمَ أَحْوَالَ جَمِيعِ الْمَوْجُودَاتِ فَيَمْتَنِعُ تَغْيِيرُهَا عَنْ مُقْتَضَى ذَلِكَ الْعِلْمِ وَإِلَّا لَزِمَ الْجَهْلُ، فَإِذَا كَتَبَ أَحْوَالَ جَمِيعِ الْمَوْجُودَاتِ فِي ذَلِكَ الْكِتَابِ عَلَى التَّفْصِيلِ التَّامِّ امْتَنَعَ أَيْضًا تَغْيِيرُهَا وَإِلَّا لَزِمَ الْكَذِبُ، فَتَصِيرُ كِتَابَةُ جُمْلَةِ الْأَحْوَالِ فِي ذَلِكَ الْكِتَابِ مُوجِبًا تَامًّا وَسَبَبًا كَامِلًا فِي أَنَّهُ يَمْتَنِعُ تَقَدُّمُ مَا تَأَخَّرَ وَتَأَخُّرُ مَا تَقَدَّمَ، كَمَا قَالَ - صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ -:" جَفَّ الْقَلَمُ بِمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ " وَاللهُ أَعْلَمُ. اهـ.

هَذَا مَا أَوْرَدَهُ الرَّازِيُّ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ، وَمَا نَقَلَهُ عَنِ الْحُكَمَاءِ يُرِيدُ بِهِ إِثْبَاتَ عِلْمِ الْغَيْبِ لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى طَرِيقَتِهِمْ، وَلَا يَقْتَضِي ذَلِكَ إِقْرَارَ تِلْكَ الطَّرِيقَةِ وَمَا قَالُوهُ فِي الْمَعْلُومِ وَالْعِلَّةِ.

(التَّفْسِيرُ الْمَرْفُوعُ لِمَفَاتِحِ الْغَيْبِ) .

هَذَا وَإِنَّ فِي تَفْسِيرِ مَفَاتِحِ الْغَيْبِ حَدِيثًا صَحِيحًا فِيهِ مَبَاحِثُ دَقِيقَةٌ، فَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْأَنْعَامِ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:" مَفَاتِيحُ الْغَيْبِ خَمْسٌ: (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (31: 34) " وَهَذِهِ الْآيَةُ خَاتِمَةُ " سُورَةِ لُقْمَانَ "، وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي تَفْسِيرِهَا هَذَا الْحَدِيثَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا بِلَفْظِ " مَفَاتِيحُ الْغَيْبِ خَمْسٌ " ثُمَّ قَرَأَ (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) وَرَوَاهُ بِلَفْظِ " مَفَاتِيحُ " فِي كِتَابِ التَّوْحِيدِ أَيْضًا، وَبِلَفْظِ " مَفَاتِحُ " فِي تَفْسِيرِ الْمَائِدَةِ وَالرَّعْدِ، وَبِلَفْظِ " مِفْتَاحٌ " فِي أَبْوَابِ الِاسْتِسْقَاءِ، وَرَوَى أَحْمَدُ وَالْبَزَّارَ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ، مِنْ حَدِيثِ بُرَيْدَةَ رَفَعَهُ قَالَ: " خَمْسٌ لَا يَعْلَمُهُنَّ إِلَّا اللهُ: (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) الْآيَةَ. وَذَكَرَ الْعُلَمَاءُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ وَالْحَدِيثِ قَوْلَ عِيسَى عليه السلام الَّذِي حَكَاهُ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ: (وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ)(3: 49) وَقَوْلَ يُوسُفَ عليه السلام لِصَاحِبَيِ السِّجْنِ الَّذِي حَكَاهُ اللهُ عَنْهُ فِي سُورَتِهِ: (لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأَتْكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا)(12: 37) وَأَجَابُوا عَنْهُ بِأَنَّهُ دَاخِلٌ فِي فِيمَا يُظْهِرُ اللهُ عَلَيْهِ رُسُلَهُ مِنْ عِلْمِ الْغَيْبِ، فَقَدْ قَالَ فِي سُورَةِ الْجِنِّ:(عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ)(72: 26، 27) وَأَدْخَلُوا فِيهِ مَا نُقِلَ كَثِيرًا عَنِ الْأَوْلِيَاءِ مِنَ الْكَشْفِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى مَثَلِ هَذِهِ الْحَوَادِثِ مِنْ كَسْبِ النَّاسِ وَالْإِخْبَارِ بِمَا فِي الْأَرْحَامِ، وَبِمَوْتِ بَعْضِ النَّاسِ قَبْلَ وُقُوعِهِ، وَوَجَّهُوهُ بِأَنَّ الْوَلِيَّ لَمَّا حَصَلَ لَهُ هَذَا الْكَشْفُ بِاتِّبَاعِهِ لِلرَّسُولِ كَانَ الْكَشْفُ لِلرَّسُولِ بِالْأَصَالَةِ وَلَهُ بِالتَّبَعِ، وَقَدْ أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ صَاحِبُ الْهَمْزِيَّةِ بِقَوْلِهِ:

وَالْكَرَامَاتُ مِنْهُمْ مُعْجِزَاتٌ

حَازَهَا مِنْ نَوَالِكَ الْأَوْلِيَاءُ

ص: 386

وَلَكِنَّ ظَاهِرَ الْحَصْرِ فِي الْآيَةِ يُنَافِي هَذَا الرَّأْيَ، وَالصَّوَابُ فِي هَذَا الْبَابِ مَا حَقَّقْنَاهُ

هُنَا وَفِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ الْخَمْسِينَ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ " الْأَنْعَامُ " فَمِنْهُ يُعْلَمُ أَنَّ أَمْثَالَ هَذِهِ الْمُكَاشَفَاتِ لَيْسَتْ مِنْ عِلْمِ الْغَيْبِ الْحَقِيقِيِّ الَّذِي اسْتَأْثَرَ اللهُ بِهِ، وَأَنَّ مَا يُظْهِرُ اللهُ عَلَيْهِ الرُّسُلَ مِنَ الْغَيْبِ الْحَقِيقِيِّ لَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ مِنْ عِلْمِهِمُ الْكَسْبِيِّ الَّذِي يَصِحُّ أَنْ يُسْنَدَ إِلَيْهِمْ عَلَى سَبِيلِ الْحَقِيقَةِ.

سَبَبُ الذُّكُورَةِ وَالْأُنُوثَةِ فِي الْحَمْلِ:

وَمِمَّا قَدْ يَسْتَشْكِلُهُ فِي هَذَا الْمَقَامِ مَنْ لَمْ يَقِفْ عَلَى حَقِيقَةِ عِلْمِ الْغَيْبِ الَّتِي حَرَّرْنَاهَا هُنَا وَفِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ الْخَمْسِينَ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ - مَا اكْتَشَفَهُ بَعْضُ الْأَطِبَّاءِ مِنْ سُنَّةِ اللهِ تَعَالَى فِي سَبَبِ الذُّكُورَةِ وَالْأُنُوثَةِ فِي الْحَمْلِ، وَمُلَخَّصُهُ أَنَّ الْبَيُوضَ الَّتِي يَحْصُلُ الْحَمْلُ بِتَلْقِيحِهَا بِمَاءِ الذَّكَرِ مِنْهَا مَا يَخْلُقُهُ اللهُ تَعَالَى فِي جَانِبِ الرَّحِمِ الْأَيْمَنِ وَمِنْهُ يَتَكَوَّنُ الذُّكُورُ، وَمِنْهَا مَا يَخْلُقُهُ فِي جَانِبِ الرَّحِمِ الْأَيْسَرِ وَمِنْهُ يَتَوَلَّدُ الْإِنَاثُ، وَأَنَّ الْبَيُوضَ تُوجَدُ بِالتَّنَاوُبِ فِي أَثْنَاءِ حَيْضِ الْمَرْأَةِ فَحَيْضَةٌ تَنْتَهِي بِخَلْقِ بَيُوضِ الذُّكُورِ فِي الْجَانِبِ الْأَيْمَنِ، فَإِذَا حَصَلَ التَّلْقِيحُ عَقِبَهَا كَانَ الْجَنِينُ ذَكَرًا، وَحَيْضَةٌ تَنْتَهِي بِضِدِّ ذَلِكَ، فَإِذَا حَصَلَ التَّلْقِيحُ عَقِبَهَا كَانَ الْجَنِينُ أُنْثَى، وَقَدْ أَلَّفُوا فِي بَيَانِ هَذِهِ السُّنَّةِ الْإِلَهِيَّةِ كُتُبًا مِنْهَا (كِتَابُ تَعْلِيلِ النَّوْعِ) مِنْ تَأْلِيفِ الطَّبِيبِ " رِمْلِي دُوسُونْ " الْإِنْكِلِيزِيِّ، وَقَدْ تَرْجَمَهُ بِالْعَرَبِيَّةِ الطَّبِيبُ مُحَمَّد عَبْد الْحَمِيدِ الْمِصْرِيُّ. وَمِنْ عَلِمَ أَشْهُرَ وِلَادَةِ امْرَأَةٍ سَهُلَ عَلَيْهِ أَنْ يَعْرِفَ بِمُقْتَضَى هَذِهِ السُّنَّةِ نَوْعَ الْجَنِينِ فِي الْحَمْلِ الثَّانِي، وَيَتَسَلْسَلُ ذَلِكَ فِيمَا بَعْدَهُ إِذَا كَانَ الْحَمْلُ مُنْتَظِمًا وَالْوَضْعُ فِي مَوْعِدِهِ، وَلَكِنْ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْعِلْمُ بِذَلِكَ مُطَّرِدًا فِي كُلِّ أُنْثَى لِأَسْبَابٍ تَحُولُ دُونَ ذَلِكَ بَيَّنَهَا الْبَاحِثُونَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، قَالَ صَاحِبُ كِتَابِ " تَعْلِيلِ النَّوْعِ " فِي أَوَّلِ الْفَصْلِ الْخَامِسِ وَالْعِشْرِينَ الَّذِي عُنْوَانُهُ (التَّنَبُّؤُ بِنَوْعِ الطِّفْلِ الْآتِي) مَا تَرْجَمَتُهُ:

بَعَدَ مَعْرِفَةِ أَنَّ تَكْوِينَ الْبَيْضِ يَحْدُثُ بِالتَّنَاوُبِ؛ مَرَّةً مِنَ الْمِبْيَضِ الْأَيْمَنِ أَوِ الذَّكَرِ، وَمَرَّةً مِنَ الْمِبْيَضِ الْأَيْسَرِ أَوِ الْأُنْثَى - تَمَكَّنْتُ مِنَ التَّنَبُّؤِ بِمَعْرِفَةِ نَوْعِ الطِّفْلِ الْآتِي فِي النِّسَاءِ الْحَوَامِلِ مِنْ مَرْضَايَ وَغَيْرِهِنَّ مِمَّنْ لَمْ تَسْبِقْ لِي رُؤْيَتُهُنَّ، وَأَذْكُرُ أَنِّي نَجَحْتُ فِي (97) فِي الْمِائَةِ، وَأَمَّا الْفَشَلُ فِي الْأَحْوَالِ الثَّلَاثَةِ الْبَاقِيَةِ مِنَ الْمِائَةِ فَتَابِعٌ لِعَدَمِ اسْتِطَاعَةِ الْأُمِّ أَنْ تُخْبِرَنِي بِالدِّقَّةِ عَنِ شَهْرِ الْوِلَادَةِ. فَمَثَلًا: إِذَا أَخْبَرَتْنِي مَرِيضَةٌ أَنَّهَا

سَتَضَعُ فِي يُونْيُو وَتَنَبَّأَتُ أَنَّ طِفْلَهَا أُنْثَى، ثُمَّ هِيَ وَضَعَتْ طِفْلًا ذِكْرًا كَامِلَ الْعِدَّةِ فِي مَايُو (أَيَارَ) أَوْ يُولْيُو (تَمُّوزَ) يَكُونُ النَّبَأُ خَطَأً، وَلَوْ أَنَّهَا أَخْبَرَتْنِي أَنَّ الْوِلَادَةَ سَتَحْدُثُ فِي مَايُو أَوْ يُولْيُو لَتَنَبَّأَتُ لَهَا بِأَنَّ الطِّفْلَ ذَكَرًا.

" وَالتَّنَبُّؤُ بِنَوْعِ الطِّفْلِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ عَنِ الْأَطْفَالِ الَّتِي تُولَدُ فِي مِيعَادِهَا تَمَامًا ; لِأَنَّ الْأَطْفَالَ الَّتِي تُولَدُ قَبْلَ الْمِيعَادِ قَدْ تَجْعَلُ النَّبَأَ خَطَأً ; لِأَنَّ الطِّفْلَ إِذَا وُلِدَ قَبْلَ الْمِيعَادِ بِشَهْرَيْنِ يَكُونُ الْمِيعَادُ صَحِيحًا، وَأَمَّا إِذَا وُلِدَ قَبْلَ الْمِيعَادِ بِبِضْعَةِ أَيَّامٍ لِشَهْرٍ يَكُونُ النَّبَأُ كَاذِبًا، وَمِثْلُ الْأَطْفَالِ الْمَوْلُودَةِ قَبْلَ الْمِيعَادِ أَحْوَالُ الْإِجْهَاضِ، وَكُلُّهَا تَخْتَلِفُ فِي عَمَلِ الْحِسَابِ فِي الْحَمْلِ السَّالِفِ.

ص: 387

وَنَشَأَ الْفَشَلُ فِي أَحْوَالٍ أُخْرَى مِنْ تَكْوِينِ بَيْضٍ تَكْوِينًا غَيْرَ قِيَاسِيٍّ، فَبَدَلًا مِنْ أَنْ يَحْدُثَ الْبَيْضُ كُلَّ (28) يَوْمًا مَرَّةً بِانْتِظَامٍ يُحْدُثُ كُلَّ (21) يَوْمًا أَوْ (20) يَوْمًا، وَيَنْشَأُ الْخَطَأُ أَيْضًا بِعَدَمِ الِانْتِظَامِ فِي الدَّوْرَةِ الْبَيْضِيَّةِ OVULATION RHYTHM كَحُدُوثِ الْبَيْضِ فِي الْمِبْيَضَيْنِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ كَمَا يَتَّضِحُ مِنْ وِلَادَةِ تَوْأَمَيْنِ مُخْتَلِفَيِ النَّوْعِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ.

" وَكَذَلِكَ إِذَا حَدَثَ الْحَمْلُ أَثْنَاءَ الرَّضَاعَةِ وَمُدَّةِ غِيَابِ الْحَيْضِ فَوَقْتَئِذٍ يَصْعُبُ مَعْرِفَةُ أَيِّ مِبْيَضٍ هَيَّأَ الْبُوَيْضَةَ الَّتِي تَلَقَّحَتْ.

فَإِذَا فَرَضْنَا أَنَّ مُتَوَسِّطَ نَوْبَةِ الْحَيْضِ هِيَ (28) يَوْمًا أَوْ أَرْبَعَةَ أَسَابِيعَ (وَالْحَيْضُ الْعَلَامَةُ الظَّاهِرِيَّةِ عَلَى الْبَيْضِ) تَتَكَرَّرُ ظَاهِرَةُ تَكْوِينِ الْبِيضِ (13) مَرَّةً فِي أَسَابِيعَ السَّنَةِ، وَهِيَ (52) أُسْبُوعًا، وَأَمَّا إِذَا حَدَثَ الْبَيْضُ فِي كُلِّ (21) يَوْمًا فَتَزْدَادُ الْمَرَّاتُ، وَإِذَا حَدَثَ كُلَّ (30) يَوْمًا فَالْعَدَدُ يَنْقُصُ إِلَى (12) مَرَّةً مَعَ زِيَادَةِ مَرَّةٍ كُلَّ سِتِّ سَنَوَاتٍ.

وَيُشْتَرَطُ مَعْرِفَةُ كُلِّ هَذِهِ الْخَوَاصِّ فِي النِّسَاءِ عِنْدَ التَّنَبُّؤِ بِالنَّوْعِ، وَيُمَكَّنُ الطَّبِيبُ بَعْدَ مَعْرِفَةِ الْقَوَاعِدِ وَالْأَمْثِلَةِ الْآتِيَةِ أَنْ يَتَنَبَّأَ بِنَوْعِ الطِّفْلِ فِي الْمَرْأَةِ الْحَامِلِ إِذَا كَانَ هُوَ طَبِيبَهَا، كَمَا يُمْكِنُ أَنْ يُخْبِرَ النِّسَاءَ عَنِ الشُّهُورِ الَّتِي يَجِبُ الِامْتِنَاعُ فِيهَا إِذَا أُرِيدَ الْحُصُولُ عَلَى نَوْعٍ مَخْصُوصٍ.

يُمْكِنُ عَمَلُ ذَلِكَ بِالْقَرِيبِ بِوَسَاطَةِ جَدْوَلِ الْوِلَادَةِ الِاعْتِيَادِيِّ ; لِأَنَّنَا إِذَا عَرَفْنَا نَوْعَ الطِّفْلِ الْأَخِيرِ وَيَوْمَ مِيلَادِهِ نَعْرِفُ شَهْرَ تَكْوِينِ الْبَيْضِ، وَبِالطَّبْعِ نَوْعَ الْبُوَيْضَةِ الْمَخْصُوصَةِ بِكُلِّ سُهُولَةٍ مِنَ الْجَدْوَلِ، وَلَكِنِّي رَأَيْتُ أَنَّ الْأَسْهَلَ اسْتِخْرَاجُ ذَلِكَ

بِوَسَاطَةِ طَرِيقَةِ الْأَرْبَعِينَ أُسْبُوعًا الَّتِي أَذْكُرُهَا هُنَا.

يَجِبُ الْحُصُولُ عَلَى الْأَشْيَاءِ الْآتِيَةِ مِنَ الْمَرِيضَةِ أَوِ الْحَامِلِ حَتَّى يُمْكِنَ التَّنَبُّؤُ بِنَوْعِ الطِّفْلِ:

كَمْ مَرَّةً يَحْدُثُ الْحَيْضُ عِنْدَكُمْ؟ كَمْ يَوْمًا يَمْكُثُ الْحَيْضُ فِي كُلِّ مَرَّةٍ؟ هَلِ الْحَيْضُ مُنْتَظِمٌ؟ فِي أَيِّ يَوْمٍ كَانَ مِيلَادُ الطِّفْلِ الْأَخِيرِ؟ (يُذْكَرُ الْيَوْمُ وَالشَّهْرُ وَالسَّنَةُ) أَنَوْعُ الطَّفْلِ ذَكَرٌ أَمْ أُنْثَى؟ مَا مُدَّةُ رَضَاعَتِكِ لِلطِّفْلِ إِذَا كُنْتِ أَنْتِ الَّتِي تُرْضِعِينَهُ؟ مَتَى يَرْجِعُ الْحَيْضُ بَعْدَ الْوِلَادَةِ؟ هَلْ حَدَثَ إِجْهَاضٌ مُنْذُ الْوِلَادَةِ الْأَخِيرَةِ؟ .

مُدَّةُ الْحَمْلِ الِاعْتِيَادِيَّةِ لِلْمَرْأَةِ (280) يَوْمًا أَوْ عَشَرَةُ أَشْهُرٍ كُلُّ شَهْرٍ أَرْبَعَةُ أَسَابِيعَ - أَيْ أَرْبَعُونَ أُسْبُوعًا فِي سَبْعَةِ أَيَّامٍ. وَلَا بُدَّ مِنْ هَجْرِ الِاصْطِلَاحِ " تِسْعَةُ أَشْهُرٍ الْحَمْلُ ".

فَإِذَا عَرَفْنَا يَوْمَ مِيلَادِ الطِّفْلِ الْأَخِيرِ نَرْجِعُ أَرْبَعِينَ أُسْبُوعًا حَتَّى نَعْرِفَ شَهْرَ تَكْوِينِ الْبَيْضِ أَوِ الشَّهْرَ الَّذِي تَلَقَّحَتْ فِيهِ الْبُوَيْضَةُ الَّتِي تَكَوَّنَ مِنْهَا الطِّفْلُ، فَإِذَا عَرَفْنَا نَوْعُ الطِّفْلِ نَتَقَدَّمُ مِنْ هَذَا الشَّهْرِ بِالتَّنَاوُبِ حَتَّى نَصِلَ إِلَى مَرَّةِ تَكْوِينِ الْبَيْضِ الْعَاشِرَةِ قَبْلَ شَهْرِ الْوِلَادَةِ الْمُنْتَظَرِ فِيهِ وِلَادَةُ الطِّفْلِ الْحَدِيثِ مَعَ حِسَابِ نَوْبَةِ تَكْوِينِ بَيْضٍ إِضَافِيَّةٍ بَيْنَ شَهْرَيْ دِيسِمْبِرَ

ص: 388

وَيَنَايِرَ - كَانُونُ الْأَوَّلُ وَكَانُونُ الثَّانِي - لِكُلِّ سَنَةٍ تَالِيَةٍ، وَبِذَلِكَ نَعْرِفُ نَوْعَ الْبَيْضَةِ الَّتِي تَلَقَّحَتْ وَالَّتِي تَكُونُ الْمَرْأَةُ حَامِلًا بِهَا، وَبِذَلِكَ نَتَمَكَّنُ مِنْ مَعْرِفَةِ نَوْعِ الطِّفْلِ الْآتِي.

وَلِوُجُودِ (13) مَرَّةَ تَكْوِينِ بِيضٍ فِي السَّنَةِ نَرَى أَنَّ تَكْوِينَ الْبُوَيْضَةِ الْمُلَقَّحَةِ فِي أُكْتُوبَرَ - تِشْرِينُ الْأَوَّلُ - مِنْ سَنَةٍ يَجْعَلُ الْبَيْضَ الثَّانِيَ فِي أُكْتُوبَرَ مِنَ النَّوْعِ الْمُضَادِّ بِسَبَبِ زِيَادَةِ الشَّهْرِ الثَّالِثِ عَشَرَ أَوِ النَّوْبَةِ الثَّالِثَةِ عَشْرَةَ الَّتِي يَلْزَمُ إِضَافَتُهَا بَيْنَ شَهْرَيْ أُكْتُوبَرَ، فَمَثَلًا إِذَا وَلَدَتِ الْمَرْأَةُ طِفْلًا فِي شَهْرٍ مِنْ سَنَةٍ وَطِفْلًا آخَرَ فِي نَفْسِ الشَّهْرِ مِنَ السَّنَةِ التَّالِيَةِ يَكُونُ الطِّفْلَانِ مُخْتَلِفَيِ النَّوْعِ ". انْتَهَى الْمُرَادُ مِنْ هَذَا الْفَصْلِ، وَقَدْ ذَكَرَ الْمُؤَلِّفُ أَمْثِلَةً كَثِيرَةً لِقَاعِدَتِهِ.

فَمَعْرِفَةُ نَوْعِ الْحَمْلِ فِي الرَّحِمِ بِهَذِهِ الطَّرِيقَةِ يُعَدُّ مِنْ عُلُومِ الْبَشَرِ الْكَسْبِيَّةِ؛ إِذْ هُوَ مَعْرِفَةُ الْمُسَبَّبِ بِسَبَبِهِ، وَهُوَ لَا يُعَارِضُ كَوْنَ عِلْمِ اللهِ تَعَالَى بِمَا فِي الْأَرْحَامِ مِنْ مَفَاتِحِ عِلْمِ الْغَيْبِ الَّتِي لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ، فَإِنَّ مَعْنَى هَذَا الْحَصْرِ أَنَّ مَا سَيَحْدُثُ فِي عَالَمِ الْحَيَوَانِ مِنَ التَّكْوِينِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ هُوَ مِنْ خَزَائِنِ الْغَيْبِ الَّتِي لَا يُحِيطُ بِمَا فِيهَا إِلَّا اللهُ، وَمِفْتَاحُ

الْعِلْمِ بِأَيِّ شَيْءٍ مِنْهَا عِنْدَهُ، فَإِذَا هَدَى عِبَادَهُ إِلَى سُنَّةٍ مِنْ سُنَنِهِ الَّتِي هِيَ مِفْتَاحٌ مُوَصِّلٌ إِلَى الِاطِّلَاعِ عَلَى بَعْضِ مَا تَحْتَوِيهِ هَذِهِ الْخِزَانَةُ فَذَلِكَ لَا يَنْفِي مَا ذُكِرَ.

بَعْدَ أَنْ كَتَبْتُ مَا تَقَدَّمَ فِي الْمَسْأَلَةِ وَطُبِعَ فِي الْمَنَارِ بَقِيَ فِي نَفْسِي شَيْءٌ مِنْهُ، فَتَفَكَّرْتُ فِيهِ عِنْدَ النَّوْمِ فَظَهَرَ لِي أَنَّ الْعِلْمَ بِسُنَّةِ اللهِ تَعَالَى فِي سَبَبِ الذُّكُورَةِ وَالْأُنُوثَةِ لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَيْهِ عِلْمُ أَحَدٍ عِلْمًا قَطْعِيًّا بِمَا فِي رَحِمِ امْرَأَةٍ بِعَيْنِهَا حَتَّى مَعَ الْعِلْمِ بِالشُّرُوطِ الَّتِي اشْتَرَطُوهَا لِلْعِلْمِ بِذَلِكَ - دَعِ الْعِلْمَ بِجَمِيعِ مَا فِي أَرْحَامِ جَمِيعِ الْإِنَاثِ مِنْ أَنْوَاعِ الْحَيَوَانِ كُلِّهَا - وَإِنَّمَا تَرَتَّبَ عَلَيْهِ الظَّنُّ الْغَالِبُ فِي حَالِ الْعِلْمِ بِالشُّرُوطِ، وَالْجَهْلُ التَّامُّ فِي حَالِ عَدَمِ الْعِلْمِ بِهَا. وَالْعِلْمُ الصَّحِيحِ بِمَا فِي الرَّحِمِ هُوَ الَّذِي لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى صِدْقِ الْحَامِلِ فِيمَا أَخْبَرَتْ مِنْ تَحْدِيدِ شَهْرِ الْوِلَادَةِ وَلَا عَلَى خُلُوِّ الرَّحِمِ مِنْ بَيْضٍ تَكُونُ عَلَى خِلَافِ الْقَاعِدَةِ الَّتِي ذَكَرُوهَا مِنْ كَوْنِ الْأَصْلِ فِيهِ أَنْ يَكُونَ مَرَّةً فِي كُلِّ أَرْبَعَةِ أَسَابِيعَ، فَإِنَّهُمْ جَزَمُوا بِأَنَّ هَذِهِ الْقَاعِدَةَ غَيْرُ مُطَّرِدَةٍ - وَلَا عَلَى تَكَوُّنِ الْبَيْضِ فِي جَانِبَيِ الرَّحِمِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ وَهَوَ الَّذِي يَكُونُ سَبَبُ الْحَمْلِ بِالتَّوْأَمَيْنِ الْمُخْتَلِفَيْنِ، فَاحْتِمَالُ وُقُوعِ هَذِهِ الْأَحْوَالِ فِي كُلِّ حَمْلٍ وَإِنْ كَانَ قَلِيلًا يَنْفِي الْعِلْمَ الْقَطْعِيَّ بِمَا فِي رَحِمِ أَيِّ امْرَأَةٍ بِعَيْنِهَا، فَمَا الْقَوْلُ فِي الْعِلْمِ بِمَا فِي الْأَرْحَامِ كُلِّهَا؟ .

خَطَرَ لِي هَذَا الْمَعْنَى فِي الْفِرَاشِ، وَانْتَقَلَ ذِهْنِي مِنْهُ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الرَّعْدِ:(اللهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ (13: 8، 9) فَهُوَ وَحْدَهُ الَّذِي يَعْلَمُ حَمْلَ كُلِّ أُنْثَى أَذَكَرٌ هُوَ

ص: 389

أَمْ أُنْثَى. وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ مِنْ نَقْصِ الْحَمْلِ أَوْ فَسَادِهِ بَعْدَ الْعُلُوقِ، وَمَا تَزْدَادُ مِنَ الْحَمْلِ كَالْحَمْلِ بِالتَّوْأَمَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ. وَقَدْ رَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ شَيْخٍ بِمِنًى أَنَّ امْرَأَتَهُ وَلَدَتْ لَهُ بُطُونًا فِي كُلٍّ مِنْهَا خَمْسَةُ أَوْلَادٍ، فَأَنَّى يَهْتَدِي إِلَى الْعِلْمِ بِمِثْلِ هَذِهِ النَّوَادِرِ الْأَطِبَّاءُ؟ وَسَنَزِيدُ هَذَا الْبَحْثَ إِيضَاحًا فِي سُورَةِ الرَّعْدِ إِذَا أَطَالَ اللهُ عُمُرَنَا وَوَفَّقَنَا لِتَفْسِيرِهَا.

(وَجْهُ تَفْسِيرِ مَفَاتِحِ الْغَيْبِ بِهَذِهِ الْخَمْسِ) .

لَمْ أَرَ لِأَحَدٍ كَلَامًا فِي وَجْهِ تَفْسِيرِ مَفَاتِحِ الْغَيْبِ بِالْخَمْسِ الْمَذْكُورَةِ فِي آخِرِ سُورَةِ لُقْمَانَ، وَكُنْتُ قَدْ فَكَّرْتُ فِي ذَلِكَ فِي أَيَّامِ طَلَبِي لِلْعِلْمِ، فَظَهَرَ لِي أَنَّ عِلْمَ اللهِ تَعَالَى بِجَمِيعِ الْمَوْجُودَاتِ عِلْمُ شَهَادَةٍ، وَعِلْمُهُ بِمَا لَمْ يُوجَدْ عِلْمُ غَيْبٍ، وَأَنَّ مَا لَمْ يُوجَدْ فَخَزَائِنُهُ أَوْ مَفَاتِيحُ

خَزَائِنِهِ الَّتِي يَسْتَفِيدُ النَّاسُ مِنْ بَيَانِهَا هِيَ تِلْكَ الْخَمْسُ، وَهِيَ لَمْ تُذْكَرْ بِصِيغَةِ الْحَصْرِ، وَقَدْ بَيَّنْتُ ذَلِكَ فِي كِتَابِي " الْحِكْمَةُ الشَّرْعِيَّةُ " الَّذِي أَلَّفْتُهُ فِي عَهْدِ الطَّلَبِ فِي سِيَاقِ الْبَحْثِ فِي الْكَشْفِ عَنْ أَنْوَاعِ كَرَامَاتِ الْأَوْلِيَاءِ، وَبَعْدَ ذِكْرِ الْآيَةِ وَالْحَدِيثِ فِي تَفْسِيرِهَا بِتِلْكَ الْخَمْسِ قُلْتُ مَا نَصُّهُ:

ثُمَّ إِنَّهُ لَا يَخْفَى أَنَّ مَعْلُومَاتِ اللهِ تَعَالَى الْغَيْبِيَّةَ لَا تَدْخُلُ تَحْتَ الْحَصْرِ، فَمَا مَعْنَى تَخْصِيصِ هَذِهِ الْخَمْسِ بِالذِّكْرِ مَعَ كَوْنِهَا مِمَّا قَدْ يَطَّلِعُ بَعْضُ عِبَادِهِ عَلَى بَعْضِهِ؟ وَمَا مَعْنَى كَوْنِهَا مَفَاتِحَ الْغَيْبِ؟ وَأُجِيبُ بِأَنَّ هَذِهِ الْخَمْسَ هِيَ الَّتِي كَانُوا يَدَّعُونَ عِلْمَهَا، وَالْعَدَدُ لَا مَفْهُومَ لَهُ عَلَى الرَّاجِحِ فَلَا يَنْفِي زَائِدًا عَلَى الْمَذْكُورِ. (قُلْتُ) : وَهَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهَا مَفَاتِحَ الْغَيْبِ، وَقَدْ فَتَحَ اللهُ عز وجل عَلَيَّ بِفَهْمِ مَعْنًى لَطِيفٍ فِي كَوْنِ هَذِهِ الْخَمْسِ مَفَاتِحَ أَوْ مَفَاتِيحَ لِلْغَيْبِ. وَعَرَضْتُهُ عَلَى مَشَايِخِي كَالْأُسْتَاذِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْقَاوُقْجِيِّ، وَالْعَلَامَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدْ نُشَّابَةْ وَغَيْرِهِمَا فَأُعْجِبُوا بِهِ، وَهُوَ أَنَّ الْمَفَاتِحَ جَمْعُ مَفْتَحٍ بِفَتْحِ الْمِيمِ أَوْ كَسْرِهَا، بِمَعْنَى الْخَزَائِنِ أَوِ الْمَفَاتِيحِ، وَالْغَيْبُ مَا غَابَ عَنِ الْوُجُودِ أَوِ الشُّهُودِ، وَهُوَ عَالَمُ الْبَرْزَخِ، وَعَالَمُ الْآخِرَةِ، وَبَعْضُ عَالَمِ الدُّنْيَا وَهُوَ النَّبَاتُ الَّذِي لَمْ يُوجَدْ، وَالْحَيَوَانُ الَّذِي لَمْ يُولَدْ، وَكَسْبُ الْأَنْفَسِ الَّذِي يَحْصُلُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى:(إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عَلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) إِشَارَةٌ إِلَى جَمِيعِ ذَلِكَ، فَالسَّاعَةُ مِفْتَاحُ عَالِمِ الْآخِرَةِ، وَالْغَيْثُ مِفْتَاحُ عَالَمِ النَّبَاتِ، وَمَا فِي الْأَرْحَامِ مِفْتَاحُ عَالَمِ الْحَيَوَانِ، وَقَوْلُهُ:(وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ) ظَاهِرٌ فِي مَفْتَحِ الْكَسْبِ وَالْأَعْمَالِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى:(وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ) أَيْ كَمَا لَا تَدْرِي بِأَيِّ وَقْتٍ إِشَارَةً بِالْمَوْتِ إِلَى عَالَمِ

ص: 390

الْبَرْزَخِ، وَبِعِبَارَةٍ أُخْرَى: الْعَوَالِمُ ثَلَاثَةٌ، الْأَوَّلُ: الْقَرِيبُ الدَّانِي الَّذِي نُقِيمُ فِيهِ قَبْلَ الْمَوْتِ. وَالْآخَرُ: الَّذِي نُقِيمُ فِيهِ بَعْدَ الْمَوْتِ أَبَدًا إِلَى غَيْرِ نِهَايَةٍ، وَالثَّالِثُ: الْوَسَطُ بَيْنَهُمَا، وَهُوَ مَا نُقِيمُ فِيهِ بَيْنَ الْعَالَمَيْنِ حَتَّى يَتِمَّ جَمْعُنَا بِانْتِهَاءِ الدُّنْيَا، وَنَفِدُ عَلَى اللهِ تَعَالَى جَمِيعًا، فَالثَّانِي وَالثَّالِثُ مِنَ الْغَيْبِ الَّذِي لَيْسَ مَشْهُودًا لَنَا، وَمَفْتَحُهُمَا السَّاعَةُ وَالْمَوْتُ، وَأَمَّا الْأَوَّلُ فَمِنْهُ مَا هُوَ مَشْهُودٌ لَنَا وَلَا يَحْصُلُ فِيهِ زِيَادَةٌ يُبْرِزُهَا

اللهُ تَعَالَى مِنَ الْعَدَمِ كَالْأَحْجَارِ وَالْمَعَادِنِ وَنَحْوِهَا مِنَ الْمَوْجُودَاتِ الَّتِي وُجِدَتْ فِي الْكَوْنِ تَدْرِيجًا أَوْ دُفْعَةً وَاحِدَةً، وَمِنْهُ مَا هُوَ غَيْبٌ وَهُوَ مَا يَتَجَدَّدُ بِصُورَةٍ مَخْصُوصَةٍ لَمْ تَكُنْ مَشْهُودَةً، وَهُوَ النَّبَاتُ وَمَفْتَحُهُ الْغَيْثُ، وَالْحَيَوَانُ وَمَفْتَحُهُ الْأَرْحَامُ غَالِبًا أَوْ عُبِّرَ بِهَا عَنْهُ، وَكَسْبُ الْحَيَوَانِ وَعَمَلُهُ، وَهُوَ مَفْتَحٌ وَخِزَانَةٌ مِنْ خَزَائِنِ الْغَيْبِ. اهـ.

ثُمَّ ذَكَرْتُ هُنَالِكَ مَا يَرُدُّ عَلَى حَصْرِ الْمَفَاتِحِ بِهَذِهِ الْخَمْسِ أَوْ تَخْصِيصِهَا بِالذِّكْرِ، وَأَجَبْتُ وَفِي الْعِبَارَةِ شَيْءٌ مِنَ الضَّعْفِ، وَهِيَ مِنَ الْقِسْمِ الَّذِي لَا يَزَالُ مُسَوَّدَةً مِنْ ذَلِكَ الْكِتَابِ الَّذِي كَانَ أَوَّلُ تَمْرِينٍ لَنَا عَلَى التَّأْلِيفِ وَالْإِنْشَاءِ، فَإِنَّنَا لَمْ نَتَعَلَّمِ الْإِنْشَاءَ تَعَلُّمًا. وَفِي حَاشِيَتِهَا تَعْلِيقٌ عَلَى كَلِمَةِ " وَمَفْتَحُهُ الْأَرْحَامُ غَالِبًا " وَجَعْلِ نَحْوِ دُودِ الْفَاكِهَةِ وَالْخَلِّ مِنْ غَيْرِ الْغَالِبِ بَيَّنَّا فِيهِ مَا ثَبَتَ عِنْدَ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ كَوْنِ الْحَيِّ لَا يُولَدُ إِلَّا مِنْ حَيٍّ مِثْلِهِ، فَمَا كَانَ يُقَالُ فِي بَحْثِ التَّوَلُّدِ الذَّاتِيِّ مِنْ تَوَلُّدِ دُودِ الْفَاكِهَةِ مِنْهَا وَكَذَا الْخَلُّ، وَتُوَلُّدِ الْفَأْرَةِ مِنَ التُّرَابِ - كُلُّهُ بَاطِلٌ.

(كِتَابَةُ اللهِ مَقَادِيرَ الْخَلْقِ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ، وَهُوَ الْإِمَامُ الْمُبِينُ، وَأُمُّ الْكِتَابِ، وَالذِّكْرُ، وَالزُّبُرُ، وَاللَّوْحُ الْمَحْفُوظِ) .

وَرَدَ فِي مَعْنَى الْآيَةِ الَّتِي نُفَسِّرُهَا آيَاتٌ، فَفِي سُورَةِ يُونُسَ (وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ 10: 61) وَفِي سُورَةِ هُودٍ بَعْدَ بَيَانِ عِلْمِهِ بِمَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ وَمَا فِي الصُّدُورِ (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ 11: 6) وَفِي سُورَةِ النَّمْلِ (وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ 27: 74، 75) وَفِي سَبَأٍ (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِينَّكُمْ عَالَمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (34: 3) وَفِي سُورَةِ طَهَ (فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى (20: 51، 52) وَفِي سُورَةِ الْحَدِيدِ (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا 57: 22) وَفِي

سُورَةِ يس (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ 36: 12) وَفِي سُورَةِ الرَّعْدِ (لِكُلِّ أَجْلٍ كِتَابٌ يَمْحُوا اللهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ)(13: 38، 39) .

ص: 391

وَفِي سُورَةِ الزُّخْرُفِ (حم وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لِعَلِيٌّ حَكِيمٌ)(43: 1 - 4) وَفِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ)(21: 105) وَرَدَ الذِّكْرُ كَثِيرًا بِمَعْنَى الْقُرْآنِ وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ يَحْتَمِلُ الْمَعْنَى الَّذِي نَحْنُ بِصَدَدِ بَيَانِهِ وَغَيْرِهِ، وَفِي سُورَةِ الْقَمَرِ (وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ) (54: 52، 53) وَفِي سُورَةِ الْبُرُوجِ (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ) (85: 21، 22) جُمْهُورُ عُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ كُلَّهَا فِي مَعْنًى وَاحِدٍ فَسَّرَتْهُ الْأَحَادِيثُ الَّتِي نُورِدُ أَشْهَرَهَا:

رَوَى الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - مَرْفُوعًا - وَغَيْرِهِ " لَمَّا قَضَى اللهُ الْخَلْقَ كَتَبَ فِي كِتَابِهِ فَهُوَ عِنْدَهُ فَوْقَ الْعَرْشِ: إِنَّ رَحْمَتِي غَلَبَتْ غَضَبِي " وَرَوَى الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ مَرْفُوعًا " كَانَ اللهُ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ غَيْرَهُ، وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ، وَكَتَبَ فِي الذِّكْرِ كُلَّ شَيْءٍ، وَخَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ " هَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ فِي أَوَّلِ بَدْءِ الْخَلْقِ. وَرَوَاهُ فِي كِتَابِ التَّوْحِيدِ بِلَفْظِ " وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ قَبْلَهُ " وَفِيهَا " ثُمَّ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ " وَرَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ مَرْفُوعًا " إِنَّ اللهَ كَتَبَ مَقَادِيرَ الْخَلَائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ - قَالَ - وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ " قَالَ شُرَّاحُ الْبُخَارِيِّ فِي قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم " كَانَ اللهُ " إِلَخْ - إِنَّ الْمُرَادَ بِ " كَانَ " فِي الْأَوَّلِ: الْأَزَلِيَّةُ، وَفِي الثَّانِي: الْحُدُوثُ بَعْدَ الْعَدَمِ، وَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَرْشَ وَالْمَاءَ كَانَا مَبْدَأَ هَذَا الْعَالَمِ، أَيْ عَالِمِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، كَأَنَّهُمْ يَعْنُونَ أَنَّ الْمَاءَ أَصْلُ مَادَّتِهِ، وَالْعَرْشَ مَرْكَزُ التَّقْدِيرِ وَالتَّدْبِيرِ لَهُ، وَلَكِنَّ اللهَ تَعَالَى بَيَّنَ لَنَا فِي سُورَةِ (حم فُصِّلَتْ) أَنَّهُ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ الْأَرْضَ مِنْ دُخَانٍ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْمَاءَ فِي حَالَتِهِ الْبُخَارِيَّةِ يَكُونُ دُخَانًا، أَوْ أَنَّ تِلْكَ الْمَادَّةَ الدُّخَانِيَّةَ مُعْظَمُهَا بُخَارٌ مَائِيٌّ. وَرَوَى أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ مِنْ حَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ مَرْفُوعًا " أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللهُ الْقَلَمُ، ثُمَّ قَالَ: اكْتُبْ، فَجَرَى بِمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ " وَرَوَاهُ غَيْرُهُمَا عَنْ غَيْرِهِ بِمَعْنَاهُ، قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إِنَّ أَوَّلِيَّةَ خَلْقِ الْقَلَمِ نِسْبِيَّةٌ، وَالْعَرْشُ

خُلِقَ قَبْلَهُ، وَكَذَا الْمَاءُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ هُوَ الْأَوَّلُ، وَكَذَا اللَّوْحُ الَّذِي كُتِبَ فِيهِ. وَلَمْ يَرِدْ فِي خَلْقِ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ صَحِيحٌ، بَلْ وَرَدَ فِيهِ آثَارٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ مِنْ عُلَمَاءِ التَّفْسِيرِ.

فَلِهَذِهِ الْأَحَادِيثِ وَالْأَثَرِ اتَّفَقَ عُلَمَاءُ التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ عَلَى تَفْسِيرِ الْكِتَابِ الْمُبِينِ وَالْإِمَامِ الْمُبِينِ، وَأُمِّ الْكِتَابِ، وَالذِّكْرِ فِي الْآيَاتِ الَّتِي سَرَدْنَاهَا بِذَلِكَ الْكِتَابِ الْمُسَمَّى بِاللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، وَمِنَ التَّكَلُّفِ الظَّاهِرِ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِهَا الْعِلْمُ الْإِلَهِيُّ كَمَا قَالَ الرَّازِيُّ هُنَا، وَمَذْهَبُ السَّلَفِ أَنْ نُؤْمِنَ بِالْقَلَمِ الْإِلَهِيِّ وَاللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، وَمَا كَتَبَ الْقَلَمُ فِي اللَّوْحِ مِنْ مَقَادِيرِ الْخَلْقِ وَإِحْصَائِهِ جَمِيعَ مَا كَانَ وَيَكُونُ فِي هَذَا الْعَالَمِ مِنْ بَدْءِ تَكْوِينِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ نُحَكِّمَ آرَاءَنَا وَأَقْيِسَتَنَا

ص: 392

فِي صِفَةِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَلَا نَقْبَلُ قَوْلَ أَحَدٍ - غَيْرِ الْمَعْصُومِ - فِيمَا يَزْعُمُهُ مِنْ وَصْفِ اللَّوْحِ أَوِ الْقَلَمِ أَوْ تِلْكَ الْكِتَابَةِ، وَمِنَ الْجَهْلِ الْفَاضِحِ أَنْ نُشَبِّهَ ذَلِكَ بِمَا نَعْهَدُهُ مِنْ كِتَابَتِنَا، وَنَحْنُ نَرَى الْبَشَرَ قَدِ اخْتَرَعُوا لِتَدْوِينِ الْكَلَامِ طُرُقًا يَتَلَقَّاهَا بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ عَلَى مَسَافَةِ أُلُوفٍ مِنَ الْأَمْيَالِ وَالْفَرَاسِخِ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِوَاسِطَةِ الْكَهْرَبَاءِ الَّتِي تُسَخَّرُ لِذَلِكَ بِأَسْلَاكٍ وَبِغَيْرِ أَسْلَاكٍ، فَيَكْتُبُ أَحَدُهُمْ فِي لَوْحِ الْجَوِّ مَا شَاءَ أَنْ يَكْتُبَ فَيَتَكَيَّفُ بِهِ الْهَوَاءُ فِي هَذَا الْجَوِّ الْوَاسِعِ كُلِّهِ وَيَتَلَقَّاهَا آخَرُونَ بِآلَاتٍ عِنْدَهُمْ تَرْسُمُ لَهُمْ مَا رَسَمَ فِي الْهَوَاءِ، فَيَقْرَءُونَهُ وَيُدَوِّنُونَهُ لِلْمُرْسَلِ إِلَيْهِ أَوْ لِمَنْ يُرِيدُونَ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهِ.

وَالَّذِينَ يُؤَوِّلُونَ مَا وَرَدَ فِي اللَّوْحِ وَالْقَلَمِ وَالْعَرْشِ لَيْسُوا أَبْعَدَ عَنْ مَذْهَبِ السَّلَفِ مِمَّنْ يُشَبِّهُونَ هَذِهِ الْعَوَالِمَ الْغَيْبِيَّةَ بِمَا يَعْهَدُونَ مِنْ صُنْعِ الْبَشَرِ فِي هَذَا الْعَالِمِ الْمُتَغَيِّرِ، وَهُمْ يَرَوْنَ أَنَّ هَذِهِ الْمَصْنُوعَاتِ تَتَغَيَّرُ وَتَتَرَقَّى كُلَّمَا تَرَقَّى النَّاسُ فِي الصِّنَاعَاتِ، حَتَّى إِنَّ الشَّيْخَ الشَّعْرَانِيَّ صَوَّرَ الْمِيزَانَ الْإِلَهِيَّ الَّذِي يَزِنُ بِهِ تَعَالَى أَعْمَالَ الْعِبَادِ الْمَعْنَوِيَّةِ كُلَّهَا فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ قَصِيرٍ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبَيْنِ بِصُورَةِ أَحْقَرِ الْمَوَازِينِ الْبَشَرِيَّةِ الَّتِي اخْتَرَعُوهَا فِي طَوْرِ الْبَدَاوَةِ وَالْجَهْلِ بِفُنُونِ الصِّنَاعَةِ، وَنَحْنُ نَرَى الْبَشَرَ قَدِ اخْتَرَعُوا فِي هَذَا الْعَصْرِ أَنْوَاعًا مِنَ الْمَوَازِينِ الدَّقِيقَةِ لِلْأَثْقَالِ الْمَادِّيَّةِ وَلِلْأُمُورِ الْمَعْنَوِيَّةِ، كَالرُّطُوبَةِ وَالْحَرَارَةِ وَالْبُرُودَةِ وَالسُّرْعَةِ، حَتَّى إِنَّهُمْ لَيَعْرِفُونِ أَثْقَالَ الْكَوَاكِبِ، وَإِنَّ رُكَّابَ السَّفِينَةِ الْغَوَّاصَةِ لَيَعْلَمُونِ وَهُمْ فِي لُجَّةِ الْبَحْرِ مَا يَكُونُ حَوْلَهُمْ إِلَى أَبْعَادٍ عَظِيمَةٍ مِنْ أَحْوَالِ

الْمَرَاكِبِ الَّتِي عَلَى ظَهْرِ الْبَحْرِ وَأَثْقَالِهَا، وَبَعْضِ مَا يَتَحَرَّكُ فِي الْبَرِّ أَيْضًا.

هَذَا وَإِنَّ مِنَ التَّشْبِيهِ مَا هُوَ فِتْنَةٌ مُنَفِّرَةٌ، وَمِنَ التَّأْوِيلِ مَا يُزِيلُ بَعْضَ الشُّبُهَاتِ الْمُضَلِّلَةِ أَوِ الْمُكَفِّرَةِ، وَلِذَلِكَ نَذْكُرُ بَعْضَ تَأْوِيلَاتِ الْخَلَفِ، مَعَ اسْتِمْسَاكِنَا بِتَفْوِيضِ السَّلَفِ، وَعَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ كَانَ شَيْخُنَا الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ، إِذْ قَالَ فِي تَفْسِيرِ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ فِي آخِرِ سُورَةِ الْبُرُوجِ مَا نَصُّهُ:

" وَاللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ شَيْءٌ أَخْبَرَ اللهُ بِهِ، وَأَنَّهُ أَوْدَعَهُ كِتَابَهُ، وَلَمْ يُعَرِّفْنَا حَقِيقَتَهُ، فَعَلَيْنَا أَنْ نُؤْمِنَ بِأَنَّهُ شَيْءٌ مَوْجُودٌ، وَأَنَّ اللهَ قَدْ حَفِظَ فِيهِ كِتَابَهُ إِيمَانًا بِالْغَيْبِ، وَأَمَّا دَعْوَى أَنَّهُ جُرْمٌ مَخْصُوصٌ فِي سَمَاءٍ مُعَيَّنَةٍ، وَوَصْفُهُ بِمَا جَاءَ فِي رِوَايَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ، فَهُوَ مِمَّا لَمْ يَثْبُتْ عَنِ الْمَعْصُومِ صلى الله عليه وسلم بِالتَّوَاتُرِ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَدْخُلَ فِي عَقَائِدِ أَهْلِ الْيَقِينِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ.

" وَمَا أَجْدَرَنَا لَوْ أَرَدْنَا التَّأْوِيلَ بِأَنْ نَأْخُذَ بِمَا قِيلَ مِنْ أَنَّ اللَّوْحَ الْمَحْفُوظَ هُوَ لَوْحُ الْوُجُودِ الْحَقِّ، وَمَعَانِي الْقُرْآنِ وَقَضَايَاهُ الشَّرِيفَةُ، لَمَّا كَانَتْ لَا يَأْتِيهَا الْبَاطِلُ وَلَا يُدَانِيهَا الْخَطَأُ كَانَتْ ثَابِتَةً فِي لَوْحِ الْوَاقِعِ الْمَحْفُوظِ الَّذِي لَا حَقَّ إِلَّا مَا وَافَقَهُ، وَلَا بَاطِلَ إِلَّا مَا خَالَفَهُ، وَلَا بَاقٍ إِلَّا مَا رُسِمَ فِيهِ، وَلَا ضَائِعَ إِلَّا مَا لَمْ يَنْطَبِقْ عَلَيْهِ. اهـ.

وَنَقُولُ: إِنَّ تِلْكَ الرِّوَايَاتِ الَّتِي أَشَارَ إِلَيْهَا لَمْ تَثْبُتْ عَنِ الْمَعْصُومِ بِالتَّوَاتُرِ وَلَا بِغَيْرِ التَّوَاتُرِ مِنْ أَحَادِيثِ الْآحَادِ الصَّحِيحَةِ، وَمَا ذَكَرَهُ مِنَ التَّأْوِيلِ قَرِيبٌ مِمَّا فَصَّلَهُ الْإِمَامُ الْغَزَالِيُّ فِي كِتَابِ

ص: 393

التَّوْحِيدِ وَالتَّوَكُّلِ مِنَ الْإِحْيَاءِ، وَكِلَاهُمَا مِمَّا يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْإِيمَانِ بِأَنَّ اللَّوْحَ وَالْقَلَمَ وَالْعَرْشَ أَشْيَاءٌ مَوْجُودَةٌ هِيَ مَظْهَرُ الْعِلْمِ الْإِلَهِيِّ وَالتَّدْبِيرِ الرَّبَّانِيِّ الَّذِي قَامَ بِهِ نِظَامُ الْكَوْنِ، لَا تُشْبِهُ أَقْلَامَ الْبَشَرِ وَأَلْوَاحَهُمْ وَدَفَاتِرَهُمُ الَّتِي يُدَوِّنُونَ بِهَا نِظَامَ دُوَلِهِمْ وَمَصَالِحِهِمْ، وَلَا عُرُوشَ مُلُوكِهِمْ وَأُمَرَائِهِمْ، وَلَكِنَّ الْإِنْسَانَ شَدِيدُ الْغُرُورِ بِعِلْمِهِ وَمَأْلُوفِهِ، فَالْأُمِّيُّ وَالصَّبِيُّ وَقَلِيلُ الِاشْتِغَالِ بِالْعِلْمِ مِنْ أَفْرَادِهِ أَشَدُّ غُرُورًا مِنَ الْعُلَمَاءِ وَاسِعِي الْعِلْمِ وَالِاطِّلَاعَ، كُلٌّ مِنْهُمْ يَتَّخِذُ مَا عِنْدَهُ مِنْ عِلْمٍ قَلِيلٍ مِعْيَارًا أَوْ قَالَبًا لِمَا لَا يَعْلَمُهُ - وَهُوَ كَثِيرٌ - وَمَهْمَا يَتَّسِعْ مِنْ عِلْمِ الْمَرْءِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى غَيْرِهِ فَمَا عِلْمُهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَعْلَمَهُ إِلَّا قَلِيلٌ، فَمَا الْقَوْلُ بِمَا لَيْسَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَعْلَمَهُ (وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا 17: 85) وَإِنَّ لَنَا فِي دِمَاغِ الْإِنْسَانِ الْعِبْرَةَ فِي هَذَا الْمُقَامِ، فَهُوَ كَلَوْحٍ تَرْسِمُ فِيهِ أَقْلَامُ الْمَعْلُومَاتِ

الْحِسِّيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ وَالنَّفْسِيَّةِ فِي كُلِّ آنٍ عِلْمًا جَدِيدًا يُمْكِنُهُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَيْهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَيَقْرَأَ مَا خَطَّهُ فِيهِ الزَّمَنُ الْمَاضِي كَمَا يُرَاجِعُ مَا يَكْتُبُ فِي الْقَرَاطِيسِ وَيُدَوِّنُ فِي الْأَسْفَارِ، فَإِنْ كَانَ يَنْسَى كَثِيرًا مِنْهُ فِي الدُّنْيَا، فَسَيَقْرَؤُهُ كُلَّهُ فِي كِتَابِهِ (يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَى 79: 35) وَيُشِيرُ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى تَأْوِيلُ الْغَزَالِيِّ الَّذِي أَشَرْنَا إِلَيْهِ آنِفًا، فَإِنَّهُ ضَرَبَ مَثَلًا لِلْمَغْرُورِينَ بِالْأَسْبَابِ الْقَرِيبَةِ لِلْحَوَادِثِ الَّذِينَ لَا تَرْتَقِي أَنْظَارُهُمْ فِي سِلْسِلَةِ الْأَسْبَابِ إِلَى أَنْ يَنْتَهُوا مِنْهَا إِلَى خَالِقِهَا وَجَاعِلِهَا أَسْبَابًا: ضَرَبَ لَهُمْ مَثَلًا نَمْلَةً وَاقِفَةً عَلَى قِرْطَاسٍ تُبْصِرُ رَأْسَ الْقَلَمِ يَجْرِي عَلَيْهِ، فَيُسَخِّمُهُ بِالسَّوَادِ، فَتَنْسُبُ هَذَا الْفِعْلَ إِلَيْهِ؛ إِذْ لَا يَمْتَدُّ نَظَرُهَا إِلَى الْيَدِ الْمُحَرِّكَةِ لَهُ، دَعْ صَاحِبَ الْيَدِ الْكَاتِبَ بِهِ الَّذِي لَوْلَاهُ لَمْ تَرَهُ يَكْتُبُ.

وَقَدْ شَرَحَ الْغَزَالِيُّ هَذَا الْمَثَلَ بِعِبَارَةٍ طَوِيلَةٍ مِنْ أَبْلَغِ مَا كَتَبَ قَلَمُهُ السَّيَّالُ، جَعَلَهَا مُحَاوَرَةً بَيْنَ أَحَدِ النَّاظِرَيْنِ عَنْ مِشْكَاةِ نُورِ اللهِ وَبَيْنَ الْقَلَمِ وَالْيَدِ مِنْ جَوَارِحِ الْبَشَرِ، ثُمَّ بَيْنَ الْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ وَالْعِلْمِ مِنْ صِفَاتِ الْبَشَرِ، ثُمَّ انْتَقَلَ مِنْ ذَلِكَ إِلَى الْقَلَمِ الْإِلَهِيِّ وَالصِّفَاتِ الْإِلَهِيَّةِ، عَاتَبَ الْقَلَمَ الَّذِي سَوَّدَ الْقِرْطَاسَ فَأَحَالَهُ عَلَى الْيَدِ الْمُحَرِّكَةِ لَهُ، وَهِيَ أَحَالَتْهُ عَلَى الْقُدْرَةِ الَّتِي صَرَفَتْهَا فِي قَطْعِ الْقَلَمِ وَبَرْيِهِ وَالْكِتَابَةِ بِهِ، فَلَمَّا سَأَلَهَا عَنْ سَبَبٍ ذَلِكَ أَحَالَتْهُ عَلَى الْإِرَادَةِ الْمُسَخِّرَةِ لَهَا وَكَوْنِهَا لَا تَسْتَطِيعُ مُخَالَفَةَ أَمْرِهَا، وَهَذِهِ أَحَالَتْهُ عَلَى الْعِلْمِ وَالْعَقْلِ الَّذِي هُوَ مُرْشِدُهَا وَصَاحِبُ السُّلْطَانِ عَلَيْهَا لَا تَنْبَعِثُ إِلَّا إِذَا بَعَثَهَا، فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى الْعِلْمِ وَسَأَلَهُ عَنْ سَبَبِ بَعْثِهِ الْإِرَادَاتِ إِلَى تَسْخِيرِ الْقُدَرِ فِي اسْتِخْدَامِ الْجَوَارِحِ، أَجَابَهُ أَنَّهُ خَطَّ رَسْمَهُ الْقَلَمُ الْإِلَهِيُّ فِي لَوْحِ الْقَلْبِ، وَقَالَ لَهُ: فَسَلِ الْقَلَمَ عَنِّي، وَذَكَرَ لَهُ أَنَّ هَذَا الْقَلَمَ مِنْ عَالَمِ الْمَلَكُوتِ الَّذِي لَا يُدْرَكُ بِالْحِسِّ، وَأَنَّ فِي طَرِيقِ وُصُولِهِ إِلَيْهِ الْمَهَامِهُ الْفَيَحُ، وَالْجِبَالُ الشَّاهِقَةَ، ثُمَّ قَالَ الْغَزَالِي بَعْدَ حِوَارٍ طَوِيلٍ فِي ذَلِكَ:

" فَقَالَ السَّالِكُ السَّائِلُ: قَدْ تَحَيَّرْتُ فِي أَمْرِي، وَاسْتَشْعَرَ قَلْبِي خَوْفًا مِمَّا وَصَفْتَهُ مِنْ خَطَرِ الطَّرِيقِ، وَلَسْتُ أَدْرِي، أُطِيقُ قَطْعَ هَذِهِ الْمَهَامِهِ الَّتِي وَصَفْتَهَا أَمْ لَا؟ فَهَلْ لِذَلِكَ مِنْ عَلَامَةٍ؟ قَالَ نَعَمْ: افْتَحْ بَصَرَكَ، وَاجْمَعْ ضَوْءَ عَيْنَيْكَ وَحَدِّقْهُ نَحْوِي، فَإِنْ ظَهَرَ لَكَ الْقَلَمُ الَّذِي بِهِ انْكَتَبْتُ فِي

ص: 394

لَوْحِ الْقَلْبِ فَيُشْبِهُ أَنْ تَكُونَ أَهْلًا لِهَذَا الطَّرِيقِ، فَإِنَّ كُلَّ مَنْ جَاوَزَ عَالَمَ الْجَبَرُوتِ - أَيْ عَالَمَ الصِّفَاتِ الْبَشَرِيَّةِ - وَقَرَعَ بَابًا مِنْ أَبْوَابِ الْمَلَكُوتِ كُوشِفَ بِالْقَلَمِ، أَمَا تَرَى أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي أَوَّلِ أَمْرِهِ كُوشِفَ بِالْقَلَمِ، إِذْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ (اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسَانِ

مَا لَمْ يَعْلَمْ) (96: 3 - 5) فَقَالَ السَّالِكُ: لَقَدْ فَتَحْتُ بَصَرِي، وَحَدَّقْتُهُ، فَوَاللهِ مَا أَرَى قَصَبًا وَلَا خَشَبًا، وَلَا أَعْلَمُ قَلَمًا إِلَّا كَذَلِكَ. فَقَالَ الْقَلَمُ: لَقَدْ أَبْعَدْتَ النُّجْعَةَ، أَمَا سَمِعْتَ أَنَّ مَتَاعَ الْبَيْتِ يُشْبِهُ رَبَّ الْبَيْتِ، أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى لَا تُشْبِهُ ذَاتُهُ سَائِرَ الذَّاتِ، فَكَذَلِكَ لَا تُشْبِهُ يَدُهُ الْأَيْدِيَ وَلَا قَلَمُهُ الْأَقْلَامَ، وَلَا كَلَامُهُ سَائِرَ الْكَلَامِ، وَلَا خَطُّهُ سَائِرَ الْخُطُوطِ، وَهَذِهِ أُمُورٌ إِلَهِيَّةٌ مِنْ عَالَمِ الْمَلَكُوتِ، فَلَيْسَ اللهُ تَعَالَى فِي ذَاتِهِ بِجِسْمٍ وَلَا هُوَ فِي مَكَانٍ بِخِلَافِ غَيْرِهِ، وَلَا يَدُهُ لَحْمٌ وَعَظْمٌ وَدَمٌ بِخِلَافِ الْأَيْدِي وَلَا قَلَمُهُ مِنْ قَصَبٍ، وَلَا لَوْحُهُ مِنْ خَشَبٍ، وَلَا كَلَامُهُ بِصَوْتٍ وَحَرْفٍ، وَلَا خَطُّهُ رَقْمٌ وَرَسْمٌ، وَلَا حِبْرُهُ زَاجٌ وَعَفْصٌ، فَإِنْ كُنْتَ لَا تُشَاهِدُ هَذَا هَكَذَا فَمَا أَرَاكَ إِلَّا مُخَنَّثًا بَيْنَ فُحُولَةِ التَّنْزِيهِ وَأُنُوثَةِ التَّشْبِيهِ، مُذَبْذَبًا بَيْنَ هَذَا وَذَاكَ، لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ، فَكَيْفَ نَزَّهْتَ ذَاتَهُ وَصِفَاتَهُ تَعَالَى عَنِ الْأَجْسَامِ وَصِفَاتِهَا، وَنَزَّهْتَ كَلَامَهُ عَنْ مَعَانِي الْحُرُوفِ وَالْأَصْوَاتِ، وَأَخَذْتَ تَتَوَقَّفُ فِي يَدِهِ وَقَلَمِهِ وَلَوْحِهِ وَخَطِّهِ؟ فَإِنْ كُنْتَ قَدْ فَهِمْتَ مِنْ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم " أَنَّ اللهَ خَلَقَ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ " الصُّورَةَ الظَّاهِرَةَ الْمُدْرَكَةَ بِالْبَصَرِ فَكُنْ مُشَبِّهًا مُطْلَقًا، كَمَا يُقَالُ: كُنْ يَهُودِيَّا صِرْفًا وَإِلَّا فَلَا تَلْعَبْ بِالتَّوْرَاةِ، وَإِنْ فَهِمْتَ مِنْهُ الصُّورَةَ الْبَاطِنَةَ الَّتِي تُدْرَكُ بِالْبَصَائِرِ لَا بِالْأَبْصَارِ، فَكُنْ مُنَزِّهًا صِرْفًا وَمُقَدِّسًا فَحْلًا، وَاطْوِ الطَّرِيقَ فَأَنْتَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى، وَاسْتَمِعْ بِسِرِّ قَلْبِكَ لِمَا يُوحَى، فَلَعَلَّكَ تَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى، وَلَعَلَّكَ مِنْ سُرَادِقَاتِ الْعَرْشِ تُنَادَى بِمَا نُودِيَ بِهِ مُوسَى (إِنِّي أَنَا رَبُّكَ) (20: 12) فَلَمَّا سَمِعَ السَّالِكُ مِنَ الْعِلْمِ ذَلِكَ اسْتَشْعَرَ قُصُورَ نَفْسِهِ، وَأَنَّهُ مُخَنَّثٌ بَيْنَ التَّشْبِيهِ وَالتَّنْزِيهِ، فَاشْتَعَلَ قَلْبُهُ نَارًا مِنْ حِدَّةِ غَضَبِهِ عَلَى نَفْسِهِ لَمَّا رَآهَا بِعَيْنِ النَّقْصِ، وَلَقَدْ كَانَ زَيْتُهُ الَّذِي كَانَ فِي مِشْكَاةِ قَلْبِهِ يَكَادُ يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ، فَلَمَّا نَفَخَ فِيهِ الْعِلْمَ بِحِدَّتِهِ اشْتَعَلَ زَيْتُهُ فَأَصْبَحَ نُورًا عَلَى نُورٍ. فَقَالَ لَهُ الْعِلْمُ: اغْتَنِمِ الْآنَ هَذِهِ الْفُرْصَةَ، وَافْتَحْ بَصَرَكَ لَعَلَّكَ تَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى، فَفَتَحَ بَصَرَهُ، فَانْكَشَفَ لَهُ الْقَلَمُ الْإِلَهِيُّ، فَإِذَا هُوَ كَمَا وَصَفَهُ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي التَّنْزِيهِ مَا هُوَ مِنْ خَشَبٍ، وَلَا قَصَبٍ، وَلَا لَهُ

رَأْسَ وَلَا ذَنَبَ، وَهُوَ يَكْتُبُ عَلَى الدَّوَامِ فِي قُلُوبِ الْبَشَرِ كُلِّهِمْ أَصْنَافَ الْعُلُومِ، وَكَأَنَّ لَهُ فِي كُلِّ قَلْبٍ رَأْسًا وَلَا رَأْسَ لَهُ، فَقَضَى مِنْهُ الْعَجَبَ وَقَالَ: نِعْمَ الرَّفِيقُ الْعِلْمُ، فَجَزَاهُ اللهُ عَنِّي خَيْرًا، إِذِ الْآنَ ظَهَرَ لِي صِدْقَ أَنْبَائِهِ عَنْ أَوْصَافِ الْقَلَمِ، فَإِنِّي أَرَاهُ قَلَمًا لَا كَالْأَقْلَامِ.

ص: 395

فَعِنْدَ هَذَا وَدَّعَ الْعِلْمَ وَشَكَرَهُ، وَقَالَ: قَدْ طَالَ مَقَامِي عِنْدَكَ وَمُرَادَتِي لَكَ، وَأَنَا عَازِمٌ عَلَى أَنْ أُسَافِرَ إِلَى حَضْرَةِ الْقَلَمِ، وَأَسْأَلَهُ عَنْ شَأْنِهِ، فَسَافَرَ إِلَيْهِ وَقَالَ لَهُ: مَا بَالُكَ أَيُّهَا الْقَلَمُ، تَخُطُّ عَلَى الدَّوَامِ فِي الْقُلُوبِ مِنَ الْعُلُومِ مَا تُبْعَثُ بِهِ الْإِرَادَاتُ إِلَى أَشْخَاصِ الْقُدَرِ وَصَرْفِهَا إِلَى الْمَقْدُورَاتِ؟ فَقَالَ: أَوَ قَدْ نَسِيتَ مَا رَأَيْتَ فِي عَالَمِ الْمُلْكِ وَالشَّهَادَةِ، وَسَمِعْتَ مِنْ جَوَابِ الْقَلَمِ إِذَا سَأَلْتَهُ فَأَحَالَكَ عَلَى الْيَدِ؟ قَالَ: لَمْ أَنْسَ ذَلِكَ. قَالَ: فَجَوَابِي مِثْلُ جَوَابِهِ، قَالَ: كَيْفَ وَأَنْتَ لَا تُشْبِهُهُ، قَالَ الْقَلَمُ: أَمَا سَمِعْتَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى خَلَقَ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَسَلْ عَنْ شَأْنِي الْمُلَقَّبَ بِيَمِينِ الْمَلِكِ، فَإِنِّي فِي قَبْضَتِهِ، وَهُوَ الَّذِي يَرْدُدْنِي وَأَنَا مَقْهُورٌ مُسَخَّرٌ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْقَلَمِ الْإِلَهِيِّ وَقَلَمِ الْآدَمِيُّ فِي مَعْنَى التَّسْخِيرِ، وَإِنَّمَا الْفَرْقُ فِي ظَاهِرِ الصُّورَةِ. فَقَالَ: فَمَنْ يَمِينُ الْمَلِكِ؟ فَقَالَ الْقَلَمُ: أَمَا سَمِعْتَ قَوْلَهُ تَعَالَى: (وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ)(39: 67) قَالَ: نَعَمْ، وَالْأَقْلَامُ أَيْضًا فِي قَبْضَةِ يَمِينِهِ هُوَ الَّذِي يُرَدِّدُهَا. فَسَافَرَ السَّالِكُ مِنْ عِنْدِهِ إِلَى الْيَمِينِ حَتَّى شَاهَدَهُ، وَرَأَى مِنْ عَجَائِبِهِ مَا يَزِيدُ عَلَى عَجَائِبِ الْقَلَمِ، وَلَا يَجُوزُ وَصْفُ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ وَلَا شَرْحُهُ، بَلْ لَا تَحْوِي مُجَلَّدَاتٌ كَثِيرَةٌ عُشْرَ عُشَيْرِ وَصْفِهِ، وَالْجُمْلَةُ فِيهِ أَنَّهُ يَمِينٌ لَا كَالْأَيْمَانِ، وَيَدٌ لَا كَالْأَيْدِي، وَأَصْبِعٌ لَا كَالْأَصَابِعِ، فَرَأَى الْقَلَمَ مُحَرَّكًا فِي قَبْضَتِهِ فَظَهَرَ لَهُ عُذْرُ الْقَلَمِ، فَسَأَلَ الْيَمِينَ عَنْ شَأْنِهِ وَتَحْرِيكِهِ لِلْقَلَمِ، فَقَالَ: جَوَابِي مِثْلُ مَا سَمِعْتَهُ مِنَ الْيَمِينِ الَّتِي رَأَيْتَهَا فِي عَالَمِ الشَّهَادَةِ، وَهِيَ الْحَوَّالَةُ عَلَى الْقُدْرَةِ، إِذِ الْيَدُ لَا حُكْمَ لَهَا فِي نَفْسِهَا، وَإِنَّمَا مُحَرِّكُهَا الْقُدْرَةُ لَا مَحَالَةَ. فَسَافَرَ السَّالِكُ إِلَى عَالَمِ الْقُدْرَةِ، وَرَأَى فِيهِ مِنَ الْعَجَائِبِ مَا اسْتَحْقَرَ عِنْدَهَا مَا قَبْلَهُ، وَسَأَلَهَا عَنْ تَحْرِيكِ الْيَمِينِ فَقَالَتْ: إِنَّمَا أَنَا صِفَةٌ، فَاسْأَلِ الْقَادِرَ؛ إِذِ الْعُمْدَةُ عَلَى الْمَوْصُوفَاتِ لَا عَلَى الصِّفَاتِ، وَعِنْدَ هَذَا كَادَ أَنْ يَزِيغَ وَيُطْلِقَ بِالْجَرَاءَةِ لِسَانَ السُّؤَالِ، فَثُبِّتَ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ، وَنُودِيَ مِنْ وَرَاءِ حِجَابِ سُرَادِقَاتِ الْحَضْرَةِ (لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ) (21: 23) فَغَشِيَتْهُ هَيْبَةُ الْحَضْرَةِ، فَخَرَّ صَعِقَا يَضْطَرِبُ فِي غَشْيَتِهِ، فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ: سُبْحَانَكَ مَا أَعْظَمَ شَأْنَكَ، تُبْتُ إِلَيْكَ، وَتَوَكَّلْتُ عَلَيْكَ، وَآمَنْتُ بِأَنَّكَ الْمَلِكُ الْجَبَّارُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ، فَلَا أَخَافُ غَيْرَكَ، وَلَا أَرْجُو سِوَاكَ، وَلَا أَعُوذُ إِلَّا بِعَفْوِكَ مِنْ عِقَابِكَ، وَبِرِضَاكَ مِنْ

سُخْطِكَ، وَمَا لِي إِلَّا أَنْ أَسْأَلَكَ وَأَتَضَرَّعَ إِلَيْكَ، وَأَبْتَهِلَ بَيْنَ يَدَيْكَ، فَأَقُولُ: اشْرَحْ لِي صَدْرِي لِأَعْرِفَكَ، وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي لِأُثْنِيَ عَلَيْكَ. فَنُودِيَ مِنْ وَرَاءِ الْحِجَابِ: إِيَّاكَ أَنْ تَطْمَعَ فِي الثَّنَاءِ وَتَزِيدَ عَلَى سَيِّدِ الْأَنْبِيَاءِ، بَلِ ارْجِعْ إِلَيْهِ، فَمَا آتَاكَ فَخُذْهُ، وَمَا نَهَاكَ عَنْهُ فَانْتَهِ عَنْهُ، وَمَا قَالَهُ فَقُلْهُ، فَإِنَّهُ مَا زَادَ فِي هَذِهِ الْحَضْرَةِ عَلَى أَنْ قَالَ:" سُبْحَانَكَ لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ " فَقَالَ: إِلَهِي إِنْ لَمْ يَكُنْ لِلِّسَانِ جَرَاءَةٌ عَلَى الثَّنَاءِ عَلَيْكَ فَهَلْ لِلْقَلْبِ مَطْمَعٌ فِي مَعْرِفَتِكَ؟ فَنُودِيَ: إِيَّاكَ أَنْ تَتَخَطَّى رِقَابَ الصِّدِّيقِينَ، فَارْجِعْ إِلَى الصِّدِّيقِ الْأَكْبَرِ فَاقْتَدِ بِهِ، فَإِنَّ أَصْحَابَ سَيِّدِ الْأَنْبِيَاءِ كَالنُّجُومِ، بِأَيِّهِمُ

ص: 396

اقْتَدَيْتُمُ اهْتَدَيْتُمْ، أَمَا سَمِعْتَهُ يَقُولُ: الْعَجْزُ عَنْ دَرَكِ الْإِدْرَاكِ إِدْرَاكٌ فَيَكْفِيكَ نَصِيبًا مِنْ حَضْرَتِنَا أَنْ تَعْرِفَ أَنَّكَ مَحْرُومٌ عَنْ حَضْرَتِنَا، عَاجِزٌ عَنْ مُلَاحَظَةِ جَمَالِنَا وَجَلَالِنَا " انْتَهَى الْمُرَادُ مِنْهُ.

وَلَا نَدْرِي لِمَ وَقَفَ أَبُو حَامِدٍ هُنَا عِنْدَ صِفَةِ الْقُدْرَةِ الْإِلَهِيَّةِ وَلَمْ يُتِمَّ تَطْبِيقَ الْمَثَلِ. وَمِنَ الْمَعْلُومِ الْمُقَرَّرِ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ الْإِلَهِيِّ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ وَالصُّوفِيَّةِ وَكَذَا الْفَلَاسِفَةُ أَنَّ قُدْرَةَ اللهِ تَعَالَى إِنَّمَا تَجْرِي بِمَا خَصَّصَتْهُ إِرَادَتُهُ وَاقْتَضَتْهُ مَشِيئَتُهُ، وَأَنَّ تَخْصِيصَ الْإِرَادَةِ لِلْمُمْكِنِ بِبَعْضِ مَا يَجُوزُ عَلَيْهِ دُونَ بَعْضٍ إِنَّمَا يَكُونُ بِحَسَبِ الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ، وَالْعِلْمِ بِوُجُوهِ الْمَصَالِحِ وَالْمَفَاسِدِ وَالنِّظَامِ وَالْخَلَلِ وَالْكَمَالِ وَالنَّقْصِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الْمُتَقَابِلَةِ إِذَا كَانَ تَامًّا كَامِلًا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنَ الْأَعْمَالِ الْإِرَادِيَّةِ مَا هُوَ عَيْنُ الْحِكْمَةِ، فَلَوْ أَنَّ السَّائِلَ سَأَلَ الْإِرَادَةَ الْإِلَهِيَّةَ عَمَّا تَجْرِي بِهِ الْقُدْرَةُ بِتَخْصِيصِهَا فِي عَالَمِ التَّكْوِينِ، لَأَجَابَتْهُ بِلِسَانِ الْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ بِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ مَا اقْتَضَاهُ الْعِلْمُ الْإِلَهِيُّ الْمُحِيطُ بِالْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، فَهُوَ عَيْنُ الْحِكْمَةِ وَغَايَةُ النِّظَامِ، لَيْسَ فِيهِ خَلَلٌ وَلَا جُزَافٌ، وَلَا هُوَ بِالْأَمْرِ الْأُنُفِ الَّذِي يَكُونُ بِمَحْضِ الِاسْتِبْدَادِ (وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ) (13: 8، 9) وَكِتَابَةُ مَقَادِيرِ الْخَلْقِ الَّتِي أَرْشَدَتْ إِلَيْهَا الْآيَةُ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِ تَفْسِيرِهَا تُثْبِتُ هَذَا، وَكُلَّمَا اتَّسَعَ عِلْمُ الْإِنْسَانِ بِالنِّظَامِ وَالْقَدَرِ الْإِلَهِيِّ فِي هَذَا الْكَوْنِ رَسَخَ إِيمَانُهُ بِذَلِكَ، وَقَلَّتْ حَيْرَتُهُ،

وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: (لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ) فَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّ فِي أَفْعَالِهِ شَيْئًا عَبَثًا أَوْ سُدًى أَوْ جُزَافًا جَاءَ آنِفًا بِمَحْضِ الْمَشِيئَةِ، عَارِيًا عَنِ النِّظَامِ وَالتَّقْدِيرِ الَّذِي اقْتَضَتْهُ الْحِكْمَةُ، كَلَّا إِنَّمَا مَعْنَاهُ أَنَّ سُلْطَانَهُ تَعَالَى فَوْقَ كُلِّ سُلْطَانٍ، فَلَيْسَ لِمَوْجُودٍ سُلْطَانٌ عَلَيْهِ فَيَسْأَلُهُ عَمَّا يَفْعَلُ، يُحَاسِبُهُ عَلَيْهِ، أَوْ يُلْقِي عَلَيْهِ تَبِعَتَهُ إِنْ فُرِضَ أَنَّهُ يَرَى ذَلِكَ، فَلَا حُجَّةَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لِلْجَبْرِيِّ فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ، وَلَا لِلْمُذَبْذَبِ الْجَبْرِيِّ فِي الْبَاطِنِ السُّنِّيِّ فِي الظَّاهِرِ.

(حِكْمَةُ كِتَابَةِ مَقَادِيرِ الْخَلْقِ) .

رُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّ حِكْمَةَ كِتَابَةِ اللهِ تَعَالَى لِمَقَادِيرِ الْخَلْقِ تَنْبِيهُ الْمُكَلَّفِينَ عَلَى عَدَمِ إِهْمَالِ أَحْوَالِهِمُ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، حَيْثُ ذَكَرَ أَنَّ الْوَرَقَةَ وَالْحَبَّةَ فِي الْكِتَابِ، وَزَادَ بَعْضُهُمْ حِكْمَتَيْنِ أُخْرَيَيْنِ إِحْدَاهُمَا: اعْتِبَارُ الْمَلَائِكَةِ عليهم السلام مُوَافَقَةَ الْمُحْدَثَاتِ لِلْمَعْلُومَاتِ الْإِلَهِيَّةِ، وَالثَّانِيَةُ: عَدَمُ تَغَيُّرِ الْمَوْجُودَاتِ عَنِ التَّرْتِيبِ السَّابِقِ فِي الْكِتَابِ. وَلِذَا جَاءَ " جَفَّ الْقَلَمُ بِمَا

ص: 397

هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ " - ذَكَرَ ذَلِكَ الْأَلُوسِيُّ، وَجَعَلَ قَوْلَ الْحَسَنِ هُوَ الثَّانِي فِي التَّرْتِيبِ، وَالْعِبَارَةُ الْأَخِيرَةُ حَدِيثٌ مِنَ الْأَحَادِيثِ الْمُشْتَهِرَةِ عَلَى الْأَلْسِنَةِ بِاللَّفْظِ الَّذِي ذَكَرَهُ الْأَلُوسِيُّ، وَلَا نَعْرِفُهُ مَرْوِيًّا بِهَذَا اللَّفْظِ، وَلَكِنْ وَرَدَ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ جَعْفَرٍ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ " وَاعْلَمْ أَنَّ الْقَلَمَ قَدْ جَفَّ بِمَا هُوَ كَائِنٌ " وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ " جَفَّ الْقَلَمُ بِمَا أَنْتَ لَاقٍ " وَوَرَدَ " جَفَّ الْقَلَمُ " " وَجَفَّتِ الْأَقْلَامُ " فِي أَثْنَاءِ أَحَادِيثَ أُخْرَى.

وَهَذَا الَّذِي قَالُوهُ فِي حِكْمَةِ الْكِتَابَةِ ضَعِيفٌ، وَحِكْمَةُ اللهِ الْبَالِغَةُ فِيهِ فَوْقَ ذَلِكَ، وَيَتَوَقَّفُ تَلَمُّحُ شَيْءٍ مِنْ جَلَالِهَا وَجَمَالِهَا عَلَى تَدَبُّرِ النِّظَامِ الْعَامِّ الَّذِي قَامَتْ بِهِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَالنِّظَامِ الْخَاصِّ بِكُلِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَخْلُوقَاتِ فِيهِمَا، وَعَلَى كَوْنِ تِلْكَ النُّظُمِ الَّتِي يُعَبَّرُ عَنْهَا فِي عُرْفِنَا بِالسُّنَنِ وَبِالْأَقْدَارِ الْإِلَهِيَّةِ، وَفِي عُرْفِ بَعْضِ عُلَمَاءِ الدُّنْيَا بِالنَّوَامِيسِ أَوِ الْقُوَى الطَّبِيعِيَّةِ، إِنَّمَا يُنَفِّذُهَا أَصْنَافٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، ذُكِرَ فِي الْآيَةِ الَّتِي بَعْدَ هَذِهِ صِنْفَ الْحَفَظَةِ وَرُسُلِ الْمَوْتِ مِنْهُمْ، وَوَرَدَ فِي بَعْضِ التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ أَنَّ (وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا 77: 1) وَمَا عُطِفَ عَلَيْهَا (وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا 79: 1) وَمَا عُطِفَ عَلَيْهَا إِلَى قَوْلِهِ: (فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا 79: 5) أَصْنَافٌ مِنْهُمْ، وَهُمُ الْمَلَائِكَةُ الْمُوَكَّلُونَ بِتَدْبِيرِ أَمْرِ الْخَلْقِ

مِنْ عِنْدِ اللهِ عز وجل، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ مَا جَاءَ مِنْ أَحَادِيثَ مِنْهَا الصِّحَاحُ وَالْحِسَانُ وَالضِّعَافُ، يَدُلُّ مَجْمُوعُهَا عَلَى أَنَّ اللهَ تَعَالَى قَدْ وَكَّلَ بِكُلِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْخَلْقِ مَلَائِكَةً هُمْ أَرْوَاحُ النِّظَامِ لَهُ. فَإِذَا كَانَ الْخَالِقُ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ قَدْ جَعَلَ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا، وَجَعَلَ لِكُلِّ شَيْءٍ مِنْ أَسْبَابِ الْمَعَايِشِ كَالرِّيَاحِ وَالْأَمْطَارِ وَغَيْرِهَا خَزَائِنَ لَا يُنَزِّلُهَا إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ، وَإِذَا كَانَ مِنْ حِكْمَتِهِ أَنْ جَعَلَ لِهَذَا الْمُلْكِ الْعَظِيمِ الَّذِي يُدَارُ بِأَعْلَى دَرَجَةٍ مِنَ التَّقْدِيرِ وَالتَّنْظِيمِ عَرْشًا عَظِيمًا هُوَ مَصْدَرُ التَّدْبِيرِ، أَفَلَا يَكُونُ مِنْ كَمَالِ الْحِكْمَةِ وَالْإِتْقَانِ أَنْ يَكُونَ لِذَلِكَ كِتَابٌ مُبِينٌ هُوَ مَظْهَرُ ذَلِكَ النِّظَامِ وَالتَّقْدِيرِ، كَمَا يُعْهَدُ لِلْمَمَالِكِ الْمُنَظَّمَةِ مِنْ كُتُبِ النُّظُمِ وَالْقَوَانِينِ؟ بَلَى وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى، وَإِنَّ لَنَا فِيمَا نَرَى فِي خَلْقِهِ مِنْ نِظَامٍ وَكَمَالٍ وَفِي التَّكْوِينِ آيَاتٍ عَلَى كَمَالِ عَلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ، وَنُفُوذِ إِرَادَتِهِ وَقُدْرَتِهِ، وَفِيمَا نَرَى مِنْ كَسْبِ الْبَشَرِ مِنْ نَقْصٍ وَعَجْزٍ دَلَائِلَ عَلَى تَنْزِيهِهِ عَنْ مُشَابَهَةِ الْخَلْقِ، وَعَلَى أَنَّ مَلَائِكَتَهُ أَكْمَلُ مِنَ الْبَشَرِ فِي تَنْفِيذِ مَا قُدِّرَ وَمَا أَمَرَ (لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ 21: 27) (لَا يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ 66: 6) وَنَكْتَفِي بِهَذَا التَّلْمِيحِ الْآنَ، فَقَدْ طَالَ الْكَلَامُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ كَمَا طَالَ فِي تَفْسِيرِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ هَذَا الْجُزْءِ، وَلَعَلَّنَا نَعُودُ إِلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.

(وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ) التَّوَفِّي أَخْذُ الشَّيْءِ وَافِيًا أَيْ تَامًّا كَامِلًا، وَيُقَابِلُهُ التَّوْفِيَةُ

ص: 398

وَهُوَ إِعْطَاءُ الشَّيْءِ تَامًّا كَامِلًا، يُقَالُ وَفَّاهُ حَقَّهُ فَتَوَفَّاهُ مِنْهُ وَاسْتَوْفَاهُ، وَمِنْهُ (وَوَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ 24: 39) وَيُقَالُ تَوَفَّاهُ وَاسْتَوْفَاهُ بِمَعْنَى أَحْصَى عَدَدَهُ، نَطَقَتِ الْعَرَبُ بِالْمَعْنَيَيْنِ، وَأُطْلِقَ التَّوَفِّي عَلَى الْمَوْتِ؛ لِأَنَّ الْأَرْوَاحَ تُقْبَضُ وَتُؤْخَذُ أَخْذًا تَامًّا حَتَّى لَا يَبْقَى لَهَا تَصَرُّفٌ فِي الْأَبْدَانِ، وَأُطْلِقَ عَلَى النَّوْمِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَفِي آيَةِ الزُّمَرِ الَّتِي نَذْكُرُهَا قَرِيبًا، فَقَالَ الْعُلَمَاءُ: إِنَّهُ إِطْلَاقٌ مَجَازِيٌّ مَبْنِيٌّ عَلَى تَشْبِيهِ النَّوْمِ بِالْمَوْتِ لِمَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْمُشَارَكَةِ فِي زَوَالِ إِحْسَاسِ الْحَوَاسِّ وَالتَّمْيِيزِ، وَإِنَّمَا جَعَلُوهُ اسْتِعَارَةً عَنِ النَّوْمِ بِنَاءً عَلَى جَعْلِهِ حَقِيقَةً فِي الْمَوْتِ، وَهُوَ كَذَلِكَ فِي الْعُرْفِ الْعَامِّ لَا فِي أَصْلِ اللُّغَةِ؛ يَقُولُونَ تُوُفِّيَ فُلَانٌ - بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ - بِمَعْنَى مَاتَ، وَتَوَفَّاهُ اللهُ بِمَعْنَى أَمَاتَهُ، وَمَا أَعْلَمُ أَنَّ الْعَرَبَ اسْتَعْمَلَتِ التَّوَفِّي فِي الْمَوْتِ، وَإِنَّمَا هُوَ اسْتِعْمَالٌ إِسْلَامِيٌّ مَبْنِيٌّ عَلَى الْمَوْتِ، يَحْصُلُ

بِقَبْضِ الْأَنْفُسِ الَّتِي تَحْيَا بِهَا النَّاسُ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الزُّمَرِ: (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لِآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ 39: 42) فَهَذِهِ الْآيَةُ نَصٌّ فِي كَوْنِ التَّوَفِّي أَعَمَّ مِنَ الْمَوْتِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ مُرَادِفًا لَهُ، فَقَدْ صَرَّحَتْ بِأَنَّ الْأَنْفُسَ الَّتِي تُتَوَفَّى فِي مَنَامِهَا غَيْرُ مَيِّتَةٍ.

فَقَوْلُهُ تَعَالَى: (يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ) مَعْنَاهُ يَتَوَفَّى أَنْفُسَكُمْ فِي حَالَةِ نَوْمِكُمْ بِاللَّيْلِ، وَمِثْلُهُ النَّوْمُ فِي النَّهَارِ، وَإِنَّمَا اقْتَصَرَ عَلَى ذِكْرِ اللَّيْلِ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ فِي الْفِطْرَةِ وَالْغَالِبَ فِي الْعَادَةِ أَنْ يَكُونَ النَّوْمُ فِيهِ، فَلَا يُعْتَدُّ بِمَا يَقَعُ مِنْهُ فِي النَّهَارِ. أُطْلِقَ التَّوَفِّي فِي الْمَنَامِ عَلَى إِزَالَةِ الْإِحْسَاسِ وَالْمَنْعِ مِنْ تَصَرُّفِ الْأَنْفُسِ فِي الْأَبْدَانِ عَلَى مَا هُوَ الْمَعْرُوفُ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ، وَلَكِنَّ بَعْضَ فَلَاسِفَةِ الْغَرْبِ الْمُتَأَخِّرِينَ يَرَى أَنَّ لِلْإِنْسَانِ نَفْسَيْنِ، تُفَارِقُهُ إِحْدَاهُمَا عِنْدَ النَّوْمِ، وَتُفَارِقُهُ كِلْتَاهُمَا بِالْمَوْتِ، فَإِذَا صَحَّ هَذَا يَكُونُ التَّوَفِّي حَقِيقَةً فِي الْمَنَامِ وَفِي الْمَوْتِ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ يَحْصُلُ بِقْبِضٍ غَيْرِ تَامٍّ لِأَحَدِ النَّفْسَيْنِ، وَالثَّانِي بِقَبْضٍ تَامٍّ لِكِلْتَيْهِمَا، وَهُوَ يُوَافِقُ ظَاهِرَ آيَةِ الزُّمَرِ.

ثُمَّ قَالَ عز وجل: (وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ) الْجَرْحُ: يُطْلَقُ بِمَعْنَى الْعَمَلِ وَالْكَسْبِ بِالْجَوَارِحِ وَهِيَ الْأَعْضَاءُ الْعَامِلَةُ، وَبِمَعْنَى التَّأْثِيرِ الدَّامِي مِنَ السِّلَاحِ وَمَا فِي مَعْنَاهُ كَالْبَرَاثِنِ وَالْأَظْفَارِ وَالْأَنْيَابِ مِنْ سِبَاعِ الطَّيْرِ وَالْوَحْشِ. قِيلَ: إِنَّ هَذَا الْأَخِيرَ هُوَ الْحَقِيقَةُ وَالْأَوَّلُ مَجَازٌ، وَإِنَّ عَوَامِلَ الْإِنْسَانِ مَا سُمِّيَتْ جَوَارِحَ إِلَّا تَشْبِيهًا لَهَا بِجَوَارِحِ السِّبَاعِ، وَإِنَّ هَذِهِ مَا سُمِّيَتْ جَوَارِحَ إِلَّا لِأَنَّهَا تَجْرَحُ مَا تَصِيدُهُ وَمَا تَفْتَرِسُهُ، وَظَاهِرُ عِبَارَةِ لِسَانِ الْعَرَبِ أَنَّ الْجُرْحَ حَقِيقَةً فِي الْكَسْبِ، وَأَنَّ جَوَارِحَ الصَّيْدِ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِكَسْبِهَا لِنَفْسِهَا أَوْ لِمُعَلِّمِهَا الَّذِي يَصِيدُ بِهَا، وَأَنَّ الْخَيْلَ وَالْأَنْعَامَ الْمُنْتِجَةَ تُسَمَّى جَوَارِحٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّ نِتَاجَهَا كَسْبُهَا، فَالْجُرْحُ كَالْكَسْبِ، يُطْلَقُ عَلَى الْخَيْرِ وَالشَّرِّ مِنْهُ. نَقَلَ ذَلِكَ اللِّسَانُ عَنِ الْأَزْهَرِيِّ. وَظَاهِرُ كَلَامِ الزَّمَخْشَرِيِّ أَنَّهُ فِعْلُ الشَّرِّ، وَبِذَلِكَ فَسَّرَ الْآيَةَ فِي الْكَشَّافِ كَمَا سَيَأْتِي، وَقَدِ اسْتُعْمِلَ الِاجْتِرَاحُ بِمَعْنَى فِعْلِ الشَّرِّ خَاصَّةً فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ

ص: 399

الْجَاثِيَةِ: (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينِ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ)(45: 21) - الْآيَةَ - وَلَمْ يُذْكَرِ الْجَرْحُ وَالِاجْتِرَاحُ

فِي الْقُرْآنِ إِلَّا فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ. وَقَدْ يَكُونُ التَّخْصِيصُ بِعَمَلِ السَّيِّئَاتِ لِصِيغَةِ الِافْتِعَالِ كَمَا وَرَدَ كَثِيرًا فِي الِاكْتِسَابِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ: (لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ) وَهُوَ غَيْرُ مُطَّرِدٍ فِي ذَلِكَ، فَكُلٌّ مِنَ الْكَسْبِ وَالِاكْتِسَابِ يُسْتَعْمَلُ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ.

فَمَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ) يَعْلَمُ جَمِيعَ عَمَلِكُمْ وَكَسْبِكُمْ فِي وَقْتِ الْيَقَظَةِ الَّذِي يَكُونُ مُعْظَمُهُ فِي النَّهَارِ خَيْرًا كَانَ أَوْ شَرًّا، قِيلَ: إِنَّ الْمَاضِيَ هُنَا بِمَعْنَى الْمُسْتَقْبَلِ، أَيْ: وَيَعْلَمُ مَا تَجْرَحُونَهُ فِي النَّهَارِ الَّذِي يَلِي اللَّيْلَ، عَبَّرَ بِهِ لِتُحَقِّقِ وُقُوعِهِ، وَقِيلَ: بَلْ هُوَ عَلَى أَصْلِهِ وَيُرَادُ بِهِ النَّهَارُ السَّابِقُ عَلَى اللَّيْلِ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ فِيهِ، أَوِ الْمُرَادُ يَتَوَفَّاكُمْ فِي جِنْسِ اللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ فِي جِنْسِ النَّهَارِ.

(ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ) أَيْ: ثُمَّ إِنَّهُ بَعْدَ تَوَفِّيكُمْ بِالنَّوْمِ يُثِيرُكُمْ وَيُرْسِلُكُمْ مِنْهُ فِي النَّهَارِ، فَالْبَعْثُ - كَمَا قَالَ الرَّاغِبُ - إِثَارَةُ الشَّيْءِ وَتَوْجِيهُهُ، يُقَالُ بَعَثْتُ الْبَعِيرَ أَيْ أَثَرْتُهُ مِنْ بَرْكِهِ وَسِيرَتِهِ. فَإِطْلَاقُ الْبَعْثِ عَلَى الْإِيقَاظِ مِنَ النَّوْمِ حَقِيقَةٌ لُغَوِيَّةٌ، وَمَنْ جَعَلَهُ مَجَازًا نَظَرَ إِلَى الْعُرْفِ الشَّرْعِيِّ، فَإِنْ قِيلَ كَانَ الظَّاهِرُ أَنْ يُقَالَ: وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ بِالنَّهَارِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ فِيهِ، فَمَا نُكْتَةُ هَذَا التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ فِي الْآيَةِ؟ قُلْتُ: الظَّاهِرُ الْمُتَبَادِرُ أَنَّ تَأْخِيرَ ذِكْرِ الْبَعْثِ لِأَجْلِ أَنْ تَتَّصِلَ بِهِ عِلَّتُهُ الْمَقْصُودَةُ بِالذِّكْرِ فِي هَذَا السِّيَاقِ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: (لِيُقْضَى أَجَلٌ مُّسَمًّى) إِلَخْ أَنْ يُوقِظَكُمْ وَيُرْسِلَكُمْ فِي أَعْمَالِكُمْ لِأَجْلِ أَنْ يُقْضَى وَيَنْفُذَ الْأَجَلُ الْمُسَمَّى فِي عِلْمِهِ تَعَالَى لِكُلِّ فَرْدٍ مِنْكُمْ، فَإِنَّ لِأَعْمَارِكُمْ آجَالًا مَقْدِرَةً مَكْتُوبَةً لَا بُدَّ مِنْ قَضَائِهَا وَإِتْمَامِهَا (ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ) ثُمَّ إِلَيْهِ وَحْدَهُ يَكُونُ رُجُوعُكُمْ إِذَا انْتَهَتْ آجَالُكُمْ وَمُتُّمْ (ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) إِذْ يَبْعَثُكُمْ مِنْ مَرَاقِدِ الْمَوْتِ كَمَا كَانَ يَبْعَثُكُمْ مِنْ مَضَاجِعِ النَّوْمِ؛ لِأَنَّهُ عَالِمٌ بِتِلْكَ الْأَعْمَالِ كُلِّهَا فَيُذَكِّرُكُمْ بِهَا، وَيُحَاسِبُكُمْ عَلَيْهَا، وَيَجْزِيكُمْ بِهَا، إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ، وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ، وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ الْقَادِرَ عَلَى الْبَعْثِ مِنْ تَوَفِّي النَّوْمِ قَادِرٌ عَلَى الْبَعْثِ مِنْ تَوَفِّي الْمَوْتِ.

وَقَدْ خَالَفَ الزَّمَخْشَرِيُّ الْجُمْهُورَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ، فَجَعَلَهَا خِطَابًا لِلْكُفَّارِ خَاصَّةً، إِذْ جَعَلَ الْجُرْحَ خَاصًّا بِعَمَلِ السُّوءِ، وَجَعَلَ الْغَرَضَ مِنْ ذِكْرِ تَوَفِّيهِمْ فِي اللَّيْلِ أَنَّهُمْ يَكُونُونَ مُنْسَدِحِينَ فِيهِ كَالْجِيَفِ، وَمِنَ الْجُرْحِ بِالنَّهَارِ: عَمَلُ الْآثَامِ فِيهِ. وَجَعَلَ الْبَعْثَ عَلَى مَعْنَاهُ

الشَّرْعِيِّ، وَ " فِي " لِلتَّعْلِيلِ أَوِ الشَّأْنِ كَحَدِيثِ دَخَلَتِ امْرَأَةٌ النَّارَ فِي هِرَّةٍ. وَقَالَ فِي بَيَانِ هَذَا: ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ مِنَ الْقُبُورِ فِي شَأْنِ ذَلِكَ الَّذِي قَطَعْتُمْ بِهِ أَعْمَارَكُمْ مِنَ النَّوْمِ بِاللَّيْلِ وَكَسْبِ الْآثَامِ بِالنَّهَارِ وَمِنْ أَجْلِهِ، كَقَوْلِكَ:

ص: 400

فِيمَ دَعَوْتِنِي؟ فَأَقُولُ: فِي أَمْرِ كَذَا. وَفَسَّرَ الْأَجَلَ الْمُسَمَّى بِمَا ضَرَبَهُ اللهُ لِبَعْثِ الْمَوْتَى وَجَزَائِهِمْ، وَالْمَرْجِعَ بِالرُّجُوعِ إِلَى مَوْقِفِ الْحِسَابِ، وَفِيهِ تَكَلُّفٌ لَا يَدْفَعُهُ إِلَّا نَصٌّ فِي نُزُولِ الْآيَةِ فِي الْكَفَّارِ وَحْدَهُمْ وَكَوْنِ الْجُرْحِ بِمَعْنَى فِعْلِ الْآثَامِ، وَكِلَاهُمَا لَا يَثْبُتُ.

وَفِي ذِكْرِ الْأَجَلِ الْمُسَمَّى فِي الْآيَةِ وَالرُّجُوعِ إِلَى اللهِ تَعَالَى لِأَجْلِ الْحِسَابِ وَالْجَزَاءِ تَأْيِيدٌ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ حِكْمَةِ تَأْخِيرِ مَا كَانَ مُشْرِكُو مَكَّةَ يَسْتَعْجِلُونَ بِهِ مِنْ وَعِيدِ اللهِ لَهُمْ، وَوَعِيدِهِ لِرَسُولِهِ بِالنَّصْرِ عَلَيْهِمْ وَبَيَانُ عَذَابِ الْآخِرَةِ وَرَاءَ مَا أُنْذِرُوا مِنْ عَذَابِ الدُّنْيَا، فَمَنْ لَمْ يُدْرِكْهُ الْأَوَّلُ لِمَوْتِهِ قَبْلَ وُقُوعِهِ لَمْ يُفْلِتْ مِنَ الْآخَرِ.

ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ مَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنَ الْإِجْمَالِ فِي الْمَوْتِ، وَالرُّجُوعِ إِلَى اللهِ لِلْحِسَابِ وَالْجَزَاءِ مُبْتَدِئًا ذَلِكَ بِذِكْرِ قَهْرِهِ لِعِبَادِهِ، وَاسْتِعْلَائِهِ عَلَيْهِمْ، وَإِرْسَالِهِ الْحَفَظَةَ لِإِحْصَاءِ أَعْمَالِهِمْ وَكِتَابَتِهَا عَلَيْهِمْ فَقَالَ:(وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً) بَيَّنَّا مَعْنَى الْجُمْلَةِ الْأَوْلَى بِنَصِّهَا فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ الثَّامِنَةِ عَشْرَةَ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ، وَكَلِمَةُ " فَوْقَ " تُسْتَعْمَلُ - كَمَا قَالَ الرَّاغِبُ - فِي الْمَكَانِ وَالزَّمَانِ وَالْجِسْمِ وَالْعَدَدِ وَالْمَنْزِلَةِ، وَذَلِكَ أَضْرُبٌ ضَرَبَ لَهَا الرَّاغِبُ الْأَمْثِلَةَ، فَ " فَوْقَ " الْعُلْوِيَّةُ يُقَابِلُهُ " تَحْتُ "، وَ " فَوْقَ " الصُّعُودِ يُقَابِلُهُ فِي الْحُدُودِ الْأَسْفَلُ، وَ " فَوْقَ " الْعَدَدِ يُقَابِلُهُ الْقَلِيلُ أَوِ الْأَقَلُّ مِنْهُ، وَ " فَوْقَ " الْحَجْمِ يُقَابِلُهُ الصَّغِيرُ أَوِ الْأَصْغَرُ مِنْهُ، وَ " فَوْقَ " الْمَنْزِلَةِ يَكُونُ بِمَعْنَى الْفَضِيلَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:(وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ)(43: 32)(وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)(2: 212) وَبِمَعْنَى الْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ فِرْعَوْنَ: (وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ)(7: 127) وَبِهِ فَسَّرُوا هَذِهِ الْآيَةَ وَمَا قَبْلَهَا.

وَأَمَّا إِرْسَالُ الْحَفَظَةِ عَلَى النَّاسِ فَمَعْنَاهُ إِرْسَالُهُمْ مُرَاقِبِينَ عَلَيْهِمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ - كَمُرَاقَبَةِ رِجَالِ الْبُولِيسِ السِّرِّيِّ فِي حُكُومَاتِ عَصْرِنَا - مُحْصِينَ لِأَعْمَالِهِمْ

بِكِتَابَتِهَا وَحِفْظِهَا فِي الصُّحُفِ الَّتِي تُنْشَرُ يَوْمَ الْحِسَابِ، وَهِيَ الْمُرَادَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:(وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ)(81: 10) وَهَؤُلَاءِ الْحَفَظَةُ هُمُ الْمَلَائِكَةُ الَّذِينَ قَالَ اللهُ تَعَالَى فِيهِمْ: (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لِحَافِظِينَ كِرَامًا كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ)(82: 10 - 12) وَلَمْ يَرِدْ فِي كَلَامِ اللهِ وَلَا كَلَامِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم بَيَانٌ تَفْصِيلِيٌّ لِصِفَةِ هَذِهِ الْكِتَابَةِ، فَنُؤْمِنُ بِهَا كَمَا نُؤْمِنُ بِكِتَابَةِ اللهِ تَعَالَى لِمَقَادِيرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَلَا نَتَحَكَّمُ فِيهَا بِآرَائِنَا، وَأَمْثَلُ مَا أُوِّلَتْ بِهِ أَنَّهَا عِبَارَةٌ عَنْ تَأْثِيرِ الْأَعْمَالِ فِي النَّفْسِ، وَأَنَّهُ يَكُونُ بِفِعْلِ الْمَلَائِكَةِ. وَقِيلَ: إِنَّ الْحَفَظَةَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ غَيْرُ الْكَاتِبِينَ لِلْأَعْمَالِ، وَهُمُ الْمُعَقِّبَاتُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ الرَّعْدِ:(لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمَنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ)(13: 11) قِيلَ: إِنَّهُمْ مَلَائِكَةٌ يَحْفَظُونَهُ مِنَ الْجِنِّ وَالشَّيَاطِينِ، وَقِيلَ: مِنْ كُلِّ ضَرَرٍ يَكُونُ عُرْضَةً لَهُ لَمْ يَكُنْ مُقَدَّرًا أَنْ يُصِيبَهُ، فَإِذَا جَاءَ الْقَدَرُ تَخَلَّوْا عَنْهُ، وَلَكِنْ لَمْ يَصِحَّ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ يُعْتَدُّ بِهِ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ أَقْوَالٌ أُخْرَى لِأَهْلِ التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ؛ مِنْهَا أَنَّهَا خَاصَّةً بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَنَّهَا نَزَلَتْ

ص: 401

حِينَ أَرَادَ أَرْبَدُ بْنُ قَيْسٍ وَعَامِرُ بْنُ الطُّفَيْلِ قَتْلَهُ، عَلَى أَنْ يُلْهِيَهُ الثَّانِي بِالْحَدِيثِ فَيَقْتُلُهُ الْأَوَّلُ، فَلَمَّا وَضَعَ يَدَهُ عَلَى السَّيْفِ يَبِسَتْ عَلَى قَائِمَتِهِ فَلَمْ يَسْتَطِعْ سَلَّهُ. وَمِنْهَا أَنَّهَا فِي الْكِرَامِ الْكَاتِبِينَ. وَمِنْهَا أَنَّهَا فِي الْأُمَرَاءِ وَالْمُلُوكِ الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْحَرَسَ الْجَلَاوِزَةَ يَحْفَظُونَهُمْ مِمَّنْ يُرِيدُ قَتْلَهُمْ، وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ فِي الْآيَةِ: الْمُلُوكُ يَتَّخِذُونَ الْحَرَسَ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمَامِهِ وَمِنْ خَلْفِهِ وَعَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنَ الْقَتْلِ، أَلَمْ تَسْمَعْ أَنَّ اللهَ تَعَالَى يَقُولُ:(وَإِذَا أَرَادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوءًا 13: 11) لَمْ يُغْنِ الْحَرَسُ عَنْهُ شَيْئًا. وَهَذَا الْمَعْنَى هُوَ الَّذِي يُنَاسِبُ قَوْلَهُ تَعَالَى قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ: (سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ لَهُ مُعَقِّبَاتٌ)(10، 11) الْآيَةَ، وَسَيَأْتِي تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مَحَلِّهِ إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى.

وَلَيْسَ عِنْدَنَا مِنَ الْأَحَادِيثِ الصِّحَاحِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إِلَّا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مَرْفُوعًا " يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ مَلَائِكَةٌ بِاللَّيْلِ وَمَلَائِكَةٌ بِالنَّهَارِ

يَجْتَمِعُونَ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ وَصَلَاةِ الْعَصْرِ، ثُمَّ يَعْرُجُ الَّذِينَ بَاتُوا فِيكُمْ فَيَسْأَلُهُمْ رَبُّهُمْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِهِمْ: كَيْفَ تَرَكْتُمْ عِبَادِي؟ فَيَقُولُونَ: تَرَكْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ، وَأَتَيْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ " وَرُوِيَ بِلَفْظِ " وَالْمَلَائِكَةُ يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ " بِوَاوٍ وَبِغَيْرِ وَاوٍ، لَكِنْ لَمْ يَرِدْ ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ الرَّعْدِ، فَإِذَا كَانَ هَؤُلَاءِ الْمَلَائِكَةُ هُمُ الْحَفَظَةُ الْكَاتِبِينَ فَلَا مَحَلَّ لِاخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ فِي تَجَدُّدِهِمْ وَتُعَاقُبِهِمْ.

وَذَكَرُوا مِنَ الْحِكْمَةِ فِي كِتَابَةِ الْأَعْمَالِ وَحِفْظِهَا عَلَى الْعَامِلِينَ أَنَّ الْمُكَلَّفَ إِذَا عَلِمَ أَنَّ أَعْمَالَهُ تُحْفَظُ عَلَيْهِ وَتُعْرَضُ عَلَى رُءُوسِ الْأَشْهَادِ، كَانَ ذَلِكَ أَزْجَرَ لَهُ عَنِ الْفَوَاحِشِ وَالْمُنْكَرَاتِ، وَأَبْعَثَ لَهُ عَلَى الْتِزَامِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، فَإِنْ لَمْ يَصِلْ إِلَى مَقَامِ الْعِلْمِ الرَّاسِخِ الَّذِي يُثْمِرُ الْخَشْيَةَ لِلَّهِ عز وجل، وَالْمَعْرِفَةَ الْكَامِلَةَ الَّتِي تُثْمِرُ الْحَيَاءَ مِنْهُ سُبْحَانَهُ وَالْمُرَاقَبَةَ لَهُ، يَغْلِبُ عَلَيْهَا الْغُرُورُ بِالْكَرَمِ الْإِلَهِيِّ وَالرَّجَاءِ فِي مَغْفِرَتِهِ وَرَحْمَتِهِ تَعَالَى، فَلَا يَكُونُ لَدَيْهِمْ مِنْ خَشْيَتِهِ وَالْحَيَاءِ مِنْهُ مَا يَزْجُرُهُمْ عَنْ مَعْصِيَتِهِ كَمَا يَزْجُرُهُمْ تَوَقُّعُ الْفَضِيحَةِ فِي مَوْقِفِ الْحِسَابِ عَلَى أَعْيُنِ الْخَلَائِقِ وَأَسْمَاعِهِمْ، وَزَادَ الرَّازِيُّ احْتِمَالَ أَنْ تَكُونَ فَائِدَتُهَا أَنْ تُوزَنَ تِلْكَ الصُّحُفُ؛ لِأَنَّ وَزْنَهَا مُمْكِنٌ وَوَزْنُ الْأَعْمَالِ غَيْرُ مُمْكِنٍ، - كَذَا قَالَ. وَهُوَ احْتِمَالٌ ضَعِيفٌ، بَلْ لَا قِيمَةَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى تَشْبِيهِ وَزْنِ اللهِ لِلْأُمُورِ الْمَعْنَوِيَّةِ بِوَزْنِ الْبَشَرِ لِلْأَثْقَالِ الْجِسْمِيَّةِ.

وَأَمَّا بَيَانُ هَذِهِ الْحِكْمَةِ عَلَى الطَّرِيقَةِ الَّتِي جَرَيْنَا عَلَيْهَا فِي بَيَانِ حِكْمَةِ مَقَادِيرِ الْخَلْقِ فَتُعْلَمُ مِمَّا مَرَّ هُنَالِكَ، وَأَمَّا عَلَى طَرِيقَةِ مَنْ يَقُولُونَ إِنَّ الْمُرَادَ بِكِتَابَةِ الْأَعْمَالِ حِفْظُ صُوَرِهَا وَآثَارِهَا فِي النَّفْسِ، فَهِيَ أَنَّهَا تَكُونُ الْمَظْهَرَ الْأَتَمَّ الْأَجْلَى لِحُجَّةِ اللهِ الْبَالِغَةِ، فَإِذَا وُضِعَ كِتَابُ كُلِّ أَحَدٍ يَوْمَ

ص: 402

الْحِسَابِ وَنُشِرَتْ صُحُفُهُ الْمَطْوِيَّةُ فِي سَرِيرَةِ نَفْسِهِ تُعْرَضُ عَلَيْهِ أَعْمَالَهُ فِيهَا بِصُوَرِهَا وَمَعَانِيهَا فَتَتَمَثَّلُ لِذَاكِرَتِهِ وَلِحِسِّهِ الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ كَمَا عَمِلَهَا فِي الدُّنْيَا لَا يَفُوتُهُ شَيْءٌ مِنْ صِفَاتِهَا الْحِسِّيَّةِ وَلَا الْمَعْنَوِيَّةِ - كَاللَّذَّةِ وَالْأَلَمِ - فَيَكُونُ حَسِيبًا عَلَى نَفْسِهِ، وَعَلَى عَيْنِ الْيَقِينِ مِنْ عَدْلِ اللهِ وَفَضْلِهِ: (وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ

وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا) (17: 13، 14) . (وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَا لِهَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا 18: 49) .

(حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ) قَرَأَ حَمْزَةُ (تَوَفَّاهُ) بِأَلِفٍ مُمَالَةٍ بَعْدَ الْفَاءِ، وَالْبَاقُونَ (تَوَفَّتْهُ) بِالتَّاءِ بَعْدَ الْفَاءِ، وَرَسْمُهُمَا فِي مُصْحَفِ الْإِمَامِ وَاحِدٌ هَكَذَا (تَوَفَّتْهُ) لِأَنَّ الْأَلْفَ رُسِمَتْ يَاءً كَأَصْلِهَا، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى يُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً مِنَ الْمَلَائِكَةِ يُرَاقِبُونَكُمْ وَيُحْصُونَ عَلَيْكُمْ أَعْمَالَكُمْ مُدَّةَ حَيَاتِكُمْ، حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ وَانْتَهَى عَمَلُهُ تَوَفَّتْهُ أَيْ فَبَضَتْ رُوحَهُ رُسُلُنَا الْمُوَكَّلُونَ بِذَلِكَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَهَؤُلَاءِ الرُّسُلُ هُمْ أَعْوَانُ مَلَكِ الْمَوْتِ الَّذِي قَالَ اللهُ فِيهِ:(قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ 32: 11) فَالْأَرْوَاحُ أَصْنَافٌ كَثِيرَةٌ، لِكُلٍّ مِنْهَا مُسْتَقَرٌّ فِي الْبَرْزَخِ يَلِيقُ بِهِ، وَلِلْمَوْتِ أَصْنَافٌ كَثِيرَةٌ، لِكُلٍّ مِنْهَا سُنَنٌ وَنِظَامٌ فِي الْحَيَاةِ خَاصٌّ بِهِ فَقَبْضُ الْأُلُوفِ مِنَ الْأَرْوَاحِ فِي كُلِّ لَحْظَةٍ، وَوَضْعُهَا فِي الْمَوَاضِعِ اللَّائِقَةِ بِهَا عَمَلٌ عَظِيمٌ وَاسِعُ النِّطَاقِ، يَقُومُ بِإِدَارَتِهِ وَنِظَامِهِ رُسُلٌ كَثِيرُونَ وَكُلُّ عَمَلٍ مُنَظَّمٍ لَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ لَهُ جِهَةً وَاحِدَةً هِيَ مَكَانُ الرِّيَاسَةِ وَالنِّظَامِ مِنْهُ، وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ مَلَكِ الْمَوْتِ، أَهُوَ وَحْدَهُ الَّذِي يَقْبِضُ الْأَرْوَاحَ؟ قَالَ: هُوَ الَّذِي يَلِي أَمْرَ الْأَرْوَاحِ، وَلَهُ أَعْوَانٌ عَلَى ذَلِكَ، وَقَرَأَ الْآيَةَ ثُمَّ قَالَ: غَيْرَ أَنَّ مَلَكَ الْمَوْتِ هُوَ الرَّئِيسُ إِلَخْ. وَرُوِيَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ وَمُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ: أَنَّ الْأَعْوَانَ يَقْبِضُونَ الْأَرْوَاحَ مِنَ الْأَبْدَانِ ثُمَّ يَدْفَعُونَهَا إِلَى مَلَكِ الْمَوْتِ، فَكُلٌّ مِنْهُمَا مُتَوَفٍّ، وَعَنِ الْكَلْبِيِّ أَنَّ مَلَكَ الْمَوْتِ هُوَ الَّذِي يَتَوَلَّى الْقَبْضَ بِنَفْسِهِ وَيَدْفَعُهَا إِلَى الْأَعْوَانِ، فَإِنْ كَانَ الْمَيِّتُ مُؤْمِنًا دَفَعَهَا إِلَى مَلَائِكَةِ الرَّحْمَةِ، وَإِنْ كَانَ كَافِرًا دَفَعَهَا إِلَى مَلَائِكَةِ الْعَذَابِ، أَيْ وَهُمْ يَذْهَبُونَ بِالْأَرْوَاحِ إِلَى حَيْثُ يُوَجِّهُهُمْ بِأَمْرِ اللهِ تَعَالَى.

وَقَدْ أُسْنِدَ التَّوَفِّيَ إِلَى اللهِ تَعَالَى فِي آيَةِ الزُّمَرِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا فِي أَوَّلِ تَفْسِيرِ الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَ هَذِهِ (ص 399) إِمَّا عَلَى أَنَّهُ هُوَ الْآمِرُ لِمَلَكِ الْمَوْتِ وَلِأَعْوَانِهِ جَمِيعًا بِذَلِكَ - وَهُوَ مَا صَرَّحُوا بِهِ - وَإِمَّا عَلَى أَنَّهُ هُوَ الْفَاعِلُ الْحَقِيقِيُّ وَالْمُسَخِّرُ لِمَلَكِ الْمَوْتِ وَأَعْوَانِهِ، فَهُمْ

بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ، وَبِتَسْخِيرِهِ يَتَصَرَّفُونَ، لَا يَعْتَدُونَ فِي تَنْفِيذِ إِرَادَتِهِ وَلَا يُفَرِّطُونَ، وَالتَّفْرِيطُ التَّقْصِيرُ بِنَحْوِ التَّوَانِي وَالتَّأْخِيرِ، وَتَقَدَّمَ مَعْنَاهُ فِي تَفْسِيرِ (مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ 38) وَقَرَأَ الْأَعْرَجُ

ص: 403

(يُفْرِطُونَ) مِنَ الْإِفْرَاطِ الْمُقَابِلِ لِلتَّفْرِيطِ، أَيْ لَا يَتَجَاوَزُونَ وَلَا يَعْتَدُونَ فِيهِ، وَمَعْنَاهُ صَحِيحٌ. وَلَكِنَّ الْحَاجَةَ إِلَى نَفْيِ الْإِفْرَاطِ غَيْرُ قَوِيَّةٍ، وَالْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى عِصْمَةِ الْمَلَائِكَةِ كَمَا قَالَ الْمُفَسِّرُونَ.

(ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ) الظَّاهِرُ الْمُتَبَادِرُ أَنَّ الْمَعْنَى: ثُمَّ يُرَدُّ أُولَئِكَ الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الرُّسُلُ إِلَى اللهِ الَّذِي هُوَ مَوْلَاهُمُ الْحَقُّ لِيُحَاسِبَهُمْ وَيُجَازِيهِمْ عَلَى أَعْمَالِهِمْ، فَيَكُونُ بِمَعْنَى آيَةِ (الم السَّجْدَةِ) (32: 11) الَّتِي تَقَدَّمَتْ آنِفًا. وَقِيلَ: إِنَّ الْمَعْنَى: ثُمَّ يُرَدُّ أُولَئِكَ الرُّسُلُ إِلَى رَبِّهِمْ بَعْدَ إِتْمَامِ مَا وُكِّلَ إِلَيْهِمْ بِمَوْتِ جَمِيعِ النَّاسِ، فَيَمُوتُونَ هُمْ أَيْضًا، ذَكَرَهُ الرَّازِيُّ، وَهُوَ ضَعِيفٌ مِنْ وُجُوهٍ مِنْهَا مُخَالَفَتُهُ لِآيَةِ السَّجْدَةِ، وَمِنْهَا أَنَّ الْكَلَامَ فِي الْبَشَرِ وَبَيَانِ الدَّيْنِ لَهُمْ وَإِقَامَةِ حُجَجِهِ عَلَيْهِمْ، وَمِنْهَا أَنَّ الْحِسَابَ الَّذِي خُتِمَتْ بِذِكْرِهِ الْآيَةُ حِسَابُ الْبَشَرِ لَا حِسَابُ مَلَكِ الْمَوْتِ وَأَعْوَانِهِ.

وَفِي الْجُمْلَةِ مَبَاحِثُ لَفْظِيَّةٌ وَمَعْنَوِيَّةٌ يَتَّضِحُ بِهَا مَا فِيهَا مِنَ الْبَلَاغَةِ.

(الْأَوَّلُ) أَنَّ فِي الْكَلَامِ الْتِفَاتًا مِنَ الْخِطَابِ إِلَى الْغَيْبَةِ؛ لِأَنَّ مَا قَبْلَهُ خِطَابٌ مِنْهُ سُبْحَانَهُ لِلْمُكَلَّفِينَ. وَالْتِفَاتًا آخَرَ مِنَ التَّكَلُّمِ إِلَى الْغَيْبَةِ، وَإِلَّا لَقَالَ: ثُمَّ رَدَدْنَاكُمْ أَوْ: رَدَدْنَاهُمْ - عَلَى الِالْتِفَاتِ - إِلَخْ. وَنُكْتَةُ الِالْتِفَاتِ تُفْهَمُ مِنَ الْمَبَاحِثِ الْأُخْرَى.

(الثَّانِي) أَنَّهُ جَعَلَ فِعْلَ الرَّدِّ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ؛ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ لَهُ تَعَالَى رُسُلًا أُخْرَى - وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ غَيْرُ رُسُلِ الْمَوْتِ وَرُسُلِ الْحِفْظِ - يَرُدُّونَ الْعِبَادَ إِلَيْهِ بَعْدَ الْبَعْثِ عِنْدَمَا يَحْشُرُونَهُمْ بِأَمْرِهِ لِلْحِسَابِ وَالْجَزَاءِ، وَهَذِهِ أَظْهَرُ نُكَتِ الِالْتِفَاتِ.

(الثَّالِثُ) ذَهَبَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: (رُدُّوا) لِلْكُلِّ الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ بِأَحَدٍ مِنْ قَوْلِهِ: (إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ) وَأَنَّ هَذَا هُوَ السِّرُّ فِي مَجِيئِهِ بِطَرِيقِ الِالْتِفَاتِ وَالْإِفْرَادِ أَوَّلًا وَالْجَمْعِ آخِرًا، لِوُقُوعِ التَّوَفِّي عَلَى الْإِفْرَادِ وَالرَّدِّ عَلَى الْجُمْلَةِ وَالْمَجْمُوعِ. وَنَحْنُ نَرَى أَنَّهُ لَا حَاجَةَ إِلَى تَكَلُّفِ الْقَوْلِ بِرُجُوعِهِ إِلَى الْكُلِّ الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ بِأَحَدٍ، وَالِالْتِفَاتُ عِبَارَةٌ عَنْ جَعْلِ ضَمِيرِ الْخِطَابِ الَّذِي لِلْجَمَاعَةِ ضَمِيرَ غِيبَةٍ لَهُمْ.

(الرَّابِعُ) أَنَّ هَذَا الرَّدَّ يَكُونُ بَعْدَ الْبَعْثِ، فَكَانَ الْأَصْلُ أَنْ يُعَبَّرَ عَنْهُ بِفِعْلِ

الِاسْتِقْبَالِ كَمَا فِي آيَةِ السَّجْدَةِ (ثُمَّ تُرَدُّونَ) وَعَبَّرَ هُنَا بِالْمَاضِي لِإِفَادَةِ تَحْقِيقِ الْوُقُوعِ حَتَّى كَأَنَّهُ وَقَعَ وَانْقَضَى.

(الْخَامِسُ) مِنْ فَوَائِدِ الِالْتِفَاتِ مِنَ التَّكَلُّمِ إِلَى الْغَيْبَةِ ذِكْرُ اسْمِ الْجَلَالَةِ وَوَصْفُهُ بِمَا وُصِفَ بِهِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ تَأْثِيرَهُ فِي النَّفْسِ هُنَا أَعْظَمُ مِنْ تَأْثِيرِ ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ

ص: 404

(السَّادِسُ) قَالُوا: إِنَّ الرَّدَّ إِلَى اللهِ هُوَ الرَّدُّ إِلَى حُكْمِهِ وَقَضَائِهِ وَحِسَابِهِ وَجَزَائِهِ، أَوْ إِلَى مَوْقِفِ الْحِسَابِ، وَمَكَانِ الْعَرْضِ وَالسُّؤَالِ؛ لِأَنَّ الرَّدَّ إِلَى ذَاتِهِ غَيْرُ مَعْقُولٍ وَغَيْرُ مُمْكِنٍ، وَهَذَا التَّعْلِيلُ لَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْعَرَبِيُّ الْقُحُّ لِفَهْمِ مَا ذُكِرَ مِنَ الْآيَةِ، وَلَا الدَّخِيلُ فِي الْعَرَبِيَّةِ إِلَّا مَنْ كَانَ مُطَّلِعًا عَلَى مَذْهَبِ غُلَاةِ أَهَلِ الْوَحْدَةِ، وَلَوْ صَحَّ مَذْهَبُهُمْ لَكَانَ سِيَاقُ الْكَلَامِ مَانِعًا أَنْ يَكُونَ مُرَادًا مِنَ الْعِبَارَةِ كَمَا يَمْنَعُهُ مِنْ أُسْلُوبِهِ وَصْفُ اسْمِ الذَّاتِ بِمَا وُصِفَ بِهِ، وَمَا خُتِمَتْ بِهِ الْآيَةُ وَهَاكَ بَيَانُهُ:

(السَّابِعُ) أَنَّ وَصْفَ الِاسْمِ الْكَرِيمِ بِمَوْلَاهُمُ الْحَقِّ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ رَدَّهُمْ إِلَيْهِ حَتْمٌ؛ لِأَنَّهُ هُوَ سَيِّدُهُمُ الْحَقُّ الَّذِي يَتَوَلَّى أُمُورَهُمْ وَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ. وَالْحَقُّ فِي اللُّغَةِ هُوَ الثَّبَاتُ الْمُتَحَقِّقُ، وَهَذَا الْوَصْفُ لَا يَتَحَلَّى بِهِ أَحَدٌ مِنَ الْخَلْقِ إِلَّا عَلَى سَبِيلِ الْعَارِيَةِ الْمُؤَقَّتَةِ، فَمَا كَانَ مِنْ تَوَلِّي بَعْضِ الْعِبَادِ أُمُورَ بَعْضٍ بِمَلْكِ الرَّقَبَةِ، أَوْ مَلْكِ التَّصَرُّفِ وَالسِّيَاسَةِ - فَمِنْهُ مَا هُوَ بَاطِلٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَمِنْهُ مَا هُوَ بَاطِلٌ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ مَوْقُوتٌ لَا ثَبَاتَ وَلَا بَقَاءَ لَهُ، وَحَقٌّ مِنْ حَيْثُ إِنَّ مَوْلَاهُمُ الْحَقُّ أَقَرَّهُ فِي سُنَنِهِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ أَوْ شَرَائِعِهِ الْمُنَزَّلَةِ لِمَصْلَحَةِ الْعِبَادِ الْعَارِضَةِ مُدَّةَ حَيَاتِهِمُ الدُّنْيَا، فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ اللهَ عز وجل هُوَ مَوْلَاهُمُ الْحَقُّ وَحْدَهُ، وَمَا كَانَ مِنْ وِلَايَةِ غَيْرِهِ الْبَاطِلَةِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ أَوِ الْبَاطِلَةِ فِي ذَاتِهَا دُونَ صُورَتِهَا الْمُؤَقَّتَةِ فَقَدْ زَالَ كُلُّ ذَلِكَ بِزَوَالِ عَالَمِ الدُّنْيَا وَبَقِيَ الْمَوْلَى الْحَقُّ وَحْدَهُ، كَمَا زَالَ كُلُّ مَلِكٍ وَمُلْكٍ صُورِيَّيْنِ كَانَا لِلْخَلْقِ فِي هَذَا الْعَالَمِ، وَصَارُوا إِلَى يَوْمٍ لَا تَمْلِكُ فِيهِ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا (س 82: 19) وَظَهَرَ يَوْمَئِذٍ أَنَّ الْمِلْكَ الصُّورِيَّ وَالْحَقِيقِيَّ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (س 40: 16) وَكُلُّ هَذَا مُبْطِلٌ لِخَيَالِ وَحْدَةِ الْوُجُودِ، وَكَذَا مَا بَعْدَهُ وَهُوَ (أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ)" أَلَا " حَرْفُ اسْتِفْتَاحٍ يُذْكَرُ فِي أَوَّلِ الْكَلَامِ لِتَنْبِيهِ الْمُخَاطَبِ لِمَا بَعْدَهُ إِذَا كَانَ مُهِمًّا؛ لِئَلَّا يَفُوتُهُ مِنْهُ شَيْءٌ، وَقَوْلُهُ:(لَهُ الْحُكْمُ) يُفِيدُ الْحَصْرَ، أَيْ لَهُ الْحُكْمُ وَحْدَهُ لَيْسَ لِغَيْرِهِ مِنْهُ شَيْءٌ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، لَا عَلَى سَبِيلِ

الصُّورَةِ وَالْإِضَافَةِ الْمُؤَقَّتَةِ وَلَا عَلَى سَبِيلِ الْحَقِيقَةِ (إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ 27: 78)(وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِ)(42: 10)(قُلِ اللهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ 39: 46) وَالْآيَاتُ فِي هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ. وَفَسَّرَ كَوْنَهُ تَعَالَى أَسْرَعَ الْحَاسِبِينِ بِأَنَّهُ يُحَاسِبُ الْعِبَادَ كُلَّهُمْ فِي أَسْرَعِ زَمَنٍ وَأَقْصَرِهِ لَا يَشْغَلُهُ حِسَابُ أَحَدٍ عَنْ حِسَابِ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَشْغَلُهُ شَأْنٌ عَنْ شَأْنٍ، فَاسْمُ التَّفْضِيلِ فِيهِ عَلَى غَيْرِ بَابِهِ؛ إِذْ لَا مُحَاسِبَ هُنَالِكَ غَيْرُهُ، أَوْ هُوَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُحَاسَبِينَ أَوِ الْحَاسِبِينَ فِي غَيْرِ الْآخِرَةِ، وَلَفْظُ الْحَاسِبِينَ اسْمُ الْفَاعِلِ مِنْ حَسَبَ الثُّلَاثِيِّ لَا مِنْ حَاسَبَ، وَالْحِسَابُ مَصْدَرٌ لِكُلٍّ مِنْهُمَا، يُقَالُ: حَسَبَهُ حَسْبًا وَحِسَابًا وَحَاسَبَهُ مُحَاسَبَةً وَحِسَابًا، وَالْمُحَاسَبَةُ أَوِ الْحِسَابُ فِي الْمُعَامَلَةِ مَبْنِيٌّ عَلَى الْحَسْبِ وَالْحِسَابِ الَّذِي هُوَ الْعَدُّ وَالْإِحْصَاءُ، لِأَنَّ الْمُحَاسِبَ

ص: 405

يُحْصِي عَلَى مَنْ يُحَاسِبُهُ الْعَدَدَ فِي الْمَالِ، أَوْ مَا نِيطَ بِهِ مِنَ الْأَعْمَالِ. وَالْمُرَادُ هُنَا أَنَّهُ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ إِحْصَاءً لِلْأَعْمَالِ وَمُحَاسَبَةً عَلَيْهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ (وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ) (2: 202) فَيُرَاجَعُ فِي ج 2 مِنَ التَّفْسِيرِ.

(قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لِنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ قُلِ اللهُ يُنْجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ) .

أَمَرَ اللهُ تَعَالَى رَسُولَهُ فِي الْآيَاتِ السَّابِقَةِ أَنْ يُبَيِّنَ لِعِبَادِهِ إِحَاطَةَ عِلْمِهِ وَشُمُولَ قُدْرَتِهِ، وَاسْتِعْلَاءَهُ عَلَيْهِمْ بِالْقَهْرِ، وَحِفْظَهُ أَعْمَالَهُمْ عَلَيْهِمْ، وَكَوْنَهُ هُوَ مَوْلَاهُمُ الْحَقَّ الَّذِي يُحَاسِبُهُمْ وَيُجَازِيهِمْ عَلَيْهَا بَعْدَ أَنْ يُمِيتَهُمْ ثُمَّ يَبْعَثَهُمْ. ثُمَّ أَمَرَهُ بِهَذَا الْقَوْلِ أَنْ يُذَكِّرَهُمْ بِشَيْءٍ يَجِدُونَهُ فِي أَنْفُسِهِمْ وَيَقُولُونَهُ بِأَفْوَاهِهِمْ، وَيَغْفُلُونَ عَمَّا يَسْتَلْزِمُهُ مِنْ كَوْنِ اللهِ تَعَالَى هُوَ مَوْلَاهُمُ الْحَقَّ الَّذِي يَجِبُ تَوْحِيدُهُ وَإِفْرَادُهُ بِالْعِبَادَةِ، وَلَا سِيَّمَا مَظْهَرَهَا الْأَعْلَى وَهُوَ الدُّعَاءُ فِي الرَّخَاءِ كَالدُّعَاءِ فِي الشِّدَّةِ، فَقَالَ:

(قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً) ظُلُمَاتُ الْبَرِّ

وَالْبَحْرِ قِسْمَانِ: ظُلُمَاتٌ حِسِّيَّةٌ كَظُلْمَةِ اللَّيْلِ وَظُلْمَةِ السَّحَابِ وَظُلْمَةِ الْمَطَرِ، وَظُلُمَاتٌ مَعْنَوِيَّةٌ كَظُلْمَةِ الْجَهْلِ بِالطُّرُقِ وَالْمَسَالِكِ، وَظُلْمَةُ فَقْدِ الصُّوَى وَالْمَنَارِ، أَوِ اشْتِبَاهِ الْأَعْلَامِ وَالْآثَارِ، وَظُلْمَةُ الشَّدَائِدِ وَالْأَخْطَارِ، كَالْعَوَاطِفِ وَالْأَعَاصِيرِ وَهِيَاجِ الْبِحَارِ، أَوْ مُسَاوَرَةِ الْأَفَاعِي وَالسِّبَاعِ، أَوْ مُكَافَحَةِ الْعَدَدِ الْكَثِيرِ مِنَ الْأَعْدَاءِ، وَتَسْمِيَةُ هَذِهِ الْأُمُورِ الْمَعْنَوِيَّةِ ظُلُمَاتٍ مِنَ الْمَجَازِ كَتَسْمِيَةِ الْجَهْلِ وَالْكُفْرِ وَالضَّلَالِ بِذَلِكَ - وَهُوَ كَثِيرٌ فِي التَّنْزِيلِ - وَنَقَلُوا أَنَّهُ قِيلَ لِلْيَوْمِ الشَّدِيدِ يَوْمٌ مُظْلِمٌ وَيَوْمٌ ذُو كَوَاكِبَ. وَأَقُولُ: لَا يَصِحُّ إِطْلَاقُ الظُّلْمَةِ عَلَى كُلِّ شِدَّةٍ، بَلْ عَلَى الشِّدَّةِ الَّتِي لَهَا عَاقِبَةً سَيِّئَةً مَجْهُولَةً تُخْشَى وَلَا تُعْلَمُ، فَهُوَ يَرْجِعُ إِلَى مَعْنَى الْجَهْلِ. وَالتَّضَرُّعُ: الْمُبَالَغَةُ فِي الضَّرَاعَةِ وَهِيَ الذُّلُّ وَالْخُضُوعُ، وَقَالَ الرَّاغِبُ: هُوَ إِظْهَارُ الضَّرَاعَةِ بَعْدَ أَنْ فَسَّرَهَا بِالضَّعْفِ وَالذُّلِّ، وَالْإِظْهَارُ قَدْ يَكُونُ إِظْهَارُ مَا هُوَ وَاقِعٌ وَقَدْ يَكُونُ إِظْهَارُ مَا هُوَ غَيْرُ وَاقِعٍ عَلَى سَبِيلِ الرِّيَاءِ، وَالْمُرَادُ بِالتَّضَرُّعِ هُنَا مَا هُوَ صَادِرٌ عَنِ الْإِخْلَاصِ الَّذِي يُثِيرُهُ الْإِيمَانُ الْفِطْرِيُّ الْمَطْوِيُّ فِي أَنْفُسِ الْبَشَرِ. وَالْخُفْيَةُ - بِالضَّمِّ وَالْكَسْرِ - الْخَفَاءُ وَالِاسْتِتَارُ، فَإِذَا كَانَ التَّضَرُّعُ إِظْهَارُ الْحَاجَةِ إِلَى اللهِ تَعَالَى، وَالتَّذَلُّلُ لَهُ بِالْجَهْرِ وَالدُّعَاءِ، وَرَفْعُ الصَّوْتِ بِهِ مَعَ الْبُكَاءِ - فَالْخُفْيَةُ فِي الدُّعَاءِ عِبَارَةٌ عَنْ

ص: 406

إِسْرَارِهِ هَرَبًا مِنَ الرِّيَاءِ، وَهَاتَانِ حَالَتَانِ تَعْرِضَانِ لِلْإِنْسَانِ عِنْدَ شُعُورِهِ بِالْحَاجَةِ إِلَى اللهِ تَعَالَى وَيَأْسِهِ مِنَ الْأَسْبَابِ؛ تَارَةً يَجْأَرُ بِالدُّعَاءِ رَافِعًا صَوْتَهُ مُتَضَرِّعًا مُبْتَهِلًا، وَتَارَةً يُسِرُّ الدُّعَاءَ وَيُخْفِيهِ مُخْلِصًا مُحْتَسِبًا، وَيَتَحَرَّى أَلَّا تَسْمَعَهُ أُذُنٌ، وَلَا يَعْلَمَ بِهِ أَحَدٌ، وَيَرَى أَنَّهُ يَكُونُ بِذَلِكَ أَجْدَرَ بِالْقَبُولِ، وَأَرْجَى لِنِيلِ السُّؤْلَ، وَالْمَعْنَى: قُلْ أَيُّهَا الرَّسُولُ لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ الْغَافِلِينَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ وَمَا أُودِعَ مِنْ آيَاتِ التَّوْحِيدِ فِي أَعْمَالِ فِطْرَتِهِمْ: مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ الْحِسِّيَّةِ وَالْمَعْنَوِيَّةِ عِنْدَمَا تَغْشَاكُمْ فِي أَسْفَارِكُمْ حَالَ كَوْنِكُمْ تَدْعُونَهُ عِنْدَ وُقُوعِكُمْ فِي كُلِّ ظُلْمَةٍ مِنْهَا دُعَاءَ تَضَرُّعٍ وَدُعَاءَ خُفْيَةٍ قَائِلِينَ: (لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لِنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ) أَيْ مُقْسِمِينَ هَذَا الْقَسَمَ فِي دُعَائِكُمْ: لَئِنْ أَنْجَانَا اللهُ مِنْ هَذِهِ الظُّلْمَةِ أَوِ الدَّاهِيَةِ الْمُظْلِمَةِ لِنَكُونَنَّ مِنَ الْمُتَّصِفِينَ بِالشُّكْرِ الدَّائِمِ لَهُ، الْمُنْتَظِمِينَ فِي سِلْكِ أَهْلِهِ، وَفِي قِرَاءَةٍ (لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا) بِالْخِطَابِ وَسَيَأْتِي.

(قُلِ اللهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ) الْكَرْبُ: الْغَمُّ الشَّدِيدُ،

مَأْخُوذٌ مِنْ كَرْبِ الْأَرْضَ، وَهُوَ إِثَارَتُهَا وَقَلْبُهَا بِالْحَفْرِ، إِذِ الْغَمُّ يُثِيرُ النَّفْسَ كَذَلِكَ، أَوْ مِنَ الْكَرَبِ (بِالتَّحْرِيكِ) وَهُوَ الْعِقْدُ الْغَلِيظُ فِي رِشَاءِ الدَّلْوِ (حَبْلُهُ) وَقَدْ يُوصَفُ الْغَمُّ بِأَنَّهُ عُقْدَةٌ عَلَى الْقَلْبِ، أَيْ لِمَا يَشْعُرُ بِهِ الْمَغْمُومُ مِنَ الضَّغْطِ عَلَى قَلْبِهِ وَالضِّيقِ فِي صَدْرِهِ، أَوْ مِنْ أَكْرَبْتُ الدَّلْوَ إِذَا مَلَأْتَهُ - أَفَادَهُ الرَّاغِبُ. وَالْمَعْنَى أَنَّ اللهَ يُنْجِيكُمُ الْمَرَّةَ بَعْدَ الْمَرَّةِ مِنْ تِلْكَ الظُّلُمَاتِ وَمَنْ كُلِّ كَرْبٍ يَعْرِضُ لَكُمْ، ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ بِهِ غَيْرَهُ بَعْدَ النَّجَاةِ أَقْبَحَ الشِّرْكِ مُخْلِفِي وَعْدَكُمْ لَهُ بِالشُّكْرِ، حَانِثِينَ بِمَا وَكَّدْتُمُوهُ بِهِ مِنَ الْيَمِينِ، مُوَاظِبِينَ عَلَى هَذَا الشِّرْكِ مُسْتَمِرِّينَ، لَا تَكَادُونَ تَنْسَوْنَهُ إِلَّا عِنْدَ ظُلْمَةِ الْخَطْبِ، وَشَدَّةِ الْكَرْبِ. وَأَجْلَى شِرْكِكُمْ أَنَّكُمْ تَدْعُونَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللهِ وَتُسْنِدُونَ إِلَيْهِمُ الْأَعْمَالَ إِنْ لَمْ يَكُنْ بِالِاسْتِقْلَالِ فَبِالشَّفَاعَةِ عِنْدَ اللهِ، حَتَّى إِنَّكُمْ لَا تَسْتَثْنَوْنَ مِنْهَا تِلْكَ النَّجَاةَ، وَهَذِهِ الْحُجَّةُ مِنْ أَبْلَغِ الْحُجَجِ لِمَنْ تَأَمَّلَهَا، وَلِذَلِكَ تَكَرَّرَ فِي التَّنْزِيلِ ذِكْرُهَا، وَطَالَمَا ذَكَرْنَاهَا فِي آيَاتِ التَّوْحِيدِ وَدَلَائِلِهِ، وَأَقْرَبُ بَسْطٍ لَهَا مَا أَوْرَدْنَاهُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَتَيْنِ (40) ، وَ (41) مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ، وَفِيهِ شَوَاهِدُ بِمَعْنَى هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ.

قَرَأَ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ (يُنَجِّيكُمْ) بِالتَّشْدِيدِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ؛ مِنَ التَّنْجِيَةِ، وَالْبَاقُونَ بِالتَّخْفِيفِ فِيهِمَا؛ مِنَ الْإِنْجَاءِ وَهُمَا لُغَتَانِ فِي تَعْدِيَةٍ نَجَا يَنْجُو، يُقَالُ: نَجَّاهُ وَأَنْجَاهُ، وَنَطَقَ بِهِمَا الْقُرْآنُ فِي غَيْرِ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ أَيْضًا، وَلَكِنْ فِي التَّشْدِيدِ مِنَ الْمُبَالَغَةِ وَالدَّلَالَةِ عَلَى التَّكْرَارِ مَا لَيْسَ فِي التَّخْفِيفِ، وَقَرَأَ عَاصِمٌ فِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ (خِفْيَةً) بِكَسْرِ الْخَاءِ وَالْبَاقُونَ بِضَمِّهَا وَهُمَا لُغَتَانِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَقَرَأَ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ (أَنْجَانَا) عَلَى الْغَيْبَةِ، فَعَاصِمٌ فَخَّمَهَا وَالْآخَرُونَ قَرَءُوهَا بِالْإِمَالَةِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ (أَنْجَيْتَنَا) عَلَى الْخِطَابِ، وَهِيَ مَرْسُومَةٌ فِي الْمُصْحَفِ الْإِمَامِ هَكَذَا (أَنْجَيْنَا) وَقِرَاءَةُ الْغَيْبَةِ أَقْوَى مُنَاسَبَةً لِلَّفْظِ، وَالْخِطَابُ أَشَدُّ تَأْثِيرًا فِي النَّفْسِ.

ص: 407

(قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ وَكَذَّبَ بِهِ

قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ لِكُلِّ نَبَأٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) .

ذَكَّرَ اللهُ تَعَالَى هَؤُلَاءِ النَّاسَ فِي الْآيَتَيْنِ السَّابِقَتَيْنِ بِبَعْضِ آيَاتِهِ فِي أَنْفُسِهِمْ، وَمِنَّتِهِ عَلَيْهِمْ فِي وَقَائِعِ أَحْوَالِهِمُ الَّتِي يَشْعُرُ بِهَا كُلُّ مَنْ وَقَعَتْ لَهُ مِنْهُمْ، وَكَوْنِهِ هُوَ الَّذِي يُنْجِيهِمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ وَالْكُرُوبِ وَالْأَهْوَالِ وَالْخُطُوبِ، إِمَّا بِتَسْخِيرِ الْأَسْبَابِ، وَإِمَّا بِدَقَائِقِ اللُّطْفِ وَالْإِلْهَامِ، ثُمَّ قَالَ:

(قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ) فَهَذَا تَذْكِيرٌ بِقُدْرَتِهِ عَلَى تَعْذِيبِهِمْ إِثْرَ التَّذْكِيرِ بِقُدْرَتِهِ عَلَى تَنْجِيَتِهِمْ، لَا فَرْقَ فِيهِمَا بَيْنَ أَفْرَادِهِمْ وَبَيْنَ مَجْمُوعِهِمْ وَجُمْلَتِهِمْ، وَإِنْذَارٌ بِأَنَّ عَاقِبَةَ كُفْرِ النِّعَمِ أَنْ تَزُولَ وَتَحِلَّ مَحَلَّهَا النِّقَمُ. وَالْمَعْنَى: قُلْ أَيُّهَا الرَّسُولُ لِقَوْمِكَ وَمَنْ وَرَاءَهُمْ مِنَ الْكَافِرِينَ بِنِعَمِ اللهِ، الَّذِينَ يُشْرِكُونَ بِهِ سِوَاهُ، وَلَا يَشْكُرُونَ لَهُ مَا مَنَّ بِهِ مِنَ النِّعَمِ وَأَسْدَاهُ، وَمِنَ الَّذِينَ يَتَنَكَّبُونَ سُنَنَ اللهِ، وَيَخْتَلِفُونَ فِي الْكِتَابِ بَعْدَ أَنْ هَدَاهُمْ بِهِ اللهُ: هُوَ اللهُ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يُثِيرَ وَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا تَجْهَلُونَ كُنْهَهُ فَيَصُبَّهُ عَلَيْكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ، أَوْ يُثِيرَهُ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ، أَوْ يَلْبِسَكُمْ وَيَخْلُطَكُمْ فِرَقًا وَشِيَعًا، مُخْتَلِفِينَ عَلَى أَهْوَاءٍ شَتَّى، كُلُّ فِرْقَةٍ مِنْكُمْ تُشَايِعُ إِمَامًا فِي الدِّينِ، أَوْ تَتَعَصَّبُ لِمَلِكٍ أَوْ رَئِيسٍ، وَيُذِيقُ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ وَهُوَ مَا عِنْدَهُ مِنَ الشِّدَّةِ وَالْمَكْرُوهِ فِي السِّلْمِ وَالْحَرْبِ. وَقَالَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ بَعْدَ تَفْسِيرِ اللَّبْسِ بِالْخَلْطِ: وَمَعْنَى خَلَطَهُمْ: أَنْ يُنْشِبَ الْقِتَالَ بَيْنَهُمْ فَيَخْتَلِطُوا وَيَشْتَبِكُوا فِي مَلَاحِمِ الْقِتَالِ مِنْ قَوْلِهِ:

وَكَتِيبَةٍ لَبَّسْتُهَا بِكَتِيبَةٍ

حَتَّى إِذَا الْتَبَسَتْ نَفَضْتُ لَهَا يَدِي.

أَقُولُ: وَأَصْلُ مَعْنَى اللَّبْسِ التَّغْطِيَةُ، كَاللِّبَاسِ، وَهَذَا التَّفْرِيقُ وَالِاخْتِلَافُ بَيْنَ الشِّيَعِ كَالْغِطَاءِ، يَسْتُرُ عَنْ كُلِّ شِيعَةٍ مَا عَلَيْهِ الْأُخْرَى مِنَ الْحَقِّ، وَمَا فِي الِاتِّفَاقِ مَعَهَا مِنَ الْمَصْلَحَةِ وَالْخَيْرِ،

ص: 408

وَلِمَادَّةِ (ش ي ع) ثَلَاثَةُ مَعَانٍ أَصْلِيَّةٍ فِي اللُّغَةِ (أَحَدُهَا) الِانْتِشَارُ وَالتَّفَرُّقُ، وَمِنْهُ شَاعَ وَأَشَاعَ الْأَخْبَارَ، وَطَارَتْ نَفْسُهُ شُعَاعًا. (ثَانِيهَا) الِاتِّبَاعُ وَالدَّعْوَةُ إِلَيْهِ، وَمِنَ الْأَوَّلِ تَشْيِيعُ الْمُسَافِرِ وَتَشْيِيعُ الْجِنَازَةِ، وَمِنَ الثَّانِي قَوْلُهُمْ: أَشَاعَ بِالْإِبِلِ، أَيْ دَعَاهَا إِذَا اسْتَأْخَرَ بَعْضَهَا

لِيَتْبَعَ بَعْضُهَا بَعْضًا. (ثَالِثُهَا) التَّقْوِيَةُ وَالتَّهْيِيجُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ شَيَّعَ النَّارَ إِذَا أَلْقَى عَلَيْهَا حَطَبًا يُذْكِيهَا بِهِ، وَالشِّيَاعُ - بِالْفَتْحِ وَالْكَسْرِ - مَا تُضْرَمُ بِهِ النَّارُ، وَكُلُّ هَذِهِ الْمَعَانِي ظَاهِرَةٌ فِي الشِّيَعِ، وَالْأَحْزَابُ الْمُتَفَرِّقَةُ بِالْخِلَافِ فِي الدِّينِ أَوِ السِّيَاسَةِ. وَفَسَّرَ ابْنُ عَبَّاسٍ الشِّيَعَ بِالْأَهْوَاءِ الْمُخْتَلِفَةِ أَيْ أَصْحَابِهَا.

وَقَدْ وَرَدَ فِي الْمَأْثُورِ تَفْسِيرُ الْعَذَابِ مِنْ فَوْقُ بِالرَّجْمِ مِنَ السَّمَاءِ، أَيْ: مِنْ جِهَةِ الْعُلُوِّ - وَكَذَا الطُّوفَانُ - كَمَا وَقَعَ لِبَعْضِ الْأُمَمِ الْقَدِيمَةِ. وَالْعَذَابُ مِنْ تَحْتِ الْأَرْجُلِ بِالْخَسْفِ وَالزَّلَازِلِ الْمَعْهُودَةِ فِي الْقَدِيمِ وَالْحَدِيثِ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْفَوْقِ أَئِمَّةُ السُّوءِ - أَيِ الْحُكَّامِ وَالرُّؤَسَاءِ - وَبِالتَّحْتِ خَدَمُ السُّوءِ، وَفِي رِوَايَةٍ (مِنْ فَوْقِكُمْ) يَعْنِي أُمَرَاءَكُمْ (أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ) يَعْنِي عَبِيدَكُمْ وَسَفَلَتَكُمْ، وَهَذَا مَعْنًى صَحِيحٌ فِي نَفْسِهِ، وَلَعَلَّ مُرَادَ الْخَبَرِ مِنْهُ أَنَّهُ يَدْخُلُ فِي عُمُومِ مَا تُرْشِدُ إِلَيْهِ الْآيَةُ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْفَوْقِ حَبْسُ الْمَطَرِ، وَبِالتَّحْتِ مَنْعُ الثَّمَرَاتِ، وَهَذَا تَفْسِيرٌ سَلْبِيٌّ، وَالتَّعْبِيرُ عَنْهُ بِالْإِرْسَالِ تَعْبِيرٌ عَنِ الشَّيْءِ بِضِدِّهِ، فَإِنَّ الْإِرْسَالَ ضِدُّ الْمَنْعِ وَالْإِمْسَاكِ وَالْحَبْسِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:(وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ)(35: 2) وَلَمَّا كَانَ لَفْظُ الْعَذَابِ فِي الْآيَةِ نَكِرَةً جَازِ حَمْلُهُ عَلَى كُلِّ عَذَابٍ يَأْتِي مِنْ فَوْقِ الرُّءُوسِ وَمِنْ تَحْتِ الْأَرْجُلِ، أَوْ مِنْ رُؤَسَاءِ النَّاسِ أَوْ مِنْ تُحُوتِهِمْ، وَلَوْلَا أَنَّ هَذَا الْإِبْهَامَ مُرَادٌ لِأَجْلِ هَذَا الشُّمُولِ لَصَرَّحَ بِالْمُرَادِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ تَعَالَى:(أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ 67: 16، 17) وَحِكْمَةُ مِثْلِ هَذَا الْإِبْهَامِ فِي الْقُرْآنِ أَنْ يَنْطَبِقَ مَعْنَى اللَّفْظِ عَلَى مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ مِمَّا يَحْدُثُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ أَوْ نَكْشِفُ لِلنَّاسِ فِيهِ مَا كَانَ خَفِيًّا عَنْهُمْ، إِذْ وَرَدَ فِي وَصْفِ الْقُرْآنِ أَنَّهُ لَا تَنْتَهِي عَجَائِبُهُ، وَأَنَّ فِيهِ نَبَأَ مَنْ قَبْلِ الَّذِينَ نَزَلَ فِي زَمَانِهِمْ، وَمَنْ كَانَ مَعَهُمْ، وَمَنْ يَجِيءُ بُعْدَهُمْ.

مِثَالُ مَا عَبَّرَ الْقُرْآنُ عَنْهُ وَلَمْ يَنْكَشِفْ لِجُمْهُورِ النَّاسِ انْكِشَافًا تَامًّا إِلَّا بَعْدَ نُزُولِهِ بِقُرُونٍ - كَوْنُ الثِّمَارِ وَغَيْرِهَا أَزْوَاجًا؛ مِنْهَا الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى، قَالَ تَعَالَى:(وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ 13: 3) وَقَالَ: (وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ)(51: 49) وَكَانُوا يَحْمِلُونَ الْآيَاتِ فِي ذَلِكَ عَلَى الْمَجَازِ - وَكَوْنُ الرِّيَاحِ تُلَقِّحُ النَّبَاتَ كَمَا هُوَ صَرِيحٌ قَوْلُهُ تَعَالَى:

(وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ)(15: 22) وَقَدْ جَعَلَهُ بَعْضُ مُفَسِّرِي السَّلَفِ تَلْقِيحًا مَجَازِيًّا كَقَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه: إِنَّهَا تُلَقِّحُ السَّحَابِ فَيَدِرُّ كَمَا تُدِرُّ اللِّقْحَةُ. نَعَمْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ

-

ص: 409

رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - وَكَذَا الْحَسَنُ: تُلَقِّحُ الشَّجَرَ وَتَمْرِي السَّحَابَ. وَلَكِنَّ هَذَا الْقَوْلَ الْمُقْتَبَسَ مِنَ التَّنْزِيلِ بِنُورِ الْفَهْمِ الصَّحِيحِ لَمْ يَزَلْ خَفِيًّا فِي تَفْصِيلِهِ حَتَّى عَنِ الْعَرَبِ الَّذِينَ كَانُوا يُلَقِّحُونَ النَّخِيلَ - إِلَى أَنِ اكْتَشَفَ النَّاسُ أَعْضَاءَ الذُّكُورَةِ وَالْأُنُوثَةِ فِي النَّبَاتِ وَكَوْنَهَا تُثْمِرُ بِالتَّلْقِيحِ، وَكَوْنَ الرِّيَاحِ تَنْقِلُ مَادَّةَ الذُّكُورَةِ مِنْ ذَكَرِهَا إِلَى أُنْثَاهَا فَتُلَقِّحُهَا بِهِ، وَلَمَّا عَلِمَ الْإِفْرِنْجُ بِهَذَا قَالَ بَعْضُ الْمُطَّلِعِينَ عَلَى الْقُرْآنِ الْمَجِيدِ مِنَ الْمُسْتَشْرِقِينَ مِنْهُمْ: إِنَّ أَصْحَابَ الْإِبِلِ - يَعْنِي الْعَرَبَ - قَدْ عَرَفُوا أَنَّ الرِّيحَ تُلَقِّحُ الْأَشْجَارَ وَالثِّمَارَ قَبْلَ أَنْ يَعْرِفَهَا أَهْلُ أُورُبَّةَ بِثَلَاثَةَ عَشَرَ قَرْنًا.

وَمِثَالُ مَا عَبَّرَ الْقُرْآنُ عَنْهُ مِمَّا شَمِلَ مَا لَمْ يَكُنْ فِي زَمَنِ تَنْزِيلِهِ وَلَا فِيمَا قَبْلَهُ بِحَسَبِ مَا يَعْلَمُ الْبَشَرُ - هَذِهِ الْآيَةُ الَّتِي ظَهَرَ تَفْسِيرُهَا فِي هَذَا الزَّمَانِ بِهَذِهِ الْحَرْبِ الْأُورُبِّيَّةِ الَّتِي لَمْ يَسْبِقْ لَهَا نَظِيرٌ؛ فَقَدْ أَرْسَلَ اللهُ عَلَى الْأُمَمِ عَذَابًا مِنْ فَوْقِهَا بِمَا تَقْذِفُهُ الطَّيَّارَاتُ وَالْمَنَاطِيدُ مِنَ الْمَقْذُوفَاتِ النَّارِيَّةِ وَالسُّمُومِ الْبُخَارِيَّةِ وَالْغَازِيَّةِ الَّتِي لَمْ تُعْرَفْ قَبْلَ هَذِهِ الْحَرْبِ فَوْقَ مَقْذُوفَاتِ الْمَدَافِعِ وَغَيْرِهَا مِمَّا كَانَ مَعْرُوفًا قَبْلَهَا، وَلَكِنْ بَعْدَ تَنْزِيلِ الْآيَةِ - وَعَذَابًا مِنْ تَحْتِهَا بِمَا يَتَفَجَّرُ مِنَ الْأَلْغَامِ النَّارِيَّةِ، وَبِمَا تُرْسِلُهُ الْمَرَاكِبُ الْغَوَّاصَةُ فِي الْبَحْرِ الَّتِي اخْتُرِعَتْ فِي هَذَا الْعَصْرِ، وَلَبَّسَهَا شِيَعًا مُتَعَادِيَةً، وَأَذَاقَ بَعْضَهَا بَأْسَ بَعْضٍ، فَحَلَّ بِهَا مِنَ التَّقْتِيلِ وَالتَّخْرِيبِ مَا لَمْ يُعْهَدْ لَهُ نَظِيرٌ فِي الْأَرْضِ. وَقَدْ شَرَحْنَا هَذَا فِي مَقَالَةٍ نَشَرْنَاهَا فِي الْمَنَارِ. وَلَا شَكَّ فِي أَنَّ دَلَالَةَ الْآيَةِ عَلَى هَذِهِ الْمُخْتَرَعَاتِ مُرَادٌ ; لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى مُنْزِلَ الْقُرْآنِ هُوَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ. وَفِي الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ مَا يُشِيرُ إِلَى ذَلِكَ؛ فَقَدْ رَوَى أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ (قُلْ هُوَ الْقَادِرُ) إِلَى آخِرِهَا، فَقَالَ:" أَمَا إِنَّهَا كَائِنَةٌ وَلَمْ يَأْتِ تَأْوِيلُهَا بَعْدُ " وَيُقَوِّيهِ مَا وَرَدَ فِي تَطْبِيقِهَا عَلَى أُمَّتِنَا ; لِأَنَّهُ سُنَّةُ اللهِ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ قَبْلَنَا كَمَا يَأْتِي قَرِيبًا.

(انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ) أَيِ انْظُرْ بِعَيْنِ عَقْلِكَ أَيُّهَا

الرَّسُولُ - وَمَثَلُهُ فِي هَذَا كُلُّ مُخَاطَبٍ بِالْقُرْآنِ - كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ وَالدَّلَائِلَ فَنَجْعَلُهَا عَلَى أَنْحَاءٍ شَتَّى، مِنْهَا مَا طَرِيقُهُ الْحِسُّ، وَمِنْهَا مَا طَرِيقُهُ الْعَقْلُ، وَمِنْهَا مَا طَرِيقُهُ عِلْمُ الْغَيْبِ - لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ الْحَقَّ، وَيُدْرِكُونَ كُنْهَ الْأَمْرِ، فَإِنَّ الْفِقْهَ هُوَ فَهْمُ الشَّيْءِ بِدَلِيلِهِ وَعِلَّتِهِ، الْمُفْضِي إِلَى الِاعْتِبَارِ وَالْعَمَلِ بِهِ، وَإِنَّمَا يُرْجَى تَحْصِيلُهُ بِتَصَرُّفِ الْآيَاتِ وَتَنْوِيعِ الْبَيِّنَاتِ.

فَعُلِمَ مِمَّا تَقَدَّمَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ عَامَّةٌ وَإِنْ نَزَلَتْ فِي سِيَاقِ إِنْذَارِ مُشْرِكِي مَكَّةَ وَإِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ، فَالْعِبْرَةُ فِيهَا كَغَيْرِهَا بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ أَوْ مُقْتَضَى السِّيَاقِ، كَمَا تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ، وَقَدْ جَهِلَ هَذَا بَعْضُ الْمُعَمِّمِينَ فَأَنْكَرُوا عَلَيْنَا مُنْذُ أَوَّلِ الْعَهْدِ بِإِنْشَاءِ (الْمَنَارِ)

ص: 410

مَا كُنَّا نُورِدُهُ فِي سِيَاقِ تَذْكِيرِ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي نَزَلَتْ فِي الْمُشْرِكِينَ وَالْمُنَافِقِينَ. وَمِمَّا يُؤَيِّدُ مَسْلَكَنَا هَذَا مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَالنَّسَائِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ (قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ) قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: " أَعُوذُ بِوَجْهِكَ " قَالَ: (أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ) قَالَ: " أَعُوذُ بِوَجْهِكَ "(أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ) قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: " هَذَا أَهْوَنُ أَوْ هَذَا أَيْسَرُ " هَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ فِي كِتَابِ التَّفْسِيرِ مِنْ صَحِيحِهِ، وَوَقَعَ فِي كِتَابِ الِاعْتِصَامِ مِنْهُ " هَاتَانِ أَهْوَنُ أَوْ أَيْسَرُ " - وَالشَّكُّ مِنَ الرَّاوِيِّ - وَإِنَّمَا كَانَتْ خَصْلَتَا اللَّبْسِ وَإِذَاقَةِ الْبَأْسِ أَهْوَنَ أَوْ أَيْسَرَ ; لِأَنَّ الْمُسْتَعَاذَ مِنْهُ قَبْلَهَا هُوَ عَذَابُ الِاسْتِئْصَالِ بِإِحْدَى الْخَصْلَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ بِأَلَّا يَبْقَى مِنَ الْأُمَّةِ أَحَدٌ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَحَادِيثُ مُتَعَدِّدَةٌ؛ مِنْهَا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ أَبِي بَكْرِ بْنِ مَرْدَوَيْهِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:" دَعَوْتُ اللهَ أَنْ يَرْفَعَ عَنْ أُمَّتِي أَرْبَعًا، فَرَفَعَ عَنْهُمُ اثْنَتَيْنِ وَأَبَى أَنْ يَرْفَعَ عَنْهُمُ اثْنَتَيْنِ: دَعَوْتُ اللهَ أَنْ يَرْفَعَ عَنْهُمُ الرَّجْمَ مِنَ السَّمَاءِ وَالْخَسْفَ مِنَ الْأَرْضِ، وَأَلَّا يَلْبِسَهُمْ شِيَعًا، وَلَا يُذِيقَ بَعْضَهُمْ بَأْسَ بَعْضٍ، فَرَفَعَ عَنْهُمُ الْخَسْفَ وَالرَّجْمَ، وَأَبَى أَنْ يَرْفَعَ الْأُخْرَيَيْنِ " وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عِنْدَهُ عَنْهُ - أَيِ ابْنِ عَبَّاسٍ - قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ (قُلْ هُوَ الْقَادِرُ. . .) قَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَتَوَضَّأَ ثُمَّ قَالَ: " اللهُمَّ لَا تُرْسِلْ عَلَى أُمَّتِي عَذَابًا مِنْ فَوْقِهِمْ وَلَا مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَلَا تَلْبِسْهُمْ شِيَعًا وَلَا تُذِقْ بَعْضَهُمْ بَأْسَ بَعْضٍ " قَالَ: فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ قَدْ أَجَارَ اللهُ أُمَّتَكَ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْهِمْ عَذَابًا

مِنْ فَوْقِهِمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ. أَيْ: وَلَمْ يُجِرْهُمْ مِنَ الْعَذَابَيْنِ الْآخَرَيْنِ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَتْبَعُوا سُنَنَ مَنْ قَبْلَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَيَحِلَّ مَا حَلَّ بِهِمْ مِنْ عَذَابِ التَّفَرُّقِ وَالْخِلَافِ، وَذَلِكَ مُقْتَضَى سُنَّتِهِ تَعَالَى فِي عِقَابِ أَتْبَاعِ الرُّسُلِ، يَخْتَلِفُونَ فِي الدِّينِ الْجَامِعِ لِكَلِمَتِهِمْ فَيَكُونُونَ مَذَاهِبَ وَشِيَعًا، وَيَتْبَعُ ذَلِكَ اخْتِلَافُهُمْ فِي السُّلْطَةِ وَالسِّيَاسَةِ أَوْ يَتَقَدَّمُهُ، وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ التَّخَاصُمُ وَالِاقْتِتَالُ الَّذِي نَعْهَدُهُ، وَهَذَا مَعْنَى قَضَاءِ اللهِ فِي حَدِيثِ ثَوْبَانَ الَّذِي يَأْتِي قَرِيبًا.

وَرَوَى أَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ أَنَّ هَذَا الْعَذَابَ عَذَابُ أَهْلِ الْإِقْرَارِ، وَأَنَّ الْعَذَابَ الْأَوَّلَ عَذَابُ أَهْلِ التَّكْذِيبِ. وَأَوْضَحُ مِنْهُ مَا رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ، عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ (قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا) قَامَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَتَوَضَّأَ، فَسَأَلَ رَبَّهُ أَلَّا يُرْسِلَ عَلَيْهِمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِهِمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ، وَلَا يَلْبِسَ أُمَّتَهُ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَهُمْ بَأْسَ بَعْضٍ كَمَا أَذَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ. فَهَبَطَ إِلَيْهِ جِبْرِيلُ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، إِنَّكَ سَأَلْتَ رَبَّكَ أَرْبَعًا، فَأَعْطَاكَ اثْنَتَيْنِ، وَمَنَعَكَ اثْنَتَيْنِ: لَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ مِنْ فَوْقِهِمْ وَلَا مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ يَسْتَأْصِلُهُمْ، فَإِنَّهُمَا عَذَابَانِ لِكُلِّ أُمَّةٍ اجْتَمَعَتْ عَلَى تَكْذِيبِ نَبِيِّهَا وَرَدِّ كِتَابِ رَبِّهَا، وَلَكِنَّهُ يَلْبِسُهُمْ شِيَعًا، وَيُذِيقُ بَعْضَهُمْ بَأْسَ بَعْضٍ، وَهَذَانِ عَذَابَانِ لِأَهْلِ الْإِقْرَارِ بِالْكُتُبِ

ص: 411

وَالتَّصْدِيقِ بِالْأَنْبِيَاءِ، وَلَكِنْ يُعَذَّبُونَ بِذُنُوبِهِمْ. وَأَوْحَى اللهُ إِلَيْهِ (فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ) (43: 41) يَقُولُ مِنْ أُمَّتِكَ (أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ (42) مِنَ الْعَذَابِ وَأَنْتَ حَيٌّ (فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ)(42) فَقَامَ نَبِيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَرَاجَعَ رَبَّهُ، فَقَالَ:" أَيُّ مُصِيبَةٍ أَشَدُّ مِنْ أَنْ أَرَى أُمَّتِي يُعَذِّبُ بَعْضُهَا بَعْضًا؟ " وَأُوحِيَ إِلَيْهِ (الم أَحْسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا)(29: 1، 2) الْآيَتَيْنِ فَأَعْلَمَهُ أَنَّ أُمَّتَهُ لَمْ تُخَصَّ دُونَ الْأُمَمِ بِالْفِتَنِ، وَأَنَّهَا سَتُبْتَلَى كَمَا ابْتُلِيَتِ الْأُمَمُ، ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْهِ (قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ رَبِّ فَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (23: 93، 94) فَتَعَوَّذَ نَبِيُّ اللهِ فَأَعَاذَهُ اللهُ، لَمْ يَرَ مِنْ أُمَّتِهِ إِلَّا الْجَمَاعَةَ وَالْأُلْفَةَ وَالطَّاعَةَ، ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْهِ آيَةً حَذَّرَ فِيهَا أَصْحَابِ الْفِتْنَةِ، فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ إِنَّمَا يَخُصُّ بِهَا نَاسًا مِنْهُمْ دُونَ نَاسٍ، فَقَالَ:(وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ)(8: 25) فَخَصَّ بِهَا أَقْوَامًا مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم بَعْدَهُ وَعَصَمَ بِهَا أَقْوَامًا. اهـ.

وَقَدْ وَفَّى الْحَسَنُ رحمه الله الْمَسْأَلَةَ حَقَّهَا مِنَ الْبَيَانِ بِذِكْرِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهَا، وَإِنْ نَزَلَ بَعْدَهَا بِسِنِينَ كَآيَةِ الْأَنْفَالِ الْأَخِيرَةِ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يُبَيِّنْ مَعْنَى هَذِهِ، وَهُوَ بَيَانُ سُنَّتَهُ تَعَالَى فِي الْفِتَنِ، تُصَابُ بِهَا الْأُمَمُ لَا تُصِيبُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ، وَكَانُوا سَبَبَ الْعَذَابِ الْمُتَرَتِّبِ عَلَيْهَا خَاصَّةً، بَلْ تَحِلُّ بِهِمْ وَبِمَنْ لَمْ يَمْنَعْهُمْ عَنِ الظُّلْمِ وَلَوْ عَجْزًا، بَلْ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ مُخَالِفٌ لِظَاهِرِ الْآيَةِ فِي هَذَا، وَلَعَلَّهُ مُحَرَّفٌ.

وَاعْلَمْ أَنَّهُ وَرَدَ فِي هَذَا الْمَعْنَى أَحَادِيثُ أُخْرَى؛ مِنْهَا أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم دَعَا رَبَّهُ أَلَّا يُهْلِكَ أُمَّتَهُ بِتَسْلِيطِ عَدُوٍّ عَلَيْهِمْ مِنْ غَيْرِ أَنْفُسِهِمْ، وَلَا بِالسَّنَةِ الْعَامَّةِ - أَيِ الْمَجَاعَةِ وَالْقَحْطِ - وَلَا بِالْغَرَقِ، وَلَا بِمَا عَذَّبَ بِهِ الْأُمَمَ قَبْلَهُمْ كَالرِّيحِ وَالصَّيْحَةِ وَالرَّجْفَةِ. وَقَدْ أَوْرَدَ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَالسُّيُوطِيُّ فِي الدُّرِّ الْمَنْثُورِ.

وَقَدِ اسْتَشْكَلَ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ الْعُلَمَاءُ بِمَا وَرَدَ مِنَ الْأَحَادِيثِ الْمُتَعَدِّدَةِ مِنَ الطُّرُقِ الْمُخْتَلِفَةِ فِي إِثْبَاتِ وُقُوعِ الْخَسْفِ وَالْمَسْخِ وَالْقَذْفِ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَأَمْثَلُ مَا أَجَابُوا بِهِ عَنْهَا هُوَ أَنَّ مَا دَعَا بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِنَّمَا هُوَ عَدَمُ هَلَاكِ أُمَّتِهِ كُلِّهَا بِمَا ذَكَرَ كَمَا هَلَكَتْ عَادٌ وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَغَيْرُهُمْ، وَوُقُوعُ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فِي بَعْضِ الْأُمَّةِ لَا يُنَافِي اسْتِجَابَةَ الدُّعَاءِ، فَإِنَّ مِنْهُ الْمَوْتَ غَرَقًا أَوْ جُوعًا، وَقَدْ وَقَعَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْأُمَّةِ حَتْمًا.

ثُمَّ حَدَثَ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ فِي الْأَجْيَالِ الْأَخِيرَةِ مَا هُوَ أَوْلَى بِالْإِشْكَالِ، وَأَحْوَجُ إِلَى مَثَلِ هَذَا الْجَوَابِ، وَهُوَ تَسْلِيطُ الْأَعْدَاءِ عَلَيْهَا الْمُعَارِضُ لِمَا وَرَدَ فِي هَذَا الْبَابِ وَأَصَحُّهُ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ، مِنْ حَدِيثِ ثَوْبَانَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: " إِنَّ اللهَ زَوَى لِيَ الْأَرْضَ فَرَأَيْتُ

ص: 412

مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا، وَإِنَّ أُمَّتِي سَيَبْلُغُ مُلْكَهَا مَا زُوِيَ لِي مِنْهَا، وَأُعْطِيتُ الْكَنْزَيْنِ الْأَحْمَرَ وَالْأَبْيَضَ، وَإِنِّي سَأَلْتُ رَبِّي لِأُمَّتِي أَلَّا يُهْلِكَهَا بِسَنَةٍ عَامَّةٍ، وَأَلَّا يُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ سِوَى أَنْفُسِهِمْ يَسْتَبِيحُ بَيْضَتَهُمْ، وَإِنَّ رَبِّي قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، إِذَا قَضَيْتُ قَضَاءً فَإِنَّهُ لَا يُرَدُّ، وَإِنِّي أَعْطَيْتُكَ لِأُمَّتِكَ أَلَّا أُهْلِكَهُمْ بِسَنَةٍ عَامَّةٍ، وَأَلَّا أُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ سِوَى أَنْفُسِهِمْ فَيَسْتَبِيحَ بَيْضَتَهُمْ وَلَوِ اجْتَمَعَ عَلَيْهِمْ مَنْ بِأَقْطَارِهَا - أَوْ قَالَ: مِنْ بَيْنِ أَقْطَارِهَا - حَتَّى يَكُونَ بَعْضُهُمْ يُهْلِكُ بَعْضًا وَيَسْبِي بَعْضُهُمْ بَعْضًا "

وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ - إِلَّا النَّسَائِيَّ - وَغَيْرُهُمْ بِزِيَادَةٍ عَمَّا هُنَا، وَقَدْ ظَهَرَ صِدْقُ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم فِي بُلُوغِ مُلْكِ أُمَّتِهِ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا، وَفِي وُقُوعِ بَأْسِهِمْ بَيْنَهُمْ، وَمَا زَالَ مُلْكُهُمْ عَنْ أَكْثَرِ تِلْكَ الْمَمَالِكِ إِلَّا بِتَفَرُّقِهِمْ، ثُمَّ بِمُسَاعَدَتِهِمْ لِلْأَجَانِبِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَكَمْ تَأَلَّبَتْ عَلَيْهِمُ الْأُمَمُ، فَلَمْ يَنَالُوا مِنْهُمْ بِدُونِ ذَلِكَ مَنَالًا، وَمَا بَقِيَ لَهُمُ الْآنَ قَلِيلٌ ضَعِيفٌ، يَتَوَقَّعُ الطَّامِعُونَ الِاسْتِيلَاءَ عَلَيْهِ قَرِيبًا، وَنَحْنُ نَرْجُو خِذْلَانَ الطَّامِعِينَ، وَإِقَامَةَ قَوَاعِدِ اسْتِقْلَالِنَا عَلَى أَسَاسٍ مَتِينٍ، يَضْمَنُهُ تَكَافُلُ الْأُمَمِ وَحِفْظُهَا لِلسِّلْمِ وَلَوْ عَشَرَاتٍ مِنَ السِّنِينَ، لَعَلَّنَا نَصِيرُ فِي فُرْصَتِهَا مِنَ الْعَالِمِينَ الْعَامِلِينَ، الَّذِينَ يَحْفَظُونَ حَقِيقَتَهُمْ بِأَنْفُسِهِمْ، وَلَا يَتَّكِلُونَ عَلَى تَنَازُعِ الطَّامِعِينَ فِيهِمْ، فَإِنَّ هَذَا اتِّكَالٌ عَلَى أَمْرٍ سَلْبِيٍّ لَا يَدُومُ لَنَا، وَإِنْ كَانَ هُوَ الَّذِي أَبْقَى لَنَا هَذَا الْقَلِيلَ الَّذِي ذَكَرْنَا، وَبَقَاؤُهُ هُوَ مِصْدَاقُ الْحَدِيثِ عَلَى الطَّرِيقَةِ الْمُعْتَمَدَةِ فِي الْجَوَابِ عَنِ الدُّعَاءِ بِرَفْعِ الْخَسْفِ وَالْقَحْطِ وَالْغَرَقِ وَغَيْرِهَا فِي الْأَحَادِيثِ الْأُخْرَى.

وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْ حَدِيثِ ثَوْبَانَ هَذَا بِجَوَابٍ آخَرَ غَيْرِ الَّذِي يُؤْخَذُ مِنْ جَوَابِهِمْ عَنْ غَيْرِهِ وَغَيْرِ مَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ آنِفًا فِي بَيَانِ صِدْقِهِ، وَهُوَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى لَا يُسَلِّطُ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ سِوَى أَنْفُسِهِمْ يَسْتَبِيحُ بَيْضَتَهُمْ مَا دَامُوا مُسْتَمْسِكِينَ بِعُرْوَةِ الْإِيمَانِ الْوُثْقَى، وَقَائِمِينَ بِحُقُوقِهِ وَمِنْهَا الْأَسْبَابُ الَّتِي وَعَدَهُمُ اللهُ تَعَالَى النَّصْرَ مَا دَامُوا مُسْتَمْسِكِينَ بِهَا، وَقَدْ بَيَّنَهَا لَهُمْ فِي كِتَابِهِ، وَتَقَدَّمَ كَثِيرٌ مِنْهَا فِيمَا مَرَّ مِنَ التَّفْسِيرِ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ حَدِيثٌ آخَرَ عَنْ ثَوْبَانَ نَفْسِهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: " يُوشِكُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمُ الْأُمَمُ كَمَا تَدَاعَى الْأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا، فَقَالَ قَائِلٌ: أَوَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ، وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ وَسَيَنْزِعَنَّ اللهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمُ الْمَهَابَةَ مِنْكُمْ، وَلَيَقْذِفَنَّ فِي قُلُوبِكُمُ الْوَهَنَ. قَالَ قَائِلٌ: يَا رَسُولَ

ص: 413

اللهِ، وَمَا الْوَهَنُ؟ قَالَ: حُبُّ الدُّنْيَا وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ " رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ.

(تَنْبِيهُ غَافِلٍ، وَتَعْلِيمُ جَاهِلٍ) .

يُسِيءُ كَثِيرٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ تَأْوِيلَ حَدِيثَيْ ثَوْبَانَ وَغَيْرِهِمَا مِنْ أَحَادِيثِ الْفِتَنِ، وَيَحْمِلُونَهَا عَلَى مَا يَضُرُّهُمْ، وَهُوَ مَا لَمْ يُرِدْهُ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم وَلَا يَرْضَاهُ لَهُمْ، فَوَجَبَ أَنْ نُبَيِّنَ الْحَقَّ فِي ذَلِكَ؛ فَنَقُولُ:

إِنْ لِأَحْوَالِ الْأُمَمِ الْعَامَّةِ تَأْثِيرًا عَظِيمًا فِي فَهْمِ أَفْرَادِهَا لِنُصُوصِ الدِّينِ وَغَيْرِهَا مِنْ أَقْوَالِ الْحُكَمَاءِ وَالشُّعَرَاءِ، فَهِيَ فِي حَالِ ارْتِقَائِهَا بِالْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ وَمَا يُثْمِرَانِ مِنَ الْعِزَّةِ وَالْقُوَّةِ تَكُونُ أَصَحَّ أَفْهَامًا، وَأَصْوَبَ أَحْكَامًا، وَأَكْثَرَ اعْتِبَارًا وَادِّكَارًا، وَأَحْسَنَ اسْتِفَادَةً وَاسْتِبْصَارًا، وَفِي حَالِ فُشُوِّ الْغَبَاوَةِ وَالْجَهْلِ، وَمَا يُنْتِجَانِ مِنَ الضَّعْفِ وَالذُّلِّ، تَكُونُ بِالضِّدِّ مِنْ ذَلِكَ، وَأَضْرِبُ مَثَلًا لِذَلِكَ: النُّصُوصُ وَالْحِكَمُ الْمَنْظُومَةِ وَالْمَنْثُورَةِ فِي ذَمِّ الطَّمَعِ وَالْحِرْصِ عَلَى الْمَالِ وَزِينَةِ الدُّنْيَا، وَمَا يُقَابِلُهَا مِنْ تَعْظِيمِ أَمْرِ الْآخِرَةِ وَالتَّرْغِيبِ فِي مَعَالِي الْأُمُورِ وَبَذْلِ الْمَالِ فِي سَبِيلِ الْحَقِّ. لَمْ تَكُنْ تِلْكَ النُّصُوصُ وَالْحِكَمِ وَالْأَشْعَارِ وَالْأَمْثَالِ بِصَادَّةٍ لِلْأُمَّةِ فِي طَوْرِ حَيَاتِهَا وَارْتِقَائِهَا عَنِ الْفَتْحِ وَالْكَسْبِ، وَإِحْرَازِ قَصَبِ السَّبْقِ فِي جَمِيعِ مَيَادِينِ التَّنَازُعِ عَلَى السِّيَادَةِ وَمَوَارِدِ الرِّزْقِ، بَلْ كَانَتْ هِيَ الْحَافِزَةُ لَهَا إِلَى ذَلِكَ بِقَصْدِ إِعْزَازِ الْمِلَّةِ، وَرَفْعِ شَأْنِ الْأُمَّةِ، لِذَلِكَ كَانُوا يَبْذُلُونَ تِلْكَ الْأَمْوَالَ بِمُنْتَهَى السَّخَاءِ فِي سَبِيلِ الْبِرِّ وَأَعْمَالِ الْخَيْرِ، وَلَوْ حَفِظَ الْمُتَأَخِّرُونَ مِنَّا مَا حَبَسَهُ مَنْ قَبْلَهُمْ مِنَ الْأَوْقَافِ عَلَى جَمِيعِ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ وَأَنْوَاعِ الْبِرِّ لَوَجَدُوا أَنَّ جَمِيعَ مَا مَلَكُوهُ مِنَ الْأَرْضِ كَانَ وَقْفًا بَلْ وُقِفَ مِرَارًا ; لِأَنَّ الْخَلَفَ الصَّالِحَ صَارَ يُحَوِّلُ أَوْقَافَ السَّلَفِ الصَّالِحِ إِلَى مِلْكٍ، حَتَّى كَانَ عَمُّ وَالِدِي الشَّيْخُ النَّقَّادُ الْخَبِيرُ السَّيِّدُ أَحْمَدُ أَبُو الْكَمَالِ يَقُولُ عَلَى سَبِيلِ الْمُبَالَغَةِ فِي هَذَا الْمَعْنَى: فِي كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ يَتَحَوَّلُ كُلُّ وَقْفٍ فِي طَرَابُلُسَ الشَّامِ مِلْكًا، وَكُلُّ مِلْكٍ وَقْفًا.

كَانَتْ تِلْكَ النُّصُوصُ وَالْحِكَمُ لِلْأُمَّةِ فِي تِلْكَ الْحَيَاةِ كَالْغِذَاءِ الصَّالِحِ لِلْجِسْمِ السَّلِيمِ، يَزِيدُهُ قُوَّةً، وَيَحْفَظُ لَهُ حَيَاتَهُ وَيُعَوِّضُهُ عَنْ كُلِّ مَا يَنْحَلُّ مِنْهُ مِنَ الدَّقَائِقِ الْمَيِّتَةِ مَادَّةً حَيَّةً خَيْرًا مِنْهَا، ثُمَّ صَارَتْ فِي طَوْرِ الضَّعْفِ كَالْغِذَاءِ الْجَيِّدِ فِي الْجِسْمِ الْعَلِيلِ، لَا يَزِيدُهُ إِلَّا ضَعْفًا وَانْحِلَالًا ; إِذْ صَارُوا

ص: 414

يَفْهَمُونَ مِنْهَا أَنَّ الْكَسَلَ وَالْخُمُولَ وَالتَّوَاكُلَ وَالْفَقْرَ وَالذُّلَّ مِنْ مَقَاصِدِ الدِّينِ، فَصَارُوا لَا يَسْتَفِيدُونَ مِنْهَا إِلَّا ضَعْفًا وَعَجْزًا، وَلَا يَزْدَادُونَ مَعَ ذَلِكَ إِلَّا حِرْصًا وَدَنَاءَةً وَبُخْلًا.

إِذَا تَدَبَّرْتَ هَذَا الْمِثَالَ فَاجْعَلْهُ مِرْآةً لِمَا وَرَدَ فِي الْأَحَادِيثِ النَّبَوِيَّةِ مِنْ أَنْبَاءِ مُسْتَقْبَلِ الْأُمَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ، كَسِعَةِ مُلْكِهَا فِي مَشَارِقِ الْأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا - أَيْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْحِجَازِ - ثُمَّ تَدَاعِي الْأُمَمِ عَلَيْهَا كَمَا تَتَدَاعَى الْأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا، وَمِنْ تُفَرُّقِهَا شِيَعًا وَوُقُوعِ بَأْسِهَا بَيْنَهَا، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْفِتَنِ، وَمَا يَكُونُ قَبْلَ قِيَامِ السَّاعَةِ مِنَ الْإِحْدَاثِ وَالْبِدَعِ، وَاعْلَمْ أَنَّ مَا أَصَابَ الْأُمَّةَ الْإِسْلَامِيَّةَ بِسُوءِ فَهْمِهَا لِهَذِهِ الْأَحَادِيثِ - بَعْدَ فُشُوِّ الْجَهْلِ فِيهَا - هُوَ نَحْوٌ مِمَّا أَصَابَهَا بِسُوءِ فَهْمِهَا لِتِلْكَ النُّصُوصِ وَالْحِكَمِ الَّتِي أَشَرْنَا إِلَيْهَا فِي الْمِثَالِ. وَطَّنَ جَمَاهِيرُ الْمُسْلِمِينَ أَنْفُسَهُمْ مُنْذُ قُرُونٍ عَلَى الرِّضَا بِجَمِيعِ الْفِتَنِ وَالشُّرُورِ الَّتِي أَنْبَأَتِ الْأَحَادِيثُ بِوُقُوعِهَا فِي الْمُسْتَقْبَلِ، فَقَعَدَتْ هِمَمُهُمْ عَنِ الْقِيَامِ بِمَا أَمَرَ اللهُ تَعَالَى بِهِ مِنَ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَدَفْعِ الْمَكْرُوهِ، وَالدِّفَاعِ عَنِ الْحَقِّ بِقَدْرِ الِاسْتِطَاعَةِ، مُعْتَذِرِينَ لِأَنْفُسِهِمْ بِأَنَّ ذَلِكَ قَدْرٌ قَدْ وَرَدَ بِوُقُوعِهِ الْخَبَرُ، فَلَا مَهْرَبَ مِنْهُ وَلَا مَفَرَّ، كَمَا يَعْتَذِرُونَ لِأَنْفُسِهِمْ عَنْ تَرْكِ مُجَارَاةِ الْأُمَمِ الْعَزِيزَةِ فِي أَسْبَابِ الْعِزَّةِ وَطُرُقِ الثَّرْوَةِ بِالنُّصُوصِ وَالْحِكَمِ الَّتِي وَرَدَتْ فِي التَّنْفِيرِ عَنِ الطَّمَعِ وَالْجَشَعِ وَتَهْوَيْنِ أَمْرِ شَهَوَاتِ الدُّنْيَا، وَالتَّرْغِيبِ فِي مَعَالِي الْأَمْرِ وَإِيثَارِ الْحَيَاةِ الْبَاقِيَةِ. وَلَا حُجَّةَ لَهُمْ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، بَلْ لِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ عَلَيْهِمْ، وَقَدْ بَسَطْنَا ذَلِكَ مِرَارًا فِي التَّفْسِيرِ وَفِي غَيْرِ التَّفْسِيرِ.

وَتَرَاهُمْ مَعَ هَذَا قَدْ تَرَكُوا السَّعْيَ وَالْعَمَلَ لِمَا وُعِدُوا بِهِ فِي الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ مِنَ الْخَيْرِ وَالسِّيَادَةِ كَمَا كَانَ يَسْعَى وَيَعْمَلُ لَهُ سَلَفُهُمْ، وَمِنْ تِلْكَ الْوُعُودِ مَا لَمْ يَأْتِ تَأْوِيلُهُ وَلَا بُدَّ مِنْ إِتْيَانِهِ؛ لِأَنَّ وَعْدَ اللهِ مَفْعُولٌ لَا بُدَّ مِنْهُ، كَمَا تَرَكُوا الْعَمَلَ بِالنُّصُوصِ الْآمِرَةِ بِالْبَذْلِ فِي سَبِيلِ اللهِ، مَعَ ادِّعَائِهِمُ الْأَخْذَ بِمَا وَرَدَ فِي إِيثَارِ الْآخِرَةِ عَلَى الدُّنْيَا أَوِ احْتِجَاجِهِمْ بِهِ.

وَحَقِيقَةُ الْأَمْرِ أَنَّهُمْ رُزِئُوا بِالْجَهْلِ وَالْكَسَلِ وَسُقُوطِ الْهِمَّةِ، فَهُمْ بِجَهْلِهِمْ

يَتْعَبُونَ وَيَشْقَوْنَ فِي اتِّبَاعِ أَهْوَائِهِمْ وَالسَّعْيِ لِحُظُوظِهِمُ الشَّخْصِيَّةِ الدَّنِيئَةِ، وَلَا يُفَكِّرُونَ فِي الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ، وَلَا يَعْقِلُونَ وَجْهَ ارْتِبَاطِ الْمَنَافِعِ الْخَاصَّةِ بِهَا، بَلْ يَتْرُكُونَهَا زَاعِمِينَ أَنَّهُمْ قَدْ وَكَّلُوا أَمْرَهَا إِلَى اللهِ وَعَمِلُوا بِهَدْيِ دِينِهِ فِيهَا. بَلْ لَا يَخْطُرُ فِي بَالِ أَحَدٍ مِنْهُمْ هَذَا الزَّعْمَ إِلَّا إِذَا عَذَلَهُ عَاذِلٌ أَوْ وَبَخَّهُ مُوَبِّخٌ عَلَى تَفْرِيطِهِ فِي حُقُوقِ أُمَّتِهِ وَمَا يَجِبُ عَلَيْهِ لِمِلَّتِهِ، فَحِينَئِذٍ يَعْتَذِرُونَ بِالْأَقْدَارِ، أَوْ بِأَنَّ الْآخِرَةَ لَهُمْ وَالدُّنْيَا لِلْكَفَّارِ، وَقَدْ ذَكَّرْنَاهُمْ بِفَسَادِ شُبْهَتِهِمْ هَذِهِ مِرَارًا (وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ) (40: 13) .

ص: 415

إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُخْبِرْ أُمَّتَهُ بِمَا سَيَقَعُ فِيهَا مِنَ التَّفَرُّقِ وَالشِّيَعِ، وَرُكُوبِ سُنَنِ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي الْإِحْدَاثِ وَالْبِدَعِ، وَبِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَخْبَارِ الْفِتَنِ الْخَاصَّةِ بِهِمْ وَالْمُشْتَرِكَةِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْأُمَمِ - إِلَّا لِأَجْلِ أَنْ يَكُونُوا عَلَى بَصِيرَةٍ فِي مُقَاوَمَةِ ضُرِّهَا وَاتِّقَاءِ تَفَاقُمِ شَرِّهَا،، لَا لِأَجْلِ أَنْ يَتَعَمَّدُوا إِثَارَةَ تِلْكَ الْفِتَنِ وَالِاصْطِلَاءِ بِنَارِهَا، وَالِاقْتِرَافِ لِأَوْزَارِهَا، فَمَثَلُهُ صلى الله عليه وسلم فِي ذَلِكَ كَمَثَلِ الطَّبِيبِ الَّذِي يُخْبِرُ الْمُسَافِرِينَ إِلَى أَرْضٍ مَجْهُولَةٍ لَهُمْ بِمَا فِيهَا مِنَ الْأَمْرَاضِ؛ لِأَجْلِ أَنْ يَبْذُلُوا جُهْدَهُمْ فِي اتِّقَاءِ وُقُوعِهَا بِهِمْ، ثُمَّ فِي مُدَاوَاةِ مَنْ يُصَابُ بِهَا مِنْهُمْ، لَا لِأَجْلِ أَنْ يَجْعَلُوا أَنْفُسَهُمْ عُرْضَةً لَهَا بِإِتْيَانِ أَسْبَابِهَا، وَتَوْطِينِ النَّفْسِ عَلَى الْهَلَاكِ بِتَرْكِ التَّدَاوِي مِنْهَا. وَقَدْ كَانَ أَهْلُ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ يَفْهَمُونَ ذَلِكَ مِنَ النُّصُوصِ، كَمَا صَرَّحَتْ بِهِ عَائِشَةُ فِي حَدِيثِ لَعْنِ أَهْلِ الْكِتَابِ لِاتِّخَاذِ قُبُورِ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ، فَإِنَّهَا عَلَّلَتْهُ بِقَوْلِهَا: يُحَذِّرُ مَا صَنَعُوا. وَقَدْ صَرَّحَتِ النُّصُوصُ بِالنَّهْيِ عَنِ التَّفَرُّقِ وَالِاخْتِلَافِ الَّذِي تَدَهْوَرَ فِي تَيْهُورِهِ أَهْلُ الْكِتَابِ حَتَّى لَا نَقَعَ فِيهِ عَلَى غَرَارَةٍ وَجَهَالَةٍ فَيَكُونُ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا، وَلَا نَهْتَدِي إِلَى تَخْفِيفِهِ سَبِيلًا (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبَابِ) (39: 9) وَلَوْ أَنَّ عُلَمَاءَ الصَّحَابَةِ أَوِ التَّابِعِينَ كَتَبُوا فِي التَّفْسِيرِ وَشَرْحِ الْحَدِيثِ لَبَيَّنُوا لَنَا ذَلِكَ.

وَلَمْ يُقَصِّرِ الْمُصَنِّفُونَ مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ وَالْمُتَأَخِّرِينَ فِي شَيْءٍ مِنْ عِلْمِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ كَمَا قَصَّرُوا فِي بَيَانِ مَا هَدَى إِلَيْهِ الْقُرْآنُ وَالْحَدِيثُ مِنْ سُنَنِ اللهِ تَعَالَى فِي الْأُمَمِ، وَالْجَمْعِ بَيْنَ النُّصُوصِ فِي ذَلِكَ وَالْحَثِّ عَلَى الِاعْتِبَارِ بِهَا، وَلَوْ عَنُوا بِذَلِكَ بَعْضَ عِنَايَتِهِمْ

بِفُرُوعِ الْأَحْكَامِ وَقَوَاعِدِ الْكَلَامِ لَأَفَادُوا الْأُمَّةَ مَا يُحْفَظُ بِهِ دِينُهَا وَدُنْيَاهَا، وَهُوَ مَا لَا يُغْنِي عَنْهُ التَّوَسُّعُ فِي دَقَائِقِ مَسَائِلِ النَّجَاسَةِ وَالطَّهَارَةِ، وَالسِّلْمِ وَالْإِجَارَةِ، فَإِنَّ الْعِلْمَ بِسُنَنِ اللهِ تَعَالَى فِي عِبَادِهِ، لَا يَعْلُوهُ إِلَّا الْعِلْمُ بِاللهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ، بَلْ هُوَ مِنْهُ أَوْ مِنْ طُرُقِهِ وَوَسَائِلِهِ. وَقَدْ فَطِنَ لِهَذَا بَعْضُ حُكَمَاءِ الْعُلَمَاءِ، فَقَالَ أَبُو حَامِدٍ الْغَزَالِيُّ فِي بَيَانِ الْقَدْرِ الْمَحْمُودِ مِنَ الْعُلُومِ الْمَحْمُودَةِ مِنْ كِتَابِ الْعِلْمِ فِي الْإِحْيَاءِ: وَأَمَّا الْقِسْمُ الْمَحْمُودُ إِلَى أَقْصَى غَايَاتِ الِاسْتِقْصَاءِ فَهُوَ الْعِلْمُ بِاللهِ تَعَالَى وَبِصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ، وَسُنَنِهِ فِي خَلْقِهِ وَحِكْمَتِهِ فِي تَرْتِيبِ الْآخِرَةِ عَلَى الدُّنْيَا، فَإِنَّ هَذَا عِلْمٌ مَطْلُوبٌ لِذَاتِهِ. ثُمَّ فَضَّلَ أَهْلَ هَذَا الْعِلْمِ عَلَى جَمِيعِ الْعُلَمَاءِ كَالْمُتَكَلِّمِينَ وَالْفُقَهَاءِ، وَأَيَّدَهُ فِي ذَلِكَ الْعِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ إِذِ اسْتُفْتِيَ فِيهِ فَأَفْتَى بِصِحَّتِهِ. وَبَيَّنَ الْغَزَالِيُّ فِي غَيْرِ هَذَا الْفَصْلِ مِنْ فُصُولِ الْبَابِ الثَّانِي مِنْ أَبْوَابِ الْعِلْمِ أَنَّ هَذَا الْعِلْمَ هُوَ الَّذِي امْتَازَ بِهِ عُظَمَاءُ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم، وَأَنَّهُ هُوَ الْعِلْمُ الَّذِي عَنَاهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُودٍ لَمَّا مَاتَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه بِقَوْلِهِ: مَاتَ تِسْعَةُ أَعْشَارِ الْعِلْمِ (وَرَوَاهُ أَبُو خَيْثَمَةَ فِي كِتَابِ الْعِلْمِ بِلَفْظِ: إِنِّي لَأَحْسَبُ عُمْرَ قَدْ ذَهَبَ بِتِسْعَةِ أَعْشَارِ الْعِلْمِ) .

ص: 416

أَقُولُ: أَمَّا الْعِلْمُ بِاللهِ تَعَالَى وَبِصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ فَهُوَ مِعْرَاجُ الْكَمَالِ الْإِنْسَانِيِّ، وَأَمَّا الْعِلْمُ بِسُنَّتِهِ تَعَالَى فِي خَلْقِهِ فَهُوَ وَسِيلَةٌ وَمَقْصِدٌ، أَعْنِي أَنَّهُ أَعْظَمُ الْوَسَائِلِ لِكَمَالِ الْعِلْمِ الَّذِي قَبْلَهُ، وَمِنْ أَقْرَبِ الطُّرُقِ إِلَيْهِ، وَأَقْوَى الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَيْهِ، وَأَنَّهُ أَعْظَمُ الْعُلُومِ الَّتِي يَرْتَقِي بِهَا الْبَشَرُ فِي الْحَيَاةِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ الْمَدَنِيَّةِ فَيَكُونُونَ بِهَا أَعِزَّاءَ أَقْوِيَاءَ سُعَدَاءَ، وَإِنَّمَا يُرْجَى بُلُوغُ كَمَالِ الِاسْتِفَادَةِ مِنْهُ إِذَا نُظِرَ فِيهِ إِلَى الْوَجْهِ الرَّبَّانِيِّ وَالْوَجْهِ الْإِنْسَانِيِّ جَمِيعًا، وَهُوَ مَا كَانَ عُمَرُ يَنْظُرُ فِيهِ بِنُورِ اللهِ فِي فِطْرَتِهِ وَهِدَايَةِ كِتَابِهِ، وَأَمَّا أَبُو حَامِدٍ فَقَدْ لَاحَظَ الْوَجْهَ الرَّبَّانِيَّ فَقَطْ، وَإِنَّ فِي سِيَاسَةِ عُمَرَ وَفِي كَلَامِهِ لِدَلَائِلَ كَثِيرَةً عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ بَصِيرَتِهِ فِي هَذَا الْعِلْمِ، فَنَسْأَلُ اللهَ تَعَالَى أَنْ يَجْعَلَنَا مِنْ أَهْلِهِ، وَأَنْ يَجْعَلَهُ وَسِيلَةً لَنَا لِتَكْمِيلِ أَنْفُسِنَا، وَإِصْلَاحِ مَا فَسَدَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِنَا، آمِينَ.

إِذَا تَدَبَّرْتَ هَذَا أَيُّهَا الْقَارِئُ، فَاعْلَمْ أَنَّ الِاسْتِدْلَالَ بِمَا وَرَدَ مِنَ الْأَخْبَارِ وَالْآثَارِ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ لَا يَدُلُّ هُوَ وَلَا غَيْرُهُ مِنْ أَحَادِيثِ الْفِتَنِ وَالسَّاعَةِ عَلَى أَنَّ الْأُمَّةَ الْإِسْلَامِيَّةَ قَدْ قُضِيَ عَلَيْهَا بِدَوَامِ مَا هِيَ عَلَيْهِ الْآنَ مِنَ الضَّعْفِ وَالْجَهْلِ وَلَوَازِمِهِمَا كَمَا يَزْعُمُ الْجَاهِلُونَ بِسُنَنِ اللهِ، الْيَائِسُونَ مِنْ رُوحِ اللهِ، بَلْ تُوجَدُ نُصُوصٌ أُخْرَى تَدُلُّ عَلَى أَنَّ

لِجَوَادِهَا نَهْضَةً مِنْ هَذِهِ الْكَبْوَةِ، وَأَنَّ لِسَهْمِهَا قَرْطَسَةً بَعْدَ هَذِهِ النَّبْوَةِ كَالْآيَةِ النَّاطِقَةِ بِاسْتِخْلَافِهِمْ فِي الْأَرْضِ، فَإِنَّ عُمُومَهَا لَمْ يَتِمَّ بَعْدُ، وَكَخَبَرِ " لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَعُودَ أَرْضُ الْعَرَبِ مُرُوجًا وَأَنْهَارًا، وَحَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ بَيْنَ الْعِرَاقِ وَمَكَّةَ لَا يَخَافُ إِلَّا ضَلَالَ الطَّرِيقِ " رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالشَّطْرُ الْأَوَّلُ مِنْهُ لَمْ يَتَحَقَّقْ بَعْدُ، وَيُؤَيِّدُهُ وَيُوَضِّحُ مَعْنَاهُ مَا صَحَّ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ أَنَّ مِسَاحَةَ الْمَدِينَةِ سَوْفَ تَبْلُغُ الْمَوْضِعَ الَّذِي يُقَالُ لَهُ: إِهَابٌ، أَيْ أَنَّ مِسَاحَتَهَا سَتَكُونُ عِدَّةَ أَمْيَالٍ، فَكُونُوا يَا قَوْمُ مِنَ الْمُبَشِّرِينَ لَا مِنَ الْمُنَفِّرِينَ (وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ) (38: 88) .

(وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ) الْخِطَابُ لِلرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم أَيْ: وَكَذَّبَ جُمْهُورُ قَوْمِكَ وَهُمْ قُرَيْشٌ بِالْعَذَابِ أَوْ بِالْقُرْآنِ، عَلَى مَا صَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْآيَاتِ الْجَاذِبَةِ إِلَى فِقْهِ الْإِيمَانِ بِجَعْلِهَا حُجَجًا يُثْبِتُهَا الْحِسُّ وَالْعَقْلُ وَالْوِجْدَانُ فِي أَعْلَى أَسَالِيبِ الْبَلَاغَةِ وَحُسْنِ الْبَيَانِ، وَالْحَالُ أَنَّهُ هُوَ الْحَقُّ الثَّابِتُ فِي نَفْسِهِ، الَّذِي لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ، وَمَا سَبَبُ ذَلِكَ إِلَّا الْكِبْرُ وَالْعِنَادُ وَالْجُمُودُ عَلَى تَقْلِيدِ الْآبَاءِ وَالْأَجْدَادِ (قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ) أَيْ: قُلْ لَهُمْ أَيُّهَا الرَّسُولُ: إِنَّنِي لَسْتُ بِوَكِيلٍ مُسَيْطِرٍ عَلَيْكُمْ، وَإِنَّمَا أَنَا رَسُولٌ لَكُمْ، فَالْوَكِيلُ هُوَ الَّذِي تُوكَلُ إِلَيْهِ الْأُمُورُ، وَفِي الْوِكَالَةِ مَعْنَى السَّيْطَرَةِ وَالتَّصَرُّفِ، فَمَنْ جَعَلَهُ السُّلْطَانُ أَوِ الْمَلِكُ وَكِيلًا لَهُ عَلَى بِلَادِهِ أَوْ مَزَارِعِهِ يَكُونُ مَأْذُونًا بِالتَّصَرُّفِ عَنْهُ فِيهَا وَالسَّيْطَرَةِ عَلَى أَهْلِهَا، وَالرَّسُولُ مُبَلِّغٌ عَنِ اللهِ تَعَالَى، يُذَكِّرُ النَّاسَ وَيُعَلِّمُهُمْ وَيُبَشِّرُهُمْ وَيُنْذِرُهُمْ، وَيُقِيمُ دِينَ اللهِ فِيهِمْ، هَذِهِ وَظِيفَتُهُ، وَلَيْسَ وَكِيلًا عَنْ رَبِّهِ وَمُرْسِلِهِ، وَلَا يُعْطَى الْقُدْرَةَ عَلَى التَّصَرُّفِ فِي عِبَادِهِ حَتَّى يُجْبِرَهُمْ عَلَى الْإِيمَانِ إِجْبَارًا وَيُكْرِهَهُمْ عَلَيْهِ إِكْرَاهًا (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) (2: 256) -

ص: 417

(فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ)(88: 21، 22)(نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ)(50: 45)(لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ)(2: 272) وَرَاجِعْ تَفْسِيرَ (6: 48) وَقِيلَ: الْوَكِيلُ الْحَفِيظُ الْمُجَازِيُّ.

وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نُسِخَتْ بِآيَةِ الْقِتَالِ، وَتَمَسَّكَ بِهَذِهِ الرِّوَايَةِ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ الْمُغْرَمِينَ بِتَكْثِيرِ الْآيَاتِ الْمَنْسُوخَةِ، قَالَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ: وَهُوَ بَعِيدٌ، وَهُوَ فِي قَوْلِهِ الْمُصِيبُ، فَإِنَّ الْأَذَى بِالْقِتَالِ لِلدِّفَاعِ عَنِ الْحَقِّ وَالْحَقِيقَةِ

وَحِمَايَةِ الدَّعْوَةِ وَالْبَيْضَةِ لَمْ يُخْرِجِ الرَّسُولَ عَنْ كَوْنِهِ رَسُولًا، أَيْ عَبْدًا لِلَّهِ مُبَلِّغًا عَنْهُ، لَا شَرِيكًا لَهُ وَلَا وَكِيلًا، وَمَا أَرَى الرِّوَايَةَ تَصِحُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَلَوْ صَحَّتْ لَكَانَ الْوَجْهُ فِي مُرَادِهِ مِنْهُ أَنَّ آيَةَ الْقِتَالِ أَزَالَتْ مَا كَانَ مِنْ لَوَازِمِ هَذِهِ الْآيَةِ وَأَمْثَالِهَا مِنْ إِرْشَادِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم إِلَى السُّكُوتِ لِلْمُشْرِكِينَ عَلَى مَا كَانَ مِنْ تَكْذِيبِهِمْ لِمَا جَاءَ بِهِ، ذَلِكَ التَّكْذِيبُ الْقَوْلِيُّ الْعَمَلِيُّ الَّذِي أَبْرَزُوهُ بِالصَّدِّ عَنْهُ، وَمَنْعِهِ مِنْ تَبْلِيغِ دَعْوَةِ رَبِّهِ، وَإِيذَائِهِ وَإِيذَاءِ مَنْ آمَنَ بِهِ، فَإِنَّ الصَّحَابَةَ كَانُوا يُرِيدُونَ مِنَ النَّسْخِ مَعْنًى أَعَمَّ مِنَ الْمَعْنَى الَّذِي قَرَّرَهُ عُلَمَاءُ الْأُصُولِ، وَهُوَ الَّذِي يَجْرِي عَلَيْهِ الْمُفَسِّرُونَ، وَمِنْ هُنَا قَالَ الزَّجَّاجُ فِي تَفْسِيرِ الْعِبَارَةِ: أَيْ أَنِّي لَمْ أُؤْمَرْ بِحَرْبِكُمْ وَمَنْعِكُمْ عَنِ التَّكْذِيبِ. انْتَهَى. وَبِنَاءً عَلَى هَذَا قَالَ كَثِيرُونَ بِنَسْخِ الْآيَاتِ الْكَثِيرَةِ الَّتِي أَمَرَ بِهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالصَّبْرِ وَالْعَفْوِ وَحُسْنِ الْمُعَامَلَةِ، وَهِيَ هِيَ الْفَضَائِلُ الَّتِي كَانَ صلى الله عليه وسلم مُتَحَلِّيًا بِهَا طُولَ عُمُرِهِ مَعَ وَضْعِهِ كُلَّ شَيْءٍ فِي مَوْضِعِهِ.

وَوَضْعُ النَّدَى فِي مَوْضِعِ السَّيْفِ فِي الْعُلَا

مُضِرٌّ كَوَضْعِ السَّيْفِ فِي مَوْضِعِ النَّدَى.

(لِكُلِّ نَبَأٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) هَذَا تَمَامُ مَا أَمَرَ اللهُ تَعَالَى رَسُولَهُ أَنْ يَقُولَهُ لِقَوْمِهِ الْمُكَذِّبِينَ، وَالنَّبَأُ: الْخَبَرُ كَمَا قِيلَ، أَوِ الْخَبَرُ الَّذِي لَهُ شَأْنٌ يَهْتَمُّ بِهِ، وَقَالَ الرَّاغِبُ: خَبَرٌ ذُو فَائِدَةٍ عَظِيمَةٍ يَحْصُلُ بِهِ عِلْمٌ أَوْ غَلَبَةُ ظَنٍّ، وَلَا يُقَالُ لِلْخَبَرِ نَبَأٌ حَتَّى يَتَضَمَّنَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ الثَّلَاثَةَ. انْتَهَى. وَيُرَادُ بِهِ الْمَعْنَى الْمَصْدَرِيُّ أَوْ مَدْلُولُهُ الَّذِي يَقَعُ مُصَدِّقًا لَهُ، وَالْمُسْتَقَرُّ مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ بِمَعْنَى الِاسْتِقْرَارِ وَهُوَ الثَّبَاتُ الَّذِي لَا تَحَوُّلَ فِيهِ، وَاسْمُ زَمَانٍ وَمَكَانٍ لَهُ، وَإِرَادَةُ الزَّمَانِ هُنَا أَظْهَرَ، وَيَسْتَلْزِمُ غَيْرَهُ مَعَهُ. وَالْمَعْنَى: لِكُلِّ شَيْءٍ يُنَبَّأُ عَنْهُ مُسْتَقَرٌّ تَظْهَرُ فِيهِ حَقِيقَتُهُ، وَيَتَمَيَّزُ حَقُّهُ مِنْ بَاطِلِهِ، فَلَا يَبْقَى مَجَالٌ لِلِاخْتِلَافِ فِيهِ، وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مُسْتَقَرَّ مَا أَنْبَأَ بِهِ الْقُرْآنُ الَّذِي كَذَّبْتُمْ بِهِ مِنْ وَعْدٍ وَوَعِيدٍ، أَوْ لِكُلِّ نَبَأٍ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرْآنِ الْحَقِّ الَّذِي كَذَّبُوا بِهِ زَمَانٌ يَحْصُلُ فِيهِ مَضْمُونُهُ، فَيَكُونُ قَارًّا ثَابِتًا فِيهِ. وَمِنْ هَذِهِ الْأَنْبَاءِ مَا وَعَدَ اللهُ الرَّسُولَ، مِنْ نَصْرِهِ عَلَيْهِمْ وَمَا أَوْعَدَهُمْ مِنَ الْخِزْيِ وَالْعَذَابِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ (كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ فَأَذَاقَهُمُ اللهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) (39: 25، 26)

ص: 418

(قُلْ يَاقَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ

عَذَابٌ مُقِيمٌ إِنَّا أَنْزَلَنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ) (39: 39 - 41) وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ذَلِكَ عِنْدَ وُقُوعِهِ. وَحَسْبُكَ هَذِهِ الشَّوَاهِدُ فَهِيَ مُطَابَقَةٌ لِمَا هُنَا أَتَمَّ الْمُطَابَقَةِ، وَإِذْ جُعِلَ الْمُسْتَقَرُّ بِمَعْنَى الِاسْتِقْرَارِ كَانَ مَعْنَاهُ لِكُلِّ نَبَأٍ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرْآنِ اسْتِقْرَارٌ أَيْ وُقُوعٌ ثَابِتٌ لَا بُدَّ مِنْهُ. وَمِنْ أَنْبَاءِ الْقُرْآنِ مَا هُوَ خَاصٌّ بِأُولَئِكَ الْقَوْمِ، وَمِنْهُ مَا هُوَ فِي غَيْرِهِمْ، وَمِنْهُ مَا هُوَ نَبَأٌ عَنْ أَهْلِ ذَلِكَ الْعَصْرِ، وَمِنْهُ مَا هُوَ نَبَأٌ عَمَّنْ بَعْدَهُمْ، وَمِنْهُ مَا هُوَ عَامٌّ يَشْمَلُ أُمُورًا تَأْتِي فِي أَزْمِنَةٍ مُخْتَلِفَةٍ، فَيَحْصُلُ فِي كُلِّ زَمَنٍ مِنْهَا مَا يَثْبُتُ لِمَنْ فَقِهَ حَقِّيَّةِ الْقُرْآنِ (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (41: 52، 53) وَإِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَزْدَادَ فَهْمًا بِوُجُوهِ الِاتِّصَالِ وَالتَّنَاسُبِ بَيْنَ الْآيَاتِ فِي هَذَا السِّيَاقِ، فَارْجِعْ إِلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْكَلَامِ فِي مَسْأَلَةِ اسْتِعْجَالِهِمُ الْعَذَابَ وَأَجَلِهِ الَّذِي لَا يَتَعَدَّاهُ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ.

(وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ) .

ص: 419

أَنْذَرَ اللهُ تَعَالَى فِي الْآيَاتِ السَّابِقَةِ هَذِهِ الْأُمَّةَ - أُمَّةَ الدَّعْوَةِ - مِثْلَ الْعَذَابِ

الَّذِي بَعَثَهُ عَلَى مُكَذِّبِي الرُّسُلِ مِنَ الْأَوَّلِينَ، وَعَلَى الْمُتَفَرِّقِينَ الْمُخْتَلِفِينَ فِي دِينِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَجَعَلَ ذَلِكَ مَعَ مَا قَبْلَهُ مِنْ حُجَجِ الْقُرْآنِ وَآيَاتِهِ الْمُثْبِتَةِ لِكَوْنِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ لَا مِنْ عِنْدِ رَسُولِهِ الْأُمِّيِّ الَّذِي لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ شَيْئًا مِنْ أَخْبَارِ الْأُمَمِ وَلَا مِنْ سُنَنِ اللهِ فِي مُكَذِّبِي الرُّسُلِ وَمُتَّبِعِيهِمْ - تِلْكَ الْآيَاتُ الَّتِي يُرْجَى لِمَنْ تَدَبَّرَهَا فِقْهُ الْأُمُورِ وَإِدْرَاكُ حَقَائِقِ الْعِلْمِ. وَذَكَرَ بَعْدَ هَذَا الْإِنْذَارِ وَالْبَيَانِ تَكْذِيبَ قُرَيْشٍ بِالْقُرْآنِ، وَكَوْنَ الرَّسُولِ مُبَلِّغًا لَا خَالِقًا لِلْإِيمَانِ، وَإِحَالَتَهُمْ فِي ظُهُورِ صِدْقِ أَنْبَائِهِ عَلَى الزَّمَانِ. ثُمَّ بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ كَيْفَ يُعَامَلُ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِ اللهِ بِالْبَاطِلِ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ - أَعْنِي أُمَّةَ الدَّعْوَةِ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنْ كُفَّارِهَا الَّذِينَ لَمْ يُجِيبُوا دَعْوَتَهَا - بِمَا يُعْلَمُ مِنْهُ حُكْمُ مَنْ يَدْخُلُ فِي عُمُومِ ذَلِكَ مِمَّنْ أَجَابُوهُمَا عَلَى نَحْوِ مَا تَقَدَّمَ فِي الْآيَاتِ الَّتِي قَبْلَهَا، فَقَالَ:

(وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ) رُوِيَ عَنْ أَبِي مَالِكٍ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَابْنِ جُرَيْجٍ، وَقَتَادَةَ، وَمُقَاتِلٍ، وَالسُّدِّيِّ، وَمُجَاهِدٍ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ فِي الْمُشْرِكِينَ الْمُكَذِّبِينَ الَّذِينَ كَانُوا يَسْتَهْزِئُونَ بِالْقُرْآنِ وَالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَبِي جَعْفَرٍ، وَمُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ، وَمُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ أَنَّهَا فِي أَهْلِ الْأَهْوَاءِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَهَذَا الْخِلَافُ مَبْنِيٌّ عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِيمَا قَبْلَهَا مِنْ كَوْنِهِ يَشْمَلُ الْمُشْرِكِينَ وَغَيْرَهُمْ. فَمَنْ قَالَ: إِنَّ هَذِهِ فِي الْمُشْرِكِينَ فَقَطْ، فَإِنَّمَا رَجَّحَ ذَلِكَ بِمَعُونَةِ السِّيَاقِ وَالْوَقْتِ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ الْآيَاتُ بَلِ السُّورَةُ كُلُّهَا فِي أَوَائِلِ الْبَعْثَةِ، وَمَنْ قَالَ: إِنَّهَا فِي أَهْلِ الْأَهْوَاءِ فَإِنَّمَا رَجَّحَ ذَلِكَ بِمَا وَرَدَ مِنَ الْأَحَادِيثِ الْمَرْفُوعَةِ فِي كَوْنِ الْإِنْذَارِ بِالْعَذَابِ مُوَجِّهًا إِلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ بِجُمْلَتِهَا - مَنْ أَجَابَ دَعْوَتَهَا وَمَنْ لَمْ يُجِبْ - وَكَوْنِ تُفَرُّقِهَا شِيَعًا يَذُوقُ بَعْضُهُمْ بَأْسَ بَعْضٍ أَمْرًا مَقْضِيًّا مَضَتْ بِهِ سُنَّةُ اللهِ تَعَالَى فَلَا مَرَدَّ لَهُ، وَالْخِطَابُ عَلَى الْأَوَّلِ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَيُشَارِكُهُ فِي حُكْمِهِ كُلُّ مَنْ بَلَغَهُ، وَعَلَى الثَّانِي كُلُّ مَنْ يَقْرَأُ الْآيَةَ وَيَسْمَعُهَا. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهَا فِي أَهْلِ الْكِتَابِ وَهُوَ بَعِيدٌ ; إِذْ لَا وَجْهَ لِتَخْصِيصِهِمْ، لَا مِنَ السِّيَاقِ - وَالسُّورَةُ مَكِّيَّةٌ - وَلَا مِنَ الْأَخْبَارِ الْمَرْفُوعَةِ فِي مَعْنَاهَا، وَلَكِنَّ الْخَائِضِينَ مِنْهُمْ يَدْخُلُونَ فِي عُمُومِهَا.

وَأَصْلُ الْخَوْضِ وَحَقِيقَتُهُ الدُّخُولُ فِي الْمَاءِ وَالْمُرُورُ مَشْيًا أَوْ سِبَاحَةً، وَجَدْحُ السَّوِيقَ أَيْ لَتُّ الدَّقِيقِ بِاللَّبَنِ، وَيُسْتَعَارُ لِمُرُورِ الْإِبِلِ فِي السَّرَابِ، وَوَمِيضِ الْبَرْقِ فِي السَّحَابِ،

وَلِلِانْدِفَاعِ فِي الْحَدِيثِ وَالِاسْتِرْسَالِ فِيهِ، وَلِلدُّخُولِ فِي الْبَاطِلِ مَعَ أَهْلِهِ، وَبِهَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ اسْتُعْمِلَ فِي الْقُرْآنِ، وَفُسِّرَ الْخَوْضُ هُنَا عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ بِالْكُفْرِ بِالْآيَاتِ وَالِاسْتِهْزَاءِ بِهَا. قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَجْلِسُونَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يُحِبُّونَ أَنْ يَسْمَعُوا مِنْهُ، فَإِذَا سَمِعُوا اسْتَهْزَءُوا، فَنَزَلَتْ (وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ) الْآيَةَ. قَالَ: فَجَعَلَ إِذَا اسْتَهْزَءُوا قَامَ، فَحَذَّرُوا وَقَالُوا: لَا تَسْتَهْزِئُوا فَيَقُومُ. . إِلَخْ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: كَانَ الْمُشْرِكُونَ إِذَا جَالَسُوا الْمُؤْمِنِينَ

ص: 420

وَقَعُوا فِي النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالْقُرْآنِ فَسَبُّوهُ وَاسْتَهْزَءُوا بِهِ، فَأَمَرَهُمُ اللهُ بِأَلَّا يَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: كَانَ الْمُشْرِكُونَ بِمَكَّةَ إِذَا سَمِعُوا الْقُرْآنَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم خَاضُوا وَاسْتَهْزَءُوا، فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: لَا يَصِحُّ لَنَا مُجَالَسَتُهُمْ؛ نَخَافُ أَنْ نَحْرِجَ حِينَ نَسْمَعُ قَوْلَهُمْ وَنُجَالِسُهُمْ فَلَا نَعِيبُ عَلَيْهِمْ، فَأَنْزَلَ اللهُ فِي ذَلِكَ (وَإِذَا رَأَيْتَ) أَيْ أَنْزَلَهُ فِي أَثْنَاءِ هَذِهِ السُّورَةِ. وَهَذَا مُرَادُ ابْنِ جُرَيْجٍ أَيْضًا. وَقَوْلُهُمْ نَحْرِجُ " مَعْنَاهُ نَقَعُ فِي الْحَرَجِ وَالْإِثْمِ.

وَفُسِّرَ الْخَوْضُ فِي الْآيَاتِ عَلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ لِمُفَسِّرِي السَّلَفِ بِالْمِرَاءِ وَالْجَدَلِ وَالْخُصُومَةِ فِيهَا اتِّبَاعًا لِلْأَهْوَاءِ. وَانْتِصَارًا لِلْمَذَاهِبِ وَالْأَحْزَابِ، أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ:(وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا) وَنَحْوُ هَذَا فِي الْقُرْآنِ - قَالَ: أَمَرَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ بِالْجَمَاعَةِ، وَنَهَاهُمْ عَنْ الِاخْتِلَافِ وَالْفُرْقَةِ، وَأَخْبَرَهُمْ إِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَهُمْ بِالْمِرَاءِ وَالْخُصُومَاتِ فِي دِينِ اللهِ. وَرَوَى عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ قَالَ: لَا تُجَالِسُوا أَهْلَ الْأَهْوَاءِ؛ فَإِنَّهُمُ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِ اللهِ.

وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي الْآيَةِ أَنَّهَا عَامَّةٌ، وَأَنَّ الْمُخَاطَبَ بِهَا أَوَّلًا بِالذَّاتِ سَيِّدُنَا الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم وَكُلُّ مَنْ كَانَ مَعَهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، فَكُلُّ مَا وَرَدَ عَنِ السَّلَفِ فِي تَفْسِيرِهَا صَحِيحٌ. وَالْمَعْنَى الْعَامُّ الْجَامِعُ الْمُخَاطَبُ بِهِ كُلَّ مُؤْمِنٍ فِي كُلِّ زَمَنٍ:" وَإِذَا رَأَيْتَ " أَيُّهَا الْمُؤْمِنُ " الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا " الْمُنَزَّلَةِ، مِنَ الْكُفَّارِ الْمُكَذِّبِينَ أَوْ مِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ الْمُفَرَّقِينَ، فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ أَيِ انْصَرِفْ عَنْهُمْ، وَأَرِهِمْ عَرْضَ ظَهْرِكَ بَدَلًا مِنَ الْقُعُودِ مَعَهُمْ أَوِ الْإِقْبَالِ عَلَيْهِمْ بِوَجْهِكَ " حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ " أَيْ غَيْرِ ذَلِكَ الْحَدِيثِ الَّذِي مَوْضِعُهُ الْكُفْرُ بِآيَاتِ اللهِ وَالِاسْتِهْزَاءِ بِهَا مِنْ قِبَلِ الْكُفَّارِ،

أَوْ تَأْوِيلُهَا بِالْبَاطِلِ مِنْ قِبَلِ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ، لِتَأْيِيدِ مَا اسْتَحْدَثُوا مِنَ الْمَذَاهِبِ وَالْآرَاءِ، وَتَفْنِيدِ أَقْوَالِ خُصُومِهِمْ بِالْجِدَالِ وَالْمِرَاءِ، فَإِذَا خَاضُوا فِي غَيْرِهِ فَلَا يَأْسَ بِالْقُعُودِ مَعَهُمْ. وَقِيلَ: إِنَّ الضَّمِيرَ فِي " غَيْرِهِ " لِلْقُرْآنِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُرَادُ بِالْآيَاتِ، فَأُعِيدَ الضَّمِيرُ عَلَيْهَا بِحَسَبِ الْمَعْنَى.

وَسَبَبُ هَذَا النَّهْيِ أَنَّ الْإِقْبَالَ عَلَى الْخَائِضِينَ وَالْقُعُودَ مَعَهُمْ أَقَلُّ مَا فِيهِ أَنَّهُ إِقْرَارٌ لَهُمْ عَلَى خَوْضِهِمْ، وَإِغْرَاءٌ بِالتَّمَادِي فِيهِ، وَأَكْبَرُهُ أَنَّهُ رِضَاءٌ بِهِ وَمُشَارَكَةٌ فِيهِ، وَالْمُشَارَكَةُ فِي الْكُفْرِ وَالِاسْتِهْزَاءِ كُفْرٌ ظَاهِرٌ، لَا يَقْتَرِفُهُ بِاخْتِيَارِهِ إِلَّا مُنَافِقٌ مُرَاءٍ أَوْ كَافِرٌ مُجَاهِرٌ، وَفِي التَّأْوِيلِ لِنَصْرِ الْمَذَاهِبِ أَوِ الْآرَاءِ مَزْلَقَةٌ فِي الْبِدَعِ وَاتِّبَاعِ الْأَهْوَاءِ، وَفِتْنَتُهُ أَشَدُّ مِنْ فِتْنَةِ الْأَوَّلِ، فَإِنَّ أَكْثَرَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي الْجَدَلِ وَالْمِرَاءِ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ وَغَيْرِهِمْ تَغُشُّهُمْ أَنْفُسُهُمْ بِأَنَّهُمْ يَنْصُرُونَ الْحَقَّ، وَيَخْدِمُونَ الشَّرْعَ، وَيُؤَيِّدُونَ الْأَئِمَّةَ الْمُهْتَدِينَ، وَيَخْذُلُونَ الْمُبْتَدِعِينَ الْمُضِلِّينَ ; وَلِذَلِكَ حَذَّرَ السَّلَفُ الصَّالِحُونَ مِنْ مُجَالَسَةِ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ أَشَدَّ مِمَّا حَذَّرُوا مِنْ مُجَالَسَةِ الْكُفَّارِ، إِذْ لَا يُخْشَى عَلَى الْمُؤْمِنِ مِنْ فِتْنَةِ

ص: 421

الْكَفَّارِ مَا يُخْشَى عَلَيْهِ مِنْ فِتْنَةِ الْمُبْتَدِعِ ; لِأَنَّهُ يُحْذَرُ مِنَ الْأَوَّلِ عَلَى ضَعْفِ شُبْهَتِهِ، مَا لَا يُحْذَرُ مِنَ الثَّانِي وَهُوَ يَجِيئُهُ مِنْ مَأْمَنِهِ، وَلَا يُعْقَلُ أَنْ يَقْعُدَ الْمُؤْمِنُ بِاخْتِيَارِهِ مَعَ الْكَفَّارِ فِي حَالِ اسْتِهْزَائِهِمْ بِآيَاتِ اللهِ، وَتَكْذِيبِهِمْ بِهَا، وَطَعْنِهِمْ فِيهَا كَمَا يَقْعُدُ مُخْتَارًا مَعَ الْمُجَادِلِينَ فِيهَا الْمُتَأَوِّلِينَ لَهَا، وَإِنَّمَا يُتَصَوَّرُ قُعُودُ الْمُؤْمِنِ مَعَ الْكَافِرِ الْمُسْتَهْزِئِ فِي حَالِ الْإِكْرَاهِ وَمَا يَقْرُبُ مِنْهَا، كَشِدَّةِ الضَّعْفِ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ فِي دَارِ الْحَرْبِ. وَلَمْ تَكُنْ مَكَّةُ دَارَ إِسْلَامٍ عِنْدَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَاتِ. وَيَدْخُلُ فِي أَهْلِ الْأَهْوَاءِ الْمُقَلِّدُونَ الْجَامِدُونَ الَّذِينَ يُحَاوِلُونَ تَطْبِيقَ آيَاتِ اللهِ وَسُنَنِ رَسُولِهِ عَلَى آرَاءِ مُقَلِّدِيهِمْ بِالتَّكَلُّفِ، أَوْ يَرُدُّونَهَا وَيُحَرِّمُونَ الْعَمَلَ بِهَا بِدَعْوَى احْتِمَالِ النَّسْخِ أَوْ وُجُودِ مُعَارِضٍ آخَرَ، وَقَدْ نَقَلْنَا كَلَامًا فِي هَذَا الْمَعْنَى عَنْ فَتْحِ الْبَيَانِ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ سُورَةِ النِّسَاءِ الَّتِي بِمَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ، وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى:(وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا)(4: 140) . وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُحَرِّفُ آيَاتِ اللهِ عَنْ مَوَاضِعِهَا بِهَوَاهُ لِأَجْلِ أَنْ يُكَفِّرَ بِهَا مُسْلِمًا أَوْ يُضْلَلَ بِهَا مُهْتَدِيًا، بَغْيًا عَلَيْهِ وَحَسَدًا لَهُ، كَمَا فَعَلَ بَعْضُ أَدْعِيَاءِ الْعِلْمِ بِمِصْرَ فِي هَاتَيْنِ

الْآيَتَيْنِ، وَفِيمَا وَرَدَ فِي النَّهْيِ عَنْ تَوَلِّي أَعْدَاءِ اللهِ وَأَعْدَاءِ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْكَفَّارِ بِنَحْوِ إِعَانَتِهِمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي الْحَرْبِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْمُمْتَحِنَةِ:(لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ)(60: 1) زَعَمَ الْمُحَرِّفُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ تَنْطَبِقُ عَلَى مَنْ حَضَرَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ نَادِيًا لِلنَّصَارَى ابَّنُوا فِيهِ طَبِيبًا مِنْهُمْ لَمْ يَكْفُرُوا فِيهِ بِآيَاتِ اللهِ، وَلَمْ يَسْتَهْزِئُوا بِهَا، وَلَمْ تَكُنْ مِنْ مَوْضُوعِ حَدِيثِهِمْ، وَلَيْسُوا مُحَارِبِينَ لِلْمُسْلِمِينَ، وَمِثْلُ هَذَا التَّحْرِيفِ أَوْلَى بِالدُّخُولِ فِي عُمُومِ آيَتَيِ الْأَنْعَامِ وَالنِّسَاءِ مِنْ تَأْوِيلِ أَصْحَابِ الْمَذَاهِبِ وَالشِّيَعِ الَّذِي نَقَلْنَا عَنْ بَعْضِ الْمُفَسِّرِينَ إِدْخَالَهُ فِيهِ أَوْ تَفْسِيرِهِ بِهِ. وَأَمَّا تَحْرِيفُ آيَةِ الْمُمْتَحِنَةِ وَمَا فِي مَعْنَاهَا مِنْ سُورَةِ الْمَائِدَةِ فَيَرُدُّهُ تَقْيِيدُ النَّهْيِ - وَهُوَ فِي وِلَايَةِ الْمُحَارِبِينَ - بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَالْمُؤْمِنِينَ مِنْ وَطَنِهِمْ لِأَجْلِ إِيمَانِهِمْ، ثُمَّ تَأْيِيدُ هَذَا التَّقْيِيدِ بِمَا يَنْفِي عُمُومَ النَّهْيِ، وَذَلِكَ صَرِيحُ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْمُمْتَحِنَةِ بَعْدَهُ:(لَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ) إِلَى قَوْلِهِ: (الظَّالِمُونَ)(8، 9) .

وَقَدْ بَيَّنَّا فِي تَفْسِيرِ آيَةِ النِّسَاءِ مِنَ الْجُزْءِ الْخَامِسِ أَنَّ الْمُنَافِقِينَ كَانُوا يَقْعُدُونَ فِي الْمَدِينَةِ مَعَ الْكُفَّارِ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِ اللهِ بِمَا ذُكِرَ، كَمَا فَعَلَ بَعْضُ ضُعَفَاءِ الْمُؤْمِنِينَ فِي مَكَّةَ، فَأَنْزَلَ اللهُ فِيهِمْ هَذِهِ الْآيَةَ كَمَا أَنْزَلَ آيَةَ الْأَنْعَامِ فِي أُولَئِكَ الضُّعَفَاءِ عَلَى مَا وَرَدَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ، وَلِذَلِكَ كَانَ التَّشْدِيدُ فِي آيَةِ النِّسَاءِ أَعْظَمَ مِنْهُ فِي آيَةِ الْأَنْعَامِ ; إِذْ كَانَ لِضُعَفَاءِ الْمُؤْمِنِينَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ بَعْضُ الْعُذْرِ، وَلَيْسَ لِمُنَافِقِي الْمَدِينَةِ عُذْرٌ إِلَّا إِخْفَاءُ الْكُفْرِ، عَلَى أَنَّ آيَةَ الْأَنْعَامِ أَوَّلُ مَا نَزَلَ فِي هَذَا النَّهْيِ، فَعَمِلَ بِهَا الْمُؤْمِنُونَ، وَانْتَهَوْا عَمَّا قِيلَ إِنَّهُ كَانَ قَدْ وَقَعَ مِنْهُمْ، فَمَا عُذْرُ الْمُنَافِقِينَ فِي الْقُعُودِ

ص: 422

مَعَ الْمُسْتَهْزِئِينَ بَعْدَ النَّهْيِ وَهُمْ يَتْلُونَهُ أَوْ يُتْلَى عَلَيْهِمْ؟ لِهَذَا شَدَّدَ اللهُ فِي آيَةِ النِّسَاءِ، وَقَالَ فِي الَّذِينَ يَقْعُدُونَ مَعَهُمْ:(إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ)، وَأَمَّا أُولَئِكَ فَعَذَرَهُمْ بِنِسْيَانِ النَّهْيِ فِي قَوْلِهِ:

(وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) أَيْ، وَإِنْ فُرِضَ أَنْ أَنْسَاكَ الشَّيْطَانُ النَّهْيَ مَرَّةً مَا، وَقَعَدْتَ مَعَهُمْ فِي تِلْكَ الْحَالِ ثُمَّ ذَكَرْتَهُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ التَّذَكُّرِ مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ لِأَنْفُسِهِمْ بِتَكْذِيبِ آيَاتِ رَبِّهِمْ وَالِاسْتِهْزَاءِ بِهَا، بَدَلًا مِنَ الْإِحْسَانِ إِلَيْهَا بِالْإِيمَانِ وَالِاهْتِدَاءِ بِهَا، وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ:(يُنَسِّيَنَّكَ) بِتَشْدِيدِ السِّينِ، وَهُوَ يُفِيدُ أَنَّ النِّسْيَانَ عُذْرٌ، وَإِنْ تَكَرَّرَ؛ لِأَنَّ فِي التَّنْسِيَةِ مَعْنَى التَّكْرَارِ.

وَهَلِ الْخِطَابُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لِلرَّسُولِ وَالْمُرَادُ غَيْرُهُ كَمَا قِيلَ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ غَيْرِهَا عَلَى حَدِّ الْمَثَلِ " إِيَّاكِ أَعْنِي وَاسْمَعِي يَا جَارَةُ " وَهُوَ كَثِيرٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ؟ أَمْ لِلرَّسُولِ بِالذَّاتِ وَلِغَيْرِهِ بِالتَّبَعِ كَمَا هُوَ الشَّأْنُ فِي غَيْرِ الْأَحْكَامِ الْخَاصَّةِ بِهِ صلى الله عليه وسلم أَمْ لِكُلِّ مَنْ بَلَغَهُ كَمَا قِيلَ آيَاتٌ أُخْرَى؟ أَقُولُ: ظَاهِرُ مَا نَقَلْنَاهُ عَنِ السُّدِّيِّ وَمُقَاتِلٍ اخْتِيَارُ الْأَوَّلِ مِنْهَا.

وَقَدِ اسْتَشْكَلَ إِنْسَاءُ الشَّيْطَانِ لَهُ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْخِطَابَ فِي الْآيَةِ لَهُ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي نَصِّ الْقُرْآنِ أَنَّ الشَّيْطَانَ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى عِبَادِ اللهِ الْمُخْلَصِينَ، وَخَاتَمُ النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ صلى الله عليه وسلم أَخْلَصُهُمْ وَأَفْضَلُهُمْ وَأَكْمَلُهُمْ، بَلْ وَرَدَ فِي سُورَةِ النَّحْلِ:(إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ)(16: 99: 100) وَلَكِنَّ إِنْسَاءَ الشَّيْطَانِ بَعْضَ الْأُمُورِ لِلْإِنْسَانِ لَيْسَ مِنْ قَبِيلِ التَّصَرُّفِ وَالسُّلْطَانِ، وَإِلَّا لَمْ يَقَعْ إِلَّا لِأَوْلِيَائِهِ الْمُشْرِكِينَ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ فَتَى مُوسَى حِينَ نَسِيَ الْحُوتَ:(وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ)(18: 63) وَإِنَّمَا كَانَ فَتَاهُ - أَيْ خَادِمَهُ لَا عَبْدَهُ - يُوشَعُ بْنُ نُونٍ كَمَا فِي الْبُخَارِيِّ، وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ نَبِيٌّ، وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي تَفْسِيرِ (فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ) (12: 42) الْآيَةَ أَنَّ يُوسُفَ عليه السلام أَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ، إِذْ أَمَرَ النَّاجِيَ مِنْ صَاحِبَيْهِ فِي السِّجْنِ بِذِكْرِهِ عَنْدَ الْمَلِكِ وَابْتِغَاءِ الْفَرَجِ مِنْ عِنْدِهِ (فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ) عُقُوبَةً لَهُ، بَلْ ذَكَرَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ حَدِيثًا مَرْفُوعًا فِي ذَلِكَ، رَوَوْهُ مُرْسَلًا وَمَوْصُولًا، وَهُوَ " لَوْ لَمْ يَقُلْ يُوسُفُ عليه السلام الْكَلِمَةَ الَّتِي قَالَ، مَا لَبِثَ فِي السِّجْنِ طُولَ مَا لَبِثَ، حَيْثُ يَبْتَغِي الْفَرَجَ مِنْ غَيْرِ اللهِ تَعَالَى " هَذِهِ رِوَايَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ رَفَعَهَا، أَخْرَجَهَا عَنْهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي كِتَابِ الْعُقُوبَاتِ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، فَثَبَتَ بِهَذَا أَنَّ نِسْيَانَ الشَّيْءِ الْحَسَنِ الَّذِي يُسْنَدُ إِلَى الشَّيْطَانِ لِكَوْنِهِ ضَارًّا أَوْ مُفَوِّتًا لِبَعْضِ الْمَنَافِعِ، أَوْ لِكَوْنِهِ حَصَلَ بِوَسْوَسَتِهِ وَلَوْ بِإِشْغَالِهَا الْقَلْبَ بِبَعْضِ الْمُبَاحَاتِ - لَا يَصِحُّ أَنْ يُعَدَّ مِنْ سُلْطَانِ الشَّيْطَانِ عَلَى النَّاسِي، وَاسْتِحْوَاذِهِ عَلَيْهِ بِالْإِغْوَاءِ وَالْإِضْلَالِ الَّذِي

ص: 423

نَفَاهُ اللهُ عَنْ عِبَادِهِ الْمُخْلَصِينَ ; وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ كِبَارِ مُفَسِّرِي السَّلَفِ بِأَنَّ الْخِطَابَ فِي الْآيَةِ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ اللهَ تَعَالَى فَضَّلَهُ عَلَى سَائِرِ عِبَادِهِ الْمُخْلَصِينَ الْمَعْصُومِينَ بِإِعَانَتِهِ عَلَى شَيْطَانِهِ حَتَّى أَسْلَمَ، فَلَا يَأْمُرُ إِلَّا بِالْحَقِّ كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ، وَقَدْ يَنْسَى الْإِنْسَانُ خَيْرًا بِاشْتِغَالِ فِكْرِهِ بِخَيْرٍ

آخَرَ. قَالَ مُجَاهِدٌ: نُهِيَ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَقْعُدَ مَعَهُمْ إِلَّا أَنْ يَنْسَى، فَإِذَا ذَكَرَ فَلْيَقُمْ. إِلَخْ. رَوَاهُ عَنْهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ.

وَأَمَّا وُقُوعُ النِّسْيَانِ مَعَ الْأَنْبِيَاءِ بِغَيْرِ وَسْوَسَةٍ مِنَ الشَّيْطَانِ فَلَا وَجْهَ لِلْخِلَافِ فِي جَوَازِهِ، قَالَ تَعَالَى لِخَاتَمِ رُسُلِهِ:(وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ)(18: 24) بَلْ ثَبَتَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ (الْكَهْفِ) وُقُوعُهُ مِنْ مُوسَى عليه السلام (قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ)(18: 73) وَإِنَّمَا يَقُومُ الدَّلِيلُ عَلَى عِصْمَتِهِمْ مِنْ نِسْيَانِ شَيْءٍ مِمَّا أَمَرَهُمُ اللهُ تَعَالَى بِتَبْلِيغِهِ، وَهَذَا مَحَلُّ إِجْمَاعٍ، وَمِثْلُهُ النِّسْيَانُ الَّذِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ إِخْلَالٌ كَإِضَاعَةِ فَرِيضَةٍ أَوْ تَحْرِيمِ حَلَالٍ، أَوْ تَحْلِيلِ حَرَامٍ، وَقَدْ جَزَمَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي تَفْسِيرِ (مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا) (2: 106) بِبُطْلَانِ مَا ذَكَرَ السُّيُوطِيُّ فِي أَسْبَابِ النُّزُولِ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي حَاتِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: كَانَ رُبَّمَا نَزَلَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الْوَحْيُ بِاللَّيْلِ وَنَسِيَهُ بِالنَّهَارِ، فَأَنْزَلَ اللهُ (مَا نَنْسَخْ) الْآيَةَ ; لِأَنَّ ذَلِكَ مُخَالِفٌ لِلْقَاعِدَةِ الْقَطْعِيَّةِ الْمَجْمَعِ عَلَيْهَا. وَقَدْ وَرَدَ فِي الصَّحِيحِ إِسْنَادُ النِّسْيَانِ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حَدِيثُ لَيْلَةِ الْقَدْرِ " فَنَسِيتُ " وَهُوَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، وَفِي رِوَايَةٍ " فَأُنْسِيتُهَا " وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَالسُّنَنِ سَهْوُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الصَّلَاةِ، وَقَوْلُهُ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ عِنْدَهُمْ مَا عَدَا التِّرْمِذِيَّ:" إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَنْسَى كَمَا تَنْسَوْنَ، فَإِذَا نَسِيتُ فَذَكِّرُونِي " إِلَخْ. وَهُوَ فِي بَابِ التَّوَجُّهِ نَحْوَ الْقِبْلَةِ مِنَ الْبُخَارِيِّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ الْحَافِظُ فِي شَرْحِهِ لَهُ مِنَ الْفَتْحِ: وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى وُقُوعِ السَّهْوِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامِ فِي الْأَفْعَالِ. قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: وَهُوَ قَوْلُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وَالنُّظَّارِ، وَشَذَّتْ طَائِفَةٌ فَقَالَتْ: لَا يَجُوزُ عَلَى النَّبِيِّ السَّهْوُ، وَهَذَا الْحَدِيثُ يَرُدُّ عَلَيْهِمُ. اهـ.

وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِهِ لِلْحَدِيثِ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مَا نَصُّهُ: " فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ النِّسْيَانِ عَلَيْهِ صلى الله عليه وسلم فِي أَحْكَامِ الشَّرْعِ، وَهُوَ مَذْهَبُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ، وَهُوَ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ. وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَا يُقَرُّ عَلَيْهِ، بَلْ يُعْلِمُهُ اللهُ تَعَالَى بِهِ، ثُمَّ قَالَ الْأَكْثَرُونَ: شَرْطُهُ تُنَبُّهُهُ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْفَوْرِ مُتَّصِلًا بِالْحَادِثَةِ، وَلَا يَقَعُ فِيهِ تَأْخِيرٌ، وَجَوَّزَتْ طَائِفَةٌ تَأْخِيرَهُ مُدَّةَ حَيَّاتِهِ صلى الله عليه وسلم وَاخْتَارَهُ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ، وَمَنَعَتْ طَائِفَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ السَّهْوَ

ص: 424

عَلَيْهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْأَفْعَالِ الْبَلَاغِيَّةِ وَالْعِبَادَاتِ، كَمَا أَجْمَعُوا عَلَى مَنْعِهِ وَاسْتِحَالَتِهِ عَلَيْهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْأَقْوَالِ الْبَلَاغِيَّةِ، وَأَجَابُوا عَنِ الظَّوَاهِرِ الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ، وَإِلَيْهِ مَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ الْإِسْفَرَايِينِيُّ، وَالصَّحِيحُ

الْأَوَّلُ؛ فَإِنَّ السَّهْوَ لَا يُنَاقِضُ النُّبُوَّةَ، وَإِذَا لَمْ يُقَرَّ عَلَيْهِ لَمْ تَحْصُلْ مِنْهُ مَفْسَدَةٌ، بَلْ تَحْصُلُ فِيهِ فَائِدَةٌ، وَهُوَ بَيَانُ أَحْكَامِ النَّاسِي، وَتَقْرِيرُ الْأَحْكَامِ.

" قَالَ الْقَاضِي: وَاخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ السَّهْوِ عَلَيْهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْأُمُورِ الَّتِي لَا تَتَعَلَّقُ بِالْبَلَاغِ وَبَيَانِ أَحْكَامِ الشَّرْعِ مِنْ أَفْعَالِهِ وَعَادَاتِهِ وَادِّكَارِ قَلْبِهِ - فَجَوَّزَهُ الْجُمْهُورُ، وَأَمَّا السَّهْوُ فِي الْأَقْوَالِ الْبَلَاغِيَّةِ فَأَجْمَعُوا عَلَى مَنْعِهِ كَمَا أَجْمَعُوا عَلَى امْتِنَاعِ تَعَمُّدِهِ، وَأَمَّا السَّهْوُ فِي الْأَقْوَالِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَفِيمَا لَيْسَ سَبِيلُهُ الْبَلَاغَ مِنَ الْكَلَامِ الَّذِي لَا يَتَعَلَّقُ بِالْأَحْكَامِ، وَلَا أَخْبَارِ الْقِيَامَةِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا، وَلَا يُضَافُ إِلَى وَحْيٍ - فَجَوَّزَهُ قَوْمٌ؛ إِذْ لَا مَفْسَدَةَ فِيهِ.

" قَالَ الْقَاضِي رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: وَالْحَقُّ الَّذِي لَا شَكَ فِيهِ: تَرْجِيحُ قَوْلِ مَنْ مَنَعَ ذَلِكَ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ فِي كُلِّ خَبَرٍ مِنَ الْأَخْبَارِ، كَمَا لَا يَجُوزُ عَلَيْهِمْ خُلْفٌ فِي خَبَرٍ لَا عَمْدًا وَلَا سَهْوًا، لَا فِي صِحَّةٍ وَلَا فِي مَرَضٍ، وَلَا رِضًا وَلَا غَضَبٍ، وَحَسْبُكَ فِي ذَلِكَ أَنَّ سِيرَةَ نَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلم وَكَلَامَهُ مَجْمُوعَةٌ مُعْتَنًى بِهَا عَلَى مَرِّ الزَّمَانِ، يَتَدَاوَلُهَا الْمُوَافِقُ وَالْمُخَالِفُ، وَالْمُؤْمِنُ وَالْمُرْتَابُ، فَلَمْ يَأْتِ فِي شَيْءٍ مِنْهَا اسْتِدْرَاكُ غَلَطٍ فِي قَوْلٍ وَلَا اعْتِرَافٌ بِوَهْمٍ فِي كَلِمَةٍ، وَلَوْ كَانَ لَنُقِلَ كَمَا نُقِلَ سَهْوُهُ فِي الصَّلَاةِ وَنَوْمُهُ عَنْهَا، وَاسْتِدْرَاكُهُ رَأْيَهُ فِي تَلْقِيحِ النَّخْلِ، وَفِي نُزُولِهِ بِأَدْنَى مِيَاهِ بَدْرٍ، وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: " وَاللهِ لَا أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ فَأَرَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا إِلَّا فَعَلْتُ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ، وَكَفَّرْتُ عَنْ يَمِينِي " وَغَيْرُ ذَلِكَ. وَأَمَّا جَوَازُ السَّهْوِ فِي الِاعْتِقَادَاتِ فِي أُمُورِ الدُّنْيَا فَغَيْرُ مُمْتَنِعٍ، وَاللهُ أَعْلَمُ ". اهـ.

أَمَّا حَدِيثُ تَلْقِيحِ النَّخْلِ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ (الْقَاضِي عِيَاضٌ فَهُوَ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ، عَنْ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: مَرَرْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِقَوْمٍ عَلَى رُءُوسِ النَّخْلِ، فَقَالَ:" مَا يَصْنَعُ هَؤُلَاءِ؟ " قُلْتُ: يُلَقِّحُونَهُ، يَجْعَلُونَ الذَّكَرَ فِي الْأُنْثَى فَتُلَقَّحُ،

ص: 425

فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم " مَا أَظُنُّ ذَلِكَ يُغْنِي شَيْئًا " قَالَ: فَأُخْبِرُوا بِذَلِكَ فَتَرَكُوهُ، فَأُخْبِرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِذَلِكَ، فَقَالَ:" إِنْ كَانَ يَنْفَعُهُمْ ذَلِكَ فَلْيَصْنَعُوهُ، فَإِنِّي إِنَّمَا ظَنَنْتُ ظَنًّا، فَلَا تُؤَاخِذُونِي بِالظَّنِّ، وَلَكِنْ إِذَا حَدَّثْتُكُمْ عَنِ اللهِ شَيْئًا فَخُذُوا بِهِ، فَإِنِّي لَنْ أَكْذُبَ عَلَى اللهِ عز وجل " وَرَوَاهُ مِنْ حَدِيثِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ، قَالَ: قَدِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ وَهُمْ يُؤَبِّرُونَ النَّخْلَ - يَقُولُ يُلَقِّحُونَ النَّخْلَ -، فَقَالَ:" مَا تَصْنَعُونَ؟ " قَالُوا: كُنَّا نَصْنَعُهُ، قَالَ:" لَعَلَّكُمْ لَوْ لَمْ تَفْعَلُوا كَانَ خَيْرًا " فَتَرَكُوهُ، فَنَفَضَتْ - أَوْ قَالَ: فَنَقَصَتْ - قَالَ: فَذَكَرُوا ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ:" إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ، إِذَا أَمَرَتْكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ دِينِكُمْ فَخُذُوا بِهِ، وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ رَأْيِي فَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ " قَالَ عِكْرِمَةَ: أَوْ نَحْوَ هَذَا. قَالَ الْمَعْقِرِيُّ: فَنَفَضَتْ وَلَمْ يَشُكَّ. وَرَوَاهُ أَيْضًا عَنْ عَائِشَةَ وَأَنَسٍ مَعًا بِلَفْظِ، مَرَّ بِقَوْمٍ يُلَقِّحُونَ، فَقَالَ:" لَوْ لَمْ تَفْعَلُوا يَصْلُحْ " قَالَ، فَخَرَجَ شِيصًا، فَمَرَّ بِهِمْ، فَقَالَ:" مَا لِنَخْلِكُمْ؟ " قَالُوا: قُلْتَ كَذَا وَكَذَا. قَالَ: " أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِأَمْرِ دُنْيَاكُمْ ". وَالشِّيصُ: الْبُسْرُ الرَّدِيءُ، إِذَا يَبِسَ صَارَ حَشَفًا، وَاخْتِلَافُ الْأَلْفَاظِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا رُوِيَتْ بِالْمَعْنَى.

قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ، قَالَ الْعُلَمَاءُ: وَلَمْ يَكُنْ هَذَا الْقَوْلُ خَبَرًا، وَإِنَّمَا كَانَ ظَنًّا كَمَا بَيَّنَهُ فِي هَذِهِ الرِّوَايَاتِ، قَالُوا: وَرَأْيُهُ صلى الله عليه وسلم فِي أُمُورِ الْمَعَايِشِ وَظَنُّهُ كَغَيْرِهِ، فَلَا يَمْتَنِعُ وُقُوعُ مِثْلِ هَذَا، وَلَا نَقْصَ فِي ذَلِكَ، وَسَبَبُهُ تَعَلُّقُ هِمَمِهِمْ بِالْآخِرَةِ وَمَعَارِفِهَا، وَاللهِ أَعْلَمُ. اهـ.

وَأَمَّا مَسْأَلَةُ مَاءِ بَدْرٍ فَهِيَ مَا رَوَاهُ أَهْلُ السِّيَرِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ لَمَّا خَرَجَ لِلِقَاءِ الْمُشْرِكِينَ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ نَزَلَ عِنْدَ أَدْنَى مَاءٍ مِنْ بَدْرٍ - أَيْ أَقْرَبِهِ - فَقَالَ لَهُ الْحُبَابُ بْنُ الْمُنْذِرِ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَرَأَيْتَ هَذَا الْمَنْزِلَ، أَمَنْزِلٌ أَنْزَلَكَهُ اللهُ تَعَالَى لَيْسَ لَنَا أَنْ نَتَقَدَّمَهُ وَلَا نَتَأَخَّرَ عَنْهُ، أَمْ هُوَ الرَّأْيُ وَالْحَرْبُ وَالْمَكِيدَةُ؟ قَالَ:" بَلْ هُوَ الرَّأْيُ وَالْحَرْبُ وَالْمَكِيدَةُ " قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ: إِنَّ هَذَا لَيْسَ بِمَنْزِلٍ، فَانْهَضْ بِالنَّاسِ حَتَّى تَأْتِيَ أَدْنَى مَاءٍ مِنَ الْقَوْمِ

(أَيْ قُرَيْشٍ) فَإِنِّي أَعْرِفُ غَزَارَةَ مَائِهِ - كَثْرَتَهُ - بِحَيْثُ لَا يَنْزَحُ، فَنَنْزِلُهُ ثُمَّ نُغَوِّرُ مَا عَدَاهُ مِنَ الْقُلُبِ (جَمْعُ قَلِيبٍ كَقَتِيلٍ، وَهُوَ مَا لَمْ يُبْنَ مِنَ الْآبَارِ) ثُمَّ نَبْنِي عَلَيْهِ حَوْضًا، فَنَمْلَأُهُ مَاءً، فَنَشْرَبُ وَلَا يَشْرَبُونَ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:" لَقَدْ أَشَرْتَ بِالرَّأْيِ ".

هَذَا وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْمُؤَلِّفِينَ الْمُتَأَخِّرِينَ يُبَالِغُونَ فِي تَعْظِيمِ الْأَنْبِيَاءِ - صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ - وَتَعْظِيمِ مَنْ دُونَهُمْ بِالْأَقْوَالِ كَالشُّعَرَاءِ مِنْ غَيْرِ الْتِزَامِ مَا جَاءُوا بِهِ عَنِ اللهِ تَعَالَى وَمَا ثَبَتَ فِي سِيرَتِهِمْ. وَالْقَاضِي عِيَاضٌ - أَحْسَنَ اللهُ جَزَاءَهُ - كَانَ مِنَ الْمَيَّالِينَ إِلَى الْمُبَالَغَةِ فِي

ص: 426

التَّعْظِيمِ. وَقِيَاسُهُ جَمِيعَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَى خَاتَمِهِمُ الَّذِي أَكْمَلَ اللهُ بِهِ دِينَهُمْ، وَتَمَّمَ بِهِ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ، وَشَهِدَ لَهُ بِالْخُلُقِ الْعَظِيمِ - لَا يَصِحُّ (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ) (2: 253) وَإِنَّمَا يَظْهَرُ الْحَقُّ فِي مَسْأَلَةِ نِسْيَانِ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ (ص) بِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ وَالْأَخْبَارِ النَّبَوِيَّةِ وَمَا فِي مَعْنَاهَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي أَوَاخِرِ سُورَةِ الْأَعْرَافِ:(وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ)(7: 200 - 202) فَظَاهِرُ السِّيَاقِ أَنَّ الْخِطَابَ هُنَا لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَإِنْ كَانَ يَأْتِي فِيهِ الْوُجُوهَ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا فِي أَوَّلِ تَفْسِيرِ الْآيَةِ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِ تَفْسِيرِهَا. وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ أَبِي زَيْدٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ)(7: 199) قَالَ صلى الله عليه وسلم: " يَارَبِّ كَيْفَ وَالْغَضَبُ " فَنَزَلَ (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ) الْآيَةَ. وَكَحَدِيثِ عَائِشَةَ وَابْنِ مَسْعُودٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ " مَا مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا وَقَدْ وَكَّلَ اللهُ بِهِ قَرِينَهُ مِنَ الْجِنِّ، قَالُوا: وَإِيَّاكَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: وَإِيَّايَ إِلَّا أَنَّ اللهَ أَعَانَنِي عَلَيْهِ فَأَسْلَمَ، فَلَا يَأْمُرُنِي إِلَّا بِخَيْرٍ ".

فَمَنْ تَأَمَّلَ هَذِهِ النُّصُوصَ جَزَمَ بِأَنَّ سُلْطَانَ الشَّيْطَانِ عَلَى الْإِنْسَانِ عِبَارَةٌ عَنْ تَمَكُّنُهُ مِنْ إِغْوَائِهِ وَإِضْلَالِهِ، وَإِنَّ مُجَرَّدَ الْوَسْوَسَةِ لَيْسَ سُلْطَانًا، وَلَا سِيَّمَا أَدْنَاهَا وَمَبْدَؤُهَا الْمُعَبَّرُ عَنْهُ فِي آيَتَيِ الْأَعْرَافِ بِالنَّزْغِ وَالْمَسِّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ السُّلْطَانُ مَجَازِيٌّ لَا حَقِيقِيٌّ ; لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى إِكْرَاهِ إِنْسَانٍ عَلَى شَيْءٍ، وَلَكِنْ سُمِّيَتْ طَاعَةُ وَسْوَسَتِهِ سُلْطَانًا تَشْبِيهًا بِطَاعَةِ الْمُلُوكِ وَالْقُوَّادِ الَّذِينَ يُجْبِرُونَ أَتْبَاعَهُمْ عَلَى مَا يَأْمُرُونَهُمْ بِهِ فَيَأْتُونَهُ

كُرْهًا، يَدُلُّ عَلَى هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى:(وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ)(14: 22) الْآيَةَ. وَقَوْلُهُ: (قُضِيَ الْأَمْرُ) مَعْنَاهُ أَمْرُ الْحِسَابِ فِي الْآخِرَةِ. فَمَنْ وَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ فَأَمَرَهُ بِمُنْكَرٍ فَلَمْ يُطِعْهُ كَانَ مَحْفُوظًا مِنْ إِغْوَائِهِ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَيْهِ لَا حَقِيقَةً وَلَا مَجَازًا، وَقَدْ يَكُونُ لَهُ مَزِيَّةً عَلَى مَنْ لَمْ يُوَسْوِسْ إِلَيْهِ وَلَمْ يُزَيِّنْ لَهُ الْمَعَاصِيَ، إِذَا صَحَّ مَا قَالُوا فِي تَفْضِيلِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَى الْمَلَائِكَةِ مِنْ كَوْنِهِمْ قَدْ رُكِّبَتْ فِيهِمُ الشَّهَوَاتُ الدَّاعِيَةُ إِلَى الْمَعَاصِي، فَقَاوَمُوهَا وَالْتَزَمُوا الطَّاعَةَ، وَفِي إِطْلَاقِهِ بَحْثٌ نَدَعُهُ إِلَى مَكَانٍ آخَرَ هَرَبًا مِنَ التَّطْوِيلِ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ الْمُتَّقِينَ قَدْ يَمَسُّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ - وَهُوَ الْوَسْوَسَةُ أَوْ مَبْدَؤُهَا - وَلَكِنَّهُ إِذَا مَسَّهُمْ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ فَلَا يَقَعُونَ فِي فَخِّ طَاعَتِهِ، بَلْ يُنَبِّهُهُمْ طَائِفُهُ مِنَ الْغَفْلَةِ، فَيَكُونُونَ بَعْدَ مَسِّهِ أَشَدَّ اتِّقَاءً لِمَا لَا يَنْبَغِي

ص: 427

وَاجْتِهَادًا فِيمَا يَنْبَغِي. وَالْأَنْبِيَاءُ الْمُرْسَلُونَ وَغَيْرُ الْمُرْسَلِينَ، هُمْ سَادَاتُ الْمُتَّقِينَ، فَهُمْ لَا يَغْفُلُونَ عَنْ وَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ، فَأَنَّى يَكُونُ لَهُ عَلَيْهِمْ أَدْنَى سُلْطَانٍ؟ .

وَأَمَّا النِّسْيَانُ الَّذِي تَكُونُ الْوَسْوَسَةُ سَبَبُهُ فَلَيْسَ طَاعَةً لِلشَّيْطَانِ فَيَكُونُ مِنْ سُلْطَانِهِ الْمُجَازِيِّ عَلَى النَّاسِي، وَلَكِنَّهُ إِذَا كَانَ نِسْيَانُ وَاجِبٍ أَدَّى إِلَى تَرْكِهِ حَتَّى فَاتَ وَقْتُهُ، أَوْ نِسْيَانُ نَهْيٍ أَدَّى إِلَى فِعْلِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ - كَانَ وُقُوعُهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ عليهم السلام مُشْكِلًا، وَلَيْسَ مِنْهُ نِسْيَانُ يُوسُفَ لِذِكْرِ رَبِّهِ عِنْدَ كَلَامِهِ مَعَ أَحَدِ صَاحِبَيِ السِّجْنِ، وَلَا نِسْيَانُ فَتَى مُوسَى لِلْحُوتِ، وَنَبِيُّنَا - صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ - لَمْ يَقَعْ مِنْهُ نِسْيَانٌ أَدَّى إِلَى مُخَالَفَةِ الْأَمْرِ بِالْإِعْرَاضِ عَنِ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِ اللهِ كَقُعُودِهِ مَعَهُمْ نَاسِيًا، وَلَوْ وَقَعَ ذَلِكَ - مَعَاذَ اللهِ - لَمْ يَكُنْ مِنْهُ مَعْصِيَةً كَمَعْصِيَةِ آدَمَ ; لِأَنَّ اللهَ رَفَعَ عَنْهُ وَعَنْ أُمَّتِهِ الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ كَمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ الْآيَةُ وَالْحَدِيثُ الَّذِي يَأْتِي قَرِيبًا. وَلَكِنَّ هَذَا النِّسْيَانَ يُنَافِي الْعَزْمَ، وَهُوَ صلى الله عليه وسلم سَيِّدُ أُولِي الْعَزْمِ، وَقَدْ قَالَ اللهُ تَعَالَى فِي آدَمَ عليه السلام:(فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا)(20: 115) وَقَالَ: (وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى)(20: 121) وَمَا زَالَ الْعُلَمَاءُ يَعْدُّونَ الْجَوَابَ عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَعْقَدَ الْمُشْكِلَاتِ فِي بَابِ الْقَوْلِ بِعِصْمَةِ الرُّسُلِ - عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامِ - مَعَ الْجَزْمِ بِأَنَّ آدَمَ لَمْ يَكُنْ وَقْتَ الِامْتِحَانِ بِالنَّهْيِ عَنِ الْأَكْلِ مِنَ الشَّجَرَةِ نَبِيًّا رَسُولًا، وَلَمْ يَكُنْ فِي دَارِ التَّكْلِيفِ عَلَى مَا عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ، وَهُمْ لَا يَقُولُونَ بِعِصْمَةِ

الْأَنْبِيَاءِ قَبْلَ الْبَعْثَةِ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ، وَإِنَّمَا مَنَعُوا صُدُورَ الْكَبَائِرَ عَنْهُمْ عَمْدًا، قَالَ فِي " الْمَوَاقِفِ ": وَأَمَّا سَهْوًا فَجَوَّزَهُ الْأَكْثَرُونَ، وَأَمَّا الصَّغَائِرُ عَمْدًا، فَجَوَّزَهُ الْجُمْهُورُ إِلَّا الْجُبَّائِيَّ، وَأَمَّا سَهْوًا فَهُوَ جَائِزٌ اتِّفَاقًا، إِلَّا الصَّغَائِرَ الْخَسِيسَةَ كَسَرِقَةِ حَبَّةٍ أَوْ لُقْمَةٍ. انْتَهَى الْمُرَادُ مِنْهُ. وَلَمْ تَكُنْ مَعْصِيَةُ آدَمَ إِلَّا عَنْ نِسْيَانٍ، وَحِكْمَتُهَا أَنَّهَا مَظْهَرُ اسْتِعْدَادِ نَوْعِ الْإِنْسَانِ، وَلَمْ تَكُنْ سَبَبًا لِسُوءِ قُدْوَةٍ، وَلَا مُعَارَضَةَ لِمَا قِيلَ فِي بُرْهَانِ الْعِصْمَةِ.

وَمِنَ الْغَرِيبِ أَنَّ إِنْجِيلَ مَتَّى رَوَى أَنَّ إِبْلِيسَ حَاوَلَ فِتْنَةَ - أَيْ تَجْرِبَةَ - سَيِّدِنَا عِيسَى عليه السلام بِعِدَّةِ أُمُورٍ، ثُمَّ قَالَ:(4: 8 ثُمَّ أَخَذَهُ أَيْضًا إِلَى جَبَلٍ عَالٍ جِدًّا، وَأَرَاهُ جَمِيعَ مَمَالِكِ الْعَالَمِ وَمَجَّدَهَا (9 وَقَالَ لَهُ: أُعْطِيكَ هَذِهِ جَمِيعًا إِنْ خَرَرْتَ وَسَجَدْتَ لِي (10) حِينَئِذٍ قَالَ لَهُ يَسُوعُ: اذْهَبْ يَا شَيْطَانُ؛ لِأَنَّهُ مَكْتُوبٌ: لِلرَّبِّ إِلَهَكَ تَسْجُدُ، وَإِيَّاهُ تُعْبَدُ) . وَعِنْدَنَا أَنَّ اللهَ تَعَالَى قَدْ أَعَاذَ عِيسَى وَأُمَّهُ مِنَ الشَّيْطَانِ، وَأَنَّهُ لَمْ يَمَسُّهُ حِينَ وُلِدَ كَمَا يَمَسُّ الْوِلْدَانَ، فَنَحْنُ أَشَدُّ تَعْظِيمًا لَهُمَا بِالْحَقِّ مِمَّنْ عَبَدُوهُمَا بِغَيْرِ حَقٍّ، وَلَيْسَتْ وَسْوَسَةُ الشَّيْطَانِ لِأَيِّ إِنْسَانٍ وَأَمْرُهُ إِيَّاهُ بِالشَّرِّ وَنَهْيُهُ عَنِ الْخَيْرِ بِنَقِيصَةٍ، وَإِنَّمَا النَّقِيصَةُ طَاعَتُهُ لَعَنَهُ اللهُ، وَقَدْ عَصَمَ اللهُ تَعَالَى مِنْهَا رُسُلَهُ وَحَفِظَ مَنْ دُونَهُمْ مِنْ عِبَادِهِ الْمُخْلَصِينَ.

فَمَثَلُ قُرَنَاءِ السُّوءِ مِنْ جِنَّةِ الشَّيَاطِينِ كَمَثَلِ مِيكْرُوبَاتِ الْأَمْرَاضِ مِنْ جِنَّةِ الْحَشَرَاتِ؛

ص: 428

فَهَذِهِ تَمَسُّ كُلَّ أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ، فَمَنْ كَانَ قَوِيَّ الْمِزَاجِ مُعْتَدِلَ الْمَعِيشَةِ مُتَّقِيًا لَهَا بِمَا يُرْشِدُ إِلَيْهِ الطِّبُّ مِنَ النَّظَافَةِ وَاسْتِعْمَالِ الْمُطَهِّرَاتِ الْقَاتِلَةِ لَهَا، فَإِنَّهَا قَلَّمَا تُصِيبُهُ، وَإِذَا أَصَابَتْهُ فَلَا تَضُرُّهُ، بَلْ قَدْ تَنْفَعُهُ بِتَعْوِيدِ مِزَاجِهِ عَلَى الْمُقَاوَمَةِ، وَمَنْ كَانَ ضَعِيفَ الْمِزَاجِ مُسْرِفًا فِي الْمَعِيشَةِ غَيْرَ مُتَّقٍ لَهَا بِمِثْلِ مَا ذُكِرَ فَإِنَّهَا تُؤْذِيهِ، وَيَحْدُثُ لَهُ بِسَبَبِهَا مِنَ الْأَمْرَاضِ وَالْأَدْوَاءِ مَا يَكُونُ بِهِ حَرَضًا أَوْ يَكُونُ مِنَ الْهَالِكِينَ. وَالنَّفْسُ الزَّكِيَّةُ الْفِطْرَةِ، الْمُتَّقِيَةُ لِلَّهِ تَعَالَى بِهِدَايَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ لَا يَكَادُ الشَّيْطَانُ يُضِلُّهَا، وَإِذَا طَافَ بِهَا طَائِفٌ مِنْ وَسْوَسَتِهِ فِي حَالِ الْغَفْلَةِ كَانَ هُوَ الْمُذَكِّرُ لَهَا فَإِذَا هِيَ مُبْصِرَةٌ قَائِمَةٌ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهَا. فَمَثَلُهَا فِي عَدَمِ تَأْثِيرِ الْوَسْوَسَةِ فِيهَا أَوْ عَدَمِ إِفْسَادِهَا لَهَا كَمَثَلِ الْبَدَنِ الْقَوِيِّ فِي عَدَمِ اسْتِعْدَادِهِ لِفَتْكِ جَرَاثِيمِ الْأَمْرَاضِ بِهِ، كَمَا أَنَّ النَّفْسَ الْفَاسِدَةَ الْفِطْرَةَ بِالشِّرْكِ أَوِ النِّفَاقِ وَالْمَعَاصِي وَسُوءِ الْأَخْلَاقِ تَكُونُ مُسْتَعِدَّةً لِطَاعَةِ الشَّيْطَانِ كَاسْتِعْدَادِ الْبَدَنِ الضَّعِيفِ وَالْمِزَاجِ الْفَاسِدِ لِتَأْثِيرِ مِيكْرُوبَاتِ الْأَمْرَاضِ. وَمِنَ الْأَرْوَاحِ وَالْأَبْدَانِ

مَا لَيْسَ فِي مُنْتَهَى الْقُوَّةِ وَلَا غَايَةِ الضَّعْفِ، فَكُلٌّ مِنْهَا يَتَأَثَّرُ بِقَدْرِ اسْتِعْدَادِهِ، وَتَكُونُ عَاقِبَتُهُ السَّلَامَةَ إِنْ كَانَ أَقْرَبَ إِلَى الصِّحَّةِ وَالْقُوَّةِ، وَالْهَلَاكَ إِنْ كَانَ بِضِدِّ ذَلِكَ.

فَعُلِمَ مِمَّا تَقَدَّمَ أَنَّ الْآيَةَ لَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الشَّيْطَانَ يُنْسِي النَّبِيَّ الْأَعْظَمَ صلى الله عليه وسلم مَا ذُكِرَ. إِمَّا لِأَنَّ الْخِطَابَ فِيهَا لِغَيْرِهِ ابْتِدَاءً، وَإِمَّا لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ غَيْرُهُ وَإِنَّ وُجِّهَ إِلَيْهِ عَلَى حَدِّ:(لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ)(39: 65) وَفَائِدَةُ مَثَلِهِ مُبَالَغَةُ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْحَذَرِ مِنْ وَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ الْمُؤَدِّيَةِ إِلَى الْوُقُوعِ فِي النَّهْيِ. وَكَوْنُ الْأَنْبِيَاءِ مَعْصُومِينَ مِنَ الشِّرْكِ مِنَ الْمَسَائِلِ الْقَطْعِيَّةِ الَّتِي لَا نِزَاعَ فِيهَا؛ فَإِنَّ عِلْمَهُمْ بِالتَّوْحِيدِ بُرْهَانِيٌّ وِجْدَانِيٌّ عِيَانِيٌّ، وَهُوَ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِحَقِّ الْيَقِينِ وَعَيْنِ الْيَقِينِ، وَقَدْ رُجِّحَ هَذَا الْوَجْهُ بِهَذَا الْمَثَلِ، كَمَا تُرَجِّحُهُ الْآيَةُ الْآتِيَةُ بِجَعْلِهَا مَوْضُوعَ الْمَسْأَلَةِ فِي جَمَاعَةِ الْمُتَّقِينَ، وَإِمَّا لِأَنَّ الْخُطَّابَ لَهُ عَلَى سَبِيلِ الْفَرْضِ لِأَجْلِ الْمُبَالَغَةِ فِي الزَّجْرِ، وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَ هَذَا الْوَجْهِ وَمَا قَبْلَهُ. وَمِنَ الْمَعْهُودِ فِي التَّخَاطُبِ أَنَّ مَا يُقَالُ عَلَى سَبِيلِ الْفَرْضِ يَدْخُلُ فِيهِ الْمُحَالُ، فَهُوَ لَا يَقْتَضِي جَوَازَ الْوُقُوعِ وَلَا احْتِمَالَهُ، وَذَلِكَ هُوَ الْأَصْلُ فِي الْجُمْلَةِ الشَّرْطِيَّةِ الْمَبْدُوءَةِ بِ " إِنْ " فَقَدْ قَالُوا: إِنَّهَا لِلشَّكِّ، وَإِنَّمَا يَأْتِي مِثْلُهُ فِي كَلَامِ اللهِ بِحَسَبِ الْأُسْلُوبِ الْعَرَبِيِّ لِبَيَانِ الْمُرَادِ فِي نَفْسِهِ بِصَرْفِ النَّظَرِ عَنِ الْقَائِلِ. وَفَائِدَتُهُ هُنَا بَيَانُ كَوْنِ النِّسْيَانِ عُذْرًا، فَإِنْ لَمْ يَقَعْ مِنَ الْمُخَاطَبِ فَقَدْ يَقَعُ مِنْ غَيْرِهِ فَيَكُونُ مَعْذُورًا.

وَذَهَبَ الزَّمَخْشَرِيُّ مَذْهَبًا آخَرَ فِي تَنْزِيهِهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ هَذَا النِّسْيَانِ بِإِيرَادِ احْتِمَالٍ آخَرَ فِي الْجُمْلَةِ قَالَ: وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ: وَإِنْ كَانَ الشَّيْطَانُ يُنْسِيكَ قَبْلَ النَّهْيِ قُبْحَ مُجَالَسَةِ الْمُسْتَهْزِئِينَ لِأَنَّهَا مِمَّا تُنْكِرُهُ الْعُقُولُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى - بَعْدَ أَنْ ذَكَّرْنَاكَ قُبْحَهَا وَنَبَّهْنَاكَ عَلَيْهِ - مَعَهُمْ. انْتَهَى. وَقَدْ رَدُّوا عَلَيْهِ هَذَا الْوَجْهَ؛ لِأَنَّهُ بِنَاءً عَلَى قَاعِدَةِ الْمُعْتَزِلَةِ فِي التَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ الْعَقْلِيِّينَ، وَبِنَاؤُهُ عَلَيْهَا غَيْرُ مُتَعَيِّنٍ، وَلَا يُنْكِرُ الْأَشَاعِرَةُ وَلَا غَيْرُهُمْ أَنَّ عَقْلَ الْمُؤْمِنِ يَجْزِمُ

ص: 429

بِقُبْحِ الْقُعُودِ مَعَ الْمُسْتَهْزِئِينَ بِآيَاتِ اللهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْعَقْلُ مُسْتَقِلًّا بِالتَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ فَيُمْكِنُ تَوْجِيهُ هَذَا الْجَوَازِ مَعَ رَدِّ تِلْكَ الْقَاعِدَةِ، إِلَّا أَنْ يُمْنَعَ مِنْهُ التَّعْبِيرُ بِفِعْلِ الِاسْتِقْبَالِ وَهُوَ مَا اعْتَرَضَ بِهِ ابْنُ الْمُنِيرِ، وَلَكِنْ كَيْفَ يَخْفَى مِثْلُهُ عَلَى هَذَا اللُّغَوِيِّ النِّحْرِيرِ؟ .

وَاسْتَنْبَطَ الْعُلَمَاءُ مِنَ الْآيَةِ أَنَّ الْإِنْسَانَ غَيْرُ مُؤَاخَذٍ بِمَا يَفْعَلُهُ فِي حَالِ النِّسْيَانِ بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا يُعَاقَبُ عَلَيْهِ، وَإِذَا أَكَلَ فِي رَمَضَانَ نَاسِيًا لَا يَبْطُلُ صِيَامُهُ، لَا بِمَعْنَى أَنَّ

4الْحُقُوقَ تُسْقَطُ بِهِ، وَيَسْتَدِلُّ الْأُصُولِيُّونَ وَالْفُقَهَاءُ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِحَدِيثِ " رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ " وَقَدِ اشْتَهَرَ الْحَدِيثُ بِهَذَا اللَّفْظِ فِي كُتُبِهِمْ، وَفِيهِ مَقَالٌ لِلْمُحَدِّثِينَ مَعْرُوفٌ؛ أَنْكَرَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ رِوَايَةً وَدِرَايَةً، فَقَالَ: لَا يَصِحُّ وَلَا يَثْبُتُ إِسْنَادُهُ. وَقَالَ: مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ مَرْفُوعٌ فَقَدْ خَالَفَ كِتَابَ اللهِ وَسُنَّةَ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم فَإِنَّ اللهَ أَوْجَبَ فِي قَتْلِ النَّفْسِ فِي الْخَطَأِ الْكَفَّارَةَ. وَقَدْ يُجَابُ عَنْ هَذَا بِمَا ذَكَرْنَاهُ آنِفًا مِنْ أَنَّ رَفْعَ النِّسْيَانِ عِبَارَةٌ عَنْ رَفْعِ الْإِثْمِ لَا رَفْعِ الْحُقُوقِ، فَمَنْ نَسِيَ الصَّلَاةَ أَعَادَهَا، وَحُقُوقُ الْعِبَادِ أَوْلَى بِأَلَّا تَسْقُطَ بِنِسْيَانٍ وَلَا خَطَأٍ. وَأَمَّا إِسْنَادُهُ فَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ فِي بَابِ طَلَاقِ الْمُكْرَهِ وَالنَّاسِي مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا بِلَفْظِ " إِنَّ اللهَ وَضَعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ، وَالنِّسْيَانَ، وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ " قَالَ فِي الزَّوَائِدِ: إِسْنَادُهُ صَحِيحٌ إِنْ سَلِمَ مِنَ الِانْقِطَاعِ، وَلَكِنْ رَجَحَ أَنَّهُ مُنْقَطِعٌ، وَقَالَ الدَّيْبَعُ فِي الْأَحَادِيثِ الْمُشْتَهِرَةِ: وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَابْنُ أَبِي عَاصِمٍ بِلَفْظِ " إِنَّ اللهَ وَضَعَ عَنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ ثَلَاثًا: الْخَطَأُ، وَالنِّسْيَانُ، وَالْأَمْرُ يُكْرَهُونَ عَلَيْهِ " وَرُوَاتُهُ ثِقَاتٌ، كَذَا صَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ.

(وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) أَيْ وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ اللهَ مِنْ حِسَابِ الْخَائِضِينَ فِي آيَاتِهِ شَيْءٌ مَا، فَلَا يُحَاسَبُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ خَوْضِهِمْ وَلَا عَلَى غَيْرِهِ مِنْ أَعْمَالِهِمُ الَّتِي يُحَاسِبُهُمُ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهَا إِذَا هُمْ تَجَنَّبُوهُمْ وَأَعْرَضُوا عَنْهُمْ كَمَا أُمِرُوا، وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْمَعْنَى عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: مَا عَلَيْكَ أَنْ يَخُوضُوا فِي آيَاتِ اللهِ إِذَا تَجَنَّبْتَهُمْ وَأَعْرَضْتَ عَنْهُمْ، قِيلَ: هُوَ رُخْصَةٌ، وَمَعْنَاهُ: مَا عَلَيْهِمْ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ إِنْ قَعَدُوا مَعَهُمْ - وَأَنَّهُ مَنْسُوخٌ بِآيَةِ سُورَةِ النِّسَاءِ إِذْ قَالَ فِيهَا: (إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ)(4: 140) وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَالسُّدِّيِّ وَابْنِ جُرَيْجٍ، وَهُوَ بَعِيدٌ جِدًّا، لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يَتَّصِلَ بِالنَّهْيِ مَا يُبْطِلُهُ وَهُوَ قَدْ نَزَلَ مَعَهُ كَمَا هُنَا. قَالَ الْأَلُوسِيُّ: وَفِي الطَّوْدِ الرَّاسِخِ فِي الْمَنْسُوخِ وَالنَّاسِخِ أَنَّهُ لَا نَسْخَ عِنْدَ أَهْلِ التَّحْقِيقِ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ سُبْحَانَهُ: (وَمَا عَلَى الَّذِينَ) إِلَخْ. خَبَرٌ، وَلَا نَسْخَ فِي الْأَخْبَارِ، فَافْهَمْ. انْتَهَى. وَقَدْ يُقَالُ: إِنَّ الْجُمْلَةَ إِنْشَائِيَّةُ الْمَعْنَى، فَهِيَ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ مَعْنَاهُ عَدَمُ مُؤَاخَذَةِ أَحَدٍ بِذَنْبِ غَيْرِهِ، لَا خَبَرٌ مِنَ الْأَخْبَارِ الَّتِي قَالُوا إِنَّهَا لَا تُنْسَخُ، وَالْعُمْدَةُ فِي رَدِّ الْقَوْلِ بِنَسْخِهَا مَا ذُكِرَ آنِفًا، فَتَعَيَّنَ تَقْدِيرُ الشَّرْطِ الَّذِي ذَكَرَهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، أَوْ أَنْ يُقَالَ فِي التَّقْدِيرِ: وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ اللهَ مِنْ حِسَابِ الْخَائِضِينَ مِنْ شَيْءٍ؛

إِذْ كَانُوا يَقْعُدُونَ مَعَهُمْ قَبْلَ النَّهْيِ كَارِهِينَ

ص: 430

لِخَوْضِهِمْ وَبَاطِلِهِمْ، وَكَانَ يَشُقُّ عَلَيْهِمْ تَجَنُّبُهُمْ وَالْإِعْرَاضُ عَنْهُمْ، فَلَيْسَ سَبَبُ النَّهْيِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَحْمِلُونَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْئًا لَوْ لَمْ يُنْهَوْا عَنْهُ ; فَإِنَّهُ تَعَالَى مَا أَخَّرَ النَّهْيَ إِلَّا إِلَى وَقْتِهِ الْمُنَاسِبِ لَهُ، وَلَا يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَانَ مِنْهُمْ قَبْلَهُ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى بَعْدَ تَحْرِيمِ مُحَرَّمَاتِ النِّكَاحِ:(إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ)(4: 22، 23) .

(وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) أَيْ: وَلَكِنْ جُعِلَ النَّهْيُ مَوْعِظَةً وَذِكْرَى؛ لَعَلَّ هَؤُلَاءِ الْمُؤْمِنِينَ بِاللهِ تَعَالَى يَتَّقُونَ أَيْضًا كُلَّ مَا لَا يَنْبَغِي لَهُمْ مِنْ سَمَاعِ الْخَوْضِ فِي آيَاتِ اللهِ بِالْبَاطِلِ، فَهَذِهِ التَّقْوَى الْمَرْجُوَّةُ بِالنَّهْيِ هِيَ تَقْوَى خَاصَّةٌ، وَتِلْكَ التَّقْوَى هِيَ الْكُلِّيَّةُ الْعَامَّةُ، هَذَا هُوَ الْوَجْهُ عِنْدَنَا. وَالذِّكْرَى هُنَا بِمَعْنَى التَّذْكِيرِ، وَفِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ بِمَعْنَى التَّذَكُّرِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَقِيلَ: إِنَّ الْمَعْنَى: مَا عَلَيْهِمْ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَعْرَضُوا أَوْ قَعَدُوا مَعَهُمْ، وَلَكِنْ عَلَيْهِمْ أَنْ يُذَكِّرُوهُمْ، أَيْ يَعِظُوهُمْ وَيُنْكِرُوا عَلَيْهِمْ فِي تِلْكَ الْحَالِ؛ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ الْخَوْضَ وَلَوْ فِي حَضْرَتِهِمْ.

ذَكَرُوا هَذَا الْمَعْنَى لِلذِّكْرَى عَلَى كُلٍّ مِنَ التَّقْدِيرَيْنِ الْمُتَضَادَّيْنِ. قَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: ذَكِّرُوهُمْ ذَلِكَ، وَأَخْبِرُوهُمْ أَنَّهُ يَشُقُّ عَلَيْكُمْ فَيَتَّقُونَ مُسَاءَتَكُمْ، وَكَأَنَّهُ نَسِيَ أَنَّ السُّورَةَ نَزَلَتْ فِي الْوَقْتِ الَّذِي كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَضْطَهِدُونَ فِيهِ الْمُؤْمِنِينَ أَشَدَّ الِاضْطِهَادِ، وَيَتَحَرَّوْنَ مُسَاءَتَهُمْ، وَيَكْرَهُونَ مَسَرَّتَهُمْ، وَقَدْ يَتَّجِهُ جَعْلُ التَّذْكِيرِ لَهُمْ عَلَى تَقْدِيرِ الْقُعُودِ مَعَهُمْ إِذَا صَحَّ مَا ذَكَرَهُ الرَّازِيُّ وَغَيْرُهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ الْمُسْلِمُونَ: لَئِنْ كُنَّا كُلَّمَا اسْتَهْزَأَ الْمُشْرِكُونَ بِالْقُرْآنِ وَخَاضُوا فِيهِ قُمْنَا عَنْهُمْ لَمَا قَدَرْنَا أَنْ نَجْلِسَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَأَنْ نَطُوفَ بِالْبَيْتِ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، وَحَصَلَتِ الرُّخْصَةُ فِيهَا لِلْمُؤْمِنِينَ بِأَنْ يَقْعُدُوا مَعَهُمْ وَيُذَكِّرُوهُمْ وَيُفَهِّمُوهُمْ. انْتَهَى. وَهُوَ مُعَارَضٌ بِنُزُولِ السُّورَةِ دُفْعَةً وَاحِدَةً إِلَّا مَا اسْتُثْنِيَ، وَلَيْسَ هَذَا مِنْهُ. وَمِنَ الْبَدِيهِيِّ أَنَّ الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ لَا يَسْتَلْزِمُ الْقُعُودَ مَعَ الْمُسْتَهْزِئِينَ وَلَا الْإِقْبَالَ عَلَيْهِمْ، وَأَمَّا الْقُعُودُ بِالْبَيْتِ فَلَا ضَرَرَ فِي تَرْكِهِ إِذَا اسْتَلْزَمَ أَنْ يَكُونَ مَعَ الْمُسْتَهْزِئِينَ. وَمِنَ الْغَرِيبِ أَنَّ الرَّازِيَّ اكْتَفَى بِهَذَا الْوَجْهِ الضَّعِيفِ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ، وَلَمْ يَذْكُرْ غَيْرَهُ؛ لَا نَقْلًا وَلَا مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ.

أَشَرْنَا فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ السَّابِقَةِ إِلَى أَنَّ جَعْلَ هَذِهِ الْآيَةِ فِي جَمَاعَةِ الْمُتَّقِينَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ هُمُ الْمُرَادُونَ فِيمَا قَبْلَهَا بِخِطَابِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم مِنْ دُونِهِ، وَيُؤَكِّدُهُ الرُّجُوعُ

إِلَى الْخِطَابِ فِي قَوْلِهِ: (وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا) تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ اللَّعِبِ وَاللهْوِ وَنُكْتَةِ تَقْدِيمِ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ (32) وَالْمَعْنَى هُنَا وَدِّعْ أَيُّهَا الرَّسُولُ، وَمِثْلُهُ فِيهِ مَنْ تَبِعَهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ - الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا مِنْ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ، وَهُمُ الْمَقْصُودُونَ أَوَّلًا وَبِالذَّاتِ، وَمِثْلُهُمْ كُلُّ مَنْ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا الْفَانِيَةُ، فَآثَرُوهَا عَلَى الْحَيَاةِ الْآخِرَةِ الْبَاقِيَةِ، بَلْ أَنْكَرَهَا الْمُشْرِكُونَ، وَلَمْ

ص: 431

يَسْتَعِدَّ لَهَا الْفَاسِقُونَ، أَمَّا اتِّخَاذُهُمْ دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا فَفِيهِ وُجُوهٌ، الْمُتَبَادِرُ مِنْهَا أَنَّ أَعْمَالَ دِينَهُمُ الَّتِي يَعْمَلُونَهَا لَمَّا لَمْ تَكُنْ مُزَكِّيَةً لِلْأَنْفُسِ، وَلَا مُهَذِّبَةً لِلْأَخْلَاقِ، وَلَا وَاقِعَةً عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يُرْضِي الرَّحْمَنَ وَيُعِدُّ الْمَرْءَ لِلِقَائِهِ فِي دَارِ الْكَرَامَةِ وَالرِّضْوَانِ، وَلَا مُصْلِحَةً لِشُئُونِ الِاجْتِمَاعِ وَالْعُمْرَانِ، كَانَتْ إِمَّا صَرْفًا لِلْوَقْتِ فِيمَا لَا فَائِدَةَ فِيهِ وَهُوَ مَعْنَى اللَّعِبِ، وَإِمَّا شَاغِلَةٌ عَنْ بَعْضِ الْهُمُومِ وَالشُّئُونِ وَهُوَ اللهْوُ، وَيَظْهَرُ ذَلِكَ فِي أَعْمَالِ الدِّينِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ كَالْمَوَاسِمِ وَالْأَعْيَادِ، وَقَدْ رُوِيَ الْقَوْلُ بِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه قَالَ: جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ قَوْمٍ عِيدًا يُعَظِّمُونَهُ، وَيُصَلُّونَ فِيهِ، وَيُعَمِّرُونَهُ بِذِكْرِ اللهِ تَعَالَى، ثُمَّ إِنَّ النَّاسَ - أَكْثَرُهُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ - اتَّخَذُوا عِيدَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا، غَيْرَ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّهُمُ اتَّخَذُوا عِيدَهُمْ كَمَا شَرَعَهُ اللهُ تَعَالَى. وَهُوَ يُرِيدُ أَنَّ هَذَا مِمَّا تَدُلُّ عَلَيْهِ الْآيَةُ لَا أَنَّهُ كُلُّ الْمُرَادِ مِنْهَا، وَهَذَا أَحَدُ وُجُوهٍ خَمْسَةٍ ذَكَرَهَا الرَّازِيُّ فِي الْآيَةِ وَجَعَلَهُ الرَّابِعَ.

وَأَمَّا الْوُجُوهُ الْأُخْرَى (فَأَوَّلُهَا) أَنَّهُمُ اتَّخَذُوا دِينَهُمُ الَّذِي كُلِّفُوهُ وَدُعُوا إِلَيْهِ - وَهُوَ دِينُ الْإِسْلَامِ - لَعِبًا وَلَهْوًا حَيْثُ سَخِرُوا بِهِ وَاسْتَهْزَءُوا بِهِ. (الثَّانِي) اتَّخَذُوا مَا هُوَ لَعِبٌ وَلَهْوٌ مِنْ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ دِينًا لَهُمْ. (الثَّالِثُ) أَنَّ الْكَفَّارَ كَانُوا يَحْكُمُونَ فِي دِينِ اللهِ بِمُجَرَّدِ التَّشَهِّي وَالتَّمَنِّي مِثْلَ تَحْرِيمِ السَّوَائِبِ وَالْبَحَائِرِ، وَمَا كَانُوا يَحْتَاطُونَ فِي أَمْرِ الدِّينِ أَلْبَتَّةَ، وَيَكْتَفُونَ فِيهِ بِمُجَرَّدِ التَّقْلِيدِ، فَعَبَّرَ اللهُ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا. (الْخَامِسُ) قَالَ - وَهُوَ الْأَقْرَبُ -: إِنَّ الْمُحَقِّقَ فِي الدِّينِ هُوَ الَّذِي يَنْصُرُ الدِّينَ لِأَجْلِ أَنَّهُ أَقَامَ الدَّلِيلَ عَلَى أَنَّهُ حَقٌّ وَصِدْقٌ وَصَوَابٌ، فَأَمَّا الَّذِينَ يَنْصُرُونَهُ لِيَتَوَسَّلُوا بِهِ إِلَى أَخْذِ الْمَنَاصِبِ وَالرِّيَاسَةِ وَغَلَبَةِ الْخَصْمِ وَجَمْعِ الْأَمْوَالِ

فَهُمُ الَّذِينَ نَصَرُوا الدِّينَ لِلدُّنْيَا، وَقَدْ حَكَمَ اللهُ عَلَى الدُّنْيَا فِي سَائِرِ الْآيَاتِ بِأَنَّهَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ، فَالْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ:(وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا) هُوَ الْإِشَارَةُ إِلَى مَنْ يَتَوَسَّلُ بِدِينِهِ إِلَى دُنْيَاهُ، وَإِذَا تَأَمَّلْتَ فِي حَالِ أَكْثَرِ الْخَلْقِ وَجَدْتَهُمْ مَوْصُوفِينَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ وَدَاخِلِينَ تَحْتَ هَذِهِ الْحَالَةِ، وَاللهُ أَعْلَمُ. اهـ.

أَقُولُ: كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَذْكُرَ نَحْوًا مِنْ هَذَا فِي التَّفْسِيرِ (وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا) وَقَدْ جَعَلَ هُوَ هَذِهِ الْجُمْلَةَ مُؤَيِّدَةً لَهُ، وَجَعَلَهُ هُوَ الْمُرَادَ مِنَ اللَّعِبِ وَاللهْوِ، ذَاهِلًا عَنْ كَوْنِهِ لَا يَظْهَرُ فِي كُفَّارِ قُرَيْشٍ الَّذِينَ قُصِدُوا بِهِ أَوَّلًا وَبِالذَّاتِ، وَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ اعْتَمَدَهُ الْمُتَأَخِّرُونَ، وَفِيهِ أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:(لَكُمْ دِينَكُمْ وَلِيَ دِينِ)(109: 6) وَقَوْلُهُ: (لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا)(5: 57) فَاللهُ تَعَالَى لَا يُضِيفُ دِينَ الْإِسْلَامِ إِلَى الْكُفَّارِ. وَأَمَّا مَعْنَى غَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَهُوَ أَنَّهَا خَدَعَتْهُمْ وَأَغْفَلَتْهُمْ عَنْ أَنْفُسِهِمْ وَمَا هِيَ مُسْتَعِدَّةٌ لَهُ مِنَ الْكَمَالِ، وَعَنْ كَوْنِ الْبَعْثِ حَقًّا، وَالْعَدْلِ الْمَحْضَ مِنَ الْمُحَالِ، فَاشْتَغَلُوا بِلَذَّاتِهَا الْحَقِيرَةِ الْفَانِيَةِ الْمَشُوبَةِ بِالْمُنَغِّصَاتِ عَمَّا جَاءَهُمْ مِنَ الْحَقِّ مُؤَيَّدًا بِالْحُجَجِ الْقَيِّمَةِ وَالْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ، فَاسْتَبْدَلُوا الْخَوْضَ فِيهَا، بِمَا كَانَ يَجِبُ مِنْ فِقْهِهَا وَتُدَبُّرِهَا.

ص: 432

وَهَذَا الْأَمْرُ بِتَرْكِ هَؤُلَاءِ الْمَغْرُورِينَ قَدْ جَاءَ عَلَى سَبِيلِ التَّهْدِيدِ كَقَوْلِهِ: (ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ)(15: 3) وَهُوَ تَهْدِيدٌ بِعَذَابِ الدُّنْيَا، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ بَعْدَهُ:(وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ)(4، 5) وَوَرَدَ مِثْلُهُ عَذَابُ الْآخِرَةِ فِي الْآيَتَيْنِ (43: 83، 70: 42) وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ الْأَمْرُ بِالْكَفِّ عَنْهُمْ، وَتَرْكُ التَّعَرُّضِ لَهُمْ، وَأَنَّهُ نُسِخَ بِآيَةِ الْقِتَالِ، رُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ وَضَعَّفَهُ الْمُحَقِّقُونَ. وَإِذَا لَمْ يَتَضَمَّنْ مَعْنَى التَّهْدِيدِ كَانَ مَعْنَاهُ: ذَرْهُمْ وَلَا تَهْتَمَّ بِخَوْضِهِمْ وَلَا تَكْذِيبِهِمْ، وَعَلَيْكَ مَا كُلِّفْتَهُ وَحَمَلْتَهُ مِنْ تَبْلِيغِ دَعْوَةِ رَبِّكَ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ عز وجل:

(وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ) الْبَسْلُ مَصْدَرُ بَسَلَهُ، يُطْلَقُ بِمَعْنَى حَبْسِ الشَّيْءِ وَمَنْعِهِ بِالْقَهْرِ، وَبِمَعْنَى الرَّهْنِ وَالْإِبَاحَةِ، وَأَبْسَلَ الشَّيْءَ كَبَسَلَهُ: أَسْلَمَهُ لِلْهَلَاكِ، وَمِنْهُ أَسَدٌ بَاسِلٌ وَرَجُلٌ بَاسِلٌ، أَيْ شُجَاعٌ مُمْتَنِعٌ عَلَى أَقْرَانِهِ، أَوْ مَانِعٌ لِمَا يُرِيدُ حِفْظَهُ أَنْ يُنَالَ، وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ:(بِهِ) لِلْقُرْآنِ الْمَعْلُومِ بِقَرِينَةِ الْحَالِ ; لِأَنَّهُ هُوَ الذِّكْرُ الَّذِي بُعِثَ بِهِ الرَّسُولُ الْمُذَكِّرُ، وَبِقَرِينَةِ الْمُقَالِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي آخِرِ سُورَةٍ " ق ": (فَذَكِّرْ

بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ) (50: 45) وَالْقُرْآنُ يُفَسِّرُ بَعْضُهُ بَعْضًا كَمَا قَالُوا. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ فِي مَعْنَى الْإِبْسَالِ: الْفَضِيحَةُ، وَالْإِسْلَامُ لِلْهَلَاكِ، وَالْحَبْسُ فِي النَّارِ. وَكَانَ الْأَخِيرُ جَوَابَهُ لِنَافِعِ بْنِ الْأَزْرَقِ، وَهُوَ تَفْسِيرٌ بِالْأَخَصِّ لِبَيَانِ الْمُرَادِ، قَالَ نَافِعٌ: أَوَتَعْرِفُ الْعَرَبُ ذَلِكَ فِي كَلَامِهَا؟ قَالَ: نَعَمْ، أَمَا سَمِعْتَ زُهَيْرًا وَهُوَ يَقُولُ:

وَفَارَقَتْكَ بِرَهْنٍ لَا فِكَاكَ لَهُ

يَوْمَ الْوَدَاعِ وَقَلْبٍ مُبْسَلٍ غَلِقًا.

وَالْمَعْنَى: وَذَكِّرِ النَّاسَ وَعِظْهُمْ بِالْقُرْآنِ اتِّقَاءَ أَنْ تُبْسَلَ كُلُّ نَفْسٍ فِي الْآخِرَةِ بِمَا كَسَبَتْ، أَيِ اتِّقَاءَ حَبْسِهَا، أَوْ رَهْنِهَا فِي الْعَذَابِ، أَوْ إِسْلَامِهَا إِلَيْهِ، أَوْ مَنْعِهَا مِنْ نَعِيمِ الْجَنَّةِ، وَتَفَادِيًا مِنْ ذَلِكَ بِمَا بَيَّنَهُ الذِّكْرُ الْحَكِيمُ مِنْ أَسْبَابِ النَّجَاةِ وَالسَّعَادَةِ. وَيُؤَيِّدُ التَّقْدِيرَ الْأَوَّلَ قَوْلُهُ تَعَالَى:(كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ)(74: 38، 39) الْآيَةَ. وَقَدَّرَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ " مَخَافَةَ " أَوْ " كَرَاهَةَ " أَنْ تُبْسَلَ. وَبَعْضُهُمْ: لِئَلَّا تُبْسَلَ.

ثُمَّ وَصَفَ تَعَالَى النَّفْسَ الْبِسِلَةَ أَوْ عَلَّلَ إِبْسَالَهَا بِقَوْلِهِ: (لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ) أَيْ: وَلَيْسَ لَهَا مِنْ غَيْرِ اللهِ وَلِيٌّ، أَيْ نَاصِرٌ يَنْصُرُهَا، أَوْ قَرِيبٌ يَتَوَلَّى أَمْرَهَا، وَلَا شَفِيعٌ يَشْفَعُ لَهَا عِنْدَ اللهِ تَعَالَى:(مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ)(40: 18) فِي يَوْمٍ وَصَفَهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: (لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ)(2: 254) وَالْأَمْرُ فِيهِ لِلَّهِ وَحْدَهُ (قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةِ جَمِيعًا)(39: 44)(مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ)(2: 255)(وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ)(34: 23)(وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ)(21: 28)

ص: 433

فَكُلُّ نَفْسٍ تَأْتِيهِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ - وَهُوَ تَعَالَى غَيْرُ رَاضٍ عَنْهَا - فَهِيَ مُبْسَلَةٌ بِمَا كَسَبَتْ مِنْ سَيِّئِ عَمَلِهَا.

(وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا) الْعَدْلُ - بِالْفَتْحِ - مَا عَادَلَ الشَّيْءَ وَسَاوَاهُ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ (أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا) (5: 95) وَهُوَ هُنَا بِمَعْنَى الْفِدَاءِ ; لِأَنَّ الْفَادِيَ يَعْدِلُ الْمَفْدِيِّ بِمِثْلِهِ كَمَا قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَعَدْلُ هَذَا يَتَعَدَّى إِلَى الْمَفْعُولِ بِهِ بِالْبَاءِ كَمَا قَالَ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ:(بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) فَكُلُّ عَدْلٍ مَنْصُوبٌ هُنَا عَلَى الْمَصْدَرِيَّةِ لَا الْمَفْعُولِيَّةِ، وَالْمَعْنَى: وَإِنْ تَفْدِ النَّفْسُ الْمُبْسَلَةُ كُلَّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْفِدَاءِ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا - أَيْ لَا يَقَعُ الْأَخْذُ وَلَا يَحْصُلُ، فَهُوَ عَلَى حَدِّ أَكْلٍ مِنَ الْقَصْعَةِ وَسَيْرٍ مِنَ الْبَلَدِ ; لِأَنَّ الْعَدْلَ - وَهُوَ مَصْدَرٌ - لَا يُؤْخَذُ أَخْذًا، وَيَجُوزُ أَنْ يُضَمَّنَ الْأَخْذُ مَعْنَى الْقَبُولِ، وَأَنْ

يُعَادَ الضَّمِيرُ عَلَى الْعَدْلِ، وَهُوَ الْفِدَاءُ بِمَعْنَى الْمَفْدِيِّ بِهِ وَإِنْ عُدَّ هُنَا مِنْ قَبِيلِ الِاسْتِخْدَامِ، وَقَدِ اسْتُعْمِلَ الْعَدْلُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ بِمَعْنَى الْمَعْدُولِ بِهِ، أَيِ الْفِدْيَةِ، وَأُسْنِدَ إِلَى الْأَخْذِ وَإِلَى الْقَبُولِ، قَالَ:(وَاتَّقَوْا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ)(2: 48) . وَقَالَ: (وَاتَّقَوْا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ)(2: 123) .

وَالْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ وَمَا فِي مَعْنَاهَا إِبْطَالُ أَصْلٍ مِنْ أُصُولِ الْوَثَنِيَّةِ، وَهُوَ تَعْلِيقُ النَّجَاةِ فِي الْآخِرَةِ - كَنَيْلِ كَثِيرٍ مِنَ الْمَقَاصِدِ فِي الدُّنْيَا - بِتَقْدِيمِ الْفِدْيَةِ لِلَّهِ تَعَالَى، أَوْ بِشَفَاعَةِ الشَّافِعِينَ عِنْدَهُ أَيْ بِوَسَاطَةِ الْوُسَطَاءِ - وَتَقْرِيرُ أَصْلِ الدِّينِ الْإِلَهِيِّ وَهُوَ أَنَّ النَّجَاةَ فِي الْآخِرَةِ، وَرِضْوَانَ اللهِ، وَالْقِرَبَ مِنْهُ لَا تُنَالُ إِلَّا بِمَا شَرَعَهُ اللهُ عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ مِنَ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ - وَبِعِبَارَةٍ أُخْرَى بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ الَّذِي تَتَزَكَّى بِهِ الْأَنْفُسُ مَعَ الْإِيمَانِ الْإِذْعَانِيِّ بِاللهِ وَبِرُسُلِهِ وَمَا جَاءُوا بِهِ، وَمِنْ إِبْسَالِهِمْ كَسْبُهُمْ لِلسَّيِّئَاتِ وَالْخَطَايَا، وَاتِّخَاذُهُمُ الدِّينَ لَعِبًا وَلَهْوًا، وَغُرُورُهُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا، فَلَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةٌ وَلَا تُقْبَلُ مِنْهُمْ فِدْيَةٌ.

(أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا) أَيْ أُولَئِكَ الْمَوْصُوفُونَ بِمَا ذَكَرَهُمْ، الَّذِينَ أُسْلِمُوا لِلْهَلَكَةِ، وَارْتُهِنُوا، وَحُبِسُوا عَنْ دَارِ السَّعَادَةِ بِسَبَبِ مَا كَسَبُوا مِنَ الْأَوْزَارِ وَالْآثَامِ، حَتَّى أَحَاطَتْ بِهِمْ خَطَايَاهُمْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ دِينِهِمُ الَّذِي اتَّخَذُوهُ لَعِبًا وَلَهْوًا مَا يَزْجُرُهُمْ عَنْهَا. وَمَاذَا يَكُونُ جَزَاؤُهُمْ بَعْدَ الْإِبْسَالِ؟ (لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ) أَيْ لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ مَاءٍ حَمِيمٍ، وَهُوَ الشَّدِيدُ الْحَرَارَةِ - وَيُطْلَقُ عَلَى الشَّدِيدِ الْبُرُودَةِ أَيْضًا - وَعَذَابٌ شَدِيدُ الْأَلَمِ بِسَبَبِ كُفْرِهِمُ الَّذِي ظَلُّوا مُسْتَمِرِّينَ عَلَيْهِ طُولَ حَيَاتِهِمْ، حَتَّى صَرَفَهُمْ عَمَّا جَعَلَهُ اللهُ تَعَالَى - لَوِ اتَّبَعُوهُ - سَبَبَ نَجَاتِهِمْ. أَوِ التَّقْدِيرُ: أُولَئِكَ الْمُبْسَلُونَ بِكَسْبِهِمْ، لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِاسْتِمْرَارِهِمْ عَلَى كُفْرِهِمْ ; وَبِهَذَا ظَهَرَ الْفِرَقُ بَيْنَ التَّعْلِيلِ الْأَوَّلِ بِالْكَسْبِ وَالتَّعْلِيلِ الثَّانِي بِالْكُفْرِ، فَالْأَوَّلُ ذُكِرَ بِصِيغَةِ الْمَاضِي، وَالثَّانِي بِصِيغَةِ الْمُسْتَقْبَلِ الدَّالِّ

ص: 434

عَلَى الِاسْتِمْرَارِ، فَلَوْلَا رُسُوخُهُمْ فِي الْكُفْرِ الَّذِي أَفْسَدَ فِطْرَتَهُمْ حَتَّى أَصَرُّوا عَلَيْهِ إِصْرَارًا دَائِمًا دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ فِيهِمُ اسْتِعْدَادٌ لِلْحَقِّ وَالْخَيْرِ - لَمَا كَانَ مُجَرَّدُ كَسْبِ بَعْضِ السَّيِّئَاتِ الْمُنْقَطِعَةِ يَنْهَضُ سَبَبًا لِهَلَاكِهِمْ وَوُقُوعِهِمْ فِي هَذَا الْعَذَابِ كُلِّهِ. وَفِي الْآيَةِ أَكْبَرُ الْعِبَرِ لِمَنْ يَفْقَهُ

الْكَلَامَ، وَلَا يَغْتَرُّ بِلَقَبِ الْإِسْلَامِ، فَإِنَّمَا الْمُسْلِمُ مَنِ اتَّخَذَ إِمَامَهُ الْقُرْآنَ وَسُنَّةَ الرَّسُولِ عَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ، لَا مَنِ اغْتَرَّ بِالْأَمَانِ وَالْأَوْهَامِ، وَانْخَدَعَ بِالرُّؤَى وَالْأَحْلَامِ.

(قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ) .

ضَرَبَ اللهُ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْأُولَى مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ مَثَلًا يَتَّضِحُ لِمَنْ عَقَلَهُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ مَا تَقَرَّرَ فِيهَا وَفِي الْآيَاتِ قَبْلَهَا مِنْ بَيِّنَاتِ التَّوْحِيدِ وَدَلَائِلِهِ، وَيُظْهِرُ لَهُمْ سُوءَ حَالِهِمْ وَقُبْحَ مَآلِهِمْ فِي شِرْكِهِمْ، وَيُعَلِّلُ لَهُمْ مَا بُدِئَ بِهِ سِيَاقُ الْآيَاتِ الْأَخِيرَةِ فِيهِ - أَيِ التَّوْحِيدِ - مِنَ النَّهْيِ عَنْ دُعَاءِ غَيْرِ اللهِ وَعَنِ اتِّبَاعِ أَهْوَائِهِمْ، وَيَشْرَحُ لَهُمْ مَفْهُومَهُ، وَيُفَصِّلُ لَهُمْ مَضْمُونَهُ، وَيُبَيِّنُ لَهُمْ مُقَابِلَهُ. وَأَعْنِي بِهَذَا السِّيَاقِ مَا فِي حَيِّزِ قَوْلِهِ تَعَالَى:(قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ)(40: 66) إِلَخْ. وَحَيِّزُ قَوْلِهِ: (قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ)(63) وَمَا يَلِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ بِعَذَابِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَخَتَمَ الْآيَةَ بِالْأَمْرِ بِالْإِسْلَامِ الْمُقَابِلِ لِطَرِيقِ الضَّلَالِ وَالْهَوَى، وَبَدَأَ الْآيَةَ الثَّانِيَةَ بِبَيَانِ أَعْظَمِ أَعْمَالِ طَرِيقِ الْهُدَى، وَالْآيَةُ الثَّالِثَةُ فِي التَّذْكِيرِ بِدَلَائِلِ ذَلِكَ، وَعَاقِبَتِهِ، وَصِدْقِ وَعِيدِهِ تَعَالَى، وَكَمَالِ عِلْمِهِ، وَحِكْمَتِهِ فِيهِ، قَالَ:

ص: 435

(قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللهُ) رُوِيَ عَنِ السُّدِّيِّ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ قَالُوا لِلْمُؤْمِنِينَ: اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَاتْرُكُوا دِينَ مُحَمَّدٍ، فَقَالَ اللهُ:(قُلْ أَنَدْعُوا) الْآيَةَ، وَعَنْ قَتَادَةَ أَنَّهُ قَالَ فِي الْآيَةِ: خُصُومَةٌ عَلَّمَهَا اللهُ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابَهُ يُخَاصِمُونَ بِهَا أَهْلَ الضَّلَالَةِ. وَلَعَلَّ هَذَا مُرَادُ السُّدِّيِّ؛ إِذْ

لَا يَظْهَرُ أَنَّ مُرَادَهُ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ قَالُوا ذَلِكَ مَرَّةً وَاحِدَةً لِبَعْضِ الْمُؤْمِنِينَ أَوْ لِجَمِيعِهِمْ، بَلْ كَانُوا يَفْتِنُونَ الْمُسْلِمِينَ دَائِمًا وَيَدْعُونَهُمْ إِلَى الْعَوْدِ إِلَى الْكُفْرِ، وَمِنْهُ مَا رُوِيَ مِنْ دَعْوَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنهما لِأَبِيهِ إِلَى الشِّرْكِ فَنَزَلَتِ الْآيَةُ رَدًّا عَلَيْهِمْ، فَلَقَّنَهُمُ اللهُ تَعَالَى هَذِهِ الْحُجَّةَ الْمُؤَثِّرَةَ - بِمَا فِيهَا مِنَ الْمَثَلِ الْجَلِيِّ الْوَاضِحِ لِحَالَيِ الشِّرْكِ وَضَلَالِهِ وَالتَّوْحِيدِ وَهِدَايَتِهِ - فِي سِيَاقِ حُجَجِ الْحَقِّ الْكَثِيرَةِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ الَّتِي نَزَلَتْ دُفْعَةً وَاحِدَةً كَمَا تَقَدَّمَ، وَالِاسْتِفْهَامُ لِلْإِنْكَارِ وَالتَّعَجُّبِ، وَالْمَعْنَى: قُلْ أَنَدْعُو - مُتَجَاوِزِينَ دُعَاءَ اللهِ الْقَادِرِ عَلَى اسْتِجَابَةِ دُعَائِنَا - مَا لَا يَضُرُّنَا وَلَا يَنْفَعُنَا - كَالْأَصْنَامِ وَسَائِرِ مَا عُبِدَ مِنْ دُونِ اللهِ - وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بِالْعَوْدِ إِلَى ضَلَالَةِ الشِّرْكِ الْفَاضِحَةِ بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللهُ إِلَى الْإِسْلَامِ! .

وَمِنْ بَلَاغَةِ هَذِهِ الْعِبَارَةِ أَنَّهَا بَيَّنَتْ عِلَّةَ الْإِنْكَارِ وَالتَّعَجُّبِ فِي الِاسْتِفْهَامِ مِنْ خَمْسَةِ أَوْجُهٍ:

(أَحَدُهَا) أَنَّ دُعَاءَ غَيْرِ اللهِ تَعَالَى تَحَوُّلٌ وَارْتِدَادٌ مِنْ دُعَاءِ الْقَادِرِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، الَّذِي يَكْشِفُ مَا يُدْعَى إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ - إِلَى دُعَاءِ الْعَاجِزِ الَّذِي لَا يَقْدِرُ عَلَى نَفْعٍ وَلَا ضُرٍّ.

(ثَانِيهَا) أَنَّهُ نُكُوصٌ عَلَى الْأَعْقَابِ، وَتَقَهْقُرٌ إِلَى الْوَرَاءِ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ فِيمَنْ عَجَزَ بَعْدَ قُدْرَةٍ، أَوْ سَفُلَ بَعْدَ رِفْعَةٍ، أَوْ أَحْجَمَ بَعْدَ إِقْدَامٍ عَلَى مَحْمَدَةٍ: نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ، وَارْتَدَّ عَلَى عَقِبَيْهِ وَرَجَعَ الْقَهْقَرَى، وَالْأَصْلُ فِيهِ رُجُوعُ الْهَزِيمَةِ أَوِ الْخَيْبَةِ وَالْعَجْزِ عَنِ السَّيْرِ الْمَحْمُودِ، ثُمَّ صَارَ يُطْلَقُ عَلَى كُلِّ تَحَوُّلٍ مَذْمُومٍ.

(ثَالِثُهَا) التَّعْبِيرُ بِ (نُرَدُّ) الْمَبْنِيِّ لِلْمَجْهُولِ بَدَلَ التَّعْبِيرِ بِ " نَرْتَدُّ " أَوْ " نَرْجِعُ "، وَالنُّكْتَةُ فِيهِ أَنَّ هَذَا التَّحَوُّلَ الْمَذْمُومَ لَيْسَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَقَعَ مِنْ عَاقِلٍ ; لِأَنَّ الْعَاقِلَ إِذَا وَصَلَ إِلَى مَرْتَبَةٍ عَالِيَةٍ مِنَ الْعِلْمِ وَالْكَمَالِ فَإِنَّهُ لَا يَخْتَارُ الرُّجُوعَ عَنْهَا وَاسْتِبْدَالَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَأَعْلَى، فَإِذَا كَانَتْ فِطْرَتُهُ وَعَقْلُهُ يَأْبَيَانِ عَلَيْهِ هَذِهِ الرِّدَّةَ وَالنُّكُوصَ، فَكَيْفَ يُرَدُّ وَهُوَ لَا يَرْتَدُّ؟ .

(رَابِعُهَا) أَنَّ مَنْ أَنْقَذَهُ اللهُ الْقَدِيرُ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ مِنَ الضَّلَالَةِ، وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطِ السَّعَادَةِ بِمَا أَرَاهُ مِنْ آيَاتٍ فِي الْأَنْفُسِ وَالْآفَاقِ، وَمَا شَرَحَ بِهِ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ، فَمَنْ يَقْدِرُ أَنْ يُضِلَّهُ بَعْدَ إِذْ هَدَاهُ اللهُ؟ (وَمَنْ يَهْدِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ) (39: 37) .

(خَامِسُهَا) الْمَثَلُ الَّذِي يُصَوِّرُ الْمُرْتَدَّ فِي أَقْبَحِ حَالَةٍ كَانَتْ تَتَصَوَّرُهَا الْعَرَبُ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى:(كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا) قَرَأَ حَمْزَةُ " اسْتَهْوَاهُ " بِأَلْفِ مُمَالَةٍ، وَكَانُوا يَرْسُمُونَهَا يَاءً كَأَصْلِهَا وَإِنْ تَكُنْ طَرَفًا، وَرَسْمُهَا فِي

الْمُصْحَفِ

ص: 436

الْإِمَامِ هَكَذَا (اسْتَهْوَتْهُ) وَهُوَ يَحْتَمِلُ الْقِرَاءَتَيْنِ. وَتَقْدِيرُ التَّشْبِيهِ فِي الْكَلَامِ أَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ تِلْكَ الْهِدَايَةِ مِثْلَ رَدِّ الَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ، أَوْ مُشَبَّهِينَ بِالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ - إِلَخْ! . قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ: ذَهَبَتْ بِهَوَاهُ وَعَقْلِهِ، وَقِيلَ: اسْتَهَامَتْهُ وَحَيَّرَتْهُ. وَقِيلَ: زَيَّنَتْ لَهُ هَوَاهُ، وَيُقَالُ لِلْمُسْتَهَامِ الَّذِي اسْتَهَامَتْهُ الْجِنُّ: وَاسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ. الْقُتَيْبِيُّ: اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ هَوَتْ بِهِ وَأَذْهَبَتْهُ - جَعَلَهُ مِنْ هَوَى يَهْوِي. وَجَعَلَهُ الزَّجَّاجُ مِنْ هَوَى يَهْوَى، أَيْ زَيَّنَتْ لَهُ هَوَاهُ. كَذَا فِي لِسَانِ الْعَرَبِ وَغَيْرِهِ، وَالْمُسْتَهَامُ هُوَ الَّذِي جَعَلَهُ الْعِشْقُ أَوِ الْجُنُونُ هَائِمًا، أَيْ يَسِيرُ عَلَى وَجْهِهِ لَا يَقْصِدُ غَايَةً مُعَيَّنَةً، وَكَانَتِ الْعَرَبُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ تَزْعُمُ أَنَّ الْجُنُونَ كُلَّهُ مِنْ تَأْثِيرِ الْجِنِّ، وَالْأَصْلُ فِي قَوْلِهِمْ: جُنَّ فَلَانٌ - مَسَّتْهُ الْجِنُّ فَذَهَبَتْ بِعَقْلِهِ. وَكَانُوا يَقُولُونَ: إِنَّ الْجِنَّ تَظْهَرُ لَهُمْ فِي الْبَرَارِي وَالْمَهَامِهِ، وَتَتَلَوَّنُ لَهُمْ بِأَلْوَانٍ مُخْتَلِفَةٍ، فَتَذْهَبُ بِلُبِّ مَنْ يَرَاهَا فَيَهِيمُ عَلَى وَجْهِهِ لَا يَدْرِي أَيْنَ يَذْهَبُ حَتَّى يَهْلِكَ. وَالشَّيَاطِينُ الَّتِي تَتَلَوَّنُ هِيَ الَّتِي يُسَمُّونَهَا الْغِيلَانَ وَالْأَغْوَالَ وَالسَّعَالِي (بِوَزْنِ الصَّحَارِي)، وَرَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:" لَا عَدْوَى وَلَا طِيَرَةَ وَلَا غُولَ " قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِهِ: قَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ: كَانَتِ الْعَرَبُ تَزْعُمُ أَنَّ الْغِيلَانَ فِي الْفَلَوَاتِ، وَهِيَ مِنْ جِنْسِ الشَّيَاطِينِ، تَتَرَاءَى لِلنَّاسِ وَتَتَغَوَّلُ تَغَوُّلًا، أَيْ تَتَلَوَّنُ تَلَوُّنًا فَتُضِلُّهُمْ عَنِ الطَّرِيقِ فَتُهْلِكُهُمْ، فَأَبْطَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ذَاكَ، وَقَالَ آخَرُونَ: لَيْسَ الْمُرَادُ نَفْيَ وُجُودِ الْغُولِ، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ إِبْطَالُ مَا تَزْعُمُهُ الْعَرَبُ مِنْ تَلَوُّنِ الْغُولِ بِالصُّوَرِ الْمُخْتَلِفَةِ وَاغْتِيَالِهَا. قَالُوا: وَمَعْنَى " لَا غُولَ " لَا تَسْتَطِيعُ أَنْ تُضِلَّ أَحَدًا، وَيَشْهَدُ لَهُ حَدِيثٌ آخَرُ " لَا غُولَ وَلَكِنِ السَّعَالِي " وَقَالَ الْعُلَمَاءُ: السَّعَالِي - بِالسِّينِ الْمَفْتُوحَةِ وَالْعَيْنِ الْمُهْمَلَتَيْنِ - هُمْ سَحَرَةُ الْجِنِّ، أَيْ: وَلَكِنْ فِي الْجِنِّ سَحَرَةٌ، لَهُمْ تَلْبِيسٌ وَتَخْيِيلٌ " وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ " إِذَا تَغَوَّلَتِ الْغِيلَانُ فَنَادُوا بِالْأَذَانِ " أَيِ ادْفَعُوا شَرَّهَا بِذِكْرِ اللهِ تَعَالَى، وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ نَفْيُ أَصْلِ وُجُودِهَا، وَفِي حَدِيثِ أَبِي أَيُّوبَ: كَانَ لِي تَمْرٌ فِي سَهْوَةٍ، وَكَانَتِ الْغُولُ تَجِيءُ فَتَأْكُلُ مِنْهُ. اهـ.

أَقُولُ: إِنَّ هَذَا الشَّرْحَ مَأْخُوذٌ مِنَ النِّهَايَةِ لِابْنِ الْأَثِيرِ، لَيْسَ لِلنَّوَوِيِّ مِنَ التَّصَرُّفِ فِيهِ إِلَّا عَزْوُ نَفْيِ وُجُودِ الْغُولِ إِلَى جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ، وَهُوَ الْقَوْلُ الَّذِي قَدَّمَهُ ابْنُ الْأَثِيرِ، وَقَدْ نَقَلَ عِبَارَتَهُ ابْنُ مَنْظُورٍ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ وَغَيْرُهُ مِنَ الْعُلَمَاءِ. وَمَا عَزَاهُ النَّوَوِيُّ إِلَى

الْجُمْهُورِ هُوَ الْمُتَبَادِرُ فِي لَفْظِ الْحَدِيثِ، فَإِنَّ كَلِمَةَ " لَا غُولَ " نَافِيَةٌ لِجِنْسِ الْغُولِ كَمَا هُوَ الْمُتَبَادِرُ، وَقَدْ وَرَدَ هَذَا اللَّفْظُ وَحْدَهُ فِي حَدِيثٍ لِأَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ، وَمَا أُيِّدَ بِهِ قَوْلُ غَيْرِ الْجُمْهُورِ لَا يُحْتَجُّ بِشَيْءٍ مِنْهُ ; وَلِذَلِكَ لَمْ يُعَرِّجِ الْجُمْهُورُ عَلَيْهِ، وَلَكِنْ رَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ أَنَّ الْغِيلَانَ ذُكِرُوا عِنْدَ عُمْرَ فَقَالَ: إِنَّ أَحَدًا لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَتَحَوَّلَ عَنْ صُورَتِهِ الَّتِي خَلَقَهُ اللهُ عَلَيْهَا، وَلَكِنْ لَهُمْ سَحَرَةٌ كَسَحَرَتِكُمْ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ ذَلِكَ فَأَذِّنُوا وَهَذَا رَأْيٌ لِعُمَرَ رضي الله عنه -

ص: 437

فِيمَا كَانُوا يَرَوْنَهُ، وَهُوَ أَنَّهُ تَخْيِيلٌ بَاطِلٌ مِنْ ذَلِكَ سِحْرُ الْجِنِّ. وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الْجِنَّ تَتَشَكَّلُ، وَهُوَ لَا يَقْتَضِي إِثْبَاتُ الْغُولِ، وَقَدِ اشْتُهِرَ أَنَّ الْغُولَ اسْمٌ لَيْسَ لَهُ مُسَمًّى فِي الْحَقِيقَةِ. قَالَ ابْنُ هِشَامٍ فِي قَوْلِ كَعْبِ بْنِ زُهَيْرٍ:

فَمَا تَدُومُ عَلَى حَالٍ تَكُونُ بِهَا

كَمَا تَلَوَّنُ فِي أَثْوَابِهَا الْغُولُ

مِنْ شَرْحِهِ لِقَصِيدَتِهِ (بَانَتْ سُعَادُ) وَالْغُولُ بِالضَّمِّ كُلُّ شَيْءٍ اغْتَالَ الْإِنْسَانَ فَأَهْلَكَهُ، وَالْمُرَادُ هُنَا الْوَاحِدَةُ مِنَ السَّعَالِي وَهِيَ إِنَاثُ الشَّيَاطِينِ، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا - فِيمَا زَعَمُوا - تَغْتَالُهُمْ، أَوْ لِأَنَّهَا تَتَلَوَّنُ كُلَّ وَقْتٍ، وَمِنْ قَوْلِهِمْ: تَغَوَّلْتُ عَلَى الْبِلَادِ - إِذَا اخْتَلَفْتُ. وَلِلْعَرَبِ أُمُورٌ تَزْعُمُهَا لَا حَقِيقَةَ لَهَا، مِنْهَا أَنَّ الْغُولَ تَتَرَاءَى وَتَتَلَوَّنُ لَهُمْ، وَتُضِلُّهُمْ عَنِ الطَّرِيقِ. وَذَكَرَ أَشْيَاءً أُخْرَى مِنْ خُرَافَاتِهِمْ، ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ مُسْلِمٍ فِي نَفْيِ الْغُولِ وَالطِّيَرَةِ، وَقَوْلَ بَعْضِ الشُّعَرَاءِ:

الْجُودُ وَالْغُولُ وَالْعَنْقَاءُ ثَالِثَةٌ

أَسْمَاءُ أَشْيَاءَ لَمْ تُخْلَقْ وَلَمْ تَكُنِ.

وَمَا فَسَّرَ بِهِ ابْنُ هِشَامٍ الْغُولَ هُوَ الْمُعْتَمَدُ الْمَشْهُورُ، قَالَ فِي اللِّسَانِ: وَالسِّعْلَاةُ وَالسِّعْلَاءُ - الْغُولُ. وَقِيلَ: هِيَ سَاحِرَةُ الْجِنِّ، فَجَعَلَ هَذَا قَوْلًا ضَعِيفًا ثُمَّ ذَكَرَ قَوْلَيْنِ آخَرَيْنِ مِثْلَهُ. أَحَدُهُمَا: إِنَّهَا أَخْبَثُ الْغِيلَانِ، وَثَانِيهِمَا: أَنَّهَا أُنْثَى الْغِيلَانِ. وَيُشَبِّهُونَ الْمَرْأَةَ الْقَبِيحَةَ الْوَجْهِ السَّيِّئَةَ الْخُلُقِ بِالسِّعْلَاةِ، وَشَبَّهُوا بِهَا الْخَيْلَ أَيْضًا، وَالظَّاهِرُ أَنَّ بَعْضَهُمْ كَانَ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ الْخَوْفُ فِي الْبَرَارِي الْمُنْقَطِعَةِ شَيْئًا يَتَلَوَّنُ فِيهِمْ عَلَى وَجْهِهِ خَوْفًا لِاعْتِقَادِهِ أَنَّهُ مِنَ الْجِنِّ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بَعْضُهُمْ رَأَى بَعْضَ الْقِرَدَةِ الرَّاقِيَةِ الَّتِي تُشْبِهُ الْعَجُوزَ الْقَبِيحَةَ الْوَجْهِ فَسَمُّوهَا السِّعْلَاةَ، وَأَنْ تَكُونَ السِّعْلَاةُ الَّتِي أَكَلَتْ مِنَ التَّمْرِ فِي حَدِيثِ أَبِي أَيُّوبَ مِنْهَا - إِنْ صَحَّ مَا رُوِيَ وَكَانَ عَنْ مُشَاهَدَةٍ - وَإِلَّا كَانَ مَبْنِيًّا عَلَى مَا تَوَارَثَهُ قَبْلَ نَفْيِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَهُ أَوْ قَبْلَ الْعِلْمِ بِهَذَا النَّفْيِ. وَقَدْ قَالَ اللهُ تَعَالَى فِي الشَّيْطَانِ: (إِنَّهُ يَرَاكُمْ

هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ) (7: 27) وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَرَ الْجِنَّ حِينَ اسْتَمَعُوا الْقُرْآنَ مِنْهُ، بَلْ عَلِمَ ذَلِكَ بِالْوَحْيِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:(قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ)(72: 1) وَلَكِنْ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ - وَكَانَ مَعَهُ - أَنَّهُ رَأَى أَسْوِدَةً تُشْبِهُ السَّحَابَ، وَسَيَأْتِي تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ. وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي مَنَاقِبِ الشَّافِعِيِّ بِإِسْنَادِهِ عَنِ الرَّبِيعِ: سَمِعْتُ الشَّافِعِيَّ يَقُولُ: مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ يَرَى الْجِنَّ أَبْطَلْنَا شَهَادَتُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ نَبِيًّا. انْتَهَى. وَقَدْ حَمَلُوهُ كَمَا حَمَلُوا الْآيَةَ عَلَى مَنْ يَدَّعِي رُؤْيَتَهُمْ بِصُورَتِهِمُ الَّتِي خَلَقَهُمُ اللهُ عَلَيْهَا دُونَ الصُّوَرِ الَّتِي يَتَمَثَّلُونَ بِهَا.

ص: 438

عَلَى أَنَّنَا نَقُولُ: إِنَّ مَا اشْتُهِرَ عَنِ الْعَرَبِ فِي مَسْأَلَةِ الْأَغْوَالِ وَاسْتِهْوَائِهَا بَعْضَ النَّاسِ فِي الْفَلَوَاتِ حَتَّى يَضِلُّوا الطُّرُقَ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَصْلٌ عِنْدَهُمْ. وَالرَّاجِحُ الْمَعْقُولُ فِيهِ مَا ذَكَرْنَاهُ عَنْ سَيِّدِنَا عُمَرَ رضي الله عنه وَصَرَّحَ بِهِ بَعْضُ الْمُتَكَلِّمِينَ مِنْ أَنَّهُ تَخَيُّلٌ لَا حَقِيقَةَ لَهُ فِي الْخَارِجِ، وَقَدْ يَكُونُ مِنْهُ رُؤْيَةُ حَيَوَانٍ غَرِيبٍ كَبَعْضِ الْقِرَدَةِ. وَالْعَرَبُ تُطْلِقُ اسْمَ الشَّيْطَانِ عَلَى الْعَاتِي الْمُتَمَرِّدِ مِنَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ، وَعَلَى بَعْضِ الْحَيَوَانِ وَالْحَشَرَاتِ، وَعَلَى كُلِّ قَبِيحِ الصُّورَةِ. قَالَ تَعَالَى فِي شَجَرَةِ الزَّقُّومِ:(طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ)(37: 65) قِيلَ هُوَ نَبَاتٌ قَبِيحٌ، وَقِيلَ: شَبَّهَهَا بِالْعَارِمِ مِنَ الْجِنِّ. قَالَ فِي التَّاجِ: وَقَالَ الزَّجَّاجُ فِي تَفْسِيرِهِ: وَجْهُهُ أَنَّ الشَّيْءَ إِذَا اسْتُقْبِحَ شُبِّهَ بِالشَّيَاطِينِ، فَيُقَالُ: كَأَنَّهُ وَجْهُ شَيْطَانٍ، وَكَأَنَّهُ رَأْسُ شَيْطَانٍ، وَالشَّيْطَانُ لَا يُرَى، وَلَكِنَّهُ يُسْتَشْعَرُ أَنَّهُ أَقْبَحُ مَا يَكُونُ مِنَ الْأَشْيَاءِ، وَلَوْ رُئِيَ لَرُئِيَ فِي أَقْبَحِ صُورَةٍ. وَقِيلَ: كَأَنَّهُ رُءُوسُ حَيَّاتٍ، فَإِنَّ الْعَرَبَ تُسَمِّي بَعْضَ الْحَيَّاتِ شَيْطَانًا، وَأَوْرَدَ شَاهِدًا مِنَ الشِّعْرِ عَلَى ذَلِكَ، وَوَرَدَ فِي بَعْضِ الْأَخْبَارِ أَنَّ حَيَّاتِ الْبُيُوتِ مِنَ الْجِنِّ، وَفِي حَدِيثِ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيُّ عِنْدَ ابْنِ حِبَّانَ وَالْحَاكِمِ وَغَيْرِهِمَا " الْجِنُّ عَلَى ثَلَاثَةِ أَصْنَافٍ: صِنْفٌ لَهُمْ أَجْنِحَةٌ يَطِيرُونَ فِي الْهَوَاءِ، وَصِنْفٌ حَيَّاتٌ وَعَقَارِبُ، وَصِنْفٌ يَحِلُّونَ وَيَظْعَنُونَ ". قَالَ السُّهَيْلِيُّ: هَذَا الْأَخِيرُ هُمُ السَّعَالِي، وَعَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ أَنَّهُمْ أَجْنَاسٌ خَالِصُهُمْ رِيحٌ - أَيْ كَالرِّيحِ - لَا يَأْكُلُونَ،

وَلَا يَشْرَبُونَ، وَلَا يَتَوَالَدُونَ، وَلَا يَمُوتُونَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَأْكُلُونَ. . إِلَخْ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ اسْمَ الْجِنِّ وَالشَّيَاطِينِ يُطْلَقُ عِنْدَ الْعَرَبِ عَلَى بَعْضِ الْحَشَرَاتِ، وَالْحَيَوَانَاتِ الضَّارَّةِ، أَوِ الْقَبِيحَةِ، وَعَلَى مَا يُؤْثَرُ عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْعَالَمِ الرُّوحِيِّ الْغَيْبِيِّ الَّذِي يُوَسْوِسُ لِلنَّاسِ فَيُزَيِّنُ لَهُمُ الشَّرَّ، وَيُلَابِسُ بَعْضَهُمْ أَحْيَانًا فَيُصَابُونَ بِالصَّرْعِ أَوِ الْجُنُونِ، وَيَتَمَثَّلُ لِلْكُهَّانِ وَغَيْرِهِمْ، وَيَرَاهُ الْأَنْبِيَاءُ وَبَعْضُ الصَّالِحِينَ مِنْ بَابِ الْكَرَامَةِ الْخَاصَّةِ. وَالْأَكَاذِيبُ عَنْ جَمِيعِ الْأُمَمِ فِي ذَلِكَ كَثِيرَةٌ، وَالشُّبُهَاتُ فِيهَا غَيْرُ قَلِيلَةٍ. وَلَكِنْ قَلَّ الْمُصَدِّقُونَ بِهَا فِي بِلَادِ الْعِلْمِ وَالْمَدَنِيَّةِ.

بَعْدَ هَذَا الشَّرْحِ نَقُولُ: إِنَّ لِلْمُفَسِّرِينَ قَوْلَيْنِ: تَفْسِيرُ (كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ) أَشَرْنَا إِلَيْهِمَا فِي تَفْسِيرِ الِاسْتِهْوَاءِ:

(الْأَوَّلُ) أَنَّهُ تَشْبِيهٌ لِمَنْ يَرْتَدُّ مُشْرِكًا بَعْدَ الْإِيمَانِ بِالْمُسْتَهَامِ الَّذِي يَضِلُّ فِي الْفَلَوَاتِ حَيْرَانَ لَا يَهْتَدِي، تَارِكًا رِفَاقَهُ عَلَى الْجَادَّةِ يُنَادُونَهُ: ائْتِنَا، عُدْ إِلَيْنَا، فَلَا يَسْتَجِيبُ لَهُمْ لِانْجِذَابِهِ وَرَاءَ مَا تَرَاءَى لَهُ مِنَ الْغِيلَانِ بِغَيْرِ عَقْلٍ وَلَا بَصِيرَةٍ. وَهَذَا التَّفْسِيرُ مَرْوِيٌّ عَنِ السُّدِّيِّ، وَهُوَ إِحْدَى رِوَايَتَيْنِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. قَالَ السُّدِّيُّ بَعْدَ بَيَانِ التَّشْبِيهِ: فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ تَبِعَكُمْ بَعْدَ الْمَعْرِفَةِ لِمُحَمَّدٍ، وَمُحَمَّدٌ الَّذِي يَدْعُو إِلَى الطَّرِيقِ، وَالطَّرِيقُ هُوَ الْإِسْلَامُ. وَمِمَّا جَاءَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ:" إِنَّ الْغُولَ تَدْعُوهُ بِاسْمِهِ وَاسْمِ أَبِيهِ وَجَدِّهِ، فَيَتْبَعُهَا وَيَرَى أَنَّهُ فِي شَيْءٍ، فَيُصْبِحُ وَقَدْ أَلْقَتْهُ فِي هَلَكَةٍ وَرُبَّمَا أَكَلَتْهُ، أَوْ تُلْقِيهِ فِي مُضِلَّةِ الْأَرْضِ يَهْلِكُ فِيهَا عَطَشًا " وَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ يَرَى أَنَّ هَذَا

ص: 439

التَّشْبِيهَ مُثْبِتٌ لِلْغُولِ الَّذِي نَفَاهُ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ الَّذِي أَخَذَ بِهِ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَرَى أَنَّهُ لَا يَقْتَضِي إِثْبَاتَهُ؛ لِأَنَّ التَّشْبِيهَ قَدْ يُبْنَى عَلَى الْمُتَعَارَفِ لِأَجْلِ التَّأْثِيرِ، وَقَدْ أَشَارَ الزَّمَخْشَرِيُّ إِلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى مَا كَانَتْ تَزْعُمُهُ الْعَرَبُ وَتَعْتَقِدُهُ مِنْ أَنَّ الْجِنَّ تَسْتَهْوِي الْإِنْسَانَ، وَالْغِيلَانَ تَسْتَوْلِي عَلَيْهِ كَقَوْلِهِ:(الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ)(2: 275) انْتَهَى. وَقَدْ شَنَّعَ عَلَيْهِ ابْنُ الْمُنِيرِ فِي هَذَا، إِذْ جَعَلَهُ مِنْ إِنْكَارِ الْجِنِّ - وَهُوَ لَا يُنْكِرُهُمْ - وَتَبِعَهُ الْأَلُوسِيُّ فَقَالَ: وَلَيْسَ هَذَا مَبْنِيًّا عَلَى زَعَمَاتِ الْعَرَبِ كَمَا زَعَمَ مَنِ اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ. انْتَهَى. وَمَا هَذَا الشَّنِيعُ إِلَّا مِنْ تَعَصُّبِ الْمَذَاهِبِ، وَلَوْلَاهُ لَمَا وَقَعَ أَمْثَالُ هَؤُلَاءِ الْأَذْكِيَاءِ فِي هَذِهِ الْغَيَاهِبِ، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّهُ لَا دَلِيلَ عَلَى كَوْنِ مَا كَانَتْ تَزْعُمُهُ الْعَرَبُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ شَيَاطِينِ الْجِنِّ، وَأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَذَّبَهُمْ فِي دَعْوَى الْغُولِ، وَأَنَّ جُمْهُورَ الْعُلَمَاءِ أَخَذُوا بِهَذَا التَّكْذِيبِ

وَلَمْ يُؤَوِّلُوهُ، وَأَنَّ مَنْ أَوَّلَهُ بِإِنْكَارِ تَغَوُّلِ الْغِيلَانِ وَإِضْلَالِهِمْ لِلنَّاسِ مُكَذِّبٌ لِلْعَرَبِ فِي زَعْمِهَا ذَاكَ، وَإِنَّمَا بَنَى التَّشْبِيهَ عَلَى مَا قِيلَ مِنِ اسْتِهْوَائِهِمْ وَإِضْلَالِهِمْ بِتَغَوِّلِهِمْ، لَا عَلَى مُجَرَّدِ وُجُودِهِمْ، وَإِذَا كَانَ الِاسْتِهْوَاءُ بِتَخَيُّلَاتٍ لَا حَقِيقَةَ لَهَا يَكُونُ التَّشْبِيهُ أَبْلَغَ وَأَقْوَى، وَخُلَاصَتُهُ أَنَّ مَنْ يَتْبَعْ دَاعِيَ الشِّرْكِ كَالْمُسْتَهْوَى بِمَا لَا حَقِيقَةَ لَهُ مِنَ الْأَوْهَامِ الضَّارَّةِ الشَّيْطَانِيَّةِ الَّتِي تُنْسَبُ إِلَى الْأَغْوَالِ الْخَيَالِيَّةِ. وَلَا يَقْتَضِي ذَلِكَ إِنْكَارَ الْجِنِّ وَالشَّيَاطِينِ، وَمَا كَانَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَلَا شِيعَتُهُ مِنَ الْمُنْكِرِينَ، وَإِنَّمَا الْجِنُّ مِنْ عَالَمِ الْغَيْبِ، لَا نُصَدِّقُ مِنْ خَبَرِهِمْ إِلَّا مَا أَثْبَتَهُ الشَّرْعُ، أَوْ مَا هُوَ فِي قُوَّتِهِ مِنْ دَلِيلِ الْحِسِّ أَوِ الْعَقْلِ، وَلَمْ يَثْبُتْ شَرْعًا وَلَا عَقْلًا وَلَا اخْتِيَارًا أَنَّ شَيَاطِينَ الْجِنِّ تَأْكُلُ النَّاسَ، وَلَا أَنَّهَا تَظْهَرُ لَهُمْ فِي الْفَيَافِي وَالْقِفَارِ، كَمَا كَانَتْ تَزْعُمُ الْعَرَبُ وَغَيْرُ الْعَرَبِ فِي طَوْرِ الْجَهْلِ وَالْخُرَافَاتِ.

وَأَمَّا حَدِيثُ خُرَافَةَ فَقَدْ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ فِي جَامِعِهِ وَفِي الشَّمَائِلِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي عَقِيلٍ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَقِيلٍ الثَّقَفِيِّ، وَأَبُو عَقِيلٍ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، وَثَّقَهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ مَعِينٍ أَنَّهُ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ، وَالظَّاهِرِ أَنَّهُ قَدْ ذُكِرَ عَلَى سَبِيلِ الْحِكَايَةِ، فَهُوَ نَحْوٌ مِمَّا نَقَلَهُ الْكَلْبِيُّ عَنِ الْعَرَبِ مِنْ أَنَّهُ رَجُلٌ مِنْ بَنِي عُذْرَةَ أَسَرَتْهُ الْجِنُّ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَأَقَامَ فِيهِمْ زَمَنًا ثُمَّ أَعَادُوهُ إِلَى الْإِنْسِ، فَكَانَ يُحَدِّثُ بِمَا رَأَى فِيهِمْ مِنَ الْعَجَائِبِ، فَصَارَ النَّاسُ يَقُولُونَ:" حَدِيثُ خُرَافَةَ " لِكُلِّ حَدِيثٍ مُسْتَمْلَحٍ يُكَذِّبُونَهُ، عَلَى أَنَّ مَا عَسَاهُ يَثْبُتُ لِبَعْضِ الْأَفْرَادِ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ لَا يُتَّخَذُ دَلِيلًا عَلَى صِدْقِ مَا كَذَّبَهُ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ مِنْ أَخْبَارِ الْأَغْوَالِ وَنَحْوِهَا، وَهَذَا الْحَدِيثُ غَيْرُ مُعَارِضٍ لِهَذِهِ الْآيَةِ حَتَّى عَلَى هَذَا الْقَوْلِ فِي التَّشْبِيهِ؛ لِجَوَازِ أَنْ يُسَمَّى مَا كَانَ يَتَرَاءَى لَهُمْ بِالشَّيْطَانِ لِقُبْحِهِ وَضَرَرِهِ، وَإِنْ كَانَ كَالسَّرَابِ لَا حَقِيقَةَ لَهُ فِي نَفْسِهِ، أَوْ يَكُونُ حَيَوَانًا مُفْتَرِسًا تُمَثِّلُهُ الْأَوْهَامُ بِأَشْكَالٍ مُخْتَلِفَةٍ. وَرَاجِعْ مَا يُقَرِّبُ لَكَ فِي هَذَا تَفْسِيرَ (وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ) (4: 157) .

ص: 440

فَإِنْ فَرَضْنَا وُقُوعَ التَّعَارُضِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ نَمْنَعُهُ بِتَرْجِيحِ (الْقَوْلِ الثَّانِي) عَلَيْهِ، وَهُوَ أَنَّ الَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ هُوَ الَّذِي أَضَلَّتْهُ بِوَسْوَسَتِهَا، وَحَمَلَتْهُ عَلَى اتِّبَاعِ هَوَاهُ، فَاتَّخَذَ دِينَهُ لَعِبًا وَلَهْوًا، وَغَرَّتْهُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، فَآثَرَهَا عَلَى الْآخِرَةِ لِإِنْكَارِهِ إِيَّاهَا، أَوْ عَدَمِ إِيمَانِهِ بِوَعْدِ اللهِ وَوَعِيدِهِ فِيهَا. وَهَذَا فِي مَعْنَى الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: هُوَ الرَّجُلُ الَّذِي لَا يَسْتَجِيبُ لِهُدَى اللهِ، وَهُوَ رَجُلٌ أَطَاعَ الشَّيْطَانَ، وَعَمِلَ فِي الْأَرْضِ بِالْمَعْصِيَةِ،

وَحَادَ عَنِ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُ. إِلَّا أَنَّ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ أَصْحَابَ الْمُسْتَهْوَى الَّذِينَ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى هُمُ الضَّالُّونَ الْمُتَّبِعُونَ لِلْهَوَى، وَإِنَّمَا يَصْحَبُ الْإِنْسَانُ أَمْثَالُهَ، فَالْمُرَادُ يَدْعُونَهُ إِلَى مَا يَزْعُمُونَ أَنَّهُ هَدًى كَمَا هُوَ شَأْنُ كُلِّ دَاعٍ إِلَى ضَلَالَةٍ، فَكَلِمَةُ الْهُدَى ذُكِرَتْ بِطَرِيقِ الْحِكَايَةِ، أَوِ الْمُرَادُ بِهَا الطَّرِيقُ الْجَادَّةُ، وَقَدْ رَوَى أَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ فِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ (يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى بَيِّنًا) قَالَ: الْهُدَى: الطَّرِيقُ، أَنَّهُ بَيِّنٌ. وَالْكَلَامُ بَعْدَهَا رَدٌّ مِنَ اللهِ تَعَالَى لِهَذَا الزَّعْمِ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ الْهُدَى صِرَاطُ اللهِ الْمُسْتَقِيمُ لَا مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ طُرُقِ الْوَهْمِ. وَأَنْكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ هَذِهِ الرِّوَايَةَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْجُمْلَةَ لَمْ تَرِدْ عَلَى سَبِيلِ الْحِكَايَةِ، وَإِنَّمَا هِيَ مِنْ كَلَامِ اللهِ تَعَالَى، وَاللهُ تَعَالَى لَا يُسَمِّي الضَّلَالَةَ هَدًى، وَسَوَاءٌ أَصَحَّ مَا أَنْكَرَهُ ابْنُ جَرِيرٍ أَمْ لَا، فَإِنَّ الْمَعْنَى الثَّانِيَ لَا يُتَوَقَّفُ عَلَيْهِ، بَلْ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ ذَلِكَ الَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ بِوَسْوَسَتِهَا - حَالَ كَوْنِهِ حَيْرَانَ - لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى وَالْخُرُوجِ مِنْ ذَلِكَ الضَّلَالِ، تَتَنَازَعُهُ وَسْوَسَةُ شَيَاطِينِهِ وَدَعْوَةُ أَصْحَابِهِ، فَلَا يَسْتَطِيعُ التَّفَلُّتَ مِنَ الْأَوْلَى فَيَكُونُ مِنَ الْمُهْتَدِينَ، وَلَا الْبَتَّ بِرَدِّ الْأُخْرَى فَيَكُونُ مِنَ الْأَخْسَرِينَ، بَلْ يَظَلُّ هَائِمًا فِي حَيْرَتِهِ، مُضْطَرِبًا فِي أَمْرِهِ، وَإِنَّمَا جَعَلَ دُعَاةَ الْهُدَى أَصْحَابًا لَهُ بِاعْتِبَارِ مَا كَانُوا عَلَيْهِ قَبْلَ إِضْلَالِ الشَّيَاطِينِ لَهُ، وَمِثْلُ هَذَا لَا يَسْتَقِرُّ عَلَى حَالٍ مِنَ الْقَلَقِ، وَالتَّشْبِيهُ يَدُلُّ بِهَذَا التَّوْجِيهِ عَلَى أَنَّ الْمُرْتَدَّ عَنِ الْإِسْلَامِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَعُودَ مُطْمَئِنًّا بِالشِّرْكِ، وَوَجْهُ الِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ: أَيُعْقَلُ أَنْ يَخْتَارَ هَذِهِ الْحَالَ السُّوأَى الَّتِي لَا بُدَّ مِنْهَا لِمَنْ يَرْتَدُّ عَنِ الْإِيمَانِ، وَهِيَ أَسْوَأُ حَالٍ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهَا الْإِنْسَانُ؟ .

(قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدَى) أَعَادَ الْأَمْرَ مِنَ الْقَوْلِ هُنَا كَمَا أَعَادَهُ فِيمَا تَقَدَّمَ قَرِيبًا بِمَعْنَى مَا هُنَا مِنَ التَّبَرُّؤِ مِنَ الشِّرْكِ وَالضَّلَالَةِ وَالِاعْتِصَامِ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ مِنَ الْهِدَايَةِ، وَهُوَ قَوْلُهُ:

(قُلْ إِنِّي نُهِيتُ)(56) إِلَى قَوْلِهِ: (قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ) إِلَخْ. وَفِي ذَلِكَ مَا فِيهِ مِنَ الْعِنَايَةِ بِكُلٍّ مِنَ الْبَرَاءَةِ وَالِاعْتِصَامِ فِي النَّهْيِ وَالْأَمْرِ، وَيُعَبِّرُونَ عَنْهُمَا بِالتَّخَلِّي وَالتَّحَلِّي. أَيْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ الَّذِي أَنْزَلَ بِهِ آيَاتِهِ، وَأَقَامَ عَلَيْهِ حُجَجَهُ وَبَيِّنَاتِهِ - هُوَ الْهُدَى الْحَقُّ الَّذِي لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ، لَا مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ مِنْ أَهْوَائِكُمْ اتِّبَاعًا لِمَا أَلْفَيْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ، وَهَذَا الْهُدَى الْمَعْقُولُ هُوَ الَّذِي دُعِينَا إِلَيْهِ

فَأَجَبْنَا، وَأُمِرْنَا بِهِ فَأَطَعْنَا، (وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) فَأَسْلَمْنَا، وَاللَّامُ فِي " لِنُسْلِمَ " فِيهَا وَجْهَانِ:(أَحَدُهُمَا) أَنَّهَا لِلتَّعْلِيلِ، وَالتَّقْدِيرُ: وَأُمِرْنَا بِهَذَا الْهُدَى لِأَجْلِ أَنْ نُسْلِمَ

ص: 441

قُلُوبَنَا وَنُوَجِّهَهَا لِرَبِّ الْعَالَمِينَ وَحْدَهُ بِالْإِذْعَانِ وَالْخُضُوعِ لِدِينِهِ وَالْإِخْلَاصِ فِي عِبَادَتِهِ، إِذْ لَا يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ مِنَ الْعِبَادِ إِلَّا رَبُّهُمُ الَّذِي خَلَقَهُمْ وَغَذَّاهُمْ بِنِعَمِهِ (وَثَانِيهِمَا) أَنَّهَا لِلْمَصْدَرِيَّةِ، أَيْ وَأُمِرْنَا بِأَنْ نُسْلِمَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَقَدْ رُوِيَ الْقَوْلُ بِتَأْوِيلِ الْفِعْلِ بِالْمَصْدَرِ هُنَا وَفِي مِثْلِ (يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ) (4: 26) (مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ)(5: 6) إِلَخْ. عَنِ الْخَلِيلِ وَسِيبَوَيْهِ وَمِنْ تَابَعَهُمَا. وَصَرَّحَ الْكِسَائِيُّ وَالْفَرَّاءُ بِأَنَّ اللَّامَ تَكُونُ حَرْفًا مَصْدَرِيًّا بَعْدَ الْفِعْلِ، مِنَ الْأَمْرِ وَالْإِرَادَةِ خَاصَّةً. وَهَذَا الْوَجْهُ أَوْجَهُ وَأَظْهَرُ.

(وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَاتَّقُوهُ) أَيْ أُمِرْنَا بِأَنْ نُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ، وَبِأَنْ أَقِيمُوا وَاتَّقُوهُ، أَيْ قِيلِ لَنَا ذَلِكَ، وَقَدَّرَ بَعْضُهُمْ: أُمِرْنَا بِالْإِسْلَامِ وَبِإِقَامَةِ الصَّلَاةِ وَالتَّقْوَى، وَإِقَامَةُ الصَّلَاةِ: الْإِتْيَانُ بِهَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي شُرِعَتْ لِأَجْلِهِ، وَهُوَ كَوْنُهَا تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ، وَتُزَكِّي النَّفْسَ بِمُنَاجَاةِ اللهِ وَذِكْرِهِ (وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ) (29: 45) وَلَمْ يَكُنْ شُرِعَ عِنْدَ نُزُولِ السُّورَةِ زَكَاةٌ وَلَا صِيَامٌ وَلَا حَجٌّ، وَالتَّقْوَى: اتِّقَاءُ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى مُخَالَفَةِ دِينِ اللهِ وَشَرْعِهِ وَتَنَكُّبِ سُنَنِهِ فِي خَلْقِهِ مِنْ ضَرَرٍ وَفَسَادٍ، فَهَذَا أَوْسَعُ مَعْنًى مِنْ تَفْسِيرِهَا بِامْتِثَالِ الْأَمْرِ وَاجْتِنَابِ النَّهْيِ (وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) أَيْ تُجْمَعُونَ وَتُسَاقُونَ إِلَى لِقَائِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ دُونَ غَيْرِهِ، فَيُحَاسِبُكُمْ عَلَى أَعْمَالِكُمْ، وَيُجَازِيكُمْ عَلَيْهَا. وَإِذَا كَانَ الْحَشْرُ إِلَيْهِ وَحْدَهُ، وَالْجَزَاءُ بِيَدِهِ وَحْدَهُ، فَمِنَ الْجُنُونِ أَنْ يُعْبَدَ غَيْرُهُ وَيُدْعَى، أَوْ يُخَافَ أَوْ يُرْجَى.

(وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ) أَيْ خَلَقَهُمَا بِالْأَمْرِ الثَّابِتِ الْمُتَحَقِّقِ، وَهُوَ آيَاتُهُ الْقَائِمَةُ بِالسُّنَنِ الْمُطَّرِدَةِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى الْحِكْمَةِ الْبَالِغَةِ الدَّالَّةِ عَلَى وُجُودِهِ وَصِفَاتِهِ الْكَامِلَةِ، فَلَمْ يَخْلُقْهُمَا بَاطِلًا وَلَا عَبَثًا، فَإِذًا لَا يَتْرُكُ النَّاسَ سُدًى، بَلْ يَجْزِي كُلَّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى.

(وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ) أَيْ وَقَوْلُهُ هُوَ الْحَقُّ يَوْمَ يَقُولُ لِلشَّيْءِ كُنْ فَيَكُونُ، وَهُوَ وَقْتُ الْإِيجَادِ وَالتَّكْوِينِ، فَلَا مَرَدَّ لِأَمْرِهِ التَّكْوِينِيِّ وَلَا تَخَلُّفَ، فَكَذَلِكَ يَجِبُ الْإِسْلَامُ وَالْخُضُوعُ لِأَمْرِهِ التَّكْلِيفِيِّ بِلَا حَرَجٍ فِي النَّفْسِ وَلَا تَكَلُّفٍ ; لِأَنَّ الْأَمْرَ حَقٌّ، وَالْخَلْقَ حَقٌّ (أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ)

(7: 45) .

(وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ) وَيَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ، فَإِذَا كَانَ لِغَيْرِهِ مُلْكٌ مَا فِي الدُّنْيَا بِمُقْتَضَى سُنَنِهِ الْمُقَدَّرَةِ، وَشَرِيعَتِهِ الْمُقَرَّرَةِ، فَلَا تَمْلِكُ يَوْمَئِذٍ نَفْسٌ مَا مَهْمَا تَكُنْ مُكْرَمَةً لِنَفْسٍ مَا مَهْمَا تَكُنْ قَرِيبَةً أَوْ مَقَرَّبَةً - شَيْئًا مَا مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ، أَوْ نَفْعٍ أَوْ ضُرٍّ، وَإِنَّمَا الْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ وَحْدَهُ. فَكَيْفَ يَدْعُو مَنْ هَدَاهُ إِلَى هَذِهِ الْحَقَائِقِ غَيْرَهُ مَنْ دُونِهِ فَيُرَدَّ عَلَى عَقِبَيْهِ، وَيَرْجِعَ إِلَى شَرِّ حَالَيْهِ! وَالصُّورُ فِي اللُّغَةِ: الْقَرْنُ، وَاسْتَشْهَدَ لَهُ فِي اللِّسَانِ بِقَوْلِ الرَّاجِزِ:

لَقَدْ نَطَحْنَاهُمْ غَدَاةَ الْجَمْعَيْنِ

نَطْحًا شَدِيدًا لَا كَنَطْحِ الصُّورَيْنِ

وَقَدْ ثَقَبَ النَّاسُ قُرُونَ الْوُعُولِ وَالظِّبَاءِ وَغَيْرِهَا فَجَعَلُوا مِنْهَا أَبْوَاقًا يَنْفُخُونَ فِيهَا فَيَكُونُ لَهَا

ص: 442

صَوْتٌ شَدِيدٌ يُدْعَى بِهِ النَّاسُ إِلَى الِاجْتِمَاعِ، وَيَعْزِفُونَ بِهِ كَغَيْرِهِ مِنْ آلَاتِ السَّمَاعِ، وَقَدْ وَرَدَ ذِكْرُهُ فِي سِفْرِ الْأَيَّامِ الْأُولَى مِنْ كُتُبِ الْعَهْدِ الْعَتِيقِ قَالَ:(5: 28 فَكَانَ جَمِيعُ إِسْرَائِيلَ يَصْعَدُونَ تَابُوتَ عَهْدِ الرَّبِّ بِهُتَافٍ وَبِصَوْتِ الْأَصْوَارِ وَالْأَبْوَاقِ وَالصُّنُوجِ، يُصَوِّتُونَ بِالرَّبَابِ وَالْعِيدَانِ) وَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ الصُّورَ جَمْعُ صُورَةٍ كَبُسْرٍ وَبُسْرَةٍ، وَصُوفٍ وَصُوفَةٍ. وَقِيلَ فِي سُورِ الْمَدِينَةِ أَيْضًا: إِنَّهُ جَمْعُ سُورَةٍ، وَنَقَلُوا هَذَا التَّفْسِيرَ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ مِنْ رُوَاةِ اللُّغَةِ، وَقَدْ رَدَّهُ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ بِأَنَّهُ لَا يَظْهَرُ مَعْنَاهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:(وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللهُ)(39: 68) وَهَذِهِ هِيَ النَّفْخَةُ الْأُولَى، وَلَا يَظْهَرُ مَعْنًى لِكَوْنِهَا فِي صُوَرِ الْمَخْلُوقَاتِ، وَإِنَّمَا يَظْهَرُ ذَلِكَ فِي النَّفْخَةِ الْأُخْرَى الَّتِي يَبْعَثُ اللهُ بِهَا الْعِبَادَ، وَهِيَ قَوْلُهُ فِي تَتِمَّةِ الْآيَةِ:(ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ) وَبِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِمَا وَرَدَ فِي الْأَخْبَارِ وَالْآثَارِ مِنْ تَفْسِيرِهِ بِالْقَرْنِ وَالْبُوقِ أَوْ بِمَا يُشْبِهُهُمَا، وَفِي بَعْضِ الْآثَارِ الْإِسْرَائِيلِيَّةِ أَنَّهُ مُسْتَقَرُّ أَرْوَاحِ الْخَلْقِ، فَإِذَا نُفِخَ فِيهِ نَفْخَةُ الْبَعْثِ تُصِيبُ النَّفْخَةُ تِلْكَ الْأَرْوَاحَ، فَتَذْهَبُ إِلَى أَجْسَادِهَا بَعْدَ أَنْ يَكُونَ اللهُ قَدْ أَعَادَهَا كَمَا بَدَأَهَا، وَرَدَّهُ اللُّغَوِيُّونَ أَيْضًا بِأَنَّ الْمَقِيسَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ أَنَّ مَا كَانَ عَلَى وَزْنِ فُعْلَةٍ بِضَمِّ الْفَاءِ يُجْمَعُ عَلَى فُعَلٍ بِضَمِّ الْفَاءِ وَفَتْحَ الْعَيْنِ، كَغُرْفَةٍ وَغُرَفٍ، وَصُورَةٍ وَصُوَرٍ، وَقَدْ أَجْمَعَ الْقُرَّاءُ عَلَى فَتْحِ الْوَاوِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:(وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ)(40: 64) وَأَمَّا مَا جَاءَ مِنْ جَمْعِهِ بِضَمٍّ فَسُكُونٍ كَبُسْرٍ وَصُوفٍ فَهُوَ خَاصٌّ بِمَا سَبَقَ اسْتِعْمَالُ الْجَمْعِ فِيهِ عَلَى اسْتِعْمَالِ الْوَاحِدِ، وَرَوَى الْأَزْهَرِيُّ هَذَا الرَّدَّ بِسَنَدِهِ عَنْ أَبِي الْهَيْثَمِ، وَيُرَاجَعُ فِي مَادَّتَيْ سُورَةٍ

وَصُوَرٍ مِنْ لِسَانِ الْعَرَبِ، فَقَدْ أَطَالَ الْكَلَامَ فِي الْمَسْأَلَةِ فِيهِمَا.

وَأَمَّا الْأَخْبَارُ الْمَرْفُوعَةُ فِي الصُّوَرِ فَقَدْ أَخْرَجَهَا أَصْحَابُ السُّنَنِ وَالتَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ وَغَيْرِهِمْ بِأَسَانِيدَ لَمْ يَصِحَّ مِنْهَا شَيْءٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ، وَلِذَلِكَ لَمْ يُخْرِجَا مِنْهَا شَيْئًا، وَأَقْوَاهَا مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ، وَالنَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُمْ، وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: سُئِلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنِ الصُّورِ فَقَالَ: " هُوَ قَرْنٌ يُنْفَخُ فِيهِ " وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: الصُّورُ كَهَيْئَةِ الْقَرْنِ يُنْفَخُ فِيهِ، وَوَرَدَ فِي رِوَايَاتٍ يُقَوِّي بَعْضُهَا بَعْضًا، وَصَحَّحَ بَعْضَهَا الْحَاكِمُ - أَنَّ الْمَلَكَ الْمُوَكَّلَ بِالصُّورِ مُسْتَعِدٌّ لِلنَّفْخِ فِيهِ، يَنْتَظِرُ مَتَى يُؤْمَرُ، وَفِي بَعْضِهَا أَنَّهُ وُكِّلَ بِهِ مَلَكَانِ، وَوَرَدَ فِي وَصْفِ مَلَكِ الصُّورِ، وَفِي صِفَةِ الصُّورِ، وَالنَّفْخِ وَتَأْثِيرِهِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ، وَمَا يَكُونُ يَوْمَئِذٍ - رِوَايَاتٌ مُنْكَرَةٌ، بَعْضُهَا مَأْخُوذٌ مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ، عَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ وَوَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ، وَبَعْضُهَا مُلَفَّقٌ مِنْ أَخْبَارٍ كَثِيرَةٍ، وَمَمْزُوجٌ بِالْآيَاتِ الْوَارِدَةِ فِي قِيَامِ السَّاعَةِ كَحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الطَّوِيلِ الَّذِي رَوَاهُ عَنْهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ طَرِيقِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ رَافِعٍ قَاضِي الْمَدِينَةِ، وَقَدْ ذَكَرَ مِنْهُ ابْنُ كَثِيرٍ مَا يَمْلَأُ عِدَّةَ صَفَحَاتٍ، وَذَكَرَ أَنَّهُ غَرِيبٌ جِدًّا، وَأَنْ إِسْمَاعِيلَ تَفَرَّدَ بِهِ، وَأَنَّهُ اخْتُلِفَ عَلَيْهِ فِي إِسْنَادِهِ عَلَى وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ، وَذَكَرَ الْخِلَافَ فِي تَوْثِيقِ إِسْمَاعِيلَ وَتَضْعِيفِهِ، وَمِنْهُ أَنَّهُ نَصَّ

ص: 443

عَلَى نَكَارَةِ حَدِيثِهِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ كَأَحْمَدَ وَأَبِي حَاتِمٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ مَتْرُوكٌ. وَسَنَعُودُ إِلَى الْكَلَامِ عَلَى الصُّورِ وَحِكْمَةِ النَّفْخِ فِيهِ فِي تَفْسِيرِ سُورَتَيِ الْأَنْبِيَاءِ وَالزُّمَرِ، إِنْ أَحْيَانَا اللهُ تَعَالَى.

(عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ) فَسَّرَ ابْنُ عَبَّاسٍ الْغَيْبَ وَالشَّهَادَةَ هُنَا بِالسِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ، وَقَالَ الْحَسَنُ: الشَّهَادَةُ مَا قَدْ رَأَيْتُمْ خَلْقَهُ، وَالْغَيْبُ مَا غَابَ عَنْكُمْ مِمَّا لَمْ تَرَوْهُ. وَتَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي عَالَمِ الْغَيْبِ فِي مَوْضِعَيْنِ مِنْ تَفْسِيرِ هَذِهِ السُّورَةِ مُفَصَّلًا تَفْصِيلًا. وَالْمَعْنَى أَنَّ الَّذِي خَلَقَ الْخَلْقَ بِالْحَقِّ، وَالَّذِي قَوْلُهُ الْحَقُّ فِي التَّكْوِينِ، وَالَّذِي لَهُ الْمُلْكُ وَحْدَهُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَيُحْشَرُ الْخَلْقُ - هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، وَهُوَ الْحَكِيمُ الَّذِي يَضَعُ كُلَّ شَيْءٍ فِي مَوْضِعِهِ، وَهُوَ الْخَبِيرُ بِدَقَائِقِ الْأُمُورِ وَخَفَايَاهَا، فَلَا يَشِذُّ عَنْ عِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ شَيْءٌ مِنْهَا، فَلَا يَلِيقُ بِعَاقِلٍ أَنْ يَدْعُوَ غَيْرَهُ وَلَوْ بِقَصْدِ التَّوَسُّلِ وَالتَّقْرِيبِ إِلَيْهِ زُلْفَى (فَلَا تَدْعُوَا مَعَ اللهِ أَحَدًا) (72: 18) (بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ)(6: 41) فَفِي هَذَا التَّذْيِيلِ تَقْرِيرٌ لِمَضْمُونِ الْآيَةِ، وَفَذْلَكَةٌ لِلسِّيَاقِ الْوَارِدِ فِي إِنْكَارِ دُعَاءِ غَيْرِ اللهِ تَعَالَى.

(وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَاقَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) .

ص: 444

بَدَأَ اللهُ سُبْحَانَهُ هَذِهِ السُّورَةَ بَعْدَ حَمْدِ نَفْسِهِ بِبَيَانِ أُصُولِ الدِّينِ وَمُحَاجَّةِ الْمُشْرِكِينَ، فَبَيَّنَ اسْتِحْقَاقَهُ لِلْعِبَادَةِ وَحْدَهُ، وَإِشْرَاكَهُمْ بِهِ، وَتَكْذِيبَهُمْ بِالْآيَاتِ الَّتِي أَيَّدَ بِهَا رَسُولَهُ وَرَدَّ مَا لَهُمْ مِنَ الشُّبْهَةِ عَلَى الرِّسَالَةِ، ثُمَّ لَقَّنَ رَسُولَهُ طَوَائِفَ مِنَ الْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ فِي إِثْبَاتِ التَّوْحِيدِ وَالرِّسَالَةِ وَالْبَعْثِ مَبْدُوءَةً بِقَوْلِهِ لَهُ (قُلْ. قُلْ) ثُمَّ أَمَرَهُ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ بِالتَّذْكِيرِ بِدَعْوَةِ أَبِيهِ إِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - إِلَى مَثَلِ مَا دَعَا، وَمَا اسْتَنْبَطَهُ هُوَ مِنْهُ مِنْ آيَاتِ التَّوْحِيدِ وَبُطْلَانِ الشِّرْكِ، وَإِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَى أَهْلِهِ تَأْيِيدًا لِمِصْدَاقِ دَعْوَتِهِ فِي سُلَالَةِ وَلَدِهِ إِسْمَاعِيلَ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالتَّسْلِيمُ، وَلِإِبْرَاهِيمَ الْمَكَانَةُ الْعُلْيَا مِنْ إِجْلَالِ الْأُمَّةِ الْعَرَبِيَّةِ، كَمَا أَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى مُتَّفِقُونَ عَلَى إِجْلَالِهِ. وَإِنَّنَا نُقَدِّمُ لِتَفْسِيرِ الْآيَةِ مُقَدِّمَةً فِي أَصْلِ إِبْرَاهِيمَ وَمَسْأَلَةِ كُفْرِ أَبِيهِ آزَرَ وَحِكْمَةِ اللهِ تَعَالَى فِيمَا قَصَّهُ عَنْهُ، فَنَقُولُ:

(مُقَدِّمَةٌ فِي أَصْلِ إِبْرَاهِيمَ عليه الصلاة والسلام وَمَسْأَلَةِ كُفْرِ أَبِيهِ) .

(إِبْرَاهِيمُ) هُوَ الِاسْمُ الْعَلَمُ لِخَلِيلِ الرَّحْمَنِ، أَبِي الْأَنْبِيَاءِ الْأَكْبَرِ مِنْ نُوحٍ، عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَيُؤْخَذُ مِنْ سِفْرِ التَّكْوِينِ - وَهُوَ السِّفْرُ الْأَوَّلُ مِنْ أَسْفَارِ الْعَهْدِ الْعَتِيقِ - أَنَّهُ الْعَاشِرُ مِنْ أَوْلَادِ سَامِ بْنِ نُوحٍ، وَأَنَّهُ وُلِدَ فِي (أُورِ الْكَلْدَانِيِّينَ) وَهِيَ بَلْدَةٌ مِنْ بِلَادِ الْكَلْدَانِ. وَ " أُورُ " بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ الْوَاوِ، وَمَعْنَاهَا فِي الْكَلْدَانِيَّةِ النُّورُ أَوِ النَّارُ كَمَا قَالُوا. قِيلَ: هِيَ الْبَلْدَةُ الْمَعْرُوفَةُ الْآنَ بَاسِمِ (أُورُفَا) فِي وِلَايَةِ حَلَبَ كَمَا رَجَّحَ بَعْضُ الْمُؤَرِّخِينَ، وَقِيلَ: غَيْرُهَا مِنَ الْبِلَادِ الْوَاقِعَةِ فِي جَزِيرَةِ الْعِرَاقِ - بَيْنَ النَّهْرَيْنِ - وَفِي أَقْطَارِ الْعَالَمِ الْقَدِيمِ بِلَادٌ وَمَوَاقِعُ كَثِيرَةٌ مَبْدُوءَةُ أَسْمَاؤُهَا بِكَلِمَةِ (أُورُ) وَاقِعَةٌ مَعَ مَا بَعْدَهَا مَوْقِعَ الْمُضَافِ مِنَ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، وَأَشْهَرُهَا (أُورَشْلِيمُ) لِمَدِينَةِ الْقُدْسِ، قَالُوا: إِنَّ مَعْنَاهَا مُلْكُ السَّلَامِ، أَوْ إِرْثُ السَّلَامِ، فَ " شَلِيمُ " بِالْعِبْرِيَّةِ هِيَ السَّلَامُ بِالْعَرَبِيَّةِ. وَفِي بَعْضِ التَّوَارِيخِ الْعَرَبِيَّةِ أَنَّهُ مِنْ قَرْيَةٍ اسْمُهَا (كُوثَى) مِنْ سَوَادِ الْكُوفَةِ. وَكَانَ اسْمُ إِبْرَاهِيمَ (أَبْرَامُ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ، وَقَالُوا: إِنْ مَعْنَاهُ (أَبُو الْعَلَاءِ) فَهُوَ مُرَكَّبٌ مِنْ كَلِمَةِ " أَبٍ " الْعَرَبِيَّةِ السَّامِيَّةِ مُضَافَةً إِلَى مَا بَعْدَهَا. وَفِي سِفْرِ التَّكْوِينِ أَنَّ اللهَ تَعَالَى ظَهَرَ لَهُ فِي سِنِّ التَّاسِعَةِ وَالتِّسْعِينَ مِنْ عُمْرِهِ وَكَلَّمَهُ، وَجَدَّدَ عَهْدَهُ لَهُ بِأَنْ يُكَثِّرَ نَسْلُهُ وَيُعْطِيَهُ أَرْضَ كَنْعَانَ (فِلَسْطِينُ) مُلْكًا أَبَدِيًّا، وَسَمَّاهُ لِذَرِّيَّتِهِ (إِبْرَاهِيمُ) بَدَلَ (أَبْرَامُ) وَقَالُوا: إِنَّ مَعْنَى إِبْرَاهِيمَ (أَبُو الْجُمْهُورِ) الْعَظِيمُ أَيْ أَبُو الْأُمَّةِ. وَهُوَ بِمَعْنَى تَبْشِيرِ اللهِ تَعَالَى إِيَّاهُ بِتَكْثِيرِ نَسْلِهِ مِنْ إِسْمَاعِيلَ وَمِنْ إِسْحَاقَ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامِ، وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ كَسْرَ هَمْزَتِهِ، فَقَدْ عُلِمَ أَنَّ أَصْلَهَا الْفَتْحُ، وَأَنَّ " إِبْ " الْمَكْسُورَةَ فِي إِبْرَاهِيمَ هِيَ أَبٌ الْمَفْتُوحَةُ فِي أَبْرَامَ. فَالْجُزْءُ الْأَوَّلُ مِنْهُ عَرَبِيٌّ، وَالثَّانِي كَلْدَانِيٌّ أَوْ مِنْ لُغَةٍ أُخْرَى مِنْ فُرُوعِ السَّامِيَّةِ أَخَوَاتِ الْعَرَبِيَّةِ الَّتِي هِيَ أَعْظَمُهَا وَأَوْسَعُهَا، حَتَّى جَعَلَهَا بَعْضُ عُلَمَاءِ اللُّغَاتِ هِيَ الْأَصْلَ وَالْأُمَّ لِسَائِرِ تِلْكَ الْفُرُوعِ السَّامِيَّةِ كَالْعِبْرِيَّةِ وَالسُّرْيَانِيَّةِ. وَذَكَرَ رُوَاةُ الْعَرَبِيَّةِ فِي هَذَا الِاسْمِ سَبْعَ لُغَاتٍ عَنِ الْعَرَبِ وَهِيَ إِبْرَاهِيمُ

ص: 445

وَابْرَاهَامُ وَابْرَاهُومُ وَابْرَاهِيمُ مُثَلَّثَةَ الْهَاءِ وَأَبْرَهَمُ بِفَتْحِ الْهَاءِ بِلَا أَلِفٍ. وَصَرَّحَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّهُ سُرْيَانِيُّ الْأَصْلِ ثُمَّ نُقِلَ، وَبَعْضُهُمْ بِأَنَّ مَعْنَاهُ أَبٌ رَاحِمٌ أَوْ رَحِيمٌ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ جُزْآهُ عَرَبِيَّيْنِ بِقَلْبِ حَائِهِ هَاءً كَمَا يَقْلِبُهَا جَمِيعُ الْأَعَاجِمِ الَّذِينَ

لَا يَنْطِقُونَ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ كَالْإِفْرِنْجِ، وَتَرْكِيبُهُ مَزْجِيٌّ. وَفِي " الْقَامُوسِ الْمُحِيطِ " كَغَيْرِهِ " أَنَّ تَصْغِيرَهُ بُرَيْهٌ أَوْ أُبَيْرَهٌ وَبُرَيْهِيمٌ " قَالَ شَارِحُهُ عِنْدَ الْأَوَّلِ: قَالَ شَيْخُنَا: وَكَأَنَّهُمْ جَعَلُوهُ عَرَبِيًّا وَتَصَرَّفُوا فِيهِ بِالتَّصْغِيرِ، وَإِلَّا فَالْأَعْجَمِيَّةُ لَا يَدْخُلُهَا شَيْءٌ مِنَ التَّصْرِيفِ بِالْكُلِّيَّةِ.

وَقَدْ ثَبَتَ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْعَادِيَّاتِ وَالْآثَارِ الْقَدِيمَةِ أَنَّ عَرَبَ الْجَزِيرَةَ قَدِ اسْتَعْمَرُوا مُنْذُ فَجْرِ التَّارِيخِ بِلَادَ الْكَلْدَانِ وَمِصْرَ، وَغَلَبَتْ لُغَتُهُمْ فِيهِمَا، وَصَرَّحَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ الْمَلِكَ حَمُورَابِي الَّذِي كَانَ مُعَاصِرًا لِإِبْرَاهِيمَ عليه الصلاة والسلام عَرَبِيٌّ، وَحَمُورَابِي هَذَا هُوَ مُلْكِي صَادِقٌ مَلِكُ الْبِرِّ وَالسَّلَامِ، وَوُصِفَ فِي الْعَهْدِ الْعَتِيقِ بِأَنَّهُ كَاهِنُ اللهِ الْعَلِيِّ، وَذُكِرَ فِيهِ أَنَّهُ بَارَكَ إِبْرَاهِيمَ، وَأَنَّ إِبْرَاهِيمَ أَعْطَاهُ الْعُشْرَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ. وَمِنَ الْمَعْرُوفِ فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ وَالتَّارِيخِ الْعَرَبِيِّ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ أَسْكَنَ ابْنَهُ إِسْمَاعِيلَ مَعَ أُمِّهِ هَاجَرَ الْمِصْرِيَّةِ عليهم السلام فِي الْوَادِي الَّذِي بُنِيَتْ فِيهِ مَكَّةُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَأَنَّ اللهَ تَعَالَى سَخَّرَ لَهُمَا جَمَاعَةً مِنْ جُرْهُمٍ سَكَنُوا مَعَهُمَا هُنَالِكَ، وَأَنَّ إِبْرَاهِيمَ عليه الصلاة والسلام كَانَ يَزُورُهُمَا، وَأَنَّهُ هُوَ وَوَلَدُهُ إِسْمَاعِيلُ بَنَيَا بَيْتَ اللهِ الْمُحَرَّمَ، وَنَشَرَا دِينَ الْإِسْلَامِ فِي الْبِلَادِ الْعَرَبِيَّةِ، فَيَظْهَرُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْعَرَبِيَّةَ الْقَدِيمَةَ هِيَ لُغَةُ إِبْرَاهِيمَ وَهَاجَرَ، وَلُغَةُ حَمُورَابِي وَقَوْمِهِ، وَلُغَةُ قُدَمَاءِ الْمِصْرِيِّينَ أَوِ اللُّغَةُ الْغَالِبَةُ فِي ذَيْنِكَ الْقُطْرَيْنِ، وَأَنَّهَا عَلَى مَا كَانَ فِيهَا مِنَ الدَّخِيلِ الْكَلْدَانِيِّ وَالْمِصْرِيِّ كَانَتْ قَرِيبَةً جِدًّا مِنَ الْعَرَبِيَّةِ الْجُرْهُمِيَّةِ، وَلِذَلِكَ كَانَ الَّذِينَ سَاكَنُوا هَاجَرَ مِنْ جُرْهُمٍ يَفْهَمُونَ مِنْهَا وَتَفْهَمُ مِنْهُمْ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ زَارَ إِسْمَاعِيلَ مَرَّةً فَلَمْ يَجِدْهُ، وَتَكَلَّمَ مَعَ امْرَأَتِهِ الْجُرْهُمِيَّةِ وَلَمْ تُعْجِبْهُ، ثُمَّ زَارَهُ مَرَّةً أُخْرَى فَلَمْ يَجِدْهُ، وَكَانَتْ عِنْدَهُ امْرَأَةٌ أُخْرَى فَتَكَلَّمَ مَعَهَا فَأَعْجَبَتْهُ. وَقَدْ وَرَدَ أَيْضًا أَنَّ لُغَةَ إِسْمَاعِيلَ كَانَتْ أَفْصَحَ مِنْ لُغَةِ جُرْهُمٍ، فَهِيَ أَمُّ اللُّغَةِ الْمُضَرِيَّةِ الَّتِي فَاقَتْ بِفَصَاحَتِهَا وَبَلَاغَتِهَا سَائِرَ اللُّغَاتِ أَوِ اللهَجَاتِ الْعَرَبِيَّةِ، ثُمَّ ارْتَقَتْ فِي عَهْدِ قُرَيْشٍ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ بِمَا كَانُوا يُقِيمُونَهُ لَهَا مِنْ أَسْوَاقِ الْمُفَاخَرَةِ فِي مَوْسِمِ الْحَجِّ، ثُمَّ كَمُلَتْ بَلَاغَتُهَا وَفَصَاحَتُهَا بِنُزُولِ الْقُرْآنِ الْمَجِيدِ الْمُعْجِزِ لِلْخَلْقِ بِهَا.

وَأَمَّا أَبُو إِبْرَاهِيمَ فَقَدْ سَمَّاهُ اللهُ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْأَوْلَى مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ (آزَرَ) وَفِي سِفْرِ التَّكْوِينِ أَنَّ اسْمَهُ (تَارَحُ) بِفَتْحٍ وَحَاءٍ مُهْمَلَةٍ، وَقَالُوا: إِنَّ مَعْنَاهُ (مُتَكَاسِلٌ) وَمِنَ الْغَرِيبِ أَنْ نَرَى أَكْثَرَ الْمُفَسِّرِينَ وَالْمُؤَرِّخِينَ اللُّغَوِيِّينَ مِنَّا يَقُولُونَ: إِنَّ اسْمَهُ " تَارَخُ " بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ أَوِ الْمُهْمَلَةِ، وَإِنَّ آزَرَ لَقَبُهُ أَوِ اسْمُ أَخِيهِ أَوْ أَبِيهِ أَوْ صَنَمِهِ، وَنُقِلَ عَنِ الزَّجَّاجِ

وَالْفَرَّاءِ أَنَّهُ لَيْسَ بَيْنَ النَّسَّابِينَ وَالْمُؤَرِّخِينَ اخْتِلَافٌ فِي كَوْنِ اسْمِهِ تَارَخَ أَوْ تَارَحَ. وَلَا نَعْرِفُ لِهَذِهِ الْأَقْوَالِ أَصْلًا مَرْفُوعًا إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَا مَنْقُولًا عَنِ الْعَرَبِ الْأَوَّلِينَ، وَإِنَّمَا هُوَ مَنْقُولٌ

ص: 446

فِيمَا يَظْهَرُ عَمَّنْ دَخَلَ فِي الْإِسْلَامِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، كَوَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ، وَكَعْبِ الْأَحْبَارِ اللَّذَيْنِ أَدْخَلَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ كَثِيرًا مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ، فَتَلَقُّوهَا بِالْقَبُولِ عَلَى عِلَّاتِهَا. وَعَنْ مُقَاتِلِ بْنِ سُلَيْمَانَ الْمَجْرُوحِ بِالْكَذِبِ الَّذِي قَالَ ابْنُ حِبَّانَ فِيهِ: كَانَ يَأْخُذُ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى مِنْ عِلْمِ الْقُرْآنِ الَّذِي يُوَافِقُ كُتُبَهُمْ. فَفِي التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: آزَرُ لَمْ يَكُنْ بِأَبِيهِ، وَلَكِنَّهُ اسْمُ صَنَمٍ. وَعَنِ السُّدِّيِّ اسْمُ أَبِيهِ تَارَحُ، وَاسْمُ الصَّنَمِ آزَرُ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ قَالَ: آزَرُ الصَّنَمُ، وَأَبُو إِبْرَاهِيمَ اسْمُهُ يَازَرَ، وَفِي الْأُخْرَى أَنَّ أَبَا إِبْرَاهِيمَ لَمْ يَكُنِ اسْمُهُ آزَرَ، وَإِنَّمَا اسْمُهُ تَارَحَ. رَوَاهُمَا عَنْهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ، وَعَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ أَنَّ اسْمَهُ تَيْرَحُ. وَجَزَمَ الضَّحَّاكُ بِأَنَّ اسْمَهُ آزَرَ، وَاعْتَمَدَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَرُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ أَيْضًا. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ فِي " التَّارِيخِ الْكَبِيرِ ": إِبْرَاهِيمُ بْنُ آزَرَ، وَهُوَ فِي التَّوْرَاةِ تَارَحُ، وَاللهُ سَمَّاهُ آزَرَ، وَإِنْ كَانَ عِنْدَ النَّسَّابِينَ وَالْمُؤَرَّخَيْنِ اسْمُهُ تَارَخُ لِيُعْرَفَ بِذَلِكَ. اهـ. فَقَدِ اعْتَمَدَ أَنَّ آزَرَ هُوَ اسْمُهُ عِنْدَ اللهِ - أَيْ فِي كِتَابِهِ - فَإِنْ أَمْكَنَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ فَبِهَا وَإِلَّا رَدَدْنَا قَوْلَ الْمُؤَرِّخِينَ، وَسِفْرَ التَّكْوِينِ لِأَنَّهُ لَيْسَ حُجَّةً عِنْدَنَا حَتَّى نَعْتَدَّ بِالتَّعَارُضِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ ظَوَاهِرِ الْقُرْآنِ، بَلِ الْقُرْآنُ هُوَ الْمُهَيْمِنُ عَلَى مَا قَبْلَهُ، نُصَدِّقُ مَا صَدَّقَهُ، وَنُكَذِّبُ مَا كَذَّبَهُ، وَنَلْزَمُ الْوَقْفَ فِيمَا سَكَتَ عَنْهُ حَتَّى يَدُلَّ عَلَيْهِ صَحِيحٌ. وَأَضْعَفُ مَا قَالُوهُ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ أَنَّ آزَرَ اسْمُ عَمِّهِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْعَرَبَ تُسَمِّي الْعَمَّ أَبًا مَجَازًا، وَهَذِهِ الدَّعْوَى لَا تَصِحُّ عَلَى إِطْلَاقِهَا، وَإِنَّمَا يَصِحُّ ذَلِكَ حَيْثُ تُوجَدُ قَرِينَةٌ يُعْلَمُ مِنْهَا الْمُرَادُ، وَلَا قَرِينَةَ هُنَا وَلَا فِي سَائِرِ الْآيَاتِ الَّتِي ذُكِرَ فِيهَا مِنْ غَيْرِ تَسْمِيَةٍ، وَيَلِيهِ فِي الضَّعْفِ قَوْلُ بَعْضِهِمْ: إِنَّهُ كَانَ خَادِمُ الصَّنَمِ الْمُسَمَّى بِآزَرَ، فَأُطْلِقَ عَلَيْهِ مِنْ بَابِ حَذْفِ الْمُضَافِ وَإِقَامَةِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ مَكَانَهُ. وَأَقْوَاهُ أَنَّ لَهُ اسْمَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا عَلَمٌ وَالْآخَرُ لَقَبٌ: وَالظَّاهِرُ حِينَئِذٍ أَنْ يَكُونَ تَارَحُ هُوَ اللَّقَبُ؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُ الْمُتَكَاسِلُ، وَهُوَ لَقَبٌ قَبِيحٌ قَلَّمَا يُطْلِقُهُ أَحَدٌ ابْتِدَاءً عَلَى وَلَدِهِ، وَإِنَّمَا يُطْلَقُ مِثْلُهُ عَلَى الْمَرْءِ بَعْدَ ظُهُورِ مَعْنَاهُ فِيهِ أَوْ رَمْيِهِ بِهِ، إِلَّا أَنْ يَصِحَّ مَا زَعَمَهُ مِنْ عَكْسٍ، فَجُعِلَ آزَرُ هُوَ اللَّقَبُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ مَعْنَاهُ فِي لُغَتِهِمُ الْمُخْطِئُ أَوِ الْمُعْوَجُّ أَوِ الْأَعْوَجُ أَوِ الْأَعْرَجِ - وَلَعَلَّهُ تَحْرِيفٌ عَمَّا قَبْلَهُ - وَقِيلَ: إِنَّهُ الشَّيْخُ الْهَرِمُ بِالْخُوَارَزْمِيَّةِ.

بَعْدَ كِتَابَةِ مَا تَقَدَّمَ رَاجَعْتُ (رُوحَ الْمَعَانِي) لِلْأَلُوسِيِّ، وَالتَّفْسِيرَ الْكَبِيرَ (مَفَاتِيحُ الْغَيْبِ) لِلرَّازِيِّ، فَأَحْبَبْتُ أَنْ أَنْقُلَ عَنْهُمَا مَا يَأْتِي:

قَالَ الْأَلُوسِيُّ: وَعَلَى الْقَوْلِ بِالْوَصْفِيَّةِ يَكُونُ مَنْعُ صَرْفِهِ لِلْحَمْلِ عَلَى مُوَازِنِهِ وَهُوَ فَاعِلٌ الْمَفْتُوحُ الْعَيْنِ، فَإِنَّهُ يَغْلِبُ مَنْعَ صَرْفِهِ لِكَثْرَتِهِ فِي الْأَعْلَامِ الْأَعْجَمِيَّةِ، وَقِيلَ: الْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ غَلَبَ عَلَيْهِ فَأُلْحِقَ بِالْعَلَمِ. وَبَعْضُهُمْ يَجْعَلُهُ نَعْتًا مُشْتَقًّا مِنَ الْأَزْرِ بِمَعْنَى الْقُوَّةِ، أَوِ الْوِزْرِ بِمَعْنَى الْإِثْمِ، وَمَنْعُ صَرْفِهِ حِينَئِذٍ لِلْوَصْفِيَّةِ وَوَزْنِ الْفِعْلِ؛ لِأَنَّهُ عَلَى وَزْنِ أَفْعَلَ.

ص: 447

وَقَالَ الرَّازِيُّ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ قَوْلَ الزَّجَّاجِ بِاتِّفَاقِ عُلَمَاءِ النَّسَبِ عَلَى أَنَّ اسْمَ أَبِي إِبْرَاهِيمَ تَارَحُ، وَمِنَ الْمُلْحِدَةِ مَنْ جَعَلَ هَذَا طَعْنًا فِي الْقُرْآنِ، وَقَالَ فِي هَذَا النَّسَبِ خَطَأٌ وَلَيْسَ بِصَوَابٍ. ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ لِلْعُلَمَاءِ هَاهُنَا مَقَامَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا رَدُّ الِاسْتِدْلَالِ بِإِجْمَاعِ النَّسَّابِينَ عَلَى أَنَّ اسْمَهُ كَانَ تَارَحَ، قَالَ: لِأَنَّ ذَلِكَ الْإِجْمَاعَ إِنَّمَا حَصَلَ لِأَنَّ بَعْضَهُمْ يُقَلِّدُ بَعْضًا، وَبِالْآخِرَةِ يَرْجِعُ ذَلِكَ الْإِجْمَاعُ إِلَى قَوْلِ الْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ، مِثْلَ قَوْلِ وَهْبٍ وَكَعْبٍ وَأَمْثَالِهِمَا، وَرُبَّمَا تَعَلَّقُوا بِمَا يَجِدُونَهُ مِنْ أَخْبَارِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَلَا عِبْرَةَ بِذَلِكَ فِي مُقَابَلَةِ صَرِيحِ الْقُرْآنِ. انْتَهَى. وَقَدْ بَيَّنَّا لَكَ مَأْخَذَهُ، وَأَنَّهُ لَا إِجْمَاعَ فِي الْمَسْأَلَةِ. ثُمَّ ذَكَرَ الْمَقَامَ الثَّانِي، وَهُوَ تَسْلِيمُ قَوْلِهِمْ، وَالْجَمْعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ نَصِّ الْقُرْآنِ بِمَا نَقَلْنَاهُ عَنْهُمْ آنِفًا وَبَيَّنَّا قَوِيَّهُ مِنْ ضَعِيفِهِ.

وَمِنَ النَّاسِ مَنِ اسْتَدَلَّ عَلَى أَنْ آزَرَ لَمْ يَكُنْ وَالِدَ إِبْرَاهِيمَ عليه الصلاة والسلام بَلْ عَمَّهُ بِالْجَزْمِ ; لِأَنَّ آبَاءَ الْأَنْبِيَاءِ كَافَّةً أَوْ نَبِيِّنَا خَاصَّةً لَمْ يَكُونُوا كَفَّارًا، وَبِأَنَّ إِبْرَاهِيمَ خَاطَبَ آزَرَ بِالْغِلْظَةِ وَالْجَفَاءِ، وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ. وَقَدْ عَزَا الرَّازِيُّ هَذَا الْقَوْلَ إِلَى الشِّيعَةِ، وَأَطَالَ فِي بَيَانِهِ، وَاخْتَصَّ فِي بَيَانِ (زَعْمِ أَصْحَابَهِ - أَيِ الْأَشَاعِرَةِ أَوْ أَهْلِ السُّنَّةِ كَافَّةً - أَنَّ آزَرَ كَانَ وَالِدَ إِبْرَاهِيمَ وَكَانَ كَافِرًا وَفِي رَدِّهِمْ قَوْلَ الشِّيعَةِ. وَقَالَ الْأَلُوسِيُّ: وَالَّذِي عَوَّلَ عَلَيْهِ الْجَمُّ الْغَفِيرُ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنْ آزَرَ لَمْ يَكُنْ وَالِدَ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام وَادَّعَوْا أَنَّهُ لَيْسَ فِي آبَاءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَافِرٌ أَصْلًا؛ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام: " لَمْ أَزَلْ أُنْقَلُ مِنْ أَصْلَابِ الطَّاهِرِينَ إِلَى أَرْحَامِ الطَّاهِرَاتِ " وَالْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ، وَتَخْصِيصُ الطَّهَارَةِ بِالطَّهَارَةِ مِنَ السِّفَاحِ لَا دَلِيلَ لَهُ يُعَوَّلُ عَلَيْهِ، وَالْعِبْرَةَ لِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا لِخُصُوصِ السَّبَبِ، وَقَدْ أَلَّفُوا فِي هَذَا الْمَطْلَبِ الرَّسَائِلَ، وَاسْتَدَلُّوا لَهُ بِمَا اسْتَدَلُّوا. وَالْقَوْلُ بِأَنَّ ذَلِكَ قَوْلُ الشِّيعَةِ كَمَا ادَّعَاهُ الْإِمَامُ الرَّازِيُّ نَاشِئٌ مِنْ قِلَّةِ التَّتَبُّعِ. وَأَكْثَرُ هَؤُلَاءِ عَلَى أَنَّ آزَرَ اسْمٌ لِعَمِّ إِبْرَاهِيمَ

عليه السلام وَجَاءَ إِطْلَاقُ الْأَبِ عَلَى الْجَدِّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ)(2: 133) وَفِيهِ إِطْلَاقُ الْأَبِ عَلَى الْجَدِّ أَيْضًا. وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ أَنَّهُ قَالَ: الْخَالُ وَالِدٌ وَالْعَمُّ وَالِدٌ، وَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ.

ثُمَّ ذَكَرَ السَّيِّدُ الْأَلُوسِيُّ آثَارًا اسْتَدَلُّوا بِهَا عَلَى مَا ذُكِرَ، أَخْذَهَا فِيمَا يَظْهَرُ مِنْ بَعْضِ رَسَائِلِ السُّيُوطِيِّ الَّتِي أَلَّفَهَا فِي نَجَاةِ الْأَبَوَيْنِ الشَّرِيفَيْنِ، وَجَمَعَ فِيهَا الذَّرَّةَ وَأُذُنَ الْجَرَّةِ - كَمَا يُقَالُ - وَرَجَّحَ الْآثَارَ الْوَاهِيَةَ وَالْمُنْكَرَةَ عَلَى الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الْمُؤَيَّدَةِ بِالْآيَاتِ الصَّرِيحَةِ، وَهِيَ الَّتِي أَشَارَ إِلَيْهَا الْأَلُوسِيُّ بِقَوْلِهِ: وَأَلَّفُوا فِي هَذَا الْمَطْلَبِ الرَّسَائِلَ. . إِلَخْ، وَاعْتَمَدَ عَلَيْهَا فِيمَا ادَّعَى أَنَّهُ هُوَ الَّذِي عَوَّلَ عَلَيْهِ أَهْلُ السُّنَّةِ، وَمِنَ الْغَرِيبِ وُقُوعُ هَذِهِ الْهَفْوَةِ مِنْ مِثْلِ هَذَا النَّقَّادِ، وَإِنَّمَا أَوْقَعَهُ فِيهَا هَوًى صَادَفَتْهُ فِي الْفُؤَادِ، وَهُوَ الْمَيْلُ إِلَى مَا يَدُلُّ عَلَى نَجَاةِ جَمِيعِ أُولَئِكَ الْآبَاءِ وَالْأَجْدَادِ الَّذِينَ أَنْجَبُوا أَفْضَلَ الْأَبْنَاءِ وَالْأَحْفَادِ، مُحَمَّدًا وَإِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلَيْنِ عَلَيْهِمَا وَعَلَى آلِهِمَا

ص: 448

أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ، فَإِنَّ مِنْ حُبِّهِمَا - وَهُوَ مِنْ آيَاتِ الْإِيمَانِ بِهِمَا - أَنْ يُحِبَّ الْمُؤْمِنُ نَجَاةَ أُصُولِهِمَا، وَلَكِنْ إِذَا ثَبَتَ أَنَّ بَعْضَهُمْ أَصَرَّ عَلَى الْكُفْرِ، وَقَضَتْ حِكْمَةُ اللهِ أَنْ يُبَيِّنَهُ لَنَا فِي مُحْكَمِ الذِّكْرِ، وَأَنْ يَطَّلِعَ رَسُولُهُ عَلَى عَاقِبَتِهِ فِي النَّارِ، فَيُخْبِرُ أُمَّتَهُ بِهِ لِكَمَالِ التَّوْحِيدِ وَالِاعْتِبَارِ، أَفَيَكُونُ مُقْتَضَى حَبِّ اللهِ وَرَسُولِهِ هُوَ الْإِيمَانُ بِذَلِكَ وَبَيَانُهُ كَمَا بَيَّنَاهُ؟ أَمْ يَكُونُ حُبُّهُمَا تَحْرِيفَهُ وَتَأْوِيلَهُ مُبَالَغَةً فِي تَعْظِيمِ نَسَبِ الرُّسُلِ، وَاسْتِعْظَامًا لِهَلَاكِ أَقْرَبِ النَّاسِ مِنْهُمْ نَسَبًا مَعَ كَرَامَتِهِمْ عِنْدَ اللهِ، وَتَأَثُّرًا بِأَقْوَالِ أَهْلِ الْمِلَلِ الَّذِينَ جَعَلُوا نَجَاةَ الْخَلْقِ وَسَعَادَتِهِمْ فِي الْآخِرَةِ بِجَاهِ أَنْبِيَائِهِمْ وَتَأْثِيرِهِمُ الشَّخْصِيِّ عِنْدَ اللهِ لَا بِاتِّبَاعِهِمْ وَالِاهْتِدَاءِ بِمَا جَاءُوا بِهِ مِنْ أُصُولِ الْإِيمَانِ وَفَضَائِلِ الْأَعْمَالِ (رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ) (3: 53) .

نَعَمْ، إِنَّ مِمَّا يُصْدِعُ الْفُؤَادَ، وَيَكَادُ يُفَتِّتُ أَصْلَبَ الْجَمَادِ، أَنْ يَرَى الْمُؤْمِنُ وَالِدَ خَلِيلِ الرَّحْمَنِ قَدْ أُثْبِتَ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ اللهِ تَعَالَى عِبَادَةُ الْأَوْثَانِ، وَأَطْلَعَ اللهُ تَعَالَى رَسُولَهُ عَلَى أَنَّ مَآلَهُ أَنْ يُمْسَخَ حَيَوَانًا مُنْتِنًا وَيَلْقَى فِي سَعِيرِ النِّيرَانِ، كَمَا رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي " كِتَابِ أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ " وَ " كِتَابِ التَّفْسِيرِ " مِنْ صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وآله وسلم قَالَ: " يَلْقَى إِبْرَاهِيمُ أَبَاهُ آزَرَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَعَلَى وَجْهِ آزَرَ

قَتَرَةٌ وَغَبَرَةٌ، فَيَقُولُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ: أَلَمْ أَقُلْ لَكَ " لَا تَعْصِنِي " فَيَقُولُ أَبُوهُ: فَالْيَوْمَ لَا أَعْصِيكَ، فَيَقُولُ إِبْرَاهِيمُ: يَارَبِّ إِنَّكَ وَعَدْتَنِي أَلَّا تُخْزِيَنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ، فَأَيُّ خِزْيٍ أَخْزَى مِنْ أَبِي الْأَبْعَدِ؟ فَيَقُولُ اللهُ تَعَالَى " إِنِّي حَرَّمْتُ الْجَنَّةَ عَلَى الْكَافِرِينَ " ثُمَّ يُقَالُ: يَا إِبْرَاهِيمُ انْظُرْ مَا تَحْتَ رِجْلَيْكَ؟ فَيَنْظُرُ فَإِذَا هُوَ بِذِيخٍ مُتَلَطِّخٍ، فَيُؤْخَذُ بِقَوَائِمِهِ فَيُلْقَى فِي النَّارِ " قَالَ الْحَافِظُ بْنُ حَجَرٍ فِي شَرْحِهِ. وَفِي رِوَايَةِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ طَهْمَانَ: فَيُؤْخَذُ مِنْهُ، فَيَقُولُ: يَا إِبْرَاهِيمُ، أَيْنَ أَبُوكَ؟ قَالَ: أَنْتَ أَخَذْتَهُ مِنِّي، قَالَ: انْظُرْ أَسْفَلَ، فَيَنْظُرُ فَإِذَا ذِيخٌ يَتَمَرَّغُ فِي نَتْنِهِ. وَفِي رِوَايَةِ أَيُّوبَ: فَيَمْسَخُ اللهُ أَبَاهُ ضَبْعًا فَيَأْخُذُ بِأَنْفِهِ (أَيْ يَأْخُذُ إِبْرَاهِيمُ أَنْفَهُ بِأَصَابِعِهِ كَرَاهَةً لِرَائِحَةٍ نَتْنِهِ، فَيَقُولُ: يَا عَبْدِي، أَبُوكَ هُوَ؟ فَيَقُولُ: لَا وَعَزَّتِكَ. وَفِي حَدِيثِ سَعِيدٍ: فَيُحَوَّلُ فِي صُورَةٍ قَبِيحَةٍ وَرِيحٍ مُنْتِنَةٍ فِي صُورَةِ ضَبْعَانٍ. زَادَ ابْنُ الْمُنْذِرِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ: فَإِذَا رَآهُ كَذَا تَبَرَّأَ مِنْهُ وَقَالَ: لَسْتَ أَبِي. وَالذِّيخُ - بِكَسْرِ الذَّالِ الْمُعْجَمَةِ بَعْدَهَا تَحْتَانِيَّةٌ سَاكِنَةٌ ثُمَّ خَاءٌ مُعْجَمَةٌ - ذَكَرُ الضِّبَاعِ، وَلَا يُقَالُ: ذِيخٌ إِلَّا إِذَا كَانَ كَثِيرَ الشِّعْرِ. وَالضِّبْعَانُ لُغَةٌ فِي الضَّبْعِ. اهـ.

أَقُولُ: الضِّبْعَانُ - بِالْكَسْرِ - ذَكَرُ الضِّبَاعِ، وَهُوَ مُفْرَدٌ، وَالضَّبُعُ - بِضَمِّ الْبَاءِ وَسُكُونِهَا - هِيَ الْأُنْثَى فَلَا يُقَالُ: ضَبْعَةٌ، وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: يُطْلَقُ عَلَى الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى. وَهُوَ وَحْشٌ خَبِيثُ الرَّائِحَةِ، فَنَاسَبَ ذَلِكَ خُبْثَ الشِّرْكِ.

وَقَالَ الْحَافِظُ: قِيلَ: الْحِكْمَةُ فِي مَسْخِهِ لِتَنْفُرَ نَفْسُ إِبْرَاهِيمَ مِنْهُ، وَلِئَلَّا يَبْقَى فِي النَّارِ عَلَى صُورَتِهِ فَيَكُونُ غَضَاضَةً عَلَى إِبْرَاهِيمَ. وَقِيلَ: الْحِكْمَةُ فِي مَسْخِهِ ضَبْعًا أَنَّ الضَّبْعَ مِنْ أَحْمَقِ

ص: 449

الْحَيَوَانِ، وَآزَرُ كَانَ مِنْ أَحْمَقِ الْبَشَرِ؛ لِأَنَّهُ بَعْدَ أَنْ ظَهَرَ لَهُ مِنْ وَلَدِهِ مَا ظَهَرَ مِنَ الْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ أَصَرَّ عَلَى الْكُفْرِ حَتَّى مَاتَ. . إِلَخْ.

ثُمَّ ذَكَرَ الْحَافِظُ أَنَّ الْإِسْمَاعِيلِيَّ اسْتَشْكَلَ مَتْنَ هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ أَصْلِهِ، وَطَعَنَ فِي صِحَّتِهِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلِمَ أَنَّ اللهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ، فَكَيْفَ يَجْعَلُ مَا صَارَ لِأَبِيهِ خِزْيًا مَعَ عِلْمِهِ بِذَلِكَ؟ قَالَ الْحَافِظُ: وَقَالَ غَيْرُهُ: هَذَا الْحَدِيثُ مُخَالِفٌ لِظَاهِرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ)(9: 114) وَأَجَابَ عَنِ الثَّانِي بِأَنَّ أَهْلَ التَّفْسِيرِ اخْتَلَفُوا فِي الْوَقْتِ الَّذِي تَبَرَّأَ فِيهِ إِبْرَاهِيمُ مِنْ أَبِيهِ، فَقِيلَ: كَانَ ذَلِكَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لَمَّا مَاتَ آزَرُ مُشْرِكًا. وَذَكَرَ أَنَّ الطَّبَرِيَّ

رَوَاهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ طُرُقٍ قَالَ فِي بَعْضِهَا: اسْتَغْفَرَ لَهُ مَا كَانَ حَيًّا، فَلَمَّا مَاتَ أَمْسَكَ. وَقِيلَ: إِنَّمَا تَبَرَّأَ مِنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَمَّا يَئِسَ حِينَ مُسِخَ عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ فِي رِوَايَةِ ابْنِ الْمُنْذِرِ الَّتِي أَشَرْتُ إِلَيْهَا. وَهَذَا الَّذِي أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ، سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ يَقُولُ: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ يَقُولُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: رَبِّ وَالِدِي، رَبِّ وَالِدِي، فَإِذَا كَانَ الثَّالِثَةُ أُخِذَ بِيَدِهِ، فَيَلْتَفِتُ إِلَيْهِ وَهُوَ ضِبْعَانٌ، فَيَتَبَرَّأُ مِنْهُ. . . (ثُمَّ قَالَ الْحَافِظُ) : وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ بِأَنَّهُ تَبَرَّأَ مِنْهُ لَمَّا مَاتَ مُشْرِكًا، فَتَرَكَ الِاسْتِغْفَارَ لَهُ، لَكِنْ لَمَّا رَآهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَدْرَكَتْهُ الرَّأْفَةُ وَالرِّقَّةُ، فَسَأَلَ فِيهِ، فَلَمَّا رَآهُ مُسِخَ يَئِسَ مِنْهُ حِينَئِذٍ، فَتَبَرَّأَ مِنْهُ تَبَرُّءًا أَبَدِيًّا. وَقِيلَ: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَمْ يَتَيَقَّنْ مَوْتَهُ عَلَى الْكُفْرِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ آمَنَ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يَطَّلِعْ إِبْرَاهِيمُ عَلَى ذَلِكَ، وَيَكُونَ تَبَرُّؤُهُ مِنْهُ بَعْدَ الْحَالِ الَّتِي وَقَعَتْ مِنْهُ فِي الْحَدِيثِ. انْتَهَى. وَفِيهِ التَّعْبِيرُ عَنِ الْمُسْتَقْبَلِ بِصِيغَةِ الْمَاضِي، وَهُوَ كَثِيرٌ فِي أَخْبَارِ الْقِيَامَةِ.

ثُمَّ نَقَلَ الْحَافِظُ عَنِ الْكِرْمَانِيِّ إِيرَادًا بِمَعْنَى إِشْكَالِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مُوَضَّحًا. وَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ إِذَا مُسِخَ وَأُلْقِيَ فِي النَّارِ لَمْ تَبْقَ الصُّورَةُ الَّتِي هِيَ سَبَبُ الْخِزْيِ، فَهُوَ عَمَلٌ بِالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ مَعًا، وَثَانِيهِمَا أَنَّ الْوَعْدَ كَانَ مَشْرُوطًا بِالْإِيمَانِ، وَإِنَّمَا اسْتَغْفَرَ لَهُ وَفَاءً بِمَا وَعَدَهُ، فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ.

وَأَقُولُ: إِنَّ مَا فِي الْحَدِيثِ مِنْ أَنَّ اللهَ تَعَالَى وَعَدَ إِبْرَاهِيمَ صلى الله عليه وآله وسلم بِأَلَّا يُخْزِيَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُشِيرُ إِلَى دُعَائِهِ الَّذِي حَكَاهُ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ، وَمِنْهُ (وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالًا وَلَا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) (26: 86 - 89) وَأَمَّا وَعْدُ اللهِ تَعَالَى إِيَّاهُ بِذَلِكَ فَلَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنَ الْحَدِيثِ، فَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللهَ تَعَالَى أَوْحَى إِلَيْهِ بِأَنَّهُ اسْتَجَابَ لَهُ هَذَا الدُّعَاءَ بِشَرْطِهِ الْمَعْلُومِ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ، وَهُوَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى لَا يَغْفِرُ لِمَنْ يُشْرِكُ بِهِ. وَتَأَمَّلْ قَوْلَهُ تَعَالَى فِي خَاتِمَةِ الدُّعَاءِ:(يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) فَهُوَ مِنْ دَقَائِقِ الرَّقَائِقِ.

وَأَمَّا اسْتِدْلَالُ الْأَلُوسِيِّ تَبَعًا لِغَيْرِهِ بِحَدِيثِ " لَمْ أَزَلْ أُنْقَلُ مِنْ أَصْلَابِ الطَّاهِرِينَ إِلَى أَرْحَامِ

ص: 450

الطَّاهِرَاتِ " عَلَى إِيمَانِ آبَاءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وآله وسلم مِنْ عَبْدِ اللهِ (أَوَّلِهِمْ) إِلَى آدَمَ عليه السلام فَهُوَ مُعَارَضَةٌ لِظَاهِرِ الْقُرْآنِ وَالْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ

بِحَدِيثٍ وَاهٍ رَوَاهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الدَّلَائِلِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِلَفْظِ " لَمْ يَلْتَقِ أَبَوَيَّ فِي سِفَاحٍ، لَمْ يَزَلِ اللهُ عز وجل يَنْقُلُنِي مِنْ أَصْلَابٍ طَيِّبَةٍ، إِلَى أَرْحَامٍ طَاهِرَةٍ، صَافِيًا مُهَذَّبًا لَا تَنْشَعِبُ شُعْبَتَانِ إِلَّا كُنْتُ فِي خَيْرِهِمَا " هَكَذَا فِي نُسْخَةِ الدَّلَائِلِ الَّتِي بِأَيْدِينَا. وَذَكَرَهُ السُّيُوطِيُّ عَنْهُ بِلَفْظِ " مِنَ الْأَصْلَابِ الطَّيِّبَةِ إِلَى الْأَرْحَامِ الطَّاهِرَةِ " بِالتَّعْرِيفِ، وَلَا نَعْرِفُهُ بِاللَّفْظِ الَّذِي ذَكَرَهُ الْأَلُوسِيُّ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ، وَإِنَّمَا يَذْكُرُهُ بِهَذَا اللَّفْظِ مَنْ لَا يَتَحَرَّوْنَ نَقْلَ الْأَحَادِيثِ بِضَبْطِ مُخْرِجِيهَا، بَلْ يَتَسَاهَلُونَ بِنَقْلِهَا حَيْثُ وَجَدُوهَا كَكَثِيرٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ وَالْمُتَكَلِّمِينَ. وَقَدْ سَبَقَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ الْأَلُوسِيَّ إِلَى ذِكْرِهِ بِهَذَا اللَّفْظِ مِنْ غَيْرِ عِزْوٍ وَلَا ذِكْرٍ لِاسْمِ الصَّحَابِيِّ الَّذِي رَفَعَهُ كَعَادَتِهِ. وَاللَّفْظُ الْمَرْوِيُّ لَا مَعْنًى لَهُ إِلَّا كَوْنَ آبَائِهِ صلى الله عليه وسلم وُلِدُوا مِنْ نِكَاحٍ لَا مِنْ سِفَاحٍ، وَهُوَ مَعْنًى صَحِيحٌ وَرَدَتْ فِيهِ أَحَادِيثُ أُخْرَى، وَلَوْ فَرَضْنَا أَنَّهُ رُوِيَ بِاللَّفْظِ الَّذِي ذَكَرَاهُ لَاحْتَمَلَ هَذَا الْمَعْنَى أَيْضًا، وَكَانَ حَمْلُهُ عَلَيْهِ جَمْعًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقُرْآنِ، وَالْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ أَوْلَى مِنْ جَعْلِهِ أَصْلًا وَإِرْجَاعِهَا إِلَيْهِ بِالتَّأْوِيلِ وَالتَّكَلُّفِ. وَالَّذِي خَرَّجَهُ إِنَّمَا جَعَلَهُ فِي دَلَائِلِ طِهَارَةِ نَسَبِهِ لَا إِيمَانِ أُصُولِهِ.

وَمِمَّا ذَكَرَ السُّيُوطِيُّ مِنَ الدَّلَائِلِ فِي مَعْنَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ)(26: 219) لِقَوْلِ بَعْضِهِمْ: إِنَّ مَعْنَاهُ فِي أَصْلَابِ الطَّاهِرِينَ أَيِ الْمُؤْمِنِينَ، وَرَوَى أَبُو نُعَيْمٍ أَنَّهُمُ الْأَنْبِيَاءُ، وَيُبْطِلُ ذَلِكَ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْمُعَارَضَةِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى قَبْلَ الْآيَةِ:(الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ)(26: 218) أَيْ: وَيَرَى تَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ، فَهُوَ لَا يَحْتَمِلُ الْمَاضِيَ، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ: الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ فِي الصَّلَاةِ، وَيَرَى تَقَلُّبَكَ فِي الْمُصَلِّينَ أَيْ مَعَهُمْ وَبَيْنَهُمْ. وَمَا رُوِيَ عَنْهُ مِنْ أَنَّ الْمَعْنَى تَقَلُّبُهُ مِنْ صُلْبِ نَبِيٍّ إِلَى صُلْبِ نَبِيٍّ حَتَّى أَخْرَجَهُ نَبِيًّا - لَا يَصِحُّ سَنَدًا وَلَا مَتْنًا وَلَا لُغَةً. وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ سَيَأْتِي فِي مَحِلِّهِ.

وَأَمَّا الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ الْمُعَارَضَةُ لِحَدِيثِ أَبِي نُعَيْمٍ الَّتِي أَشَرْنَا إِلَيْهَا فِي سِيَاقِ الْكَلَامِ غَيْرَ حَدِيثِ الْبُخَارِيِّ فِي مَسْخِ آزَرَ فَأَهَمُّهَا مَا وَرَدَ فِي أَبَوَيِ الرَّسُولِ الطَّاهِرَيْنِ صلى الله عليه وآله وسلم فَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَيْنَ أَبِي؟ قَالَ:" فِي النَّارِ " قَالَ: فَلَمَّا قَفَّا الرَّجُلُ دَعَاهُ فَقَالَ: " إِنَّ أَبِي وَأَبَاكَ فِي النَّارِ " قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِهِ: فِيهِ أَنَّ مَنْ مَاتَ عَلَى الْكُفْرِ فَهُوَ فِي النَّارِ، وَلَا تَنْفَعُهُ قُرَابَةُ الْمُقَرَّبِينَ، وَفِيهِ أَنَّ مَنْ مَاتَ فِي الْفَتْرَةِ عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ

الْعَرَبُ مِنْ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، وَلَيْسَ هَذَا مُؤَاخَذَةً قَبْلَ بُلُوغِ الدَّعْوَةِ، فَإِنَّ هَؤُلَاءِ كَانَتْ قَدْ بَلَغَتْهُمْ دَعْوَةُ إِبْرَاهِيمَ وَغَيْرِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ - صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ، وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم " إِنَّ أَبِي وَأَبَاكَ فِي النَّارِ " هُوَ مِنْ حُسْنِ الْعِشْرَةِ

ص: 451

لِلتَّسْلِيَةِ بِالِاشْتِرَاكِ فِي الْمُصِيبَةِ. وَمَعْنَى " قَفَّا " وَلَّى قَفَاهُ مُنْصَرِفًا. انْتَهَى. وَوَرَدَ حَدِيثٌ مِثْلُهُ فِي أُمِّهِ صلى الله عليه وسلم أَخْرَجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ.

وَرَوَى مُسْلِمٌ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ مَرْوَانَ بْنِ مُعَاوِيَةَ، عَنْ زَيْدِ بْنِ كَيْسَانَ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: " اسْتَأْذَنْتُ رَبِّي أَنْ أَسْتَغْفِرَ لِأُمِّي فَلَمْ يَأْذَنْ لِي، وَاسْتَأْذَنْتُهُ أَنْ أَزُورَ قَبْرَهَا فَأَذِنَ لِي " وَرَوَاهُ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدٍ بِلَفْظِ: " زَارَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَبْرَ أُمِّهِ، فَبَكَى وَأَبْكَى مَنْ حَوْلَهُ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: اسْتَأْذَنْتُ رَبِّي فِي أَنْ أَسْتَغْفِرَ لَهَا، فَلَمْ يَأْذَنْ لِي، وَاسْتَأْذَنْتُهُ فِي أَنَّ أَزُورَ قَبْرَهَا فَأَذِنَ لِي فَزُورُوا الْقُبُورَ، فَإِنَّهَا تُذَكِّرُكُمُ الْمَوْتَ " وَذَكَرَ النَّوَوِيُّ أَنَّ هَذِهِ الرِّوَايَةَ وُجِدَتْ فِي نُسَخِ الْمَغَارِبَةِ دُونَ الْمَشَارِقَةِ، وَلَكِنَّهَا تُوجَدُ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأُصُولِ فِي آخِرِ كِتَابِ الْجَنَائِزِ وَيُضَبَّبُ عَلَيْهَا، وَرُبَّمَا كُتِبَتْ فِي الْحَاشِيَةِ. وَذَكَرَ أَنَّ الْحَدِيثَ رَوَاهُ مِنْ هَذِهِ الطَّرِيقِ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَرِجَالُهُ عِنْدَهُمْ كُلُّهُمْ ثِقَاتٌ، قَالَ: فَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ بِلَا شَكٍّ.

وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ: فِيهِ جَوَازُ زِيَارَةِ الْمُشْرِكِينَ فِي الْحَيَاةِ وَقُبُورِهِمْ بَعْدَ الْوَفَاةِ؛ لِأَنَّهُ إِذَا جَازَتْ زِيَارَتُهُمْ بَعْدَ الْوَفَاةِ فَفِي الْحَيَاةِ أَوْلَى، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى:(وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا)(31: 15) وَفِيهِ النَّهْيُ عَنْ الِاسْتِغْفَارِ لِلْكُفَّارِ. قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ رحمه الله: سَبَبُ زِيَارَتِهِ صلى الله عليه وسلم قَبْرَهَا أَنَّهُ قَصْدُ الْمَوْعِظَةِ وَالذِّكْرَى بِمُشَاهَدَةِ قَبْرِهَا، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم فِي آخِرِ الْحَدِيثِ:" فَزُورُوا الْقُبُورَ؛ فَإِنَّهَا تُذَكِّرُكُمُ الْمَوْتَ " انْتَهَى. فَهَذَا كَلَامُ أَهْلِ السُّنَّةِ.

وَقَدْ وَرَدَ فِي التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِمَا مِنْ عِدَّةِ طُرُقٍ، أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ التَّوْبَةِ:(مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ)(9: 113، 114) نَزَلَتْ فِي هَذِهِ الْوَاقِعَةِ. وَلَكِنْ رَوَى الشَّيْخَانِ وَغَيْرُهُمَا أَنَّهَا نَزَلَتْ لَمَّا عَرَضَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى أَبِي طَالِبٍ عِنْدَ مَوْتِهِ أَنْ يَقُولَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ لِيُحَاجَّ لَهُ بِهَا أَوْ يُجَادِلَ عَنْهُ أَوْ يَشْفَعَ لَهُ بِهَا، وَكَانَ عِنْدَهُ أَبُو جَهْلٍ، فَجَعَلَ يَقُولُ لَهُ: أَتَرْغَبُ

عَنْ مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ؟ فَقَالَ آخِرَ مَا كَلَّمَهُمْ إِنَّهُ عَلَى مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَأَبَى أَنْ يَقُولَهَا، فَحِينَئِذٍ قَالَ صلى الله عليه وسلم:" وَاللهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ مَا لَمْ أُنْهَ عَنْكَ " فَأَنْزَلَ اللهُ: (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ)(9: 113) إِلَخْ. وَأَنْزَلَ اللهُ فِي أَبِي طَالِبٍ فَقَالَ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ)(28: 56) قِيلَ فِي تَفْسِيرِ " مَنْ أَحْبَبْتَ " مَنْ أَحْبَبْتَ هِدَايَتَهُ. وَقِيلَ: مَنْ أَحْبَبْتَهُ بِقَرَابَةٍ وَنَحْوِهَا.

ص: 452

قَالَ الْحَافِظُ عِنْدَ شَرْحِ هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ كِتَابِ التَّفْسِيرِ فِي الْبُخَارِيِّ حِينَ ذَكَرَهُ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْقَصَصِ: وَفِيهِ إِشْكَالٌ؛ لِأَنَّ وَفَاةَ أَبِي طَالِبٍ كَانَتْ بِمَكَّةَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ اتِّفَاقًا، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَتَى قَبْرَ أُمِّهِ لَمَّا اعْتَمَرَ. فَاسْتَأْذَنَ رَبَّهُ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَهَا، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، وَالْأَصْلُ عَدَمُ تَكَرُّرِ النُّزُولِ، ثُمَّ ذَكَرَ الرِّوَايَاتِ فِي ذَلِكَ عَنِ الْحَاكِمِ، وَابْنِ أَبِي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرَيِّ، وَالطَّبَرَانِيِّ، ثُمَّ قَالَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ نُزُولُ الْآيَةِ تَأَخَّرَ وَإِنْ كَانَ سَبَبُهَا تَقَدَّمَ، وَيَكُونُ لِنُزُولِهَا سَبَبَانِ: مُتَقَدِّمٌ وَهُوَ أَمْرُ أَبِي طَالِبٍ، وَمُتَأَخِّرٌ وَهُوَ أَمْرُ آمِنَةَ. وَيُؤَيِّدُ تَأْخِيرَ النُّزُولِ مَا سَيَأْتِي فِي تَفْسِيرِ بَرَاءَةَ (9: 80) مِنِ اسْتِغْفَارِهِ صلى الله عليه وسلم لِلْمُنَافِقِينَ حَتَّى نَزَلَ النَّهْيُ عَنْ ذَلِكَ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي تَأْخِيرَ النُّزُولِ وَإِنْ تَقَدَّمَ السَّبَبُ، وَيُشِيرُ إِلَى ذَلِكَ أَيْضًا قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ الْبَابِ: وَأَنْزَلَ اللهُ فِي أَبِي طَالِبٍ: (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ)(28: 56) لِأَنَّهُ يُشْعِرُ بِأَنَّ الْآيَةَ الْأُولَى نَزَلَتْ فِي أَبِي طَالِبٍ وَفِي غَيْرِهِ، وَالثَّانِيَةُ نَزَلَتْ فِيهِ وَحْدَهُ. انْتَهَى. ثُمَّ أَيَّدَ الْحَافِظَ تَعَدُّدَ النُّزُولِ بِرِوَايَاتٍ أُخْرَى فِيمَنِ اسْتَغْفَرَ لِوَالِدَيْهِ الْمُشْرِكَيْنِ وَمَنِ اسْتَأْذَنَ فِي ذَلِكَ، وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ الصَّحَابَةَ كَانُوا يَقُولُونَ فِي الْآيَةِ الدَّالَّةِ عَلَى حُكْمٍ وَقَعَ لَهُ عِدَّةَ أَسْبَابٍ: إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي تِلْكَ الْأَسْبَابِ، أَيْ نَزَلَتْ مُبَيِّنَةً لِحُكْمِ اللهِ فِيهَا وَإِنَّ تَأَخَّرَتْ عَنْهَا، وَسَيَأْتِي تَحْقِيقُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ فِي مَحَلِّهَا إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى.

وَمِنْ غَرِيبِ التَّعَصُّبِ لِلرَّأْيِ أَنَّ السُّيُوطِيَّ حَاوَلَ فِي بَعْضِ رَسَائِلِهِ إِعْلَالَ أَحَادِيثِ الزِّيَارَةِ، فَزَعَمَ أَنَّهُ لَمْ يَرْوِهَا أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ الصِّحَاحِ وَلَا السُّنَنِ، وَحَصَرَ رِوَايَتَهَا فِي الْحَاكِمِ وَأَحْمَدَ وَسَائِرِ مَنْ ذَكَرَ شَيْخُهُ الْحَافِظُ بْنُ حَجَرٍ فِي شَرْحِ الْبُخَارِيِّ وَأَشَرْنَا إِلَيْهِ آنِفًا، كَأَنَّهُ ظَنَّ أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ فِي الصِّحَاحِ أَوِ السُّنَنِ لَمَا اقْتَصَرَ الْحَافِظُ عَلَى مَنْ ذَكَرَ مِنْ مُخْرِجِيهَا مَعَ مَا عُرِفَ مِنْ عَادَتِهِ أَنَّهُ يَذْكُرُ جَمِيعَ طُرُقِ الْحَدِيثِ أَوْ أَقْوَاهَا، وَفَاتَهُ أَنَّهُ إِنَّمَا

أَرَادَ هُنَا ذِكْرَ مَا ثَبَتَ فِي سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ مِنْ أَحَادِيثِ الزِّيَارَةِ، وَمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ فِيهَا لَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ نُزُولِ الْآيَةِ فِي ذَلِكَ، وَلَكِنْ أَيْنَ حِفْظُ السُّيُوطِيَّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى؟ أَلَيْسَ أَهْوَنُ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ هَذَا الْإِنْكَارُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ حَافِظًا لِلصِّحَاحِ وَالسُّنَنِ حِفْظًا، وَإِنَّمَا كَانَ يُرَاجِعُ الْكُتُبَ عِنْدَ الْحَاجَةِ وَيَنْقُلُ مِنْهَا نَقْلًا؟ .

وَمِمَّا ذَكَرَ السُّيُوطِيُّ فِي التَّقَصِّي مِنْ حَدِيثِ " إِنَّ أَبِي وَأَبَاكَ فِي النَّارِ " أَنَّ الْمُرَادَ بِأَبِيهِ فِيهِ عَمُّهُ أَبُو طَالِبٍ، وَفِي حَدِيثِ عَرْضِ كَلِمَةِ التَّوْحِيدِ عَلَى أَبِي طَالِبٍ مَا يُبْطِلُ دَعْوَاهُ إِيمَانَ جَمِيعِ آبَاءِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ أَنَّ آخَرَ مَا قَالَهُ أَبُو طَالِبٍ أَنَّهُ عَلَى مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ. فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مِلَّةَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ تُنَافِي كَلِمَةَ التَّوْحِيدِ الَّتِي هِيَ عُنْوَانُ الْإِسْلَامِ. (وَمِنْهُ) زَعْمُهُ أَنَّ الْحَدِيثَ قَدْ نُسِخَ، وَلَعَلَّهُ نَسِيَ قَوْلَ الْأُصُولِيِّينَ أَنَّ الْأَخْبَارَ لَا تُنْسَخُ، وَلَا نَقُولُ: إِنَّهُ جَهِلَهُ، فَقَدْ قَرَّرَهُ فِي الْإِتْقَانِ تَقْرِيرًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ إِطْلَاقَ كَلِمَةِ الْأَبِ عَلَى الْعَمِّ مَجَازٌ لَا يَصِحُّ

ص: 453

فِي اللُّغَةِ إِلَّا بِقَرِينَةٍ مَانِعَةٍ مِنْ إِرَادَةِ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ، وَسِيَاقُ الْحَدِيثِ يُعَيِّنُ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيَّ، فَإِذَا جَازَ أَنْ يَكُونَ السَّائِلُ عَنْ أَبِيهِ أَرَادَ عَمَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى الْحَدِيثِ " إِنَّ عَمِّي وَعَمَّكَ فِي النَّارِ ".

وَلَعُمْرِي إِنَّ مَنْ يَقُولُ هَذِهِ الْأَقْوَالَ لَا يُرَدُّ عَلَيْهِ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُحْكَى قَوْلَهُ إِلَّا فِي مَقَامِ التَّعَجُّبِ أَوْ مَقَامِ الِاعْتِبَارِ وَالرَّدِّ، عَلَى أَنَّ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ رَدُّوا عَلَيْهِ، وَمَعَ ذَلِكَ اغْتَرَّ كَثِيرُونَ بِمَا أَوْرَدَهُ فِي نَجَاةِ الْأَبَوَيْنِ وَمِنْ حَدِيثِ إِحْيَائِهِمَا وَإِيمَانِهِمَا الَّذِي قَالَ بَعْضُ الْحُفَّاظِ بِوَضْعِهِ، وَغَايَةُ مَا قَرَّرَهُ هُوَ أَنَّهُ ضَعِيفٌ لَا مَوْضُوعٌ، وَهُوَ مُعَارَضٌ بِالْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ الصِّحَاحِ. (وَمِنْهُ) أَنَّهُمَا مِنْ أَهْلِ الْفَتْرَةِ، وَجُمْهُورُ الْأَشَاعِرَةِ عَلَى الْقَوْلِ بِنَجَاتِهِمْ، وَلَكِنَّهُمُ اسْتَثْنَوْا مَنْ وَرَدَ النَّصُّ بِأَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، وَأَقْوَى مَا قَالَهُ هُوَ وَغَيْرُهُ، وَأَرْجَاهُ مَا وَرَدَ مِنَ الْأَحَادِيثِ فِي امْتِحَانِ اللهِ تَعَالَى لِأَهْلِ الْفَتْرَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَنَجَاةِ بَعْضِهِمْ بِهِ، هَذَا إِذَا لَمْ يَصِحَّ مَا نَقَلْنَاهُ عَنِ النَّوَوِيِّ مِنْ جَزْمِهِ بِأَنَّ مُشْرِكِي الْعَرَبِ قَدْ بَلَغَتْهُمْ دَعْوَةُ إِبْرَاهِيمَ وَغَيْرِهِ، وَفِيهِ بَحْثٌ سَيَأْتِي فِي مَوْضِعِهِ إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى، وَإِذَا حَقَّ نَجَاةُ الْأَبَوَيْنِ الطَّاهِرَيْنِ بِالِامْتِحَانِ يَكُونُ مَا وَرَدَ فِيهِمَا خَاصًّا بِمَا قَبْلَ الِامْتِحَانِ.

(حِكْمَةُ النُّصُوصِ فِي كُفْرِ بَعْضِ أَرْحَامِ الرُّسُلِ الْأَقْرَبِينَ) .

إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا اسْتِنْبَاطَهُمُ الْبَعِيدَ مِنَ الرِّوَايَاتِ الضَّعِيفَةِ وَالْمُنْكَرَةِ أَصْلًا فِي إِثْبَاتِ إِيمَانِ آبَاءِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم وَيُؤَوِّلُونَ لِأَجْلِهِ الْآيَاتِ الْكَثِيرَةَ وَالْأَحَادِيثَ الصَّحِيحَةَ الصَّرِيحَةَ - قَدْ غَفَلُوا عَنْ أَمْرٍ عَظِيمٍ، وَهُوَ الْحِكْمَةُ وَالْفَائِدَةُ فِي الْإِكْثَارِ مِنَ التَّصْرِيحِ بِكَفْرِ وَالِدِ إِبْرَاهِيمَ فِي الْقُرْآنِ، وَمَا فِي مَعْنَاهُ كَقِصَّةِ ابْنِ نُوحٍ الَّذِي أَصَرَّ عَلَى كُفْرِهِ، وَلَمْ يَرْضَ أَنْ يَرْكَبَ السَّفِينَةَ مَعَ وَالِدِهِ وَأَهْلِهِ، وَفِي تَصْرِيحِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم بِمَا يَكُونُ مِنْ أَمْرِ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ مَعَ وَالِدِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَتَصْرِيحِهِ أَيْضًا بِأَنَّ أَبَاهُ فِي النَّارِ، وَبِعَدَمِ إِذْنِ اللهِ تَعَالَى لَهُ فِي الِاسْتِغْفَارِ لِأُمِّهِ وَلَا لِعَمِّهِ الَّذِي رَبَّاهُ وَلَهُ عَلَيْهِ أَعْظَمُ الْحُقُوقِ. وَمِثْلُ ذَلِكَ - فِيمَا يَظْهَرُ - إِنْزَالُ سُورَةٍ فِي سُوءِ حَالِ أَبِي لَهَبٍ وَمَصِيرِهِ إِلَى النَّارِ وَهُوَ عَمُّ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم.

إِنَّ الْحِكْمَةَ الْبَالِغَةَ وَالْفَائِدَةَ الظَّاهِرَةَ مِنْ هَذِهِ النُّصُوصِ هِيَ تَقْرِيرُ أَصْلِ التَّوْحِيدِ الْهَادِمِ لِقَاعِدَةِ الْوَثَنِيَّةِ بِالْفَصْلِ بَيْنَ مَا هُوَ لِلَّهِ وَمَا هُوَ لِرُسُلِهِ، وَهُوَ أَنَّ الرُّسُلَ - عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَمْ يُرْسَلُوا إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ، مَا عَلَيْهِمْ إِلَّا تَبْلِيغُ دِينِ اللهِ وَإِقَامَتُهُ، وَلَيْسَ لَهُمْ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ، وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَحَدٍ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا، وَلَيْسَ عَلَيْهِمْ هُدَى أَحَدٍ وَلَا رُشْدُهُ بِالْفِعْلِ، وَإِنَّمَا عَلَيْهِمْ هِدَايَةُ التَّعْلِيمِ وَالْحُجَّةِ، فَلَا يَهْدُونَ مَنْ أَحَبُّوا، وَلَا يُغْنُونَ عَنْهُ مِنَ اللهِ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ أَقْرَبَ النَّاسِ وَأَحَبَّهُ إِلَيْهِمْ فِي النَّسَبِ وَالْمُعَامَلَةِ الدُّنْيَوِيَّةِ. وَأَمَّا قَاعِدَةُ وَثَنِيَّةِ الْعَرَبِ وَغَيْرِهِمْ فَهِيَ اتِّخَاذُ

ص: 454

أَوْلِيَاءٍ مِنَ الْعِبَادِ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ وُسَطَاءُ بَيْنَ اللهِ وَبَيْنَ عِبَادِهِ فِي شُئُونِ الْخَلْقِ وَالْإِيجَادِ، وَالْإِشْقَاءِ وَالْإِسْعَادِ، وَالسَّلْبِ وَالْإِمْدَادِ، لَا فِي مُجَرَّدِ التَّبْلِيغِ وَالْإِرْشَادِ قِيَاسًا عَلَى مَا يَعْهَدُونَ مِنَ الْأَقْرَبِينَ وَالْمُقَرَّبِينَ عِنْدَ الْمُلُوكِ الْمُسْتَبِدِّينَ، فَهُمْ لِذَلِكَ يَدْعُونَهُمْ مَعَ اللهِ أَوْ مِنْ دُونِ اللهِ (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللهِ) (10: 18) وَكَانُوا يُعَبِّرُونَ عَنْهُمْ بِالْأَوْلِيَاءِ وَالشُّرَكَاءِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى)(39: 3) الْآيَةَ. وَكَانُوا يَقُولُونَ فِي طَوَافِهِمْ: لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ، إِلَّا شَرِيكًا هُوَ لَكَ، تَمْلِكُهُ وَمَا مَلَكَ.

وَأَصْلُ عِبَادَةِ أَصْنَامِهِمْ وَأَوْثَانِهِمُ الْغُلُوُّ فِي تَعْظِيمِ الصَّالِحِينَ، فَهِيَ مَأْخُوذَةٌ عَنْ قَوْمِ نُوحٍ؛

كَانَ فِيهِمْ رِجَالٌ صَالِحُونَ هَلَكُوا، فَأَوْحَى الشَّيْطَانُ إِلَى قَوْمِهِمْ أَنِ انْصِبُوا إِلَى مَجَالِسِهِمْ أَنْصَابًا، وَسَمُّوهَا بِأَسْمَائِهِمْ، فَفَعَلُوا فَلَمْ تُعْبَدْ، حَتَّى إِذَا هَلَكَ أُولَئِكَ وَنُسِخَ الْعِلْمُ عُبِدَتْ (رَاجِعْ سُورَةَ نُوحٍ مِنْ كِتَابِ التَّفْسِيرِ فِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ " وَقَدْ هَدَمَ الْقُرْآنُ جَمِيعَ قَوَاعِدِ شِرْكِ الْعَرَبِ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْوَثَنِيِّينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ جَعَلُوا مَدَارَ السَّعَادَةِ وَالنَّجَاةِ عَلَى شَفَاعَةِ أَنْبِيَائِهِمْ وَأَوْلِيَائِهِمْ، لَا عَلَى اتِّبَاعِهِمْ فِي الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ وَفَضْلِ اللهِ تَعَالَى، وَلَمَّا كَانَ إِبْرَاهِيمُ أَعْلَى الْبَشَرِ مَقَامًا فِي أَنْفُسِ الْعَرَبِ - وَمَقَامُهُ الْأَعْلَى فِي الرُّسُلِ عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ مَقَامُهُ - كَرَّرَ اللهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ ذِكْرَ كُفْرِ وَالِدِهِ وَاجْتِهَادِهِ هُوَ فِي هِدَايَتِهِ وَعِنَايَتِهِ بِالِاسْتِغْفَارِ لَهُ، وَأَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ لَمْ يُفِدْهُ شَيْئًا، وَزَادَ الرَّسُولُ الْأَعْظَمُ صلى الله عليه وسلم فَبَيَّنَ لَنَا مَا أَطْلَعَهُ اللهُ عَلَيْهِ مِنْ عَاقِبَتِهِ السُّوأَى فِي الْآخِرَةِ. وَذُكِرَ أَيْضًا عَنْ أَبَوَيْهِ مَا عَلِمْتَ مِنْ رِوَايَاتِ الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا لِيَعْلَمَ النَّاسُ أَنَّ مَدَارَ النَّجَاةِ فِي الْآخِرَةِ عَلَى الْإِيمَانِ الصَّحِيحِ الْإِذْعَانِيِّ الْمُسْتَلْزِمِ لِلْعَمَلِ بِمَا جَاءَ بِهِ الرُّسُلُ عليهم السلام، لَا بِأَشْخَاصِ الرُّسُلِ وَتَأْثِيرِهِمُ الشَّخْصِيِّ عِنْدَ اللهِ، كَتَأْثِيرِ الْأَقْرَبِينَ وَالْمُقَرَّبِينَ عِنْدَ الْمُلُوكِ الْمُسْتَبِدِّينَ، إِذْ يَحْمِلُونَهُمْ بِالشَّفَاعَةِ أَوِ الْإِقْنَاعِ عَلَى عَفْوٍ عَنْ مُذْنِبٍ أَوْ إِحْسَانٍ إِلَى غَيْرِ مُسْتَحِقٍّ، وَهَذِهِ هِيَ نَظَرِيَّةُ الْوَثَنِيِّينَ فِي الشَّفَاعَةِ الَّتِي نَفَاهَا الْقُرْآنُ الْمَجِيدُ، وَأَثْبَتَ أَنَّ الشَّفَاعَةَ لِلَّهِ جَمِيعًا، لَا يَشْفَعُ عِنْدَهُ أَحَدٌ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ لِلشَّافِعِ وَرِضَاهُ عَنِ الْمَشْفُوعِ لَهُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ السُّورَةِ مِنْ هَذَا الْجُزْءِ وَفِي غَيْرِهَا.

وَلَا يُرَدُّ عَلَى حَصْرِ وَظِيفَةِ الرُّسُلِ فِي التَّبْلِيغِ بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ مَا يُؤَيِّدُهُمُ اللهُ تَعَالَى بِهِ مِنَ الْآيَاتِ، فَإِنَّهَا وَإِنْ كَانَ بَعْضُهَا يَحْصُلُ بِقَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ مِنْهُمْ لَا يَصِحُّ أَنْ تُعَدَّ مِنْ جُمْلَةِ كَسْبِهِمْ وَتَصَرُّفِهِمْ، وَلَا أَنْ يَتَرَتَّبَ عَلَى ذَلِكَ أَنْ يُدْعَوْا أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا لِفِعْلِهَا، كَإِبْرَاءِ الْأَكْمَهِ، وَإِحْيَاءِ الْمَيِّتِ، بَلْ هِيَ مِنْ تَصَرُّفِ اللهِ تَعَالَى وَحْدَهُ، سَوَاءٌ مِنْهَا مَا لَا دَخْلَ لَهُمْ فِيهِ بِقَوْلٍ وَلَا فِعْلٍ كَإِعْجَازِ الْقُرْآنِ، وَمَا يَجْرِي عَقِبَ قَوْلٍ كَقَوْلِ الرَّسُولِ لِلْمَيِّتِ:" قُمْ بِإِذْنِ اللهِ "، أَوْ فِعْلٍ كَإِلْقَاءِ مُوسَى لِعَصَاهُ أَوْ ضَرْبِهِ الْبَحْرَ بِهَا،

ص: 455

قَالَ تَعَالَى: (وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلُ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ)(29: 50) وَهَذِهِ الْآيَةُ نَصٌّ فِي الْمَوْضُوعِ، وَفِي مَعْنَاهَا آيَاتٌ تَقَدَّمَ بَعْضُهَا فِيمَا فُسِّرَتَا مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ (الْأَنْعَامِ) وَسَيَأْتِي فِي آخِرِ هَذَا الْجُزْءِ مِنْهَا (قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللهِ)(109) وَمِمَّا هُوَ بِمَعْنَاهَا قَوْلُهُ تَعَالَى بَعْدَ حِكَايَةِ

مَا اقْتَرَحَهُ كُفَّارُ مَكَّةَ عَلَى الرَّسُولِ فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ (قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا)(17: 93) أَيْ فَأَنَا لَا أَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ بِصِفَتِي الْبَشَرِيَّةِ ; لِأَنَّنِي مِثْلُكُمْ فِيهَا، وَلَيْسَ مِنْ شَأْنِ الرَّسُولِ ذَلِكَ مِنْ حَيْثُ هُوَ رَسُولٌ مُبَلِّغٌ عَنِ اللهِ تَعَالَى.

لَوْلَا تَقْرِيرُ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ لَمَا ظَهَرَتْ حِكْمَةُ تِلْكَ الْعِنَايَةِ بِتَكْرَارِ ذِكْرِ كُفْرِ أَبِي إِبْرَاهِيمَ فِي الْقُرْآنِ الْحَكِيمِ، كَالْآيَاتِ الَّتِي فِي سُورَةِ مَرْيَمَ (19: 41 - 48) وَكَذِكْرِ أَبِيهِ قَبْلَ قَوْمِهِ فِي خَبَرِ بَعْثَتِهِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ (الْأَنْعَامِ) وَفِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ (21: 52) إِلَخْ. وَسُورَةُ الشُّعَرَاءِ (26: 70) إِلَخْ. وَسُورَةُ الصَّافَّاتِ (37: 85. إِلَخْ. وَسُورَةُ الزُّخْرُفِ (43: 26) فَمَنْ تَأَمَّلَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ وَمَا فِي مَعْنَاهَا كَآيَةِ الِاسْتِغْفَارِ لَهُ فِي سُورَةِ بَرَاءَةَ (9: 114) - وَتَقَدَّمَتْ آنِفًا - وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْمُمْتَحِنَةِ: (لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ)(60: 3، 4) مَنْ تَأَمَّلَ ذَلِكَ كُلَّهُ جَزَمَ بِمَا قُلْنَاهُ. وَأَجْدَرُ بِنَا - وَقَدْ وَفَّقَنَا اللهُ تَعَالَى إِلَى إِظْهَارِ الْحَقِّ بِهَذِهِ الشَّوَاهِدِ وَالْبَيِّنَاتِ - أَنْ نَدْعُوَ اللهَ تَعَالَى بِالدُّعَاءِ الْمُتَمِّمِ لِهَذِهِ الْآيَاتِ، فَنَقُولُ:(رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينِ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)(60: 4، 5) .

هَذَا وَإِنَّ كَلَامَ بَعْضِ الَّذِينَ حَاوَلُوا إِثْبَاتَ إِيمَانِ جَمِيعِ آبَاءِ الْخَلِيلَيْنِ، أَوْ جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ وَإِيمَانِ أَبِي طَالِبٍ يَدُورُ عَلَى مَا يُقَابِلُ هَذَا الْأَصْلَ، وَهُوَ الْغُلُوُّ فِيهِمْ بِدَعْوَى أَنَّ كَرَامَتَهُمْ تَنْفَعُ أُولِي الْقُرْبَى مِنْهُمْ، فَتَكُونُ سَبَبًا لِهِدَايَتِهِمْ إِلَى الْإِيمَانِ وَلَا سِيَّمَا مَنْ يَسُوءُهُمْ وَيُؤْذِيهِمْ بَقَاؤُهُ عَلَى الْكُفْرِ، وَمَنْ يَدْعُوهُمْ أَوْ يَدْعُو بَعْضَ الصَّالِحِينَ مِنْ أَتْبَاعِهِمْ لِجَلْبِ النَّفْعِ أَوْ لِكَشْفِ الضُّرِّ، يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ يَنَالُونَ سَعَادَةَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ بِالتَّوَسُّلِ بِذَوَاتِهِمْ، لَا بِمَا أَمَرَ اللهُ مِنِ اتِّبَاعِهِمْ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّهُمْ يَخْرُجُونَ مِنْ قُبُورِهِمْ، وَيَقْضُونَ الْحَوَائِجَ الَّتِي تُطْلَبُ مِنْهُمْ بِأَشْخَاصِهِمْ، وَذَلِكَ مُصَادِمٌ لِتِلْكَ النُّصُوصِ كُلِّهَا وَلِمَا فِي مَعْنَاهَا مِنْ قَوَاعِدِ التَّوْحِيدِ، وَكَوْنِ الدُّعَاءِ عِبَادَةً لَا يَكُونُ إِلَّا لِلَّهِ تَعَالَى: (قُلِ ادْعُوَا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ

الْوَسِيلَةَ أَيَهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا) (17: 56، 57) .

ص: 456

وَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ الْأُمَّةُ لَمْ تَسْلَمْ مِنْ وُجُودِ أُنَاسٍ قَدِ اتَّبَعُوا سُنَنَ مَنْ قَبْلَهُمْ فِي الْغُلُوِّ فِي الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ مَعَ هَذِهِ النُّصُوصِ الْكَثِيرَةِ الصَّرِيحَةِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَمَعَ تَحْذِيرِ النَّبِيِّ لِلْأُمَّةِ مِنِ اتِّبَاعِ سَنَنِهِمْ، فَكَيْفَ لَوْ لَمْ تُوجَدْ هَذِهِ النُّصُوصُ بِهَذِهِ الصَّرَاحَةِ وَهَذَا التَّحْذِيرِ؟ .

نَعَمْ إِنَّ مِنَ النَّاسِ الرَّاسِخِينَ فِي التَّوْحِيدِ مَنْ يَحْمِلُهُ حُبُّ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ - عَلَى تَقْوِيَةِ كُلِّ قَوْلٍ يُمْكِنُ أَنْ يُسْتَنْبَطَ مِنْهُ نَجَاةُ أَبَوَيْهِ الطَّاهِرَيْنِ أَوْ جَمِيعِ أُصُولِهِ، وَإِنَّمَا يَحْسُنُ هَذَا بِشَرْطِ أَلَّا يَكُونَ فِي ذَلِكَ تَحْرِيفٌ لِكَلَامِهِ أَوْ كَلَامِ اللهِ تبارك وتعالى، وَلَا إِخْلَالَ بِمَقَاصِدِ الرِّسَالَةِ وَأُصُولِ الدِّينِ، فَإِنَّ الْحُبَّ الصَّحِيحَ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ الَّذِي هُوَ آيَةُ الْإِيمَانِ إِنَّمَا يَثْبُتُ وَيَتَحَقَّقُ بِالِاتِّبَاعِ وَإِقَامَةِ الدِّينِ، وَمَنْ يُرَجِّحُ قَرَابَةَ الرَّسُولِ عَلَى رِسَالَتِهِ فَإِنَّمَا حُبُّهُ لَهُ وَلَهُمْ حُبُّ هَوًى لِلْعَصَبِيَّةِ وَالنَّسَبِ، لَا حُبُّ هُدًى بِاتِّبَاعِ مَا أَوْجَبَ اللهُ عَلَى لِسَانِهِ أَوِ اسْتَحَبَّ، وَقَدْ كَانَ أَبُو طَالِبٍ أَشَدَّ النَّاسِ حُبًّا لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَصَبِيَّةً لِقَرَابَتِهِ، لَا اتِّبَاعًا لِرِسَالَتِهِ، وَكُلُّ مُؤْمِنٍ يَتَمَنَّى لَوْ كَانَ آمِنَ بِهِ، كَمَا رُوِيَ عَنِ الصِّدِّيقِ مِنْ تَفْضِيلِ إِيمَانِهِ عَلَى إِيمَانِ وَالِدِهِ، وَلَكِنْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ أَنَّهُ بَعْدَ أَنْ كَانَ أَعْظَمَ وَأَقْوَى ظَهِيرٍ وَمَانِعٍ لِلرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَعْدَائِهِ لِقَرَابَتِهِ، قَدْ أَبَى أَنْ يُقِرَّ عَيْنَهُ عِنْدَ الْوَفَاةِ بِالنُّطْقِ بِكَلِمَةِ " لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ ".

وَلَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ بَعْضَ الْغُلَاةِ مِنَ الْقَوْلِ بِإِسْلَامِهِ، وَلَا مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ أَخِيهِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ قَالَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:" مَا أَغْنَيْتَ عَنْ عَمِّكَ فَوَاللهِ كَانَ يَحُوطُكَ وَيَغْضَبُ لَكَ؟ قَالَ: هُوَ فِي ضَحْضَاحٍ مِنْ نَارٍ، وَلَوْلَا أَنَا لَكَانَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ ". وَرَوَيَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَذُكِرَ عِنْدَهُ عَمُّهُ، فَقَالَ:" لَعَلَّهُ تَنْفَعُهُ شَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُجْعَلُ فِي ضَحْضَاحٍ مِنَ النَّارِ يَبْلُغُ كَعْبَيْهِ، يَغْلِي مِنْهُ دِمَاغُهُ " فَهَذَا رَجَاءٌ وَالَّذِي قَبْلَهُ خَبَرٌ، وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنَ الْإِشْكَالِ أَنَّهُ مُعَارَضٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:(فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ)(74: 48) وَمَا فِي مَعْنَاهَا مِنَ الْآيَاتِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي الْمَلَائِكَةِ وَالْمَسِيحِ: (وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى)(21: 28) أَيْ لِأَهْلِ التَّوْحِيدِ كَمَا رُوِيَ عَنْ مُفَسِّرِي السَّلَفِ، وَبِحَدِيثِ عَدَمِ نَفْعِ شَفَاعَةِ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ - إِنْ صَحَّ أَنْ يُسَمَّى ذَلِكَ شَفَاعَةً - وَأَحَادِيثَ أُخْرَى.

وَقَدْ يُجَابُ عَنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ عَلَى طَرِيقَةِ الْعُلَمَاءِ فِي مِثْلِهِ بِأَنَّ هَذَا الرَّجَاءَ لَيْسَ اعْتِقَادًا جَازِمًا وَلَا خَبَرًا عَنِ اللهِ تَعَالَى، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ وَقَعَ مِنْهُ صلى الله عليه وسلم قَبْلَ إِعْلَامِ اللهِ تَعَالَى إِيَّاهُ بِمَا ذُكَرَ فِي الْآيَاتِ، وَلَيْسَ فِي حَدِيثِ الْعَبَّاسِ ذِكْرُ الشَّفَاعَةِ، وَلَكِنَّهُ بِمَعْنَاهَا. وَيُشِيرُ كَلَامُ الْحَافِظِ بْنِ حَجَرٍ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ فِي بَابِ قِصَّةِ أَبِي طَالِبٍ مِنَ الْفَتْحِ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ خُصُوصِيَّةٌ لَهُ صلى الله عليه وسلم وَلَمْ يُصَرِّحْ بِالْإِشْكَالِ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ بِأَنَّ الشَّفَاعَةَ الْمَنْفِيَّةَ هِيَ مَا كَانَ يَعْتَقِدُ الْمُشْرِكُونَ مِنْ تَأْثِيرِ الشُّفَعَاءِ فِي إِرَادَةِ الْبَارِي سبحانه وتعالى كَتَأْثِيرِ الشُّفَعَاءِ عِنْدَ الْمُلُوكِ وَعُظَمَاءِ الدُّنْيَا، وَبِأَنَّ الشَّفَاعَةَ لَا تَنْفَعُ الْكَافِرَ بِإِنْقَاذِهِ

ص: 457

مِنَ النَّارِ وَجَعْلِهِ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، كَمَا أَنَّ أَعْمَالَهُ الصَّالِحَةَ فِي الدُّنْيَا لَا تَنْفَعُهُ هَذَا النَّوْعَ مِنَ النَّفْعِ ; لِأَنَّ تَأْثِيرَ الْكُفْرِ يَغْلِبُ تَأْثِيرَهَا، وَلَكِنَّهَا قَدْ تَنْفَعُ بِجَعْلِ عَذَابِ الْمَشْفُوعِ لَهُ بِفَضِيلَةٍ فِيهِ وَعَمَلٍ صَالِحٍ لَهُ أَخَفَّ مِنْ عَذَابِ الْكَافِرِ الَّذِي لَيْسَ لَهُ فَضَائِلُ وَلَا أَعْمَالٌ صَالِحَةٌ مِثْلُهَا، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا وَرَدَ فِي تَفَاوُتِ عَذَابِ أَهْلِ النَّارِ. وَمَا أَجْدَرَ أَبَا طَالِبٍ بِأَنْ يَكُونَ أَخَفَّ الْكُفَّارِ عَذَابًا بِأَعْمَالِهِ الصَّالِحَةِ الَّتِي أَجَلُهَا كَفَالَةُ الرَّسُولِ وَحِفْظِهِ وَحِيَاطَتِهِ، بَلْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ مُصَدِّقًا لَهُ وَلَكِنَّهُ أَصَرَّ عَلَى الشِّرْكِ اسْتِكْبَارًا وَحَمِيَّةً لِمَا كَانَ عَلَيْهِ أَبُوهُ وَقَوْمُهُ، وَقَدْ أَثَارَ هَذِهِ الْحَمِيَّةَ فِيهِ أَبُو جَهْلٍ - لَعَنَهُ اللهُ - وَكَذَا عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ رضي الله عنه؛ فَقَدْ آمَنَ بَعْدَ ذَلِكَ - إِذْ كَانَا لَدَيْهِ فِي وَقْتِ تِلْكَ الدَّعْوَةِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَرَوَى أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: لَوْلَا أَنْ تُعَيِّرَنِي قُرَيْشٌ يَقُولُونَ مَا حَمَلَهُ عَلَى ذَلِكَ إِلَّا جَزَعُ الْمَوْتِ لَأَقْرَرْتُ بِهَا عَيْنَكَ. فَكَانَ جُلُّ كُفْرِهِ غَلَبَةَ الْحَمِيَّةِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَتَعْظِيمَ الْآبَاءِ بِتَقْلِيدِهِمْ وَإِيثَارِ ذَلِكَ عَلَى الشَّهَادَةِ بِالْحَقِّ، فَأَيْنَ هُوَ مِنْ كُفْرِ الْمُعَانِدِينَ الَّذِينَ آذَوُا الرَّسُولَ وَالْمُؤْمِنِينَ بِكُلِّ مَا اسْتَطَاعُوا مِنْ أَنْوَاعِ الْأَذَى، وَأَخْرَجُوهُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، وَمَا زَالُوا يُحَارِبُونَهُمْ وَيُحَرِّضُونَ النَّاسَ عَلَيْهِمْ إِلَى أَنْ خَذَلَهُمُ اللهُ تَعَالَى، وَنَصَرَ رَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ عَلَيْهِمْ؟ وَلَكِنْ يَرِدُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ مَنْ كَانَ مُسْتَحِقًّا لِأَخَفِّ الْعَذَابِ وَجُوزِيَ بِهِ لَا يَكُونُ مُنْتَفِعًا بِالشَّفَاعَةِ، وَالتَّخْفِيفُ بِسَبَبِهَا بَعْدَ الِاسْتِحْقَاقِ مَعَارَضٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:(وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا)(35: 36) وَبِنُصُوصٍ أُخْرَى، فَلَا يَظْهَرُ مَعْنًى لِلشَّفَاعَةِ إِلَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ كُلَّ الشَّفَاعَاتِ تَكْرِيمٌ صُورِيٌّ لِلشُّفَعَاءِ بِمَا يَجْزِيهِ اللهُ تَعَالَى عَقِبَ شَفَاعَتِهِمْ لَا بِهَا، كَمَا يَقُولُ الْأَشْعَرِيَّةُ فِي جَمِيعِ الْأَسْبَابِ.

بَعْدَ كِتَابَةِ مَا تَقَدَّمَ وَجَمْعِهِ لِلطَّبْعِ رَاجَعْتُ شَرْحَ الْحَافِظِ لِلْحَدِيثِ فِي كِتَابِ الرِّقَاقِ مِنَ الْبُخَارِيِّ، فَإِذَا هُوَ قَدْ ذَكَرَ الْإِشْكَالَ وَأَجْوِبَةً عَنْهُ بِمَعْنَى مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْخُصُوصِيَّةِ وَتَخْصِيصِ الْعُمُومِ، وَكَوْنِ التَّخْفِيفِ مِنْ عَذَابِ الْمَعَاصِي دُونَ الْكُفْرِ، وَالتَّجَوُّزِ فِي لَفْظِ الشَّفَاعَةِ. فَنَقَلَ عَنْ (الْمُفْهِمِ شَرْحِ صَحِيحِ مُسْلِمٍ) لِلْقُرْطُبِيِّ أَنَّ أَبَا طَالِبٍ لَمَّا بَالَغَ فِي إِكْرَامِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالذَّبِّ عَنْهُ جُوزِيَ عَلَى ذَلِكَ بِالتَّخْفِيفِ، فَأُطْلِقَ عَلَى ذَلِكَ شَفَاعَةٌ لِكَوْنِهَا بِسَبَبِهِ. اهـ.

هَذَا وَإِنَّ فِي الْمَسْأَلَةِ مَبَاحِثَ نُرْجِئُ الْقَوْلَ فِيهَا إِلَى تَفْسِيرِ آيَاتِ السُّوَرِ الْأُخْرَى الَّتِي أَشَرْنَا إِلَيْهَا فِي سِيَاقِ هَذَا الْكَلَامِ، وَنَخْتِمُ الْكَلَامَ هُنَا بِمَسْأَلَتَيْنِ مِنْ مُتَعَلِّقَاتِهِ:

(الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: حَظْرُ إِيذَاءِ الرَّسُولِ أَوْ آلِهِ بِذِكْرِ أَبَوَيْهِ أَوْ عَمِّهِ بِسُوءٍ.

إِذَا عَلِمْتَ أَنَّ حِكْمَةَ بَيَانِ كِتَابِ اللهِ تَعَالَى وَحَدِيثِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم لِكُفْرِ مَنْ ذُكِرَ وَعَذَابِهِمْ فِي النَّارِ هِيَ تَقْرِيرُ أَسَاسِ الدِّينِ وَهُوَ التَّوْحِيدُ عَلَى أَكْمَلِ وَجْهٍ، فَاعْلَمْ أَنَّ الَّذِي يُطْلَبُ شَرْعًا هُوَ أَنْ يُذْكَرَ ذَلِكَ فِي مَقَامِ التَّعْلِيمِ، وَهُوَ يَشْمَلُ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ وَتَفْسِيرَهُ، وَرِوَايَةَ الْحَدِيثِ وَشَرْحَهُ - وَمِنْهُ أَوْ مِثْلُهُ السِّيرَةُ النَّبَوِيَّةُ وَتَارِيخُ الْإِسْلَامِ - وَبَيَانَ عَقِيدَةِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ وَمَنْ

ص: 458

وَافَقَهُمْ مِنَ الْفِرَقِ وَالرَّدَّ عَلَى مَنْ خَالَفَهُمْ. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُتَجَاوَزَ ذَلِكَ إِلَى مَا يُخِلُّ بِالْأَدَبِ، وَيُؤْذِي الرَّسُولَ أَوْ آلِهِ بِحَسَبٍ أَوْ نَسَبٍ، وَنَاهِيكَ بِالْأُمِّ وَالْأَبِ، وَبِأَبِي طَالِبٍ دُونَ أَبِي لَهَبٍ، بَلْ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُذْكَرَ أَبُو لَهَبٍ بِسُوءٍ مَوْصُوفًا بِكَوْنِهِ عَمَّ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم إِلَّا فِي مَقَامِ التَّعْلِيمِ وَالْبَيَانِ الَّذِي تَقَدَّمَ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ قَالَتْ:" اسْتَأْذَنَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي هِجَاءِ الْمُشْرِكِينَ، قَالَ: كَيْفَ بِنَسَبِي فِيهِمْ؟ فَقَالَ حَسَّانُ: لِأَسُلَّنَّكَ مِنْهُمْ كَمَا تُسَلُّ الشَّعْرَةُ مِنَ الْعَجِينِ " أَيْ: لَأُخَلِصَنَّ نَسَبَكَ مِنْ أَنْسَابِهِمْ حَتَّى لَا يُصِيبَهُ مِنَ الْهَجْوِ شَيْءٌ، وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ اسْتَأْذَنَهُ فِي هَجْوِ أَبِي سُفْيَانَ، فَقَالَ: " كَيْفَ بِقَرَابَتِي مِنْهُ؟ فَأَجَابَ حَسَّانُ بِنَحْوِ مَا تَقَدَّمَ، وَقَدْ كَانَ أَبُو سُفْيَانَ يَوْمَئِذٍ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

وَمِنْ هَدْيِ عُلَمَاءِ السَّلَفِ فِي ذَلِكَ وَاقِعَتَانِ، رُوِيَتَا عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ رضي الله عنه وَنَاهِيكَ بِعِلْمِهِ وَهَدْيِهِ. (إِحْدَاهُمَا) أَنَّهُ أُتِيَ بِكَاتِبٍ يَخُطُّ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَكَانَ أَبُوهُ كَافِرًا،

فَقَالَ لِلَّذِي جَاءَ بِهِ: لَوْ كُنْتَ جِئْتَ بِهِ مِنْ أَوْلَادِ الْمُهَاجِرِينَ، فَقَالَ الْكَاتِبُ: مَا ضَرَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كُفْرُ أَبِيهِ. فَقَالَ عُمَرُ: قَدْ جَعَلْتَهُ مَثَلًا! لَا تَخُطَّ بَيْنَ يَدَيَّ بِقَلَمٍ أَبَدًا. (ثَانِيَتُهُمَا) أَنَّهُ قَالَ لِسُلَيْمَانَ بْنِ سَعْدٍ: بَلَغَنِي أَنَّ أَبَا عَامِلِنَا بِمَكَانِ كَذَا وَكَذَا زِنْدِيقٌ. قَالَ: وَمَا يَضُرُّهُ ذَلِكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ قَدْ كَانَ أَبُو النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَافِرًا فَمَا ضَرَّهُ. فَغَضِبَ عُمَرُ غَضَبًا شَدِيدًا وَقَالَ: مَا وَجَدْتَ لَهُ مَثَلًا غَيْرَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ فَعَزَلَهُ عَنِ الدَّوَاوِينِ. وَمِنْهُ أَنَّ الشَّافِعِيَّ رضي الله عنه قَالَ: وَقَطَعَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم امْرَأَةً - أَيْ يَدَهَا - لَهَا شَرَفٌ فَكُلِّمَ فِيهَا، فَقَالَ " لَوْ سَرَقَتْ فُلَانَةُ - لِامْرَأَةٍ شَرِيفَةٍ - لَقَطَعْتُ يَدَهَا " وَإِنَّمَا قَالَ صلى الله عليه وسلم " لَوْ سَرَقَتْ فَاطِمَةُ " فَكَنَّى الشَّافِعِيُّ عَنْ فَاطِمَةَ عليها السلام وَلَمْ يَذْكُرِ اسْمَهَا مُبَالَغَةً فِي الْأَدَبِ، مَعَ أَنَّ إِسْنَادَ السَّرِقَةِ إِلَيْهَا فِي الْحَدِيثِ مَفْرُوضٌ فَرْضًا لَا وَاقِعًا، وَهُوَ يَذْكُرُهُ فِي سِيَاقِ الِاسْتِنْبَاطِ مِنَ السُّنَّةِ الَّذِي يَجُوزُ فِيهِ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ. وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ: مَا فَعَلَهُ أَبُو دَاوُدَ - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى - فِي حَدِيثِ تَعْزِيَةِ فَاطِمَةَ عليها السلام فِي مَيِّتٍ وَقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَهَا: " فَلَعَلَّكِ بَلَغْتِ مَعَهُمُ الْكُدَى " أَيِ الْمَقَابِرَ، قَالَتْ: مَعَاذَ اللهِ وَقَدْ سَمِعْتُكَ تَذْكُرُ فِيهَا مَا تَذْكُرُ، فَقَالَ لَهَا كَمَا فِي سُنَنِ النَّسَائِيِّ:" لَوْ بَلَغْتِهَا مَعَهُمْ مَا رَأَيْتِ الْجَنَّةَ حَتَّى يَرَاهَا جَدُّ أَبِيكِ " وَأَمَّا أَبُو دَاوُدَ فَرَوَاهُ هَكَذَا: قَالَ: " لَوْ بَلَغْتِ مَعَهُمُ الْكُدَى " فَذَكَرَ تَشْدِيدًا عَظِيمًا. اهـ. وَقَالُوا: إِنَّهُ تَرَكَ التَّصْرِيحَ بِآخِرِ الْحَدِيثِ مِنْ بَابِ الْأَدَبِ.

فَإِنْ قِيلَ: أَيُّ الْمُحَدِّثِينَ خَيْرٌ عَمَلًا فِي هَذَا الْحَدِيثِ؟ النَّسَائِيُّ الَّذِي رَوَاهُ بِلَفْظِهِ، وَعَمِلَ بِأَمْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُبَلِّغَ الْقَوْلَ عَنْهُ كَمَا سَمِعَ كَمَا فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ عِنْدَ أَحْمَدَ وَالتِّرْمِذِيِّ، وَمَا فِي مَعْنَاهُ مِنَ الْأَمْرِ بِتَبْلِيغِ الشَّاهِدِ الْغَائِبِ فِي خُطْبَةِ حِجَّةِ الْوَدَاعِ كَمَا فِي

ص: 459

الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا، أَمْ أَبُو دَاوُدَ الَّذِي رَاعَى الْأَدَبَ بِحَذْفِ مَا حَذَفَ؟ فَالْجَوَابُ أَنَّ الَّذِي جَرَى عَلَيْهِ حَمَلَةُ السُّنَّةِ وَمُبَلِّغُوهَا لِلْأُمَّةِ مِنَ السَّلَفِ الصَّالِحِ، وَهُوَ وُجُوبُ تَبْلِيغِ النَّصِّ بِلَفْظِهِ عَلَى مَنْ حَفِظَهُ، أَوْ بِمَعْنَاهُ إِذَا وَعَاهُ وَوَثِقَ بِقُدْرَتِهِ عَلَى أَدَائِهِ، وَلِهَؤُلَاءِ الْأَعْلَامِ أَعْظَمُ مِنَّةٍ فِي عُنُقِ الْأُمَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ بِنَقْلِ السُّنَّةِ إِلَيْهَا كَمَا رَوَوْهَا، وَضَبْطِ مُتُونِهَا، وَوَزْنِ أَسَانِيدِهَا بِمِيزَانِ الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ الْمُسْتَقِيمِ، وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ رَحِمَهُمَا اللهُ تَعَالَى مِنْ أَئِمَّتِهِمْ. وَإِنَّمَا يُحْسِنُ مِثْلُ مَا رُوِيَ عَنْهُمَا مِنَ الْأَدَبِ الْعَالِي مَعَ بِضْعَةِ الرَّسُولِ سَيِّدَةِ النِّسَاءِ عليها السلام إِذَا كَانَ لَا يَضِيعُ بِهِ شَيْءٌ مِنَ الْحَدِيثِ، كَذِكْرِهِ

لِمَنْ يَعْلَمُ الْأَصْلَ الْمَرْوِيَّ أَوْ لِمَنْ لَا مَصْلَحَةَ لَهُ فِي الْعِلْمِ بِنَصِّهِ، وَاللهُ أَعْلَمُ، وَلَوْ كَانَ أَئِمَّةُ الْحَدِيثِ يَسْتَبِيحُونَ حَذْفَ شَيْءٍ مِنْهَا لَمَّا وَثِقْنَا بِنَقْلِهِمْ، وَلَكِنْ عُلِمَ ضِدُّ ذَلِكَ مِنْ سِيرَتِهِمْ وَمِنْ رِوَايَتِهِمْ لِلْأَحَادِيثِ الْمُشْكَلَةِ كَغَيْرِهَا، وَمِنْ جَرْحِهِمْ لِمَنْ غَيَّرَ أَوْ بَدَّلَ، أَوْ حَذَفَ أَوْ زَادَ أَوْ نَقَّصَ، أَوْ خَالَفَ الثِّقَاتِ فِي شَيْءٍ مِنَ الْمُتُونِ وَإِنْ كَانَ غَرَضُهُ التَّعْظِيمَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الشَّافِعِيَّ وَأَبَا دَاوُدَ قَالَا مَا قَالَا عَالِمَيْنِ بِأَنَّهُ لَا يُضَيِّعُ مِنَ الْحَدِيثِ شَيْئًا؛ لِأَنَّهُ مَحْفُوظٌ مَشْهُورٌ.

(الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مَا مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ)

قَدْ عَلِمْتَ أَنَّ السَّيِّدَ الْأَلُوسِيَّ عَزَا الْقَوْلَ بِإِيمَانِ أَبِي إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ عليه الصلاة والسلام إِلَى الْجَمِّ الْغَفِيرِ مِنْ أَئِمَّةِ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَأَنَّ هَذِهِ هَفْوَةٌ مِنْهُ - عَفَا اللهُ تَعَالَى عَنْهُ - وَلَا يَخْفَى عَلَى مِثْلِهِ أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ لَا يَصِحُّ أَنْ يُطْلَقَ عَلَى رَأْيِ كُلِّ مَنْ صَنَّفَ رِسَالَةً أَوْ كِتَابًا مِنَ الْمُنْتَسِبِينَ إِلَى مَذَاهِبِ أَهْلِ السُّنَّةِ فِي الْأُصُولِ أَوِ الْفُرُوعِ. وَإِنَّمَا مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ مَا كَانَ عَلَيْهِ السَّوَادُ الْأَعْظَمُ مِنَ الصَّحَابَةِ وَعُلَمَاءِ التَّابِعِينَ، وَأَئِمَّةِ الْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ مِمَّنْ تَبِعَهُمْ فِي الِاعْتِصَامِ بِنُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. وَمِنْ غَيْرِ تَحْرِيفٍ وَلَا تَكَلُّفٍ لِإِرْجَاعِ ظَوَاهِرِهَا إِلَى مَا ابْتُدِعَ مِنَ الْبِدَعِ وَالْآرَاءِ الَّتِي أَحْدَثَهَا أَهْلُ الْأَهْوَاءِ، وَمِنْهُمْ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ الْمَشْهُورُونَ، كَأَبِي حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ، وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَدَاوُدَ، وَغَيْرِهِمْ. وَقَدِ انْتَسَبَ إِلَى بَعْضِ مَذَاهِبَ هَؤُلَاءِ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ فَخَالَفُوهُمْ فِي بَعْضِ الْأُصُولِ كَبَعْضِ الْمُعْتَزِلَةِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، وَكَثِيرٍ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْمُرْجِئَةِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَأَقْرَبُ الْمُتَكَلِّمِينَ إِلَيْهِمُ الْأَشَاعِرَةُ، وَأَكْثَرُهُمْ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْمَاتُرِيدِيَّةُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَلَكِنَّ هَؤُلَاءِ قَدِ اضْطُرُّوا إِلَى الْخَوْضِ فِي مَسَائِلٍ مِنَ الْكَلَامِ لَمْ تُؤْثَرْ عَنْ أَئِمَّتِهِمْ فِي الْفِقْهِ، وَلَا عَنْ غَيْرِهِمْ مِنَ السَّلَفِ الصَّالِحِ، وَاخْتَلَفَ الْأَشْعَرِيَّةُ وَالْمَاتُرِيدِيَّةُ فِي كَثِيرٍ مِنْهَا كَمَا اخْتَلَفَ الْأَوَّلُونَ مِنْهُمْ فِي عِدَّةِ مَسَائِلَ خَالَفَ بَعْضُهُمْ فِيهَا الْأَشْعَرِيَّ، أَوْ خَالَفَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، فَهُمْ عَلَى انْتِسَابِهِمْ كُلِّهِمْ إِلَى السُّنَّةِ لَا يَصِحُّ أَنْ يُجْعَلَ كُلَّ مَا قَرَّرَهُ وَاحِدٌ أَوْ آحَادٌ مِنْهُمْ مَذْهَبًا لِأَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، وَإِنْ تَقَلَّدَ ذَلِكَ الْكَثِيرُونَ مِنَ النَّاسِ، وَإِنَّمَا الْقَاعِدُ فِي كُلِّ مَا حَدَثَ بَعْدَ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ مِنَ الْأَقْوَالِ وَالْآرَاءِ، وَتَنَازَعَ فِيهِ الْعُلَمَاءُ فَلَمْ يُجْمِعُوا فِيهِ عَلَى قَوْلٍ أَنْ يُرَدَّ إِلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، فَيُؤْخَذُ

مَا وَافَقَهُمَا وَيُرَدُّ مَا خَالَفَهُمَا عَمَلًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ)

ص: 460

(4: 59) الْآيَةَ. وَقَدْ بَيَّنَّا نُصُوصَ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ فِي مَسْأَلَةِ آبَاءِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم وَكَلَامِ بَعْضِ عُلَمَاءِ السَّلَفِ وَالْخَلْفِ فِي الْأَخْذِ بِهَا مِنْ غَيْرِ تَأْوِيلٍ فَكُلُّ مَا خَالَفَهَا فَهُوَ مَرْدُودٌ، وَلَيْسَ مِنْ مَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ فِي شَيْءٍ.

هَذَا وَإِنَّنِي بَعْدَ كِتَابَةِ مَا تَقَدَّمَ وَجَمْعِهِ لِلطَّبْعِ عَثَرْتُ بِالْمُصَادَفَةِ عَلَى مَا كَتَبَهُ الْأَلُوسِيُّ فِي مَسْأَلَةِ اسْتِغْفَارِ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ مِنْ تَفْسِيرِ سُورَةِ الْمُمْتَحِنَةِ، فَإِذَا هُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى رُجُوعِهِ عَنْ هَفْوَتِهِ الَّتِي نَقَلْنَاهَا عَنْهُ وَانْتَقَدْنَاهَا عَلَيْهِ، وَحَمَلْنَا ذَلِكَ عَلَى مُرَاجَعَةِ مَا كَتَبَهُ فِي الْمَسْأَلَةِ مِنْ تَفْسِيرِ سُورَةِ التَّوْبَةِ، فَإِذَا هُوَ مِثْلُ الَّذِي فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْمُمْتَحِنَةِ فِي بِنَائِهِ عَلَى أَنَّ آزَرَ أَبُو إِبْرَاهِيمَ، وَأَنَّهُ مَاتَ مُشْرِكًا، وَهَذَا هُوَ اللَّائِقُ بِعِلْمِهِ وَاسْتِقْلَالِهِ فِي الْفَهْمِ، وَهَذَا شَأْنُ عُلَمَاءِ السُّنَّةِ؛ إِذَا قَالَ أَحَدُهُمْ قَوْلًا ثُمَّ كَانَ الدَّلِيلُ مِنْ أَحَدِهِمَا أَوْ كِلَيْهِمَا، وَهُوَ مِنَ الْخَطَأِ الَّذِي يَغْفِرُهُ اللهُ تَعَالَى لِلْمُخْلِصِينَ الْأَوَّابِينَ، بَلْ ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّ الْحَاكِمَ إِذَا اجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ، أَيْ أَجْرُ الِاجْتِهَادِ، وَإِذَا اجْتَهَدَ فَأَصَابَ كَانَ لَهُ أَجْرَانِ، أَيْ أَجْرُ الِاجْتِهَادِ وَأَجْرُ الْإِصَابَةِ، وَهَذَا مِمَّا يُؤَكِّدُ اتِّقَاءَ الِاغْتِرَارِ بِقَوْلِ أَيِّ عَالِمٍ خَالَفَ النَّصَّ أَوْ مَا اشْتَهَرَ عَنِ السَّلَفِ الصَّالِحِ - رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُمْ، وَوَفَّقَنَا لِلِاقْتِدَاءِ بِهِمْ.

(تَفْسِيرُ الْآيَاتِ)

(وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً) هَذِهِ الْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى الْجُمْلَةِ (قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ) وَمَا فِي حَيِّزِهَا - وَهُوَ آخِرُ حِجَاجِ الْمُشْرِكِينَ فِي الْعَقَائِدِ مَبْدُوءٌ بِالْأَمْرِ الْقَوْلِيِّ، وَسَيُعَادُ هَذَا الْأُسْلُوبُ فِي السُّورَةِ حِجَاجًا فِي الْأَحْكَامِ الْعَمَلِيَّةِ أَيْضًا - وَالظَّرْفُ فِيهَا مُتَعَلِّقٌ بِفِعْلٍ عُهِدَ حَذْفُهُ، تَقْدِيرُهُ " اذْكُرْ " أَيْ: وَاذْكُرْ أَيُّهَا الرَّسُولُ لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَقَّنَّاكَ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْحُجَجِ عَلَى بُطْلَانِ شِرْكِهِمْ وَضَلَالِهِمْ فِي عِبَادَةِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ، وَمِنْ بَيَانِ هَدْيِ اللهِ تَعَالَى وَالْإِسْلَامِ لَهُ - اذْكُرْ لَهُمْ عَقِبَ هَذَا - قِصَّةَ إِبْرَاهِيمَ جَدِّهِمُ الَّذِي يَجْعَلُونَ وَيَدَعُونَ اتِّبَاعَ مِلَّتِهِ، حِينَ قَالَ لِأَبِيهِ آزَرَ مُنْكِرًا عَلَيْهِ وَعَلَى قَوْمِهِ شِرْكَهُمْ: أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً تَعْبُدُهَا مِنْ دُونِ اللهِ الَّذِي خَلَقَكَ وَخَلَقَهَا، وَهُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِلْعِبَادَةِ مِنْ دُونِهَا! (إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) الضَّلَالُ الْعُدُولُ عَنِ الطَّرِيقِ الْمُوَصِّلِ إِلَى الْغَايَةِ الَّتِي يَطْلُبُهَا الْعَاقِلُ مِنْ سَيْرِهِ الْحِسِّيِّ

أَوِ الْمَعْنَوِيِّ، وَغَايَةُ الدِّينِ تَزْكِيَةُ النَّفْسِ بِمَعْرِفَةِ اللهِ وَعِبَادَتِهِ، وَمَا شَرَعَهُ مِنَ الْأَعْمَالِ وَالْآدَابِ لِلْفَوْزِ بِسَعَادَةِ الدَّارَيْنِ. وَأَمَّا عِبَادَةُ غَيْرِ اللهِ تَعَالَى - وَلَوْ بِقَصْدِ التَّقَرُّبِ إِلَيْهِ - فَهُوَ مُدِسٌّ لِلنَّفْسِ مُفْسِدٌ لَهَا، فَلَا يُوصِلُهَا إِلَّا إِلَى الْهَلَاكِ الْأَبَدِيِّ. وَالتَّعْبِيرُ عَنْهَا بِالضَّلَالِ لَيْسَ فِيهِ سَبُّ وَلَا جَفَاءٌ وَلَا غِلْظَةٌ كَمَا زَعَمَ مَنِ اسْتَشْكَلَهُ مِنَ الْوَلَدِ لِلْوَالِدِ، وَقَابَلَهُ بِأَمْرِ اللهِ تَعَالَى لِمُوسَى وَهَارُونَ أَنْ يَقُولَا لِفِرْعَوْنَ قَوْلًا لَيِّنًا، وَأَجَابَ عَنْهُ بِأَنَّهُ حَسَنٌ لِلْمَصْلَحَةِ، كَالشِّدَّةِ فِي تَرْبِيَةِ الْأَوْلَادِ

ص: 461

أَحْيَانًا، وَمَنِ اسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ آزَرَ كَانَ عَمَّ إِبْرَاهِيمَ لَا وَالِدَهُ، فَالصَّوَابُ أَنَّ التَّعْبِيرَ بِالضَّلَالِ الْبَيِّنِ هُنَا بَيَانٌ لِلْوَاقِعِ بِاللَّفْظِ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ لُغَةً، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:(وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى)(93: 7) وَكَقَوْلِكَ لِمَنْ تَرَاهُ مُنْحَرِفًا عَنِ الطَّرِيقِ الْحِسِّيِّ: إِنَّ الطَّرِيقَ مِنْ هُنَا، فَأَنْتَ حَائِدٌ أَوْ ضَالٌّ عَنْهُ، وَمَعْنَى قَوْلِ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ: إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ الَّذِينَ يَعْبُدُونَ هَذِهِ الْأَصْنَامَ مِثْلَكَ فِي ضَلَالٍ - عَنْ صِرَاطِ الْحَقِّ الْمُسْتَقِيمِ - بَيِّنٌ ظَاهِرٌ لَا شُبْهَةَ لِلْهُدَى فِيهِ، فَإِنَّ هَذِهِ الْأَصْنَامَ الَّتِي اتَّخَذْتُمُوهَا آلِهَةً لَكُمْ لَمْ تَكُنْ آلِهَةً فِي أَنْفُسِهَا، بَلْ بِاتِّخَاذِكُمْ وَجَعْلِكُمْ، وَلَسْتُمْ مِنْ خَلْقِهَا وَلَا مِنْ صُنْعِهَا، بَلْ هِيَ مِنْ صُنْعِكُمْ، وَلَا تَقْدِرُ عَلَى نَفْعِكُمْ وَلَا ضَرِّكُمْ، وَذَلِكَ أَنَّهَا تَمَاثِيلُ تَنْحِتُونَهَا مِنَ الْحِجَارَةِ، أَوْ تَقْتَطِعُونَهَا مِنَ الْخَشَبِ، أَوْ تَصُوغُونَهَا مِنَ الْمَعْدِنِ، فَأَنْتُمْ أَفْضَلُ مِنْهَا، وَمُسَاوُونَ فِي أَصْلِ الْخِلْقَةِ لِمَنْ جُعِلَتْ مُمَثِّلَةً لَهُمْ مِنَ النَّاسِ، أَوْ لِمَا صُنِعَتْ مُذَكِّرَةً بِهِ مِنَ النَّيِّرَاتِ، وَلَا يَلِيقُ بِالْإِنْسَانِ أَنْ يَعْبُدَ مَا هُوَ دُونَهُ، وَلَا مَا هُوَ مُسَاوٍ لَهُ فِي كَوْنِهِ مَخْلُوقًا مَقْهُورًا بِتَصَرُّفِ الْخَالِقِ، وَمَرْبُوبًا فَقِيرًا مُحْتَاجًا إِلَى الرَّبِّ الْغَنِيِّ الْقَادِرِ، وَقَدْ دَلَّتْ آثَارُ أُولَئِكَ الْقَوْمِ الَّتِي اكْتُشِفَتْ فِي الْعِرَاقِ عَلَى صِحَّةِ مَا عُرِفَ فِي التَّارِيخِ مِنْ عِبَادَتِهِمْ لِلْأَصْنَامِ الْكَثِيرَةِ، حَتَّى كَانَ يَكُونُ لِكُلٍّ مِنْهُمْ صَنَمٌ خَاصٌّ بِهِ، سَوَاءٌ الْمُلُوكُ وَالسُّوقَةُ فِي ذَلِكَ، وَكَانُوا يَعْبُدُونَ الْفَلَكَ وَنَيِّرَاتِهِ عَامَّةً، وَالدَّرَارِيَ السَّبْعَ خَاصَّةً، كَمَا يُعْلَمُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى:

(وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) أَيْ وَكَمَا أَرَيْنَا إِبْرَاهِيمَ الْحَقَّ فِي أَمْرِ أَبِيهِ وَقَوْمِهِ، وَهُوَ أَنَّهُمْ كَانُوا عَلَى ضَلَالٍ بَيِّنٍ فِي عِبَادَتِهِمْ لِلْأَصْنَامِ، كُنَّا نُرِيهِ الْمَرَّةَ بَعْدَ الْمَرَّةِ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ الَّتِي يَعْرِفُ بِهَا الْحَقَّ، فَهِيَ رُؤْيَةٌ بَصَرِيَّةٌ، تَتْبَعُهَا رُؤْيَةُ الْبَصِيرَةِ الْعَقْلِيَّةِ، وَإِنَّمَا قَالَ:" نُرِيهِ " دُونَ أَرَيْنَاهُ؛ لِاسْتِحْضَارِ صُورَةِ الْحَالِ الْمَاضِيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَتَجَدَّدُ وَتَتَكَرَّرُ بِتَجَدُّدِ رُؤْيَةِ آيَاتِهِ تَعَالَى فِي ذَلِكَ

الْمَلَكُوتِ الْعَظِيمِ كَمَا يُعْلَمُ مِنَ التَّعْلِيلِ الْآتِي، وَالتَّفْصِيلِ الْمُتَرَتِّبِ عَلَى هَذَا الْإِجْمَالِ فِي الْآيَاتِ، وَالْمَلَكُوتُ: الْمَمْلَكَةُ أَوِ الْمُلْكُ الْعَظِيمُ وَالْعِزُّ وَالسُّلْطَانُ، وَإِطْلَاقُ الصُّوفِيَّةِ إِيَّاهُ عَلَى عَالَمِ الْغَيْبِ اصْطِلَاحٌ. قَالَ فِي اللِّسَانِ: وَمُلْكُ اللهِ تَعَالَى وَمَلَكُوتُهُ: سُلْطَانُهُ وَعَظْمَتُهُ، وَلِفُلَانٍ مَلَكُوتُ الْعِرَاقِ، أَيْ عِزُّهُ وَسُلْطَانُهُ وَمُلْكُهُ، وَعَنِ اللِّحْيَانِيِّ: وَالْمَلَكُوتُ مِنَ الْمُلْكِ كَالرَّهَبُوتِ مِنَ الرَّهْبَةِ، وَيُقَالُ لِلْمَلَكُوتِ مَلْكُوَةٌ (كَتَرْقُوَةٍ) . انْتَهَى. وَقَالَ الرَّاغِبُ: وَالْمَلَكُوتُ مُخْتَصٌّ بِمُلْكِ اللهِ تَعَالَى، وَهُوَ مَصْدَرُ مَلَكَ أُدْخِلَتْ فِيهِ التَّاءُ نَحْوَ رَحَمُوتٍ وَرَهَبُوتٍ. انْتَهَى. وَصَرَّحَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ هَذِهِ التَّاءَ لِلْمُبَالَغَةِ عَلَى قَاعِدَةِ زِيَادَةِ الْمَبْنَى لِزِيَادَةِ الْمَعْنَى. فَالْمَلَكُوتُ: الْمُلْكُ الْعَظِيمُ، وَالرَّحَمُوتُ: الرَّحْمَةُ الْوَاسِعَةُ، وَالرَّهَبُوتُ: الرَّهْبَةُ الشَّدِيدَةُ.

وَرُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّ كَلِمَةَ مَلَكُوتٍ نَبَطِيَّةٌ، وَأَصْلُهَا بِلِسَانِهِمْ " مَلَكُوتَا "، وَفِي كُتُبِ اللُّغَةِ أَنَّ النَّبَطَ وَالْأَنْبَاطَ جِيلٌ مِنَ النَّاسِ يَسْكُنُونَ الْبَطَائِحَ وَغَيْرِهَا مِنْ سَوَادِ الْعِرَاقِ، فَهُمْ بَقَايَا قَوْمِ إِبْرَاهِيمَ فِي وَطَنِهِ الْأَصْلِيِّ إِذَا كَانَتْ سِلْسِلَةُ نَسَبِهِمْ مَحْفُوظَةً، وَيَقُولُ الْمُؤَرِّخُونَ: إِنَّهُمْ

ص: 462

مِنْ بَقَايَا الْعَمَالِقَةِ، وَأَنَّهُمْ هَاجَرُوا مِنَ الْعِرَاقِ بَعْدَ سُقُوطِ دَوْلَةِ الْحَمُورَابِيِّينَ، وَتَفَرَّقُوا فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، ثُمَّ أَنْشَئُوا دَوْلَةً فِي الشَّمَالِ مِنْهَا. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا قَالَ: إِنَّنَا نَبَطٌ مِنْ كُوثَى، وَكُوثَى بَلَدُ إِبْرَاهِيمَ عليه الصلاة والسلام كَمَا يُحْفَظُ عَنِ الْعَرَبِ. وَمُرَادُ الْحَبْرَيْنِ أَنَّ بَنِي هَاشِمٍ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ، وَأَنَّ النَّبَطَ مِنْ قَوْمِهِ، وَفِيهِ إِنْكَارُ احْتِقَارِهِمْ لِنَسَبِهِمْ أَوْ ضَعْفِ لُغَتِهِمْ، وَقِيلَ: إِنَّ مُرَادَهُمَا بِهِ التَّوَاضُعُ وَذَمُّ التَّفَاخُرِ بِالْأَنْسَابِ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْمُرَادَ بِمَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ خَلْقُهُمَا، أَيْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:(أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ)(7: 185) وَعَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ آيَاتُهُمَا، وَعَنْهُمَا وَعَنْ قَتَادَةَ أَنَّهُ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالْبِحَارُ، وَعَنْ مُجَاهِدٍ، وَقَتَادَةَ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَالسُّدِّيِّ أَنَّ اللهَ تَعَالَى أَرَاهُ مَا وَرَاءَ مَسَارِحِ الْأَبْصَارِ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ حَتَّى انْتَهَى بَصَرُهُ إِلَى الْعَرْشِ، وَزَادَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ أَرَاهُ خَفَايَا أَعْمَالِ الْعِبَادِ وَمَعَاصِيهِمْ، وَلَيْسَ لِهَذِهِ الْأَقْوَالِ الْأَخِيرَةِ حُجَّةً مِنَ الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ، وَإِنَّمَا اسْتَنْبَطُوهَا فِيمَا يَظْهَرُ مِنْ إِسْنَادِ الْإِرَاءَةِ إِلَى اللهِ عز وجل، فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى عِنَايَةٍ خَاصَّةٍ، وَاخْتَارَ ابْنُ جَرِيرٍ مِمَّا رَوَاهُ مِنْ تِلْكَ الْأَقْوَالِ أَنَّهُ تَعَالَى أَرَاهُ مِنْ مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَا فِيهِمَا مِنَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالشَّجَرِ

وَالدَّوَابِّ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ عَظِيمِ سُلْطَانِهِ فِيهِمَا، وَجَلَّى لَهُ بَوَاطِنَ الْأُمُورِ وَظَوَاهِرِهَا، وَيَتَحَقَّقُ ذَلِكَ بِهِدَايَتِهِ إِيَّاهُ إِلَى وُجُوهِ الْحُجَّةِ فِيهَا عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ تَعَالَى وَقُدْرَتِهِ وَعَلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ، وَفَضْلِهِ وَرَحِمَتِهِ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ تَعْلِيلُ الْإِرَاءَةِ، وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مِنْ إِقَامَةِ الْحُجَّةِ.

أَمَّا التَّعْلِيلُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ) قِيلَ: إِنَّ الْمَعْنَى: وَلِأَجْلِ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْيَقِينِ الرَّاسِخِينَ فِيهِ أَرَيْنَاهُ مَا أَرَيْنَا، وَبَصَّرْنَاهُ مِنْ أَسْرَارِ الْمَلَكُوتِ مَا بَصَّرْنَا، وَقِيلَ: إِنَّ هَذَا عَطْفٌ عَلَى تَعْلِيلِ حَذْفٍ؛ لِتَغُوصَ الْأَذْهَانُ عَلَى اسْتِخْرَاجِهِ مِنْ قَرَائِنِ الْحَالِ، وَأُسْلُوبِ الْمَقَالِ، أَيْ نُرِيهُ ذَلِكَ لِيَعْرِفَ سُنَنَنَا فِي خَلْقِنَا، وَحُكْمَنَا فِي تَدْبِيرِ مُلْكِنَا، وَآيَاتِنَا الدَّالَّةَ عَلَى رُبُوبِيَّتِنَا وَأُلُوهِيَّتِنَا؛ لِيُقِيمَ بِهَا الْحُجَّةَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ الضَّالِّينَ، وَلِيَكُونَ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ مِنَ الْوَاقِفِينَ عَلَى عَيْنِ الْيَقِينِ، وَهُوَ مِنَ الْإِيجَازِ الْبَدِيعِ. وَالْيَقِينُ فِي اللُّغَةِ: الِاعْتِقَادُ الْجَازِمُ الْمَبْنِيُّ عَلَى الْأَمَارَاتِ، وَالدَّلَائِلِ، وَالِاسْتِنْبَاطِ - دُونَ الْحِسِّ وَالضَّرُورَةِ. وَقَالَ الرَّاغِبُ: هُوَ سُكُونُ الْفَهْمِ مَعَ ثَبَاتِ الْحُكْمِ، وَأَنَّهُ مِنْ صِفَةِ الْعِلْمِ فَوْقَ الْمَعْرِفَةِ وَالدِّرَايَةِ، وَبِذَلِكَ جَمَعَ إِبْرَاهِيمُ بَيْنَ الْعِلْمِ النَّظَرِيِّ وَالْعِلْمِ اللَّدُنِيِّ.

وَأَمَّا مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ مِنَ الِاهْتِدَاءِ إِلَى وَجْهِ الْحُجَّةِ وَالِاسْتِدْلَالِ، فَقَوْلُهُ عز وجل:(فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا) إِلَخْ. قَالَ الرَّاغِبُ: أَصْلُ الْجَنِّ سَتْرُ الشَّيْءِ عَنِ الْحَاسَّةِ، يُقَالُ: جَنَّهُ اللَّيْلُ، وَأَجَنَّهُ، وَأَجَنَّ عَلَيْهِ. فَجَنَّهُ: سَتَرَهُ، وَأَجَنَّهُ: جَعَلَ لَهُ مَا يَجِنُّهُ، كَقَوْلِكَ: قَبَرْتُهُ، وَأَقْبَرْتُهُ، وَسَقَيْتُهُ، وَأَسْقَيْتُهُ، وَجَنَّ عَلَيْهِ كَذَا سَتَرَ عَلَيْهِ. انْتَهَى. وَمِنْهُ الْجِنُّ وَالْجِنَّةُ - بِالْكَسْرِ - وَالْجُنَّةِ بِالضَّمِّ

ص: 463

وَهِيَ التُّرْسُ يُسْتَرُ بِهِ مَا يُحَاوِلُ الْعَدُوُّ ضَرْبَهُ مِنَ الْوَجْهِ وَالرَّأْسِ وَغَيْرِهَا، وَالْجَنَّةُ - بِالْفَتْحِ - وَهِيَ الْبُسْتَانُ الَّذِي يَسْتُرُ الشَّجَرَ أَرْضَهُ مِنَ الشَّمْسِ. وَالْكَوْكَبُ وَالْكَوْكَبَةُ وَاحِدُ الْكَوَاكِبِ، وَهِيَ النُّجُومُ. وَالْفَلَكِيُّونَ يُطْلِقُونَ الْمُؤَنَّثَ عَلَى الْمَجْمُوعَةِ الْمُعَيَّنَةِ مِنْهَا، وَالْعَرَبُ تُطْلِقُهُ عَلَى الزُّهَرَةِ، كَمَا غَلَبَ إِطْلَاقُ النَّجْمِ مُعَرَّفًا عَلَى الثُّرَيَّا، وَلَمْ يُنْقَلْ إِلَيْنَا تَأْنِيثُ النَّجْمِ، وَالْعَامَّةُ تَقُولُ نَجْمَةٌ.

وَالْمَعْنَى أَنَّ اللهَ تَعَالَى لَمَّا بَدَأَ يُرِيهِ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ تِلْكَ الْإِرَاءَةِ الَّتِي عَلَّلَهَا بِمَا تَقَدَّمَ آنِفًا، كَانَ مِنْ أَوَّلِ أَمْرِهِ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا أَظْلَمَ عَلَيْهِ اللَّيْلُ، وَسَتَرَهُ أَوْ سَتَرَ عَنْهُ مَا حَوْلَهُ مِنْ عَالَمِ الْأَرْضِ نَظَرَ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاءِ، فَرَأَى كَوْكَبًا عَظِيمًا مُمْتَازًا عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ بِإِشْرَاقِهِ وَجَذْبِ النَّظَرِ إِلَيْهِ - يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ تَنْكِيرُ الْكَوْكَبِ - وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ

أَنَّهُ الْمُشْتَرَى الَّذِي هُوَ أَعْظَمُ آلِهَةِ بَعْضِ عُبَّادِ الْكَوَاكِبِ مِنْ قُدَمَاءِ الْيُونَانِ وَالرُّومِ، وَكَانَ قَوْمُ إِبْرَاهِيمَ سَلَفُهُمْ وَأَئِمَّتُهُمْ فِي هَذِهِ الْعِبَادَةِ، وَعَنْ قَتَادَةَ أَنَّهُ الزُّهَرَةُ. فَمَاذَا قَالَ لَمَّا رَآهُ؟ (قَالَ هَذَا رَبِّي) أَيْ مَوْلَايَ وَمُدَبِّرُ أَمْرِي، قِيلَ: إِنَّهُ قَالَ ذَلِكَ فِي ذَلِكَ فِي مَقَامِ النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ لِنَفْسِهِ، وَقِيلَ: فِي مَقَامِ الْمُنَاظِرَةِ وَالْحِجَاجِ لِقَوْمِهِ، وَاعْتَمَدَ مَنْ قَالَ بِالْأَوَّلِ عَلَى مَا رُوِيَ فِي التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ مِنْ عِبَادَتِهِ عليه الصلاة والسلام لِهَذِهِ الْكَوَاكِبِ فِي صِغَرِهِ اتِّبَاعًا لِقَوْمِهِ، حَتَّى أَرَاهُ اللهُ تَعَالَى بَعْدَ كَمَالِ التَّمْيِيزِ حُجَّتَهُ عَلَى بُطْلَانِ عِبَادَتِهَا، وَالِاسْتِدْلَالِ بِأُفُولِهَا وَتَعَدُّدِهَا وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ صِفَاتِهَا عَلَى تَوْحِيدِ خَالِقِهَا، وَأَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ كَانَ قَبْلَ النُّبُوَّةِ وَدَعْوَتِهَا. وَمِنْهُ قِصَّةٌ طَوِيلَةٌ مَرْوِيَّةٌ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَقَ فِيهَا أَنَّ إِبْرَاهِيمَ عليه الصلاة والسلام وَلَدَتْهُ أُمُّهُ فِي مَغَارَةٍ أَخْفَتْهُ فِيهَا خَوْفًا عَلَيْهِ مِنْ مَلِكِهِمْ نَمْرُودَ بْنِ كَنْعَانَ أَنْ يَقْتُلَهُ، إِذْ كَانَ أَخْبَرَهُ الْمُنَجِّمُونَ بِأَنْ سَيُولَدُ فِي قَرْيَتِهِ غُلَامٌ يُفَارِقُ دِينَهُمْ، وَيُكَسِّرُ أَصْنَامَهُمْ، فَشَرَعَ يَذْبَحُ كُلَّ غُلَامٍ وُلِدَ فِي الشَّهْرِ الَّذِي وَصَفَ أَصْحَابُ النُّجُومِ مِنَ السَّنَةِ الَّتِي عَيَّنُوا، وَفِيهَا أَنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ يَشِبُّ فِي الْيَوْمِ كَمَا يَشِبُّ غَيْرُهُ فِي شَهْرٍ، وَفِي الشَّهْرِ كَمَا يَشِبُّ غَيْرُهُ فِي سَنَةٍ، وَأَنَّهُ طُلِبَ مِنْ أُمِّهِ بَعْدَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا مِنْ وِلَادَتِهِ أَنْ تُخْرِجَهُ مِنَ الْمَغَارَةِ، فَأَخْرَجَتْهُ عِشَاءً، فَنَظَرَ وَتَفَكَّرَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ - وَذَكَرَ رُؤْيَتَهُ لِلْكَوَاكِبِ، فَالْقَمَرِ، فَالشَّمْسِ. . . وَلَاشَكَّ فِي أَنَّ هَذِهِ الْقِصَّةَ مَوْضُوعَةٌ لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَأَنَّ ابْنَ إِسْحَاقَ أَخَذَهَا عَنْ بَعْضِ الْيَهُودِ الَّذِينَ كَانُوا يُلَقِّنُونَ الْمُسْلِمِينَ أَمْثَالَ هَذِهِ الْقِصَصِ لِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ، فَتَبْطُلُ ثِقَةُ يَهُودَ وَغَيْرِهِمْ بِهِمْ. وَرَوَى نَحْوَهُ أَبُو حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ. وَالسُّدِّيُّ الْمُفَسِّرُ كَذَّابٌ مَعْرُوفٌ كَمَا قَالَ عُلَمَاءُ الْحَدِيثِ، وَاسْمُهُ مُحَمَّدُ بْنُ مَرْوَانَ. وَأَمَّا مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ تَفْسِيرِ " هَذَا رَبِّي " بِالْعِبَادَةِ فَلَا يَصِحُّ، وَهُوَ مِنْ مَرَاسِيلِ عَلِيِّ بْنِ طَلْحَةَ مَوْلَى بَنِي الْعَبَّاسِ، وَقَدْ رَوَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ تَفْسِيرًا كَثِيرًا وَلَمْ يَرَهُ، وَقَالَ فِيهِ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: لَهُ أَشْيَاءُ مُنْكَرَاتٍ. وَقَالَ الْحَافِظُ فِي تَهْذِيبِ التَّهْذِيبِ: صَدُوقٌ يُخْطِئُ، وَمُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي صَالِحٍ الرَّاوِي عَنْهُ مِنْ رِجَالِ مُسْلِمٍ، وَقَدْ لَيَّنَهُ ابْنُ مَعِينٍ، وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: لَا يُحْتَجُّ بِهِ، وَلَمْ يَرْضَهُ الْبُخَارِيُّ، وَلَا ابْنُ الْقَطَّانِ، فَكَيْفَ

ص: 464

يُؤْخَذُ بِرِوَايَتِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلَ الرَّحْمَنِ كَانَ فِي صِغَرِهِ مُشْرِكًا؟ وَهَذَا إِذَا فَرَضْنَا أَنَّ السَّنَدَ إِلَيْهِ صَحِيحٌ! .

وَمِنَ الْعَجِيبِ أَنَّ ابْنَ جَرِيرٍ اخْتَارَ هَذَا الْقَوْلَ مَعَ تَقْرِيرِهِ الْقَوْلَ الْمُقَابِلَ لَهُ عَلَى

أَحْسَنِ وَجْهٍ، وَهُوَ الَّذِي جَزَمَ بِهِ الْجُمْهُورُ مَعَ أَنَّهُ كَانَ مُنَاظِرًا لِقَوْمِهِ، فَقَالَ مَا قَالَ تَمْهِيدًا لِلْإِنْكَارِ عَلَيْهِمْ، فَحَكَى مَقَالَتَهُمْ أَوَّلًا حِكَايَةً اسْتَدْرَجَهُمْ بِهَا إِلَى سَمَاعِ حُجَّتِهِ عَلَى بُطْلَانِهَا، إِذْ أَوْهَمَهُمْ أَنَّهُ مُوَافِقٌ لَهُمْ عَلَى زَعْمِهِمْ، ثُمَّ كَرَّ عَلَيْهِ بِالنَّقْضِ، بَانِيًا دَلِيلَهُ عَلَى قَاعِدَةِ الْحِسِّ وَنَظَرِ الْعَقْلِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ أَوْ تَهَكُّمٍ وَاسْتِهْزَاءٍ حُذِفَتْ أَدَاتُهُ، أَيْ: أَهَذَا رَبِّي الَّذِي يَجِبُ عَلَيَّ أَنْ أَعْبُدَهُ؟ وَقِيلَ أَرَادَ: هَذَا رَبِّي بِزَعْمِكُمْ، أَوْ إِنَّكُمْ تَقُولُونَ هَذَا رَبِّي، وَذَلِكَ مِمَّا لَا يَلْتَئِمُ مَعَ مَا يَأْتِي فِي الشَّمْسِ، وَلَا يَقْبَلُهُ الذَّوْقُ.

أَمَّا ابْنُ جَرِيرٍ فَاحْتَجَّ أَوَّلًا بِالرِّوَايَةِ، وَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّهَا لَا تَصْلُحُ حُجَّةً عَلَى دَعْوَى شِرْكِ الْخَلِيلِ عليه الصلاة والسلام وَلَوْ فِي الصِّغَرِ عَلَى أَنَّهَا مُطْلَقَةٌ - وَثَانِيًا بِالْعِبَارَةِ الَّتِي قَالَهَا بَعْدَ أُفُولِ الْقَمَرِ، وَسَتَرَى حُسْنَ تَوْجِيهِهَا عَلَى الْوَجْهِ الْآخَرِ. وَأَمَّا الْجُمْهُورُ فَاحْتَجُّوا بِحُجَجٍ كَثِيرَةٍ أَطَالَ الْإِمَامُ الرَّازِيُّ فِي تَعْدَادِهَا، وَفِي أَكْثَرِ مَا أَوْرَدَهُ نَظَرٌ ظَاهِرٌ. وَأَقْوَى حُجَّتِهِمُ السِّيَاقُ مِنْ حَيْثُ تَشْبِيهِ إِرَاءَةِ اللهِ تَعَالَى إِيَّاهُ هَذَا الْمَلَكُوتَ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ إِبْطَالِ رُبُوبِيَّةِ الْكَوَاكِبِ بِإِرَاءَتِهِ ضَلَالَ أَبِيهِ وَقَوْمِهِ فِي عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ، وَمِنْ إِسْنَادِ هَذِهِ الْإِرَاءَةِ إِلَى اللهِ تَعَالَى الدَّالِّ عَلَى تَمْيِيزِ مَا رَأَى بِهَا عَلَى مَا كَانَ يَرَى قَبْلَهَا، وَمِنْ تَعْلِيلِ الْإِرَاءَةِ بِمَا تَقَدَّمَ، وَمِنَ التَّعْقِيبِ عَلَى ذَلِكَ بِمُحَاجَّةِ قَوْمِهِ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى إِنَّهُ آتَاهُ الْحُجَّةَ عَلَيْهِمْ.

(فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ) أَيْ فَلَمَّا غَرَبَ هَذَا الْكَوْكَبُ وَاحْتَجَبَ، قَالَ: لَا أُحِبُّ مَنْ يَغِيبُ وَيَحْتَجِبُ، وَيَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مُحِبِّهِ الْأُفُقُ أَوْ غَيْرُهُ مِنَ الْحُجُبِ، وَأَشَارَ بِقَوْلِهِ " الْآفِلِينَ " إِلَى أَنَّ هَذَا الْكَوْكَبَ فَرْدٌ مِنْ أَفْرَادِ جِنْسٍ كُلُّهُ يَغِيبُ وَيَأْفُلُ، وَالْعَاقِلُ السَّلِيمُ الْفِطْرَةِ وَالذَّوْقِ لَا يَخْتَارُ لِنَفْسِهِ حُبَّ شَيْءٍ يَغِيبُ عَنْهُ وَيُوحِشُهُ فَقْدُ جَمَالِهِ وَكَمَالِهِ، حَتَّى فِي الْحُبِّ الَّذِي هُوَ دُونَ حُبِّ الْعِبَادَةِ، فَإِنْ أَحَبَّ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ بِجَاذِبِ الشَّهْوَةِ دُونَ الِاخْتِيَارِ فَلَا يَلْبَثُ أَنْ يَسْلُوَ عَنْهُ بِنُزُوحِ الدَّارِ وَالِاحْتِجَابِ عَنِ الْأَبْصَارِ، إِلَّا أَنْ يَصِيرَ حُبُّهُ مِنْ هَوَسِ الْخَيَالِ، وَفُنُونِ الْجُنُونِ وَالْخَبَالِ، وَأَمَّا حُبُّ الْعِبَادَةِ الَّذِي هُوَ أَعْلَى الْحُبِّ وَأَكْمَلُهُ - لِأَنَّهُ مِنْ مُقْتَضَى الْفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ وَالْعَقْلِ الصَّحِيحِ - فَلَا يَجُوزُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ لِلرَّبِّ الْحَاضِرِ الْقَرِيبِ، السَّمِيعِ الْبَصِيرِ الرَّقِيبِ، الَّذِي لَا يَغِيبُ وَلَا يَأْفُلُ، وَلَا يَنْسَى وَلَا يَذْهَلُ، الظَّاهِرِ فِي كُلِّ

شَيْءٍ بِآيَاتِهِ وَتَجَلِّيهِ، الْبَاطِنِ فِي كُلِّ شَيْءٍ بِحِكْمَتِهِ وَلُطْفِهِ الْخَفِيِّ فِيهِ (لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) (6: 103) وَلَكِنْ تُشَاهِدُهُ الْبَصَائِرُ بِآثَارِ صِفَاتِهِ فِي الْخَلْقِ وَالتَّقْدِيرِ، وَسُلْطَانِهِ فِي التَّصَرُّفِ وَالتَّدْبِيرِ، وَمَا كَانَ لِيَخْفَى عَلَى الْخَلِيلِ الْأَوَّلِ مَا قَالَهُ الْخَلِيلُ الثَّانِي فِي مَقَامِ الْإِحْسَانِ،

ص: 465

وَمَا مِلَّتُهُ إِلَّا عَيْنُ مِلَّتِهِ فِي الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ، وَهُوَ " أَنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ " فَكَيْفَ يَعْبُدُ هَذِهِ الْكَوَاكِبَ الَّتِي تَأْفُلُ وَتُحْجَبُ عَنْ عَابِدِيهَا، وَيَخْفَى حَالُهُمْ عَلَيْهَا؟ ! .

وَقَدْ فَسَّرَ بَعْضُ النُّظَّارِ وَعُلَمَاءِ الْكَلَامِ الْأُفُولَ بِالِانْتِقَالِ مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ، وَجَعَلُوا هَذَا هُوَ الْمُنَافِي لِلرُّبُوبِيَّةِ؛ لِدَلَالَتِهِ عَلَى الْحُدُوثِ أَوِ الْإِمْكَانِ، وَهُوَ تَفْسِيرُ الشَّيْءِ بِمَا قَدْ يُبَايِنُهُ، فَإِنَّ الْمَحْفُوظَ عَنِ الْعَرَبِ أَنَّهَا اسْتَعْمَلَتِ الْأُفُولَ فِي غُرُوبِ الْقَمَرَيْنِ وَالنُّجُومِ، وَفِي اسْتِقْرَارِ الْحَمْلِ، وَكَذَا اللَّقَاحُ فِي الرَّحِمِ، فَعُلِمَ أَنَّ مُرَادَهَا مِنَ الْأَوَّلِ عَيْنُ مُرَادِهَا مِنَ الثَّانِي، وَهُوَ الْغُيُوبُ وَالْخَفَاءُ. وَقَدْ يَتَحَوَّلُ الشَّيْءُ وَيَنْتَقِلُ مِنْ مَكَانٍ إِلَى آخَرَ وَهُوَ ظَاهِرٌ غَيْرُ مُحْتَجِبٍ، وَفَسَّرَهُ بَعْضُهُمْ بِالتَّغَيُّرِ لِيَجْعَلُوهُ عِلَّةَ الْحُدُوثِ الْمُنَافِي لِلرُّبُوبِيَّةِ أَيْضًا، وَهُوَ غَلَطٌ كَسَابِقِهِ، فَإِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ لَا تَتَغَيَّرُ بِأُفُولِهَا، وَمَذْهَبُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ عُلَمَاءِ الْفَلَكِ - وَهُوَ الصَّحِيحُ - أَنَّ أُفُولَهَا إِنَّمَا يَكُونُ بِسَبَبِ حَرَكَةِ الْأَرْضِ لَا بِحَرَكَتِهَا هِيَ، وَأَنَّ حَرَكَتَهَا عَلَى مَحَاوِرِهَا وَحَرَكَةَ السَّيَّارَاتِ مِنَ الْمَغْرِبِ إِلَى الْمَشْرِقِ لَيْسَ مِنْ سَبَبِ أُفُولِهَا الْمُشَاهَدِ فِي شَيْءٍ، وَفِي الْكَلَامِ تَعْرِيضٌ لِطَيْفٌ بِجَهْلِ قَوْمِهِ فِي عِبَادَةِ الْكَوَاكِبِ بِأَنَّهُمْ يَعْبُدُونَ مَا يَحْتَجِبُ عَنْهُمْ، وَلَا يَدْرِي شَيْئًا مِنْ أَمْرِ عِبَادَتِهِمْ، وَهُوَ يَقْرُبُ مِنْ قَوْلِهِ لِأَبِيهِ بَعْدَ ذَلِكَ:(لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا)(19: 42) وَلَا يَظْهَرُ هَذَا التَّعْرِيضُ عَلَى قَوْلِ النُّظَّارِ فِي تَفْسِيرِ الْأُفُولِ ; فَإِنَّ قَوْمَ إِبْرَاهِيمَ لَمْ يَكُونُوا عَلَى شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ النَّظَرِيَّاتِ الْكَلَامِيَّةِ، بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْأَفْلَاكَ قَائِلِينَ بِرُبُوبِيَّتِهَا، وَبِقِدَمِهَا مَعَ حَرَكَتِهَا، وَمَا زَالَ الْفَلَاسِفَةُ وَالْفَلَكِيُّونَ يَقُولُونَ بِقِدَمِ الْحَرَكَةِ وَأَزَلِيَّتِهَا، وَعُلَمَاءُ الْكَوْنِ فِي هَذَا الْعَصْرِ يَعُدُّونَ الْحَرَكَةَ مَبْدَأَ وُجُودِ كُلَّ شَيْءٍ. وَأَنَّهَا مُلَازِمَةٌ لِلْوُجُودِ الْمُطْلَقِ مِنَ الْأَزَلِ إِلَى الْأَبَدِ.

وَقَدْ كَانَ الزَّمَخْشَرِيُّ مِنْ أُولَئِكَ النُّظَّارِ، وَقَدْ قَالَ بَعْدَ مَا يَأْتِي فِي الْقَمَرِ وَالشَّمْسِ:(فَإِنْ قُلْتَ) : لِمَ احْتَجَّ عَلَيْهِمْ بِالْأُفُولِ دُونَ الْبُزُوغِ وَكَلَاهُمَا انْتِقَالٌ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ؟

(قُلْتُ) : الِاحْتِجَاجُ بِالْأُفُولِ أَظْهَرُ؛ لِأَنَّهُ انْتِقَالٌ مَعَ خَفَاءٍ وَاحْتِجَابٍ. انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: إِنَّهُ مِنْ عُيُونِ نُكَتِهِ وَوُجُوهِ حَسَنَاتِهِ. انْتَهَى. وَالصَّوَابُ أَنَّ الْكَلَامَ كَانَ تَعْرِيضًا خَفِيًّا، لَا بُرْهَانًا نَظَرِيًّا جَلِيًّا، وَأَنَّ وَجْهَ مُنَافَاةِ الرُّبُوبِيَّةِ فِيهِ هُوَ الْخَفَاءُ وَالِاحْتِجَابُ وَالتَّعَدُّدُ، وَأَنَّ الْبُزُوغَ وَالظُّهُورَ لَمْ يُجْعَلْ فِيهِ مِمَّا يُنَافِي الرُّبُوبِيَّةَ، بَلْ بُنِيَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ بِهَا، فَإِنَّ مِنْ صِفَاتِ الرَّبِّ أَنْ يَكُونَ ظَاهِرًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ظُهُورًا كَظُهُورِ غَيْرِهِ مِنْ خَلْقِهِ كَمَا عُلِمَ مِمَّا تَقَدَّمَ آنِفًا.

(فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي) أَيْ فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ طَالِعًا مِنْ وَرَاءِ الْأُفُقِ أَوَّلَ طُلُوعِهِ قَالَ: هَذَا رَبِّي - عَلَى طَرِيقِ الْحِكَايَةِ لِمَا كَانُوا يَقُولُونَ تَمْهِيدًا لِإِبْطَالِهِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَقَدِ اسْتَعْمَلَتِ الْعَرَبُ هَذَا الْحَرْفَ فِي التَّعْبِيرِ عَنِ ابْتِدَاءِ طُلُوعِ النَّيِّرَاتِ وَأَوَّلِ طُلُوعِ النَّابِ. وَفِي بَزْغِ الْبَيْطَارِ وَالْحَاجِمِ لِلْجِلْدِ، وَهُوَ تَشْرِيطُهُ بِالْمِبْزَغِ ; وَلِذَلِكَ قَالُوا: إِنَّ مَعْنَى الْبَزْغِ الشَّقُّ،

ص: 466

فَالنَّيِّرَاتُ تَشُقُّ الظَّلَامَ بِطُلُوعِهَا، وَجَعَلَهُ بَعْضُهُمْ تَشْبِيهًا بِشَقِّ النَّابِ وَالسِّنِّ لِلَّثَةِ، وَشَقِّ الْبَيْطَارِ وَالْحَجَّامِ لِلْجِلْدِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ عليه الصلاة والسلام رَأَى الْكَوْكَبَ فِي لَيْلَةٍ، وَرَأَى الْقَمَرَ فِي اللَّيْلَةِ التَّالِيَةِ لَهَا كَمَا يُؤْخَذُ مِنَ الْعَطْفِ بِالْفَاءِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَا فَاصِلَ بَيْنَ لَيْلَةٍ وَأُخْرَى إِلَّا النَّهَارَ، وَهُوَ لَيْسَ بِمُظْهِرٍ لِلْكَوَاكِبِ وَالْقَمَرِ؛ فَكَأَنَّهُ غَيْرُ فَاصِلٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَدْ رَأَى الْكَوْكَبَ وَالْقَمَرَ فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ، وَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ اللَّيْلَةُ هِيَ الَّتِي رَأَى الشَّمْسَ فِي أَوَّلِ نَهَارِهَا - وَهُوَ الْمُتَبَادِرُ - وَجَبَ أَنْ يَكُونَ رَأَى الْكَوْكَبَ فِي أَوَّلِ اللَّيْلِ هَاوِيًا لِلْغُرُوبِ، وَبَعْدَ أُفُولِهِ بِقَلِيلٍ بَزَغَ الْقَمَرُ، وَأَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي وَسَطِ الشَّهْرِ، وَأَنَّهُ سَهِرَ مَعَ بَعْضِ قَوْمِهِ اللَّيْلَ كُلَّهُ حَتَّى أَفَلَ الْقَمَرُ فِي آخِرِهِ، وَكَثِيرًا مَا يَفْعَلُ النَّاسُ هَذَا، وَلَا سِيَّمَا فِي اللَّيَالِي الْبِيضِ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ غَرَضٌ دِينِيٌّ أَوْ عِلْمِيٌّ مِنْهُ، وَقَدْ يُتَصَوَّرُ وُقُوعُ ذَلِكَ فِي بَعْضِ اللَّيَالِي الْقَلِيلَةِ مِنَ السَّنَةِ كَاللَّيْلَةِ الْخَامِسَةِ عَشْرَةَ مِنْ شَهْرِ رَجَبٍ مِنْ سَنَتِنَا هَذِهِ (سَنَةُ 1336 هـ) فَإِنَّ الشَّمْسَ تَغْرُبُ فِيهَا عَنْ أُفُقِ مِصْرَ السَّاعَةَ 6 وَالدَّقِيقَةَ 28 وَيَطْلُعُ الْقَمَرُ بَعْدَ غُرُوبِهَا بِعِشْرِينَ دَقِيقَةً، وَفِي هَذِهِ الْمُدَّةِ يُحْتَمَلُ أَنْ يَرَى بَعْضَ السَّيَّارَاتِ أَوْ نَحْوِهَا مِنَ النُّجُومِ الْمُشْرِقَةِ الْمُمْتَازَةِ - كَالشِّعْرَى - هَاوِيًا لِلْغُرُوبِ، وَيَغْرُبُ بَعْدَهَا بِرُبْعِ سَاعَةٍ، وَيَغْرُبُ الْقَمَرُ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ بَعْدَ انْتِهَاءِ السَّاعَةِ الرَّابِعَةِ بِدَقِيقَتَيْنِ مِنْ صَبِيحَتِهَا، وَتُشْرِقُ الشَّمْسُ بَعْدَ غُرُوبِهِ بِأَرْبَعَ عَشْرَةَ دَقِيقَةً، وَلَكِنْ يُعَكِّرُ عَلَى هَذَا أَنَّهُ لَا يَظْهَرُ فِيهِ جَنُّ اللَّيْلِ، وَهُوَ إِظْلَامُهُ. وَإِنَّمَا يَتَعَيَّنُ تَصْوِيرُ وُقُوعِ مَا ذُكِرَ

فِي مِثْلِ هَذِهِ اللَّيْلَةِ مِنَ الشَّهْرِ وَالْقَمَرُ بَدْرٌ وَالشَّمْسُ فِي الدَّرَجَةِ الْخَامِسَةِ مِنْ بُرْجِ الثَّوْرِ، إِذَا تَعَيَّنَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ وَصْفُ الْقَمَرِ وَالشَّمْسِ بِالْبُزُوغِ إِلَّا فِي أَوَّلِ طُلُوعِهِمَا مِنْ وَرَاءِ أُفُقِ الْقُطْرِ كُلِّهِ، وَقَدْ يُقَالُ: إِنَّ هَذَا غَيْرُ مُتَعَيِّنٍ بِالْوَصْفِ، وَأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: رَأَيْتُ الْقَمَرَ بَازِغًا وَلَوْ بَعْدَ طُلُوعِهِ بِسَاعَاتٍ، كَمَا يُقَالُ: رَأَيْتُ نَابَ الْبَعِيرِ بَازِغًا بَعْدَ طُلُوعِهِ بِأَيَّامٍ. ثُمَّ إِنَّ الْبُزُوغَ وَالْغُرُوبَ مِنْهُمَا مَا هُوَ حَقِيقِيٌّ عُرْفًا وَمَا هُوَ نِسْبِيٌّ، فَمَنْ كَانَ فِي مَكَانٍ مُطَمْئِنٍ أَوْ مُحَاطٍ بِالْبُنْيَانِ وَالشَّجَرِ، يَبْزُغُ عَلَيْهِ الْقَمَرُ وَالشَّمْسُ بَعْدَ بُزُوغِهِمَا فِي أُفُقِ قُطْرِهِ، وَيَغْرُبَانِ عَنْهُ قَبْلَ غُرُوبِهِمَا عَنْ ذَلِكَ الْأُفُقِ، وَقَدْ يَكُونُ فِي مَكَانٍ يَحْجُبُ مَشْرِقَهُ مَا ذُكِرَ دُونَ مَغْرِبِهِ وَبِالْعَكْسِ - فَيَخْتَلِفُ الْبُزُوغُ وَالْغُرُوبُ بِاخْتِلَافِ ذَلِكَ. وَبِهَذَا يَتَّسِعُ مَجَالُ احْتِمَالِ وُقُوعِ مَا ذُكِرَ فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ وَصَبِيحَتِهَا بِغَيْرِ تَكَلُّفٍ. وَالْكَلَامُ فِي الْآيَاتِ مُرَتَّبٌ عَلَى رُؤْيَةِ الْكَوْكَبِ رُؤْيَةً غَيْرَ مُقَيَّدَةٍ بِحَالٍ وَلَا وَصْفٍ، وَعَلَى رُؤْيَةِ الْقَمَرِ وَالشَّمْسِ بَازِغَيْنِ لَا عَلَى بُزُوغِهَا، فَالْأَوَّلُ يَصْدُقُ بِرُؤْيَتِهِ قُبَيْلَ الْغُرُوبِ فِي أَوَّلِ جُنُونِ اللَّيْلِ، وَالْآخَرَانِ يُصَدَّقَانِ بِالرُّؤْيَةِ فِي حَالِ الْبُزُوغِ النِّسْبِيِّ، وَقَدْ غَفَلَ عَنْ هَذِهِ الدِّقَّةِ فِي تَعْبِيرِ التَّنْزِيلِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ رُؤْيَةَ مَا ذُكِرَ لَا يُتَصَوَّرُ وُقُوعُهُ فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ وَصَبِيحَتِهَا، وَمَنْ فَرَضَ لِذَلِكَ وُجُودَ حَالٍ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ الْخَالِي مِنَ الْجِبَالِ.

(فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ) أَيْ: فَلَمَّا أَفَلَ الْقَمَرُ كَالْكَوْكَبِ،

ص: 467

وَهُوَ أَكْبَرُ مِنْهُ مَنْظَرًا وَأَبْهَى نُورًا مِنَ الْأَرْضِ، قَالَ مُسْمِعًا مَنْ حَوْلِهِ مِنْ قَوْمِهِ: لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي الَّذِي خَلَقَنِي إِلَى الْعِبَادَةِ الَّتِي تُرْضِيهِ بِإِعْلَامٍ خَاصٍّ مِنْ لَدُنْهُ لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ عَمَّا يَجِبُ أَنْ يُعْبَدَ بِهِ، فَيَتَّبِعُونَ فِيهِ أَهْوَاءَهُمْ أَوِ اجْتِهَادَهُمْ، فَلَا يَكُونُونَ عَابِدِينَ لَهُ بِمَا يُرْضِيهِ، وَلَا يَقْتَضِي أَنَّ كُلَّ ضَالٍّ يَعْبُدُ الْأَصْنَامَ أَوِ الْكَوَاكِبَ، بَلْ هَذَا تَعْرِيضٌ آخَرُ بِضَلَالِ قَوْمِهِ يُقْرُبُ مِنَ التَّصْرِيحِ، وَإِرْشَادٌ إِلَى تَوَقُّفِ هِدَايَةِ الدِّينِ عَلَى الْوَحْيِ الْإِلَهِيِّ.

قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ فِي " الِانْتِصَافِ ": وَالتَّعْرِيضُ بِضَلَالِهِمْ ثَانِيًا أَصْرَحُ وَأَقْوَى مِنْ قَوْلِهِ: " لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ " وَإِنَّمَا تَرَقَّى فِي ذَلِكَ لِأَنَّ الْخُصُومَ قَدْ قَامَتْ عَلَيْهِمْ بِالِاسْتِدْلَالِ الْأَوَّلِ حُجَّةٌ فَأَنِسُوا بِالْقَدْحِ فِي مُعْتَقَدِهِمْ، وَلَوْ قِيلَ هَذَا فِي الْأَوَّلِ فَلَعَلَّهُمْ كَانُوا يَنْفِرُونَ وَلَا يَصْغُونَ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ، فَمَا عَرَّضَ - صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ - بِأَنَّهُمْ فِي ضَلَالَةٍ إِلَّا بَعْدَ أَنْ وَثِقَ بِإِصْغَائِهِمْ إِلَى إِتْمَامِ الْمَقْصُودِ وَاسْتِمَاعِهِ إِلَى آخِرِهِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ تَرَقَّى

النَّوْبَةَ الثَّالِثَةَ إِلَى التَّصْرِيحِ بِالْبَرَاءَةِ مِنْهُمْ، وَالتَّقْرِيعِ بِأَنَّهُمْ عَلَى شِرْكٍ بَيِّنٍ، ثُمَّ قِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ، وَتَبَلَّجَ الْحَقُّ، وَبَلَغَ مِنَ الظُّهُورِ غَايَةَ الْمَقْصُودِ. انْتَهَى. وَذَلِكَ قَوْلُهُ عز وجل:

(فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي) أَيْ قَالَ مُشِيرًا إِلَيْهَا عَلَى الطَّرِيقَةِ الَّتِي بَيَّنَّاهَا فِيمَا قَبْلَهُ: هَذَا الَّذِي أَرَى الْآنَ أَوِ الَّذِي أُشِيرُ إِلَيْهِ رَبِّي. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: جَعَلَ الْمُبْتَدَأَ مِثْلَ الْخَبَرِ بِكَوْنِهِمَا عِبَارَةً عَنْ شَيْءٍ وَاحِدٍ، كَقَوْلِهِمْ: مَا جَاءَتْ حَاجَتُكَ، وَمَنْ كَانَتْ أُمُّكَ. (ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنَّ قَالُوا) وَكَانَ اخْتِيَارُ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ وَاجِبًا لِصِيَانَةِ الرَّبِّ عَنْ شُبْهَةِ التَّأْنِيثِ، أَلَا تَرَاهُمْ قَالُوا فِي صِفَةِ اللهِ: عَلَّامٌ، وَلَمْ يَقُولُوا عَلَّامَةٌ - وَإِنْ كَانَ الْعَلَّامَةُ أَبْلَغَ - احْتِرَازًا مِنْ عَلَامَةِ التَّأْنِيثِ. انْتَهَى. وَجَوَّزَ أَبُو حَيَّانَ أَنْ يَكُونَ تَذْكِيرُ الْإِشَارَةِ إِلَى الشَّمْسِ حِكَايَةً لِمَا قِيلَ بِلُغَةِ الْعَجَمِ، وَأَكْثَرُ لُغَاتِهِمْ لَا تُمَيِّزُ بَيْنَ الْمُذَكَّرِ وَالْمُؤَنَّثِ فِي الْإِشَارَةِ وَلَا فِي الضَّمَائِرِ. وَنُوقِشَ فِي كَوْنِ ذَلِكَ مُقْتَضَى الْحِكَايَةِ، وَفِي دَعْوَى كَوْنِ لُغَةِ إِبْرَاهِيمَ مِنْ تِلْكَ الْأَعْجَمِيَّةِ، وَقَدْ سَبَقَ لَنَا الْقَوْلُ بِأَنَّهَا عَرَبِيَّةٌ مَمْزُوجَةٌ، عَلَى أَنَّ بَعْضَ الْأَعَاجِمِ يُذَكِّرُونَ الشَّمْسَ وَيُؤَنِّثُونَ الْقَمَرَ. وَسَيَأْتِي فِيمَا نَذْكُرُ مِنْ عَقَائِدِ قَوْمِ إِبْرَاهِيمَ أَنَّ لِلشَّمْسِ زَوْجَةً.

وَأَمَّا قَوْلُهُ - صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ -: (هَذَا أَكْبَرُ) فَهُوَ تَأْكِيدٌ لِإِظْهَارِ النَّصَفَةِ لِلْقَوْمِ، وَمُبَالَغَةٌ فِي تِلْكَ الْمُجَارَاةِ الظَّاهِرَةِ لَهُمْ، وَتَمْهِيدٌ قَوِيٌّ لِإِقَامَةِ الْحُجَّةِ الْبَالِغَةِ عَلَيْهِمْ، وَاسْتِدْرَاجٍ لَهُمْ إِلَى التَّمَادِي فِي الِاسْتِمَاعِ بَعْدَ ذَلِكَ التَّعْرِيضِ الَّذِي كَانَ يَخْشَى أَنْ يَصُدَّهُمْ عَنْهُ. وَمَعْنَاهُ أَنَّ هَذَا أَكْبَرُ مِنَ الْقَمَرِ وَالْكَوَاكِبِ قَدْرًا، وَأَعْظَمُ ضِيَاءً وَنُورًا، فَهُوَ إِذًا أَجْدَرُ مِنْهُمَا بِالرُّبُوبِيَّةِ، إِنْ كَانَ الْمَدَارُ فِيهَا عَلَى التَّفَاضُلِ وَالْخُصُوصِيَّةِ.

(فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَاقَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ) أَيْ فَلَمَّا أَفَلَتْ كَمَا أَفَلَ غَيْرُهَا، وَاحْتَجَبَ

ص: 468

ضَوْؤُهَا الْمَشْرِقُ وَذَهَبَ سُلْطَانُهَا، وَكَانَتِ الْوَحْشَةُ بِذَلِكَ أَشَدَّ مِنَ الْوَحْشَةِ بِاحْتِجَابِ الْكَوْكَبِ وَالْقَمَرِ - صَرَّحَ عليه الصلاة والسلام بِالنَّتِيجَةِ الْمُرَادَةِ مِنْ ذَلِكَ التَّعْرِيضِ، فَتَبَرَّأَ مِنْ شِرْكِ قَوْمِهِ الَّذِي أَظْهَرَ مُجَارَاتَهُمْ عَلَيْهِ فِي لَيْلَتِهِ وَيَوْمِهِ. وَالْبَرَاءَةُ مِنَ الشَّيْءِ: التَّفَصِّي مِنْهُ وَالتَّنَحِّي عَنْهُ لِاسْتِقْبَاحِهِ، فَهُوَ كَالْبُرْءِ مِنَ الْمَرَضِ، وَهُوَ السَّلَامَةُ مِنْ أَلَمِهِ وَضَرَرِهِ، وَ " مَا " مَصْدَرِيَّةٌ أَوْ مَوْصُولَةٌ، أَيْ: إِنِّي بَرِيءٌ مِنْ شِرْكِكُمْ بِاللهِ تَعَالَى أَوْ مِنْ هَذِهِ الْمَعْبُودَاتِ الَّتِي جَعَلْتُمُوهَا أَرْبَابًا وَآلِهَةً مَعَ اللهِ تَعَالَى. فَيَشْمَلُ الْكَوَاكِبَ، وَالْأَصْنَامَ، وَكُلَّ مَا عَبَدُوهُ وَهُوَ كَثِيرٌ.

(إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) تَبَرَّأَ مِنْ شِرْكِهِمْ وَقَفَّى عَلَى تِلْكَ الْبَرَاءَةِ بِبَيَانِ عَقِيدَتِهِ الْحَقُّ، وَهِيَ التَّوْحِيدُ الْخَالِصُ، فَقَالَ: إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ وَقَصْدِيَ، وَجَعَلْتُ تَوَجُّهِي فِي عِبَادَتِي لِلرَّبِّ الْخَالِقِ الَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، أَيِ: ابْتَدَأَ خَلْقَهُمَا بِمَا فَتَقَ مِنْ رَتْقِ مَادَّتِهِمَا وَهِيَ دُخَانٌ، وَأَكْمَلَ خَلْقَهُنَّ أَطْوَارًا فِي سِتَّةِ أَزْمَانٍ، فَهُوَ خَالِقُ هَذِهِ الْكَوَاكِبِ النَّيِّرَاتِ، وَخَالِقُكُمْ وَمَا تَصْنَعُونَ مِنْهُ هَذِهِ الْأَصْنَامَ مِنْ مَعْدِنٍ وَنَبَاتٍ، وَتَوْجِيهُ الْوَجْهِ هُنَا بِمَعْنَى إِسْلَامِهِ فِي قَوْلِهِ عز وجل:(وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا)(40: 125) وَقَوْلُهُ: (وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ)(31: 22) الْآيَةَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ الْأُولَى أَنَّ إِسْلَامَ الْوَجْهِ لَهُ تَعَالَى عِبَارَةٌ عَنْ تَوَجُّهِ الْقَلْبِ، فَإِنَّ الْوَجْهَ أَعْظَمُ مَظْهَرٍ لِمَا فِي النَّفْسِ مِنَ الْإِقْبَالِ، وَالْإِعْرَاضِ، وَالْخُشُوعِ، وَالسُّرُورِ، وَالْكَآبَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِإِسْلَامِهِ وَبِتَوْجِيهِهِ لِلَّهِ تَعَالَى: تَرْكُهُ لَهُ يَتَوَجَّهُ إِلَيْهِ وَحْدَهُ فِي طَلَبِ حَاجَتِهِ، وَإِخْلَاصِ عُبُودِيَّتِهِ، فَهُوَ وَحْدُهُ الرَّبُّ الْمُسْتَحِقُّ لِلْعِبَادَةِ، الْقَادِرُ عَلَى الْأَجْرِ وَالْإِثَابَةِ. وَمِنَ الشَّوَاهِدِ عَلَى اسْتِعْمَالِ الْوَجْهِ بِمَعْنَى الْقَلْبِ حَدِيثُ " لَتُسَوُّنَّ صُفُوفَكُمْ أَوْ لَيُخَالِفَنَّ اللهُ بَيْنَ وُجُوهِكُمْ " وَفِي رِوَايَةٍ " قُلُوبِكُمْ " رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ. وَ " وَجَّهَ " يَتَعَدَّى بِاللَّامِ وَإِلَى كَأَسْلَمَ، وَتَقَدَّمَ شَاهِدُ " أَسْلَمَ " آنِفًا، وَلَمْ يَتَكَرَّرْ " وَجْهٌ " فِي الْقُرْآنِ بِهَذَا الْمَعْنَى، وَإِلَّا فَاللَّامُ هُنَا بِمَعْنَى " إِلَى " كَقَوْلِهِ تَعَالَى:(بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا)(99: 5) وَقَوْلُهُ: (لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ)(6: 28) وَاخْتَرَعَ الرَّازِيُّ لِلَّامِ هُنَا نُكْتَةً سَمَّاهَا دَقِيقَةً، فَقَالَ: الْمَعْنَى أَنَّ تَوْجِيهَ وَجْهِ الْقَلْبِ لَيْسَ إِلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مُتَعَالٍ عَنِ الْحَيِّزِ وَالْجِهَةِ، بَلْ إِلَى خِدْمَتِهِ وَطَاعَتِهِ لِأَجْلِ عُبُودِيَّتِهِ إِلَخْ. فَجَعَلَ اللَّامَ " دَلِيلًا ظَاهِرًا " عَلَى كَوْنِ الْمَعْبُودِ مُتَعَالِيًا عَنِ الْحَيِّزِ وَالْجِهَةِ. وَهَذَا تَحَكُّمٌ مَرْدُودٌ لَا تَقْبَلُهُ اللُّغَةُ وَلَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْلُ، وَلَا يَتَّفِقُ مَعَ مَا وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ فِي مَعْنَى تَوْجِيهِ الْوَجْهِ. أَمَّا إِبَاءُ اللُّغَةِ لَهُ فَلِأَنَّ اللَّامَ لَوْ كَانَتْ لِلتَّعْلِيلِ مَعَ حَذْفِ مُضَافٍ لَكَانَتِ الْآيَةُ خَالِيَةً مِنَ الْمَقْصُودِ مِنْهَا بِالذَّاتِ، وَهُوَ كَوْنُ تَوْجِيهِ الْقَلْبِ بِالْعِبَادَةِ إِلَى اللهِ تَعَالَى فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ ; إِذِ التَّعْلِيلُ عَلَى مَا فِيهِ مِنَ التَّكَلُّفِ يَصْدُقُ بِالتَّوَجُّهِ إِلَى غَيْرِهِ تَعَالَى تَوَسُّلًا إِلَيْهِ، كَالتَّوَجُّهِ إِلَى الْكَوْكَبِ وَغَيْرِهِ، لِأَجْلِ خَالِقِهِ لَا لِأَجْلِهِ بِاعْتِقَادِ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي يُقَرِّبُ إِلَيْهِ زُلْفَى، أَوْ يَشْفَعُ عِنْدَهُ. وَأَمَّا الْعَقْلُ فَإِنَّهُ يُدْرِكُ أَنَّ تَوَجُّهَ الْقَلْب

ِ

ص: 469

لَا يَنْحَصِرُ فِي كَوْنِهِ إِلَى الْحَيِّزِ وَالْجِهَةِ الْمَحْصُورَةِ، وَأَمَّا الْقُرْآنُ فَقَدْ عَدَّى إِسْلَامَ الْوَجْهِ بِ (إِلَى) فِي سُورَةِ لُقْمَانَ وَبِاللَّامِ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ، وَهِيَ بِمَعْنَى تَوْجِيهِهِ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا.

هَذَا وَإِنَّ التَّعْبِيرَ بِفَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ هُوَ وَجْهُ الْحُجَّةِ فِي الْآيَةِ، فَإِنَّ مَا فُتِنَ بِهِ الْقَوْمُ مِنْ تَأْثِيرِ النَّيِّرَاتِ فِي الْأَرْضِ - إِنْ صَحَّ - لَمْ يَعْدُ أَنْ يَكُونَ خَاصِّيَّةً لِبَعْضِ أَجْرَامِ السَّمَاءِ، وَهِيَ لَمْ تُوجِدْ نَفْسَهَا وَلَا صِفَاتَهَا وَخَوَاصَّهَا، فَالْوَاجِبُ أَنْ يُنْظَرَ فِي أَمْرِهَا مِنْ حَيْثُ هِيَ جُزْءٌ أَوْ أَجْزَاءٌ مِنْ مَجْمُوعِ الْعَالَمِ، وَحِينَئِذٍ يَرَاهَا النَّاظِرُ الْمُتَفَكِّرُ خَاضِعَةً لِتَدْبِيرِ مَنْ فَطَرَ الْعَالَمَ الْكَبِيرَ الَّتِي هِيَ بَعْضُهُ، وَيَعْلَمُ أَنَّهُ هُوَ الْحَقِيقُ بِالْعِبَادَةِ مِنْ دُونِهَا؛ لِأَنَّهُ هُوَ الرَّبُّ الْحَقُّ الْمُدَبِّرُ لَهَا وَلِغَيْرِهَا، وَإِنَّمَا يَتَجَلَّى الِاسْتِدْلَالُ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ الرُّبُوبِيَّةِ وَالْإِلَهِيَّةِ بِالنَّظَرِ فِي جُمْلَةِ الْعَالِمِ، وَكَوْنِهِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ لَهُ خَالِقٌ مُدَبِّرٌ وَاحِدٌ ; إِذْ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَسْتَقِيمَ نِظَامُ الْمُتَعَدِّدِ إِلَّا إِذَا كَانَ لَهُ جِهَةٌ وَاحِدَةٌ كَمَا بَيَّنَاهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، وَسَيُعَادُ إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى فِي تَفْسِيرِ:(لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتَا)(21: 22) وَأَمَّا الِاسْتِدْلَالُ بِأَجْزَاءِ الْكَوْنِ فَيَتَوَلَّدُ مِنْهُ شُبَهَاتٌ وَمُشْكِلَاتٌ كَثِيرَةٌ.

وَالْحَنِيفُ صِفَةٌ مِنَ الْحَنَفِ، وَهُوَ بِالتَّحْرِيكِ الْمَيْلُ عَنِ الضَّلَالِ وَالْعِوَجِ إِلَى الِاسْتِقَامَةِ، وَضِدُّهُ الْجَنَفُ بِالْجِيمِ. فَقَوْلُهُ حَنِيفًا حَالٌ، أَيْ: وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لَهُ حَالَ كَوْنِي مَائِلًا عَنْ مَعْبُودَاتِكُمُ الْبَاطِلَةِ وَعَنْ غَيْرِهَا، فَتَوَجُّهِي وَإِسْلَامِي خَالِصٌ لَهُ لَا يَشُوبُهُ شِرْكٌ وَلَا رِيَاءٌ، وَمَا أَنَا مِنَ الْقَوْمِ الْمُشْرِكِينَ بِهِ الَّذِينَ يَتَوَجَّهُونَ إِلَى غَيْرِهِ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ، كَالْكَوَاكِبِ أَوِ الْمَلَائِكَةِ أَوِ الْمُلُوكِ وَالصَّالِحِينَ، أَوْ مَا يُتَّخَذُ لَهُمْ مِنَ الْأَصْنَامِ وَالتَّمَاثِيلِ. تَبَرَّأَ أَوَّلًا مِنْ شِرْكِهِمْ أَوْ شُرَكَائِهِمْ، ثُمَّ تَبَرَّأَ مِنْهُمْ أَنْفُسِهِمْ:(قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ)(60: 4) رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ أَنَّ قَوْمَ إِبْرَاهِيمَ قَالُوا حِينَ قَالَ: إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ -: مَا جِئْتَ بِشَيْءٍ وَنَحْنُ نَعْبُدُهُ وَتَتَوَجَّهُهُ. فَرَدَّ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُ حَنِيفٌ، أَيْ مُخْلِصٌ لَهُ، لَا يُشْرِكُ بِهِ كَمَا يُشْرِكُونَ. انْتَهَى بِالْمَعْنَى.

وَفِي الْآيَاتِ قِرَاءَاتٌ لَا تَتَعَلَّقُ بِالْمَعْنَى: كَفَتْحِ يَاءِ " إِنَّى " وَسُكُونِهَا، وَإِمَالَةِ " رَأَى " وَكَسْرِ

الرَّاءِ وَالْهَمْزَةِ فِيهَا، وَلَكِنَّ قِرَاءَةَ يَعْقُوبَ ضَمُّ " آزَرَ " عَلَى النِّدَاءِ، فَهِيَ دَلِيلٌ عَلَى كَوْنِهِ اسْمًا عَلَمًا؛ لِأَنَّ حَذْفَ حَرْفِ النِّدَاءِ خَاصٌّ بِالْعِلْمِ فِي الْفَصِيحِ، وَغَيْرُهُ شَاذٌّ.

(مَسَائِلُ مُتَمِّمَةٌ لِتَفْسِيرِ الْآيَاتِ)

(الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي عَقَائِدِ قَوْمِ إِبْرَاهِيمَ صلى الله عليه وسلم

تَقَدَّمَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْكَوَاكِبَ وَالْأَصْنَامَ، وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: إِنَّهُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ اللهَ تَعَالَى أَيْضًا، وَيُشْرِكُونَ مَا ذُكِرَ بِهِ، وَكُلُّ ذَلِكَ صَحِيحٌ دَلَّتْ عَلَيْهِ آثَارُ الْكَلْدَانِيِّينَ الَّتِي اكْتُشِفَتْ فِي الْعِرَاقِ. وَقَدْ أَثْبَتَ بَيْرُوسُوسُ وَسِنِيلُوسُ أَنَّ عُلَمَاءَهُمْ وَكُهَّانَهُمْ كَانُوا يَعْرِفُونَ

ص: 470

حَقِيقَةَ التَّوْحِيدِ. وَلَكِنْ كَانُوا يَدِينُونَ بِهَا فِي أَنْفُسِهِمْ وَلَا يُبِيحُونَهَا لِلْعَامَّةِ، وَأَنَّ الْيُونَانَ أَخَذُوا هَذَا النِّفَاقَ عَنْهُمْ. وَلَعَلَّ الصَّوَابَ أَنَّ الَّذِينَ أَخَذُوا عَنْهُمْ أَوَّلًا هُمْ قُدَمَاءُ الْمِصْرِيِّينَ، فَقَدْ كَانَ التَّوْحِيدُ مُنْتَهَى عِلْمِ حُكَمَائِهِمْ، وَكَانُوا يَكْتُمُونَهُ عَنِ الْعَامَّةِ ; لِأَنَّ اسْتِعْبَادَ الْمُلُوكِ الَّذِينَ هُمْ أَعْوَانُهُمْ لَهَا لَا يَدُومُ إِلَّا بِالْوَثَنِيَّةِ كَمَا يُعْلَمُ مِمَّا بَيَّنَاهُ فِي التَّفْسِيرِ وَغَيْرِهِ مِرَارًا، وَالْيُونَانُ اقْتَبَسُوا مِنْ قُدَمَاءِ الْمِصْرِيِّينَ. عَلَى أَنَّ هِنْرِي رُولِنْسُنْ مِنْ مُدَقِّقِي مُؤَرِّخِي أُورُبَّةَ قَالَ: إِنَّ أُمَّةً مِنْ ضِفَافِ الدَّجْلَةِ وَالْفُرَاتِ ارْتَحَلَتْ إِلَى أُورُبَّةَ بِتِلْكَ الْعَقَائِدِ مَنْقُوشَةً فِي صَفَائِحِ الْآجُرِّ.

مِنْ آلِهَةِ الْكَلْدَانِيِّينَ (إِلْ) وَهِيَ كَلِمَةٌ سَامِيَّةٌ عُرِفَتْ فِي الْعَرَبِيَّةِ وَالسُّرْيَانِيَّةِ وَالْعِبْرَانِيَّةِ، قَالَ صَاحِبُ الْقَامُوسِ: وَالْإِلُّ الرُّبُوبِيَّةُ، وَاسْمُ اللهِ تَعَالَى، وَكُلُّ اسْمٍ آخِرُهُ " إِلْ " وَ " إِيلُ " فَمُضَافٌ إِلَى اللهِ تَعَالَى، وَقَالَ: أَلَّ الْمَرِيضُ وَالْحَزِينُ يَئِلُّ أَلَّا وَأَلَلًا: أَنَّ وَحَنَّ، وَرَفَعَ صَوْتَهُ بِالدُّعَاءِ. وَقَالَ فِي مَادَّةِ (أي ل) إِيلُ - بِالْكَسْرِ - اسْمُ اللهِ تَعَالَى، وَفِي لِسَانِ الْعَرَبِ بَحْثٌ فِي كَوْنِ الْإِلِّ مِنْ أَسْمَاءِ اللهِ تَعَالَى، وَلَكِنَّهُ نَقَلَهُ عَنِ ابْنِ سَيِّدِهِ، ثُمَّ قَالَ: وَالْإِلُّ الرُّبُوبِيَّةُ، وَالْأُلُّ - بِالضَّمِّ - الْأَوَّلُ فِي بَعْضِ اللُّغَاتِ، وَلَيْسَ مِنْ لَفْظِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ قَالَ فِي (إِيلٌ) مِنْ أَسْمَاءِ اللهِ عز وجل عِبْرَانِيٌّ أَوْ سُرْيَانِيٌّ. ثُمَّ نُقِلَ عَنِ ابْنِ الْكَلْبِيِّ أَنَّ جِبْرَائِيلَ وَشَرَاحِيلَ وَأَشْبَاهَهُمَا كَشُرَحْبِيلَ تُنْسَبُ إِلَى الرُّبُوبِيَّةِ " لِأَنَّ إِيلًا لُغَةٌ فِي " إِلٍّ " وَهُوَ اللهُ عز وجل، كَقَوْلِهِمْ: عَبْدُ اللهِ وَتَيْمُ اللهِ " أَقُولُ: وَنَقَلَ مِثْلَهُ فِي (إِلٍّ) وَضَعَّفَهُ بِمَنْعِ جِبْرِيلَ وَمَا أَشْبَهَهُ مِنَ الصَّرْفِ، أَيْ دُونَ شُرَحْبِيلَ وَشِهْمِيلَ مِنْ أَسْمَاءِ الرَّبِّ،

وَنَقَلَ عَنْ أَبِي مَنْصُورٍ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إِيلُ عُرِّبَ فَقِيلَ: إِلٌّ. ثُمَّ قَالَ فِي مَادَّةِ (ال هـ) وَقَدْ سَمَّتِ الْعَرَبُ الشَّمْسَ لَمَّا عَبَدُوهَا إِلَهَةً، وَالْإِلَهَةُ الشَّمْسُ الْحَارَّةُ - حُكِيَ عَنْ ثَعْلَبٍ. وَالْأَلِيهَةُ وَالْأَلَاهَةُ (بِالْفَتْحِ وَالْكَسْرِ) وَأُلَاهَةٌ (مَضْمُومَةُ الْهَمْزَةِ غَيْرُ مُعَرَّفَةٍ) كُلُّهُ الشَّمْسُ. . إِلَخْ. ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ: الْأَلَاهَةُ الْأُلُوهَةُ وَالْأُلُوهِيَّةُ: الْعِبَادَةُ، وَذَكَرَ عِنْدَ تَفْسِيرِ الْإِلَهِ بِالْمَعْبُودِ فِي أَوَّلِ الْمَادَّةِ قَوْلَهُمْ: إِلَهٌ بَيْنَ الْإِلَهَةِ وَالْإِلَهِيَّةِ وَالْأُلْهَانِيَّةُ، وَأَنَّ أَصْلَهُ مِنْ أَلِهَ يَأْلُهُ (مِنْ بَابِ عَلِمَ) إِذَا تَحَيَّرَ.

هَذَا وَإِنَّ دَلَالَةَ مَادَّةِ " أَل هـ " عَلَى الْعِبَادَةِ وَالْمَعْبُودِ سَامِيَّةٌ قَدِيمَةٌ مَنْقُولَةٌ عَنِ الْكَلْدَانِيِّينَ وَغَيْرِهِمْ. قَالَ الْبُسْتَانِيُّ فِي دَائِرَةِ الْمَعَارِفِ عِنْدَ تَعْرِيفِ اسْمِ (اللهِ) بِأَنَّهُ اسْمٌ لِلذَّاتِ الْوَاجِبِ الْوُجُودِ، الْمُسْتَحِقِّ لِجَمِيعِ الْمَحَامِدِ - أَيْ كَمَا قَالَ عُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ - وَهُوَ بِالْعِبْرَانِيَّةِ أَلُوهِيمُ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ تَعْظِيمًا لَا تَكْثِيرًا، وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى غَيْرِ اللهِ، وَ " يَهْوَهُ " أَيِ الْكَائِنُ، وَهُوَ خَاصٌّ بِهِ تَعَالَى، وَإِيلٌ أَيِ الْقَدِيرُ، وَبِالسُّرْيَانِيَّةِ أُلُوهُو وَبِالْكَلْدَانِيَّةِ إِلَاهَا. انْتَهَى.

وَفِي تَوَارِيخِ الْمُتَأَخِّرِينَ الْمُؤَيَّدَةِ بِالْعَادِيَّاتِ (الْآثَارِ الْقَدِيمَةِ) أَنَّ أَعْظَمَ أَرْبَابِ الْكَلْدَانِيِّينَ وَآلِهَتِهِمْ (إِيلُ - أَوْ - إِلْ) فَهُوَ رَبُّ الْأَرْبَابِ، وَأَصْلُ الْآلِهَةِ، وَلَيْسَ لَهُ تِمْثَالٌ وَلَا صُورَةٌ فِي مَعَابِدِهِمْ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ مِمَّا وَرِثُوا مِنْ دِينِ نُوحٍ عليه السلام أَنَّهُ مُنَزَّهٌ عَنْ

ص: 471

صِفَاتِ الْخَلْقِ وَتَخَيُّلَاتِهِمْ، وَرَوَى ديودورسُ عَنْ فِيلُو أَنَّهُ مُرَادِفٌ لِزُحَلَ، وَلَا يَصِحُّ هَذَا إِلَّا أَنْ يُرَادَ بِزُحَلَ أَبُو الْمُشْتَرَى كَمَا قِيلَ ذَلِكَ، وَقَدْ أَشَارُوا إِلَى الْإِيمَانِ بِهِ فِي عُصُورِ قُدَمَاءِ مُلُوكِهِمْ، وَمِمَّا قَالُوا عَنْهُ فِي أَقْدَمِ الْخُرَافَاتِ أَنَّهُ أُولِدَ وَلَدَيْنِ (أَنَا) وَ (بِيلُ) . وَ (أَنَا) هَذَا هُوَ رَأْسُ (الثَّالُوثِ) الْكَلْدَانِيِّ، وَقِيلَ: إِنَّ هَذَا الِاسْمَ بِمَعْنَى اسْمِ الْجَلَالَةِ (اللهُ) وَيَقُولُونَ: " أَنُو " - إِذَا كَانَ فَاعِلًا - وَ " أَنَا " إِذَا كَانَ مَفْعُولًا، وَإِنِي إِذَا كَانَ مُضَافًا إِلَيْهِ. وَمِنْ أَلْقَابِهِ عِنْدَهُمُ: الْقَدِيمُ، وَالرَّأْسُ الْأَصْلِيُّ، وَأَبُو الْآلِهَةِ، وَرَبُّ الْأَرْوَاحِ وَالشَّيَاطِينِ، وَمَلِكُ الْعَالَمِ الْأَسْفَلِ، وَسُلْطَانُ الظَّلَامِ أَوْ رَأْسُ الْمَوْتِ. وَوُجِدَتْ آثَارُ عِبَادَتِهِ فِي مَدِينَةِ (أَرَكَ) وَهِيَ الْوَرْكَاءُ، قَالَ يَاقُوتٌ: الْوَرْكَاءُ مَوْضِعٌ بِنَاحِيَةِ الرَّوَابِي، وُلِدَ بِهِ إِبْرَاهِيمُ الْخَلِيلُ عليه السلام، وَقَدْ بَنَى أَحَدُ مُلُوكِهِمْ مَعْبَدًا لَهُ وَلِابْنِهِ (قَوَلَ) فِي أَشُورَ سَنَةَ 1830 قَبْلَ الْمَسِيحِ، فَصَارَ اسْمُ هَذِهِ الْمَدِينَةِ بَعْدَ ذَلِكَ (تَلَّانَ) وَأَصْلُهُ (تَلُّ أَنَا) جَاءَ ذِكْرُهُ فِي آجُرٍّ لِلْمَلِكِ (أَوْرَكَهْ) اكْتُشِفَتْ فِي أَنْقَاضِ (أَمِّ

قَبْرٍ) هَذِهِ تَرْجَمْتُهُ " إِنَّ إِلَهَ الْقَمَرِ ابْنُ شَقِيقِ (أَنُو) وَبِكْرُ (بِعَلُوسَ) قَدْ حَمَلَ عَبْدَهُ (أَوْرَكَهْ) الرَّئِيسَ التَّقِيَّ مَلِكُ (أُورُ) عَلَى بِنَاءِ هَيْكَلِ (تَسِينْ كَاثُو) مَعْبَدًا مُقَدَّسًا لَهُ ".

وَالثَّانِي مِنْ ثَالُوثِهِمْ (بُلُوسُ - أَوْ - بِيلُ وَ) لَعَلَّهُمَا مُحَرَّفَانِ عَنْ (بَعْلَ) وَ (بَعْلُوسَ) وَمِنْ أَسْمَائِهِمْ (أَنُو) وَ (إِيلُ انْيُو) وَمَعْنَاهُ السَّيِّدُ. وَتَلْحَقُ غَالِبًا بِلَفْظِ (نَيْبِرُو) وَمُؤَنَّثُهَا (نَيْبُرُوثَ) وَهِيَ قَرِيبَةٌ مِنْ كَلِمَةِ (نَمْرُودَ) الَّتِي هِيَ فِي تَرْجَمَةِ التَّوْرَاةِ السَّبْعِينِيَّةِ (نَيْبُرُوثُ) وَكَلِمَةُ (نَيْبُرُو) مُشْتَقَّةٌ مِنْ كَلِمَةِ " بَابَارِ " السُّرْيَانِيَّةِ، وَمَعْنَاهَا طَارَدَ. وَتَدُلُّ مَادَّةُ نَبَرَ فِي الْعَرَبِيَّةِ عَلَى الِارْتِفَاعِ، فَنَبَرَ: رَفَعَ، وَالنَّبْرَةُ: الشَّيْءُ الْمُرْتَفِعُ، فَفِيهَا مَعْنَى الشَّرَفِ، وَمَعْنَاهَا فِي الْأَشُورِيَّةِ يُقَارِبُ مَعْنَاهَا فِي السُّرْيَانِيَّةِ (فَبِيلُ نَبْرُو) بِمَعْنَى السَّيِّدِ الصَّيَّادِ، أَوْ رَبِّ الصَّيْدِ - وَلِذَلِكَ قِيلَ: إِنَّهُ نَمْرُودُ الْمَذْكُورُ فِي الْعَهْدِ الْعَتِيقِ، وَيَقُولُونَ: إِنَّهُ كَانَ يَصِيدُ الْوُحُوشَ. وَهُوَ بَعْلُوسُ الَّذِي ذَكَرَ مُؤَرِّخُو الْيُونَانِ أَنَّهُ يَأْتِي مَدِينَةَ (بَابِلَ) وَمِلِكُهَا الْأَوَّلُ، وَدَلَّتِ الْآثَارُ عَلَى أَنَّ الْأَشُورِيِّينَ كَانُوا يُسَمُّونَهَا مَدِينَةَ (بَلْ نَبْرُو) وَظَلَّ الْكَلْدَانِيُّونَ يَعْبُدُونَ (نَمْرُودَ) مُدَّةَ وُجُودِ دَوْلَتِهِمْ، وَكَانُوا يُكَنُّونَهُ بِأَبِي الْآلِهَةِ، وَيُكَنُّونَ زَوْجَهُ الْمُسَمَّاةَ (مُولِيتَا - أَوْ - أَنُوتَا) بِأُمِّ الْآلِهَةِ الْعِظَامِ، وَلَكِنْ وُصِفَتْ فِي بَعْضِ الْآثَارِ بِأَنَّهَا زَوْجُ (نِينَ) وَهُوَ ابْنُهَا، وَفِي بَعْضِهَا أَنَّهَا زَوْجُ (أَشُورَ) وَلَهَا أَلْقَابٌ عَظِيمَةٌ، وَوُجِدَ لَهَا عِدَّةُ هَيَاكِلَ.

وَالثَّالِثُ مِنْ ثَالُوثِهِمْ (حُوَا - أَوْ - حَيَا) وَهُوَ حَيَوَانٌ بَعْضُهُ كَالْإِنْسَانِ وَبَعْضُهُ كَالسَّمَكِ، زَعَمُوا أَنَّهُ خَرَجَ مِنْ خَلِيجِ فَارِسَ لِيُعَلِّمَ سُكَّانَ ضِفَافِ النَّهْرَيْنِ عِلْمَ الْفَلَكِ وَالْأَدَبَ، وَنُسِبَ إِلَيْهِ اخْتِرَاعُ حُرُوفِ الْهِجَاءِ، وَقَدْ وُجِدَ اسْمُهُ عَلَى صَحِيفَةٍ مِنَ الْآجُرِّ وُجِدَتْ فِي خَرَائِبِ (أُورَ) وَيَرَى بَعْضُ الْبَاحِثِينَ أَنَّ اسْمَهُ مِنْ مَادَّةِ الْحَيَاةِ الْعَرَبِيَّةِ أَوِ الْحَيَّةِ، وَشِعَارُهُ فِي الْقَلَمِ الْكَلْدَانِيِّ الشَّكْلُ الْإِسْفِينِيُّ، وَمِنْهُ رَسْمُ الْحَيَّةِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى مُنْتَهَى الذَّكَاءِ وَالْحِكْمَةِ، وَالْإِشَارَةِ إِلَى الْحَيَاةِ، وَلَهُ أَلْقَابٌ عَظِيمَةٌ.

ص: 472

وَكَانَ لِلْكَلْدَانِ (ثَالُوثٌ) آخِرُ أَحَدُ آلِهَتِهِ (سِينِي) وَهُوَ الْقَمَرُ، وَهَذَا الِاسْمُ سَامِيٌّ، فَاسْمُ الْقَمَرِ بِالسُّرْيَانِيَّةِ سِينُ، وَكَذَا فِي السِّنْسِكْرِيتِيَّةِ، وَمِنْ أَلْقَابِهِ زَعِيمُ الْأَرْبَابِ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ (وَبَعْلُ رُونَا) أَيْ رَبُّ الْبِنَاءِ، وَكَانُوا يُصَوِّرُونَهُ فِي جَمِيعِ تَطَوُّرَاتِهِ مُنْذُ يَكُونُ هِلَالًا، وَلَهُ هَيَاكِلُ كَثِيرَةٌ، وَأَعْظَمُ مَعَابِدِهِ فِي (أُورَ) .

وَالثَّانِي (سَانُ) أَوْ (سَانْسِي) وَهُوَ الشَّمْسُ، وَالِاسْمُ سَامِيٌّ أَيْضًا، وَمِنْهُ السَّنَا بِالْعَرَبِيَّةِ، وَهُوَ - بِالْقَصْرِ - الضِّيَاءُ، وَقِيلَ: ضَوْءُ النَّارِ وَالْبَرْقِ، وَالصَّوَابُ أَنَّهُ أَعَمُّ. قَالَ تَعَالَى:(هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا)(10: 5) وَمِنْهُ (شَانِي) بِالْعِبْرِيَّةِ، وَمَعْنَاهَا لَامِعٌ، وَاسْمُ الشَّمْسِ بِاللُّغَةِ السِّنْسِكْرِيتِيَّةِ (سِيُونَا) وَمِنْ أَلْقَابِ هَذَا الْإِلَهِ: رَبُّ النَّارِ، وَنَيِّرُ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ، وَكَانَ لَهُ هَيَاكِلُ فِي الْمُدُنِ الْكَبِيرَةِ وَأَشْهَرُهَا (بَيْتُ بَارَا) وَبَارَا أَوْ فَرَا اسْمُ الشَّمْسِ بِالْمِصْرِيَّةِ الْقَدِيمَةِ، وَكَانَ اسْمُ (هِلْيُبُولِيسَ) عِنْدَهُمْ (سِيبَارَا) وَتُسَمَّى فِي الْآثَارِ (تِسِيبَارْ شَاشَامَاسْ) وَمَعْنَى الثَّلَاثَةِ مَدِينَةُ الشَّمْسِ، وَلِلشَّمْسِ زَوْجَةٌ عِنْدَهُمْ يُسَمُّونَهَا (أَيْ) وَ (كُولَا)(أَنُونِيتْ) .

وَثَالِثُ الثَّلَاثَةِ (فُولُ) أَوْ (ايفَا) أَيِ الْهَوَاءُ، وَهُوَ رَبُّ الْجَوِّ الْقَائِمُ بِتَسْخِيرِ الرِّيَاحِ وَالْعَوَاصِفِ وَالْأَعَاصِيرِ، الْمُتَصَرِّفُ فِي الزِّرَاعَةِ وَالْمَوَاسِمِ. وَمِنْ هَيَاكِلِهِ هَيْكَلٌ بَنَاهُ الْمَلِكُ (شَمَّاسْ فُولْ) الَّذِي مَلَكَ الْكَلْدَانَ سَنَةَ 1850 قَبْلَ الْمَسِيحِ.

وَهَذِهِ الْأَخْبَارُ وَالْآثَارُ تَشْهَدُ بِصِدْقِ الْقُرْآنِ، وَكَوْنِهِ حُجَّةً لِلَّهِ تَعَالَى عَنِ الْأَنَامِ ; لِأَنَّ مَنْ جَاءَ بِهِ أُمِّيٌّ لَمْ يَقْرَأْ شَيْئًا مِنْ كُتُبِ الْأَوَّلِينَ، وَلَا رَأَى أَثَرًا مِنْ آثَارِ الْغَابِرِينَ، فَيَعْلَمُ مِنْهَا خَبَرَ مَعْبُودَاتِهِمْ، وَلَا يَرِدُ عَلَيْهِ مَا أُورِدَ عَلَى الْعَهْدِ الْعَتِيقِ مِنْ كَوْنِ كَاتِبِهِ (عِزْرَا الْكَاهِنِ) كَتَبَهُ بَعْدَ السَّبْيِ، فَاقْتَبَسَ فِيهِ كَثِيرًا مِنْ تَقَالِيدِ الْبَابِلِيِّينَ.

(الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مَعْنَى الرَّبِّ وَالْإِلَهِ وَشُبْهَةُ الشِّرْكِ وَكَوْنُهُ قِسْمَانِ)

ظَاهِرُ مَا حَكَاهُ اللهُ تَعَالَى عَنْ إِبْرَاهِيمَ عليه الصلاة والسلام أَنَّ قَوْمَهُ كَانُوا يَتَّخِذُونَ الْأَصْنَامَ آلِهَةً لَا أَرْبَابًا، وَيَتَّخِذُونَ الْكَوَاكِبَ أَرْبَابًا آلِهَةً، فَالْإِلَهُ هُوَ الْمَعْبُودُ، فَكُلُّ مَنْ عَبَدَ شَيْئًا فَقَدِ اتَّخَذَهُ إِلَهًا، وَالرَّبُّ: هُوَ السَّيِّدُ الْمَالِكُ وَالْمُرَبِّي وَالْمُدَبِّرُ الْمُتَصَرِّفُ، وَلَيْسَ لِلْخَلْقِ رَبٌّ وَلَا إِلَهٌ إِلَّا اللهُ الَّذِي خَلَقَهُمْ، فَهُوَ الْمَالِكُ لِكُلِّ شَيْءٍ فِي كُلِّ زَمَنٍ وَكُلِّ حَالٍ، وَمُلْكُهُ حَقِيقِيٌّ تَامٌّ، وَمُلْكُ غَيْرِهِ عُرْفِيٌّ نَاقِصٌ مَوْقُوتٌ، لَهُ أَجْلٌ مَحْدُودٌ، وَهُوَ الْمَعْبُودُ بِحَقٍّ، إِذِ الْعِبَادَةُ الْحَقُّ لَا تَكُونُ إِلَّا لِلرَّبِّ ; فَإِنَّ الْعِبَادَةَ هِيَ التَّوَجُّهُ بِالدُّعَاءِ وَكُلِّ تَعْظِيمٍ قَوْلِيٍّ أَوْ عَمَلِيٍّ إِلَى ذِي السُّلْطَانِ الْأَعْلَى عَلَى عَالَمِ الْأَسْبَابِ، وَمَا فَوْقَ الْأَسْبَابِ ; لِأَنَّهُ هُوَ الْمُوجِدُ لَهَا وَالْمُتَصَرِّفُ فِيهَا، فَهِيَ خَاضِعَةٌ لِسُلْطَانِهِ، وَكُلُّ مَاعَدَاهُ فَهُوَ خَاضِعٌ لِسُلْطَانِهَا

بَلْ سُلْطَانُهُ فِيهَا. وَالْأَصْلُ فِي اخْتِرَاعِ كُلِّ عِبَادَةٍ لِغَيْرِهِ تَعَالَى أَمْرَانِ:

(أَحَدُهُمَا أَنَّ بَعْضَ ضُعَفَاءِ الْعُقُولِ رَأَوْا بَعْضَ مَظَاهِرِ قُدْرَتِهِ تَعَالَى فِي بَعْضِ خَلْقِهِ، فَتَوَهَّمُوا

ص: 473

أَنَّ ذَلِكَ ذَاتِيٌّ لِهَذَا الْمَخْلُوقِ لَيْسَ خَاضِعًا لِسُنَنِ اللهِ فِي الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبِّبَاتِ ; لِقِصَرِ إِدْرَاكِهِمْ عَنِ الْوُصُولِ إِلَى كَوْنِ الْقُدْرَةِ الذَّاتِيَّةِ خَاصَّةً بِخَالِقِ كُلِّ شَيْءٍ الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ وَمَا امْتَازَ بِهِ عَلَى غَيْرِهِ، وَكَوْنِ خَفَاءِ سَبَبِ الْخُصُوصِيَّةِ لَا يَقْتَضِي عَدَمَ خُضُوعِ صَاحِبِهَا لِسُنَنِ الْخَالِقِ فِيهَا وَفِي غَيْرِهَا مِنْ شُئُونِهِ (أَيْ شُئُونِ صَاحِبِ الْخُصُوصِيَّةِ) وَوَثَنِيَّةُ هَؤُلَاءِ هِيَ الْوَثَنِيَّةُ السَّافِلَةُ.

(ثَانِيهِمَا) اتِّخَاذُ بَعْضِ الْمَخْلُوقَاتِ ذَاتِ الْخُصُوصِيَّةِ فِي مَظَاهِرِ النَّفْعِ وَالضُّرِّ وَسِيلَةً إِلَى الرَّبِّ الْإِلَهِ الْحَقِّ، تَشْفَعُ عِنْدَهُ، وَتُقَرِّبُ إِلَيْهِ كُلَّ مَنْ تَوَجَّهَ إِلَيْهَا، أَوِ التَّمَاثِيلِ وَالْأَصْنَامِ وَالْقُبُورِ وَغَيْرِهَا مِمَّا يُمَثِّلُهَا أَوْ يُذَكِّرُ بِهَا، فَيَتَوَسَّلُ ذُو الْحَاجَةِ بِدُعَائِهَا وَتَعْظِيمِهَا بِالْقَوْلِ أَوِ الْفِعْلِ لِأَجَلِ حَمْلِهِ تَعَالَى - بِتَأْثِيرِهَا عِنْدَهُ - عَلَى قَبُولِهِ وَإِعْطَائِهِ سُؤْلَهُ، وَهَذَا التَّوَسُّلُ تَوَجُّهٌ إِلَى غَيْرِ اللهِ مَبْنِيٌّ عَلَى اعْتِقَادِ عَدَمِ انْفِرَادِ الرَّبِّ بِالِاسْتِقْلَالِ بِقَضَاءِ الْحَاجَاتِ، وَكَوْنِهِ يَفْعَلُ بِتَأْثِيرِ الْوَسِيلَةِ فِي إِرَادَتِهِ، وَهَذَا شِرْكٌ فِي الْعِبَادَةِ يُنَافِي الْحَنِيفِيَّةِ. وَهَذِهِ هِيَ الْوَثَنِيَّةُ الرَّاقِيَةُ الَّتِي كَانَتِ الْعَرَبُ عَلَيْهَا فِي زَمَنِ الْبَعْثَةِ ; وَلِذَلِكَ كَانُوا يَقُولُونَ فِي طَوَافِهِمْ:

لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ، إِلَّا شَرِيكًا هُوَ لَكَ، تَمْلِكُهُ وَمَا مَلَكَ.

وَكَانَ بَعْضُ قَوْمِ إِبْرَاهِيمَ عليه الصلاة والسلام قَدِ ارْتَقَوْا فِي وَثَنِيَّتِهِمْ إِلَى هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ فِي الْجُمْلَةِ أَوْ أَوْشَكُوا، إِذْ إِنَّهُمْ عَقَلُوا أَنَّ الْأَصْنَامَ لَا تَسْمَعُ دُعَاءَهُمْ وَلَا تُبْصِرُ عِبَادَتَهُمْ، وَلَا تَقْدِرُ عَلَى نَفْعِهِمْ وَلَا ضُرِّهِمْ، وَإِنَّمَا قَلَّدُوا بِعِبَادَتِهَا آبَاءَهُمْ، كَمَا يُعْلَمُ مِنْ مُحَاجَّتِهِ عليه الصلاة والسلام لَهُمْ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ (26: 69) إِلَخْ. وَلِذَلِكَ اتَّخَذُوهَا آلِهَةً مَعْبُودِينَ، لَا أَرْبَابًا مُدَبِّرِينَ، وَلَكِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الْكَوَاكِبَ أَرْبَابًا لِمَا لَهَا مِنَ التَّأْثِيرِ السَّبَبِيِّ أَوِ الْوَهْمِيِّ فِي الْأَرْضِ، وَتَوَسَّعُوا فِي إِسْنَادِ التَّأْثِيرِ إِلَيْهَا حَتَّى اخْتَرَعُوا مِنْ ذَلِكَ مَا لَا شُبْهَةَ لَهُ، فَكَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّ الشَّمْسَ رَبُّ النَّارِ، وَنَيِّرُ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ، يُدَبِّرُ الْمُلُوكَ، وَيُفِيضُ عَلَيْهِمْ رُوحَ الشَّجَاعَةِ وَالْإِقْدَامِ، وَيَنْصُرُ جُنْدَهُمْ، وَيَخْذُلُ عَدُوَّهُمْ، وَيُمَزِّقُهُ كُلَّ مُمَزَّقٍ، وَيَعْتَقِدُونَ نَحْوَ ذَلِكَ فِي زُحَلَ وَاسْمُهُ (بِينِي) وَيَعْتَقِدُونَ أَنَّ (مِرْدَاخَ) وَهُوَ الْمُشْتَرَى - شَيْخُ الْأَرْبَابِ وَرَبُّ الْعَدْلِ وَالْأَحْكَامِ، حَافَظُ الْأَبْوَابِ الَّتِي يَدْخُلُهَا الْخُصُومُ لِفَصْلِ الْخُصُومَاتِ - وَأَنَّ (رَنْكَالَ)

وَهُوَ الْمِرِّيخُ كَمِيُّ الْأَرْبَابِ، وَرَبُّ الصَّيْدِ، وَسُلْطَانُ الْحَرْبِ، فَهُوَ يَشْتَرِكُ مَعَ زُحَلَ فِي تَدْبِيرِهِ إِلَّا أَنَّ هَذَا هُوَ الْمُقَدَّمُ فِي الصَّيْدِ، وَذَاكَ الْمُقَدَّمُ فِي الْحَرْبِ، وَأَنْ (عِشْتَارَ - أَوْ - نَانَا) وَهِيَ الزُّهَرَةُ رَبَّةُ الْغِبْطَةِ وَالسَّعَادَةِ، وَمُفِيضَةُ السُّرُورِ عَلَى النَّاسِ، وَتُمَثَّلُ فِي الْآثَارِ بِامْرَأَةٍ عَارِيَةٍ، وَأَنَّ (نَبْوَ) وَهُوَ عُطَارِدٌ رَبُّ الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ.

وَكَانَتْ حُجَّةُ إِبْرَاهِيمَ الْبَالِغَةَ فِي حَصْرِ الْعِبَادَةِ بِالتَّوَجُّهِ فِيهَا إِلَى فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَحْدَهُ دُونَ غَيْرِهِ مِنَ الْوَسَائِطِ وَالْوَسَائِلِ، وَمِثْلُهَا فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ فَقَدْ قَالَ فِي تَمَاثِيلِهِمْ:(بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ)(21: 56) وَبِهَذَا كَانَ

ص: 474

يَحْتَجُّ جَمِيعُ الرُّسُلِ عليهم السلام، وَهُوَ أَقْوَى الْحُجَجِ وَأَظْهَرُهَا، وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ إِبْرَاهِيمُ عليه الصلاة والسلام مِنَ التَّعْرِيضِ قَبْلَهَا فَهُوَ تَمْهِيدٌ لَهَا.

(الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: آرَاءُ الْمُتَكَلِّمِينَ وَالْفَلَاسِفَةِ فِي حُجَّةِ إِبْرَاهِيمَ)

مَا ذَكَرَهُ الرَّازِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ مُفَسِّرِي الْمُتَكَلِّمِينَ فِي هَذِهِ الْمُحَاجَّةِ تَكَلُّفٌ لَا تَدُلُّ عَلَيْهِ الْعِبَارَةُ، وَلَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْلُ، وَلَا تَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ الْحِجَّةُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُمْ جَعَلُوا مَقُولَهُمْ فِيهَا عَلَى ذِكْرِ الْأُفُولِ، وَكَوْنِ وَجْهُ الْحُجَّةِ فِيهِ دَلَالَتَهُ عَلَى الْإِمْكَانِ وَالْحُدُوثِ، وَقَالُوا: إِنَّ أَحْسَنَ الْكَلَامِ مَا يَحْصُلُ فِيهِ نَصِيبٌ لِكُلٍّ مِنَ الْخَوَاصِّ وَالْأَوْسَاطِ وَالْعَوَامِّ، فَالْخَوَاصُّ يَفْهَمُونَ مِنَ الْأُفُولِ الْإِمْكَانَ، وَكُلُّ مُمْكِنٍ مُحْتَاجٌ، وَالْمُحْتَاجُ لَا يَكُونُ مُقَطَّعُ الْحَاجَةِ، فَلَا بُدَّ مِنَ الِانْتِهَاءِ إِلَى مَنْ يَكُونُ مُنَزَّهًا عَنِ الْإِمْكَانِ حَتَّى تَنْقَطِعَ الْحَاجَاتُ بِسَبَبِ وُجُودِهِ كَمَا قَالَ:(وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى)(53: 42) وَأَمَّا الْأَوْسَاطُ فَإِنَّهُمْ يَفْهَمُونَ مِنَ الْأُفُولِ مُطْلَقَ الْحَرَكَةِ، فَكُلُّ مُتَحَرِّكٍ مُحْدَثٌ، وَكُلُّ مُحْدَثٍ فَهُوَ مُحْتَاجٌ إِلَى الْقَدِيمِ الْقَادِرِ، فَلَا يَكُونُ الْآفِلُ إِلَهًا بَلِ الْإِلَهُ هُوَ الَّذِي احْتَاجَ إِلَيْهِ ذَلِكَ الْآفِلُ، وَأَمَّا الْعَوَامُّ فَإِنَّهُمْ يَفْهَمُونَ مِنَ الْأُفُولِ الْغُرُوبَ، وَهُمْ يُشَاهِدُونَ أَنَّ كُلَّ كَوْكَبٍ يَقْرُبُ مِنَ الْأُفُولِ فَإِنَّهُ يَزُولُ نُورُهُ وَيَنْقُصُ ضَوْؤُهُ، وَيَذْهَبُ سُلْطَانُهُ وَيَصِيرُ كَالْمَعْزُولِ، وَمَنْ يَكُونُ كَذَلِكَ لَا يَصْلُحُ لِلْإِلَهِيَّةِ (قَالَ الرَّازِيُّ) بَعْدَ مَا تَقَدَّمَ: فَهَذِهِ الْكَلِمَةُ " لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ " مُشْتَمِلَةٌ عَلَى نَصِيبِ الْمُقَرَّبِينَ، وَأَصْحَابِ الْيَمِينِ، وَأَصْحَابِ الشِّمَالِ، فَكَانَتْ أَكْمَلَ الدَّلَائِلِ وَأَفْضَلَ الْبَرَاهِينِ. ثُمَّ ذَكَرَ الرَّازِيُّ بَعْدَ هَذَا دَقِيقَةً اسْتَنْبَطَهَا مِنْ مَذْهَبِ

عُلَمَاءِ الْفَلَكِ عَلَى عَهْدِهِ، هِيَ أَعْرَقُ فِي التَّكَلُّفِ مِنْ هَذَا التَّفْصِيلِ الَّذِي جَعَلَ فِيهِ الْوَجْهَ الصَّحِيحَ فِي الْحُجَّةِ نَصِيبَ الْعَوَامِّ الَّذِينَ سَمَّاهُمْ أَصْحَابَ الشِّمَالِ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ أَصْحَابَ الشِّمَالِ هُمْ أَهْلُ النَّارِ (فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ) .

ثُمَّ قَالَ الرَّازِيُّ: تَفَلْسَفَ الْغَزَالِيُّ فِي بَعْضِ كُتُبِهِ، وَحَمَلَ الْكَوْكَبَ عَلَى النَّفْسِ النَّاطِقَةِ الْحَيَوَانِيَّةِ الَّتِي لِكُلِّ كَوْكَبٍ، وَالْقَمَرَ عَلَى النَّفْسِ النَّاطِقَةِ الَّتِي لِكُلِّ فَلَكٍ، وَالشَّمْسَ عَلَى الْعَقْلِ الْمُجَرَّدِ الَّذِي لِكُلِّ ذَلِكَ. وَكَانَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ سِينَا يُفَسِّرُ الْأُفُولَ بِالْإِمْكَانِ (أَيْ فَهُوَ عِنْدَ الرَّازِيِّ إِمَامُ الْمُقَرَّبِينَ!) فَزَعَمَ الْغَزَالِيُّ أَنَّ الْمُرَادَ بِأُفُولِهَا إِمْكَانُهَا فِي نَفْسِهَا، وَزَعَمَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ:(لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ) أَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ بِأَسْرِهَا مُمْكِنَةُ الْوُجُودِ لِذَوَاتِهَا، وَكُلُّ مُمْكِنٍ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُؤَثِّرٍ، وَلَا بُدَّ لَهُ مِنَ الِانْتِهَاءِ إِلَى وَاجِبِ الْوُجُودِ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ لَا بَأْسَ بِهِ إِلَّا أَنَّهُ يَبْعُدُ حَمْلُ لَفْظِ الْآيَةِ عَلَيْهِ. وَمِنَ النَّاسِ مَنْ حَمَلَ الْكَوْكَبَ عَلَى الْحِسِّ، وَالْقَمَرَ عَلَى الْخَيَالِ وَالْوَهْمِ، وَالشَّمْسَ عَلَى الْعَقْلِ، وَالْمُرَادُ أَنَّ هَذِهِ الْقُوَى الْمُدْرِكَةَ الثَّلَاثَ قَاصِرَةٌ مُتَنَاهِيَةٌ، وَمُدَبِّرُ الْعَالَمِ مُسْتَوْلٍ عَلَيْهَا قَاهِرٌ لَهَا، وَاللهُ أَعْلَمُ. انْتَهَى كَلَامُ الرَّازِيِّ، وَلَيْسَ مَا اسْتَحْسَنَهُ مِنْ قَبْلُ - بَلْ سَمَّاهُ أَحْسَنَ الْكَلَامِ - إِلَّا مِثْلُ مَا اسْتَبْعَدَ حَمْلَ الْآيَةِ عَلَيْهِ مِنْ بَعْدُ أَوْ هُوَ أَبْعَدُ وَأَجْدَرُ بِالْمَلَامِ.

ص: 475

(الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: إِشَارَاتُ الصُّوفِيَّةِ فِي الْآيَاتِ) .

أَوْرَدَ نِظَامُ الدِّينِ الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ النَّيْسَابُورِيُّ فِي تَأْوِيلَاتِ تَفْسِيرِهِ عِبَارَتَيْنِ فِي الْآيَاتِ، قَالَ فِي الْأُولَى: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ رَأَى نُورَ الرُّشْدِ فِي صُورَةِ الْكَوْكَبِ، وَنُورَ الرُّبُوبِيَّةِ فِي صُورَةِ الْقَمَرِ، وَنُورَ الْهِدَايَةِ فِي صُورَةِ الشَّمْسِ، وَسَبَّكَ ذَلِكَ بِعِبَارَةٍ شِعْرِيَّةٍ مُتَكَلِّفَةٍ. وَأَمَّا الْعِبَارَةُ الثَّانِيَةُ فَزَعَمَ أَنَّهَا دَارَتْ فِي خَلَدِهِ، وَمَا هِيَ إِلَّا مَا نَقَلَهُ الرَّازِيُّ (الَّذِي لَخَّصَ هُوَ تَفْسِيرَهُ وَزَادَ عَلَيْهِ هَذِهِ التَّأْوِيلَاتِ) عَنِ الْغَزَالِيِّ - وَذَكَرْنَاهُ آنِفًا - إِلَّا أَنَّهُ تَصَرَّفَ فِيهِ فَجَعَلَهُ أَقْرَبَ إِلَى التَّصَوُّفِ. وَقَدْ نَقَلَ الْأَلُوسِيُّ هَذِهِ الْعِبَارَةَ الْأَخِيرَةَ عَنِ النَّيْسَابُورِيِّ فِي إِشَارَاتِهِ، وَذَكَرَ قَبْلَهَا إِشَارَةً جَعَلَ فِيهَا الْكَوَاكِبَ إِشَارَةً إِلَى النَّفْسِ الَّتِي هِيَ الرُّوحُ الْحَيَوَانِيَّةُ، وَالْقَمَرَ إِشَارَةً إِلَى الْقَلْبِ، وَالشَّمْسَ إِشَارَةً إِلَى الرُّوحِ، وَأَنَّهَا أَفَلَتْ بَعْدَ تَجَلِّيهَا بِتَجَلِّي أَنْوَارِ الْحَقِّ، وَهُوَ أَقَلُّ تَكَلُّفًا مِمَّا قَبْلَهُ، وَإِنْ كَانَ بَاطِلًا مِثْلَهُ.

وَأَمْثَلُ مَا قِيلَ فِي بَابِ الْإِشَارَةِ مَا شَرَحَهُ الْغَزَالِيُّ فِي بَحْثِ فِرَقِ الْمَغْرُورِينَ مِنَ الصُّوفِيَّةِ فِي كِتَابِ الْغُرُورُ مِنَ الْإِحْيَاءِ، فَإِنَّهُ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ الَّذِينَ اغْتَرُّوا بِأَوَّلِ مَا انْفَتَحَ لَهُمْ مِنْ أَبْوَابِ الْمَعْرِفَةِ وَمَا شَمُّوا مِنْ رَائِحَتِهَا فَوَقَفُوا عِنْدَهُ، قَالَ:

(وَفِرْقَةٌ أُخْرَى) جَاوَزُوا هَؤُلَاءِ، وَلَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَى مَا يَفِيضُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْأَنْوَارِ فِي الطَّرِيقِ، وَلَا إِلَى مَا تَيَسَّرَ لَهُمْ مِنَ الْعَطَايَا الْجَزِيلَةِ، وَلَمْ يُعَرِّجُوا عَلَى الْفَرَحِ بِهَا وَالِالْتِفَاتِ إِلَيْهَا، جَادِّينَ فِي السَّيْرِ حَتَّى قَارَبُوا فَوَصَلُوا إِلَى حَدِّ الْقُرْبَةِ إِلَى اللهِ تَعَالَى، فَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ وَصَلُوا إِلَى اللهِ فَوَقَفُوا وَغَلِطُوا ; فَإِنَّ لِلَّهِ تَعَالَى سَبْعِينَ حِجَابًا مِنْ نُورٍ، لَا يَصِلُ السَّالِكُ إِلَى حِجَابٍ مِنْ تِلْكَ الْحُجُبِ فِي الطَّرِيقِ إِلَّا يَظُنُّ أَنَّهُ قَدْ وَصَلَ. وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام، إِذْ قَالَ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنْهُ:(فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي)(6: 76) وَلَيْسَ الْمَعْنِيُّ بِهِ هَذِهِ الْأَجْسَامَ الْمُضِيئَةَ ; فَإِنَّهُ كَانَ يَرَاهَا فِي الصِّغَرِ وَيَعْلَمُ أَنَّهَا لَيْسَتْ آلِهَةً، وَهِيَ كَثِيرَةٌ وَلَيْسَتْ وَاحِدًا، وَالْجُهَّالُ يَعْلَمُونَ أَنَّ الْكَوْكَبَ لَيْسَ بِإِلَهٍ، فَمِثْلُ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام لَا يَغُرُّهُ الْكَوْكَبُ الَّذِي لَا يَغُرُّ السَّوَادَيَّةَ، وَلَكِنَّ الْمُرَادَ بِهِ أَنَّهُ نُورٌ مِنَ الْأَنْوَارِ الَّتِي هِيَ مِنْ حُجُبِ اللهِ عز وجل، وَهِيَ عَلَى طَرِيقِ السَّالِكِينَ، وَلَا يُتَصَوَّرُ الْوُصُولُ إِلَى اللهِ تَعَالَى إِلَّا بِالْوُصُولِ إِلَى هَذِهِ الْحُجُبِ، وَهِيَ حُجُبٌ مِنْ نُورٍ بَعْضُهَا أَكْبَرُ مِنْ بَعْضٍ، وَأَصْغَرُ النَّيِّرَاتِ الْكَوْكَبُ، فَاسْتُعِيرَ لَهُ لَفْظُهُ، وَأَعْظَمُهَا الشَّمْسُ، وَبَيْنَهُمَا رُتْبَةُ الْقَمَرِ، فَلَمْ يَزَلْ إِبْرَاهِيمُ عليه السلام لَمَّا رَأَى مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ حَيْثُ قَالَ اللهُ تَعَالَى:

ص: 476

(وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) يَصِلُ إِلَى نُورٍ بَعْدَ نُورٍ، وَيَتَخَيَّلُ إِلَيْهِ فِي أَوَّلِ مَا كَانَ يَلْقَاهُ أَنَّهُ قَدْ وَصَلَ، ثُمَّ كَانَ يُكْشَفُ لَهُ أَنَّ وَرَاءَهُ أَمْرًا فَيَتَرَقَّى إِلَيْهِ وَيَقُولُ قَدْ وَصَلْتُ، فَيُكْشَفُ لَهُ مَا وَرَاءَهُ حَتَّى وَصَلَ إِلَى الْحِجَابِ الْأَقْرَبِ الَّذِي لَا وُصُولَ إِلَّا بَعْدَهُ، فَقَالَ:(هَذَا أَكْبَرُ) فَلَمَّا ظَهَرَ لَهُ أَنَّهُ مَعَ عِظَمِهِ غَيْرُ خَالٍ عَنِ الْهَوَى فِي حَضِيضِ النَّقْصِ وَالِانْحِطَاطِ عَنْ ذِرْوَةِ الْكَمَالِ (قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ. . . . إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي

فَطَرَ السَّمَاوَاتِ) . وَسَالِكُ هَذِهِ الطَّرِيقِ قَدْ يَغْتَرُّ فِي الْوُقُوفِ عَلَى بَعْضِ هَذِهِ الْحُجُبِ، وَقَدْ يَغْتَرُّ بِالْحِجَابِ الْأَوَّلِ، وَأَوَّلُ الْحَجْبِ بَيْنَ اللهِ وَبَيْنَ الْعَبْدِ هُوَ نَفْسُهُ، فَإِنَّهُ أَيْضًا أَمْرٌ رَبَّانِيٌّ، وَهُوَ نُورٌ مِنْ أَنْوَارِ اللهِ تَعَالَى، أَعْنِي سِرَّ الْقَلْبِ الَّذِي تَتَجَلَّى فِيهِ حَقِيقَةُ الْحَقِّ كُلِّهِ حَتَّى إِنَّهُ لَيَتَّسِعُ لِجُمْلَةِ الْعَالِمِ وَيُحِيطَ بِهِ، وَتَتَجَلَّى فِيهِ صُورَةُ الْكُلِّ، وَعِنْدَ ذَلِكَ يُشْرِقُ نُورُهُ إِشْرَاقًا عَظِيمًا، إِذْ يَظْهَرُ فِيهِ الْوُجُودُ كُلُّهُ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ، وَهُوَ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ مَحْجُوبٌ بِمِشْكَاةٍ هِيَ كَالسَّاتِرِ لَهُ، فَإِذَا تَجَلَّى نُورُهُ وَانْكَشَفَ جَمَالُ الْقَلْبِ بَعْدَ إِشْرَاقِ نُورِ اللهِ رُبَّمَا الْتَفَتَ صَاحِبُ الْقَلْبِ إِلَى الْقَلْبِ فَيَرَى مِنْ جَمَالِهِ الْفَائِقِ مَا يُدْهِشُهُ، وَرُبَّمَا يَسْبِقُ لِسَانُهُ فِي هَذِهِ الدَّهْشَةِ فَيَقُولُ: أَنَا الْحَقُّ، فَإِنْ لَمْ يَتَّضِحْ لَهُ مَا وَرَاءَ ذَلِكَ اغْتَرَّ بِهِ، وَوَقَفَ عَلَيْهِ وَهَلَكَ، وَكَانَ قَدِ اغْتَرَّ بِكَوْكَبٍ صَغِيرٍ مِنْ أَنْوَارِ الْحَضْرَةِ الْإِلَهِيَّةِ، وَلَمْ يَصِلْ بَعْدُ إِلَى الْقَمَرِ فَضْلًا عَنِ الشَّمْسِ فَهُوَ مَغْرُورٌ. وَهَذَا مَحَلُّ الِالْتِبَاسِ، إِذِ الْمُتَجَلِّي يَلْتَبِسُ بِالْمُتَجَلَّى فِيهِ كَمَا يَلْتَبِسُ لَوْنُ مَا يَتَرَاءَى فِي الْمِرْآةِ بِالْمِرْآةِ، فَيَظُنُّ أَنَّهُ لَوْنُ الْمِرْآةِ، وَكَمَا يَلْتَبِسُ مَا فِي الزُّجَاجِ بِالزُّجَاجِ كَمَا قِيلَ:

رَقَّ الزُّجَاجُ وَرَاقَتِ الْخَمْرُ

فَتَشَابَهَا فَتَشَاكَلَ الْأَمْرُ

فَكَأَنَّمَا خَمْرٌ وَلَا قَدَحٌ

وَكَأَنَّمَا قَدَحٌ وَلَا خَمْرٌ.

وَبِهَذِهِ الْعَيْنِ نَظَرَ النَّصَارَى إِلَى الْمَسِيحِ، فَرَأَوْا إِشْرَاقَ نُورِ اللهِ قَدْ تَلَأْلَأَ فِيهِ

فَغَلِطُوا فِيهِ، كَمَنْ رَأَى كَوْكَبًا فِي مِرْآةٍ أَوْ فِي مَاءٍ فَيَظُنُّ أَنَّ الْكَوْكَبَ فِي الْمِرْآةِ أَوْ فِي الْمَاءِ، فَيَمُدُّ يَدَهُ إِلَيْهِ لِيَأْخُذَهُ وَهُوَ مُغْرُورٌ ". اهـ.

ص: 477

(وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللهِ وَقَدْ هَدَانِي وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) .

الْمُحَاجَّةُ: الْمُجَادَلَةُ وَالْمُغَالَبَةُ فِي إِقَامَةِ الْحُجَّةِ، وَالْحُجَّةُ الدَّلَالَةُ الْمُبَيِّنَةُ لِلْمَحَجَّةِ، أَيِ الْمَقْصِدِ الْمُسْتَقِيمِ كَمَا قَالَ الرَّاغِبُ. وَأَصْلُ الْمَحَجَّةِ وَسَطُ الطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمِ، وَتُطْلَقُ الْحُجَّةُ عَلَى كُلِّ مَا يُدْلِي بِهِ أَحَدُ الْخَصْمَيْنِ فِي إِثْبَاتِ دَعْوَاهُ أَوْ رَدِّ دَعْوَى خَصْمِهِ، فَتُقَسَّمُ إِلَى حُجَّةٍ نَاهِضَةٍ يَثْبُتُ بِهَا الْحَقُّ، وَحُجَّةٍ دَاحِضَةٍ يُمَوَّهُ بِهَا الْبَاطِلُ، وَإِنَّمَا يُسَمَّى مَا لَا يَثْبُتُ بِهِ الْحَقُّ حُجَّةً عَلَى سَبِيلِ ادِّعَاءِ الْخَصْمِ - حِكَايَةً لِقَوْلِهِ - وَاصْطَلَحُوا عَلَى تَسْمِيَتِهَا شُبْهَةً.

وَلَمَّا حَاجَّ إِبْرَاهِيمُ قَوْمَهُ بِبَيَانِ بُطْلَانِ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ وَرُبُوبِيَّةِ الْكَوْكَبِ، وَإِثْبَاتِ وَحْدَانِيَّةِ اللهِ تَعَالَى، وَوُجُوبِ عِبَادَتِهِ وَحْدَهُ - وَهِيَ الْحَنِيفِيَّةُ - حَاجُّوهُ بِبَيَانِ أَوْهَامِهِمْ فِي شِرْكِهِمْ، وَقَدْ بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى فِي سُورَتَيِ الْأَنْبِيَاءِ وَالشُّعَرَاءِ أَنَّهُمُ اعْتَذَرُوا لَهُ عَنْ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ وَالْأَصْنَامِ بِتَقْلِيدِ آبَائِهِمْ، وَلَيْسَ لِلْمُقَلِّدِ أَنْ يَحْتَجَّ، وَلَكِنَّهُ يُجَادِلُ مَعَ كَوْنِهِ لَا يَخْضَعُ لِلْحُجَّةِ إِذَا قَامَتْ عَلَيْهِ، وَيُؤْخَذُ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ أَنَّهُمْ لَمَّا لَمْ يَجِدُوا حُجَّةً عَقْلِيَّةً عَلَى شِرْكِهِمْ بِاللهِ خَوَّفُوهُ أَنْ تَمَسَّهُ آلِهَتُهُمْ بِسُوءٍ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا كَانَ قَبْلَ مَا حَكَى اللهُ تَعَالَى عَنْهُ وَعَنْهُمْ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ، بِقَوْلِهِ:(قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ)(26: 72 - 74) وَقَبْلَ وَاقِعَةِ تَكْسِيرِهِ لِأَصْنَامِهِمُ الَّتِي قَالَ اللهُ فِيهَا مِنْ سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ إِنَّهُمْ

رَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَاعْتَرَفُوا بِظُلْمِهِمْ، ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ مُصِرِّينَ عَلَى شِرْكِهِمْ

ص: 478

وَكَثِيرًا مَا يَضْطَرِبُ الْمُقَلِّدُ لِسَمَاعِ الْحُجَّةِ إِذْ يُومِضُ فِي قَلْبِهِ بَرْقُهَا، وَيَهُزُّ شُعُورَهُ رَعْدُهَا. وَيَكَادُ يُحْيِيهِ وَدَقُهَا، ثُمَّ يَنْكُسُ عَلَى رَأْسِهِ، وَيَعُودُ إِلَى سَابِقِ وَهْمِهِ، خَائِفًا مِنْ غَيْرِ مُخَوِّفٍ، رَاجِيًا غَيْرَ مَرْجُوٍّ، كَمَا نَرَاهُ فِي عُبَّادِ أَصْحَابِ الْقُبُورِ الَّذِينَ يَتَوَهَّمُونَ أَنَّ قُبُورَهُمْ وَغَيْرَهَا مِنْ آثَارِهِمْ تَدْفَعُ عَمَّنْ زَارَهَا أَوْ تَمْسَّحُ بِهَا الضُّرَّ، وَتَكْشِفُ السُّوءَ وَتُدِرُّ الرِّزْقَ، وَتُخْزِي الْعَدُوَّ، إِمَّا بِتَصَرُّفِهِمْ فِي الْخَلْقِ، وَإِمَّا لِأَنَّهُمْ قُرْبَانٌ عِنْدَ الرَّبِّ، وَلَا يَرَوْنَ ذَلِكَ نَاقِضًا لِلْإِيمَانِ الصَّحِيحِ بِاللهِ عز وجل:(وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ)(12: 106) قَالَ تَعَالَى:

(وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ) أَيْ: وَجَادَلَهُ قَوْمُهُ بَعْدَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَمْرِهِ مَعَهُمْ، وَخَاصَمُوهُ فِي أَمْرِ التَّوْحِيدِ الَّذِي قَرَّرَهُ لَهُمْ، كَأَنْ زَعَمُوا - كَمَا رُوِيَ وَسُمِعَ مِنْ أَمْثَالِهِمْ - أَنَّ اتِّخَاذَ الْآلِهَةِ لَا يُنَافِي الْإِيمَانَ بِاللهِ الْفَاطِرِ سُبْحَانَهُ ; لِأَنَّهُمْ وُسَطَاءُ وَشُفَعَاءُ عِنْدَهُ، وَمُتَّخَذُونَ لِأَجْلِهِ، وَذَلِكَ مَا تَقَدَّمَ قَرِيبًا عَنِ ابْنِ زَيْدٍ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ:(إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا) وَخَوَّفُوهُ بَطْشَهُمْ بِهِ. فَمَاذَا قَالَ عليه السلام؟ (قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللهِ وَقَدْ هَدَانِ) أَيْ أَتُجَادِلُونَنِي مُجَادَلَةَ صَاحِبِ الْحُجَّةِ فِي شَأْنِ اللهِ تَعَالَى وَمَا يَجِبُ فِي الْإِيمَانِ بِهِ - وَالْحَالُ أَنَّهُ قَدْ فَضَّلَنِي عَلَيْكُمْ بِمَا هَدَانِي إِلَى التَّوْحِيدِ الْخَالِصِ وَالْحَنِيفِيَّةِ الَّتِي أَقَمْتُ بِهَا الْحُجَّةَ عَلَيْكُمْ، وَأَنْتُمْ ضَالُّونَ بِإِصْرَارِكُمْ عَلَى شِرْكِكُمْ، وَتَقْلِيدِكُمْ بِهِ مَنْ قَبْلَكُمْ؟ وَقَدْ خَفَّفَ نُونَ (تُحَاجُّونِّي) نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ فِي رِوَايَةِ ابْنِ ذَكْوَانَ، وَذَلِكَ بِحَذْفِ إِحْدَى النُّونَيْنِ، وَشَدَّدَهَا سَائِرُ الْقُرَّاءِ، وَهُمَا لُغَتَانِ لِلْعَرَبِ فِي مِثْلِهَا، وَحُذِفَتِ الْيَاءُ مِنْ هَدَانِي فِي الرَّسْمِ ; لِأَنَّهَا لَا تَظْهَرُ فِي النُّطْقِ (وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ) مِنَ الْكَوَاكِبِ وَالْأَصْنَامِ أَنْ تُصِيبَنِي بِسُوءٍ، فَإِنِّي أَعْلَمُ عِلْمَ الْيَقِينِ أَنَّهَا لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ، وَلَا تُبْصِرُ وَلَا تَسْمَعُ، وَلَا تُقَرِّبُ وَلَا تَشْفَعُ (إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا) - أَيْ لَكِنِ اسْتَثْنَى مِنْ عُمُومِ الْخَوْفِ فِي عُمُومِ الْأَوْقَاتِ - مِنْ جِهَةِ آلِهَتِكُمْ كَغَيْرِهَا مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ، أَنْ يَشَاءَ رَبِّيَ الْقَادِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وُقُوعَ مَكْرُوهٍ بِي، فَإِنَّهُ يَقَعُ لَا مَحَالَةَ كَمَا شَاءَ رَبِّي، فَإِنْ فَرَضَ أَنَّهُ شَاءَ أَنْ يَسْقُطَ عَلَيَّ صَنَمٌ يَشُجُّنِي، أَوْ كِسَفًا مِنْ شُهُبِ الْكَوَاكِبِ يَقْتُلُنِي - فَإِنَّ ذَلِكَ يَقَعُ بِقُدْرَةِ رَبِّي وَمَشِيئَتِهِ، لَا بِمَشِيئَةِ الصَّنَمِ أَوِ الْكَوْكَبِ

وَلَا بِقُدْرَتِهِ، وَلَا بِتَأْثِيرِهِ فِي قُدْرَتِهِ تَعَالَى وَإِرَادَتِهِ، وَلَا بِجَاهِهِ عِنْدَهُ وَشَفَاعَتِهِ ; إِذْ لَا تَأْثِيرَ لِشَيْءٍ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ فِي مَشِيئَةِ الْخَالِقِ الْأَزَلِيَّةِ الْجَارِيَةِ بِمَا ثَبَتَ فِي عِلْمِهِ (وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا) أَيْ أَنَّ عِلْمَ رَبِّي وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ، وَأَحَاطَ بِهِ وَمَشِيئَتُهُ مُرْتَبِطَةٌ بِعَمَلِهِ الْمُحِيطِ الْقَدِيمِ، وَقُدْرَتُهُ مُنَفِّذَةٌ لِمَشِيئَتِهِ، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ لِشَيْءٍ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ الَّتِي تَعْبُدُونَهَا وَلَا لِغَيْرِهَا تَأْثِيرٌ مَا فِي صِفَاتِهِ، وَلَا فِي أَفْعَالِهِ الصَّادِرَةِ عَنْهَا، لَا بِشَفَاعَةٍ وَلَا غَيْرِهَا، وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ لَوْ كَانَ عِلْمُ اللهِ تَعَالَى غَيْرَ مُحِيطٍ بِكُلِّ شَيْءٍ، فَيَعْلَمُهُ الشُّفَعَاءُ وَالْوُسَطَاءُ مِنْ وُجُوهِ مُرَجِّحَاتِ الْفِعْلِ أَوِ التَّرْكِ بِالشَّفَاعَةِ أَوْ غَيْرِهَا مَا لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ، فَيَكُونُ ذَلِكَ هُوَ الْحَامِلُ لَهُ

ص: 479

عَلَى الضُّرِّ أَوِ النَّفْعِ، أَوِ الْعَطَاءِ أَوِ الْمَنْعِ، أَخَذْنَا هَذَا الْمَعْنَى لِهَذِهِ الْجُمْلَةِ مِنْ حُجَجِ اللهِ تَعَالَى عَلَى نَفْيِ الشَّفَاعَةِ الشِّرْكِيَّةِ بِمِثْلِ قَوْلِهِ:(مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ)(2: 255) فَرَاجِعْ تَفْسِيرَهُ (فِي جُزْءِ التَّفْسِيرِ الثَّالِثِ) وَجَعَلَ الْجُمْلَةَ بَعْضُهُمْ كَالتَّعْلِيلِ لِلِاسْتِثْنَاءِ، بِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ قَدْ سَبَقَ فِي عِلْمِهِ تَعَالَى إِصَابَتُهُ بِسُوءٍ يَكُونُ سَبَبُهُ الْأَصْنَامُ، أَوْ لِبَيَانِ أَنَّهُ لِإِحَاطَةِ عِلْمِهِ لَا يَفْعَلُ إِلَّا مَا فِيهِ الْخَيْرُ وَالصَّلَاحُ، وَجَعَلَهَا بَعْضُهُمْ تَعْرِيضًا بِجَهْلِ مَعْبُودَاتِهِمْ مِنَ الْكَوَاكِبِ وَالْأَوْثَانِ، وَمَا قُلْنَاهُ أَرْجَحُ، وَهُوَ مِنْ قَبِيلِ تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ بِالْقُرْآنِ (أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ) أَيُّهَا الْغَافِلُونَ أَنَّ هَذَا هُوَ شَأْنُ الرَّبِّ الْفَاطِرِ، وَأَنَّهُ يُنَافِي مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنَ الشِّرْكِ الظَّاهِرِ، وَمِنْهُ اعْتِقَادُ وُقُوعِ الضُّرِّ بِي أَوِ النَّفْعِ لَكُمْ بِالتَّصَرُّفِ الَّذِي تَزْعُمُونَهُ فِي مَعْبُودَاتِكُمْ؟ وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُمْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لِلْعَالَمِ كُلِّهِ رَبًّا خَالِقًا غَيْرَ هَذِهِ الْآلِهَةِ وَالْأَرْبَابِ الْمُتَّخَذَةِ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ اتِّخَاذًا، وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَعْقِلُونَ بِأَنْفُسِهِمْ أَنَّ نِسْبَةَ جَمِيعِ الْخَلْقِ إِلَى الْخَالِقِ وَاحِدَةٌ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ هُوَ الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى، فَسَخَّرَ مَا شَاءَ بِسُنَنِ الْأَقْدَارِ، وَنِظَامِ الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبِّبَاتِ، ثُمَّ هَدَى الْعُقَلَاءَ لِتِلْكَ الْأَسْبَابِ، لِيَطْلُبُوا الْمَنَافِعَ وَيَتَّقُوا الْمَضَارَّ، وَقَدْ ظَهَرَ بِالدَّلَائِلِ وَالتَّجَارِبِ أَنَّهَا مُسَخَّرَةٌ عَلَى سَوَاءٍ، فَالسُّلْطَةُ الْغَيْبِيَّةُ الْعُلْيَا لَهُ وَحْدَهُ، لَيْسَ لِغَيْرِهِ تَأْثِيرٌ فِيهَا مَعَهُ وَلَا تَدْبِيرٌ، فَإِذَا جَعَلَ بَعْضَ الْأَجْنَاسِ أَوِ الْأَشْخَاصِ سَبَبًا لِلنَّفْعِ أَوِ الضُّرِّ بِإِرَادَةٍ خَلَقَهَا لَهَا كَالْحَيَوَانَاتِ، أَوْ بِغَيْرِ إِرَادَةٍ كَالْجَمَادَاتِ - فَلَا يَقْتَضِي ذَلِكَ أَنْ تُرْفَعَ رُتْبَةَ الْمَخْلُوقَاتِ، وَتُجْعَلَ أَرْبَابًا

وَمَعْبُودَاتٍ، وَكَانَ يَجِبُ أَنْ يَفْطِنَ الْعَاقِلُ لِذَلِكَ وَيَتَذَكَّرَهُ بِالتَّذْكِيرِ بِهِ ; لِأَنَّهُ تَذْكِيرٌ بِمَا يُدْرِكُهُ الْعَقْلُ بِالْبُرْهَانِ، وَتَعْرِفُهُ الْفِطْرَةُ بِالْوِجْدَانِ، فَكَأَنَّهُ مِمَّا غَفَلَ عَنْهُ لَا مِمَّا جَهِلَهُ، لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ لَهُ بِالْقُوَّةِ، وَفَسَّرَ ابْنُ جَرِيرٍ التَّذَكُّرَ هُنَا بِالِاعْتِبَارِ وَالِاتِّعَاظِ وَهُوَ أَحَدُ مَعَانِيهِ:(فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى)(87: 9، 10) .

وَمِنَ الْعِبْرَةِ فِي الْآيَةِ أَنَّ هَذَا الضَّرْبَ مِنَ الشِّرْكِ الَّذِي رَدَّهُ إِمَامُ الْمُوَحِّدِينَ إِبْرَاهِيمُ - صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ - لَا يَزَالُ فَاشِيًا فِي كَثِيرٍ مِنَ الْمُنْتَمِينَ فِي التَّوْحِيدِ إِلَى مِلَّتِهِ ; لِأَنَّهُمْ لَمْ يَعْقِلُوا مَا تَقَدَّمَ مِنْ حُجَّتِهِ، فَهُمْ يَنْسُبُونَ إِلَى مَنْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ لَهُمْ تَصَرُّفًا غَيْبِيًّا فِي الْمَخْلُوقَاتِ، سَوَاءٌ كَانُوا مِنَ الْأَحْيَاءِ أَوِ الْأَمْوَاتِ، مَا يَقَعُ عَقِبَ زِيَارَتِهِ لَهُمْ، أَوْ تَوَسُّلِهِمْ بِهِمْ، مِنْ زَوَالِ أَلَمٍ، أَوْ خَيْرٍ أَلَمَّ، أَوْ نَفْعٍ أَصَابَ حَبِيبًا دَعَوْا لَهُ، أَوْ ضُرٍّ أَصَابَ عَدُوًّا دَعَوْا عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا يَقَعُ مَا يَقَعُ مِنْ ذَلِكَ بِسَبَبٍ حَقِيقِيٍّ جَلِيٍّ، أَوْ وَهْمِيٍّ خَفِيٍّ، وَكُلٌّ بِتَقْدِيرِ اللهِ السَّمِيعِ الْعَلِيمِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ.

وَبَعْدَ أَنْ بَيَّنَ لَهُمْ عليه السلام أَنَّهُ لَا يَخَافُ شُرَكَاءَهُمْ بَلْ يَخَافُ اللهَ وَحْدَهُ مِنْ نَاحِيَةِ الْأَسْبَابِ وَمِنْ غَيْرِ نَاحِيَتِهَا قَالَ:

(وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا)

ص: 480

أَيْ وَكَيْفَ أَخَافَ مَا أَشْرَكْتُمُوهُ بِرَبِّكُمْ مِنْ خَلْقِهِ فَجَعَلْتُمُوهُ نِدًّا لَهُ وَهُوَ لَا يَنْفَعُ وَلَا يَضُرُّ، وَلَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ، وَلَا تَخَافُونَ أَنْتُمْ إِشْرَاكَكُمْ بِاللهِ خَالِقِكُمْ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ حُجَّةً بَيِّنَةً بِالْوَحْيِ، وَلَا بِنَظَرِ الْعَقْلِ، تُثْبِتُ لَكُمْ جَعْلَهُ شَرِيكًا لَهُ فِي الْخَلْقِ وَالتَّدْبِيرِ، أَوْ فِي الْوَسَاطَةِ وَالشَّفَاعَةِ وَالتَّأْثِيرِ، فَافْتِيَاتُكُمْ عَلَى خَالِقِكُمُ الَّذِي بِيَدِهِ الضُّرُّ وَالنَّفْعُ بِهَذِهِ الْمُوبِقَةِ الْفَظِيعَةِ هُوَ الَّذِي يَجِبُ أَنْ يُخَافَ وَيُتَّقَى، فَالِاسْتِفْهَامُ لِلْإِنْكَارِ التَّعَجُّبِيِّ مِنْ تَخْوِيفِهِمْ إِيَّاهُ مَا لَا يُخِيفُ، فِي حَالِ كَوْنِهِمْ لَا يَخَافُونَ أَخْوَفَ مَا يُخَافُ، وَقَدْ قِيلَ إِنَّ هَذَا الِاسْتِفْهَامَ عَنْ كَيْفِيَّةِ الْخَوْفِ لَا عَنِ الْخَوْفِ نَفْسِهِ وَبَحَثُوا عَنْ نُكْتَتِهِ، وَالْمُرَادُ نُكْتَةُ الْعُدُولِ عَنِ الِاسْتِفْهَامِ بِالْهَمْزَةِ إِلَى الِاسْتِفْهَامِ بِكَيْفَ، وَهِيَ أَيِ النُّكْتَةُ تُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِ أَهْلِ اللُّغَةِ فِي مَعْنَى " كَيْفَ " مِنْ كَوْنِهَا سُؤَالًا عَنِ الْأَحْوَالِ - لَا مِمَّا تَكَلَّفَهُ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ - وَالْمَعْنَى أَنَّ كُلَّ صِفَةٍ وَحَالٍ يُمْكِنُ أَنْ تُدْعَى لِصِحَّةِ هَذَا الْخَوْفِ فَهِيَ بَاطِلَةٌ، وَأَنَّهُ عليه السلام لَمْ

يَجِدْ لِهَذَا الْخَوْفِ حَالًا وَلَا وَجْهًا، فَلَا هُوَ يَخَافُ هَؤُلَاءِ الشُّرَكَاءَ لِذَوَاتِهِمْ، وَلَا لِمَا يَزْعُمُونَهُ مِنْ وَسَاطَتِهِمْ عِنْدَ اللهِ وَشَفَاعَتِهِمْ، وَلَا لِقُدْرَةٍ عَلَى الضُّرِّ وَالنَّفْعِ قَدْ تُدَّعَى - وَلَوْ جَعَلَ اللهُ - لَهُمْ وَلَا لِثُبُوتِ جَعْلِهِمْ أَسْبَابًا لِلضَّرَرِ بِغَيْرِ إِرَادَةٍ وَلَا اخْتِيَارٍ مِنْهُمْ، فَالْمُرَادُ أَنَّ جَمِيعَ وُجُوهِ الْخَوْفِ وَأَحْوَالِهِ الْحَقِيقِيَّةِ وَالْمَجَازِ مُنْتَفِيَةٌ، وَإِلَّا فَعَلَيْهِمْ بَيَانُ كَيْفَ يَخَافُونَ.

وَقَدْ حُذِفَ مُتَعَلِّقُ الشِّرْكِ فِي مَقَامِ إِنْكَارِ خَوْفِهِ مِنْ شُرَكَائِهِمْ، وَذَكَرَهُ بَعْدَهُ فِي مَقَامِ إِنْكَارِ عَدَمِ خَوْفِهِمْ مِنْ شِرْكِهِمْ، وَهُوَ قَوْلُهُ (مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا) لِأَنَّ الْحَاجَةَ إِلَى بَيَانِ عَدَمِ وُجُودِ السُّلْطَانِ - أَيِ الدَّلِيلِ - عَلَى هَذَا الشِّرْكِ إِنَّمَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي مَقَامِ إِسْنَادِهِ إِلَيْهِمْ وَالتَّعَجُّبِ مِنْ عَدَمِ خَوْفِهِمْ سُوءَ عَاقِبَتِهِ، مَا لَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي مَقَامِ إِنْكَارِهِ هُوَ كُلَّ حَالٍ يُمْكِنُ أَنْ تُدْعَى لِخَوْفِهِ مِنْ شُرَكَائِهِمْ، فَهُوَ يُثْبِتُ بِذَلِكَ الْإِطْلَاقِ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ تُوجَدَ حَالٌ وَلَا صِفَةٌ لِلْخَوْفِ مِمَّا أَشْرَكُوهُ، فَلَوْ عَدَلَ عَنْهُ إِلَى تَقْيِيدِ إِنْكَارِهِ بِمَا ذَكَرَ لَفَاتَ بِهَذَا الْقَيْدِ ذَلِكَ الْعُمُومُ الْبَلِيغُ، وَذَهَبَ ذِهْنُ السَّامِعِينَ إِلَى أَنَّهُ سَيَخَافُ إِذَا ظَهَرَ لَهُ دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ دَعْوَاهُمْ، وَهُمْ قَوْمٌ مُقَلِّدُونَ يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ وُجُودِ أَدِلَّةٍ تُثْبِتُ صِحَّةَ اعْتِقَادِهِمْ، وَإِنْ لَمْ يَعْرِفُوهَا أَوْ يَقْدِرُوا عَلَى بَيَانِهَا لِخَصْمِهِمْ، وَأَمَّا ذِكْرُ هَذَا الْمُتَعَلِّقِ فِي مَقَامِ الْإِنْكَارِ التَّعَجُّبِيِّ مِنْ عَدَمِ خَوْفِهِمْ فَهُوَ ضَرُورِيٌّ، لِأَنَّهُ تَذْكِيرٌ لَهُمْ عِنْدَ ذِكْرِ عَقِيدَتِهِمْ بِأَنَّهُمْ لَا عُذْرَ لَهُمْ بِالْجَهْلِ بِبُطْلَانِهَا لِأَنَّهُ لَا دَلِيلَ لَهُمْ عَلَيْهَا.

وَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ إِنَّ قَوْلَهُ: (مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا) قَدْ ذُكِرَ عَلَى طَرِيقِ التَّهَكُّمِ مَعَ الْإِعْلَامِ بِأَنَّ الدِّينَ لَا يُقْبَلُ إِلَّا بِالْحُجَّةِ الْمُنَزَّلَةِ أَوْ مُطْلَقِ الْحُجَّةِ الْقَاطِعَةِ، وَأَنَّ التَّقْلِيدَ لَيْسَ بِعُذْرٍ وَلَا سِيَّمَا تَقْلِيدُ مَنْ لَيْسَ عَلَى هِدَايَةٍ وَلَا عِلْمٍ وَلَا بَصِيرَةٍ وَلَا عَقْلٍ، وَذَكَرَ الرَّازِيُّ فِي الْعِبَارَةِ وَجْهَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا كِنَايَةٌ عَنِ امْتِنَاعِ وُجُودِ الْحُجَّةِ وَالسُّلْطَانِ عَلَى الشِّرْكِ، وَالْمَعْنَى مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانَهُ لِأَنَّهُ بَاطِلٌ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَقُومَ عَلَيْهِ بُرْهَانٌ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:(وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ) 23: 117 أَيْ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ يَعْلَمُهُ وَلَا بُرْهَانَ يَجْهَلُهُ لِاسْتِحَالَةِ

ص: 481

الْبُرْهَانِ عَلَى الْبَاطِلِ. ثَانِيهِمَا: أَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ عَقْلًا أَنْ يُؤْمَرَ بِاتِّخَاذِ تِلْكَ التَّمَاثِيلِ وَالصُّوَرِ قِبْلَةً لِلدُّعَاءِ وَالصَّلَاةِ. وَأَقُولُ: إِنَّ هَذَا الْوَجْهَ لَا مَحَلَّ لَهُ لِأَنَّ جَعْلَهَا قِبْلَةً غَيْرُ جَعْلِهَا شُرَكَاءَ يُخَافُ ضُرُّهَا وَيُرْجَى نَفْعُهَا لِذَاتِهَا أَوْ لِوَسَاطَتِهَا عِنْدَ اللهِ تَعَالَى، فَالْقِبْلَةُ لَا تَأْثِيرَ لَهَا فِي نَفْعٍ وَلَا ضُرٍّ لَا بِالذَّاتِ وَلَا بِالشَّفَاعَةِ كَمَا

يَعْتَقِدُونَ فِي الشُّرَكَاءِ، وَإِنَّمَا يُتَوَّجَهُ إِلَيْهَا امْتِثَالًا لِأَمْرِ اللهِ، وَمِثْلُ ذَلِكَ اسْتِلَامُ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ فِي الطَّوَافِ، فَالِانْتِفَاعُ مَحْصُورٌ فِي طَاعَةِ اللهِ تَعَالَى بِذَلِكَ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يُزَكِّي النَّفْسَ.

ثُمَّ رَتَّبَ صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ عَلَى هَذَا الْإِنْكَارِ التَّعَجُّبِيِّ مَا هُوَ نَتِيجَةٌ لَهُ بِقَوْلِهِ: (فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) الْمُرَادُ بِالْفَرِيقَيْنِ فَرِيقُ الْمُوَحِّدِينَ الْحُنَفَاءِ الَّذِينَ يَعْبُدُونَ اللهَ وَحْدَهُ، وَيَخَافُونَ وَيَرْجُونَهُ وَلَا يَخَافُونَ وَلَا يَرْجُونَ غَيْرَهُ مِنْ دُونِهِ، وَإِنَّمَا يُعَارِضُونَ الْأَسْبَابَ بِالْأَسْبَابِ، وَيُدَافِعُونَ الْأَقْدَارَ بِالْأَقْدَارِ، كَاتِّقَاءِ أَسْبَابِ الْأَمْرَاضِ قَبْلَ وُقُوعِهَا، وَمُدَافَعَتِهَا بِالْأَدْوِيَةِ بَعْدَ الِابْتِلَاءِ بِهَا، وَفَرِيقُ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا تَأْثِيرَ بَعْضِ الْأَسْبَابِ، فَاتَّخَذُوا مِنْهَا مَا اتَّخَذُوا مِنَ الْآلِهَةِ وَالْأَرْبَابِ، بَلْ نَسَبُوا إِلَى بَعْضِهَا النَّفْعَ وَالضُّرَّ بِخِدَاعِ الْمُصَادَفَاتِ وَاخْتِرَاعِ الْأَوْهَامِ، فَهُوَ يَقُولُ لَهُمْ: أَيُّ هَذَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ وَأَجْدَرُ بِالْأَمْنِ عَلَى نَفْسِهِ، مِنْ عَاقِبَةِ عَقِيدَتِهِ وَعِبَادَتِهِ؟ وَنُكْتَةُ عُدُولِهِ عَنْ قَوْلِ: فَأَيُّنَا أَحَقُّ بِالْأَمْنِ، إِلَى قَوْلِهِ:(فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ) هِيَ بَيَانُ أَنَّ هَذِهِ الْمُقَابَلَةَ عَامَّةٌ لِكُلِّ مُوَحِّدٍ وَمُشْرِكٍ، مِنْ حَيْثُ أَنَّ أَحَدَ الْفَرِيقَيْنِ مُوَحِّدٌ وَالْآخِرَ مُشْرِكٌ، لَا خَاصَّةَ بِهِ وَبِهِمْ، فَهِيَ مُتَضَمِّنَةٌ لِعِلَّةِ الْأَمْنِ. وَقِيلَ: إِنْ نُكْتَتَهُ الِاحْتِرَازُ عَنْ تَزْكِيَةِ النَّفْسِ، وَاسْمُ التَّفْضِيلِ عَلَى غَيْرِ بَابِهِ، فَالْمُرَادُ أَيُّنَا الْحَقِيقُ بِالْأَمْنِ، وَلَكِنَّهُ عَبَّرَ بَاسِمِ التَّفْضِيلِ نَاطِقًا فِي اسْتِنْزَالِهِمْ عَنْ مُنْتَهَى الْبَاطِلِ - وَهُوَ ادِّعَاؤُهُمْ أَنَّهُمْ هُمُ الْحَقِيقُونَ بِالْأَمْنِ، وَأَنَّهُ هُوَ الْحَقِيقُ بِالْخَوْفِ - إِلَى الْوَسَطِ النَّظَرِيِّ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ، وَهُوَ أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ، وَاحْتِرَازًا عَنْ تَنْفِيرِهِمْ مِنَ الْإِصْغَاءِ إِلَى قَوْلِهِ كُلِّهِ ثُمَّ قَالَ:(إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أَيْ أَيُّهُمَا أَحَقُّ بِالْأَمْنِ - أَوْ إِنْ كُنْتُمْ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْبَصِيرَةِ فِي هَذَا الْأَمْرِ - فَأَخْبَرُونِي بِذَلِكَ، وَبَيِّنُوهُ بِالدَّلَائِلِ وَهَذَا إِلْجَاءٌ إِلَى الِاعْتِرَافِ بِالْحَقِّ أَوِ السُّكُوتِ عَلَى الْحَمَاقَةِ وَالْجَهْلِ: وَأَمَّا الْجَوَابُ فَهُوَ قَوْلُهُ الْحَقُّ: (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ) فِي هَذَا الْجَوَابِ احْتِمَالَاتٌ (أَحَدُهَا) أَنَّهُ مِنْ قَوْمِ إِبْرَاهِيمَ: أَيْ تَذَكَّرُوا لَمَّا ذَكَّرَهُمْ وَرَاجَعُوا عُقُولَهُمْ وَفِطْرَتَهُمْ، فَاعْتَرَفُوا بِالْحَقِّ كَمَا اعْتَرَفُوا حِينَ كَسَّرَ أَصْنَامَهُمْ مِنْ بَعْدُ، إِذْ قَالَ لَهُمْ:(بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ) 21: 63 - 65 وَقَدْ رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ هَذَا الِاحْتِمَالَ

عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ. (الثَّانِي) أَنَّهُ مِنْ قِبَلِ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام صَرَّحَ بِهِ إِذْ سَكَتُوا عَنِ الْجَوَابِ مُفْحَمِينَ مُبَالَغَةً فِي تَبْكِيتِهِمْ، وَقَدْ قَالَ الْآلُوسِيُّ: إِنَّ هَذَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ وَلَمْ أَرَهُ فِي تَفْسِيرِ ابْنِ جَرِيرٍ وَلَا ابْنِ كَثِيرٍ وَلَا الدُّرِّ الْمَنْثُورِ، وَلَعَلَّهُ نَقَلَهُ عَنْ بَعْضِ تَفَاسِيرِ الشِّيعَةِ. (الثَّالِثُ) أَنَّهُ مِنَ اللهِ عز وجل فَصَلَ بِهِ الْقَضَاءَ بَيْنَ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ حَاجَّهُ مِنْ

ص: 482

قَوْمِهِ - رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ إِسْحَاقَ وَابْنِ زَيْدٍ وَاخْتَارَهُ وَقَالَ إِنَّهُ أَوْلَى الْقَوْلَيْنِ بِالصَّوَابِ وَقَدْ يُرَجِّحُهُ فِي اللَّفْظِ عَطْفُ الْآيَةِ التَّالِيَةِ عَلَى هَذِهِ.

وَالَّذِي نَرَاهُ: أَنَّ الْأَمْنَ فِي هَذَا الْكَلَامِ يُقَابِلُ الْخَوْفَ فِيهِ، وَهُوَ الْأَمْنُ مِنْ عَذَابِ الرَّبِّ الْمَعْبُودِ لِمَنْ لَا يَرْضَى إِيمَانَهُ وَعِبَادَتَهُ، فَإِنَّهُمْ خَوَّفُوا إِبْرَاهِيمَ أَنْ تَمَسَّهُ آلِهَتُهُمْ وَأَرْبَابُهُمْ بِسُوءٍ لَجَحْدِهِ إِيَّاهُمْ وَعَدَاوَتِهِ لَهُمْ، فَأَجَابَ بِأَنَّهُ إِنَّمَا يَخَافُ اللهَ وَحْدَهُ وَلَا يَخَافُهُمْ، وَالظُّلْمُ الَّذِي يُلْبَسُ بِهِ الْإِيمَانُ بِاللهِ وَيُخَالِطُهُ، فَيُنْقِصُ مِنْهُ أَوْ يَنْقُضُهُ، هُوَ الشِّرْكُ فِي الْعَقِيدَةِ أَوِ الْعِبَادَةِ، كَاتِّخَاذِ وَلِيٍ مِنْ دُونِ اللهِ يُدْعَى مَعَهُ أَوْ مِنْ دُونِهِ وَلَوْ لِأَجْلِ التَّقْرِيبِ إِلَيْهِ وَالشَّفَاعَةِ عِنْدَهُ. وَيُحَبُّ كَحُبِّهِ، وَيُعَظَّمُ مِنْ جِنْسِ تَعْظِيمِهِ، لِاعْتِقَادِ أَنَّ لَهُ سُلْطَانًا مِنْ وَرَاءِ الْأَسْبَابِ يَنْفَعُ بِهِ وَيَضُرُّ بِذَاتِهِ، أَوْ بِتَأْثِيرِهِ فِي مَشِيئَةِ اللهِ وَقُدْرَتِهِ، وَلَا يَدْخُلُ فِيهِ الظُّلْمُ الَّذِي لَيْسَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُلَابِسَ الْإِيمَانَ، كَظُلْمِ الْمَرْءِ نَفْسَهُ بِإِتْيَانِ بَعْضِ الْمَضَارِّ، أَوْ تَرْكِ بَعْضِ الْمَنَافِعِ عَنْ جَهْلٍ أَوْ إِهْمَالٍ أَوْ ظُلْمِ غَيْرِهِ بِبَعْضِ الْأَحْكَامِ أَوِ الْأَعْمَالِ، وَهَذَا التَّفْسِيرُ لِلظُّلْمِ يُبَيَّنُ بِهِ مَا وَرَدَ تَفْسِيرُهُ بِهِ فِي الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ الَّذِي سَنَذْكُرُهُ.

(فَإِنْ قِيلَ) : إِنَّ الظُّلْمَ فِي الْآيَةِ نَكِرَةٌ فِي حَيِّزِ النَّفْيِ فَهِيَ لِلْعُمُومِ وَالشُّمُولِ، (قُلْنَا) : إِنْ عُمُومَ كُلِّ شَيْءٍ بِحَسَبِهِ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) عَامٌّ فِي كُلِّ شَيْءٍ مُمْكِنٍ، وَلَا يَدْخُلُ فِي عُمُومِهِ ذَاتُ اللهِ تَعَالَى وَصِفَاتُهُ الْوَاجِبَةُ لَهُ فَلَا يُقَالُ إِنَّهُ قَادِرٌ عَلَى إِعْدَامِهَا وَلَا عَلَى إِيجَادِهَا وَلَا أَنَّهُ غَيْرُ قَادِرٍ، وَقَوْلُهُ فِي مَلِكَةِ سَبَأٍ:(وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) 27: 23 عَامٌّ فِي كُلِّ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْمُلُوكُ، لَا كُلِّ شَيْءٍ فِي الْوُجُودِ، فَمَنْ لَمْ يَقْبَلْ جَعْلَ مِثْلِ هَذَا مِنَ الْعَامِّ بِإِطْلَاقٍ، فَلْيَجْعَلْهُ مِنَ الْعَامِّ الَّذِي أُرِيدَ بِهِ الْخَاصُّ، وَقَدْ ذُهِلَ الزَّمَخْشَرِيُّ عَنْ كَوْنِ الْإِيمَانِ هُنَا هُوَ الْإِيمَانُ الْمُطْلَقُ الَّذِي أَثْبَتَهُ الْقُرْآنُ لِلْمُشْرِكِينَ لَا الْإِيمَانُ الصَّحِيحُ الْكَامِلُ الَّذِي جَاءَ بِهِ الرُّسُلُ، وَلِهَذَا الذُّهُولِ جَزَمَ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالظُّلْمِ هُنَا الْمَعَاصِي دُونَ الشِّرْكِ لِأَنَّ الشِّرْكَ لَا يُخَالِطُ الْإِيمَانَ الصَّحِيحَ لِأَنَّهُ ضِدُّهُ وَنَقِيضُهُ، نَقُولُ: نَعَمْ وَلَكِنَّهُ يُخَالِطُ مُطْلَقَ الْإِيمَانِ بِاللهِ تَعَالَى

وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي الْمُشْرِكِينَ: (وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) 12: 106.

ثُمَّ لَا يَخْفَى أَنَّ الْأَمْنَ فِي الْآيَةِ مَقْصُورٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ، فَإِذَا حُمِلَ الْعُمُومُ فِيهَا عَلَى إِطْلَاقِهِ وَعَدَمِ مُرَاعَاةِ مَوْضُوعِ الْإِيمَانِ يَكُونُ الْمَعْنَى: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَخْلِطُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ مَا لِأَنْفُسِهِمْ - لَا فِي إِيمَانِهِمْ وَلَا فِي أَعْمَالِهِمُ الْبَدَنِيَّةِ وَالنَّفْسِيَّةِ مِنْ دِينِيَّةٍ وَدُنْيَوِيَّةٍ، وَلَا بِغَيْرِهِمْ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ، مِنَ الْعُقَلَاءِ وَالْعَجْمَاوَاتِ - أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ مِنْ عِقَابِ اللهِ تَعَالَى الدِّينِيِّ عَلَى ارْتِكَابِ الْمَعَاصِي وَالْمُنْكَرَاتِ، وَعِقَابِهِ الدُّنْيَوِيِّ عَلَى عَدَمِ مُرَاعَاةِ سُنَنِهِ فِي رَبْطِ الْأَسْبَابِ بِالْمُسَبِّبَاتِ، كَالْفَقْرِ وَالْأَسْقَامِ وَالْأَمْرَاضِ، دُونَ غَيْرِهِمْ مِمَّنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ أَوْ غَيْرَهُمْ فَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَا أَمَانَ لَهُمْ، بَلْ كُلُّ ظَالِمٍ عُرْضَةٌ لِلْعِقَابِ وَإِنْ كَانَ اللهُ تَعَالَى لِسِعَةِ رَحْمَتِهِ لَا يُعَاقِبُ كُلَّ

ص: 483

ظَالِمٍ عَلَى كُلِّ ظُلْمٍ، بَلْ يَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ مِنْ ذُنُوبِ الدُّنْيَا، وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ فِي الْآخِرَةِ مَا دُونُ الشِّرْكِ بِهِ، وَهَذَا الْمَعْنَى فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ صَحِيحٌ فِي نَفْسِهِ، وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ أَنَّ الْأَمْنَ الْمُطْلَقَ مِنَ الْخَوْفِ مِنْ عِقَابِ اللهِ الدِّينِيِّ وَالدُّنْيَوِيِّ أَوِ الشَّرْعِيِّ وَالْقَدَرِيِّ جَمِيعًا لَا يَصِحُّ لِأَحَدٍ مِنَ الْمُكَلَّفِينَ، دَعْ خَوْفَ الْهَيْبَةِ وَالْإِجْلَالِ، الَّذِي يَمْتَازُ بِهِ أَهْلُ الْكَمَالِ، وَقَدْ صَحَّ إِسْنَادُ الْخَوْفِ إِلَى الْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ (يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ) 16: 5 (وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ) 17: 57 (وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ) 21: 28 وَهَذَا التَّفْسِيرُ يُؤَيِّدُ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ عليه الصلاة والسلام: (إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا) عَلَى مَا تَقَدَّمَ، وَأَمَّا الْأَمْنُ مِنْ عِقَابِ الْآخِرَةِ بِالْفِعْلِ - وَهُوَ النَّجَاةُ مِنْهُ - فَهُوَ ثَابِتٌ لِلْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ عليهم السلام، وَلِكَثِيرٍ مِمَّنْ دُونَهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ الَّذِينَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا كُلٌّ مِنْهُمْ لِيَبْقَى جَامِعًا بَيْنَ الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ. وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُؤْمِنُ فَيَمُوتُ قَبْلَ أَنْ يَظْلِمَ أَحَدًا، وَقَدْ وَرَدَ حَدِيثٌ فِي إِدْخَالِ مِثْلِ هَذَا فِي مَفْهُومِ الْآيَةِ.

وَأَمَّا مَعْنَى الْآيَةِ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ فَهُوَ: الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ تَعَالَى وَلَمْ يَخْلِطُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ عَظِيمٍ - وَهُوَ الشِّرْكُ بِهِ سُبْحَانَهُ - أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ دُونَ غَيْرِهِمْ مِنَ الْعِقَابِ الدِّينِيِّ الْمُتَعَلِّقِ بِأَصْلِ الدِّينِ وَهُوَ الْخُلُودُ فِي دَارِ الْعَذَابِ، وَهُمْ فِيمَا دُونَ ذَلِكَ بَيْنَ الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ.

وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ أَنَّهُ قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمِهِ خَاصَّةً لَيْسَ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ. وَلَعَلَّ مُرَادَهُ أَنَّ اللهَ خَصَّ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمَهُ بِأَمْنِ مُوَحِّدِهِمْ مِنْ

عَذَابِ الْآخِرَةِ مُطْلَقًا لَا أَمْنَ الْخُلُودِ فِيهِ فَقَطْ، وَلَعَلَّ سَبَبَ هَذَا إِنْ صَحَّ أَنَّ اللهَ تَعَالَى لَمْ يُكَلِّفْ قَوْمَ إِبْرَاهِيمَ شَيْئًا غَيْرَ التَّوْحِيدِ اكْتِفَاءً بِتَرْبِيَةِ شَرَائِعِهِمُ الْمَدَنِيَّةِ الشَّدِيدَةِ لَهُمْ فِي الْأَحْوَالِ الشَّخْصِيَّةِ وَالْأَدَبِيَّةِ وَغَيْرِهَا. وَقَدْ عَثَرَ الْبَاحِثُونَ عَلَى شَرِيعَةِ حَمُورَابِي الْمَلِكِ الصَّالِحِ الَّذِي كَانَ فِي عَهْدِ إِبْرَاهِيمَ - وَقَدْ بَارَكَهُ وَأَخَذَ مِنْهُ الْعُشُورَ كَمَا فِي سِفْرِ التَّكْوِينِ - فَإِذَا هِيَ كَالتَّوْرَاةِ فِي أَكْثَرِ أَحْكَامِهَا، وَأَمَّا فَرْضُ اللهِ الْحَجَّ عَلَى لِسَانِ إِبْرَاهِيمَ فَقَدْ كَانَ فِي قَوْمِ وَلَدِهِ إِسْمَاعِيلَ لَا فِي قَوْمِهِ الْكَلْدَانِيِّينَ، وَأَمَّا هَذِهِ الْأُمَّةُ فَإِنَّ مِنْ مُوَحِّدِيهَا مَنْ يُعَذَّبُونَ بِالْمَعَاصِي عَلَى قَدْرِهَا ; لِأَنَّهُمْ خُوطِبُوا بِشَرِيعَةٍ كَامِلَةٍ يُحَاسَبُونَ عَلَى إِقَامَتِهَا.

هَذَا - وَأَمَّا حَصْرُ الْأَمْنِ فِيمَنْ ذَكَرَ عَلَى الْوَجْهَيْنِ فَيُؤْخَذُ مِنْ تَكْرَارِ الْإِسْنَادِ ثَلَاثًا وَتَقْدِيمِ الْمُسْنَدِ عَلَى الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ الثَّالِثِ، وَلَوْلَا إِرَادَةُ الِاخْتِصَاصِ لَكَانَ الْكَلَامُ هَكَذَا: الْأَمْنُ لِلَّذِينَ

ص: 484

آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ، وَلَوْ قِيلَ: لِلَّذِينَ آمَنُوا الْأَمْنُ لَكَانَ آكَدُ، وَآكَدُ مِنْهُ أَنْ يُقَالَ: الَّذِينَ آمَنُوا. . . لَهُمُ الْأَمْنُ، وَآكُدُ مِنْ هَذَا نَصُّ الْآيَةِ، وَأَمَّا كَوْنُ الْمُرَادِ بِالظُّلْمِ هُنَا الظُّلْمُ الْعَظِيمُ مِنْهُ فَقَدْ يَدُلُّ عَلَيْهِ تَنْكِيرُهُ ; وَأَمَّا جَعْلُ هَذَا الظُّلْمِ الْعَظِيمِ خَاصًّا بِالشِّرْكِ بِاللهِ تَعَالَى فَلَا يُعْلَمُ مِنْ نَصِّ الْآيَةِ، وَلَكِنَّ السِّيَاقَ وَمَوْضُوعَ الْإِيمَانِ قَدْ يَدُلُّ عَلَيْهِ دَلَالَةً غَيْرَ قَطْعِيَّةٍ لُغَةً كَمَا عُلِمَ مِمَّا تَقَدَّمَ ; وَلِذَلِكَ فَهِمَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ رضي الله عنه مِنْهُ الْعُمُومَ الْمُطْلَقَ وَهُمْ مِنْ أَهْلِ اللِّسَانِ، فَأَخْبَرَهُمُ الرَّسُولُ عليه الصلاة والسلام وَهُوَ أَعْلَمُ بِمُرَادِ مَنْ أَنْزَلَهُ عَلَيْهِ - بِمَعْنَاهُ الدَّالِّ عَلَى أَنَّهُ مِنَ الْعَامِّ الَّذِي أُرِيدَ بِهِ الْخَاصُّ، رَوَى أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُمْ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ الْآيَةَ لَمَّا نَزَلَتْ شَقَّ ذَلِكَ عَلَى النَّاسِ وَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ وَأَيُّنَا لَمْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ؟ فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: " إِنَّهُ لَيْسَ الَّذِي تَعْنُونَ أَلَمْ تَسْمَعُوا مَا قَالَ الْعَبْدُ الصَّالِحُ (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) 31: 13 إِنَّمَا هُوَ الشِّرْكُ " وَرُوِيَ تَفْسِيرُ الظُّلْمِ هُنَا بِالشِّرْكِ عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَحُذَيْفَةَ وَسَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمْ.

(وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ) قِيلَ: إِنَّ الْإِشَارَةَ إِلَى كُلِّ مَا تَقَدَّمَ فِي هَذَا السِّيَاقِ، وَقِيلَ: إِلَى الْآيَةِ الْأَخِيرَةِ مِنْهُ، وَالْأَوَّلُ أَقْوَى وَأَظْهَرُ وَأَعَمُّ وَأَشْمَلُ، وَالْمُرَادُ بِالْحُجَّةِ جِنْسُهَا، لَا فَرْدَ مِنْ أَفْرَادِهَا، أَيْ وَتِلْكَ الْحُجَّةُ الَّتِي تَضَمَّنَهَا مَا تَقَدَّمَ

مِنَ الْمَقَالِ، الْبَعِيدَةُ الْمَرْمَى فِي إِثْبَاتِ الْحَقِّ وَتَزْيِيفِ الضَّلَالِ، هِيَ حِجَّتُنَا الْبَالِغَةُ، الَّتِي لَا تُنَالُ إِلَّا بِهِدَايَتِنَا السَّابِغَةِ، أَعْطَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ حُجَّةً عَلَى قَوْمِهِ مُسْتَعْلِيَةً عَلَيْهِمْ، قَاطِعَةً لِأَلْسِنَتِهِمْ (نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ) الدَّرَجَاتُ فِي الْأَصْلِ مَرَاقِي السُّلَّمِ وَتُوِسِّعَ فِيهَا فَصَارَتْ تُطْلَقُ عَلَى الْمَرَاتِبِ الْمَعْنَوِيَّةِ فِي الْخَيْرِ وَالْجَاهِ وَالْعِلْمِ وَالسِّيَادَةِ وَالرِّزْقِ، وَقَدْ قَرَأَ الْكُوفِيُّونَ دَرَجَاتٍ بِالتَّنْوِينِ، وَقَرَأَهَا الْبَاقُونَ بِالْإِضَافَةِ إِلَى مَنْ نَشَاءُ، وَمَعْنَى الْأَوَّلِ نَرْفَعُ مَنْ شِئْنَا مِنْ عِبَادِنَا دَرَجَاتٍ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى دَرَجَةٍ مِنْهَا، وَمَعْنَى الثَّانِيَةِ نَرْفَعُ دَرَجَاتِ مِنْ شِئْنَا مِنْ أَصْحَابِ الدَّرَجَاتِ حَتَّى تَكُونَ دَرَجَتُهُ فِي كُلِّ فَضِيلَةٍ وَمَنْقَبَةٍ أَرْفَعَ مِنْ دَرَجَةِ غَيْرِهِ فِيهَا، وَحِكْمَةُ الْقِرَاءَتَيْنِ، إِثْبَاتُ الْمَعْنَيَيْنِ، فَالْعِلْمُ النَّظَرِيُّ دَرَجَةُ كَمَالٍ، وَالْحِكْمَةُ الْعِلْمِيَّةُ وَالْعَمَلِيَّةُ دَرَجَتَا كَمَالٍ، وَفَصْلُ الْخِطَابِ وَقُوَّةُ الْعَارِضَةِ فِي الْحِجَاجِ مِنْ دَرَجَاتِ الْكَمَالِ، وَالسِّيَادَةِ وَالْحُكْمُ بِالْحَقِّ دَرَجَةُ كَمَالٍ، وَالنُّبُوَّةُ وَالرِّسَالَةُ أَعْلَى مِنْ كُلِّ هَذِهِ الدَّرَجَاتِ ; لِأَنَّهَا تَشْتَمِلُ عَلَيْهَا وَتَزِيدُ عَنْهَا، وَكُلُّ ذَلِكَ مُتَفَاوِتٌ بِفَضْلِ اللهِ فَضَّلَ بَعْضَ أَهْلِهِ عَلَى بَعْضٍ، فَهُوَ سُبْحَانُهُ يُؤْتِي الدَّرَجَاتِ ابْتِدَاءً بِإِعْدَادِهِ وَبِتَوْفِيقِهِ مَنْ يَشَاءُ لِلْكَسْبِيِّ مِنْهَا، وَاخْتِصَاصِهِ مَنْ

ص: 485

يَشَاءُ بِالْوَهْبِيِّ مِنْهَا، ثُمَّ هُوَ الَّذِي يَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ يُؤْتِيهِمْ ذَلِكَ بِتَوْفِيقِ صَاحِبِ الدَّرَجَةِ الْكَسْبِيَّةِ إِلَى مَا تَرْتَقِي بِهِ دَرَجَتُهُ، وَبِصَرْفِ مَوَانِعِ هَذَا الِارْتِقَاءِ عَنْهُ، وَبِإِيتَاءِ ذِي الدَّرَجَةِ الْوَهْبِيَّةِ (النُّبُوَّةِ) مَا لَمْ يُؤْتَ غَيْرُهُ مِنْ أَهْلِهَا مِنَ الْمَنَاقِبِ وَالْآيَاتِ الْمُنَزَّلِيَّهِ وَالتَّكْوِينِيَّةِ وَكَثْرَةِ إِهْدَاءِ الْخَلْقِ بِهَا (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ) 2: 253 وَجُمْلَةُ (نَرْفَعُ) اسْتِئْنَافِيَّةٌ مَبْنِيَّةٌ أَنَّ مَا آتَى اللهُ إِبْرَاهِيمَ عليه الصلاة والسلام مِنَ الْحُجَّةِ كَانَ بِاخْتِصَاصِهِ بِأَعْلَى دَرَجَاتِ النُّبُوَّةِ الْوَهْبِيَّةِ، وَمَا تَرَتَّبَ عَلَيْهَا مِنْ دَرَجَاتِ الدَّعْوَةِ الْكَسْبِيَّةِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى بَعْدَ هَذَا:(إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) تَذْيِيلٌ مُقَرِّرٌ لِمَضْمُونِ مَا قَبْلَهُ مُبَيِّنٌ لِمُنْشِئِهِ وَمُتَعَلِّقِهِ مِنْ صِفَاتِ اللهِ تَعَالَى، وَقَدْ وَضَعَ فِيهِ اسْمَ الرَّبِّ مُضَافًا إِلَى ضَمِيرِ الرَّسُولِ عليه الصلاة والسلام، مَوْضِعَ نُونِ الْعَظَمَةِ عَلَى طَرِيقِ الِالْتِفَاتِ، تَذْكِيرًا مِنْهُ تَعَالَى لِخَاتَمِ رُسُلِهِ بِفَضْلِهِ عَلَيْهِ وَتَفْضِيلِهِ إِيَّاهُ، بِرَفْعِهِ دَرَجَاتٍ عَلَى جَمِيعِ رُسُلِ اللهِ، فَهُوَ يَقُولُ لَهُ إِنَّ رَبَّكَ الَّذِي رَبَّاكَ وَآوَاكَ، وَعَلَّمَكَ وَهَدَاكَ، وَرَفَعَ ذِكْرَكَ بِجُودِهِ وَكَرَمِهِ، وَجَعَلَكَ خَاتَمَ رُسُلِهِ لِجَمِيعِ خَلْقِهِ، حَكِيمٌ فِي فِعْلِهِ

وَصُنْعِهِ، عَلِيمٌ بِشُئُونِ خَلْقِهِ وَسِيَاسَةِ عِبَادِهِ، وَسَيُرِيكَ شَاهَدَ ذَلِكَ عِيَانًا فِي سِيرَتِكَ مَعَ قَوْمِكَ، كَمَا أَرَاكَهُ بَيَانًا فِيمَا كَانَ مِنْ إِبْرَاهِيمَ مَعَ قَوْمِهِ.

وَقَدْ زَعَمَ الرَّازِيُّ أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَعَارِفَ الْأَنْبِيَاءِ بِرَبِّهِمُ اسْتِدْلَالِيَّةٌ لَا ضَرُورِيَّةٌ، وَإِلَّا لَمَا احْتَاجَ إِبْرَاهِيمُ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ، وَعَلَى أَنَّهُ لَا طَرِيقَ إِلَى مَعْرِفَةِ اللهِ تَعَالَى إِلَّا النَّظَرَ وَالِاسْتِدْلَالَ بِأَحْوَالِ الْمَخْلُوقَاتِ ; إِذْ لَوْ أَمْكَنَ تَحْصِيلُهَا بِغَيْرِ ذَلِكَ لَمَا عَدَلَ عليه الصلاة والسلام إِلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ. وَقَدْ عُلِمَ مِمَّا فَسَّرْنَا بِهِ الْآيَاتِ بُطْلَانُ الْحَصْرِ فِي هَذَيْنَ الزَّعْمَيْنِ وَبُطْلَانُ غَيْرِهِ مِنْ مَزَاعِمِهِ النَّظَرِيةِ فِي هَذَا الْمَقَامِ. وَالْحَقُّ أَنَّ مَعْرِفَةَ اللهِ تَعَالَى لَا تَحْصُلُ عَلَى الْوَجْهِ الصَّحِيحِ إِلَّا بِتَعْلِيمِ الْوَحْيِ وَعِلْمُ الْأَنْبِيَاءِ بِهِ ضَرُورِيٌّ لَا نَظَرِيٌّ، فَقَدْ عَلَّمَهُمْ بِهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَعْلَمُونَ بِنَظَرِهِمْ مِنَ الْمَسَائِلِ، وَعَلَّمَهُمْ مَا يُثْبِتُونَهَا بِهِ مِنَ الْحُجَجِ الْعَقْلِيَّةِ وَالدَّلَائِلِ، وَلَكِنْ مِنْ طُرُقِ دَعْوَتِهِمْ إِلَى مَا هَدَاهُمْ إِلَيْهِ، وَمِنِ اسْتِدْلَالِهِمْ عَلَيْهِ بَعْدَ إِعْلَامِهِمْ بِهِ، مَا هُوَ كَسْبِيٌّ لَهُمْ يُؤَدُّونَهُ بِنَظَرِهِمْ وَاسْتِدْلَالِهِمْ، وَقَدِ اطَّلَعْنَا عَلَى نَظَرِيَّاتِ فَلَاسِفَةِ الْيُونَانِ، وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْفَلَاسِفَةِ وَعُلَمَاءِ الْكَلَامِ، فَوَجَدْنَا أَكْثَرَهَا فِي بَابِ الْإِلَهِيَّاتِ أَوْهَامًا، وَقَدِ اعْتَرَفَ الرَّازِيُّ نَفْسُهُ بِذَلِكَ فِي آخِرِ عُمُرِهِ، وَنَدِمَ عَلَى مَا فَرَّطَ فِيهِ، وَلَنَا بَيْتَانِ فِي هَذَا الْمَقَامِ، قُلْنَاهُمَا فِي أَيَّامِ تَحْصِيلِ عِلْمِ الْكَلَامِ:

يَا أَيُّهَا الرَّجُلُ الَّذِي هُوَ

جَاهِدٌ فِي الْفَلْسَفَهْ.

مَاذَا يَرُوقُكَ مِنْ تَعَلُّـ

ـمِهَا وَأَكْثَرُهَا سَفَهْ.

ص: 486

(وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ذَلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ

عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ) .

بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى فِي الْآيَاتِ السَّابِقَةِ لِهَذِهِ بَعْضَ مَا رَفَعَ مِنْ دَرَجَاتِ إِبْرَاهِيمَ عليه الصلاة والسلام، ثُمَّ بَيَّنَ فِي هَذِهِ فَضْلَهُ وَنِعَمَهُ عَلَيْهِ فِي حَسَبِهِ وَنَسَبِهِ، وَأَعْلَاهَا جَعَلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فِي ذُرِّيَّتِهِ، فَقَالَ:(وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا) أَيْ وَوَهَبْنَا لِإِبْرَاهِيمَ بِآيَةٍ مِنَّا إِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ، وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ وَلَدَهُ يَعْقُوبَ نَبِيًّا نَجِيبًا مُنْجِبًا لِلْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ، وَهَدَيْنَا كُلًّا مِنْهُمَا كَمَا هَدَيْنَا إِبْرَاهِيمَ بِمَا آتَيْنَاهُمَا مِنَ النُّبُوَّةِ وَالْحِكْمَةِ وَقُوَّةِ الْحُجَّةِ. وَتَقْدِيمُ " كُلًّا " عَلَى " هَدَيْنَا " لِإِفَادَةِ اخْتِصَاصِ كُلٍّ مِنْهُمَا بِمَا ذَكَرَ مِنَ الْهِدَايَةِ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِقْلَالِ لَا التَّبَعِ ; لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا كَانَ نَبِيًّا، هَادِيًا مَهْدِيًّا، وَإِنَّمَا ذَكَرَ إِسْحَاقَ مِنْ وَلَدَيْ إِبْرَاهِيمَ دُونَ

ص: 487

إِسْمَاعِيلَ، لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي وَهَبَهُ اللهُ تَعَالَى لَهُ بِآيَةٍ مِنْهُ بَعْدَ كِبَرِ سِنِّهِ وَيَأْسِ امْرَأَتِهِ سَارَّةَ عَلَى عُقْمِهَا جَزَاءً لِإِيمَانِهِ وَإِحْسَانِهِ، وَكَمَالِ إِسْلَامِهِ لِرَبِّهِ وَإِخْلَاصِهِ، بَعْدَ ابْتِلَائِهِ بِذَبْحِ وَلَدِهِ إِسْمَاعِيلَ وَاسْتِسْلَامِهِ لِأَمْرِ رَبِّهِ فِي الرُّؤْيَا مِنْ غَيْرِ تَأْوِيلٍ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ سِوَاهُ عَلَى كِبَرِ سِنِّهِ، وَقَدْ وُلِدَ لَهُ مِنْ سُرِّيَّةٍ شَابَّةٍ ; وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى بَعْدَ ذِكْرِ قِصَّةِ الذَّبْحِ مِنْ سُورَةِ الصَّافَّاتِ:(وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ) 37: 112 وَسَنُبَيِّنُ حِكْمَةَ تَأْخِيرِ ذِكْرِ إِسْمَاعِيلَ وَذِكْرِهِ مَعَ مَنْ ذَكَرَ مِنَ الرُّسُلِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَقَالَ الْمُفَسِّرُونَ وَالْمُؤَرِّخُونَ أَنَّ كَلِمَةَ (إِسْحَاقَ) مَعْنَاهَا (الضَّحَّاكُ) وَقِيلَ: إِنَّ مَعْنَاهَا الْحَرْفِيَّ (يُضْحِكُ) وَقَالُوا: إِنَّهُ وُلِدَ وَلِأَبِيهِ مِائَةٌ وَاثْنَتَا عَشْرَةَ سَنَةً، وَلِأُمِّهِ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ سَنَةً، وَأَنَّهُ عَاشَ مِائَةً وَثَمَانِينَ سَنَةً وَقَالَ بَعْضُ عُلَمَائِهِمْ: إِنَّ مَعْنَى كَلِمَةِ (يَعْقُوبَ) الْحَرْفِيَّ " أَخَذَ الْعَقِبَ " وَالْمُرَادُ يَخْتَلِسُ مَا يَأْخُذُهُ.

(وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ) أَيْ وَهَدَيْنَا جَدَّهُ نُوحًا - هَدَيْنَاهُ مِنْ قَبْلِ إِبْرَاهِيمَ إِلَى مِثْلِ مَا هَدَيْنَا لَهُ إِبْرَاهِيمَ وَذُرِّيَّتَهُ مِنَ النُّبُوَّةِ وَالْحِكْمَةَ، وَإِرْشَادِ الْخَلْقِ وَتَلْقِينِ الْحُجَّةِ. قِيلَ: إِنَّ اسْمَ (نُوحٍ) مِنْ مَادَّةِ النَّوْحِ الْعَرَبِيَّةِ وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ أَعْجَمِيٌّ، قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: مَعْنَاهُ بِالْعَرَبِيَّةِ (السَّاكِنُ) وَقَالَ مُؤَرِّخُو أَهْلِ الْكِتَابِ: إِنَّ مَعْنَاهُ (رَاحَةٌ) وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ) فَهُوَ عَطْفٌ عَلَى " وَنُوحًا هَدَيْنَا " أَيْ وَهَدَيْنَا مِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِلَخْ. وَقَدْ جَزَمَ ابْنُ جَرِيرٍ شَيْخُ الْمُفَسِّرِينَ بِأَنَّ الضَّمِيرَ فِي ذُرِّيَّتِهِ لِنُوحٍ، وَتَابَعَهُ عَلَى ذَلِكَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ وَاحْتَجُّوا بِأَنَّهُ أَقْرَبُ فِي الذِّكْرِ، وَبِأَنَّ لُوطًا وَيُونُسَ لَيْسَا مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ، وَزَادَ بَعْضُهُمْ أَنَّ وَلَدَ الْمَرْءِ لَا يُعَدُّ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ، فَلَا يُقَالُ إِنَّ إِسْمَاعِيلَ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ، وَهَذَا الْقَوْلُ لَا يَصِحُّ لِتَصْرِيحِ أَهْلِ اللُّغَةِ بِأَنَّ الذُّرِّيَّةَ النَّسْلُ مُطْلَقًا. وَأَخَذَ بَعْضُهُمْ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى:(وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ) 36: 41 أَنَّ الذُّرِّيَّةَ تُطْلَقُ عَلَى الْأُصُولِ كَمَا تُطْلَقُ عَلَى الْفُرُوعِ وَذَلِكَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْفُلْكِ الْمَشْحُونِ سَفِينَةُ نُوحٍ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الذُّرِّيَّةَ هُنَا لِلْفُرُوعِ الْمُقَدَّرَةِ فِي أَصْلَابِ الْأُصُولِ، وَالْقَوْلُ الْآخَرُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ، أَنَّهُ سَفِينُ التِّجَارَةِ الَّتِي كَانَ الْمُخَاطَبُونَ يُرْسِلُونَ فِيهَا أَوْلَادَهُمْ يَتَّجِرُونَ.

وَذَهَبَ سَائِرُ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى أَنَّ الضَّمِيرَ عَائِدٌ إِلَى إِبْرَاهِيمَ لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي شَأْنِهِ، وَمَا أَتَاهُ اللهُ تَعَالَى مِنْ فَضْلِهِ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ نُوحًا لِأَنَّهُ جَدُّهُ، فَهُوَ لِبَيَانِ نِعَمِ اللهِ عَلَيْهِ فِي أَفْضَلِ أُصُولِهِ، تَمْهِيدًا لِبَيَانِ نِعَمِهِ عَلَيْهِ فِي الْكَثِيرِ مِنْ فُرُوعِهِ، وَيُزَادُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ اللهَ جَعَلَ الْكِتَابَ وَالنُّبُوَّةَ فِي نَسْلِهِمَا مَعًا. مُنْفَرِدًا وَمُجْتَمِعًا كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْحَدِيدِ:(وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ) 57: 26 وَقَالَ بَعْضُ هَؤُلَاءِ: إِنَّ يُونُسَ مِنْ ذُرِّيَّةِ

ص: 488

إِبْرَاهِيمَ، وَإِنَّ لُوطًا ابْنُ أَخِيهِ وَقَدْ هَاجَرَ مَعَهُ فَهُوَ يَدْخُلُ فِي ذُرِّيَّتِهِ بِطَرِيقِ التَّغْلِيبِ، وَيُعَدُّ مِنْهَا بِطَرِيقِ التَّجَوُّزِ الَّذِي يُسَمُّونَ بِهِ الْعَمَّ أَبَا، وَتَقَدَّمَ بَيَانُ هَذَا التَّجَوُّزِ فِي الْكَلَامِ عَلَى أَبِي إِبْرَاهِيمَ عليه الصلاة والسلام فِي فَاتِحَةِ تَفْسِيرِ هَذَا السِّيَاقِ.

وَقَدْ ذَكَرَ اللهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَاتِ الثَّلَاثِ أَرْبَعَةَ عَشَرَ نَبِيًّا لَمْ يُرَتِّبْهُمْ عَلَى حَسَبِ

تَارِيخِهِمْ وَأَزْمَانِهِمْ لِأَنَّهُ أَنْزَلَ كِتَابَهُ هُدَى وَمَوْعِظَةً لَا تَارِيخًا - وَلَا عَلَى حَسَبِ فَضْلِهِمْ وَمَنَاقِبِهِمْ لِأَنَّ كِتَابَهُ لَيْسَ كِتَابَ مَنَاقِبَ وَمَدَائِحَ، وَإِنَّمَا هُوَ كِتَابُ تَذْكِرَةٍ وَعِبْرَةٍ، وَقَدْ جَعَلَهُمْ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ لِمَعَانٍ فِي ذَلِكَ جَامِعَةٍ بَيْنَ كُلِّ قِسْمٍ مِنْهُمْ.

فَالْقِسْمُ الْأَوَّلُ: دَاوُدُ وَسُلَيْمَانُ وَأَيُّوبُ وَيُوسُفُ وَمُوسَى وَهَارُونُ، وَالْمَعْنَى الْجَامِعُ بَيْنَ هَؤُلَاءِ أَنَّ اللهَ تَعَالَى آتَاهُمُ الْمُلْكَ وَالْإِمَارَةَ، وَالْحَكَمَ وَالسِّيَادَةَ، مَعَ النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ، وَقَدْ قَدَّمَ ذَكَرَ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَكَانَا مَلَكَيْنِ غَنِيَّيْنِ مُنَعَّمَيْنِ، وَذَكَرَ بَعْدَهُمَا أَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَكَانَ الْأَوَّلُ أَمِيرًا غَنِيًّا عَظِيمًا مُحْسِنًا، وَالثَّانِي وَزِيرًا عَظِيمًا وَحَاكِمًا مُتَصَرِّفًا، وَلَكِنْ كُلًّا مِنْهُمَا قَدِ ابْتُلِيَ بِالضَّرَّاءِ فَصَبَرَ كَمَا ابْتُلِيَ بِالسَّرَّاءِ فَشَكَرَ، وَأَمَّا مُوسَى وَهَارُونُ فَكَانَا حَاكِمَيْنِ، وَلَكِنَّهُمَا لَمْ يَكُونَا مَلَكَيْنِ، فَكُلُّ زَوْجَيْنِ مِنْ هَؤُلَاءِ الْأَزْوَاجِ الثَّلَاثَةِ مُمْتَازٌ بِمَزِيَّةٍ، وَالتَّرْتِيبُ بَيْنَ الْأَزْوَاجِ عَلَى طَرِيقِ التَّدَلِّي فِي نِعَمِ الدُّنْيَا، وَقَدْ يَكُونُ عَلَى طَرِيقِ التَّرَقِّي فِي الدِّينِ فَدَاوُدُ وَسُلَيْمَانُ كَانَا أَكْثَرَ تَمَتُّعًا بِنِعَمِ الدُّنْيَا، وَدُونَهُمَا أَيُّوبُ وَيُوسُفُ، وَدُونَهُمَا مُوسَى وَهَارُونُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ مُوسَى وَهَارُونَ أَفْضَلُ فِي هِدَايَةِ الدِّينِ وَأَعْبَاءِ النُّبُوَّةِ مِنْ أَيُّوبَ وَيُوسُفَ، وَأَنَّ هَذَيْنَ أَفْضَلُ مِنْ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ بِجَمْعِهِمَا بَيْنَ الشُّكْرِ فِي السَّرَّاءِ وَالصَّبْرِ فِي الضَّرَّاءِ، وَاللهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى بَعْدَ ذِكْرِ هَؤُلَاءِ:(وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) أَيْ بِالْجَمْعِ بَيْنَ نِعَمِ الدُّنْيَا وَرِيَاسَتِهَا بِالْحَقِّ، وَهِدَايَةِ الدِّينِ وَإِرْشَادِ الْخَلْقِ، وَهَذَا كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى فِي أَحَدِهِمْ يُوسُفَ:(وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) 12: 122 فَهُوَ جَزَاءٌ خَاصٌّ بَعْضُهُ مُعَجَّلٌ فِي الدُّنْيَا، أَيْ وَمِثْلُ هَذَا الْجَزَاءِ فِي جِنْسِهِ يَجْزِي اللهُ بَعْضَ الْمُحْسِنِينَ بِحَسَبِ إِحْسَانِهِ فِي الدُّنْيَا قَبْلَ الْآخِرَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُرْجِئُ جَزَاءَهُ إِلَى الْآخِرَةِ.

وَالْقِسْمُ الثَّانِي: زَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسُ، وَهَؤُلَاءِ قَدِ امْتَازُوا فِي الْأَنْبِيَاءِ عليهم السلام بِشِدَّةِ الزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا وَالْإِعْرَاضِ عَنْ لَذَّاتِهَا، وَالرَّغْبَةِ عَنْ زِينَتِهَا وَجَاهِهَا وَسُلْطَانِهَا ; وَلِذَلِكَ خَصَّهُمْ هُنَا بِوَصْفِ الصَّالِحِينَ، وَهُوَ أَلْيَقُ بِهِمْ عِنْدَ مُقَابَلَتِهِمْ بِغَيْرِهِمْ، وَإِنْ كَانَ كُلُّ نَبِيٍّ صَالِحًا وَمُحْسِنًا عَلَى الْإِطْلَاقِ

ص: 489

وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: إِسْمَاعِيلُ وَالْيَسَعُ وَيُونُسُ وَلُوطٌ، وَأَخَّرَ ذَكَرَهُمْ لِعَدَمِ الْخُصُوصِيَّةِ إِذْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ مُلْكِ الدُّنْيَا أَوْ سُلْطَانِهَا مَا كَانَ لِلْقِسْمِ الْأَوَّلِ، وَلَا مِنَ الْمُبَالَغَةِ فِي

الْإِعْرَاضِ عَنِ الدُّنْيَا مَا كَانَ لِلْقَسَمِ الثَّانِي، وَقَدْ قَفَّى عَلَى ذِكْرِهِمْ بِالتَّفْضِيلِ عَلَى الْعَالَمِينَ الَّذِي جَعَلَهُ اللهُ تَعَالَى لِكُلِ نَبِيٍّ عَلَى عَالَمِي زَمَانِهِ، فَمَنْ كَانَ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْهُمْ مُنْفَرِدًا فِي عَالَمٍ أَوْ قَوْمٍ كَانَ أَفْضَلَهُمْ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَمَا وُجِدَ مِنْ نَبِيَّيْنِ فَأَكْثَرَ فِي عَالَمٍ أَوْ قَوْمٍ فَقَدْ يَكُونُونَ مَعَ تَفْضِيلِهِمْ عَلَى غَيْرِهِمْ مُتَفَاضِلَيْنِ فِي أَنْفُسِهِمْ، فَلَا شَكَ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ أَفْضَلُ مِنْ لُوطٍ الْمُعَاصِرِ لَهُ، وَأَنَّ مُوسَى أَفْضَلُ مِنْ أَخِيهِ هَارُونَ الَّذِي كَانَ وَزِيرَهُ، وَأَنَّ عِيسَى أَفْضَلُ مِنِ ابْنِ خَالَتِهِ يَحْيَى، صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ، وَسَيَأْتِي ذِكْرُ بَعْضِهِمْ فِي بَعْضِ السُّوَرِ مُفَصَّلًا وَفِي بَعْضِهَا مُخْتَصَرًا ; وَلِذَلِكَ نُرْجِئُ الْكَلَامَ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمْ إِلَى تَفْسِيرِ تِلْكَ السُّورَةِ، وَاللهُ الْمَسْئُولُ أَنْ يُوَفِّقَنَا لِتَفْسِيرِهَا وَإِتْمَامِ تَفْسِيرِ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ عَلَى مَا يُحِبُّ وَيَرْضَى عز وجل.

وَهَذَا الْبَيَانُ لِتَرْتِيبِ هَؤُلَاءِ الْأَنْبِيَاءِ وَنُكْتَةُ مَا ذَيَّلَ بِهِ كُلَّ قِسْمٍ مِنْهُمْ هُوَ مِمَّا فَتَحَ اللهُ بِهِ عَلَيْنَا لَمْ نَعْلَمْ أَنَّ أَحَدًا سَبَقَنَا إِلَيْهِ، وَلَكِنْ حَوَّمَ بَعْضُهُمْ حَوْلَهُ فَلَمْ يَقَعْ عَلَيْهِ، وَقَدْ قَالَ صَاحِبُ " رُوحِ الْمَعَانِي " وَهُوَ أَفْضَلُ الْمُفَسِّرِينَ الْمُتَأَخِّرِينَ، وَنَاهِيكَ بِسِعَةِ اطِّلَاعِهِ عَلَى أَقْوَالِهِمْ وَأَقْوَالِ الْمُتَقَدِّمِينَ:" وَلَمْ يَظْهَرْ لِيَ السِّرُّ فِي ذِكْرِ هَؤُلَاءِ الْأَنْبِيَاءِ الْعِظَامِ عَلَيْهِمْ مِنَ اللهِ تَعَالَى أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَأَكْمَلُ السَّلَامِ، عَلَى هَذَا الْأُسْلُوبِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى تَقْدِيمٍ فَاضِلٍ عَلَى أَفْضَلَ، وَمُتَأَخِّرٍ بِالزَّمَانِ عَلَى مُتَقَدِّمٍ بِهِ، وَكَذَا السِّرُّ فِي التَّقْرِيرِ أَوَّلًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَكَذَلِكَ نَجْزِي) إِلَخْ. وَثَانِيًا بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: (كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ) وَاللهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِأَسْرَارِ كَلَامِهِ " انْتَهَى. وَلِلَّهِ الْحَمْدُ الَّذِي يَخْتَصُّ بِفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ، وَقَدْ يُؤْتَى مَفْضُولًا مَا لَا يُؤْتَى أَفْضَلَ الْفُضَلَاءِ.

وَنَذْكُرُ هُنَا مِنْ مَبَاحِثِ اللَّفْظِ وَالْقِرَاءَاتِ أَنَّ الْقُرَّاءَ اخْتَلَفُوا فِي قِرَاءَةِ اسْمِ (الْيَسَعَ) فَقَرَأَهُ الْجُمْهُورُ بِلَامٍ وَاحِدَةٍ مُحَرِّكًا بِوَزْنِ (الْيَمَنِ) الْقُطْرِ الْمَعْرُوفِ، وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ بِلَامَيْنِ أُدْغِمَتْ إِحْدَاهُمَا فِي الْأُخْرَى بِوَزْنِ (الضَّيْغَمِ) قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ الْيَسَعَ مُعْرِبُ الِاسْمِ الْعِبْرَانِيِّ يُوشَعَ فَهُوَ اسْمٌ أَعْجَمِيٌّ دَخَلَتْ عَلَيْهِ لَامُ التَّعْرِيفِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ وَقَارَنَتِ النَّقْلَ فَجُعِلَتْ عَلَامَةُ التَّعْرِيبَ فَلَا يَجُوزُ مُفَارَقَتُهَا لَهُ كَالْيَزِيدِ الَّذِي دَخَلَتْ عَلَيْهِ فِي الشِّعْرِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ اسْمٌ عَرَبِيٌّ مَنْقُولٌ مِنْ (يَسَعُ) مُضَارِعِ (وَسِعَ) وَأَقُولُ: الْأَقْرَبُ أَنَّهُ تَعْرِيبٌ (الْيَشَعِ) وَهُوَ أَحَدُ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَانَ الْخَلِيفَةُ (إِلْيَاسَ)

(إِيلِيَا) وَمِنَ الْمَعْهُودِ فِي نَقْلِ الْعِبْرِيِّ إِلَى الْعَرَبِيِّ إِبْدَالُ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ بِالْمُهْمِلَةِ، وَقَدِ اسْتَدَلَّ بَعْضُهُمْ بِذِكْرِ عِيسَى فِي ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ أَوْ نُوحٍ عَلَى أَنَّ لَفَظَ الذُّرِّيَّةِ يَشْمَلُ أَوْلَادَ الْبَنَاتِ، وَذَكَرَ الرَّازِيُّ أَنَّ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ مِنْ ذُرِّيَّةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: وَيُقَالُ إِنَّ أَبَا جَعْفَرٍ الْبَاقِرَ اسْتَدَلَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ عِنْدَ الْحَجَّاجِ بْنِ يُوسُفَ ذَكَرَ ذَلِكَ الْآلُوسِيُّ وَقَالَ: وَأَوْرَدَ عَلَيْهِ أَنَّهُ (أَيْ عِيسَى) لَيْسَ لَهُ أَبٌ

ص: 490

يَصْرِفُ إِضَافَتَهُ إِلَى الْأُمِّ إِلَى نَفْسِهِ فَلَا يَظْهَرُ قِيَاسٌ غَيْرُهُ عَلَيْهِ فِي كَوْنِهِ ذُرِّيَّةً لِجَدِّهِ مِنَ الْأُمِّ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ مُقْتَضَى كَوْنِهِ بِلَا أَبٍ أَنْ يُذْكَرَ فِي حَيِّزِ الذُّرِّيَّةِ وَفِيهِ مَنْعٌ ظَاهِرٌ وَالْمَسْأَلَةُ خِلَافِيَّةٌ، ذُكِرَ أَنَّ مُوسَى الْكَاظِمَ (رَض) احْتَجَّ بِالْآيَةِ عَلَى الرَّشِيدِ ثُمَّ ذَكَرَ نَقْلًا عَنِ الرَّازِيِّ اسْتِدْلَالَ الْبَاقِرِ بِهَا وَبِآيَةِ الْمُبَاهَلَةِ قَالَ: وَادَّعَى بَعْضُهُمْ أَنَّ هَذَا مِنْ خَصَائِصِهِ صلى الله عليه وسلم، وَقَدِ اخْتَلَفَ إِفْتَاءُ أَصْحَابِنَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَالَّذِي أَمِيلُ إِلَيْهِ الْقَوْلُ بِالدُّخُولِ. اهـ.

وَأَقُولُ فِي الْبَابِ حَدِيثُ أَبِي بَكْرَةَ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ مَرْفُوعًا: " إِنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ " يَعْنِي الْحَسَنَ، وَلَفْظُ ابْنٍ لَا يَجْرِي عِنْدَ الْعَرَبِ عَلَى أَوْلَادِ الْبَنَاتِ، وَحَدِيثُ عُمَرَ فِي كِتَابِ مَعْرِفَةِ الصَّحَابَةِ لِأَبِي نُعَيْمٍ مَرْفُوعًا " وَكُلُّ وَلَدِ آدَمَ فَإِنَّ عَصَبَتَهُمْ لِأَبِيهِمْ خَلَا وَلَدَ فَاطِمَةَ فَإِنِّي أَنَا أَبُوهُمْ وَعَصَبَتُهُمْ " وَقَدْ جَرَى النَّاسُ عَلَى هَذَا فَيَقُولُونَ فِي أَوْلَادِ فَاطِمَةَ رضي الله عنهم أَوْلَادُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبْنَاؤُهُ وَعِتْرَتُهُ وَأَهْلُ بَيْتِهِ.

وَاسْتَدَلُّوا بِتَفْضِيلِ مَنْ ذُكِرَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَى الْعَالَمِينَ، عَلَى تَفْضِيلِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَى الْمَلَائِكَةِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْعَالَمَ اسْمٌ لِمَا سِوَى اللهِ تَعَالَى وَفِيهِ نَظَرٌ، فَإِنَّ الْعَالَمِينَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْآيَةِ لَا يُفْهَمُ مِنْهُ إِلَّا النَّاسُ أَوِ الْأَقْوَامُ مِنَ النَّاسِ، فَهِيَ كَالْآيَاتِ النَّاطِقَةِ بِتَفْضِيلِ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى الْعَالِمِينَ وَلَمْ يَخْطُرْ فِي بَالِ أَحَدٍ قَرَأَهَا أَوْ فَسَرَّهَا أَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى تَفْضِيلِهِمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ، وَمِثْلُهَا قَوْلُهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ قَوْمِ لُوطٍ:(أَوْلَمَ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ) 15: 70 وَقَوْلُهُ فِي إِبْرَاهِيمَ: (وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ) 21: 71 وَهِيَ أَرْضُ الشَّامِ بَارَكَ اللهُ فِيهَا لِمَنْ يَسْكُنُهَا مِنَ النَّاسِ لَا لِلْمَلَائِكَةِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ عَالَمِ الْغَيْبِ.

(وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ) أَيْ وَهَدَيْنَا مِنْ آبَاءِ مَنْ ذُكِرَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، أَيْ بَعْضِ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ بَعْضَ هَؤُلَاءِ الْأَقْرَبِينَ لَمْ

يَهْتَدِ بِهَدْيِ ابْنِهِ أَوْ أَبِيهِ أَوْ أَخِيهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ كَأَبِي إِبْرَاهِيمَ وَابْنِ نُوحٍ. قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْحَدِيدِ: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ) 57: 26 وَقِيلَ: إِنَّ الْعَطْفَ هُنَا عَلَى مَا قَبْلَهُ مُبَاشَرَةً، أَيْ وَفَضَّلْنَا بَعْضَ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ - وَهُمُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا بِهَدْيِهِمْ - عَلَى غَيْرِهِمْ مِنْ عَالَمِي زَمَانِهِمُ الَّذِينَ لَمْ يَهْتَدُوا مِثْلَهُمْ (وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) وَهَذَا عَطْفٌ عَلَى (فَضَّلْنَا أَيْ وَفَضَّلْنَاهُمْ وَاخْتَرْنَاهُمْ وَاصْطَفَيْنَاهُمْ بِالِاجْتِبَاءِ، وَهُوَ افْتِعَالٌ مِنْ جَبَيْتَ الْمَالَ وَالْمَاءَ فِي الْحَوْضِ، وَالثَّمَرَاتِ النَّاضِجَةِ فِي الْوِعَاءِ - إِذَا - جَمَعْتَ مَا تَخْتَارُهُ مِنْهَا ; وَلِذَلِكَ قَالَ الرَّاغِبُ: الِاجْتِبَاءُ الْجَمْعُ عَلَى طَرِيقِ الِاصْطِفَاءِ. (ثُمَّ قَالَ: وَاجْتِبَاءُ اللهِ الْعَبْدَ تَخْصِيصُهُ إِيَّاهُ بِفَيْضٍ إِلَهِيٍّ يَتَحَصَّلُ لَهُ مِنْهُ أَنْوَاعٌ مِنَ النِّعَمِ بِلَا سَعْيٍ مِنَ الْعَبْدِ، وَذَلِكَ لِلْأَنْبِيَاءِ وَبَعْضِ مَنْ يُقَارِبُهُمْ مِنَ الصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ، ثُمَّ أَوْرَدَ الْآيَاتِ فِي ذَلِكَ

ص: 491

وَمِنْهَا الْآيَةُ الَّتِي نُفَسِّرُهَا، وَقَدْ أُعِيدَ ذِكْرُ الْهِدَايَةِ لِبَيَانِ مُتَعَلِّقِهَا - وَهُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ - عَلَى مَا فِيهِ مِنَ التَّأْكِيدِ، وَلِيَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ:

(ذَلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ) أَيْ ذَلِكَ الْهُدَى إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، وَهُوَ مَا كَانَ عَلَيْهِ أُولَئِكَ الْأَخْيَارُ مِمَّا ذُكِرَ مِنَ الدِّينِ الْقَوِيمِ، وَالْفَضْلِ الْعَظِيمِ هُوَ هُدَى اللهِ الْخَاصِّ الَّذِي هُوَ وَرَاءَ جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْهُدَى الْعَامِّ، كَهُدَى الْحَوَاسِّ وَالْعَقْلِ وَالْوِجْدَانِ ; لِأَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنِ الْإِيصَالِ بِالْفِعْلِ إِلَى الْحَقِّ وَالْخَيْرِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يُؤَدِّي إِلَى السَّعَادَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْفَاتِحَةِ. وَقَوْلُهُ:(يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ) يَقَعُ عَلَى دَرَجَتَيْنِ: ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْفَاتِحَةِ. وَقَوْلُهُ: (يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ) يَقَعُ عَلَى دَرَجَتَيْنِ: هِدَايَةٌ لَيْسَ لِصَاحِبِهَا سَعْيٌ لَهَا وَلَا هِيَ مِمَّا يُنَالُ بِكَسْبِهِ وَهِيَ النُّبُوَّةُ الْمُشَارُ إِلَيْهَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى) 93: 7 وَهِدَايَةٌ قَدْ تُنَالُ بِالْكَسْبِ وَالِاسْتِعْدَادِ مَعَ اللُّطْفِ الْإِلَهِيِّ وَالتَّوْفِيقِ لِنَيْلِ الْمُرَادِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ كَلَامٌ بِهَذَا الْمَعْنَى فِي هَذَا السِّيَاقِ (وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) أَيْ وَلَوْ فُرِضَ أَنْ أَشْرَكَ بِاللهِ أُولَئِكَ الْمَهْدِيُّونَ الْمُجْتَبَوْنَ، لَحَبِطَ - أَيْ بَطَلَ - وَسَقَطَ عَنْهُمْ ثَوَابُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ بِزَوَالِ أَفْضَلِ آثَارِ أَعْمَالِهِمْ فِي أَنْفُسِهِمُ الَّذِي هُوَ الْأَسَاسُ لِمَا رُفِعَ مِنْ دَرَجَاتِهِمْ ; لِأَنَّ تَوْحِيدَ اللهِ تَعَالَى لَمَّا كَانَ مُنْتَهَى الْكَمَالِ الْمُزَكِّي لِلْأَنْفُسِ، كَانَ ضِدُّهُ وَهُوَ الشِّرْكُ مُنْتَهَى النَّقْصِ وَالْفَسَادِ الْمُدَسِّي لَهَا، وَالْمُفْسِدِ لِفِطْرَتِهَا، فَلَا

يَبْقَى مَعَهُ تَأْثِيرٌ نَافِعٌ لِعَمَلٍ آخَرَ فِيهَا - يُمْكِنُ أَنْ يَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ نَجَاتُهَا وَفَلَاحُهَا.

(أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ) ذَهَبَ ابْنُ جَرِيرٍ وَالرَّازِيُّ إِلَى أَنَّ الْإِشَارَةَ فِي " أُولَئِكَ " إِلَى مَنْ ذُكِرَ فِي الْآيَاتِ مِنْ أَنْبِيَاءِ اللهِ تَعَالَى وَرُسُلِهِ، وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى شُمُولِهَا مَنْ ذُكِرَ بَعْدَهُمْ إِجْمَالًا مِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ، وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْكِتَابِ مَا ذُكِرَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَزَبُورِ دَاوُدَ وَإِنْجِيلِ عِيسَى، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِالْحُكْمِ الْفَهْمُ بِالْكِتَابِ وَمَعْرِفَةِ مَا فِيهِ مِنَ الْأَحْكَامِ، وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّ الْحُكْمَ هُوَ اللُّبُّ. (قَالَ) وَعَنَى بِذَلِكَ مُجَاهِدٌ - إِنْ شَاءَ اللهُ - مَا قُلْتُ ; لِأَنَّ اللُّبَّ هُوَ الْعَقْلُ فَكَأَنَّهُ أَرَادَ أَنَّ اللهَ آتَاهُمُ الْعَقْلَ بِالْكِتَابِ وَهُوَ بِمَعْنَى مَا قُلْنَا مِنْ أَنَّهُ الْفَهْمُ بِهِ انْتَهَى. وَلَمْ يُرْوَ عَنِ السَّلَفِ فِي تَفْسِيرِ الْحُكْمِ غَيْرُ هَذَا الْقَوْلِ عَنْ مُجَاهِدٍ. وَالْحُكْمُ يُطْلَقُ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ عَلَى حُكْمِ الْعَقْلِ بِإِثْبَاتِ شَيْءٍ لِشَيْءٍ أَوْ نَفْيِهِ عَنْهُ قَطْعًا، وَهُوَ الْعِلْمُ الْيَقِينِيُّ بِالْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ الَّذِي بَيَّنَّاهُ مِنْ قَبْلُ، وَهُوَ يَسْتَلْزِمُ فِقْهَ الْمَعْلُومِ وَفَهْمَ سِرِّهِ وَحِكْمَتِهِ فَهُوَ بِمَعْنَى الْحِكْمَةِ وَالْفَلْسَفَةِ، وَيُطْلَقُ عَلَى الْقَضَاءِ لِخَصْمٍ عَلَى خَصْمٍ بِأَنَّ هَذَا حَقُّهُ أَوْ لَيْسَ بِحَقِّهِ، وَقَالَ الرَّاغِبُ: وَالْحُكْمُ بِالشَّيْءِ أَنْ تَقْضِيَ بِأَنَّهُ كَذَا سَوَاءٌ أَلْزَمْتَ ذَلِكَ غَيْرَكَ أَوْ لَمْ تُلْزِمْهُ وَقَالَ صَاحِبُ اللِّسَانِ: وَالْحُكْمُ الْعِلْمُ وَالْفِقْهُ وَالْقَضَاءُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ مَصْدَرُ حَكَمَ يَحْكُمُ كَـ (نَصَرَ) يَنْصُرُ ثُمَّ نَقَلَ عَنِ ابْنِ سِيدَهْ أَنَّ الْحُكْمَ الْقَضَاءُ وَجَمْعُهُ أَحْكَامٌ وَلَمْ يُقَيِّدْهُ بِالْعَدْلِ، وَعَنْ

ص: 492

الْأَزْهَرِيِّ أَنَّهُ الْقَضَاءُ بِالْعَدْلِ. وَقَوْلُ ابْنِ سِيدَهْ هُوَ الظَّاهِرُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ) 4: 58 وَالْمَعْنَى الْأَصْلِيُّ لِهَذِهِ الْمَادَّةِ الْمَنْعُ. قَالَ فِي اللِّسَانِ: وَالْعَرَبُ تَقُولُ حَكَمْتُ وَأَحْكَمْتُ وَحَكَّمْتُ - بِالتَّشْدِيدِ - بِمَعْنَى مَنَعْتُ وَرَدَدْتُ، وَمِنْ هَذَا قِيلَ لِلْحَاكِمِ بَيْنَ النَّاسِ: حَاكِمٌ ; لِأَنَّهُ يَمْنَعُ الظَّالِمَ مِنَ الظُّلْمِ، وَذَكَرَ كَغَيْرِهِ مِنْ ذَلِكَ " حَكَمَةَ " اللِّجَامِ - بِالتَّحْرِيكِ - وَهِيَ حَدِيدَةُ اللِّجَامِ الَّتِي تُوضَعُ فِي حَنَكِ الدَّابَّةِ لِأَنَّهَا تَرُدُّهَا وَتَكْبَحُهَا.

وَأَقُولُ: إِنَّ الْحُكْمَ بِمَعْنَى الْعِلْمِ الْجَزْمِ وَفِقْهُ الْأُمُورِ - وَهُوَ حِكْمَتُهَا - فِيهِ مَعْنَى الْمَنْعِ أَيْضًا وَهُوَ مَنْعُ الِاحْتِمَالَاتِ وَالظُّنُونِ، فَمَنْ لَيْسَ لَهُ حُكْمٌ جَازِمٌ فِي الْمَسْأَلَةِ لَا يَكُونُ عَالِمًا بِهَا. وَمَا يُقَالُ فِي الْمَسْأَلَةِ الْوَاحِدَةِ يُقَالُ فِي كُلِّ عِلْمٍ وَفَنٍّ، وَكَذَا مَنْعُ الْعَالِمِ الْحَكِيمِ مِنْ مُخَالَفَةِ مُقْتَضَى الْعِلْمِ، وَمِنَ الْوَاضِحِ الْجَلِيِّ أَنَّ كُلَّ نَبِيٍّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ قَدْ آتَاهُ اللهُ الْحُكْمَ بِهَذَا

الْمَعْنَى - أَيِ الْعِلْمَ الصَّحِيحَ وَالْفِقْهَ فِي أُمُورِ الدِّينِ وَشُئُونِ الْإِصْلَاحِ، وَفَهْمِ الْكِتَابِ الَّذِي تَعَبَّدَهُ بِهِ، سَوَاءٌ أَنْزَلَهُ عَلَيْهِ أَمْ أَنْزَلَهُ عَلَى غَيْرِهِ. وَإِنَّمَا اخْتَصَّ بَعْضَهُمْ بِإِيتَائِهِ الْحُكْمَ صَبِيًّا لِيَحْيَى وَعِيسَى، وَلَعَلَّ الْمُرَادَ بِهِ مَلَكَةُ الْحُكْمِ الصَّحِيحِ فِي الْأُمُورِ، وَأَمَّا الْحُكْمُ بِمَعْنَى الْقَضَاءِ وَالْفَصْلِ فِي الْخُصُومَاتِ فَلَمْ يُؤْتَهُ إِلَّا بَعْضُ الْأَنْبِيَاءِ، فَإِذَا كَانَ الْمُشَارُ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ:(أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ) مَنْ ذُكِرَتْ أَسْمَاؤُهُمْ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ فِيمَا قَبْلَهُ مِنَ الْآيَاتِ، فَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْحُكْمِ فِيهَا الْفَصْلُ فِي الْخُصُومَاتِ وَالْقَضَاءِ بَيْنَ النَّاسِ ; لِأَنَّهُ أَخَصُّ وَيَسْتَلْزِمُ الْعِلْمَ وَالْفِقْهَ - وَكَذَلِكَ النُّبُوَّةُ - وَتَكُونُ هَذِهِ الْعَطَايَا الثَّلَاثُ مَرْتَبَةً عَلَى حَسَبِ دَرَجَاتِ الْخُصُوصِيَّةِ، فَإِنَّ الثَّابِتَ وَالْأَمْرَ الْوَاقِعَ أَنَّ بَعْضَ أُولَئِكَ النَّبِيِّينَ أُوتِيَ الثَّلَاثَ كَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى وَدَاوُدَ، وَمِنْهُمْ مَنْ أُوتِيَ الْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ كَالْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ كَانُوا يَحْكُمُونَ بِالتَّوْرَاةِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُؤْتَ إِلَّا النُّبُوَّةَ فَقَطْ. فَإِذَا جَعَلْنَا الْحُكْمَ بِمَعْنَى الْفَهْمِ وَالْعِلْمِ، كَانَتِ الْآيَةُ غَيْرَ مَبْنِيَّةٍ لِهَذِهِ الْعَطِيَّةِ الْعَظِيمَةِ، وَمِنْ شَوَاهِدِ الْقُرْآنِ عَلَى اسْتِعْمَالِ الْحُكْمِ بِمَعْنَى الْقَضَاءِ قَوْلُهُ تَعَالَى:(يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ) 38: 26 وَقَوْلُهُ فِي دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ مَعًا: (وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا) 21: 79 وَقَوْلُهُ فِي يُوسُفَ: (آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا) 12: 22 أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ مُوسَى: (فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ) 26: 21 فَهُوَ أَظْهَرُ فِي هَذَا الْمَعْنَى وَإِنَّ تَأَخَّرَ الْقِيَامُ بِهِ عَنِ الْقِيَامِ بِأَمْرِ الرِّسَالَةِ الَّتِي تَأَخَّرَ الْقِيَامُ بِهَا عَنْ جَعْلِهِ رَسُولًا، فَإِنَّ كُلًّا مِنْهُمَا وَقَعَ فِي وَقْتِهِ الْمُنَاسِبِ لَهُ. وَتَفْسِيرُ بَعْضِهِمْ لِلْحُكْمِ هُنَا بِالنُّبُوَّةِ ضَعِيفٌ لِلِاسْتِغْنَاءِ عَنْهُ بِذِكْرِ الرِّسَالَةِ. وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ إِبْرَاهِيمَ:(رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا) 26: 83 فَإِنَّهُ دَعَا هَذَا الدُّعَاءَ وَهُوَ رَسُولٌ عَلَيْهِمْ بَعْدَ مُحَاجَّةِ قَوْمِهِ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنَّهُ طَلَبُ الْحُكْمِ بِمَعْنَى الْحُكُومَةِ وَالسُّلْطَةِ. وَمِنَ الشَّوَاهِدِ، عَلَى اسْتِعْمَالِ الْحُكْمِ بِمَعْنَى الْعِلْمِ وَفِقْهِ الْقَلْبِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي يَحْيَى:(وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا) 19: 12 وَقَوْلُهُ فِي شَأْنِ التَّوْرَاةِ: (يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينِ هَادُوا) 5: 44 وَهَذِهِ الثَّلَاثُ مَرْتَبَةٌ

ص: 493

عَلَى حَسَبِ خُصُوصِيَّتِهَا، فَكُلُّ مَنْ أُوتِيَ الْكِتَابَ أُوتِيَ الْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ، وَكُلُّ مَنْ أُوتِيَ الْحُكْمَ مِمَّنْ ذَكَرَ كَانَ نَبِيًّا وَمَا كَلُّ نَبِيٍّ مِنْهُمْ كَانَ حَاكِمًا وَلَا صَاحِبَ كِتَابٍ مُنَزَّلٍ، وَهَذِهِ مَرَاتِبُ الْفَضْلِ بَيْنَهُمْ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ، وَإِذَا اسْتَعْمَلْنَا الْحُكْمَ بِمَعْنَيَيْهِ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يُجِيزُ ذَلِكَ

فِي الْمُشْتَرِكِ كَانَ عَلَى التَّوْزِيعِ فَإِنَّ كُلَّ نَبِيٍّ أُوتِيَ الْحُكْمَ بِمَعْنَى الْعِلْمِ وَالْفِقْهِ وَالْفَهْمِ، وَمَا أُوتِيَهُ إِلَّا بَعْضُهُمْ بِمَعْنَى الْقَضَاءِ بَيْنَ النَّاسِ كَمَا تَقَرَّرَ وَتَكَرَّرَ.

وَأَمَّا إِذَا جَرَيْنَا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْمُشَارَ إِلَيْهِمْ فِي الْآيَةِ هُمْ أُولَئِكَ النَّبِيُّونَ وَمَنْ ذُكِرَ مِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ فَالْحَاجَةُ إِلَى اسْتِعْمَالِ الْمُشْتَرِكِ فِي مَعْنَيَيْهِ أَقْوَى، فَإِنَّ بَعْضَهُمْ كَانَ نَبِيًّا غَيْرَ حَاكِمٍ، وَبَعْضَهُمْ كَانَ عَالِمًا حَاكِمًا غَيْرَ نَبِيٍّ، وَبَعْضَهُمْ عَالِمًا حَكِيمًا غَيْرَ حَاكِمٍ وَلَا نَبِيٍّ، وَيَكُونُ إِيتَاءُ الْكِتَابِ أَعَمَّ مِنْ إِيحَائِهِ، فَإِنَّ أُمَّةَ الرَّسُولِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْهِ الْكِتَابَ بِإِيحَائِهِ إِلَيْهِ يُقَالُ إِنَّهَا قَدْ أُعْطِيَتِ الْكِتَابَ، وَآيَاتُ الْقُرْآنِ نَاطِقَةٌ بِذَلِكَ، بَلْ يُقَالُ أَيْضًا: إِنَّ الْكِتَابَ أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ وَعَلَيْهِمْ كَمَا نَصَّ فِي سُورَتَيِ الْبَقَرَةِ وَآلِ عِمْرَانَ - فَالْإِنْزَالُ عَلَى الرُّسُلِ عِبَارَةٌ عَنِ الْوَحْيِ إِلَيْهِمْ، وَالْإِنْزَالُ عَلَى الْأُمَمِ عِبَارَةٌ عَنْ مُخَاطَبَتِهِمْ بِمَا أَنْزَلَ عَلَى رُسُلِهِمْ لِهِدَايَتِهِمْ. وَيُؤَيِّدُ هَذَا الْوَجْهَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى:(وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ) 45: 16 الْآيَةَ.

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى مُبَيِّنًا وَجْهَ الْعِبْرَةِ بِمَا ذَكَرَ لِلْمُخَاطَبِينَ بِالْقُرْآنِ (فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ) أَيْ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَذِهِ الثَّلَاثِ - الْكِتَابِ وَالْحُكْمِ وَالنُّبُوَّةِ - هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، وَقَدْ خُصُّوا بِدَعْوَتِهِمْ إِلَى الْإِيمَانِ بِهَا قَبْلَ غَيْرِهِمْ، إِذْ أُوتِيَهَا عَلَى الْوَجْهِ الْأَكْمَلِ رَسُولٌ مِنْهُمْ، فَقَدْ وَكَّلْنَا بِأَمْرِ رِعَايَتِهَا، وَوَفَّقْنَا لِلْإِيمَانِ بِهَا وَتَوَلِّي نَصْرَ الدَّاعِي إِلَيْهَا، قَوْمًا كِرَامًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ، بَلْ مِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ سَيُؤْمِنُ عِنْدَمَا يُدْعَى، أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ:(فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ) يَعْنِي أَهْلَ مَكَّةَ. يَقُولُ: إِنْ يَكْفُرُوا بِالْقُرْآنِ - أَيِ الْجَامِعِ لِمَا ذُكِرَ كُلِّهِ لِرَسُولِ اللهِ - (فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ) يَعْنِي أَهْلَ الْمَدِينَةِ وَالْأَنْصَارِ انْتَهَى. وَرَوَى مَثَلَهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ. وَرُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ تَفْسِيرُ مَنْ يَكْفُرُ بِهَا بِأَهْلِ مَكَّةَ كَفَّارِ قُرَيْشٍ، وَتَفْسِيرُ الْمُوَكَّلِينَ بِهَا بِالْأَنْبِيَاءِ الثَّمَانِيَةَ عَشَرَ الَّذِينَ ذَكَرَهُمُ اللهُ تَعَالَى هُنَا. وَعَنْ أَبِي رَجَاءٍ الْعُطَارِدِيِّ تَفْسِيرُ الْمُوَكِّلِينَ بِهَا بِالْمَلَائِكَةُ. هَذَا هُوَ الْمَأْثُورُ، الَّذِي اقْتَصَرَ عَلَيْهِ فِي الدَّرِّ الْمَنْثُورِ. وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ نَحْوَ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ الضَّحَّاكِ وَالسُّدِّيِّ وَابْنِ جُرَيْجٍ، وَذَهَبَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى

أَنَّ الْمُوَكَّلِينَ بِهَا هُمْ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مُطْلَقًا وَقِيلَ: كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ، وَقِيلَ: الْفُرْسُ. وَالْمُخْتَارُ عِنْدَنَا أَنَّهُمْ جَمِيعُ الصَّحَابَةِ، فَإِنَّ الْمُهَاجِرِينَ قَدْ كَانُوا أَوَّلَ مَنْ آمَنَ بِهَا، وَصَبَرَ عَلَى بَلَائِهَا وَكَانُوا بَعْدَ الْهِجْرَةِ فِي مُقَدِّمَةِ الْأَنْصَارِ، فِي كُلِّ عَمَلٍ وَكُلِّ جِهَادٍ، وَلَكِنَّ الْأَنْصَارَ مَقْصُودُونَ

ص: 494

بِالذَّاتِ ; لِأَنَّ الْقُوَّةَ وَالْمَنْعَةَ لَمْ تَكُنْ إِلَّا بِهِمْ ; وَلِذَلِكَ قَالَ: (لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ) فَإِنَّ الْأَنْصَارَ لَمْ يَكُونُوا عِنْدَ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ مُؤْمِنِينَ - أَمَّا تَفْسِيرُ الْقَوْمِ الْمُوَكَّلِينَ بِهَا بِمَنْ ذَكَرَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ فَقَدِ اخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَاحْتَجَّ بِأَنَّ الْكَلَامَ السَّابِقَ وَاللَّاحِقَ فِيهِمْ فَالْكَلَامُ فِي الْأَثْنَاءِ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِيهِمْ كَذَلِكَ، وَتَبِعَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ قَضِيَّةً وَحُجَّةً، وَنَقَلَهُ الرَّازِيُّ عَنِ الْحَسَنِ، وَاخْتِيَارُ الزَّجَّاجِ. وَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى وَكَّلَ بِهَا مَنْ ذَكَرَ فِي أَزْمِنَتِهِمْ وَلَعَلَّ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُرِيدُ بِتَوْكِيلِ أُولَئِكَ النَّبِيِّينَ الْمُرْسَلِينَ بِهَا مَا أَخَذَهُ اللهُ مِنَ الْعَهْدِ عَلَيْهِمْ فِي قَوْلِهِ:(وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ) 3: 81 الْآيَةَ. وَلَمْ يُصَرِّحُوا بِذَلِكَ. وَأَمَّا تَفْسِيرُ الْقَوْمِ بِالْمَلَائِكَةِ فَقَدِ اسْتَبْعَدَهُ الرَّازِيُّ مُعَلِّلًا ذَلِكَ بِأَنَّ اسْمَ الْقَوْمِ قَلَّمَا يَقَعُ عَلَى غَيْرِ بَنِي آدَمَ. وَنَقُولُ: إِنَّ السِّيَاقَ هُنَا يَدُلُّ عَلَى قَوْمٍ كِرَامٍ مِنْ بَنِي آدَمَ بِدَلِيلِ التَّنْكِيرِ وَإِنْ أُطْلِقَ لَفْظُ الْقَوْمِ عَلَى الْجِنِّ فِي التَّنْزِيلِ، وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ وُقُوعُهُ فِي سِيَاقِ الْكَلَامِ عَنِ الْأَنْبِيَاءِ، فَإِنَّ قِصَصَ الْأَنْبِيَاءِ لَمْ تُذْكَرْ إِلَّا لِإِقَامَةِ الْحُجَّةِ بِهَا عَلَى الْكَافِرِينَ، وَالْهِدَايَةِ وَالْعِبْرَةِ لِلْمُؤْمِنِينَ. وَوَصْفُهُمْ بِأَنَّهُمْ لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ، وَصْفٌ لِقَوْمٍ حَاضِرِينَ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُ بِالْقُوَّةِ بِالْفِعْلِ، وَوَصْفُ الْأَنْبِيَاءِ السَّابِقِينَ بِذَلِكَ لَا يَظْهَرُ لَهُ وَجْهٌ.

(رُؤْيَا مُبَشِّرَةٌ لَا مُغَرِّرَةٌ) .

بَعْدَ كِتَابَةِ مَا تَقَدَّمَ بِزُهَاءِ شَهْرٍ رَأَيْتُ فِي الرُّؤْيَا نَفَرَا مِنْ أَهْلِ بَلَدِنَا (طَرَابُلُسَ الشَّامِ) مُقْبِلِينَ فِي عَمَائِمَ وَأَقْبِيَةٍ مِنَ الْحَرِيرِ النَّفِيسِ، وَأَنَا جَالِسٌ مَعَ أُنَاسٍ، فَقَالَ أَحَدُهُمْ: هَذَا فُلَانٌ وَذَكَرَ اسْمَ رَجُلٍ كَانَ زَعِيمًا لِطَائِفَةٍ كَبِيرَةٍ مِنَ الرِّجَالِ الْمَعْرُوفِينَ بِالشَّجَاعَةِ وَالنَّجْدَةِ، فَقُمْنَا لَهُ وَسَلَّمْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى مَنْ مَعَهُ، فَفَاجَئُونَا بِنَبَأٍ عَظِيمٍ مَوْضُوعُهُ أَنَّهُ قَدْ ظَهَرَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ مِصْدَاقُ قَوْلِهِ تَعَالَى:(فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ) قَالُوا: أَلَمْ تَعْلَمُوا بِذَلِكَ؟ قُلْنَا: لَا، قَالُوا: إِنَّ هَذِهِ مَسْأَلَةٌ عَظِيمَةٌ قَدْ عُرِفَتْ. فِي أُورُبَّةَ وَذُكِرَتْ فِي بَعْضِ جَرَائِدِهَا - وَظَنَنْتُ أَنَّهُ كَانَ مَعَهُمْ شَيْءٌ مِنَ الْجَرَائِدِ - وَقَدِ اهْتَمَّ لَهَا فُلَانْ بَاشَا - وَذَكَرَ رَئِيسَ وُزَرَاءِ الدَّوْلَةِ الْعُثْمَانِيَّةِ - وَسَافَرَ لِأَجْلِهَا.

فَصِرْتُ أُفَكِّرُ فِي هَذِهِ الْكَلِمَةِ الْأَخِيرَةِ وَالْمُرَادِ مِنْهَا. قُلْتُ فِي نَفْسِي: لَيْتَ شِعْرِي هَلْ سَخَّرَ اللهُ لِلْمِلَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ قَوْمًا يَنْصُرُونَهَا غَيْرَ الْمُدَّعِينَ لِذَلِكَ؟ وَمَنْ هَؤُلَاءِ الْقَوْمُ الَّذِينَ لَمْ نَعْلَمْ مِنْ خَبَرِهِمْ هَذَا شَيْئًا؟ وَمَا مَعْنَى اهْتِمَامِ الْوَزِيرِ وَسَفَرِهِ مِنَ الْعَاصِمَةِ لِأَجْلِهَا؟ وَإِلَى أَيْنَ سَافَرَ؟ وَهَلْ يُرِيدُ أَنْ يَكُونَ مَعَ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ وَحْدَهُ أَوْ مَعَ أَحَدٍ مِنْ شِيعَتِهِ كَمَا تَقْتَضِيهِ السِّيَاسَةُ أَمْ فَرَّ مِنْهُمْ؟ وَقَدِ اتَّسَعَتْ خَوَاطِرِي فِي ذَلِكَ بِمَا لَا حَاجَةَ إِلَى ذِكْرِهِ، وَأَرَدْتُ أَنْ أَسْأَلَ الْجَمَاعَةَ الْمُخْبِرِينَ عَنْ ذَلِكَ فَاسْتَيْقَظْتُ قَبْلَ أَنْ أَفْعَلَ. وَكَانَ ذَلِكَ فِي وَقْتِ السَّحَرِ، وَقَدْ تَذَكَّرْتُ قُرْبَ عَهْدِي بِتَفْسِيرِ الْآيَةِ عِنْدَمَا قَصَصْتُ رُؤْيَايَ فَحَسِبْتُهَا مِنَ الْمُبَشِّرَاتِ بِأَنَّ اللهَ تَعَالَى قَدْ يُسَخِّرُ لِلْإِسْلَامِ مِنْ غَيْرِ الْكَافِرِينَ مَنْ يَنْصُرُهُ

ص: 495

وَيُصْلِحُ مَا أَفْسَدَ فِيهِ أَهْلُهُ وَغَيْرُ أَهْلِهِ، وَيُعِيدُونَ بِنَاءَ مَا هُدِمَ مِنْ شَرْعِهِ، وَرَفْعَ عِمَادِ مَائِلٍ مِنْ عَرْشِهِ، وَلَوْ بِإِزَالَةِ الْعِلَلِ وَالْمَوَانِعِ وَتَمْهِيدِ السَّبِيلِ لِذَلِكَ. وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ عَلَى وَجْهٍ غَيْرِ مَا يَنْتَظِرُهُ الْجَمَاهِيرُ مِنْ ظُهُورِ الْمَهْدِيِّ بَعْدَ أَنْ خَابَتِ الْآمَالُ فِي كَثِيرٍ مِنْ أَدْعِيَاءِ الْمَهْدِيَّةِ. وَإِذَا كَانَ اللهُ قَدْ أَرَانَا فِي تَارِيخِنَا مِصْدَاقَ قَوْلِ رَسُولِهِ " إِنَّ اللهَ تَعَالَى لَيُؤَيِّدُ هَذَا الدِّينَ بِالرَّجُلِ الْفَاجِرِ " وَقَوْلِهِ:" إِنَّ اللهَ تَعَالَى لَيُؤَيِّدُ الْإِسْلَامَ بِرِجَالٍ مَا هُمْ مِنْ أَهْلِهِ " أَفَيَضِيقُ عَلَى فَضْلِهِ أَنْ يَكُونَ مَضْمُونُ هَذِهِ الْآيَةِ عَامًا مُكَرَّرًا وَيُؤَيِّدُ اللهُ الْإِسْلَامَ بِقَوْمٍ لَيْسُوا بِكَافِرِينَ كَمَلَاحِدَةِ هَذَا الْعَصْرِ الْمَعْرُوفِينَ، وَلَا كَالصَّحَابَةِ مُؤْمِنِينَ كَامِلِينَ، بَلْ بَيْنَ ذَلِكَ كَخِيَارِ هَذَا الْعَصْرِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ؟ وَبِهَذَا يَظْهَرُ مِنَ السِّرِّ فِي وَصْفِ الْقَوْمِ فِي الْآيَةِ بَعْدَ الْكُفْرِ مَا هُوَ أَعَمُّ مِمَّا ذَكَرَ مِنْ قَبْلُ! فَافْهَمْ.

(أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ) الْهُدَى ضِدُّ الضَّلَالِ، وَهُوَ يُطْلَقُ فِي مَقَامِ الدِّينِ عَلَى الطَّرِيقِ الْمُوصِلِ إِلَى الْحَقِّ، وَهُوَ الطَّرِيقُ الْمُسْتَقِيمُ نَطْلُبُهُ فِي صَلَاتِنَا، وَعَلَى سُلُوكِ ذَلِكَ الطَّرِيقِ وَالِاسْتِقَامَةِ فِي السَّيْرِ عَلَيْهِ، وَقَالَ الرَّاغِبُ: الْهُدَى وَالْهِدَايَةُ فِي مَوْضُوعِ اللُّغَةِ وَاحِدٌ، وَلَكِنْ قَدْ خَصَّ اللهُ عز وجل لَفْظَةَ الْهُدَى بِمَا تَوَلَّاهُ وَأَعْطَاهُ وَاخْتُصَّ هُوَ بِهِ دُونَ مَا هُوَ إِلَى الْإِنْسَانِ انْتَهَى. وَهُوَ لَا يَصِحُّ مُطَّرِدًا. وَالِاقْتِدَاءُ فِي اللُّغَةِ السَّيْرُ عَلَى سُنَنِ مَنْ يُتَّخَذُ قُدْوَةً أَيْ مِثَالًا يُتْبَعُ. وَهُوَ لَا يَصِحُّ مُطَّرِدًا. قَالَ فِي

اللِّسَانِ: يُقَالُ قُدْوَةٌ وَقِدْوَةٌ لِمَا يُقْتَدَى بِهِ، ابْنُ سِيدَهْ: الْقُدْوَةُ وَالْقِدْوَةُ مَا تَسَنَّنْتَ بِهِ ثُمَّ قَالَ: وَقَدِ اقْتَدَى بِهِ وَالْقُدْوَةُ الْأُسْوَةُ. اهـ. وَالصَّوَابُ أَنَّهَا بِتَثْلِيثِ الْقَافِ. بَعْدَ هَذَا يَنْبَغِي أَنْ نَعْلَمَ مَا يَكُونُ بِهِ الِاقْتِدَاءُ وَمَا لَا يَكُونُ وَلَا سِيَّمَا اقْتِدَاءُ النَّبِيِّ - الْمُرْسَلِ بِالشَّرْعِ الْأَكْمَلِ - بِغَيْرِهِ مِمَّنْ لَوْ كَانَ حَيًّا لَمَا وَسِعَهُ إِلَّا اتِّبَاعُهُ، فَأَمَّا الْعِلْمُ بِتَوْحِيدِ اللهِ وَتَنْزِيهِهِ وَإِثْبَاتِ صِفَاتِ الْكَمَالِ لَهُ وَبِسَائِرِ أُصُولِ الدِّينِ وَعَقَائِدِهِ كَالْإِيمَانِ بِالْمَلَائِكَةِ وَأَمْرِ الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ، فَكُلُّ ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَاهُ اللهُ تَعَالَى إِلَى رَسُولِهِ عَلَى أَكْمَلِ وَجْهٍ فَكَانَ عِلْمًا ضَرُورِيًّا وَبُرْهَانِيًّا لَهُ كَمَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ مِنْ عَهْدٍ قَرِيبٍ، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُؤْمَرَ بِالِاقْتِدَاءِ فِيهِ بِمَنْ قَبْلَهُ وَلَا هُوَ مِمَّا يَقَعُ فِيهِ الِاقْتِدَاءُ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى لَهُ صلى الله عليه وسلم:(ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) 16: 123 مَعْنَاهُ أَنَّ الْمِلَّةَ الَّتِي أَوْحَاهَا إِلَيْهِ وَأَمَرَهُ بِاتِّبَاعِهَا - وَهِيَ الْعَقِيدَةُ وَأَصْلُ الدِّينِ - هِيَ مِلَّةُ إِبْرَاهِيمَ، وَإِنَّمَا يَتْبَعُهَا لِأَمْرِ اللهِ لَا لِأَنَّهَا مِلَّةُ إِبْرَاهِيمَ، إِذْ لَيْسَتْ مِمَّا عَلِمَهُ مِنْ إِبْرَاهِيمَ بِالتَّلَقِّي عَنْهُ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي عَصْرِهِ، وَلَا بِالنَّقْلِ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ صلى الله عليه وسلم نَاقِلًا ذَلِكَ عَنِ الْعَرَبِ، وَإِنْ كَانَ مِنَ الْمَشْهُورِ الْمُتَوَاتِرِ عِنْدَ الْعَرَبِ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ صلى الله عليه وسلم كَانَ مُوَحِّدًا حَنِيفًا. وَأَمَّا الشَّرَائِعُ الْعَمَلِيَّةُ فَلَا يَقْتَدِي فِيهَا الرَّسُولُ بِأَحَدٍ أَيْضًا، وَإِنَّمَا يَتَّبِعُهَا

ص: 496

لِأَنَّ اللهَ أَمَرَهُ بِاتِّبَاعِهَا - ذَلِكَ بِأَنَّ الرَّسُولَ لَا يَتْبَعُ فِي الدِّينِ إِلَّا مَا أُوحِيَ إِلَيْهِ مِنْ حَيْثُ أَنَّهُ أُوحِيَ إِلَيْهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ مِمَّا فَسَّرْنَا مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ فِيهِ قَوْلُهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ رَسُولِهِ بِأَمْرِهِ (إِنْ أَتَبِّعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ) 6: 50 وَمِثْلُهُ فِي أَوَاخِرَ سُورَةِ الْأَعْرَافِ (7: 203) وَقَالَ تَعَالَى: (ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا) 45: 18 الْآيَةَ. وَمُوَافَقَةُ رَسُولٍ لِمَنْ قَبْلَهُ فِي أُصُولِ الدِّينِ وَبَعْضِ فُرُوعِهِ لَا يُسَمَّى اقْتِدَاءً وَلَا تَأَسِّيًا، وَإِنَّمَا يَكُونُ التَّأَسِّي بِهِ فِي طَرِيقَتِهِ الَّتِي سَلَكَهَا فِي الدَّعْوَةِ إِلَى الدِّينِ وَإِقَامَتِهِ. وَمِنَ الشَّوَاهِدِ عَلَى هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى:(قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) 60: 4 الْآيَةَ - فَإِنَّهُ تَعَالَى أَرْشَدَ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى التَّأَسِّي بِإِبْرَاهِيمَ وَمَنْ آمَنَ مَعَهُ وَجَعَلَهُمْ قُدْوَةً لَهُمْ فِي سِيرَتِهِمُ الْعَمَلِيَّةِ الَّتِي كَانَتْ مِنْ هَدْيِ اللهِ تَعَالَى لَهُمْ، وَهِيَ الْبَرَاءَةُ مِنْ مَعْبُودَاتِ قَوْمِهِمْ وَمِنْهُمْ مَا دَامُوا عَابِدِينَ لَهَا.

وَلَمَّا كَانَ وَعْدُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ بِالِاسْتِغْفَارِ لَهُ وَهُوَ مُشْرِكٌ لَيْسَ مِنْ هَذَا الْهُدَى، بَلْ كَانَ مَسْأَلَةً شَاذَّةً لَهَا سَبَبٌ خَاصٌّ اسْتَثْنَاهَا تَعَالَى مِنَ التَّأَسِّي بِهِ فَقَالَ: (إِلَّا قَوْلَ

إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ) إِلَخْ.

فَمَعْنَى الْجُمْلَةِ عَلَى هَذَا: أُولَئِكَ الْأَنْبِيَاءُ الثَّمَانِيَةَ عَشَرَ الَّذِينَ ذُكِرَتْ أَسْمَاؤُهُمْ فِي الْآيَاتِ الْمَتْلُوَّةِ آنِفًا، وَالْمَوْصُوفُونَ فِي الْآيَةِ الْأَخِيرَةِ بِإِيتَاءِ اللهِ إِيَّاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ، هُمُ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللهُ تَعَالَى الْهِدَايَةَ الْكَامِلَةَ، فَبِهُدَاهُمْ دُونَ مَا يُغَايِرُهُ وَيُخَالِفُهُ مِنْ أَعْمَالِ غَيْرِهِمْ وَهَفَوَاتِ بَعْضِهِمُ اقْتَدِ أَيُّهَا الرَّسُولُ فِيمَا يَتَنَاوَلُهُ كَسْبُكَ وَعَمَلُكَ مِمَّا بُعِثْتَ بِهِ مِنْ تَبْلِيغِ الدَّعْوَةِ وَإِقَامَةِ الْحُجَّةِ وَالصَّبْرِ عَلَى التَّكْذِيبِ وَالْجُحُودِ، وَإِيذَاءِ أَهْلِ الْعِنَادِ وَالْجُمُودِ، وَمُقَلِّدَةِ الْآبَاءِ وَالْجُدُودِ وَإِعْطَاءِ كُلِّ حَالٍ حَقِّهَا مِنْ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَأَحَاسِنِ الْأَعْمَالِ، كَالصَّبْرِ وَالشُّكْرِ، وَالشَّجَاعَةِ وَالْحِلْمِ، وَالْإِيثَارِ وَالزُّهْدِ، وَالسَّخَاءِ، وَالْبَذْلِ، وَالْحُكْمِ بِالْعَدْلِ، إِلَخْ. (وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ) 11: 120 (وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَأِ الْمُرْسَلِينَ) 6: 34 (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أَوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ 46: 35) فَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى لَهُ فِي آخِرِ سُورَةِ " ن "(فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ 68: 48) - وَصَاحِبُ الْحُوتِ هُوَ يُونُسُ أَحَدُ هَؤُلَاءِ الْأَنْبِيَاءِ الثَّمَانِيَةَ عَشَرَ - فَالنَّهْيُ فِيهِ مِمَّا دَلَّ عَلَيْهِ الْحَصْرُ بِتَقْدِيمِ " فَبِهُدَاهُمْ " عَلَى " اقْتَدِهْ " كَمَا تَقَدَّمَ، فَإِنَّ هَذِهِ الْحَالَةَ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْهُدَى الَّذِي هَدَى اللهُ يُونُسَ إِلَيْهِ، بَلْ هَفْوَةٌ عَاقَبَهُ اللهُ عَلَيْهَا ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِ، وَلَا يَحُطُّ هَذَا مِنْ قَدْرِ يُونُسَ عليه السلام، وَلِإِزَالَةِ تَوَهُّمِ ذَلِكَ قَالَ صلى الله عليه وسلم:" لَا يَنْبَغِي لِعَبْدٍ أَنْ يَقُولَ أَنَا خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَّى " وَقَالَ: " لَا تُفَضِّلُونِي عَلَى يُونُسَ بْنِ مَتَّى " أَيْ فِي

ص: 497

أَصْلِ النُّبُوَّةِ لِأَجْلِ هَفْوَتِهِ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ " لَا تُفَضِّلُوا بَيْنَ الْأَنْبِيَاءِ " وَفِيهِ " وَلَا أَقُولُ إِنَّ أَحَدًا أَفْضَلُ مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَّى " وَكُلُّ ذَلِكَ فِي الصِّحَاحِ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ عَدَمُ التَّفْرِيقِ بَيْنَ الرُّسُلِ وَالْأَنْبِيَاءِ لَا مَنْعُ مُطْلَقِ التَّفْضِيلِ، فَعُلِمَ بِهَذَا أَنَّ اللهَ لَمْ يَأْمُرْ خَاتَمَ رُسُلِهِ بِالِاقْتِدَاءِ بِكُلِّ فَرْدٍ مِنْ أُولَئِكَ الْأَنْبِيَاءِ فِي كُلِّ عَمَلٍ، وَإِنَّمَا أَمَرَهُ أَنْ يَقْتَدِي بِهُدَاهُمْ إِلَيْهِ فِي سِيرَتِهِمْ، سَوَاءٌ مَا كَانَ مِنْهُ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمْ، وَمَا امْتَازَ فِي الْكَمَالِ فِيهِ بَعْضُهُمْ، كَمَا امْتَازَ نُوحٌ وَإِبْرَاهِيمُ وَآلُ دَاوُدَ بِالشُّكْرِ، وَيُوسُفُ وَأَيُّوبُ وَإِسْمَاعِيلُ بِالصَّبْرِ، وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسُ بِالْقَنَاعَةِ وَالزُّهْدِ، وَمُوسَى وَهَارُونُ بِالشَّجَاعَةِ، وَشَدَّةِ الْعَزِيمَةِ فِي النُّهُوضِ بِالْحَقِّ. فَاللهُ تَعَالَى قَدْ هَدَى كُلَّ

نَبِيٍّ رَفَعَهُ دَرَجَاتٍ فِي الْكَمَالِ، وَجَعَلَ دَرَجَاتِ بَعْضِهِمْ فَوْقَ بَعْضٍ، ثُمَّ أَوْحَى إِلَى خَاتَمِ رُسُلِهِ خُلَاصَةَ سِيَرِ أَشْهَرِهِمْ وَأَفْضَلِهِمْ وَهُمُ الْمَذْكُورُونَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ وَفِي سَائِرِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَقْتَدِيَ بِهُدَاهُمْ ذَاكَ، وَهَذِهِ هِيَ الْحِكْمَةُ الْعُلْيَا لِذِكْرِ قِصَصِهِمْ فِي الْقُرْآنِ. وَقَدْ شَهِدَ اللهُ تَعَالَى بِأَنَّهُ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ، وَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ، فَعُلِمَ بِهَذَا أَنَّهُ كَانَ مُهْتَدِيًا بِهُدَاهُمْ كُلِّهِمْ، وَبِهَذَا كَانَتْ فَضَائِلُهُ وَمَنَاقِبُهُ الْكَسْبِيَّةُ أَعْلَى مِنْ جَمِيعِ مَنَاقِبِهِمْ وَفَضَائِلِهِمْ ; لِأَنَّهُ اقْتَدَى بِهَا كُلِّهَا فَاجْتَمَعَ لَهُ مِنَ الْكَمَالِ مَا كَانَ مُتَفَرِّقًا فِيهِمْ، إِلَى مَا هُوَ خَاصٌّ بِهِ دُونَهُمْ ; وَلِذَلِكَ شَهِدَ اللهُ تَعَالَى لَهُ بِمَا لَمْ يَشْهَدْ بِهِ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ فَقَالَ:(وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) 68: 4 وَأَمَّا فَضَائِلُهُ وَخَصَائِصُهُ الْوَهْبِيَّةُ فَأَمْرُ تَفْضِيلِهِ عَلَيْهِمْ فِيهَا أَظْهَرُ، وَأَعْظَمُهَا عُمُومُ الْبَعْثَةِ، وَخَتْمُ النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ، وَإِنَّمَا كَمَالُ الْأَشْيَاءِ فِي خَوَاتِيمِهَا، صَلَّى الله عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ. وَالْهَاءُ فِي قَوْلِهِ:(اقْتَدِهْ) لِلسَّكْتِ أَثْبَتَهَا فِي الْوَقْفِ وَالْوَصْلِ جُمْهُورُ الْقُرَّاءِ، وَحَذَفَهَا فِي الْوَصْلِ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ، وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ بِكَسْرِ الْهَاءِ مِنْ غَيْرِ إِشْبَاعٍ، وَهُوَ مَا يُسَمُّونَهُ الِاخْتِلَاسَ، وَلَهُمْ فِي تَخْرِيجِهَا وُجُوهٌ.

بَعْدَ كِتَابَةِ مَا تَقَدَّمَ رَاجَعْتُ أَقْوَالَ الْمُفَسِّرِينَ فِي تَفْسِيرِ مَا بِهِ الِاقْتِدَاءُ فَرَأَيْتُ الرَّازِيَّ لَخَصَّهَا بِقَوْلِهِ: فَمِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ الْمُرَادُ أَنْ يَقْتَدِيَ بِهِمْ فِي الْأَمْرِ الَّذِي أَجْمَعُوا عَلَيْهِ وَهُوَ الْقَوْلُ بِالتَّوْحِيدِ وَالتَّنْزِيهِ عَنْ كُلِّ مَا لَا يَلِيقُ بِهِ - أَيْ بِاللهِ تَعَالَى - فِي الذَّاتِ وَالصِّفَاتِ وَالْأَفْعَالِ وَسَائِرِ الْعَقْلِيَّاتِ، وَقَالَ آخَرُونَ: الْمُرَادُ الِاقْتِدَاءُ بِهِمْ فِي جَمِيعِ الْأَخْلَاقِ الْحَمِيدَةِ وَالصِّفَاتِ الرَّفِيعَةِ الْكَامِلَةِ مِنَ الصَّبْرِ عَلَى أَذَى السُّفَهَاءِ وَالْعَفْوِ عَنْهُمْ. وَقَالَ آخَرُونَ: الْمُرَادُ الِاقْتِدَاءِ بِهِمْ فِي شَرَائِعِهِمْ إِلَّا مَا خَصَّهُ الدَّلِيلُ. وَبِهَذَا التَّقْدِيرِ كَانَتِ الْآيَةُ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا يَلْزَمُنَا - ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَ مُقَدِّمَةٍ وَجِيزَةٍ أَنَّ الْمُرَادَ: اقْتَدِ بِهِمْ فِي نَفْيِ الشِّرْكِ وَإِثْبَاتِ التَّوْحِيدِ وَتَحَمُّلِ سَفَاهَاتِ الْجُهَّالِ فِي هَذَا الْبَابِ (قَالَ) : وَقَالَ آخَرُونَ اللَّفْظُ مُطْلَقٌ، فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الْكُلِّ إِلَّا مَا خَصَّهُ الدَّلِيلُ الْمُنْفَصِلُ اهـ.

ص: 498

وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ مُتَدَاخِلَةٌ، وَأَقْرَبُهَا إِلَى الصَّوَابِ ثَانِيهَا مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ مُفَصَّلٌ وَآخِرُهَا الْمُجْمَلُ الَّذِي لَا يُعْلَمُ الْمُرَادُ مِنْهُ.

وَقَدْ نَظَّمَ الرَّازِيُّ هُنَا جَمِيعَ الْعَقْلِيَّاتِ فِي سَلْكِ أُصُولِ الدِّينِ مِنَ التَّوْحِيدِ وَالتَّنْزِيهِ وَإِثْبَاتِ الصِّفَاتِ، وَجَمِيعُ ذَلِكَ عِنْدَهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَعْرِفَهُ الْأَنْبِيَاءُ وَلَا غَيْرُهُمْ إِلَّا بِنَظَرِ

الْعَقْلِ كَمَا نَقَلْنَاهُ عَنْهُ فِي هَذَا السِّيَاقِ مَرْدُودًا عَلَيْهِ، وَالِاقْتِدَاءُ فِي النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ لَا يَظْهَرُ لَهُ مَعْنًى وَجِيهٌ فَإِنَّ غَايَتَهُ أَنْ يَسْتَدِلَّ بِمَا اسْتَدَلَّ بِهِ مَجْمُوعُهُمْ أَوْ كُلُّ فَرْدٍ مِنْهُمْ وَهُوَ لَا يَصِحُّ وَلَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ، أَوْ أَنْ يَسْتَدِلَّ كَمَا اسْتَدَلُّوا وَلَيْسَ هَذَا اقْتِدَاءً وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا. وَقَدْ أَوْرَدَ الرَّازِيُّ عَنِ الْقَاضِي فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ اعْتِرَاضًا وَضَعَهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ وَأَجَابَ عَنْهُ بِمَا هُوَ حُجَّةٌ عَلَيْهِ لَا لَهُ. وَأَوْرَدَ السَّعْدُ عَلَى الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْوَاجِبَ فِي الِاعْتِقَادَاتِ وَأُصُولِ الدِّينِ هُوَ اتِّبَاعُ الدَّلِيلِ مِنَ الْعَقْلِ وَالسَّمْعِ فَلَا يَجُوزُ سِيَّمَا لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُقَلِّدَ غَيْرَهُ فِيهِ، فَمَا مَعْنَى أَمْرِهِ بِالِاقْتِدَاءِ فِيهِ؟ وَأَجَابَ بِأَنَّ اعْتِقَادَهُ عليه السلام حِينَئِذٍ لَيْسَ لِأَجْلِ اعْتِقَادِهِمْ بَلْ لِأَجْلِ التَّدْلِيلِ بِلَا مَعْنَى لِأَمْرِهِ بِذَلِكَ. وَجَعَلَ غَيْرُهُ مَعْنَاهُ: تَعْظِيمُ أُولَئِكَ الرُّسُلِ وَالْأَعْلَامِ بِأَنَّ طَرِيقَهُمْ هُوَ الْحَقُّ الْمُوَافِقُ لِلدَّلِيلِ، وَهُوَ تَكَلُّفٌ لَا يَقْبَلُهُ التَّنْزِيلُ.

وَأَمَّا الْقَوْلُ بِأَنَّ الْمُرَادَ الِاقْتِدَاءُ بِهِمْ فِي فُرُوعِ شَرَائِعِهِمْ فَهُوَ أَضْعَفُ الْأَقْوَالِ وَأَبْعَدُهَا عَنِ الصَّوَابِ، لَا لِمَا قِيلَ مِنِ اخْتِلَافِهَا وَتَنَاقُضِهَا وَقَبُولِهَا النَّسْخَ وَكَوْنِ الْمَنْسُوخِ لَمْ يَبْقَ هُدًى. بَلِ الْأَمْرُ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ: إِنَّ اللهَ بَعَثَ مُحَمَّدًا خَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ وَأَكْمَلَ لَنَا عَلَى لِسَانِهِ دِينَهُ الْمُبِينَ، وَأَرْسَلَهُ رَحْمَةً لِجَمِيعِ الْعَالَمِينَ، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ فِي أَوَاخِرَ مَا أَنْزَلَهُ بَعْدَ ذِكْرِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَأَهْلِ الْكِتَابِ:(وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا) 5: 48 فَهَذِهِ الْآيَةُ نَاطِقَةٌ صَرَاحَةً بِأَنَّ كَتَابَ هَذَا الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم مُهَيْمِنٌ وَرَقِيبٌ وَحَاكِمٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ مِنَ الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ لَا تَابِعٌ لِشَيْءٍ مِنْهَا - وَبِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أُمِرَ بِأَنْ يَحْكُمَ بَيْنَ أَهْلِ الْكِتَابِ بِمَا جَاءَهُ مِنَ الْحَقِّ لَا بِمَا فِي كُتُبِهِمْ، وَلَا يَتِّبِعَ أَهْوَاءَهُمْ إِذْ يَوَدُّ كُلُّ فَرِيقٍ مِنْهُمْ أَنْ يَحْكُمَ لَهُ بِمَا يُوَافِقُ كُتُبَهُ وَمَذْهَبَهُ، وَكُلُّ ذِي دَعْوَى أَنْ يَحْكُمَ لَهُ بِمَا يُوَافِقُ مَصْلَحَتَهُ، عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ لِنَبِيٍّ مِنْ أُولَئِكَ الثَّمَانِيَةَ عَشَرَ شَرِيعَةٌ مُفَصِّلَةٌ إِلَّا لِمُوسَى عليه السلام وَلَمْ يَذْكُرِ اللهُ تَعَالَى لِرَسُولِهِ مِنْ تِلْكَ الشَّرِيعَةِ إِلَّا أَحْكَامًا قَلِيلَةً اقْتَضَتْ ذِكْرَهَا إِقَامَةُ الْحُجَّةِ عَلَى الْيَهُودِ، وَذَلِكَ بَعْدَ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ الْمَكِّيَّةِ بِسِنِينَ، وَقَدْ شَهِدَ الْقُرْآنُ عَلَى الْيَهُودِ بِأَنَّهُمْ حَرَّفُوا وَبَدَّلُوا وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ، وَكَذَلِكَ أَهِلُ الْإِنْجِيلِ شَهِدَ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ نَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ،

وَقَدْ أَمَرَنَا الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم كَمَا فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ بِأَلَّا نُصَدِّقَ الْيَهُودَ فِيمَا يَرْوُونَهُ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلَا نُكَذِّبَهُمْ، فَهَلْ يُمْكِنُ مَعَ هَذَا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:" فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ ": اقْتَدِ أَيُّهَا الرَّسُولُ - الْخَاتَمُ لِلنَّبِيِّينَ، الَّذِي أُكْمِلُ عَلَى لِسَانِهِ الدِّينَ - بِالْأَحْكَامِ

ص: 499

الْقَلِيلَةِ الَّتِي نُوحِيهَا إِلَيْكَ مِنْ أَحْكَامِ التَّوْرَاةِ بَعْدَ سِنِينَ؟ إِنَّ الَّذِينَ اخْتَرَعُوا هَذَا الْقَوْلَ فِي الْآيَةِ إِنَّمَا جَعَلُوهُ حُجَّةً جَدَلِيَّةً لِقَوْلٍ اتَّخَذُوهُ مَذْهَبًا، وَهُوَ أَنْ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا شَرْعٌ لَنَا. وَقَدْ فَصَّلْنَا الْقَوْلَ بِبُطْلَانِهِ وَبُطْلَانِ الِاحْتِجَاجِ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَيْهِ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ الْمَائِدَةِ الْمَذْكُورَةِ آنِفًا (5: 48) فَيُرَاجَعُ فِي جُزْءٍ التَّفْسِيرِ السَّادِسِ وَبَقِيَّةُ تِلْكَ الْأَقْوَالِ الَّتِي أَوْرَدَهَا الرَّازِيُّ دَاخِلَةٌ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْهَا، فَعُلِمَ بِهَذَا أَنَّ مَا قَرَّرْنَاهُ أَوَّلًا هُوَ الْوَجْهُ الصَّحِيحُ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ الْعَزِيزُ، بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ شَوَاهِدِ آيَاتِهِ فِي هَذَا التَّقْرِيرِ.

وَلَمْ يَرِدْ فِي التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إِلَّا مَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَبَعْضُ رُوَاةِ التَّفْسِيرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه أَنَّهُ اسْتَدَلَّ بِالْآيَةِ عَلَى سُجُودِ التِّلَاوَةِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى عَنْ دَاوُدَ فِي سُورَةِ " ص ": (فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ 38) : 24 وَقَالَ: فَكَانَ دَاوُدُ مِمَّنْ أُمِرَ نَبِيُّكُمْ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَقْتَدِيَ بِهِ فَسَجَدَهَا دَاوُدُ فَسَجَدَهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ وَفِي النَّسَائِيِّ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا " سَجَدَهَا دَاوُدُ تَوْبَةً وَنَحْنُ نَسْجُدُهَا شُكْرًا " فَاسْتَدَلَّ الشَّافِعِيُّ بِقَوْلِهِ شُكْرًا عَلَى أَنَّهُ لَا يَسْجُدُ فِيهَا فِي الصَّلَاةِ ; لِأَنَّ سُجُودَ الشَّاكِرِ لَا يُشْرَعُ دَاخِلَ الصَّلَاةِ. وَلِأَبِي دَاوُدَ وَابْنِ خُزَيْمَةَ وَالْحَاكِمِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَرَأَ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ " ص " فَلَمَّا بَلَغَ السَّجْدَةَ نَزَلَ فَسَجَدَ وَسَجَدَ النَّاسُ مَعَهُ، ثُمَّ قَرَأَهَا فِي يَوْمٍ آخَرَ فَتَهَيَّأَ النَّاسُ لِلسُّجُودِ فَقَالَ " إِنَّمَا هِيَ تَوْبَةُ نَبِيٍّ وَلَكِنِّي رَأَيْتُكُمْ تَهَيَّأْتُمْ " فَنَزَلَ وَسَجَدَ وَسَجَدُوا مَعَهُ. فَهَذَا السِّيَاقُ يُشْعِرُ بِأَنَّ السُّجُودَ فِيهَا لَمْ يُؤَكَّدْ كَمَا أُكِّدَ فِي غَيْرِهَا انْتَهَى. وَإِنَّمَا ذَكَرَ الْحَافِظُ هَذَا فِي شَرْحِ بَابِ سَجْدَةِ " ص " مِنَ الْبُخَارِيِّ، وَفِيهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ سَجْدَةَ " ص " لَيْسَتْ مِنْ عَزَائِمِ السُّجُودِ، وَنَحْنُ نَسْتَدِلُّ بِمَا ذُكِرَ عَنْ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَكُنْ يَلْتَزِمُ سُجُودَهَا، وَظَاهِرُ قَوْلِهِ " نَسْجُدُهَا شُكْرًا " يُخَالِفُ اسْتِنْبَاطَ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يَسْجُدُهَا اقْتِدَاءً بِدَاوُدَ، وَإِنَّمَا يَظْهَرُ الِاقْتِدَاءُ لَوْ سَجَدَهَا مِثْلَهُ تَوْبَةً، وَالْحَبْرُ هُوَ الْحَبْرُ وَلَكِنَّهُ غَيْرُ مَعْصُومٍ وَاللهُ أَعْلَمُ.

(تَحْقِيقُ مَسْأَلَةِ الْإِيمَانِ بِالرُّسُلِ إِجْمَالًا وَتَفْصِيلًا) .

وَعَدَدُ الرُّسُلِ الْمَذْكُورِينَ فِي الْقُرْآنِ.

مِنْ أُصُولِ الْعَقَائِدِ الْإِسْلَامِيَّةِ أَنَّ اللهَ تَعَالَى أَرْسَلَ فِي كُلِّ الْأُمَمِ رُسُلًا، مِنْهُمْ مَنْ قَصَّ عَلَى رَسُولِنَا وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَقْصُصْ عَلَيْهِ، وَأَنَّهُ يَجِبُ الْإِيمَانُ بِمَنْ ذَكَرَ مِنْهُمْ فِي الْقُرْآنِ إِيمَانًا تَفْصِيلِيًّا، أَيْ تَجِبُ مَعْرِفَتُهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ، وَصَرَّحَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ بِأَنَّ إِنْكَارَ رِسَالَةِ أَحَدٍ مِنْهُمْ كُفْرٌ، وَظَاهِرُ كَلَامِهِمْ هَذَا أَنَّ مَعْرِفَتَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ مِنَ الْمُجْمَعِ عَلَيْهِ الْمَعْلُومِ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ، فَلَا يُعْذَرُ أَحَدٌ بِجَهْلِهِ إِلَّا مَنْ كَانَ حَدِيثَ الْعَهْدِ بِالْإِسْلَامِ وَمَنْ نَشَأَ بَعِيدًا عَنْ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ،

ص: 500

فَمَنْ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ " الْيَسَعَ " رَسُولُ اللهِ - مَثَلًا - كَانَ كَافِرًا. وَلَكِنَّنَا نَعْلَمُ بِالِاخْتِبَارِ الصَّحِيحِ أَنَّ أَكْثَرَ عَوَامِّ الْمُسْلِمِينَ فِي عَصْرِنَا - وَمَثَلِهِ مَا قَبْلَهُ مِنَ الْأَعْصَارِ الْمُشَابِهَةِ لَهُ - لَا يَعْرِفُونَ أَسْمَاءَ كُلِّ مَنْ ذُكِرَ فِي الْقُرْآنِ مِنْهُمْ، إِذْ لَا يُلَقِّنُهُمْ أَحَدٌ ذَلِكَ. بَلْ نَعْلَمُ بِالِاخْتِبَارِ الصَّحِيحِ أَيْضًا أَنَّ أَكْثَرَ عَوَامِّ الْأَقْطَارِ الَّتِي عَرَفْنَاهَا لَا يُلَقِّنُهُمْ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ عَقَائِدَ الْإِسْلَامِ، فَكُلُّ مَا يَعْلَمُونَ مِنْهَا هُوَ مَا يَسْمَعُهُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ، وَلَيْسَ هَذَا مِنْهُ. وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنَ الْمَعْلُومِ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ، فَالَّذِي يَتَّجِهُ أَلَّا نُكَفِّرَ مُوَحِّدًا بِجَهْلِ بَعْضِ هَؤُلَاءِ الرُّسُلِ إِذَا كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ إِجْمَالًا، وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبِالْقَدَرِ وَبِأَرْكَانِ الْإِسْلَامِ الْعَمَلِيَّةِ وَتَحْرِيمِ الْفَوَاحِشِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَسَائِرِ مَا لَا يَزَالُ مَعْلُومًا مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ، كَمَا أَنَّنَا لَا نُكَفِّرُ مَنْ ذُكِرَ بِجَهْلِ غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَخْفَى عَلَى الْعَوَامِّ مِنْ أَخْبَارِ الْقُرْآنِ وَأَحْكَامِهِ وَآدَابِهِ كَخَبَرِ أَهْلِ سَبَأٍ وَحُكْمِ إِرْثِ الْكَلَالَةِ وَأَدَبِ الِاسْتِئْذَانِ وَالسَّلَامِ لِدُخُولِ بُيُوتِ النَّاسِ، وَأَمَّا مَنْ جَحَدَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ بَعْدَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ مَنْصُوصٌ فِي الْقُرْآنِ غَيْرَ مُتَأَوِّلٍ فَيَكْفُرُ لِأَنَّهُ كَذَّبَ كَلَامَ اللهِ تَعَالَى، وَمَدَارُ الْكُفْرِ بِكُلِّ أَنْوَاعِهِ عَلَى تَكْذِيبِ شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ الدِّينِ عُلِمَ قَطْعًا أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم جَاءَ بِهِ عَنِ اللهِ تَعَالَى كَمَّا أَنَّ مَدَارَ الْإِيمَانِ كُلِّهِ عَلَى تَصْدِيقِ الرَّسُولِ فِي كُلِّ مَا عُلِمَ قَطْعًا أَنَّهُ جَاءَ بِهِ عَنِ اللهِ تَعَالَى تَصْدِيقَ قَبُولٍ وَإِذْعَانٍ، وَتَقَدَّمَ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي التَّفْسِيرِ. وَالْمُرَادُ بِالْعِلْمِ الْقَطْعِيِّ أَنْ يَكُونَ قَطْعِيَّ الرِّوَايَةِ كَالْقُرْآنِ وَبَعْضِ السُّنَةِ وَقَطْعِيَّ الدَّلَالَةِ كَالنُّصُوصِ الَّتِي لَا تَحْتَمِلُ التَّأَوِيلَ فَمَا كَانَ غَيْرَ قَطْعِيِّ الرِّوَايَةِ احْتَمَلَ أَنْ يُكَذِّبَهُ مُكَذِّبٌ

لِلْجَهْلِ بِالرِّوَايَةِ أَوْ لِعَدَمِ تَصْدِيقِهِ بَعْضَ رُوَاتِهِ، وَمَا كَانَ غَيْرَ قَطْعِيِّ الدَّلَالَةِ احْتَمَلَ أَنْ يُكَذِّبَ مُكَذِّبٌ بِبَعْضِ مَعَانِيهِ لِاعْتِقَادِهِ أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى غَيْرُ مُرَادٍ، فَهَذَا مَا يَخْرُجُ بِغَيْرِ الْعِلْمِ الْقَطْعِيِّ، وَلِذَلِكَ يَشْتَرِطُ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ مَجْمَعًا عَلَيْهِ مَعْلُومًا مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ، وَيَشْتَرِطُونَ أَنْ يَكُونَ الْمُكَذِّبُ غَيْرَ مُتَأَوِّلٍ إِذْ لَا يَتَأَوَّلُ أَحَدٌ إِلَّا مَا كَانَ غَيْرَ قَطْعِيِّ الدَّلَالَةِ عِنْدَهُ، وَلِهَذَا لَمْ يُكَفِّرْ سَلَفُ الْأُمَّةِ مَنْ خَالَفَهُمْ فِي فَهْمِ آيَاتِ الصِّفَاتِ وَغَيْرِهَا مِنْ فِرَقِ الْمُبْتَدَعَةِ مُتَأَوِّلًا، وَلَكِنَّ السَّلَفَ وَالْخَلْفَ يُكَفِّرُونَ مَنْ يُكَذِّبُ الرَّسُولَ صلى الله عليه وسلم بِشَيْءٍ يَعْتَقِدُ هُوَ أَنَّهُ جَاءَ بِهِ عَنِ اللهِ تَعَالَى وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْوَاقِعِ قَطْعِيَّ الرِّوَايَةِ وَالدَّلَالَةِ إِذْ مَدَارُ الْكُفْرِ عَلَى التَّكْذِيبِ.

وَقَدْ ذَكَرُوا فِي بَعْضِ كُتُبِ الْعَقَائِدِ وَغَيْرِهَا أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ الْمُرْسَلِينَ الَّذِينَ ذُكِرُوا فِي الْقُرْآنِ وَيَجِبُ الْإِيمَانُ بِهِمْ تَفْصِيلًا خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ، هُمُ الثَّمَانِيَةَ عَشَرَ الَّذِينَ ذُكِرَتْ أَسْمَاؤُهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ الَّتِي لَا زَالَ بِصَدَدِ تَفْسِيرِهَا، وَالسَّبْعَةُ الْآخَرُونَ آدَمُ أَبُو الْبَشَرِ وَإِدْرِيسُ وَلُوطٌ وَأَنْبِيَاءُ الْعَرَبِ هُودٌ وَصَالِحٌ وَشُعَيْبٌ وَخَاتَمُ الْجَمِيعِ مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ،

ص: 501

وَزَادَ بَعْضُهُمْ ذُو الْكِفْلِ لِذِكْرِهِ مَعَ الْأَنْبِيَاءِ فِي سُورَةِ " ص " وَلَكِنِ اخْتُلِفَ فِي نُبُوَّتِهِ لِعَدَمِ التَّصْرِيحِ بِهَا، وَإِنَّمَا وُصِفَ مَعَ مَنْ ذُكِرَ مَعَهُمْ بِأَنَّهُمْ مِنَ الْأَخْيَارِ.

وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ نَصٌّ قَطْعِيٌّ صَرِيحٌ فِي رِسَالَةِ آدَمَ عليه السلام بَلْ مَفْهُومُ قَوْلِهِ تَعَالَى: (إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ) 4: 163 أَنَّ نُوحًا أَوَّلُ نَبِيٍّ مُرْسَلٍ أَوْحَى اللهُ إِلَيْهِ رِسَالَتَهُ وَشَرْعَهُ. وَيُؤَيِّدُهُ فِي الْجُمْلَةِ هَذِهِ الْآيَاتُ الَّتِي نُفَسِّرُهَا وَمَا فِي مَعْنَاهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى (وَلَقَدْ أَرْسَلَنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ) 57: 26 وَعَدَمُ ذِكْرِهِ فِي السُّورَةِ الَّتِي سَرَدَ فِيهَا ذِكْرَ الرُّسُلِ الْمَشْهُورِينَ كَهُودٍ وَمَرْيَمَ وَالْأَنْبِيَاءِ وَالشُّعَرَاءِ وَالصَّافَّاتِ وَص وَالْقَمَرِ. وَيُؤَيِّدُهُ بِالنَّصِّ الصَّرِيحِ حَدِيثُ الشَّفَاعَةِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَالْأَوَّلُ أَصْرَحُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم " يَجْمَعُ اللهُ النَّاسَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَهْتَمُّونَ لِذَلِكَ فَيَقُولُونَ: لَوِ اسْتَشْفَعْنَا عَلَى رَبِّنَا فَأَرَاحَنَا مِنْ مَكَانِنَا هَذَا! فَيَأْتُونَ آدَمَ فَيَقُولُونَ: يَا آدَمُ أَنْتَ أَبُو الْبَشَرِ خَلَقَكَ اللهُ بِيَدِهِ وَأَسْجَدَ لَكَ مَلَائِكَتَهُ وَعَلَّمَكَ أَسْمَاءَ كُلِّ شَيْءٍ فَاشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ حَتَّى يُرِيحَنَا مِنْ مَكَانِنَا هَذَا. . فَيَقُولُ لَهُمْ آدَمُ: لَسْتُ هُنَاكُمْ - وَيَذْكُرُ ذَنْبَهُ الَّذِي أَصَابَهُ فَيَسْتَحِي مِنْ رَبِّهِ عز وجل

وَلَكِنِ ائْتُوا نُوحًا أَوَّلَ رَسُولٍ بَعَثَهُ اللهُ إِلَى الْأَرْضِ، فَيَأْتُونَ نُوحًا " إِلَخْ وَفِي حَدِيثٍ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ لَهُ " يَا نُوحُ أَنْتَ أَوَّلُ الرُّسُلِ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ " الْحَدِيثَ وَهُوَ مَعْرُوفٌ مَشْهُورٌ، وَفِيهِ أَنَّ كُلَّ رَسُولٍ مِنْ أُولِي الْعَزْمِ - وَهُمْ عَلَى الرَّاجِحِ الْمَشْهُورِ نُوحٌ وَإِبْرَاهِيمُ وَمُوسَى وَعِيسَى وَمُحَمَّدٌ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ كَانَ يَدْفَعُهُمْ إِلَى مَنْ بَعْدَهُ حَتَّى إِذَا انْتَهَوْا إِلَى الْخَاتَمِ كَانَ هُوَ الشَّافِعُ الْمُشَفَّعُ.

وَقَدِ اضْطَرَبَتْ أَقْوَالُ الْعُلَمَاءِ فِي آيَةِ (إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ) وَحَدِيثِ الشَّفَاعَةِ. قَالَ الرَّازِيُّ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ: (الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ) قَالُوا إِنَّمَا بَدَأَ اللهُ بِذِكْرِ نُوحٍ لِأَنَّهُ أَوَّلُ نَبِيٍّ شَرَعَ اللهُ عَلَى لِسَانِهِ الْأَحْكَامَ وَالْحَلَالَ وَالْحَرَامَ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى:(وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ) ثُمَّ خَصَّ بَعْضَ النَّبِيِّينَ بِالذِّكْرِ لِكَوْنِهِمْ أَفْضَلَ مِنْ غَيْرِهِمْ، انْتَهَى وَتَبِعَهُ فِيهِ النَّيْسَابُورِيُّ وَأَبُو السُّعُودِ وَالْخَازِنُ وَغَيْرُهُمْ وَزَادُوا عَلَى ذَلِكَ خَصَائِصَ نُوحٍ. قَالَ الْخَازِنُ مَا نَصُّهُ: قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: وَإِنَّمَا بَدَأَ اللهُ بِذِكْرِ نُوحٍ عليه السلام لِأَنَّهُ أَوَّلُ نَبِيٍّ بُعِثَ بِشَرِيعَةٍ وَأَوَّلُ نَذِيرٍ عَلَى الشِّرْكِ، وَأَنْزَلَ اللهُ عز وجل عَلَيْهِ عَشْرَ صَحَائِفَ، وَكَانَ أَوَّلَ نَبِيٍّ عُذِّبَتْ أُمَّتُهُ لِرَدِّهِمْ دَعْوَتَهُ، وَكَانَ أَبَا الْبَشَرِ كَآدَمَ عليهما السلام. انْتَهَى الْمُرَادُ مِنْهُ، وَمِثْلُهُ فِي فَتْحِ الْبَيَانِ فِي مَقَاصِدَ الْقُرْآنِ، وَذَكَرَ الْآلُوسِيُّ أَنَّ تَعْلِيلَ الْبَدْءِ بِذِكْرِهِ بِكَوْنِهِ أَوَّلَ مَنْ شَرَعَ اللهُ عَلَى لِسَانِهِ الْأَحْكَامَ قَدْ تُعُقِّبَ بِالْمَنْعِ، وَلَمْ يَذْكُرْ لِهَذَا الْمَنْعِ سَنَدًا، وَلَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى:(وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ) حِكْمَةً وَلَا نُكْتَةً. وَقَدْ سَكَتَ عَنْ ذَلِكَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ الَّذِينَ اطَّلَعْنَا عَلَى كُتُبِهِمْ. فَمَفْهُومُ تَصْرِيحِ هَؤُلَاءِ الْمُفَسِّرِينَ النَّاقِلِينَ عَنْ غَيْرِهِمْ

ص: 502

مِنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّ آدَمَ لَمْ يَكُنْ رَسُولًا لِأَنَّ الْآيَةَ تَدُلُّ عِنْدَهُمْ عَلَى أَنَّ أَوَّلَ رَسُولٍ شَرَعَ اللهُ عَلَى لِسَانِهِ الْأَحْكَامَ، هُوَ نُوحٌ عليه السلام.

وَأَمَّا حَدِيثُ الشَّفَاعَةِ فَقَدْ تَكَلَّمَ فِيهِ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ مِنْ شَرْحِ الْبُخَارِيِّ: قَالَ فِي شَرْحِ حَدِيثِ جَابِرٍ مِنْ كِتَابِ التَّيَمُّمِ " أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ قَبْلِي - إِلَى قَوْلِهِ - وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ عَامَّةً ": وَأَمَّا قَوْلُ أَهْلِ الْمَوْقِفِ لِنُوحٍ كَمَا صَحَّ فِي حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ: أَنْتَ أَوَّلُ رَسُولٍ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ - فَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ عُمُومَ بَعْثَتِهِ بَلْ إِثْبَاتُ أَوَّلِيَّةِ إِرْسَالِهِ انْتَهَى. وَهَذَا اعْتِرَافٌ بِأَنَّهُ أَوَّلُ الرُّسُلِ. ثُمَّ قَالَ فِي شَرْحِ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مِنْ كِتَابِ أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ: فَأَمَّا كَوْنُهُ أَوَّلَ الرُّسُلِ فَقَدِ اسْتُشْكِلَ بِأَنَّ آدَمَ كَانَ نَبِيًّا وَبِالضَّرُورَةِ

نَعْلَمُ أَنَّهُ كَانَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْعِبَادَةِ وَأَنَّ أَوْلَادَهُ أَخَذُوا ذَلِكَ عَنْهُ، فَعَلَى هَذَا فَهُوَ رَسُولٌ إِلَيْهِمْ فَيَكُونُ أَوَّلَ رَسُولٍ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْأَوَّلِيَّةُ فِي قَوْلِ أَهْلِ الْمَوْقِفِ لِنُوحٍ مُقَيَّدَةً بِقَوْلِهِمْ " إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ " لِأَنَّهُ فِي زَمَنِ آدَمَ لَمْ يَكُنْ لِلْأَرْضِ أَهْلٌ، أَوْ لِأَنَّ رِسَالَةَ آدَمَ إِلَى بَنِيهِ كَانَتْ كَالتَّرْبِيَةِ لِلْأَوْلَادِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهُ - أَيْ نُوحًا - أَوَّلُ رَسُولٍ أُرْسِلَ إِلَى بَنِيهِ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْأُمَمِ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ تُفَرُّقِهِمْ فِي عِدَّةِ بِلَادٍ وَآدَمُ إِنَّمَا أُرْسِلَ إِلَى بَنِيهِ وَكَانُوا مُجْتَمِعِينَ فِي بَلْدَةٍ وَاحِدَةٍ. وَاسْتَشْكَلَهُ بَعْضُهُمْ بِإِدْرِيسَ وَلَا يَرِدُ لِأَنَّهُ اخْتُلِفَ فِي كَوْنِهِ جَدَّ نُوحٍ كَمَا تَقَدَّمَ انْتَهَى. أَقُولُ: وَيَلِي شَرْحَهُ لِهَذَا الْحَدِيثِ شَرْحُهُ لِمَا أَوْرَدَهُ الْبُخَارِيُّ فِي إِلْيَاسَ عليه السلام وَفِيهِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ إِلْيَاسَ هُوَ إِدْرِيسُ، وَقَالَ الْحَافِظُ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى تَرْجَمَةِ الْبَابِ: وَكَانَ الْمُصَنِّفُ - أَيِ الْبُخَارِيُّ - رَجَحَ عِنْدَهُ كَوْنُ إِدْرِيسَ لَيْسَ مِنْ أَجْدَادِ نُوحٍ فَلِذَا ذَكَرَهُ بَعْدَهُ اهـ. وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ بَعْدَ إِلْيَاسَ.

ثُمَّ قَالَ فِي شَرْحِ حَدِيثِ أَنَسٍ مِنْ كِتَابِ الرِّقَاقِ - بَعْدَ ذِكْرِ الِاسْتِشْكَالِ بِآدَمَ وَشِيثَ وَإِدْرِيسَ - وَمُجْمَلُ الْأَجْوِبَةِ عَنِ الْإِشْكَالِ الْمَذْكُورِ أَنَّ الْأَوَّلِيَّةَ مُقَيَّدَةٌ بِقَوْلِهِمْ: " إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ " لِأَنَّ آدَمَ وَمَنْ ذُكِرَ مَعَهُ لَمْ يُرْسِلُوا إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ. ثُمَّ ذَكَرَ الْإِشْكَالَ بِحَدِيثِ جَابِرٍ وَالْجَوَابَ عَنْهُ بِأَنَّ قَوْمَ نُوحٍ كَانُوا هُمْ أَهْلَ الْأَرْضِ، وَبَعْثَةُ نَبِيِّنَا لِقَوْمِهِ وَلِغَيْرِ قَوْمِهِ، ثُمَّ قَالَ: أَوِ الْأَوَّلِيَّةُ مُقَيَّدَةٌ بِكَوْنِهِ أَهْلَكَ قَوْمَهُ، أَوْ أَنَّ الثَّلَاثَةَ كَانُوا أَنْبِيَاءَ وَلَمْ يَكُونُوا رُسُلًا. وَإِلَى هَذَا جَنَحَ ابْنُ بَطَّالٍ فِي حَقِّ آدَمَ، وَتَعَقَّبَهُ عِيَاضٌ بِمَا صَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ فَإِنَّهُ كَالصَّرِيحِ فِي أَنَّهُ كَانَ نَبِيًّا مُرْسَلًا، وَفِيهِ التَّصْرِيحُ بِإِنْزَالِ الصُّحُفِ عَلَى شِيثَ وَهُوَ مِنْ عَلَامَاتِ الْإِرْسَالِ وَأَمَّا إِدْرِيسُ فَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ إِلَى أَنَّهُ كَانَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ وَهُوَ إِلْيَاسُ وَقَدْ ذُكِرَ ذَلِكَ فِي أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ. وَمِنَ الْأَجْوِبَةِ أَنَّ رِسَالَةَ آدَمَ كَانَتْ إِلَى بَنِيهِ وَهُمْ مُوَحِّدُونَ لِيُعَلِّمَهُمْ شَرِيعَتَهُ، وَنُوحٌ كَانَتْ رِسَالَتُهُ إِلَى قَوْمٍ كُفَّارٍ يَدْعُوهُمْ إِلَى التَّوْحِيدِ اهـ.

وَظَاهِرٌ أَنَّ جَوَابَ ابْنِ بَطَّالٍ وَهُوَ أَحَدُ شُرَّاحِ الْبُخَارِيِّ مِنْ فُقَهَاءِ الْمَالِكِيَّةِ الْأَنْدَلُسِيِّينَ أَبْعَدُ

ص: 503

الْأَجْوِبَةِ الْمَذْكُورَةِ عَنِ التَّكَلُّفِ، وَأَوَّلُهَا بَاطِلٌ لِأَنَّ أَوْلَادَ آدَمَ وَأَحْفَادَهُ كَانُوا أَهْلَ الْأَرْضِ لَا السَّمَاءِ، وَبَاقِيهَا لَا يُزِيلُ الْإِشْكَالَ. وَتَعَقُّبُ الْقَاضِي عِيَاضٍ لَهُ بِحَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ عَجِيبٌ مِنْهُ، وَأَعْجَبُ مِنْهُ سُكُوتُ الْحَافِظِ عَلَيْهِ، فَالْحَدِيثُ اخْتَلَفَ

الْحُفَّاظُ فِيهِ فَجَزَمَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ بِأَنَّهُ مَوْضُوعٌ، وَحَقَّقَ السَّيُوطِيُّ فِي مُخْتَصَرِ الْمَوْضُوعَاتِ أَنَّهُ ضَعِيفٌ وَذَكَرَ ذَلِكَ فِي الدُّرِّ الْمَنْثُورِ، وَاتَّفَقُوا عَلَى انْتِقَادِ ابْنِ حِبَّانَ لِذِكْرِهِ إِيَّاهُ فِي صَحِيحِهِ كَمَا صَرَّحَ بِذَلِكَ الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ، وَقَدْ قَدَّمَ الْقَسْطَلَانِيُّ جَوَابَ ابْنِ بَطَّالٍ غَيْرَ مَعْزُوٍّ إِلَيْهِ عَلَى غَيْرِهِ مِمَّا ذَكَرَ مِنْ تِلْكَ الْأَجْوِبَةِ فِي شَرْحِهِ لِحَدِيثِ أَنَسٍ مِنْ كِتَابِ الرِّقَاقِ فِي الْبُخَارِيِّ فَقَالَ عِنْدَ قَوْلِ آدَمَ " ائْتُوا نُوحًا أَوَّلَ رَسُولٍ بَعَثَهُ اللهُ ": أَيْ آدَمُ وَشِيثُ وَإِدْرِيسُ أَوِ الثَّلَاثَةُ كَانُوا أَنْبِيَاءَ وَلَمْ يَكُونُوا رُسُلًا. إِلَخْ. فَالْقَسْطَلَانِيُّ يَعُدُّ الْقَوْلَ بِعَدَمِ رِسَالَةِ آدَمَ جَوَابًا مَقْبُولًا.

وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ حَدِيثِ أَنَسٍ مِنْ صَحِيحِ مُسْلِمٍ: قَالَ الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ اللهِ الْمَازِرِيُّ قَدْ ذَكَرَ الْمُؤَرِّخُونَ أَنَّ إِدْرِيسَ جَدُّ نُوحٍ عليهما السلام، فَإِنْ قَامَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ إِدْرِيسَ أُرْسِلَ أَيْضًا لَمْ يَصِحَّ قَوْلُ النَّسَّابِينَ أَنَّهُ قَبْلَ نُوحٍ لِإِخْبَارِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَنْ آدَمَ أَنَّ نُوحًا أَوَّلُ رَسُولٍ بُعِثَ، وَإِنْ لَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ جَازَ مَا قَالُوهُ وَصَحَّ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى أَنَّ إِدْرِيسَ كَانَ نَبِيًّا غَيْرَ مُرْسَلٍ. قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: وَقَدْ قِيلَ إِنَّ إِدْرِيسَ هُوَ إِلْيَاسُ وَأَنَّهُ كَانَ نَبِيًّا فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمَا جَاءَ فِي بَعْضِ الْأَخْبَارِ مَعَ يُوشَعَ بْنِ نُونَ فَإِنْ كَانَ هَكَذَا سَقَطَ الِاعْتِرَاضُ، قَالَ الْقَاضِي: وَبِمِثْلِ هَذَا يَسْقُطُ الِاعْتِرَاضُ بِآدَمَ وَشِيثَ وَرِسَالَتِهِمَا إِلَى مَنْ مَعَهُمَا وَإِنْ كَانَا رَسُولَيْنِ فَإِنَّ آدَمَ إِنَّمَا أَرْسَلَ لِبَنِيهِ وَلَمْ يَكُونُوا كُفَّارًا، بَلْ أَمَرَ بِتَعْلِيمِهِمُ الْإِيمَانَ وَطَاعَةَ اللهِ تَعَالَى، وَكَذَلِكَ خَلَّفَهُ شِيثُ بَعْدَهُ فِيهِمْ، بِخِلَافِ رِسَالَةِ نُوحٍ إِلَى كُفَّارِ أَهْلِ الْأَرْضِ. قَالَ الْقَاضِي: وَقَدْ رَأَيْتُ أَبَا الْحَسَنِ ابْنَ بَطَّالٍ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ آدَمَ لَيْسَ بِرَسُولٍ لِيَسْلَمَ مِنْ هَذَا الِاعْتِرَاضِ، وَحَدِيثُ أَبِي ذَرٍّ الطَّوِيلُ يَنُصُّ عَلَى أَنَّ آدَمَ وَإِدْرِيسَ رَسُولَانِ. هَذَا آخَرُ كَلَامِ الْقَاضِي وَاللهُ أَعْلَمُ اهـ.

فَجُمْلَةُ هَذِهِ النُّقُولِ عَنْ كِبَارِ الْمُفَسِّرِينَ وَالْمُحَدِّثِينَ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ وَالْفُقَهَاءِ أَنَّ آدَمَ مُخْتَلَفٌ فِي رِسَالَتِهِ، وَأَنَّ إِدْرِيسَ مُخْتَلَفٌ مِنْ رِسَالَتِهِ وَفِي كَوْنِهِ هُوَ إِلْيَاسَ الْمَذْكُورَ فِي آيَاتِ سُورَةِ الْأَنْعَامِ الَّتِي نُفَسِّرُهَا أَوْ غَيْرَهَ. فَيَكُونُ عَدَدُ الرُّسُلِ الْمُجْمِعِ عَلَى وُجُوبِ الْإِيمَانِ بِرِسَالَتِهِمْ لِأَنَّ نَصَّ الْقُرْآنِ فِيهَا قَطْعِيٌّ - ثَلَاثَةً وَعِشْرِينَ فَقَطْ، وَأَمَّا الْأَحَادِيثُ فَلَيْسَ فِيهَا نَصٌّ قَطْعِيُّ الرِّوَايَةِ وَالدَّلَالَةِ عَلَى رِسَالَةِ آدَمَ، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ حَدِيثَ أَبِي ذَرٍّ الَّذِي نَصَّ عَلَى ذَلِكَ فِي سِيَاقِ عَدَدِ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ لَا يُحْتَجُّ بِهِ فِي الْأَحْكَامِ الْعَمَلِيَّةِ

الَّتِي يُكْتَفَى فِيهَا بِالدَّلِيلِ الظَّنِّيِّ بَلْهَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ الِاعْتِقَادِيَّةُ الَّتِي يُطْلَبُ فِيهَا الْيَقِينُ، لِأَنَّ أَهْوَنَ مَا قِيلَ فِيهِ: إِنَّهُ ضَعِيفٌ، وَقِيلَ: إِنَّهُ مَوْضُوعٌ. وَلَوْ وَجَدُوا حَدِيثًا صَحِيحًا أَوْ حَسَنًا فِي إِثْبَاتِ رِسَالَةِ آدَمَ لَمَا لَجَأُوا إِلَى ذِكْرِهِ.

وَأَمَّا مَسْأَلَةُ نُبُوَّتِهِ وَهُوَ كَوْنُهُ مُوحًى إِلَيْهِ مِنَ اللهِ تَعَالَى فَفِيهَا حَدِيثٌ آحَادِيٌّ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ إِنَّ رَجُلًا قَالَ يَا رَسُولَ اللهِ: أَنَبِيَّا كَانَ آدَمُ؟ قَالَ " نَعَمْ مُعَلَّمٌ مُكَلَّمٌ "

ص: 504

وَقَدْ فُسِّرَ الْمُعَلَّمُ فِي كُتُبِ غَرِيبِ الْحَدِيثِ بِالْمُلْهَمِ لِلْخَيْرِ وَالصَّوَابِ، وَرُوِيَ " نَبِيٌّ مُكَلَّمٌ " وَالتَّكْلِيمُ أَنْوَاعٌ أُصُولُهَا ثَلَاثَةٌ بَيَّنَهَا اللهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ:(وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِي بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ) 42: 51 وَمِنْهَا وَحْيُ الرِّسَالَةِ وَمَا دُونَهُ، وَمِنْهَا الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ كَمَا وَرَدَ فِي التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ، وَأَمَّا حُجَّتُهُ مِنَ الْقُرْآنِ فَيُمْكِنُ أَنْ تُؤْخَذَ مِنْ قِصَّةِ خَلْقِهِ وَمَعْصِيَتِهِ وَتَوْبَتِهِ، إِذْ فِيهَا أَنَّ اللهَ عَلَّمَهُ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا، وَأَنَّهُ تَلَقَّى مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَاهُ، وَلَكِنَّ دَلَالَةَ مَا ذُكِرَ عَلَى نُبُوَّتِهِ غَيْرُ قَطْعِيَّةٍ فَإِنَّ الْجُمْهُورَ لَا يَجْعَلُونَ كُلَّ وَحْيٍ نُبُوَّةً، لَا مَا كَانَ بِخِطَابِ الْمَلَكِ وَلَا مَا كَانَ بِالْإِبْهَامِ وَالنَّفْثِ فِي الرَّوْعِ ; وَلِذَلِكَ لَا يَقُولُونَ بِنُبُوَّةِ مَرْيَمَ وَأُمِّ مُوسَى، وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ قَالَ بِنُبُوَّتِهِمَا. ثُمَّ إِنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ خِطَابُ آدَمَ فِي قِصَّةِ خَلْقِهِ مِنْ خِطَابِ التَّكْوِينِ لَا التَّكْلِيفِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:(ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ) 41: 11 وَقَدْ قَالَ الشَّاذِلِيُّ مِنْ كِبَارِ الْعُلَمَاءِ وَالصُّوفِيَّةِ " وَهَبْ لَنَا التَّلَقِّي مِنْكَ كَتَلَقِّي آدَمَ مِنْكَ الْكَلِمَاتِ لِيَكُونَ قُدْوَةً لِوَلَدِهِ فِي التَّوْبَةِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ " وَلَوْ كَانَ هَذَا التَّلَقِّي نَصًّا قَطْعِيًّا فِي نُبُوَّتِهِ لَمَا طَلَبَهُ هَذَا الْعَالَمُ الْعَارِفُ بِاللُّغَةِ وَأَسَالِيبِهَا.

وَقَدِ ادَّعَى الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ أَنَّ دَلِيلَ رِسَالَتِهِ أَنَّنَا نَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ أَنَّهُ كَانَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْعِبَادَةِ، وَأَنَّ أَوْلَادَهُ أَخَذُوا ذَلِكَ عَنْهُ، فَعَلَى هَذَا فَهُوَ رَسُولٌ إِلَيْهِمْ فَيَكُونُ هُوَ أَوَّلَ رَسُولٍ، وَقَدْ يُقَالُ إِنَّ أَخْذَ أَوْلَادِهِ عَنْهُ لَا يَقْتَضِي عَقْلًا أَنْ يَكُونَ اللهُ قَدْ بَعَثَهُ رَسُولًا إِلَيْهِمْ يُبَلِّغُهُمْ عَنْهُ وُجُوبَ الْإِيمَانِ بِهَذِهِ الرِّسَالَةِ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مِنَ الْإِنْذَارِ وَالتَّبْشِيرِ، حَتَّى يَكُونَ ذَلِكَ مُعَارِضًا لِحَدِيثِ الشَّفَاعَةِ، إِذْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَدْ رَبَّاهُمْ مِنَ الصِّغَرِ عَلَى مَا هَدَاهُ اللهُ إِلَيْهِ مِنَ الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ كَمَا تَقَدَّمَ عَنْ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ، وَنَزِيدُ عَلَيْهِ أَنَّ فِي الْقُرْآنِ نَصًّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يُعَلِّمُهُمُ الْعِبَادَةَ وَأَحْكَامَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ وَمَا يَتَرَتَّبُ

عَلَيْهِمَا مِنَ الْجَزَاءِ، وَهُوَ نَبَأُ ابْنَيْ آدَمَ الْمُفَصَّلُ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ فَمِنَ الْعِبَادَةِ فِيهِ تَقْرِيبُ الْقُرْبَانِ، وَمِنْ خَبَرِ الْجَزَاءِ عَلَى الْأَعْمَالِ قَوْلُ الْمُعْتَدَى عَلَيْهِ لِلْمُعْتَدِي:(إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ) 5: 29 وَمِنَ الْعَجِيبِ أَنْ يَغْفُلَ أُولَئِكَ الْحُفَّاظُ عَنْ هَذِهِ الْآيَاتِ، وَيَكْتَفُوا مِنَ النَّقْلِ بِحَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ الْمَوْضُوعِ أَوِ الضَّعِيفِ وَبِدَعْوَى الضَّرُورَةِ الْعَقْلِيَّةِ الَّتِي ادَّعَاهَا الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ، هَذَا إِنْ كَانُوا يَفْهَمُونَ مِنْهَا أَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى رِسَالَةِ آدَمَ دَلَالَةً قَطْعِيَّةً، وَإِذَا كَانُوا لَا يَفْهَمُونَ ذَلِكَ فَبِمَ يَسْتَدِلُّونَ؟ .

وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ أَنَّ الثَّابِتَ قَطْعًا فِي الْمَسْأَلَةِ هُوَ أَنَّ آدَمَ عليه السلام كَانَ عَلَى هُدًى مِنَ اللهِ يَعْمَلُ بِهِ وَيُرَبِّي عَلَيْهِ أَوْلَادَهُ، وَأَنَّهُ مِنْهُ عِبَادَاتٌ وَقُرُبَاتٌ يُرَغِّبُ فِيهَا مُبَشِّرًا بِأَنَّ فَاعِلَهَا يُثَابُ عَلَيْهَا، وَمُحَرَّمَاتٌ يَنْهَى عَنْهَا مُنْذِرًا بِأَنَّ فَاعِلَهَا يُعَاقَبُ عَلَيْهَا، وَهَذَا الْهِدَايَةُ هِيَ مِنْ جِنْسِ هِدَايَةِ اللهِ لِلنَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ الَّتِي بَلَّغُوهَا أَقْوَامَهُمْ، وَلَا نَدْرِي كَيْفَ هَدَى اللهُ تَعَالَى آدَمَ إِلَيْهَا فَإِنَّ طُرُقَ

ص: 505

الْهِدَايَةِ وَالتَّبْلِيغِ الْإِلَهِيِّ مُتَعَدِّدَةٌ. وَكَانَ الظَّاهِرُ الْمُتَبَادَرُ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ بِوَحْيِ الرِّسَالَةِ لَوْلَا مَا عَارَضَهُ مِنْ حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ وَآيَةِ (إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ) وَمَا يُؤَيِّدُهَا مِمَّا تَقَدَّمَ، وَمِنِ احْتِمَالِ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ هِدَايَةِ الْفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ الَّتِي فَطَرَ آدَمَ عَلَيْهَا وَنَشَأَتْ عَلَيْهَا ذُرِّيَّتُهُ إِلَى زَمَنِ نُوحٍ، إِذِ اخْتَلَفَ النَّاسُ وَحَدَثَتْ فِيهِمُ الْوَثَنِيَّةُ فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ، وَجَعَلَ مِنْهُمُ الرُّسُلَ الْمُبَلِّغِينَ عَنْهُ بِإِذْنِهِ الْمُؤَيَّدِينَ مِنْهُ بِالْآيَاتِ لِإِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَى الْكَافِرِينَ. وَذَلِكَ قَوْلُهُ عز وجل:(كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ) 2: 213 الْآيَةَ. فَقَدْ صَحَّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه أَنَّهُ فَسَّرَ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا عَلَى الْإِسْلَامِ، وَفِي رِوَايَةٍ مُفَصَّلَةٍ عَنْهُ قَالَ: كَانَ بَيْنَ آدَمَ وَنُوحٍ عَشَرَةُ قُرُونٍ كُلُّهُمْ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْحَقِّ فَاخْتَلَفُوا فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ، قَالَ الرُّوَاةُ وَكَذَلِكَ هِيَ فِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللهِ (أَيِ ابْنِ مَسْعُودٍ)" كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا " إِلَخْ. وَرَوَوْا عَنْ أُبَيٍّ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَؤُهَا كَذَلِكَ أَيْضًا، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ فِي الْمَعْنَى آيَاتٌ أُخْرَى. وَرَوَوْا عَنْ قَتَادَةَ أَنَّهُ قَالَ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّهُ كَانَ بَيْنَ آدَمَ وَنُوحٍ عَشَرَةُ قُرُونٍ كُلُّهُمْ عَلَى الْهُدَى وَعَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْحَقِّ ثُمَّ اخْتَلَفُوا بَعْدَ ذَلِكَ فَبَعَثَ اللهُ نُوحًا وَكَانَ أَوَّلَ رَسُولٍ أَرْسَلَهُ اللهُ إِلَى الْأَرْضِ، وَبُعِثَ عِنْدَ الِاخْتِلَافِ مِنَ النَّاسِ فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ؟ رُسُلَهُ وَأَنْزَلَ كِتَابَهُ يَحْتَجُّ بِهِ عَلَى خَلْقِهِ اهـ. مِنَ الدَّرِّ الْمَنْثُورِ، وَمِنْهُ يَعْلَمُ الْمُخَرِّجُونَ

لِهَذِهِ الرِّوَيَاتِ. فَهَذَا قَتَادَةُ مِنْ كِبَارِ عُلَمَاءِ التَّابِعِينَ يَقُولُ بِأَنَّ نُوحًا أَوَّلُ نَبِيٍّ مُرْسَلٍ. وَيُؤَيِّدُ الرِّوَايَةَ عَنْهُ مَا تَقَدَّمَ مَا وَرَدَ مِنَ التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا) 30: 30 الْآيَةَ - كَحَدِيثِ الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا النَّاطِقِ بِأَنَّ كُلَّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ. وَفِي بَعْضِ رِوَايَاتِهِ يُولَدُ عَلَى فِطْرَةِ الْإِسْلَامِ، وَفِي بَعْضِهَا عَلَى الْمِلَّةِ. وَمِنْهَا حَدِيثُ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ الْمُجَاشِعِيِّ الْمَرْفُوعِ عِنْدَ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ الَّذِي ذَكَرَ فِيهِ آدَمَ فَقَالَ صلى الله عليه وسلم:" إِنَّ اللهَ خَلَقَ آدَمَ وَبَنِيهِ حُنَفَاءَ مُسْلِمِينَ وَأَعْطَاهُمُ الْمَالَ حَلَالًا لَا حَرَامَ فِيهِ فَجَعَلُوا مَا أَعْطَاهُمُ اللهُ حَرَامًا وَحَلَالًا " وَفِي مَعْنَاهُ آثَارٌ. وَالْمُرَادُ مِنْ ذَلِكَ فِي مَسْأَلَتِنَا أَنَّ اللهَ تَعَالَى فَطَرَ آدَمَ عَلَى مَعْرِفَتِهِ وَتَوْحِيدِهِ وَشُكْرِهِ وَعِبَادَتِهِ، وَزَادَهُ هُدَى بِمَا كَانَ يُلْهِمُهُ إِيَّاهُ مِنَ الْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ، وَبِمَا يَصِلُ إِلَيْهِ اجْتِهَادٌ كَمَا قِيلَ فِي عِبَادَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الْغَارِ قَبْلَ الْبَعْثِ. وَقَدْ يُزَادُ عَلَى ذَلِكَ إِرْشَادُ الْمَلَائِكَةِ لَهُ وَلِأَوْلَادِهِ، فَقَدْ كَانُوا بِطَهَارَةِ فِطْرَتِهِمْ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ كَمَا وَرَدَ فِي تَعْلِيمِهِمْ إِيَّاهُمْ تَجْهِيزَ أَبِيهِمْ وَدَفْنِهِ حِينَ تُوُفِّيَ، وَلَسْنَا بِصَدَدِ تَمْحِيصِ أَمْثَالِ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ، وَلَكِنَّ

ص: 506

مَجْمُوعَهَا يُؤَيِّدُ الْحَدَثَ الْمُصَرِّحَ بِنُبُوَّةِ آدَمَ، وَإِلَّا كَانَ مِنَ الْهِدَايَةِ وَالتَّعْلِيمِ الْإِلَهِيِّ مَا هُوَ أَعْلَى مِنَ النُّبُوَّةِ أَوْ مَا هُوَ مُسَاوٍ لَهَا، فَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ لَمْ يُؤْتَ مِنْ ذَلِكَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ آدَمُ. وَالْأَنْبِيَاءُ أَفْضَلُ الْبَشَرِ بِالْإِجْمَاعِ.

فَبِهَذَا التَّفْصِيلِ يُعْلَمُ وَجْهُ مَا اشْتُهِرَ عَلَى أَلْسِنَةِ الْعُلَمَاءِ مِنَ الْقَوْلِ بِنُبُوَّةِ آدَمَ وَرِسَالَتِهِ مَعَ عَدَمِ وُجُودِ النَّصِّ الْقَاطِعِ، بَلْ مَعَ وُجُودِ النَّصِّ الْمُعَارِضِ، فَإِنَّ هِدَايَتَهُ لِذَرِّيَّتِهِ مِنْ نَوْعِ هِدَايَةِ الرُّسُلِ لِلْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَتْبَاعِهِمْ كَمَا بَيَّنَّاهُ آنِفًا مِنْ مَعْنَى الْآيَاتِ فِيهِ ; وَلِذَلِكَ جَعَلَهُ الْحَافِظُ مِنْ قَبِيلِ الضَّرُورِيِّ وَلَكِنَّهُ لَمْ يُبَيِّنْ وَجْهَ الضَّرُورَةِ، وَلَمْ يَهْتَدِ إِلَى الْجَمْعِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُعَارِضِ لَهُ. وَالَّذِي يَتَّجِهُ فِي الْجَمْعِ بِغَيْرِ تَكَلُّفِ هُوَ التَّفْرِقَةُ بَيْنَ هِدَايَةِ مَنْ وُلِدُوا

عَلَى الْفِطْرَةِ وَبَيْنَ بَعْثَةِ نُوحٍ وَمَنْ بَعْدَهُ مِنَ الرُّسُلِ إِلَى مَنْ فَسَدَتْ فِطْرَتُهُمْ وَاخْتَلَفُوا فِي الدِّينِ الْفِطْرِيِّ وَفِي الْكِتَابِ الْإِلَهِيِّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَالضَّالِّينَ مِنْ أَتْبَاعِ نَبِيٍّ سَابِقٍ فَأَعْرَضُوا عَمَّا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ، بِأَنْ تُجْعَلَ هَذِهِ الْهِدَايَةُ الْأَخِيرَةُ هِيَ الرِّسَالَةُ الشَّرْعِيَّةُ الَّتِي يُسَمَّى مَنْ جَاءُوا بِهَا رُسُلًا دُونَ الْأُولَى، وَبِهَذَا يُجْمَعُ بَيْنَ عِدَّةِ أَجْوِبَةٍ مِمَّا نُقِلُّ عَنِ الْعُلَمَاءِ فِي رَفْعِ التَّعَارُضِ بِتَوْضِيحٍ قَلِيلٍ كَقَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّمَا كَانَتْ رِسَالَةُ آدَمَ إِلَى بَنِيهِ الْمُؤْمِنِينَ، وَرِسَالَةِ نُوحٍ وَمَنْ بَعْدَهُ إِلَى الْكَافِرِينَ، وَمَنْ قَالَ: إِنَّمَا كَانَتْ رِسَالَةُ آدَمَ إِلَى بَنِيهِ مِنْ قَبِيلِ تَرْبِيَةِ الْوَالِدِ لِأَوْلَادِهِ. وَفِيهِمَا أَنَّ تَسْمِيَتَهَا رِسَالَةً شَرْعِيَّةً بِالْمَعْنَى الْمُرَادِ مِنَ الْآيَاتِ هُوَ الَّذِي يُحَقِّقُ التَّعَارُضَ فَكَيْفَ يُجْعَلُ دَافِعًا لَهُ؟ وَأَمَّا إِذَا أَثْبَتْنَا بِالْمَعْنَى الْمُرَادِ مِنَ الْآيَاتِ هُوَ الَّذِي يُحَقِّقُ التَّعَارُضَ فَكَيْفَ يُجْعَلُ دَافِعًا لَهُ؟ وَأَمَّا إِذَا أَثْبَتْنَا مَا ذُكِرَ لِآدَمَ وَلَمْ نُسَمِّهِ رِسَالَةً بِالْمَعْنَى الشَّرْعِيِّ الْمَذْكُورِ فَإِنَّ التَّعَارُضَ يَنْدَفِعُ بِغَيْرِ تَكَلُّفٍ كَمَا قُلْنَا وَتَصِحُّ الْأَقْوَالُ كُلُّهَا وَيَكُونُ الْخِلَافُ أَشْبَهَ بِاللَّفْظِيِّ، فَهُوَ رَسُولٌ بِالْمَعْنَى الْمَشْهُورِ عِنْدَ الْمُتَكَلِّمِينَ دُونَ الْمَعْنَى الْمُتَبَادِرِ مِنَ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ.

ثُمَّ خَتَمَ اللهُ تَعَالَى هَذَا السِّيَاقَ بِقَوْلِهِ لِرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم (لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا) أَيْ قُلْ أَيُّهَا الرَّسُولُ لِمَنْ بُعِثْتَ إِلَيْهِمْ أَوَّلًا: لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَى هَذَا الْقُرْآنِ الَّذِي أُمِرْتُ أَنْ أَدْعُوَكُمْ إِلَيْهِ وَأُذَكِّرَكُمْ بِهِ أَوْ عَلَى التَّبْلِيغِ (وَكُلَاهُمَا) مَفْهُومٌ مِنَ السِّيَاقِ وَإِنْ لَمْ يُذْكُرَا، وَالْمُخْتَارُ الْأَوَّلُ، أَجْرًا مَنْ مَالَ وَلَا غَيْرِهِ مِنَ الْمَنَافِعِ، أَيْ كَمَا أَنَّ جَمِيعَ مَنْ قَبْلِي مِنَ الرُّسُلِ لَمْ يَسْأَلُوا أَقْوَامَهُمْ أَجْرًا عَلَى التَّبْلِيغِ وَالْهُدَى - وَذَلِكَ مُصَرَّحٌ بِهِ فِي قِصَصِهِمْ مِنْ سُورَةِ هُودٍ وَسُورَةِ الشُّعَرَاءِ وَغَيْرِهِمَا، وَقَدْ قِيلَ إِنَّ هَذَا مِمَّا أَمَرَ أَنْ يُقْتَدَى بِهِمْ فِيهِ، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ مَا أَمَرَهُ اللهُ تَعَالَى بِهِ اسْتِقْلَالًا لَا يَدْخُلُ فِيمَا أُمِرَ بِفِعْلِهِ اقْتِدَاءً كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ، وَقَدْ تَكَرَّرَ هَذَا الْأَمْرُ لَهُ صلى الله عليه وسلم فِي عِدَّةِ سُوَرٍ، وَهُوَ عَلَى عُمُومِهِ، وَالِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:(قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) 42: 23 مُنْقَطِعٌ وَمَعْنَاهُ عَلَى مَا رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ وَالتِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُمْ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: إِلَّا أَنْ تَصِلُوا مَا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ مِنَ الْقَرَابَةِ، وَيُوَضِّحُهُ قَوْلُهُ فِي رِوَايَةٍ لِابْنِ جَرِيرٍ وَابْنِ الْمُنْذِرِ وَابْنِ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيِّ عَنْهُ قَالَ: كَانَ لِرَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللهُ

ص: 507

عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَرَابَةٌ مِنْ جَمِيعِ قُرَيْشٍ، فَلَمَّا كَذَّبُوهُ وَأَبَوْا أَنْ يُبَايِعُوهُ قَالَ " يَا قَوْمِ إِذَا أَبَيْتُمْ أَنْ تُبَايِعُونِي فَاحْفَظُوا قَرَابَتِي فِيكُمْ وَلَا يَكُونُ غَيْرُكُمْ مِنَ الْعَرَبِ أَوْلَى بِحِفْظِي وَنُصْرَتِي مِنْكُمْ " وِفِي هَذَا الْمَعْنَى رِوَايَاتٌ أُخْرَى، وَالْمَعْنَى: إِنِّي لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَى مَا جِئْتُكُمْ

بِهِ مِنْ سَعَادَةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ جُعْلًا مِنْكُمْ، وَلَكِنْ مَوَدَّةَ الْقَرَابَةِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ مِمَّا يَجِبُ أَنْ يُحْفَظَ، وَهِيَ دُونُ مَا جَرَيْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ عَصَبِيَّةِ النَّسَبِ وَلَوْ بِالْبَاطِلِ، فَإِنَّ مِنْ تِلْكَ الْعَصَبِيَّةِ أَنْ يَحْمَى الْقَرِيبُ قَرَابَتَهُ وَأَهْلَ نَسَبِهِ وَيُقَاتِلَ مَنْ عَادَاهُمْ، وَإِنِّي أَكْتَفِي مِنْكُمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَقَلُّهَا أَنْ لَا تُعَادُونِي وَلَا تُؤْذُونِي، وَأَعْلَاهَا أَنْ تَمْنَعُونِي وَتَحْمُونِي مِمَّنْ يُؤْذِينِي. وَلَيْسَ هَذَا مِنَ الْأَجْرِ عَلَى التَّبْلِيغِ فِي شَيْءٍ، فَإِنَّمَا يُعْطَى الْأَجْرُ عَلَى الشَّيْءِ مَنْ يَقْبَلُهُ وَيَنْتَفِعُ بِهِ فَيُكَافِئُ صَاحِبَهُ بِمَنْفَعَةٍ تُوَازِيهِ أَوْ لَا تُوَازِيهِ، وَقَدْ صَرَّحَ ابْنُ عَبَّاسٍ بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَقَلِّ الْمَوَدَّةِ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ مِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ، وَقِيلَ الْآيَةُ غَيْرُ ذَلِكَ كَقَوْلِ بَعْضِهِمْ إِلَّا أَنْ تَوَدُّوا الْأَقَارِبَ وَتَصِلُوا الْأَرْحَامَ بَيْنَكُمْ، وَقَوْلِ بَعْضِهِمْ: إِنَّهَا فِي الْأَنْصَارِ. وَقَوْلِ آخَرِينَ: إِنَّهَا فِي آلِ الْبَيْتِ النَّبَوِيِّ تُوجِبُ مَوَدَّتَهُمْ وَمُوَالَاتَهُمْ وَلَا شَكَّ فِي أَنَّ حُبَّهُمْ وَوُدَّهُمْ وَوَلَاءَهُمْ مِنَ الْإِيمَانِ، وَأَنَّ بُغْضَهُمْ مِنَ الْكُفْرِ أَوِ النِّفَاقِ، وَلَكِنَّ الرَّسُولَ لَمْ يَطْلُبْ مِنَ الْأُمَّةِ بِأَمْرِ اللهِ أَنْ تَجْعَلَ هَذَا أَجْرًا لَهُ عَلَى تَبْلِيغِ الدَّعْوَةِ وَالْقِيَامِ بِأَعْبَاءِ الرِّسَالَةِ، بَلْ أَجْرُهُ فِي ذَلِكَ عَلَى اللهِ تَعَالَى وَحْدَهُ كَغَيْرِهِ مِنْ إِخْوَانِهِ الرُّسُلِ كَمَا هُوَ مُصَرَّحٌ فِي آيَاتٍ أُخْرَى، وَسَيَأْتِي تَفْصِيلُ ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى فِي تَفْسِيرِ الشُّعَرَاءِ وَغَيْرِهَا.

(إِنَّ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ) الضَّمِيرُ رَاجِعٌ إِلَى الْقُرْآنِ كَمَا رَجَعْنَا، أَيْ مَا هُوَ إِلَّا تَذْكِيرٌ وَمَوْعِظَةٌ لِإِرْشَادِ الْعَالَمِينَ كَافَّةً، لَا لَكُمْ خَاصَّةً، وَهُوَ نَصٌّ فِي عُمُومِ الْبَعْثَةِ.

(وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ) .

ص: 508

خَتَمَ اللهُ سُبْحَانَهُ سِيَاقَ قِصَّةِ إِبْرَاهِيمَ مَعَ قَوْمِهِ بِذِكْرِ هِدَايَةِ بَعْضِ الرُّسُلِ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ وَذُرِّيَّتِهِ، تَمْهِيدًا بِذَلِكَ إِلَى بَيَانِ كَوْنِ رِسَالَةِ خَاتَمِهِمْ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وآله وسلم مِنْ جِنْسِ رِسَالَتِهِمْ، وَكَوْنِ هِدَايَتِهِ مُتَمِّمَةً وَمُكَمِّلَةً لِهِدَايَتِهِمْ، وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَسْأَلُ عَلَى تَبْلِيغِ هَذَا الْقُرْآنِ أَجْرًا، لَا يَرْجُو مِنْ غَيْرِ اللهِ عَلَيْهِ فَائِدَةً وَلَا نَفْعًا، وَقَفَّى عَلَى ذَلِكَ بِالرَّدِّ عَلَى مُنْكِرِي الْوَحْيِ، وَبَيَانِ أَنَّهُمْ مَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ الْقَدْرِ، وَتَفْنِيدِ مَا عَرَضَ لَهُمْ مِنَ الشُّبْهَةِ، وَإِقَامَةِ الْحُجَّةِ الْوَاضِحَةِ الْمُحِجَّةِ، قَالَ:

(وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ)، قَدْرُ الشَّيْءِ - بِسُكُونِ الدَّالِ وَفَتْحِهَا - وَمِقْدَارُهُ: مِقْيَاسُهُ الَّذِي يُعْرَفُ بِهِ وَمَبْلَغُهُ، يُقَالُ قَدَرَهُ يَقْدُرُهُ وَقَدَّرَهُ إِذَا قَاسَهُ، وَقَادَرْتُ الرَّجُلَ مُقَادَرَةً قَايَسْتُهُ وَفَعَلْتُهُ مِثْلَ فِعْلِهِ، وَالْقَدَرُ وَالْقُدْرَةُ وَالْمِقْدَارُ الْقُوَّةُ. وَمِنْهُ الْقَدْرُ بِمَعْنَى الْغِنَى وَالْيَسَارِ - وَكَذَا الشَّرَفُ - لِأَنَّ كُلَّهُ قُوَّةٌ كَمَا قَالَ صَاحِبُ اللِّسَانِ، وَكُلُّ مَا تَقَدَّمَ مُخْتَصَرٌ مِنْهُ. (قَالَ) وَقَوْلُهُ تَعَالَى:(وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) أَيْ مَا عَظَّمُوهُ حَقَّ تَعْظِيمِهِ. وَقَالَ اللَّيْثُ: مَا وَصَفُوهُ حَقَّ صِفَتِهِ، وَالْقَدَرُ وَالْقَدْرُ هُنَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ انْتَهَى. وَعَزَى الْأَوَّلَ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ وَرُوِيَ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّ الْقَدْرَ هُنَا بِمَعْنَى الْقُدْرَةِ، وَاحِدٌ انْتَهَى. قَالَ: إِنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي الْكُفَّارِ الَّذِينَ لَمْ يُؤْمِنُوا بِقُدْرَةِ اللهِ عَلَيْهِمْ، فَمَنْ آمَنَ أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فَقَدْ قَدَرَ اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ. وَعَنِ الْأَخْفَشِ أَنَّ الْمَعْنَى مَا عَرَفُوهُ حَقَّ مَعْرِفَتِهِ. وَعَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ: مَا وَصَفُوهُ حَقَّ صِفَتِهِ. وَتَفْسِيرُهُ بِالْمَعْرِفَةِ أَقْوَى، لِأَنَّهُ بِالْمَعْنَى الِاشْتِقَاقِيِّ أَلْصَقُ، وَتَعَلُّقُ الظَّرْفِ " إِذْ قَالُوا " بِفِعْلِهِ أَوْ مَعْنَى نَفْيِهِ أَظْهَرُ، سَوَاءٌ تَضَمَّنَ مَعْنَى الْعِلَّةِ أَمْ لَمْ يَتَضَمَّنْ، وَالْعِبَارَةُ مُحْتَمِلَةُ الْأَمْرَيْنِ، فَمُنْكِرُو الْوَحْيِ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِرُسُلِ اللهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَفْرِّقُوا بَيْنَ اللهِ وَرُسُلِهِ، مَا عَرَفُوا اللهَ حَقَّ مَعْرِفَتِهِ، وَلَا عَظَّمُوهُ حَقَّ تَعْظِيمِهِ وَلَا وَصَفُوهُ حَقَّ صِفَتِهِ، وَلَا آمَنُوا بِهَذَا النَّوْعِ مِنْ قُدْرَتِهِ، وَهُوَ إِفَاضَةُ مَا شَاءَ مِنْ عِلْمِهِ بِمَا يَصْلُحُ بِهِ أَمْرُ النَّاسِ مِنَ الْهُدَى وَالشَّرْعِ عَلَى مَنْ شَاءَ مِنَ الْبَشَرِ بِوَاسِطَةِ الْمَلَائِكَةِ، أَوْ بِتَكْلِيمِهِ إِيَّاهُمْ بِدُونِ وَاسِطَةٍ، أَوْ قُدْرَتِهِ عَلَى مَا يُتْبِعُ الرِّسَالَةَ مِنْ تَأْيِيدِ الرُّسُلِ بِالْآيَاتِ، وَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ يَكُونُ تَفْسِيرُ الْقَدْرِ بِالْقُدْرَةِ أَظَهَرُ، وَمَنْ يُجِيزُ اسْتِعْمَالَ الْمُشْتَرَكِ فِي كُلِّ مَعَانِيهِ وَالْجَمْعِ بَيْنَ حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ مَعَ أَمْنِ

اللَّبْسِ يُجِيزُ إِرَادَةَ كُلِّ مَا ذُكِرَ مِنْ مَعَانِي الْقَدْرَ هُنَا. عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى الْمُخْتَارَ يَتَضَمَّنُ سَائِرَ هَذِهِ الْمَعَانِي، فَمَنْ عَرَفَ اللهَ حَقَّ مَعْرِفَتِهِ وَصَفَهُ حَقَّ وَصْفِهِ وَآمَنَ بِقُدْرَتِهِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَعَظَّمَهُ حَقَّ تَعْظِيمِهِ.

نَطَقَتِ الْآيَةُ بِأَنَّ مُنْكِرِي الْوَحْيِ مَا عَرَفُوا اللهَ تَعَالَى حَقَّ مَعْرِفَتِهِ، وَلَا وَصَفُوهُ بِمَا يَجِبُ وَصْفُهُ بِهِ، وَلَا عَرَفُوا كُنْهَ فَضْلِهِ عَلَى الْبَشَرِ، إِذْ قَالُوا إِنَّهُ مَا أَنْزَلَ شَيْئًا عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ، فَهِيَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ إِرْسَالَ الرُّسُلِ وَإِنْزَالَ الْكُتُبِ مِنْ شُئُونِهِ سُبْحَانَهُ وَمُتَعَلِّقُ صِفَاتِهِ فِي النَّوْعِ

ص: 509

الْبَشَرِيِّ، فَإِنَّهَا مِنْ مُقْتَضَى الْحِكْمَةِ، وَأَجَلِّ آثَارِ الرَّحْمَةِ. فَمَنْ عَرَفَهُ تَعَالَى بِصِفَاتِ الْكَمَالِ، الَّتِي هِيَ مُتَعَلَّقُ أِحَاسِنِ الْأَفْعَالِ، وَمَصْدَرُ النِّظَامِ التَّامِّ، فِي عَالَمِ الْأَرْوَاحِ وَالْأَجْسَامِ، كَالْحِكْمَةِ الْبَالِغَةِ، وَالرَّحْمَةِ السَّابِغَةِ، وَالْعِلْمِ الْمُحِيطِ، وَالْقِيَامِ بِالْقِسْطِ، وَنَظَرَ فِي الْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ فِي أَنْفُسِ الْبَشَرِ وَالْآفَاقِ، فَعَلِمَ مِنْهَا أَنَّهُ أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ، وَأَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ صَنَعَهُ، وَخَلَقَ الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ، مُسْتَعِدًّا لِلْعُرُوجِ إِلَى أَعْلَى عِلِّيِّينَ، وَالْهُبُوطِ إِلَى أَسْفَلِ سَافِلِينَ، وَجَعَلَ كَمَالَهُ الَّذِي تُرَقِّيهِ إِلَيْهِ مَوَاهِبُ رُوحِهِ الْمَلَكِيَّةِ، وَنَقْصَهُ الَّذِي تُدَسِّيهِ فِيهِ مَطَالِبُ جَسَدِهِ الْحَيَوَانِيَّةِ، أَثَرًا لِعُلُومِهِ وَأَعْمَالِهِ الْكَسْبِيَّةِ، الَّتِي عَلَيْهَا مَدَارُ حَيَاتَيْهِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَالْأُخْرَوِيَّةِ. ثُمَّ عَلِمَ مَنْ تَدَبَّرَ أَحْوَالَهُ فِي حَيَاتِهِ الْحَاضِرَةِ، وَمَنْ دَرَسَ طِبَاعَهُ وَتَارِيخَ أَجْيَالِهِ الْغَابِرَةِ، أَنْ لَمْ يَكَدْ يُوجَدُ فَرْدٌ مِنْ أَفْرَادِهِ أَحَاطَ عِلْمًا بِمَصَالِحِ شَخْصِهِ، فَلَمْ يَجْنِ عَلَى جَسَدِهِ وَلَا عَلَى نَفْسِهِ، وَلَمْ يُوجَدْ جِيلٌ مِنْ أَجْيَالِهِ، وَلَا شَعْبٌ مِنْ شُعُوبِهِ، ارْتَقَتْ بِهِ عُلُومُهُ الْكَسْبِيَّةُ، وَقَوَانِينُهُ الْوَضْعِيَّةُ، إِلَى نَيْلِ السَّعَادَةِ الْمَنْزِلِيَّةِ وَالْقَوْمِيَّةِ، وَالْكَمَالِ الَّذِي يُؤَهِّلُهُ لِلسَّعَادَةِ الْأَبَدِيَّةِ، إِلَّا مَنِ اهْتَدَى بِهِدَايَةِ الْمُرْسَلِينَ، وَهُمْ فِي كُلِّ مِلَّةٍ ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ - مَنْ عَرَفَ اللهَ بِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الصِّفَاتِ، وَعَرَفَ الْبَشَرَ بِمَا أَجْمَلْنَا مِنَ الْأَحْوَالِ وَالْمُمَيَّزَاتِ، عَلِمَ عِلْمَ الْيَقِينِ أَنَّ إِرْسَالَ الرُّسُلِ وَإِنْزَالَ الْكُتُبِ مِنْ آثَارِ تِلْكَ الصِّفَاتِ الَّتِي هِيَ مَصَادِرُ النِّظَامِ وَمَظَاهِرُ الْكَمَالِ، قَدْ تَوَقَّفَ عَلَيْهِ إِكْمَالُ اسْتِعْدَادِ الْبَشَرِ لِلْعُرُوجِ الَّذِي أَشَرْنَا إِلَيْهِ، وَتَوَقِّي الْهُبُوطِ الَّذِي ذَكَّرْنَا بِهِ، فَكَانَ إِرْشَادُ الْوَحْيِ سَبَبًا لِكُلِّ ارْتِقَاءٍ إِنْسَانِيٍّ، فِي رُكْنَيْ وُجُودِهِ الْجُسْمَانِيِّ وَالرُّوحَانِيِّ، وَقَدْ فُتِنَ فِي هَذَا الْعَصْرِ خَلْقٌ كَثِيرٌ بِتَرَقِّي النِّظَامِ الِاجْتِمَاعِيِّ، وَسَعَةِ التَّمَتُّعِ الشَّهْوَانِيِّ فِي شُعُوبٍ كَانَتْ قَدِ اسْتَفَادَتْ كَثِيرًا مِنْ هِدَايَةِ الْوَحْيِ، ثُمَّ نَسِيَتْ

ذَلِكَ الْأَصْلَ الَّذِي هُوَ مَصْدَرُ كُلِّ الْخَيْرِ، فَعَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ بِهِمْ وَحْدَهُمْ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ بِهِمْ وَبِهِ، وَادَّعَوْا أَنَّهُمْ قَدِ اسْتَغْنَوْا بِعُقُولِهِمْ عَنْ تِلْكَ الْهِدَايَةِ، بَلْ وَصَمُوهَا بِمَا وَسَمُوهَا بِهِ مِنْ سِمَاتِ الْغَوَايَةِ، حَتَّى إِذَا مَا بَرِحَ الْخَفَاءُ، وَفُضِحَ الرِّيَاءُ، وَانْكَشَفَ الْغِطَاءُ، ظَهَرَ أَنَّ تِلْكَ الْمَدَنِيَّةَ، هِيَ أَفْظَعُ الْوَحْشِيَّةِ وَالْهَمَجِيَّةِ، فَأَيُّهُمْ أَوْسَعُ فِيهَا عُلُومًا وَفُنُونًا وَأَدَقُّ نِظَامًا وَقَانُونًا، هُمْ أَشَدُّ فَتْكًا بِالْإِنْسَانِ وَتَخْرِيبًا لِلْعُمْرَانِ، وَأَنَّ غَايَةَ هَذَا التَّرَقِّي اسْتِعْبَادُ الْأَقْوِيَاءِ لِلضُّعَفَاءِ بِتَسْخِيرِهِمْ لِخِدْمَتِهِمْ وَاسْتِخْرَاجِ خَيْرَاتِ الْأَرْضِ لَهُمْ، اسْتِمْتَاعًا بِالشَّهَوَاتِ الْحَيَوَانِيَّةِ السُّفْلَى، وَإِسْرَافًا فِي زِينَةِ هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا.

وَقَدْ بَيَّنَ شَيْخُنَا الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي (رِسَالَةِ التَّوْحِيدِ) وَجْهَ حَاجَةِ الْبَشَرِ إِلَى الرُّسُلِ مِنْ طَرِيقَيْنِ أَوْ مَسْلَكَيْنِ:

(الْمَسْلَكُ الْأَوَّلُ) مَبْنِيٌّ عَلَى عَقِيدَةِ بَقَاءِ النَّفْسِ وَاسْتِعْدَادِ الْبَشَرِ لِحَيَاةٍ أَبَدِيَّةٍ فِي عَالَمٍ غَيْبِيٍّ، وَحَاجَتِهِمْ إِلَى إِرْشَادٍ إِلَهِيٍّ يَعْلَمُونَ بِهِ مَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ لِلسَّعَادَةِ فِي تِلْكَ الْحَيَاةِ،

ص: 510

وَكَوْنِ إِيتَاءِ اللهِ تَعَالَى إِيَّاهُمْ ذَلِكَ مِنْ آثَارِ إِحْسَانِهِ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ، وَإِتْقَانِهِ كُلَّ شَيْءٍ صَنَعَهُ إِذِ اخْتَصَّ بَعْضَ أَفْرَادِ هَذَا النَّوْعِ بِفِطْرَةٍ عَالِيَةٍ، وَأَعَدَّ أَرْوَاحَهُمْ لِلْإِشْرَافِ عَلَى عَالَمِ الْغَيْبِ وَتَلَقِّي عِلْمَ الْهِدَايَةِ عَنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ بِوَاسِطَةِ الرُّوحِ الْأَمِينِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ أَوْ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ ; وَبِذَلِكَ كَانُوا نِهَايَةَ الشَّاهِدِ، وَبِدَايَةَ الْغَائِبِ، فِي هَذَا النَّوْعِ الَّذِي جَعَلَ اللهُ مِنَ التَّفَاوُتِ بَيْنَ أَفْرَادِهِ فِي الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ مَا لَا يُعْهَدُ مِثْلُهُ وَلَا مَا يُقَارِبُهُ فِي نَوْعٍ آخَرَ مِنْ أَنْوَاعِ الْأَحْيَاءِ، حَتَّى إِنَّ الْوَاحِدَ مِنْهُمْ لِيَنْهَضُ بِأُمَّةٍ أَوْ أُمَمٍ فَيَرْفَعُ شَأْنَهَا، وَأُلُوفُ الْأُلُوفِ يَكُونُونَ كَالْأَنْعَامِ يُسَخِّرُهُمْ لِخِدْمَتِهِ رَجُلٌ وَاحِدٌ أَوْ آحَادٌ مِنْهُمْ أَوْ مِنْ غَيْرِهِمْ.

(الْمَسْلَكُ الثَّانِي) مَبْنِيٌّ عَلَى مَا عُلِمَ مِنْ فِطْرَةِ الْإِنْسَانِ مِنْ كَوْنِهِ خُلِقَ لِيَعِيشَ مُجْتَمِعًا مُتَعَاوِنًا، يَقُومُ أَفْرَادٌ مُتَفَرِّقُونَ وَجَمَاعَاتٌ مُتَعَاوِنُونَ بِكُلِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْأَعْمَالِ الَّتِي يَحْتَاجُ إِلَيْهَا فِي حِفْظِ حَيَاتَيْهِ الشَّخْصِيَّةِ وَالنَّوْعِيَّةِ، وَيَظْهَرُ بِهِ اسْتِعْدَادُهُ لِتَسْخِيرِ جَمِيعِ مَا فِي عَالَمِهِ لِمَنَافِعِهِ، وَكَوْنِهِ يَعْمَلُ أَعْمَالَهُ بِحَسَبِ عِلْمِهِ وَشُعُورِهِ وَتَخَيُّلِهِ، وَكَوْنِ أَفْرَادِهِ يَخْتَلِفُونَ فِي ذَلِكَ اخْتِلَافًا يَقْتَضِي التَّنَازُعَ وَالشِّقَاقَ، الَّذِي يُفْضِي إِلَى التَّخَاذُلِ وَالتَّقَاتُلِ إِذَا لَمْ يَتَدَارَكْهُ اللهُ بِهِدَايَةٍ تُزِيلُ الْخِلَافَ وَتُوَحِّدُ الْآرَاءَ وَالْأَهْوَاءَ، وَهَذِهِ الْهِدَايَةُ هِيَ هِدَايَةُ الْوَحْيِ الَّذِي بَعَثَ اللهُ بِهِ الرُّسُلَ، وَإِنَّمَا تُزِيلُ الْخِلَافَ لِأَنَّ اللهَ أَوْدَعَ فِي فِطْرَةِ

الْإِنْسَانِ فَوْقَ كُلِّ مَا ذَكَرَ غَرِيزَةً هِيَ أَقْوَى غَرَائِزِهِ وَأَعْلَاهَا، وَهِيَ غَرِيزَةُ الشُّعُورِ بِوُجُودِ قُوَّةٍ غَيْبِيَّةٍ هِيَ فَوْقَ قُوَّتِهِ وَقُوَى جَمِيعِ عَالَمِ الشَّهَادَةِ الَّذِي يَعِيشُ فِيهِ وَالْخُضُوعُ لِكُلِّ مَا يَأْتِيهِ مِنْ جَانِبِ ذَلِكَ السُّلْطَانِ الْأَعْلَى، فَأَرْسَلَ اللهُ الرُّسُلَ بِالْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى تَأْيِيدِهِمْ مِنْ قِبَلِ تِلْكَ الْقُوَّةِ الْعَالِيَةِ، وَالسُّلْطَةِ الْغَالِبَةِ، وَكَوْنِهِمْ يَتَكَلَّمُونَ عَنْ قَيُّومِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بِمَا جَاءُوا بِهِ مِنَ الْكِتَابِ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِالْقِسْطِ. فَزَالَ مِنْ بَيْنِ الْمُؤْمِنِينَ لَهُمْ كُلُّ خِلَافٍ، وَتَمَهَّدَ لَهُمْ طَرِيقُ السَّيْرِ إِلَى الْكَمَالِ، فَكَانَ الْعَامِلُونَ بِالْكِتَابِ مِنْ كُلِّ أُمَّةِ خِيَارَهَا وَعُدُولَهَا. وَلَوْلَا الْبَغْيُ الَّذِي حَمَلَ آخَرِينَ عَلَى الْخِلَافِ فِي الْكِتَابِ الْمُزِيلِ لِلْخِلَافِ، لَبَلَغَتْ بِهِ مُنْتَهَى مَا هِيَ مُسْتَعِدَّةٌ لَهُ مِنَ السَّعَادَةِ وَالْكَمَالِ.

مَنْ غَصَّ دَاوَى بِشُرْبِ الْمَاءِ غُصَّتَهُ

فَكَيْفَ يَفْعَلُ مَنْ قَدْ غَصَّ بِالْمَاءِ؟.

وَمَنْ شَاءَ أَنَّ يَقِفَ عَلَى هَذَا الْبَحْثِ بِالتَّفْصِيلِ، وَرَدِّ مَا يِرِدُ مِنَ الِاعْتِرَاضِ عَلَيْهِ بِالدَّلِيلِ، فَلْيَقْرَأْهُ بِالْإِمْعَانِ وَالتَّدَبُّرِ فِي رِسَالَةِ التَّوْحِيدِ، وَلْيُرَاجِعْ فِي الْجُزْءِ الثَّانِي مِنْ هَذَا التَّفْسِيرِ، مَا نَقَلْنَاهُ عَنِ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى:(كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ) 2: 213 وَقَدْ بَذَّ الْأُسْتَاذُ - أَثَابَهُ اللهُ تَعَالَى - فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ جَمِيعَ الْعُلَمَاءِ وَالْحُكَمَاءِ الَّذِينَ كَتَبُوا فِي بَيَانِ حِكْمَةِ بَعْثَةِ الْأَنْبِيَاءِ، وَلَوْلَا أَنْ طَالَ هَذَا الْجُزْءُ وَتَجَاوَزَ كُلَّ تَقْدِيرٍ لِنَقَلْنَا عِبَارَةَ رِسَالَةِ

ص: 511

التَّوْحِيدِ بِرُمَّتِهَا هُنَا، وَلَعَلَّنَا نُجِدُّ لَهَا مُنَاسَبَةً فِي جُزْءٍ آخَرَ وَإِنْ كَانَتْ أَضْعَفَ مِنْ مُنَاسَبَةِ هَذِهِ الْآيَةِ الَّتِي يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْبَحْثُ تَفْسِيرًا لَهَا.

(قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدَى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا) هَذَا رَدٌّ عَلَى مُنْكِرِي الْوَحْيِ وَالرِّسَالَةِ لَقَّنَهُ اللهُ تَعَالَى رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم فِي إِثْرِ بَيَانِ كَوْنِ ذَلِكَ مِنْ شُئُونِهِ تَعَالَى وَمُقْتَضَى صِفَاتِهِ فِي تَدْبِيرِ أَمْرِ الْبَشَرِ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا. قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو " تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ يُبْدُونَهَا وَيُخْفُونَ " بِالْمُثَنَّاةِ التَّحْتِيَّةِ عَلَى أَنَّهَا إِخْبَارٌ عَنِ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ، وَقَرَأَهَا الْآخَرُونَ " تَجْعَلُونَهُ " إِلَخْ بِالْمُثَنَّاةِ الْفَوْقِيَّةِ عَلَى الْخِطَابِ. وَبِذَلِكَ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي الْآيَةِ وَعَدَّهَا بَعْضُهُمْ مِنْ مُشْكِلَاتِ الْقُرْآنِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْكَلَامِ عَلَى نُزُولِ السُّورَةِ فِي أَوَّلِ تَفْسِيرِهَا أَنَّ بَعْضَهُمْ عَدَّ هَذِهِ الْآيَةَ مِمَّا اسْتُثْنِيَ مِنْ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ كُلِّهَا

دُفْعَةً وَاحِدَةً بِمَكَّةَ، وَزَعَمُوا أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي شَأْنِ بَعْضِ الْيَهُودِ فِي الْمَدِينَةِ، وَأَنَّ ظَاهِرَ مَعْنَى الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ لِأَنَّ هَذَا الِاحْتِجَاجَ إِنَّمَا يَقُومُ عَلَى الْيَهُودِ دُونَ مُشْرِكِي الْعَرَبِ الَّذِينَ خُوطِبُوا بِسَائِرِ السُّورَةِ، وَقَدْ وَرَدَ فِي أَسْبَابِ نُزُولِهَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: قَالَتِ الْيَهُودُ يَا مُحَمَّدُ أَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ كِتَابًا؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالُوا: وَاللهِ مَا أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَاءِ كِتَابًا. وَعَنِ السُّدِّيِّ قَالَ: قَالَ فِنُحَاصُ الْيَهُودِيُّ مَا أَنْزَلَ اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ مِنْ شَيْءٍ - وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ قَالَ: أَمَرَ اللهُ مُحَمَّدًا أَنْ يَسْأَلَ أَهْلَ الْكِتَابِ عَنْ أَمْرِهِ وَكَيْفَ يَجِدُونَهُ فِي كُتُبِهِمْ فَحَمَلَهُمْ حَسَدُهُمْ عَلَى أَنْ يَكْفُرُوا بِكِتَابِ اللهِ وَرُسُلِهِ. فَقَالُوا: مَا أَنْزَلَ اللهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ - فَأَنْزَلَ اللهُ " وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ " الْآيَةَ. وَرَوِيَ عَنْ قَتَادَةَ وَكَذَا عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ وَلَمْ يَذْكُرَا اسْمًا وَلَا قِصَّةً، وَعَنْ عِكْرِمَةَ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي مَالِكِ بْنِ الصَّيْفِ الْيَهُودِيِّ قَالَ الْكَلِمَةَ فِي قِصَّةٍ سَيَأْتِي ذِكْرُهَا. وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهَا فِي الْعَرَبِ وَرَجَّحَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، فَإِنَّهُ بَعْدَ ذِكْرِ الْخِلَافِ صَوَّبَ قَوْلَ مَنْ قَالَ إِنَّ الْآيَةَ فِي مُشْرِكِي قُرَيْشٍ بِأَنَّ الْكَلَامَ فِي سِيَاقِ الْخَبَرِ عَنْهُ وَلَمْ يَجْرِ لِلْيَهُودِ ذِكْرٌ فِي هَذِهِ السُّورَةِ، وَبِأَنَّهُ لَمْ يَصِحَّ مِنَ الرِّوَايَةِ عَنْ نُزُولِهَا فِيهِمْ خَبَرٌ مُتَّصِلُ الْإِسْنَادِ، وَبِأَنَّ الْمَعْرُوفَ مِنْ دِينِ الْيَهُودِ أَنَّهُمْ لَا يُنْكِرُونَ الْوَحْيَ بَلْ يُقِرُّونَ بِنُزُولِهِ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَدَاوُدَ.

(قَالَ) : فَلَا يَجُوزُ لَنَا أَنْ نَصْرِفَ الْآيَةَ عَمَّا يَقْتَضِيهِ سِيَاقُهَا مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى هَذَا الْمَوْضِعِ بَلْ إِلَى آخِرِهَا بِغَيْرِ حُجَّةٍ مِنْ خَبَرٍ صَحِيحٍ أَوْ عَقْلٍ. وَذَكَرَ أَنَّهُ يَظُنُّ أَنَّ مَنْ قَالَ إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ تَأَوَّلُوا بِذَلِكَ قِرَاءَةَ الْأَفْعَالِ فِيهَا بِالْخِطَابِ " تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ " إِلَخْ وَقَالَ إِنَّ الْأَصْوَبَ قِرَاءَةُ " يَجْعَلُونَهُ " إِلَخْ. عَلَى مَعْنَى أَنَّ الْيَهُودَ يَجْعَلُونَهُ فَهُوَ حِكَايَةٌ عَنْهُمْ ذُكِرَتْ فِي خِطَابِ مُشْرِكِي الْعَرَبِ، وَرَجَّحَ أَنَّ هَذَا مُرَادَ مُجَاهِدٍ. وَلَكِنَّهُ لَمْ يُبَيِّنْ وَجْهَ الِاحْتِجَاجِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُوسَى وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ، وَلَا وَجْهَ تَخْرِيجِ قِرَاءَةِ الْخِطَابِ الَّتِي قَرَأَ بِهَا أَكْثَرُ

ص: 512

الْقُرَّاءِ بَلِ اكْتَفَى بِتَرْجِيحِ الْقِرَاءَةِ الْأُخْرَى، فَكُلٌّ مِنَ الْقِرَاءَتَيْنِ مُشْكِلٌ مِنْ وَجْهٍ، وَقَدْ أَجَابَ بَعْضُهُمْ عَنِ الْإِشْكَالِ الْأَوَّلِ مِمَّا يَرِدُ عَلَيْهِ بِأَنَّ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ كَانُوا يَعْلَمُونَ أَنَّ الْيَهُودَ أَصْحَابُ التَّوْرَاةِ الْمُنَزَّلَةِ عَلَى مُوسَى عليه السلام وَسَيَأْتِي الدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ.

وَأَمَّا جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ، فَيُجِيبُونَ عَنْ إِشْكَالِ

ابْنِ جَرِيرٍ الْأَوَّلِ - وَهُوَ نُزُولُ السُّورَةِ فِي مَكَّةَ وَكَوْنِ السِّيَاقِ قَبْلَهَا وَبَعْدَهَا فِي مُحَاجَّةِ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ - بِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مُسْتَثْنَاةٌ مِنْ ذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَ، فَإِنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْمَدَنِيَّةِ، وَأُدْخِلَتْ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ لِتَكُونَ مُقَدِّمَةً لِلْكَلَامِ فِي بَحْثِ الرِّسَالَةِ بَعْدَ بَحْثِ التَّوْحِيدِ، وَفِيهِ - كَمَا قَالَ: إِنَّهُ لَيْسَ فِي سَابِقِ الْكَلَامِ ذِكْرٌ لِلْيَهُودِ لِيَعُودَ الضَّمِيرُ إِلَيْهِمْ بِغَيْرِ تَكَلُّفٍ، وَأَجَابُوا عَنْ إِشْكَالِهِ الثَّانِي وَهُوَ كَوْنُ الْيَهُودِ يُقِرُّونَ بِالْوَحْيِ وَلَا يُنْكِرُونَهُ مِنْ وُجُوهٍ:(أَحَدُهَا) أَنَّ هَذَا إِنْكَارٌ مُطْلَقٌ أُرِيدَ بِهِ الْمُقَيَّدُ، وَقَدْ بَنَى الرَّازِيُّ هَذَا الْجَوَابَ عَلَى قِصَّةِ مَالِكِ بْنِ الصَّيْفِ الَّتِي رُوِيَتْ فِي الْمَأْثُورِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ - وَعَزَاهَا الرَّازِيُّ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ - وَهِيَ أَنَّهُ كَانَ سَمِينًا وَهُوَ مِنْ أَحْبَارِهِمْ فَسَأَلَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَاسْتَحْلَفَهُ " هَلْ يَجِدُ فِي التَّوْرَاةِ أَنَّ اللهَ يُبْغِضُ الْحَبْرَ السَّمِينَ؟ " فَقَالَ الْكَلِمَةَ. قَالَ الرَّازِيُّ وَمُرَادُهُ مَا أَنْزَلَ اللهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ فِي أَنَّهُ يُبْغِضُ الْحَبْرَ السَّمِينَ. (ثَانِيهَا) أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ فِي حَالَةِ الْغَضَبِ مُبَالَغَةً، وَذَكَرُوا أَنَّ الْيَهُودَ سَأَلُوهُ عَنْ قَوْلِهِ هَذَا فَاعْتَذَرَ بِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَغْضَبَهُ فَقَالَ ذَلِكَ، أَيْ فِي حَالَةِ الْغَضَبِ الْمُدْهِشِ لِلْعَقْلِ أَوْ عَلَى سَبِيلِ طُغْيَانِ اللِّسَانِ. (ثَالِثُهَا) أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مَا أَنْزَلَ اللهُ عَلَى بَشَرٍ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ، أَيْ سِفْرًا مَخْطُوطًا - كَمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - وَهُوَ مِنْ تَحْرِيفِهِمْ، فَإِنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ الْوَحْيَ الَّذِي يُنْزِلُهُ اللهُ لِيُكْتَبَ يُسَمَّى كِتَابًا قَبْلَ كِتَابَتِهِ تَجَوُّزًا وَبَعْدَهَا حَقِيقَةً. (رَابِعُهَا) أَنَّ مُرَادَهُمْ مَا أَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ مِنْ شَيْءٍ - كَمَا رُوِيَ عَنِ السُّدِّيِّ - فَذَكَرَ الْعَامَّ وَأَوْرَدَ الْخَاصَّ. وَأَمَّا قِرَاءَةُ " يَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ " إِلَخْ. فَلَا تُشْكِلُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مِنَ التَّفْسِيرِ فَيُحْتَاجَ إِلَى الْجَوَابِ عَنْهَا كَمَا تُشْكِلُ قِرَاءَةُ " تَجْعَلُونَهُ " عَلَى الْوَجْهِ الْآخَرِ.

هَذَا مَا اطَّلَعْنَا عَلَيْهِ فِي تَوْجِيهِ الْقِرَاءَتَيْنِ وَفِيهِ مِنَ التَّكَلُّفِ مَا لَا يَخْفَى. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ سِيَاقِ مِثْلِ هَذَا مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ أَوَّلُهُ (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ) 20 أَنَّ قُرَيْشًا أَرْسَلُوا إِلَى الْمَدِينَةِ مَنْ يَسْأَلُ الْيَهُودَ عَنْ رِسَالَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَأَنْكَرُوا مَعْرِفَتَهُ، وَسَيَأْتِي فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْكَهْفِ أَنَّ قُرَيْشًا بَعَثَتِ النَّضْرَ بْنَ الْحَارِثِ وَعُقْبَةَ بْنَ أَبِي مُعَيْطٍ إِلَى أَحْبَارِ يَهُودِ الْمَدِينَةِ - وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُمْ أَرْسَلُوا وَفْدًا مِنْهُمْ هَذَانَ الزَّعِيمَانِ لِلْكُفْرِ - فَقَالُوا لَهُمْ: سَلُوهُمْ عَنْ مُحَمَّدٍ وَصِفُوا لَهُمْ صِفَتَهُ وَأَخْبِرُوهُمْ بِقَوْلِهِ فَإِنَّهُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ الْأَوَّلِ وَعِنْدَهُمْ عِلْمُ مَا لَيْسَ عِنْدَنَا مِنْ عِلْمِ الْأَنْبِيَاءِ، فَخَرَجَا حَتَّى أَتَيَا الْمَدِينَةَ فَسَأَلَا أَحْبَارَ يَهُودَ عَنْ رَسُولِ اللهِ -

صلى الله عليه وسلم وَوَصَفَا لَهُمْ

ص: 513

أَمْرَهُ وَبَعْضَ قَوْلِهِ وَقَالَا: إِنَّكُمْ أَهْلُ التَّوْرَاةِ وَقَدْ جِئْنَاكُمْ لِتُخْبِرُونَا عَنْ صَاحِبِنَا هَذَا إِلَخْ. فَهَذِهِ الرِّوَايَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنْ كَوْنَ التَّوْرَاةِ كِتَابًا مِنْ عِنْدِ اللهِ لِلْيَهُودِ خَاصَّةً كَانَ مَعْرُوفًا عِنْدَ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ، وَأَنَّهُمْ لِهَذَا أَرْسَلُوا وَفْدًا. إِلَى أَحْبَارِ الْيَهُودِ فَسَأَلُوهُمْ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَبِذَلِكَ يَكُونُ الِاحْتِجَاجُ عَلَيْهِمْ بِالتَّوْرَاةِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ الَّتِي أُنْزِلَتْ فِي مُحَاجَّتِهِمْ فِي جَمِيعِ أُصُولِ الدِّينِ احْتِجَاجًا وَجِيهًا وَلَا يَصْحُ مَا قَالَهُ الرَّازِيُّ مِنْ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ بَلَغَتْهُمْ مُعْجِزَاتُ مُوسَى الدَّالَّةُ عَلَى نَبُّوتِهِ وَكِتَابِهِ بِالتَّوَاتُرِ وَأَنَّهُمْ كَذَّبُوا الرَّسُولَ بِسَبَبِ طَلَبِ مِثْلِهَا. وَالَّذِي يَتَّجِهُ عَلَى قَوْلِنَا أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي ضِمْنِ السُّورَةِ بِمَكَّةَ - كَمَا قَرَأَهَا ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو مُحْتَجَّةً عَلَى مُشْرِكِي مَكَّةَ الَّذِينَ أَنْكَرُوا الْوَحْيَ اسْتِبْعَادًا لِخِطَابِ اللهِ لِلْبَشَرِ بِاعْتِرَافِهِمْ بِكِتَابِ مُوسَى، وَإِرْسَالِهِمُ الْوَفْدَ إِلَى أَحْبَارِ الْيَهُودِ وَاعْتِرَافِهِمْ بِأَنَّهُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ الْأَوَّلِ الْعَالِمِينَ بِأَخْبَارِ الْأَنْبِيَاءِ، فَهُوَ تَعَالَى يَقُولُ لِرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم:(قُلْ) لِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ مَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ مِنْ قَوْمِكَ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ - كَقَوْلِهِمْ " أَبَعَثَ اللهُ بَشَرًا رَسُولًا ": (مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا) انْقَشَعَتْ بِهِ ظُلُمَاتُ الْكُفْرِ وَالشِّرْكِ الَّذِي وَرِثَهُ بَنُو إِسْرَائِيلَ عَنِ الْمِصْرِيِّينَ (وَهَدًى لِلنَّاسِ) أَيِ الَّذِينَ أُنْزِلَ عَلَيْهِمْ أُخْرِجُوا مِنَ الضَّلَالِ بِمَا فِيهِ مِنَ الْأَحْكَامِ وَالشَّرَائِعِ الَّتِي أَنْشَأَتْهُمْ خَلْقًا جَدِيدًا، فَكَانُوا مُعْتَصِمِينَ بِالْحَقِّ مُقِيمِينَ لِلْعَدْلِ إِلَى أَنِ اخْتَلَفُوا فِيهِ، وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَصَارُوا بِاتِّبَاعِ الْأَهْوَاءِ (يَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ يُبْدُونَهَا) عِنْدَ الْحَاجَةِ: إِذَا اسْتُفْتِيَ الْحَبْرُ مِنْ أَحْبَارِهِمْ فِي مَسْأَلَةٍ لَهُ هَوًى فِي إِظْهَارِ حُكْمِ اللهِ فِيهَا كَتَبَ ذَلِكَ الْحُكْمَ فِي قِرْطَاسٍ - وَهُوَ مَا يُكْتَبُ فِيهِ مِنْ وَرَقٍ أَوْ جِلْدٍ أَوْ غَيْرِهَا - فَأَظْهَرَهُ لِلْمُسْتَفْتِي وَلِخُصُومِهِ " وَيُخْفُونَ كَثِيرًا " مِنْ أَحْكَامِ الْكِتَابِ وَأَخْبَارِهِ إِذَا كَانَ لَهُمْ هَوًى فِي إِخْفَائِهَا ; وَذَلِكَ أَنَّ الْكِتَابَ كَانَ بِأَيْدِيهِمْ وَلَمْ يَكُنْ فِي أَيْدِي الْعَامَّةِ مِنْ نُسَخِهِ شَيْءٌ. وَهَذَا الْإِخْفَاءُ لِلنُّصُوصِ فِي الْوَقَائِعِ غَيْرُ مَا نَسِيَهُ مُتَقَدِّمُو الْيَهُودِ مِنَ الْكِتَابِ بِضَيَاعِهِ عِنْدَ تَخْرِيبِ الْقُدْسِ وَإِجْلَائِهِمْ إِلَى الْعِرَاقِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ) 5: 13 خِلَافًا لِمَا تَوَهَّمَهُ الرَّازِيُّ وَغَيْرُهُ.

وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْآيَةَ كَانَتْ تُقْرَأُ هَكَذَا بِمَكَّةَ وَكَذَا بِالْمَدِينَةِ إِلَى أَنْ أَخْفَى أَحْبَارُ الْيَهُودِ

حُكْمَ الرَّجْمِ بِالْمَدِينَةِ، وَأَخْفَوْا مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ وَهُوَ الْبِشَارَةُ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَكِتْمَانُ صِفَاتِهِ عَنِ الْعَامَّةِ وَتَحْرِيفُهَا إِلَى مَعَانٍ أُخْرَى لِلْخَاصَّةِ، وَإِلَى أَنْ قَالَ بَعْضُهُمْ: مَا أَنْزَلَ اللهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ كَمَا قَالَ الْمُشْرِكُونَ مِنْ قَبْلِهِمْ (إِنْ صَحَّتِ الرِّوَايَاتُ فِي ذَلِكَ) فَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ كُلَّهُ، كَانَ غَيْرُ مُسْتَبْعَدٍ وَلَا مُخِلٍّ بِالسِّيَاقِ أَنْ يُلَقِّنَ اللهُ تَعَالَى رَسُولَهُ أَنْ يَقْرَأَ هَذِهِ الْجُمَلَ فِي الْمَدِينَةِ عَلَى مَسْمَعِ الْيَهُودِ وَغَيْرِهِمْ بِالْخِطَابِ لَهُمْ فَيَقُولُ:(تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا)

ص: 514

مَعَ عَدَمِ نَسْخِ الْقِرَاءَةِ الْأَوْلَى، وَبِهَذَا الِاحْتِمَالِ الْمُؤَيَّدِ بِمَا ذُكِرَ مِنَ الْوَقَائِعِ يَتَّجِهُ تَفْسِيرُ الْقِرَاءَتَيْنِ بِغَيْرِ تَكَلُّفٍ مَا، وَيَزُولُ كُلُّ إِشْكَالٍ عَرَضَ لِلْمُفَسِّرِينَ فِي تَفْسِيرِهِمَا.

وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ) فَقَالَ قَتَادَةُ: الْيَهُودُ آتَاهُمُ اللهُ تَعَالَى عِلْمًا فَلَمْ يَهْتَدُوا بِهِ وَلَمْ يَأْخُذُوا بِهِ وَلَمْ يَعْمَلُوا بِهِ فَذَمَّهُمُ اللهُ فِي عَمَلِهِمْ ذَلِكَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ هَذِهِ لِلْعَرَبِ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ لِلْمُسْلِمِينَ وَمُؤَدَّاهُمَا وَاحِدٌ. فَإِنَّ مَا عَلِمَهُ الْعَرَبُ مِنْ عُلُومِ الْقُرْآنِ وَحِكَمِهِ وَهِدَايَتِهِ قَدْ أَدَّوْهُ إِلَى سَائِرِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ غَيْرِهِمْ فَكَانَتْ فَائِدَتُهُ عَامَّةً.

وَفِي الْجُمْلَةِ امْتِنَانٌ مِنْهُ سُبْحَانَهُ عَلَى الرَّسُولِ وَقَوْمِهِ وَسَائِرِ الْمُؤْمِنِينَ بِإِيتَائِهِمْ هَذَا الْكِتَابَ الْحَكِيمَ الْمُبِينَ، وَالْمَعْنَى عِنْدَنَا عَلَى تَقْدِيرِ جَعْلِ الْخِطَابِ لِلْيَهُودِ: وَعَلِمْتُمْ بِمَا أَنْزَلَ عَلَى خَاتَمِ النَّبِيِّينَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمُ الَّذِينَ كَانُوا أَعْلَمَ وَأَهْدَى مِنْكُمْ، فَمِنْ ذَلِكَ مَا أَفَادَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:(إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) 27: 76 وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي مَوْضِعِهِ إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى، وَمِنْهُ مَا انْفَرَدَ بِهِ الْإِسْلَامُ - وَهُوَ مَا أَكْمَلَ اللهُ تَعَالَى بِهِ دِينَهُ - مِنْ بَسْطِ أُصُولِ الْعَقَائِدِ مُوَضَّحَةً بِالْأَمْثِلَةِ مُؤَيِّدَةً بِالدَّلَائِلِ، وَمِنْ إِتْمَامِ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَعَقَائِلِ الْفَضَائِلِ وَالْآدَابِ بِجَعْلِهَا وَسَطًا بَيْنَ مَا كَانُوا عَلَيْهِ هُمْ وَالنَّصَارَى مِنَ التَّفْرِيطِ وَالْإِفْرَاطِ، وَمِنْ جَعْلِ أَحْكَامِ الْعِبَادَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ مُصْلِحَةً لِأَنْفُسِ الْأَفْرَادِ وَمُوَافِقَةً لِمَصَالِحِ الْجَمَاعَاتِ، وَمَنْ جَعْلِ الْحُكُومَةِ شُورَى بَيْنَ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ، وَالشَّرِيعَةِ مُسَاوِيَةً بَيْنَ الْأَجْنَاسِ وَالْمِلَلِ وَالْأَفْرَادِ فِي مِيزَانِ الْعَدْلِ، لَا يُمَيَّزُ فِيهَا إِسْرَائِيلِيٌّ لِنَسَبِهِ وَلَا عَرَبِيٌّ لِحَسَبِهِ، وَلَا يُحَابَى مُسْلِمٌ بِإِسْلَامِهِ وَلَا يُظْلَمُ كَافِرٌ بِكُفْرِهِ - كَمَا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ) 4: 135 وَتَفْسِيرِ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ) 5: 8 وَغَيْرِهِمَا، فَكَانَ الْمَعْقُولُ أَنْ يَكُونَ عُلَمَاءُ الْيَهُودِ -

وَكَذَا النَّصَارَى - بَعْدَ مَجِيءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِهَذِهِ الْأُصُولِ الْكَامِلَةِ فِي هِدَايَةِ الْبَشَرِ، الَّتِي أَكْمَلَ اللهُ تَعَالَى بِهَا دِينَهُ الْمُطْلَقَ الَّذِي أَرْسَلَ بِهِ جَمِيعَ رُسُلِهِ، أَنْ يَكُونُوا أَسْبَقَ النَّاسِ إِلَى الْإِيمَانِ بِهِ كَمَا هُوَ الْمَعْهُودُ مَنْ كُلِّ ذِي عِلْمٍ وَفَنٍّ حَرِيصٍ عَلَى الْكَمَالِ فِيهِ إِذَا جَاءَهُ مَنْ يَفُوقُهُ فِي الْعِلْمِ بِهِ، أَوْ رَأَى كِتَابًا فِيهِ يَفْضُلُ كُلَّ مَا عَرَفَ مِنْ كُتُبِهِ، وَلَكِنَّ الْحَسَدَ وَالْعَصَبِيَّةَ وَحُبَّ الرِّيَاسَةِ الْقَوْمِيَّةِ، هِيَ الَّتِي صَدَّتْ عَنِ الْإِيمَانِ مَنْ صَدَّتْ مِنْ عُلَمَائِهِمُ الْمُسْتَقِلِّينَ، وَلَا تَسَلْ عَنْ حَالِ الْمُقَلِّدِينَ، وَقَدِ اعْتَرَفَ بِذَلِكَ مَنْ آمَنَ مِنْ فُضَلَاءَ الْمُعْتَدِلِينَ. وَجُمْلَةُ " وَعُلِّمْتُمْ " إِلَخْ. حَالِيَّةٌ، وَقِيلَ: اسْتِئْنَافِيَّةٌ.

بَيَّنَ سُبْحَانَهُ إِنْكَارَ الْمُنْكِرِينَ لِلْوَحْيِ بِعِبَارَةٍ تَدُلُّ عَلَى جَهْلِهِمْ وَتُرْشِدُ إِلَى الْبُرْهَانِ الْمُفَنِّدِ لِزَعْمِهِمْ، وَشَفَعَهُ بِأَمْرِ الرَّسُولِ أَنْ يَسْأَلَهُمْ ذَلِكَ السُّؤَالَ الْمُلْجِمَ لَهُمْ، ثُمَّ لَقَّنَهُ الْجَوَابَ الَّذِي كَانَ

ص: 515

يَجِبُ أَنْ يُجِيبُوا بِهِ لَوْ أَنْصَفُوا، وَأَقَرُّوا بِالْحَقِّ وَاعْتَرَفُوا، وَمَا يَنْبَغِي أَنْ يُعَامَلُوا بِهِ وَهُمْ جَاحِدُونَ، لَا يَنْطِقُونَ بِالْحَقِّ وَلَا يُذْعِنُونَ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ:(قُلِ اللهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ) أَيْ قُلْ أَيُّهَا الرَّسُولُ: اللهُ أَنْزَلَهُ - أَيْ كِتَابَ مُوسَى - ثُمَّ دَعْهُمْ بَعْدَ بَيَانِ الْحَقِّ مُؤَيَّدًا بِالْحُجَجِ وَالدَّلَائِلِ، فِيمَا هُمْ فِيهِ مِنَ الْخَوْضِ فِي الْبَاطِلِ، حَالَ كَوْنِهِمْ يَلْعَبُونَ كَمَا يَلْعَبُ الصِّبْيَانُ، فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَالْبَيَانُ، وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ وَالْجَزَاءُ. وَفِي أَمْرِ الرَّسُولِ بِالْجَوَابِ عَمَّا سُئِلُوا عَنْهُ إِيذَانٌ بِأَنَّهُمْ لَا يُنْكِرُونَهُ وَلَا يَقُولُونَهُ، لِمَا فِي الْإِنْكَارِ مِنْ مُكَابَرَةِ النَّفْسِ. وَمَا فِي الِاعْتِرَافِ مِنْ خِزْيِ الْغَلَبِ وَالْإِقْرَارِ بِمَا يَجْحَدُونَ مِنَ الْحَقِّ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الْأَمْرَ بِتَرْكِهِمْ مَنْسُوخٌ بِآيَةِ الْقِتَالِ، وَرَدَّهُ الْجُمْهُورُ بِأَنَّهُ لَا مُنَافَاةَ بَيْنَهُمَا. وَمِنَ الْجَهْلِ بِاللُّغَةِ وَالشَّرْعِ احْتِجَاجُ بَعْضِ الْمُتَصَوِّفَةِ بِالْآيَةِ عَلَى شَرْعِيَّةِ ذِكْرِ اللهِ تَعَالَى بِالْأَسْمَاءِ الْمُفْرَدَةِ كَتَكْرَارِ لَفْظِ (اللهْ، اللهْ) وَغَيْرِهِ مِنَ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى، وَهُمْ يُكَرِّرُونَ هَذِهِ الْأَسْمَاءَ سَاكِنَةً لِأَنَّهَا لَيْسَتْ كَلَامًا مُفِيدًا وَالِاسْمُ الْكَرِيمُ فِي الْآيَةِ مَرْفُوعٌ بِإِجْمَاعِ الْقُرَّاءِ لِأَنَّهُ جُمْلَةٌ حُذِفَ أَحَدُ جُزْأَيْهَا لِقَرِينَةِ السُّؤَالِ الَّتِي هِيَ جَوَابُهُ كَمَا عَلِمْتَ.

(وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) أَيْ ذَلِكَ مَا لَزِمَكُمْ مِنْ أَنَّ التَّوْرَاةَ كِتَابٌ أَنْزَلَهُ اللهُ عَلَى مُوسَى عليه السلام، أَيْ أَوْحَاهُ إِلَيْهِ لِيُكْتَبَ وَيُهْتَدَى بِهِ إِلَى أَنْ يَنْزِلَ بِتَرْقِيَتِهِ تَعَالَى لِاسْتِعْدَادِ جُمْلَةِ الْبَشَرِ - مَا يَنْسَخُهُ، (وَهَذَا)" أَيِ الْقُرْآنُ "(كِتَابٌ عَظِيمُ الْقَدْرِ) ، فَتَنْكِيرُهُ لِلتَّفْخِيمِ (أَنْزَلْنَاهُ عَلَى خَاتَمِ رُسُلِنَا مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم كَمَا أَنْزَلْنَا

التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى مِنْ قَبْلُ (مُبَارَكٌ) بَارَكَهُ اللهُ أَوْ بَارَكَ فِيهِ بِمَا فَضَلَ بِهِ مَا قَبْلَهُ مِنَ الْكُتُبِ فِي النَّظْمِ وَالْمَعْنَى، وَبِمَا يَكُونُ مِنْ ثَبَاتِهِ وَبَقَائِهِ إِلَى آخِرِ عُمُرِ الْبَشَرِ فِي الدُّنْيَا، هُوَ مِنَ " الْبَرَكَةِ " وَهِيَ - بِالتَّحْرِيكِ - النَّمَاءُ وَالزِّيَادَةُ وَالسَّعَةُ النَّافِعَةُ كَبِرْكَةِ الْمَاءِ. وَمِنْ مَعَانِي الْمَادَّةِ الثَّبَاتُ وَالِاسْتِقْرَارُ كَبَرْكِ الْبَعِيرِ. (مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) وَهُوَ مَا تَقَدَّمَهُ مِنْ كُتُبِ الْأَنْبِيَاءِ، أَيْ مُصَدِّقٌ لِإِنْزَالِ اللهِ تَعَالَى إِيَّاهَا فِي الْجُمْلَةِ، لَا لِكُلِّ مَا يُعْزَى إِلَيْهَا بِالتَّفْصِيلِ وَقَدْ ذُكِرَ فِيهِ بَعْضُ الْكُتُبِ بِأَسْمَائِهَا وَالصُّحُفِ مُضَافَةً إِلَى أَصْحَابِهَا، وَذَكَرَ بَعْضَ قَوَاعِدِهَا وَأَحْكَامِهَا، عَلَى أَنَّهُ أُنْزِلَ مُهَيْمِنًا عَلَيْهَا، نَاعِيًا عَلَى بَعْضِ أَهْلِهَا تَحْرِيفَهُمْ لَهَا، وَنِسْيَانَهُمْ لِحَظٍّ عَظِيمٍ مِنْهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْمَائِدَةِ وَمَا قَبْلَهَا. وَنَقَلَ الرَّازِيُّ فِي تَفْسِيرِ " مُبَارَكٍ " عَنْ أَهْلِ الْمَعَانِي أَنَّ مَعْنَاهُ كَثِيرٌ خَيْرُهُ، دَائِمٌ بَرَكَتُهُ وَمَنْفَعَتُهُ، يُبَشِّرُ بِالثَّوَابِ وَالْمَغْفِرَةِ وَيَزْجُرُ عَنِ الْقَبِيحِ وَالْمَعْصِيَةِ. ثُمَّ فَسَّرَ ذَلِكَ هُوَ بِأَنَّ مَا فِيهِ مِنَ الْعُلُومِ النَّظَرِيَّةِ فَهُوَ أَشْرَفُهَا وَأَكْمَلُهَا وَهُوَ الْعِلْمُ بِاللهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ، وَأَفْعَالِهِ وَأَحْكَامِهِ وَأَسْمَائِهِ، وَمَا فِيهِ مِنَ الْعُلُومِ الْعَمَلِيَّةِ لَا تُوجَدُ فِي غَيْرِ مِثْلِهِ سَوَاءٌ كَانَتْ أَعْمَالَ الْجَوَارِحِ أَوْ أَعْمَالَ الْقُلُوبِ. ثُمَّ قَالَ: وَأَنَا قَدْ نَقَلْتُ أَنْوَاعًا مِنَ الْعُلُومِ النَّقْلِيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ فَلَمْ يَحْصُلْ لِي بِسَبَبِ شَيْءٍ مِنَ الْعُلُومِ مِنْ أَنْوَاعِ السَّعَادَةِ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا مِثْلُ مَا حَصَلَ بِسَبَبِ خِدْمَةِ هَذَا الْعِلْمِ انْتَهَى. أَيْ عِلْمِ الْقُرْآنِ بِتَفْسِيرِهِ

ص: 516

فَلْيَعْتَبِرْ بِهَذَا مَنْ يَضَعُونَ جُلَّ أَوْقَاتِهِمْ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ الدِّينِيِّ بِعُلُومِ الْكَلَامِ وَغَيْرِهَا، مِمَّا يَعُدُّونَ الرَّازِيَّ الْإِمَامَ الْمُطْلَقَ فِيهَا، لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ إِلَى كِتَابِ اللهِ تَعَالَى وَيَهْتَدُونَ بِهِ، وَيَطْلُبُونَ السَّعَادَةَ مِنْ فَيْضِهِ دُونَ غَيْرِهِ، وَنَسْأَلُ اللهَ تَعَالَى أَنْ يُوَفِّقَنَا لِإِتْمَامِ تَفْسِيرِهِ، وَأَنْ يَجْعَلَهُ حُجَّةً لَنَا لَا عَلَيْنَا بِكَمَالِ التَّخَلُّقِ بِهِ.

(وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا) قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إِنَّ هَذَا عَطْفٌ عَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ صِفَةُ الْكِتَابِ كَأَنَّهُ قَالَ: أَنْزَلْنَاهُ لِلْبَرَكَاتِ وَتَصْدِيقِ مَا تَقَدَّمَهُ وَلِلْإِنْذَارِ، وَاخْتَارَ السَّعْدُ التَّفْتَازَانِيُّ كَوْنَهُ عَطْفًا عَلَى صَرِيحِ الْوَصْفِ أَيْ كِتَابٌ مُبَارَكٌ وَكَائِنٌ لِلْإِنْذَارِ لِأَنَّ عَطْفَ الظَّرْفِ عَلَى الْمُفْرَدِ كَثِيرٌ فِي بَابَيِ الْخَبَرِ وَالصِّفَةِ، وَفِيهِ بَحْثٌ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلَى مُقَدَّرٍ حُذِفَ لِدَلَالَةِ الْقَرِينَةِ عَلَيْهِ كَفِعْلِ التَّبْشِيرِ الَّذِي يُقَابِلُ الْإِنْذَارَ، وَقَدْ جُمِعَ بَيْنَهُمَا فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْكَهْفِ وَآخِرِ سُورَةِ مَرْيَمَ، وَجَرَى الْبَيْضَاوِيُّ عَلَى أَنَّ التَّعْلِيلَ الْمَحْذُوفَ دَلَّ عَلَيْهِ الْمَذْكُورُ أَيْ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى أَنْزَلْنَاهُ. وَقَرَأَ أَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ " وَلِيُنْذِرَ "

بِالْإِسْنَادِ الْمَجَازِيِّ إِلَى الْكِتَابِ، وَأُمُّ الْقُرَى مَكَّةُ وَالْمُرَادُ أَهْلُهَا بِالِاتِّفَاقِ، كُنِّيَتْ بِهَذِهِ الْكُنْيَةِ لِأَنَّهَا قِبْلَةُ أَهْلِ الْقُرَى، أَيِ الْبِلَادِ الَّتِي يَجْتَمِعُ فِيهَا النَّاسُ كَبِيرَةً كَانَتْ أَوْ صَغِيرَةً، أَوْ لِأَنَّ فِيهَا أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ، أَوْ لِأَنَّهَا حَجُّهُمْ وَمُجْتَمَعُهُمْ، أَوْ لِأَنَّهَا أَعْظَمُ الْقُرَى شَأْنًا فِي الدِّينِ، أَوْ لِأَنَّهُمْ يُعَظِّمُونَهَا كَالْأُمِّ، أَوْ لِأَنَّ الْأَرْضَ دُحِيَتْ مِنْ تَحْتِهَا كَمَا رُوِيَ عَنْ بَعْضِ مُفَسِّرِي السَّلَفِ. وَالْمُرَادُ بِالْأَخِيرِ أَنَّهَا أَوَّلُ مَا ظَهَرَ مِنَ الْأَرْضِ الْيَابِسَةِ فِي الْمَاءِ، وَلَا يُعْرَفُ مِثْلُ هَذَا إِلَّا بِوَحْيٍ صَرِيحٍ، وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:(وَمَنْ حَوْلَهَا) أَهْلُ الْأَرْضِ كَافَّةً كَمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَيُقَوِّيهِ تَسْمِيَتُهَا بِأُمِّ الْقُرَى وَنَحْنُ نَعْلَمُ الْآنَ عِلْمَ الْيَقِينِ أَنَّ النَّاسَ يُصَلُّونَ مُتَوَجِّهِينَ إِلَى بَيْتِ اللهِ فِيهَا، فِي جَمِيعِ أَقْطَارِ الْأَرْضِ الْقَرِيبَةِ مِنْهَا وَالْبَعِيدَةِ عَنْهَا فَهَذَا مِصْدَاقُ كَوْنِهِمْ حَوْلَهَا، وَزَعَمَ بَعْضُ الْيَهُودِ الْمُتَقَدِّمِينَ وَغَيْرُهُمْ أَنَّ الْمُرَادَ بِمَنْ حَوْلَهَا بِلَادُ الْعَرَبِ فَخَصَّهُ بِمَنْ قَرُبَ مِنْهَا عُرْفًا، وَاسْتَدَلُّوا بِهِ عَلَى أَنَّ بَعْثَةَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم خَاصَّةٌ بِقَوْمِهِ الْعَرَبِ، وَالِاسْتِدْلَالُ بَاطِلٌ وَإِنْ سَلِمَ التَّخْصِيصُ الْمَذْكُورُ، فَإِنَّ إِرْسَالَهُ صلى الله عليه وسلم إِلَى قَوْمِهِ لَا يُنَافِي إِرْسَالَهُ إِلَى غَيْرِهِمْ، وَقَدْ ثَبَتَ عُمُومُ بَعْثَتِهِ فِي آيَاتٍ أُخْرَى كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي هَذِهِ السُّورَةِ:(وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ) 18 أَيْ وَكُلُّ مَنْ بَلَغَهُ وَوَصَلَتْ إِلَيْهِ هِدَايَتُهُ وَقَدْ تَقَدَّمَ، وَقَوْلُهُ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْفُرْقَانِ:(تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا) وَقَوْلُهُ فِي سُورَةِ سَبَأٍ (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا) 34: 28.

(وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ) أَيْ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَوِ الْحَيَاةِ الْآخِرَةِ وَمَا فِيهَا مِنَ الْجَزَاءِ عَلَى الْإِيمَانِ وَالْأَعْمَالِ إِيمَانًا إِذْعَانِيًّا صَحِيحًا أَوِ اسْتِعْدَادِيًّا قَوِيًّا سَوَاءٌ كَانُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أَوْ مِنْ غَيْرِهِمْ، يُؤْمِنُونَ بِهَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ إِذَا بَلَغَهُمْ أَوْ إِذَا بَلَغَهُمْ دَعْوَتُهُ ; لِأَنَّهُمْ يَجِدُونَ فِيهِ أَكْمَلَ الْهِدَايَةِ إِلَى السَّعَادَةِ الْعُظْمَى فِي تِلْكَ الدَّارِ، فَمَثَلُهُمْ كَمَثَلِ قَوْمٍ سَفْرٍ ضَلُّوا فِي مَفَازَةٍ مِنْ مَجَاهِلِ الْأَرْضِ، حَتَّى إِذَا كَادُوا يَهْلِكُونَ جَاءَهُمْ رَجُلٌ بِكِتَابٍ

ص: 517

فِي عِلْمِ خَرْتِ الْأَرْضِ وَتَقْوِيمِ الْبُلْدَانِ، فِيهِ بَيَانُ مَكَانِهِمْ وَبَيَانُ أَقْرَبِ السُّبُلِ لِمَنْجَاتِهِمْ، فَإِنَّهُمْ لَا يَتَلَبَّثُونَ بِقَبُولِهِ وَالْعَمَلِ بِهِ، وَأَمَّا الْمُنْكِرُونَ لِلْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ فَلَا يَشْعُرُونَ بِشِدَّةِ الْحَاجَةِ إِلَى هِدَايَتِهِ. وَفِي هَذَا تَعْرِيضٌ أَوْ تَصْرِيحٌ بِسَبَبِ إِعْرَاضِ جُمْهُورِ أَهْلِ مَكَّةَ الْأَعْظَمِ عَنْ هَذَا الْكِتَابِ الَّذِي فِيهِ سَعَادَتُهُمْ.

وَبَالَغَ الرَّازِيُّ فِي قَوْلِهِ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ التَّنْبِيهَ عَلَى إِخْرَاجِ أَهْلِ مَكَّةَ مِنْ قَبُولِ هَذَا الدِّينِ، لِأَنَّ الْحَامِلَ عَلَى تَحَمُّلِ مَشَقَّةِ النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ وَتَرْكِ رِيَاسَةِ الدُّنْيَا وَتَرْكِ الْحِقْدِ وَالْحَسَدِ لَيْسَ إِلَّا الرَّغْبَةَ فِي الثَّوَابِ وَالرَّهْبَةَ مِنَ الْعِقَابِ، وَكُفَّارُ مَكَّةَ لَمَّا لَمْ يَعْتَقِدُوا فِي الْبَعْثِ وَالْقِيَامَةِ امْتَنَعَ مِنْهُمْ تَرْكُ الْحَسَدِ وَتَرْكُ الرِّيَاسَةِ فَلَا جَرَمَ يَبْعُدُ قَبُولُهُمْ لِهَذَا الدِّينِ وَاعْتِرَافُهُمْ بِنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ عليه الصلاة والسلام اهـ. وَيُعْلَمُ وَجْهُ الْمُبَالَغَةِ مِمَّا فَسَّرْنَا بِهِ الْجُمْلَةَ الشَّرِيفَةَ (وَهُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ) يُؤَدُّونَهَا فِي أَوْقَاتِهَا، مُقِيمِينَ لِأَرْكَانِهَا وَآدَابِهَا ; فَإِنَّ الْإِيمَانَ بِالْبَعْثِ وَبِالْقُرْآنِ يَقْتَضِي ذَلِكَ حَتْمًا، وَخُصَّتِ الصَّلَاةُ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فُرِضَ عِنْدَ نُزُولِ السُّورَةِ مِنْ أَرْكَانِ الْعِبَادَاتِ غَيْرَهَا، عَلَى أَنَّهُ لَمَّا كَانَتِ الصَّلَاةُ عِمَادَ الدِّينِ وَرَأْسَ الْعِبَادَاتِ وَمُمِدَّةَ الْإِيمَانِ بِالتَّقْوِيَةِ وَكَمَالِ الْإِذْعَانِ، كَانَتِ الْمُحَافَظَةُ عَلَيْهَا دَاعِيَةً إِلَى الْقِيَامِ بِسَائِرِ الْعِبَادَاتِ الْمَفْرُوضَةِ وَتَرْكِ جَمِيعِ الْمُحَرَّمَاتِ الْمَنْصُوصَةِ، وَمُحَاسَبَةِ النَّفْسِ عَلَى الشُّبُهَاتِ وَالْأَفْعَالِ الْمَكْرُوهَةِ.

(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ)

ص: 518

هَاتَانِ الْآيَتَانِ فِي بَيَانِ وَعِيدِ مَنْ كَذَبَ عَلَى اللهِ وَادَّعَى الْوَحْيَ أَوِ الْإِتْيَانَ بِمِثْلِهِ، قَفَّى بِهِمَا عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ كَوْنِ الْوَحْيِ مِنْ شُئُونِهِ تَعَالَى وَمُتَعَلِّقِ صِفَاتِهِ، وَمِنَ الرَّدِّ عَلَى

مُنْكِرِيهِ وَإِثْبَاتِ كَوْنِ هَذَا الْقُرْآنِ الَّذِي أَنْكَرُوا إِنْزَالَهُ عَلَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم لِأَنَّهُ بَشَرٌ. كَالتَّوْرَاةِ الَّتِي يَعْتَرِفُونَ بِإِنْزَالِهَا عَلَى مُوسَى وَهُوَ بَشَرٌ، عَلَى أَنَّهُ أَكْمَلُ مِنَ التَّوْرَاةِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ ; وَلِذَلِكَ خُوطِبَ بِهِ جَمِيعُ النَّاسِ، وَجُعِلَ مُكَمِّلًا وَخَاتِمًا لِلْأَدْيَانِ. وَهَذَا الْوَعِيدُ يَتَضَمَّنُ الشَّهَادَةَ بِصِدْقِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ذَلِكَ أَنَّ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مَنْدُوحَةٌ عَنِ الْإِيمَانِ بِأَنَّ الْقُرْآنَ مِنْ عِنْدِ اللهِ تَعَالَى، وَعَنِ الِاهْتِدَاءِ بِهِ بِالْمُحَافَظَةِ عَلَى الصَّلَوَاتِ وَمَا يَتْبَعُهَا وَيَسْتَلْزِمُهَا كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا، فَكَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ أَكْمَلُ النَّاسِ إِيمَانًا بِاللهِ وَخَشْيَةً لَهُ، وَإِيمَانًا بِالدَّارِ الْآخِرَةِ وَمَا فِيهَا مِنَ الْجَزَاءِ - وَهُوَ مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامُ - مِمَّنْ يُعَرِّضُ نَفْسَهُ لِهَذَا الْجَزَاءِ، وَهُوَ مُنْتَهَى الظُّلْمِ الَّذِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ أَشَدُّ الْوَعِيدِ؟ قَالَ تَعَالَى:

(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا) افْتِرَاءُ الْكَذِبِ عَلَى اللهِ الِاخْتِلَاقُ عَلَيْهِ بِالْحِكَايَةِ عَنْهُ وَالْعَزْوِ إِلَيْهِ، أَوْ بِاتِّخَاذِ الشُّرَكَاءِ وَالْأَنْدَادِ لَهُ كَمَا يُؤْخَذُ مِنْ مَجْمُوعِ مَا وَرَدَ فِي ذَلِكَ وَهُوَ الْمُتَبَادَرُ مِنَ اللَّفْظِ، وَقَدْ سَبَقَ مِثْلُ هَذَا الِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ فِي أَوَائِلِ هَذِهِ السُّورَةِ (الْآيَةَ 21) وَسَيَأْتِي مِثْلُهُ فِي أَوَاخِرِهَا (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ) 144 وَهُوَ فِيمَنْ يَدَّعِي الْوَحْيَ كَذِبًا. وَمِثْلُ ذَلِكَ فِي الْأَعْرَافِ وَيُونُسَ وَهُودٍ وَالْكَهْفِ وَالْعَنْكَبُوتِ وَالصَّفِّ، وَأَشْبَهُ مَا فِي هَذِهِ السُّوَرِ بِمَعْنَى الْآيَةِ الَّتِي نُفَسِّرُهَا آيَةُ يُونُسَ ; فَإِنَّهَا فِي سِيَاقِ الْكَلَامِ عَلَى الْقُرْآنِ. قَالَ:(وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ قُلْ لَوْ شَاءَ اللهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ) 10: 15 - 17 وَقَدْ فَسَّرَ الْآلُوسِيُّ افْتِرَاءَ الْكَذِبِ هُنَا بِإِنْكَارِ الْوَحْيِ، وَهُوَ لَا يَتَّفِقُ مَعَ مَا بَيَّنَّاهُ آنِفًا، وَالْمَعْنَى لَا أَحَدَ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا.

(أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ) جَعَلَ بَعْضُهُمْ " أَوْ " هُنَا بِمَعْنَى الْوَاوِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ قَوْمِ شُعَيْبٍ: (أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ) 11: 87 وَقَوْلِ الشَّاعِرِ " عَلَيْهَا تُقَاهَا أَوْ عَلَيْهَا فُجُورُهَا "

فَيَكُونُ الْعَطْفُ فِيهِ

لِتَفْسِيرِ افْتِرَاءِ الْكَذِبِ، وَنُعَقِّبُ بِأَنَّ التَّفْسِيرَ لَا يَأْتِي بِـ " أَوْ " وَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ مِنْ عَطْفِ الْمُقَيَّدِ عَلَى الْمُطْلَقِ أَوِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ، فَإِنَّ افْتِرَاءَ الْكَذِبِ عَلَى اللهِ يَشْمَلُ كُلَّ قَوْلٍ عَلَى اللهِ بِغَيْرِ

ص: 519

عِلْمٍ، سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ فِي ذَاتِهِ أَوْ صِفَاتِهِ أَوْ أَفْعَالِهِ، فَيَدْخُلُ فِيهِ ادِّعَاءُ الْوَحْيِ، وَمِنْهُ ادِّعَاءُ التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَحْكَامِ الشَّرْعِ بِغَيْرِ عِلْمٍ، وَفِي هَذَا الْأَخِيرِ آيَةُ الْأَنْعَامِ (144) وَهِيَ الثَّالِثَةُ فِي هَذَا الْمَعْنَى وَسَتَأْتِي إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى. وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ " أَوْ " لِلتَّنْوِيعِ فِي الْمَعْنَى الْوَاحِدِ، كَأَنْ يُرَادَ بِالِافْتِرَاءِ ادِّعَاءُ النُّبُوَّةِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ الْوَحْيِ، وَبِالثَّانِي ادِّعَاءُ الْوَحْيِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ وَإِنْ كَانَا مُتَلَازِمَيْنِ، وَمَا اخْتَرْنَاهُ أَظْهَرُ. قَالُوا: نَزَلَ هَذَا فِي الَّذِينَ ادَّعَوُا النُّبُوَّةَ مِنَ الْعَرَبِ، وَرُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ وَقَتَادَةَ تَخْصِيصُ مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ. وَالْحَقُّ أَنَّهُ يَدْخُلُ فِي عُمُومِ حُكْمِهِ مَنْ ذُكِرَ، وَالسُّورَةُ مَكِّيَّةٌ نَزَلَتْ قَبْلَ ادِّعَائِهِمُ النُّبُوَّةَ بِزَمَنٍ طَوِيلٍ، فَالْمَعْرُوفُ أَنَّ مُسَيْلِمَةَ ادَّعَى النُّبُوَّةَ سَنَةَ عَشْرٍ مِنَ الْهِجْرَةِ حَتَّى قِيلَ إِنَّ ذَلِكَ كَانَ بَعْدَ حِجَّةِ الْوَدَاعِ وَفِي أَثْنَاءِ مَرَضِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ، فَلَمَّا سَمِعَ النَّاسُ بِمَرَضِهِ وَثَبَ الْأَسْوَدُ الْعَنْسِيُّ بِالْيَمَنِ، وَمُسَيْلِمَةُ بِالْيَمَامَةِ، وَطُلَيْحَةُ فِي بَنِي أَسَدٍ فَادَّعَوُا النُّبُوَّةَ. ذَكَرَهُ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي تَارِيخِهِ، وَيَكْفِي فِي صِحَّةِ الْوَعِيدِ فَرْضُ وُقُوعِ الذَّنْبِ أَوْ تَوَقُّعِهِ، وَنَاهِيكَ بِوَعِيدِ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ جَلَّ وَعَزَّ.

(وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللهُ) أَيْ لَا أَحَدَ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ أَوِ ادَّعَى الْوَحْيَ مِنْهُ، وَمِمَّنِ ادَّعَى أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى إِنْزَالِ مِثْلِ مَا أُنْزِلَ عَلَى رَسُولِهِ، كَمَنْ قَالَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا) 8: 31 وَهُوَ النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ، فَقَدْ كَانَ مِمَّنْ يَقُولُ مِنْ كُفَّارِ مَكَّةَ: إِنَّ الْقُرْآنَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ وَإِنَّهُ شِعْرٌ لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَهُ. وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عِكْرِمَةَ وَالسُّدِّيِّ أَنَّ هَذَا نَزَلَ فِي عَبْدِ اللهِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ أَخِي بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ أَسْلَمَ وَكَانَ يَكْتُبُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَكَانَ إِذَا أَمْلَى عَلَيْهِ " سَمِيعًا عَلِيمًا " كَتَبَ هُوَ " عَلِيمًا حَكِيمًا " وَالْعَكْسُ، فَشَكَّ وَكَفَرَ وَقَالَ: إِنْ كَانَ مُحَمَّدٌ يُوحَى إِلَيْهِ فَقَدْ أُوحِيَ إِلَيَّ، وَإِنْ كَانَ اللهُ يُنْزِلُهُ فَقَدْ أَنْزَلْتُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللهُ. وَهَذَا تَمْثِيلُ رِوَايَةِ السُّدِّيِّ لِمَا كَانَ يُغَيِّرُهُ مِنْ عِبَارَةِ الْوَحْيِ، وَعِبَارَةُ عِكْرِمَةَ أَنَّهُ كَانَ يُمْلِي عَلَيْهِ " عَزِيزٌ حَكِيمٌ " فَيَكْتُبُ " غَفُورٌ رَحِيمٌ " وَهَاتَانِ الرِّوَايَتَانِ بَاطِلَتَانِ ; فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنَ السُّوَرِ الْمَكِّيَّةِ " سَمِيعًا عَلِيمًا

" وَلَا " عَلِيمًا حَكِيمًا " وَلَا " عَزِيزٌ حَكِيمٌ " إِلَّا فِي سُورَةِ لُقْمَانَ، وَالْمَرْوِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهَا نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ الْأَنْعَامِ، وَأَنَّ الْآيَةَ الَّتِي خُتِمَتْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: " عَزِيزٌ حَكِيمٌ " مِنْهَا وَثِنْتَيْنِ بَعْدَهَا مَدَنِيَّاتٌ (كَمَا فِي الْإِتْقَانِ) وَذَكَرَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمْلَى عَلَيْهِ قَوْلَهُ سُبْحَانَهُ فِي سُورَةِ " الْمُؤْمِنُونَ ": (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ) 23: 12 - فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: (ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ) 14 عَجِبَ عَبْدُ اللهِ مِنْ تَفْصِيلِ خَلْقِ الْإِنْسَانِ فَقَالَ: (فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ) فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : " هَكَذَا أَنْزِلَتْ عَلَيَّ " فَشَكَّ حِينَئِذٍ وَقَالَ: لَئِنْ كَانَ مُحَمَّدٌ صَادِقًا لَقَدْ أُوحِيَ إِلَيَّ،

ص: 520

وَلَئِنْ كَانَ كَاذِبًا لَقَدْ قُلْتُ كَمَا قَالَ. وَلَمْ أَرَ هَذِهِ الرِّوَايَةَ فِي كُتُبِ التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ. وَيُقَالُ فِيهَا مِثْلُ مَا قِيلَ فِي الرِّوَايَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ مِنْ حَيْثُ التَّارِيخِ، فَالْمَرْوِيُّ أَنَّ الْأَنْعَامَ نَزَلَتْ قَبْلَ سُورَةِ " الْمُؤْمِنُونَ " وَأَنَّ بَيْنَهُمَا 18 سُورَةً مَكِّيَّةً، وَمَا قِيلَ مِنِ احْتِمَالِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ بِالْمَدِينَةِ لَا حَاجَةَ إِلَيْهِ وَالرِّوَايَةُ غَيْرُ صَحِيحَةٍ، وَلَكِنْ ذَكَرُوا فِي التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه قَالَ ذَلِكَ، فَكَانَ مِمَّا وَافَقَ فِيهِ خَاطِرُهُ الْقُرْآنَ، وَهُوَ جَائِزٌ إِنْ صَحَّتِ الرِّوَايَةُ، وَقَدْ يَكُونُ مِنَ الْكَشْفِ الَّذِي يُعَبِّرُ عَنْهُ عُلَمَاءُ النَّفْسِ الْيَوْمَ بِقِرَاءَةِ الْخَوَاطِرِ. وَرَوَوْا مِثْلَهُ أَيْضًا عَنْ مُعَاذٍ، وَإِنَّمَا أَسْلَمَ مُعَاذٌ فِي الْمَدِينَةِ بَعْدَ نُزُولِ السُّورَةِ. وَرُوِيَ أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ سَعْدٍ لَمَّا ارْتَدَّ كَانَ يَطْعَنُ فِي الْقُرْآنِ، وَلَعَلَّهُ قَالَ شَيْئًا مِمَّا ذُكِرَ فِي الرِّوَايَاتِ عَنْهُ كَذِبًا وَافْتِرَاءً ; فَإِنَّ السُّوَرَ الَّتِي نَزَلَتْ فِي عَهْدِ كِتَابَتِهِ لَمْ يَكُنْ فِيهَا شَيْءٌ مِمَّا رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ تَصَرَّفَ فِيهِ كَمَا عَلِمْتَ. وَقَدْ رَجَعَ إِلَى الْإِسْلَامِ قَبْلَ الْفَتْحِ، وَلَوْ تَصَرَّفَ فِي الْقُرْآنِ تَصَرُّفًا أَقَرَّهُ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَشَكَّ فِي الْوَحْيِ لِأَجْلِهِ لَمَا رَجَعَ إِلَى الْإِسْلَامِ.

ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى وَعِيدَ الظَّالِمِينَ الَّذِينَ يُعَدُّ مَنْ وُصِفُوا فِي الْآيَةِ أَشَدَّهُمْ ظُلْمًا وَأَفْحَشَهُمْ جُرْمًا فَقَالَ: (وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ) إِلَخْ. الْخِطَابُ لِلرَّسُولِ ثُمَّ لِكُلِّ مَنْ سَمِعَهُ أَوْ قَرَأَهُ، وَجَوَابُ " لَوْ " مَحْذُوفٌ لِلتَّهْوِيلِ، وَالْغَمَرَاتُ جَمْعُ غَمْرَةٍ. قِيلَ: هِيَ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ الْمَرَّةُ مِنْ غَمَرَهُ الْمَاءُ إِذَا غَطَّاهُ، ثُمَّ اسْتُعِيرَتْ لِلشِّدَّةِ وَعَلَيْهِ الشِّهَابُ، وَقَالَ الرَّاغِبُ: أَصْلُ الْغَمْرِ إِزَالَةُ أَثَرِ الشَّيْءِ وَمِنْهُ قِيلَ لِلْمَاءِ الْكَثِيرِ الَّذِي يُزِيلُ أَثَرَ سَيْلِهِ غَمْرٌ وَغَامِرٌ، وَالْغَمْرَةُ مُعْظَمُ الْمَاءِ السَّاتِرَةُ لِمَقَرِّهَا وَجُعِلَ مَثَلًا لِلْجَهَالَةِ الَّتِي تَغْمُرُ صَاحِبَهَا، وَقِيلَ: لِلشَّدَائِدِ غَمَرَاتٌ انْتَهَى مُلَخَّصًا. وَالْمَعْنَى لَوْ تُبْصِرُ أَوْ تَعْلَمُ إِذْ يَكُونُ الظَّالِمُونَ الَّذِينَ ذُكِرُوا فِي الْآيَةِ أَوْ جِنْسُ

الظَّالِمِينَ الشَّامِلُ لَهُمْ وَلِغَيْرِهِمْ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ، وَهِيَ سَكَرَاتُهُ وَمَا يَتَقَدَّمُهُ مِنْ شَدَائِدِ الْآلَامِ الْبَدَنِيَّةِ أَوِ النَّفْسِيَّةِ أَوْ مَجْمُوعِهِمَا الَّتِي تُحِيطُ بِهِمْ كَمَا تُحِيطُ غَمَرَاتُ الْمَاءِ بِالْغَرْقَى (وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ) إِلَيْهِمْ بِالْعَذَابِ يَوْمَ الْبَعْثِ، أَوْ بَاسِطُوهَا لِقَبْضِ أَرْوَاحِهِمُ الْخَبِيثَةِ بِالْعُنْفِ وَالضَّرْبِ، كَمَا قَالَ:(فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ) 47: 27 وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ. وَقَدِ اسْتُعْمِلَ بَسْطُ الْيَدِ بِمَعْنَى الْإِيذَاءِ الْمُطْلَقِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ) 5: 11 فَإِنَّ أَكْثَرَ الْإِيذَاءِ الْعَمَلِيِّ يَكُونُ بِمَدِ الْيَدِ، فَإِنْ أُرِيدَ إِيذَاءٌ مُعَيَّنٌ ذُكِرَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً فِي قِصَّةِ ابْنَيْ آدَمَ:(لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي) 5: 28 الْآيَةَ، وَقَوْلِهِ:(أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمْ) حِكَايَةً لِقَوْلِ الْمَلَائِكَةِ لَهُمْ عِنْدَ بَسْطِ أَيْدِيهِمْ لِتَعْذِيبِهِمْ أَوْ لِقَبْضِ أَرْوَاحِهِمْ، وَمَعْنَاهُ أَخْرِجُوهَا مِمَّا هِيَ فِيهِ أَيْ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ - فَهُوَ أَمْرُ تَوْبِيخٍ وَتَهَكُّمٍ، أَوْ أَخْرِجُوهَا مِنْ أَبْدَانِكُمْ، قَالَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ: إِنَّ هَذَا تَمْثِيلٌ لِفِعْلِ الْمَلَائِكَةِ فِي قَبْضِ أَرْوَاحِ الظَّلَمَةِ بِفِعْلِ الْغَرِيمِ الْمُلِحِّ

ص: 521

بِبَسْطِ يَدِهِ إِلَى مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ لِيُعَنِّفَهُ عَلَيْهِ فِي الْمُطَالَبَةِ وَلَا يُمْهِلُهُ وَيَقُولُ لَهُ: أَخْرِجْ مَا لِي عَلَيْكَ السَّاعَةَ وَلَا أَرِيمُ (أَيْ لَا أَبْرَحُ مَكَانِي حَتَّى أَنْزِعَهُ مِنْ أَحْدَاقِكَ) . وَوَافَقَهُ صَاحِبُ الْكَشْفِ فِي الْمَعْنَى وَلَكِنَّهُ جَعَلَ الْكَلَامَ كِنَايَةً عَنِ الْعُنْفِ فِي السِّيَاقِ، وَالْإِلْحَاحِ وَالتَّشْدِيدِ فِي الْإِرْهَاقِ، مِنْ غَيْرِ تَنْفِيسٍ وَلَا إِمْهَالٍ، وَأَنَّهُ لَيْسَ هُنَاكَ بَسْطُ يَدٍ وَلَا قَوْلُ لِسَانٍ. وَكُلٌّ مِنَ الْقَوْلَيْنِ جَائِزٌ لُغَةً لَا تَكَلُّفَ فِيهِ، وَكَانَ يَكُونُ مُتَعَيِّنًا لَوْ كَانَ صُدُورُ مَا ذُكِرَ عَنِ الْمَلَائِكَةِ مُتَعَذِّرًا، وَلَوْ كُشِفَ لِصَاحِبَيِ الْكَشَّافِ وَالْكَشْفِ الْحِجَابُ عَنْ تَمَثُّلِ الْمَلَائِكَةِ لِلْبَشَرِ بِمِثْلِ صُوَرِهِمْ وَمُخَاطَبَتِهِمْ بِمِثْلِ كَلَامِهِمْ، لَرَأَيَا أَنَّهُمَا فِي مَنْدُوحَةٍ عَنِ الْعُدُولِ عَنِ الْحَقِيقَةِ إِلَى التَّمْثِيلِ أَوِ الْكِنَايَةِ. وَقَدْ تَعَقَّبَ الْأَوَّلَ ابْنُ الْمُنِيرِ بِأَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ مُمْكِنَةٌ عَلَى الْحَقِيقَةِ فَلَا مَعْدُولَ عَنْهَا.

(الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ) هَذَا مِنْ قَوْلِ الْمَلَائِكَةِ أَوْ تَتِمَّتُهُ هُنَا. وَالْيَوْمَ فِي اللُّغَةِ الزَّمَنُ الْمَحْدُودُ بِصِفَةٍ أَوْ عَمَلٍ يَقَعُ فِيهِ كَأَيَّامِ الْأُسْبُوعِ وَأَيَّامِ الْعَرَبِ الْمَعْرُوفَةِ فِي تَحْدِيدِ وَقَائِعِهَا وَحُرُوبِهَا. وَالْمُرَادُ بِهِ يَوْمُ الْقِيَامَةِ الَّذِي يُبْعَثُ النَّاسُ فِيهِ لِلْحِسَابِ وَالْجَزَاءِ، وَقِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِهِ وَقْتُ الْمَوْتِ بِنَاءً عَلَى الْقَوْلَيْنِ السَّابِقَيْنِ

فِي بَسْطِ الْيَدِ، وَلَا يَصِحُّ الْقَوْلُ الْآخَرُ إِلَّا إِذَا صَحَّ جَعْلُ وَقْتِ الْمَوْتِ مَبْدَأَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُوَ خِلَافُ الظَّاهِرِ، وَالْمَعْنَى: الْيَوْمَ تَلْقَوْنَ عَذَابَ الذُّلِّ وَالْهَوَانِ. لَا ظُلْمًا مِنَ الرَّحْمَنِ، بَلْ جَزَاءَ ظُلْمِكُمْ لِأَنْفُسِكُمْ بِسَبَبِ مَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ مُفْتَرِينَ عَلَى اللهِ غَيْرَ الْحَقِّ كَقَوْلِ بَعْضِكُمْ: مَا أَنْزَلَ اللهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ، وَزَعْمِ بَعْضٍ آخَرَ أَنَّهُ أُوحِيَ إِلَيْهِ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ، وَجَحْدِ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ لِمَا وَصَفَ اللهُ تَعَالَى بِهِ نَفْسَهُ مِنَ الصِّفَاتِ، وَاتِّخَاذِ أَقْوَامٍ لَهُ الْبَنِينَ وَالْبَنَاتِ، وَاسْتِكْبَارِ آخَرِينَ عَمَّا نَصَّهُ وَأَنْزَلَهُ مِنَ الْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ، احْتِقَارًا مِنْ بَعْضِهِمْ لِمَنْ كَرَّمَهُ اللهُ بِإِظْهَارِهَا عَلَى يَدِهِ وَلِسَانِهِ، وَخَشْيَةِ بَعْضٍ آخَرَ مِنْ تَعْيِيرِ عُشَرَائِهِ وَأَقْرَانِهِ، وَحَاصِلُ الْمَعْنَى: وَلَوْ تَرَى أَيُّهَا الْمُخَاطَبُ بِهَذَا مَا يَحِلُّ بِالظَّالِمِينَ عِنْدَ الْمَوْتِ وَيَوْمَ الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ مِمَّا ذُكِرَ لَرَأَيْتَ أَمْرًا عَظِيمًا وَعَذَابًا أَلِيمًا.

(وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) هَذِهِ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى فِيهَا مَا يَقُولُهُ لِهَؤُلَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بَعْدَ بَيَانِ مَا تَقُولُهُ لَهُمْ مَلَائِكَةُ الْعَذَابِ كَمَا جَزَمَ ابْنُ جَرِيرٍ، لَا مَعْطُوفَةٌ عَلَى مَا قَبْلَهَا مِنْ حِكَايَةِ قَوْلِ الْمَلَائِكَةِ، كَمَا حَكَاهُ الرَّازِيُّ أَحَدَ وَجْهَيْنِ، وَزَعَمَ أَنَّهُ أَقْوَى، غَافِلًا عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى:(خَلَقْنَاكُمْ) وَلَا يُنَافِي هَذَا الْخِطَابُ قَوْلَهُ تَعَالَى: (وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) 2: 174 لِأَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ كَلَامَ تَكْرِيمٍ وَرِضًا،

ص: 522

أَوْ هُوَ كِنَايَةٌ عَنِ الْغَضَبِ وَالْإِعْرَاضِ، وَالْمَعْنَى: لَقَدْ جِئْتُمُونَا مُتَفَرِّقِينَ فَرْدًا بَعْدَ فَرْدٍ أَوْ وُحْدَانًا مُنْفَرِدِينَ عَنِ الْأَنْدَادِ وَالْأَوْثَانِ، وَالْأَهْلِ وَالْإِخْوَانِ، وَالْأَنْصَارِ وَالْأَعْوَانِ، مُجَرَّدِينَ مِنَ الْخَوَلِ وَالْخَدَمِ وَالْأَمْلَاكِ وَالْأَمْوَالِ، كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ حُفَاةً عُرَاةً غُلْفًا،

أَكَّدَ تَعَالَى الْخَبَرَ بِمَجِيئِهِمْ بَعْدَ ذِكْرِ وُقُوعِهِ تَذْكِيرًا لَهُمْ بِمَا كَانَ مِنْ جُحُودِهِمْ إِيَّاهُ أَوِ اسْتِبْعَادِهِمْ لِوُقُوعِهِ، كَمَا ذَكَّرَهُمْ بِمُشَابَهَةِ بَعْثِهِمْ وَإِعَادَتِهِمْ بِبَدْءِ خَلْقِهِمْ، وَهُوَ الْمَثَلُ الَّذِي جَاءَهُمْ بِهِ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم مِنْ رَبِّهِمْ (وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ) " أَعْطَيْنَاكُمْ، وَأَمَّا التَّخْوِيلُ إِعْطَاءُ الْخَوَلِ كَالْعَبِيدِ وَالنَّعَمِ، وَيُعَبَّرُ بِالتَّرْكِ وَرَاءَ الظَّهْرِ عَمَّا فَاتَ الْإِنْسَانَ التَّصَرُّفُ فِيهِ وَالِانْتِفَاعُ بِهِ، لِفَقْدِهِ إِيَّاهُ أَوْ بُعْدِهِ عَنْهُ، وَبِالتَّقْدِيمِ بَيْنَ الْأَيْدِي عَمَّا يُنْتَفَعُ بِهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، فَالْمُرَادُ هُنَا أَنَّ مَا كَانَ شَاغِلًا لَهُمْ مِنَ الْمَالِ وَالْوَلَدِ وَالْخَدَمِ وَالْحَشَمِ وَالْأَثَاثِ وَالرِّيَاشِ عَنِ الْإِيمَانِ بِالرُّسُلِ وَالِاهْتِدَاءِ بِمَا جَاءُوا بِهِ لَمْ يَنْفَعْهُمْ، كَمَا كَانُوا يَتَوَهَّمُونَ أَنَّ اللهَ فَضَّلَهُمْ بِهِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَأَنَّهُمْ يُمْكِنُهُمُ الِافْتِدَاءُ بِهِ أَوْ بِبَعْضِهِ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ، إِنْ صَحَّ قَوْلُ الرُّسُلِ: إِنَّ بَعْدَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا حِسَابًا وَجَزَاءً فِي حَيَاةٍ أُخْرَى، وَإِنَّمَا كَانَ يُمْكِنُهُمُ الِانْتِفَاعُ بِهِ لَوْ آمَنُوا بِالرُّسُلِ وَأَنْفَقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ. وَلَوْلَا أَنَّ هَذَا هُوَ الْمُرَادُ لَاسْتَغْنَى عَنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ بِمَا قَبْلَهَا. وَمِثْلُ هَذَا يُقَالُ فِي قَوْلِهِ:(وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ) فَإِنَّ الْأَدْيَانَ الْوَثَنِيَّةَ قَائِمَةٌ عَلَى قَاعِدَتِي الْفِدَاءِ وَالشَّفَاعَةِ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ مِرَارًا، أَيْ وَمَا نُبْصِرُ مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمْ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَخِيَارِ الْبَشَرِ وَغَيْرِهِمْ - أَوْ تَمَاثِيلِهِمْ وَقُبُورِهِمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فِي الدُّنْيَا أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لِلَّهِ تَعَالَى، تَدْعُونَهُمْ لِيَشْفَعُوا لَكُمْ عِنْدَ اللهِ وَيُقَرِّبُونَكُمْ إِلَيْهِ زُلْفَى، بِتَأْثِيرِهِمْ فِي إِرَادَتِهِ، وَحَمْلِهِمْ إِيَّاهُ عَلَى مَا لَمْ تَتَعَلَّقْ فِي الْأَزَلِ بِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ هَذِهِ الْعَقِيدَةِ الْوَثَنِيَّةِ وَالتَّفْرِقَةُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ أَحَادِيثِ الشَّفَاعَةِ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ السُّورَةِ وَغَيْرِهَا (لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمُ) الْبَيْنُ الصِّلَةُ أَوِ الْمَسَافَةُ الْحِسِّيَّةُ أَوِ الْمَعْنَوِيَّةُ الْمُمْتَدَّةُ بَيْنَ شَيْئَيْنِ أَوْ أَشْيَاءَ، فَيُضَافُ دَائِمًا إِلَى الْمُثَنَّى كَقَوْلِهِ تَعَالَى:(فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ) 49: 10 (فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ) 49: 9 أَوِ الْجَمْعِ لَفْظًا أَوْ مَعْنًى كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ) 4: 114 وَلَا يُضَافُ إِلَى الِاسْمِ الْمُفْرَدِ إِلَّا إِذَا كُرِّرَ نَحْوَ (هَذَا فَرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ) 18: 78 (وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ) 41: 5 وَيُسْتَعْمَلُ فِي الْغَالِبِ ظَرْفًا غَيْرَ مُتَمَكِّنٍ وَفِي الْقَلِيلِ اسْمًا، وَقَدْ قَرَأَهُ هَنَا عَاصِمٌ وَحَفْصٌ عَنْهُ وَالْكِسَائِيُّ بِفَتْحِ النُّونِ، أَيْ تَقَطَّعَ مَا كَانَ بَيْنَكُمْ مِنْ صِلَاتِ النَّسَبِ وَالْمُلْكِ وَالْوَلَاءِ وَالْخُلَّةِ، وَقَدَّرَ بَعْضُهُمْ تَقَطَّعَ الْوَصْلُ

ص: 523

بَيْنَكُمْ، وَقَرَأَهُ الْجُمْهُورُ بِالرَّفْعِ

عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ قَالُوا: أَيْ تَقْطَعُ وَصْلُكُمْ أَوْ تَوَاصُلُكُمْ (وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) أَيْ وَغَابَ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ مِنْ شَفَاعَةِ الشُّفَعَاءِ، وَتَقْرِيبِ الْأَوْلِيَاءِ، وَأَوْهَامِ الْفِدَاءِ، إِذْ عَلِمْتُمْ بُطْلَانَ غُرُورِكُمْ بِهِ وَاعْتِمَادِكُمْ عَلَيْهِ، أَوْ ضَلَّ عَنْكُمُ الشُّفَعَاءُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ يَشْفَعُونَ لَكُمْ، فَفِي الْكَلَامِ نَشْرٌ عَلَى تَرْتِيبِ اللَّفِّ، فَإِنَّ تَقَطُّعَ الْبَيْنِ رَاجِعٌ إِلَى تَرْكِ مَا خُوِّلُوا، وَفَقْدَ الشَّفَاعَةِ أَوِ الشُّفَعَاءِ رَاجِعٌ إِلَى مَا بَعْدَهُ. وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ أَنَّ آمَالَهُمْ خَابَتْ فِي كُلِّ مَا كَانُوا يَزْعُمُونَ وَيَتَوَهَّمُونَ، وَقَدْ سَبَقَ لِهَذَا نَظِيرٌ فِي الْآيَاتِ (20 - 24) مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ فَرَاجِعْ تَفْسِيرَهَا فِي هَذَا الْجُزْءِ.

(إِنَّ اللهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) .

هَذِهِ طَائِفَةٌ مِنْ آيَاتِ التَّنْزِيلِ، مُبَيِّنَةٌ وَمُفَصِّلَةٌ لِطَائِفَةٍ مِنْ آيَاتِ التَّكْوِينِ، تَدُلُّ أَوْضَحَ الدَّلَالَةِ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ اللهِ تَعَالَى وَقُدْرَتِهِ، وَعِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ، وَلُطْفِهِ وَرَحْمَتِهِ، جَاءَتْ

ص: 524

تَالِيَةً لِطَائِفَةٍ مِنَ الْآيَاتِ فِي أُصُولِ الْإِيمَانِ الثَّلَاثَةِ: التَّوْحِيدُ وَالْبَعْثُ وَالرِّسَالَةُ، فَهِيَ مَزِيدُ تَأْكِيدٍ فِي إِثْبَاتِهَا، وَكَمَالِ بَيَانٍ فِي مَعْرِفَةِ اللهِ تَعَالَى، بِمَا فِيهَا مِنْ بَيَانِ سَنَّنِهِ وَحِكَمِهِ فِي الْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ وَالْأَحْيَاءِ وَالْأَمْوَاتِ، وَتَقْدِيرِهِ وَتَدْبِيرِهِ لِأَمْرِ النَّيِّرَاتِ فِي السَّمَاوَاتِ، وَأَنْوَاعِ حُجَجِهِ وَدَلَائِلِهِ فِي أَنْوَاعِ النَّبَاتِ، قَالَ عز وجل:

(إِنَّ اللهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى) الْفَلْقُ وَالْفَرْقُ وَالْفَتْقُ جِنْسٌ وَاحِدٌ لِلشَّقِّ - وَنَحْوُهُ الْفَأْوُ وَالْفَأْيُ وَالْفَتُّ وَالْفَتْحُ وَالْفَجْرُ وَالْفَرْزُ وَالْفَرْسُ وَالْفَرْصُ وَالْفَرْضُ وَالْفَرْيُ وَالْفَصْلُ وَأَشْبَاهُهَا - وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ) 2: 50 مَعَ قَوْلِهِ فِيهِ: (فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ) 26: 63 وَمِنْ أَسْمَاءِ الصُّبْحِ الْفَلَقُ - بِالتَّحْرِيكِ - وَالْفَتَقُ - بِالْفَتْحِ - وَالْفَتِيقُ، وَقَوْلُ الرَّاغِبِ: الْفَلُّ شَقُّ الشَّيْءِ وَإِبَانَةُ بَعْضِهِ مِنْ بَعْضٍ، وَالْفَتْقُ الْفَصْلُ بَيْنَ الْمُتَّصِلَيْنِ غَيْرُ ظَاهِرٍ، بَلِ التَّنْزِيلُ يَدُلُّ عَلَى عَكْسِ قَوْلِهِ. إِنَّ الْفَتْقَ يُعْتَبَرُ فِيهِ الِانْشِقَاقُ وَالْفَلْقُ يُعْتَبَرُ فِيهِ الِانْفِصَالُ. وَفِيهِ أَنَّ مَوَادَّ الْفَلْقِ وَالْفَتْقِ وَالشَّقِّ وَالْفَطْرِ وَمُطَاوَعَتِهَا قَدِ اسْتُعْمِلَتْ فِي الْأَشْيَاءِ الْمَادِّيَّةِ فِي بَابِ الْخَلْقِ وَالتَّكْوِينِ وَمَا يُقَابِلُهُ مِنْ خَرَابِ الْعَالَمِ بِقِيَامِ الْقِيَامَةِ، وَأَنَّ الْفَرْقَ اسْتُعْمِلَ فِي الْأُمُورِ الْمَادِّيَّةِ وَالْمَعْنَوِيَّةِ جَمِيعًا، وَمِنَ الثَّانِي تَسْمِيَةُ الْقُرْآنِ فُرْقَانًا وَتَلْقِيبُ عَمَرَ بِالْفَارُوقِ ; فَإِنَّ الْمُرَادَ بِهِمَا الْفَرْقُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ. وَالْحَبُّ بِالْفَتْحِ اسْمُ جِنْسٍ لِلْحِنْطَةِ وَغَيْرِهَا مِمَّا يَكُونُ فِي السُّنْبُلِ وَالْأَكْمَامِ، وَالْجَمْعُ حُبُوبٌ مِثْلَ فَلْسٍ وَفُلُوسٍ وَالْوَاحِدَةُ حَبَّةٌ. وَالْحِبُّ بِالْكَسْرِ بِزْرُ مَا لَا يُقْتَاتُ مِثْلَ بُزُورِ الرَّيَاحِينِ الْوَاحِدَةُ حِبَّةٌ بِالْكَسْرِ. قَالَهُ فِي الْمِصْبَاحِ وَنَحْوِهِ فِي مُفْرَدَاتِ الرَّاغِبِ. وَالنَّوَى جَمْعُ نَوَاةٍ وَهِيَ عَجَمَةُ التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ وَغَيْرِهِمَا كَمَا فِي اللِّسَانِ، وَالْعَجَمَةُ بِالتَّحْرِيكِ مَا يَكُونُ فِي دَاخِلِ التَّمْرَةِ وَالزَّبِيبَةِ وَنَحْوِهَا، وَجَمْعُهَا عَجَمٌ وَقِيلَ: إِنَّ النَّوَى إِذَا أُطْلِقَ يَنْصَرِفُ إِلَى عَجَمِ التَّمْرِ، فَإِنْ أُرِيدَ غَيْرُهُ قُيِّدَ فَقِيلَ نَوَى الْخَوْخِ وَنَوَى الْمِشْمِشِ، وَلَعَلَّ هَذَا تَابِعٌ لِلْقَرِينَةِ، وَلَمْ أَرَ مَنْ قَالَ إِنَّهُ كَذَلِكَ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ.

وَالْمَعْنَى أَنَّ اللهَ هُوَ فَالِقُ مَا تَزْرَعُونَ مِنْ حَبِّ الْحَصِيدِ وَنَوَى الثَّمَرَاتِ، وَشَاقَّهُ بِقُدْرَتِهِ وَتَقْدِيرِهِ الَّذِي رَبَطَ بِهِ أَسْبَابَ الْإِنْبَاتِ بِمُسَبِّبَاتِهَا. وَمِنْهَا جَعْلُ الْحَبِّ وَالنَّوَى فِي التُّرَابِ وَإِرْوَاءُ التُّرَابِ بِالْمَاءِ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْفَلْقِ هُنَا الْخَلْقُ وَالْإِيجَادُ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ فِي بَيَانِ الْمُرَادِ، وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ:(يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ)

أَيْ يُخْرِجُ الزَّرْعَ مِنْ نَجْمٍ وَشَجَرٍ وَهُوَ حَيٌّ - أَيْ مُتَغَذٍّ نَامٍ - مِنَ الْمَيِّتِ، وَهُوَ مَا لَا يَتَغَذَّى وَلَا يُنَمَّى مِنَ التُّرَابِ، وَكَذَا الْحَبُّ وَالنَّوَى وَغَيْرُهُمَا مِنَ الْبُزُورِ كَمَا يَخْرُجُ الْحَيَوَانُ مِنَ الْبَيْضَةِ وَالنُّطْفَةِ. فَإِنْ قِيلَ: إِنْ عُلَمَاءَ الْمَوَالِيدِ يَزْعُمُونَ أَنَّ فِي كُلِّ أُصُولِ الْأَحْيَاءِ حَيَاةً، فَكُلُّ مَا يُنْبِتُ مِنْ ذَلِكَ ذُو حَيَاةٍ كَامِنَةٍ إِذَا عَقِمَ بِالصِّنَاعَةِ لَا يُنْبِتُ. قُلْنَا: إِنَّ هَذَا اصْطِلَاحٌ لَهُمْ، يُسَمُّونَ الْقُوَّةَ أَوِ الْخَاصِّيَّةَ

ص: 525

الَّتِي يَكُونُ بِهَا الْحَبُّ قَابِلًا لِلْإِنْبَاتِ حَيَاةً، وَلَكِنَّ هَذَا لَا يَصِحُّ فِي اللُّغَةِ إِلَّا بِضَرْبٍ مِنَ التَّجَوُّزِ، وَإِنَّمَا حَقِيقَةُ الْحَيَاةِ فِي اللُّغَةِ مَا يَكُونُ بِهِ الْجِسْمُ مُتَغَذِّيًا نَامِيًا بِالْفِعْلِ وَهَذَا أَدْنَى مَرَاتِبِ الْحَيَاةِ عِنْدَ الْعَرَبِ، وَلَهَا مَرَاتِبُ أُخْرَى كَالْإِحْسَاسِ وَالْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ وَالْعِلْمِ وَالْعَقْلِ وَالْحِكْمَةِ وَالنِّظَامِ، وَهَذِهِ أَعْلَى مَرَاتِبِ الْحَيَاةِ فِي الْمَخْلُوقِ، وَفَوْقَ ذَلِكَ حَيَاةُ الْخَالِقِ الَّتِي هِيَ مَصْدَرُ كُلِّ حَيَاةٍ وَحِكْمَةٍ وَنِظَامٍ فِي الْكَوْنِ. وَمَا قُلْنَا إِنَّهُ الْحَقِيقَةُ أَظْهَرُ مِنْ مُقَابَلَهِ، وَهُوَ جَعْلُ إِطْلَاقِ الْمَيِّتِ عَلَى الْحَبِّ وَالنَّوَى مِنْ مَجَازِ التَّشْبِيهِ، كَأَنَّهُ لَمَّا لَمْ تَظْهَرْ فِيهِ آيَاتُ حَيَاتِهِ الْكَامِنَةِ مِنَ النَّمَاءِ وَغَيْرِهِ سُمِّيَ مَيِّتًا ; فَإِنَّ وَاضِعِي اللُّغَةِ فِي طَوْرِ الْبَدَاوَةِ لَمْ يَكُونُوا يَعْلَمُونَ أَنَّ فِي الْحَبِّ وَالنَّوَى صِفَةً هِيَ مَصْدَرُ النَّمَاءِ قَدْ تَزُولُ فَلَا يَبْقَى قَابِلًا لِلْإِنْبَاتِ. وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ كُلًّا مِنَ الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ هُنَا مَجَازًا، وَيَرُدُّهُ مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى:(وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ) 21: 30 (وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ) كَالْحَبِّ وَالنَّوَى مِنَ النَّبَاتِ وَالْبَيْضَةِ وَالنُّطْفَةِ مِنَ الْحَيَوَانِ. وَهَذَا قِيلَ إِنَّهُ عَطْفٌ عَلَى " فَالِقِ الْحَبِّ " لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْكَلَامِ الْفَصِيحِ أَنْ يُعْطَفَ الِاسْمُ عَلَى الِاسْمِ، وَلِأَنَّ إِخْرَاجَ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ لَا يَدْخُلُ فِي بَيَانِ فَلْقِ الْحَبِّ وَالنَّوَى، وَقِيلَ إِنَّهُ عَطْفٌ عَلَى " يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ " سَوَاءٌ كَانَ بَيَانًا لِمَا قَبْلَهُ أَوْ خَبَرًا بَعْدَ خَبَرٍ، لِأَنَّ التَّنَاسُبَ بَيْنَ هَذَيْنَ الْأَمْرَيْنِ الْمُتَقَابِلَيْنِ أَقْوَى مِنَ التَّنَاسُبِ بَيْنَ الثَّانِي وَبَيْنَ فَلْقِ الْحَبِّ وَالنَّوَى ; وَلِذَلِكَ وَرَدَا بِصِيغَةِ الْفِعْلِ فِي سُورَتَيْ يُونُسَ وَالرُّومِ (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ) 10: 31، 30: 19 وَقَدْ حَسُنَ عَطْفُ اسْمِ الْفَاعِلِ بِمَعْنَى فِعْلِ الْمُضَارِعِ، فَإِنَّ مُخْرِجَ الشَّيْءِ هُوَ الَّذِي يُخْرِجُهُ فِي الْحَالِ أَوِ الِاسْتِقْبَالِ، وَلَكِنَّ هَذَا الْفِعْلَ يَدُلُّ أَيْضًا عَلَى التَّجَدُّدِ وَالِاسْتِمْرَارِ. وَقَدْ يُرَادُ بِوَضْعِهِ مَوْضِعَ اسْمِ الْفَاعِلِ أَوْ مَوْضِعِ الْفِعْلِ الْمَاضِي إِفَادَةُ تَجَدُّدِهِ وَاسْتِمْرَارِهِ، أَوْ تَصَوُّرِ حُدُوثِ مُتَعَلِّقِهِ وَاسْتِحْضَارِ صُورَتِهِ. مِثَالُ الْأَوَّلِ: الْمُقَابَلَةُ الَّتِي

أَوْرَدَهَا الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَاهِرِ فِي دَلَائِلِ الْإِعْجَازِ بَيْنَ قَوْلِهِ تَعَالَى: (هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ) 35: 3 وَقَوْلُهُ: (وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ) 18: 18 فَصِيغَةُ الْفِعْلِ فِي " يَرْزُقُكُمْ " تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَرْزُقُهُمْ حَالًا فَحَالَا وَسَاعَةً فَسَاعَةً، وَصِيغَةُ الِاسْمِ فِي بَاسِطٍ ذِرَاعَيْهِ تُفِيدُ الْبَقَاءَ عَلَى تِلْكَ الْحَالَةِ، وَمِثَالُ الثَّانِي قَوْلُهُ تَعَالَى:(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً) 22: 63 جَعَلَ " فَتُصْبِحُ " مَوْضِعَ " فَأَصْبَحَتْ " لِإِفَادَةِ اسْتِحْضَارِ تِلْكَ الْهَيْئَةِ الْجَمِيلَةِ وَتَمَثُّلِهَا كَأَنَّهَا حَاضِرَةٌ مُشَاهَدَةٌ، وَكُلٌّ مِنْ هَذَيْنَ الْمَعْنَيَيْنِ لِلْمُضَارِعِ قِيلَ بِأَنَّهُ مُرَادٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:(يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ) الْقَائِلُ بِالْأَوَّلِ هُوَ فَخْرُ الدِّينِ الرَّازِيُّ، وَالْقَائِلُ بِالْآخَرِ هُوَ ابْنُ الْمُنِيرِ فِي الِانْتِصَافِ عَلَى الْكَشَّافِ. وَقَالَ الرَّازِيُّ فِي تَعْلِيلِ اخْتِلَافِ التَّعْبِيرِ فِي الْمَعْنَى: إِنَّ الْعِنَايَةَ بِإِيجَادِ الْحَيِّ مِنَ الْمَيِّتِ أَكْثَرُ وَأَكْمَلُ مِنَ الْعِنَايَةِ بِإِخْرَاجِ

ص: 526

الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ. وَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: إِنَّ الْأَوَّلَ أَظْهَرُ فِي الْقُدْرَةِ مِنَ الثَّانِي وَأَنَّهُ أَوَّلُ الْحَالَيْنِ وَالنَّظَرُ أَوَّلُ مَا يُبْدَأُ بِهِ ; فَلِهَذَا كَانَ جَدِيرًا بِالتَّصَوُّرِ وَالتَّأْكِيدِ فِي النَّفْسِ وَبِالتَّقْدِيمِ انْتَهَى. وَذَهَبَ الْخَطِيبُ الْإِسْكَافِيُّ فِي " دُرَّةِ التَّنْزِيلِ " إِلَى جَعْلِ اخْتِلَافِ التَّعْبِيرِ لَفْظِيًّا مَحْضًا. وَمُلَخَّصُ كَلَامِهِ أَنَّ مُقْتَضَى السِّيَاقِ أَنْ يُقَالَ: " وَمُخْرِجُ الْحَيِّ مِنَ الْمَيِّتِ مُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ " لِمُنَاسَبَةِ " فَالِقِ الْحَبِّ " الَّتِي اجْتَمَعَ فِيهَا ثَلَاثَةٌ مِنْ حُرُوفِ الْعِلَّةِ عَدَلَ عَنْ " وَمُخْرِجُ " الْمُبْدَأِ بِحَرْفِ الْعِلَّةِ إِلَى " يُخْرِجُ " الَّتِي بِمَعْنَاهَا ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهَا " وَمُخْرِجُ " لِمُنَاسَبَةِ اسْمِ الْفَاعِلِ قَبْلَهُ وَبَعْدَهُ انْتَهَى. وَالْمُرَادُ أَنَّ " وَالنَّوَى " بُدِئَتْ بِالْوَاوِ الْمَفْتُوحَةِ وَخُتِمَتْ بِهَا، فَإِذَا عَطَفَ عَلَيْهَا " وَمُخْرِجُ " تَتَكَرَّرُ الْوَاوُ الْمَفْتُوحَةُ تَكْرَارًا مُسْتَثْقَلًا كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ.

وَنَقَلَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه أَنَّ مَعْنَى الْجُمْلَتَيْنِ: يُخْرِجُ الْمُؤْمِنَ مِنَ الْكَافِرِ وَالْكَافِرَ مِنَ الْمُؤْمِنِ. وَمِثْلُهُ إِخْرَاجُ الْبَارِّ مِنَ الْفَاجِرِ وَالصَّالِحِ مِنَ الطَّالِحِ وَالْعَالِمِ مِنَ الْجَاهِلِ، وَعَكْسِهِ بِحَمْلِ الْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ عَلَى الْمَعْنَوِيِّ مِنْهُمَا عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ تَعَالَى:(أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ) 122 وَلَكِنَّ هَذَا التَّفْسِيرَ لَا يُنَاسِبُ هَذَا السِّيَاقَ وَإِنَّمَا يُنَاسِبُ سِيَاقَ آيَتِي آلَ عِمْرَانَ " 3: 27 " وَيُونُسَ " 10: 31 " فَرَاجِعْ تَفْسِيرَ الْأُولَى فِي ص 226

ج 3 ط الْهَيْئَةِ.

(ذَلِكُمُ اللهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) أَيْ ذَلِكَ الْمُتَصَرِّفُ بِمَا ذَكَرَ مِنْ مُقْتَضَى الْقُدْرَةِ الْكَامِلَةِ وَالْحِكْمَةِ الْبَالِغَةِ هُوَ اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَكَيْفَ تُصْرَفُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَحْدَهُ، وَتُشْرِكُونَ بِهِ مَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى فَلْقِ نَوَاةٍ وَلَا حَبَّةٍ، وَلَا إِحْدَاثِ سُنْبُلَةٍ وَلَا نَخْلَةٍ؟ .

(فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا) جَمَعَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْمُنَزَّلَةِ بَيْنَ ثَلَاثَةِ آيَاتٍ سَمَاوِيَّةٍ، بَعْدَ الْجَمْعِ فِيمَا قَبْلَهَا بَيْنَ ثَلَاثِ آيَاتٍ أَرْضِيَّةٍ (فَالْآيَةُ الْأُولَى) فَلْقُ الْإِصْبَاحِ، وَالْمُرَادُ بِهِ الصُّبْحُ وَأَصْلُهُ مَصْدَرُ " أَصْبَحَ الرَّجُلُ " إِذَا دَخَلَ فِي وَقْتِ الصَّبَاحِ وَمِنَ الشَّوَاهِدِ عَلَيْهِ قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ:

أَلَا أَيُّهَا اللَّيْلُ الطَّوِيلُ أَلَا انْجَلِي

بِصُبْحٍ وَمَا الْإِصْبَاحُ مِنْكَ بِأَمْثَلِ.

وَقَرَأَ الْحَسَنُ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَأَنْشَدَ قَوْلَ الشَّاعِرِ:

أَفْنَى رِيَاحًا وَبَنِي رِيَاحِ

تَنَاسُخُ الْإِمْسَاءِ وَالْإِصْبَاحِ.

بِالْكَسْرِ وَالْفَتْحِ - مَصْدَرَيْنِ، وَجَمْعُ مَسَاءٍ وَصُبْحٍ، وَفَلْقُ الْإِصْبَاحِ عِبَارَةٌ عَنْ فَلْقِ ظُلْمَةِ اللَّيْلِ وَشَقِّهَا بِعَمُودِ الصُّبْحِ الَّذِي يَبْدُو فِي جِهَةِ مَطْلَعِ الشَّمْسِ مِنَ الْأُفُقِ مُسْتَطِيلًا، فَلَا يُعِيدُ بِهِ حَتَّى يَصِيرَ مُسْتَطِيرًا، تَتَفَرَّى الظُّلْمَةُ عَنْهُ مِنْ أَمَامِهِ وَعَنْ جَانِبَيْهِ إِلَى أَنْ تَنْقَشِعَ وَتَزُولَ ; وَلِذَلِكَ سُمِّيَ فَجْرًا فَإِنَّ الْفَجْرَ بِمَعْنَى الْفَلْقِ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا. وَاللهُ تَعَالَى هُوَ فَالِقُ الْإِصْبَاحِ بِنُورِ الشَّمْسِ

ص: 527

الَّذِي يَتَقَدَّمُهَا ; إِذْ هُوَ خَالِقُهَا وَمُقَدِّرُ مَوَاقِعِ الْأَرْضِ مِنْهَا فِي سَيْرِهَا، كَمَا نُبَيِّنُهُ فِي الْآيَةِ الثَّالِثَةِ مِنْ آيَاتِ هَذِهِ الْآيَةِ فَإِنَّهَا مُعَلِّلَةٌ لِلْآيَتَيْنِ قَبْلَهَا، وَالْمُرَادُ مِنَ التَّذْكِيرِ بِالْآيَةِ الْأَوْلَى التَّأَمُّلُ فِي صُنْعِ اللهِ بِفَرْيِ اللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ، عَنْ صُبْحِهِ إِذَا تَنَفَّسَ، وَإِفَاضَةِ النُّورِ الَّذِي هُوَ مَظْهَرُ جَمَالِ الْوُجُودِ، وَمَبْدَأُ زَمَنِ تَقَلُّبِ الْأَحْيَاءِ فِي الْقِيَامِ وَالْقُعُودِ، وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، وَمُضِيِّهِمْ فِي تَجَلِّي النَّهَارِ إِلَى مَا يُسِّرُوا لَهُ مِنَ الْأَعْمَالِ، وَمَا لِلَّهِ فِي ذَلِكَ مِنْ نِعَمٍ وَحِكَمٍ وَأَسْرَارٍ. وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ ذِكْرُ الْآيَةِ الثَّانِيَةِ بِفَائِدَتِهَا، وَهِيَ آيَةُ اللَّيْلِ يَجْعَلُهُ اللهُ سَكَنَا، فَهَذَا الْمَذْكُورُ يَدُلُّ عَلَى مُقَابَلَةِ الْمَحْذُوفِ، وَهُوَ جَعْلُ النَّهَارِ وَقْتًا لِلْحَرَكَةِ بِالسَّعْيِ لِلْمَعَاشِ، وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ لِلْمَعَادِ، وَقَدْ صَرَّحَ بِنَوْعَيِ الْفَائِدَتَيْنِ فِي آيَاتٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:(وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) 28: 73 فَهَذِهِ الْآيَةُ عَلَى إِيجَازِهَا جَامِعَةٌ لِلْفَوَائِدِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَالدِّينِيَّةِ، وَفِيهَا

اللَّفُّ وَالنَّشْرُ، أَيْ لِتَسْكُنُوا فِي اللَّيْلِ وَتَطْلُبُوا الرِّزْقَ مِنْ فَضْلِ اللهِ فِي النَّهَارِ، وَلِيُعِدَّكُمْ لِشُكْرِ نِعَمِهِ عَلَيْكُمْ بِهِمَا، وَبِمَنَافِعِكُمْ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا. وَمِنَ الْآيَاتِ الْمُصَرِّحَةِ بِذِكْرِهِمَا مَا قُرِنَ بِالتَّذْكِيرِ بِفَائِدَتِهِمَا الدُّنْيَوِيَّةِ فَقَطْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:(وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا) 78: 10، 11 وَمِنْهَا مَا قُرِنَ بِالتَّذْكِيرِ بِفَائِدَتِهِمَا الدِّينِيَّةِ فَقَطْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:(وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا) 25: 62 فَيَا لَلَّهِ مِنْ إِيجَازِ الْقُرْآنِ وَبَلَاغَتِهِ، فِي اخْتِلَافِ عِبَارَتِهِ! ! .

قَرَأَ عَاصِمٌ وَالْكِسَائِيُّ " وَجَعَلَ اللَّيْلَ " بِالْفِعْلِ الْمَاضِي، وَقَرَأَهُ الْجُمْهُورُ بِصِيغَةِ اسْمِ الْفَاعِلِ " وَجَاعِلُ " وَرَسْمُهُمَا فِي الْمُصْحَفِ الْإِمَامِ وَاحِدٌ، وَالْأُولَى تُقَوِّي جَانِبَ الْإِعْرَابِ ; فَإِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ الْمَعْطُوفَيْنِ عَلَى اللَّيْلِ مَنْصُوبَانِ بِإِجْمَاعِ الْقُرَّاءِ، وَلَا يَظْهَرُ نَصْبُهُمَا عَلَى الْقِرَاءَةِ الثَّانِيَةِ إِلَّا بِتَقْدِيرِ جَعَلَ، أَوْ جَعَلَ " جَاعِلُ " بِمَعْنَاهُ، وَهُوَ تَكَلُّفٌ يُجْتَنَبُ فِي الْفَصِيحِ. وَالثَّانِيَةُ تَنَاسِبُ السِّيَاقَ وَالنَّسَقَ بِعَطْفِ الِاسْمِ عَلَى الِاسْمِ وَهُوَ الْأَصْلُ الَّذِي لَا يُخْرَجُ عَنْهُ فِي الْفَصِيحِ إِلَّا لِنُكْتَةٍ. فَبِالْجَمْعِ بَيْنَ الْقِرَاءَتَيْنِ زَالَ التَّكَلُّفُ وَتَمَّ التَّنَاسُبُ، فَيَا لَلَّهِ مِنْ فَصَاحَةِ الْقُرْآنِ فِي عِبَارَتِهِ، وَاخْتِلَافِ قِرَاءَتِهِ! ! .

وَالسَّكَنُ - بِالتَّحْرِيكِ - السُّكُونُ وَمَا يُسْكَنُ فِيهِ مِنْ مَكَانٍ كَالْبَيْتِ وَزَمَانٍ كَاللَّيْلِ، وَكَذَا مَا يُسْكَنُ إِلَيْهِ، وَهُوَ مَا اخْتَارَهُ الْكَشَّافُ هُنَا قَالَ: السَّكَنُ مَا يَسْكُنُ إِلَيْهِ الرَّجُلُ أَيْ وَغَيْرُهُ وَيَطْمَئِنُّ اسْتِئْنَاسًا بِهِ وَاسْتِرْوَاحًا إِلَيْهِ مِنْ زَوْجٍ أَوْ حَبِيبٍ، وَمِنْهُ قِيلَ لِلنَّارِ سَكَنٌ لِأَنَّهُ يُسْتَأْنَسُ بِهَا، أَلَا تَرَاهُمْ سُمَّوْهَا الْمُؤْنِسَةَ، وَاللَّيْلُ يَطْمَئِنُّ إِلَيْهِ الْمُتْعَبُ بِالنَّهَارِ لِاسْتِرَاحَتِهِ فِيهِ وَجِمَامِهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ وَجَعَلَ اللَّيْلَ مَسْكُونًا فِيهِ مِنْ قَوْلِهِ:(لِتَسْكُنُوا فِيهِ) انْتَهَى. وَهَذَا الْأَخِيرُ الْمَرْجُوحُ عِنْدَهُ هُوَ الرَّاجِحُ الْمُخْتَارُ عِنْدَنَا إِلَّا أَنَّهُ يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا، وَدَلِيلُ التَّرْجِيحِ نَصُّ (لِتَسْكُنُوا فِيهِ) وَكَوْنُ الْمَسْكُونِ فِيهِ أَعَمُّ وَأَظْهَرُ مِنَ الْمَسْكُونِ إِلَيْهِ ; فَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ يَسْتَوْحِشُونَ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَأْنَسُونَ بِهِ، وَإِنْ كَانَ لَهُ عَلَى آخَرِينَ أَيَادٍ جَلِيَّةٌ أَوْ خَفِيَّةٌ،

ص: 528

تَنْقُضُ مَذْهَبَ الْمَانَوِيَّةِ، فَيَسْتَطِيلُهُ الْمَرْضَى وَالْمَهْمُومُونَ وَالْمَهْجُورُونَ، وَيَسْتَقْصِرُهُ الْعَابِدُونَ الْوَاصِلُونَ، وَالْعَاشِقُونَ الْمَوْصُولُونَ، فَذَلِكَ يَقُولُ مَا أَطْوَلَهُ وَيَطْلُبُ انْجِلَاءَهُ، وَهَذَا يَقُولُ مَا أَقْصَرَهُ وَيَتَمَنَّى بَقَاءَهُ:

يَوَدُّ أَنَّ سَوَادَ اللَّيْلِ دَامَ لَهُ

وَزِيدَ فِيهِ سَوَادُ الْقَلْبِ وَالْبَصَرِ.

وَالْمُرَادُ بِالسُّكُونِ فِيهِ مَا يَعُمُّ سُكُونَ الْجِسْمِ وَسُكُونَ النَّفْسِ. أَمَّا سُكُونُ الْجِسْمِ فَبِرَاحَتِهِ مِنْ تَعَبِ الْعَمَلِ بِالنَّهَارِ، وَأَمَّا سُكُونُ النَّفْسِ فَبِهُدُوءِ الْخَوَاطِرِ وَالْأَفْكَارِ، وَاللَّيْلُ زَمَنُ السُّكُونِ لِأَنَّهُ لَا يَتَيَسَّرُ فِيهِ مِنَ الْحَرَكَةِ وَأَنْوَاعِ الْأَعْمَالِ مَا يَتَيَسَّرُ فِي النَّهَارِ، لِمَا خُصَّ بِهِ الْأَوَّلُ مِنَ الْإِظْلَامِ وَالثَّانِي مِنَ الْإِبْصَارِ (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابِ) 17: 12 فَأَكْثَرُ الْأَحْيَاءِ مِنْ إِنْسَانٍ وَحَيَوَانٍ تَتْرُكُ الْعَمَلَ وَالسَّعْيَ فِي اللَّيْلِ وَتَأْوِي إِلَى مَسَاكِنِهَا ; لِلرَّاحَةِ الَّتِي لَا تَتِمُّ وَتَكْمُلُ إِلَّا بِالنَّوْمِ الَّذِي تَسْكُنُ بِهِ الْجَوَارِحُ وَالْخَوَاطِرُ بِبُطْلَانِ حَرَكَتِهَا الْإِرَادِيَّةِ، كَمَا تَسْكُنُ بِهِ الْأَعْضَاءُ الرَّئِيسِيَّةُ سُكُونًا نِسْبِيًّا بِقِلَّةِ حَرَكَتِهَا الطَّبِيعِيَّةِ، فَتَقِلُّ نَبَضَاتُ الْقَلْبِ بِوُقُوفِهَا بَيْنَ كُلِّ نَبْضَتَيْنِ، وَيَقِلُّ إِفْرَازُ خَلَايَا الْجِسْمِ لِلسَّوَائِلِ وَالْعُصَارَاتِ الَّتِي تُفْرِزُهَا، وَيُبْطِئُ التَّنَفُّسُ وَيَقِلُّ ضَغْطُ الدَّمِ فِي الشَّرَايِينِ، وَلَا سِيَّمَا فِي أَوَّلِ النَّوْمِ إِذْ تَكُونُ الْحَاجَةُ إِلَى الرَّاحَةِ بِهِ عَلَى أَشُدِّهَا، وَيَضْعُفُ الشُّعُورُ حَتَّى يَكَادَ يَكُونُ مَفْقُودًا، فَيَسْتَرِيحُ الْجِهَازُ الْعَصَبِيُّ وَلَا سِيَّمَا الدِّمَاغُ وَالْحَبْلُ الشَّوْكِيُّ، وَتَسْتَرِيحُ جَمِيعُ الْأَعْضَاءِ بِاسْتِرَاحَتِهِ، وَنَقْلُ الْفَضَلَاتِ الَّتِي تَنْحَلُّ مِنَ الْبَدَنِ وَتَكْثُرُ الدَّقَائِقُ الَّتِي تَتَكَوَّنُ مِنَ الدَّمِ لِتَحِلَّ مَحَلَّهَا. وَإِنَّمَا تَكْثُرُ الْفَضَلَاتُ وَانْحِلَالُ الذَّرَّاتِ بِكَثْرَةِ الْعَمَلِ، فَالْعَمَلُ الْعَقْلِيُّ يُجْهِدُ الدِّمَاغَ، وَالْعَضَلِيُّ يُجْهِدُ الْأَعْضَاءَ الْعَامِلَةَ، فَتَزْدَادُ الْحَرَارَةُ وَيَكْثُرُ الِاحْتِرَاقُ بِحَسَبِ كَثْرَةِ الْعَمَلِ وَتَكُونُ الْحَاجَةُ إِلَى الرَّاحَةِ بِالنَّوْمِ بِقَدْرِ ذَلِكَ، وَقَدْ عُلِّلَ النَّوْمُ تَعْلِيلَاتٍ كَثِيرَةً، وَلَمَّا يَصِلِ الْعُلَمَاءُ إِلَى كَشْفِ سِرِّهِ وَاسْتِجْلَاءِ كُنْهِ سَبَبِهِ.

وَأَمَّا الْآيَةُ الثَّالِثَةُ الْكَوْنِيَّةُ فِي الْآيَةِ فَهِيَ جَعْلُ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ حُسْبَانًا أَيْ عَلَمَيْ حِسَابٍ، لِأَنَّ طُلُوعَهُمَا وَغُرُوبَهُمَا وَمَا يَظْهَرُ مِنْ تَحَوُّلَاتِهِمَا وَاخْتِلَافِ مَظَاهِرِهِمَا كُلُّ ذَلِكَ بِحِسَابٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى:(الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ) 55: 5 فَمَا هُنَا بِمَعْنَى آيَةِ الْإِسْرَاءِ (17: 12) الَّتِي ذَكَرْتُ آنِفًا وَآيَةِ يُونُسَ (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ) 10: 5 فَالْحِسَابُ بِالْكَسْرِ وَالْحُسْبَانُ بِالضَّمِّ مَصْدَرَانِ لِحَسَبَ يَحْسُبُ (مِنْ بَابِ نَصَرَ) وَهُوَ اسْتِعْمَالُ الْعَدَدِ فِي الْأَشْيَاءِ وَالْأَوْقَاتِ، وَأَمَّا الْحِسْبَانُ بِالْكَسْرِ فَهُوَ مَصْدَرُ حَسِبَ (بِوَزْنِ عَلِمَ) وَفَضْلُ اللهِ تَعَالَى فِي ذَلِكَ عَظِيمٌ ; فَإِنَّ حَاجَةَ النَّاسِ إِلَى مَعْرِفَةِ حِسَابِ الْأَوْقَاتِ لِعِبَادَاتِهِمْ وَمُعَامَلَاتِهِمْ وَتَوَارِيخِهِمْ لَا تَخْفَى عَلَى أَحَدٍ

مِنْهُمْ فِي جُمْلَتِهَا، وَعِنْدَ خَوَاصِّ الْعُلَمَاءِ مِنْ ذَلِكَ مَا لَيْسَ عِنْدَ غَيْرِهِمْ، وَعُلَمَاءُ الْفَلَكِ وَالتَّقَاوِيمِ مُتَّفِقُونَ فِي هَذَا الْعَصْرِ

ص: 529

عَلَى أَنَّ لِلْأَرْضِ حَرَكَتَيْنِ، حَرَكَةٌ تَتِمُّ فِي 24 سَاعَةً وَهِيَ مَدَارُ حِسَابِ الْأَيَّامِ، وَحَرَكَةٌ تَتِمُّ فِي سَنَةٍ وَبِهَا يَكُونُ اخْتِلَافُ الْفُصُولِ وَعَلَيْهَا مَدَارُ حِسَابِ السِّنِينَ الشَّمْسِيَّةِ، وَلَعَلَّنَا نَشْرَحُ هَذَا فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ يُونُسَ وَغَيْرِهَا.

(ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) أَيْ ذَلِكَ الْجَعْلُ الْعَالِي الشَّأْنِ، الْبَعِيدُ الْمَدَى فِي الْإِبْدَاعِ وَالْإِتْقَانِ، فَوْقَ بُعْدِ النَّيِّرَاتِ عَنِ الْإِنْسَانِ، التَّرَتُّبُ عَلَى مَا ذَكَرَ مِنْ سَبَبِ اخْتِلَافِ الْأَيَّامِ وَالْفُصُولِ وَتَقْدِيرِ السُّنَنِ الشَّمْسِيَّةِ، وَمِنْ تَشُكُّلَاتِ الْقَمَرِ الَّتِي نَعْرِفُ بِهَا الشُّهُورَ الْقَمَرِيَّةَ، هُوَ تَقْدِيرُ الْخَالِقِ الْغَالِبِ عَلَى أَمْرِهِ فِي تَنْظِيمِ مُلْكِهِ، الَّذِي وَضَعَ الْمَقَادِيرَ وَالْأَنْظِمَةَ الْفَلَكِيَّةَ وَغَيْرَهَا بِمَا اقْتَضَاهُ وَاسِعُ عِلْمِهِ، فَهَذَا النِّظَامُ وَالْإِبْدَاعُ مِنْ آثَارِ عِزَّتِهِ وَعِلْمِهِ عز وجل، فَلَيْسَ فِي مِلْكِهِ جُزَافٌ وَلَا خَلَلٌ (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ) 54:49.

(وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) هَذَا نَوْعٌ آخَرُ مِنْ آيَاتِ التَّكْوِينِ الْعُلْوِيَّةِ مَقْرُونٌ بِفَائِدَتِهِ فِي تَعْلِيلِ جَعْلِهِ، وَالْمُرَادُ بِالنُّجُومِ مَا عَدَا الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ مِنْ نَيِّرَاتِ السَّمَاءِ لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْمُتَبَادِرُ مِنَ السِّيَاقِ وَالْمَعْهُودُ فِي الِاهْتِدَاءِ، ذَكَّرَنَا تَعَالَى بِبَعْضِ فَضْلِهِ فِي تَسْخِيرِ هَذِهِ النَّيِّرَاتِ الَّتِي تُرَى صَغِيرَةً بَعْدَ التَّذْكِيرِ بِبَعْضِ فَضْلِهِ فِي النَّيِّرَيْنِ الْأَكْبَرَيْنِ فِي أَعْيُنِ النَّاسِ، وَقِيلَ: إِنَّهُمَا يَدْخُلَانِ فِي عُمُومِ النُّجُومِ لِأَنَّ الْقَمَرَ مِمَّا يُهْتَدَى بِهِ فِي الظُّلُمَاتِ، فَإِذَا اسْتَثْنَيْتَ بَعْضَ لَيَالِي الشَّهْرِ قُلْنَا: وَأَيُّ نَجْمٍ يُهْتَدَى بِهِ فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ؟ وَكَانَتِ الْعَرَبُ فِي بَدَاوَتِهَا تُؤَقِّتُ بِطُلُوعِ النَّجْمِ لِأَنَّهُمْ مَا كَانُوا يَعْرِفُونَ الْحِسَابَ، وَإِنَّمَا يَحْفَظُونَ أَوْقَاتَ السَّنَةِ بِالْأَنْوَاءِ، وَهِيَ نُجُومُ الْقَمَرِ فِي مَطَالِعِهَا وَمَغَارِبِهَا - وَسَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ فِي مَوْضُوعٍ آخَرَ - وَقَدْ سَمَّوُا الْوَقْتَ الَّذِي يَجِبُ الْأَدَاءُ فِيهِ " نَجْمًا " تَجُوُّزًا ; لِأَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ لَا يُعْرَفُ إِلَّا بِهِ، ثُمَّ سَمَّوُا الْمَالَ الَّذِي يُؤَدَّى نَجْمًا وَقَالُوا: نَجَّمَهُ إِذَا جَعَلَهُ أَقْسَاطًا. وَفِي الظُّلُمَاتِ هُنَا وَجْهَانِ ظُلُمَاتُ اللَّيْلِ بِالْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَأَضَافَهُمَا إِلَيْهَا لِمُلَابَسَتِهَا لَهُمَا، أَوْ مُشْتَبِهَاتِ الطُّرُقِ شَبَّهَهَا بِالظُّلُمَاتِ قَالَهُ فِي الْكَشَّافِ. وَكَانَ اهْتِدَاؤُهُمْ بِالنُّجُومِ قِسْمَانِ أَحَدُهُمَا مَعْرِفَةُ الْوَقْتِ مِنَ اللَّيْلِ أَوْ مِنَ السَّنَةِ، وَالثَّانِي مَعْرِفَةُ الْمَسَالِكِ وَالطُّرُقِ وَالْجِهَاتِ. وَقَدْ سَبَقَ ذِكْرُ الظُّلُمَاتِ وَبَيَانِ أَنْوَاعِهَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ " 63 " مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ.

وَهَاهُنَا يَذْكُرُ الْمُفَسِّرُونَ النَّهْيَ عَنْ عِلْمِ النُّجُومِ الَّذِي يَزْعُمُ أَهْلُهُ أَنَّهُمْ يَعْرِفُونَ بِهِ

مَا سَيَكُونُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ مِنَ الْأَحْدَاثِ قَبْلَ حُدُوثِهَا. وَمِنْهُمْ مَنْ بَالَغَ فَأَطْلَقَ النَّهْيَ عَنْ عِلْمِ النُّجُومِ إِلَّا الْقَدْرَ الَّذِي يُهْتَدَى بِهِ فِي الظُّلُمَاتِ وَيُعْرَفُ بِهِ الْحِسَابُ، وَيَحْصُلُ بِهِ الِاعْتِبَارُ بِزِينَةِ السَّمَاءِ ; لِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ هِيَ الَّتِي هَدَى إِلَيْهَا الْكِتَابُ. وَالصَّوَابُ أَنَّ الْمَذْمُومَ هُوَ تِلْكَ الْأَوْهَامُ الَّتِي يَزْعُمُونَ مَعْرِفَةَ الْغَيْبِ بِهَا دُونَ عِلْمِ الْهَيْئَةِ الْفَلَكِيَّةِ الَّذِي يُعْرَفُ بِهِ مِنْ آيَاتِ قُدْرَةِ اللهِ وَعِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ مَا لَا يُعْرَفُ مِنْ عِلْمٍ آخَرَ، وَقَدِ اتَّسَعَ هَذَا الْعِلْمُ فِي عَصْرِنَا هَذَا بِمَا اسْتَحْدَثَ أَهْلُهُ مِنَ الْمَرَاصِدِ

ص: 530

الْمُقَرِّبَةِ لِلْأَبْعَادِ، وَالْآلَاتِ الْمُحَلِّلَةِ لِلنُّورِ الَّتِي يُعْرَفُ بِهَا سُرْعَةُ سِيَرِهِ، وَأَبْعَادُ الْأَجْرَامِ السَّمَاوِيَّةِ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ، وَمِسَاحَةُ الْكَوَاكِبِ وَكَثَافَتُهَا وَالْمَوَادُّ الْمُؤَلَّفَةُ مِنْهَا. وَإِنَّنَا نَقْتَبِسُ مِمَّا نُقِلَ عَنْ عُلَمَاءِ الْهَيْئَةِ كَلِمَةً فِي أَبْعَادِ بَعْضِ النُّجُومِ الثَّوَابِتِ الَّتِي هِيَ شُمُوسٌ مِنْ جِنْسِ شَمْسِنَا لِيُعْلَمَ بِهَا قَدْرُ عِلْمِ رَبِّنَا وَسِعَةِ مُلْكِهِ.

" النُّجُومُ تُعَدُّ بِالْمَلَايِينِ، لَكِنَّ عُلَمَاءَ الْفَلَكِ لَمْ يَتَمَكَّنُوا حَتَّى الْآنَ إِلَّا مِنْ مَعْرِفَةِ إِبْعَادِ بَعْضِ الْمِئَاتِ مِنْهَا ; لِأَنَّ سَائِرَهَا أَبْعَدُ مِنْ أَنْ يُرَى اخْتِلَافٌ فِي مَوَاقِعِهِ، وَالَّذِي عُرِفَ بُعْدُهُ مِنْهَا جَرَتِ الْعَادَةُ أَلَّا يُحْسَبَ بُعْدُهُ بِالْأَمْيَالِ، بَلْ بِالْمَسَافَةِ الَّتِي يَقْطَعُهَا النُّورُ فِي سَنَةٍ مِنَ الزَّمَانِ، فَإِنَّ النُّورَ يَسِيرُ 86000 مِيلٍ فِي الثَّانِيَةِ فَيَقْطَعُ فِي الدَّقِيقَةِ 5160000 مِيلٍ، وَفِي السَّنَةِ نَحْوَ 6000000000000 مِيلٍ، وَقَدْ وُجِدَ بِالرَّصْدِ أَنَّ أَقْرَبَ النُّجُومِ مِنَّا لَا يَصِلُ نُورُهُ إِلَيْنَا إِلَّا فِي أَرْبَعِ سَنَوَاتٍ وَنَحْوِ نِصْفِ سَنَةٍ، فَيُقَالُ إِنَّ بُعْدَهُ عَنَّا أَرْبَعُ سَنَوَاتٍ وَنِصْفُ سَنَةٍ نُورِيَّةٍ. وَمِنَ النُّجُومِ مَا لَا يَصِلُ النُّورُ مِنْهُ إِلَيْنَا إِلَّا فِي أَلْفِ سَنَةٍ أَوْ أَكْثَرَ، فَالنَّجْمُ الْمُسَمَّى النَّسْرُ الْوَاقِعُ يَصِلُ النُّورُ مِنْهُ إِلَيْنَا فِي نَحْوِ ثَلَاثِينَ سَنَةً لِأَنَّ بُعْدَهُ عَنَّا نَحْوُ 180000000000000، وَالنَّجْمُ الْمُسَمَّى بِالسِّمَاكِ الرَّامِحِ يَصِلُ النُّورُ مِنْهُ إِلَيْنَا فِي نَحْوِ خَمْسِينَ سَنَةً لِأَنَّ بُعْدَهُ عَنَّا 300000000000000 وَأَمَّا الشِّعْرَى الْعَبُورُ وَهُوَ أَسَطَعُ النُّجُومِ نُورًا فَبُعْدُهَا عَنَّا نَحْوُ تِسْعِ سَنَوَاتٍ نُورِيَّةٍ، وَالْعَيُوقُ بُعْدَهُ عَنَّا نَحْوُ 32 سَنَةً نُورِيَّةً.

وَأَوَّلُ مَنْ قَاسَ أَبْعَادَ النُّجُومِ بِالضَّبْطِ الْفَلَكِيُّ (سْتُرُوفُ) فَإِنَّهُ قَاسَ بُعْدَ " النَّسْرِ الْوَاقِعِ مِنْ (سَنَةِ 1835 إِلَى سَنَةِ 1838 مِيلَادِيَّةَ) فَجَاءَتْ نَتِيجَةُ قِيَاسِهِ مُطَابِقَةً لِنَتِيجَةِ الْقِيَاسَاتِ الْحَدِيثَةِ مَعَ أَنَّ الْفَلَكِيِّينَ يَسْتَخْدِمُونَ الْآنَ مِنَ الْوَسَائِلِ مَا لَمْ يَكُنْ مَعْرُوفًا فِي عَصْرِهِ " اهـ.

وَلَعَلَّ كَثْرَةَ الْآيَاتِ فِي عَالَمِ السَّمَاءِ هِيَ نُكْتَةُ تَذْيِيلِ الْآيَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) سَوَاءٌ أُرِيدَ بِهَا آيَاتُ التَّنْزِيلِ أَوْ آيَاتُ التَّكْوِينِ. فَإِنْ أُرِيدَ بِهَا الْمَعْنَى الْأَوَّلُ فَوَجْهُهُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ وَمَا قَبْلَهَا وَمَا فِي مَعْنَاهُمَا مِنَ الْآيَاتِ الْمُنَزَّلَةِ فِي الْحَثِّ عَلَى النَّظَرِ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاءِ كُلِّهِ تَفْصِيلٌ مُبَيِّنٌ لِطُرُقِ النَّظَرِ وَالْبَحْثِ فِي الْعَالَمِ السَّمَاوِيِّ لِلَّذِينِ يَعْلَمُونَ بِالْفِعْلِ أَوْ بِالْقُوَّةِ وَالِاسْتِعْدَادِ شَيْئًا مِنْ حُكْمِ اللهِ تَعَالَى وَعَجَائِبِ صُنْعِهِ فِيهِ، فَيَزْدَادُونَ بِهَذَا التَّفْصِيلِ بَحْثًا وَعِلْمًا، فَيَكُونُ عِلْمُهُمْ نَامِيًا مُسْتَمِرًّا. وَإِنْ أُرِيدَ الثَّانِي فَوَجْهُهُ أَظْهَرُ، وَهُوَ أَنَّ الْآيَاتِ الدَّالَّةَ عَلَى عِلْمِ اللهِ تَعَالَى وَحَكَمَتِهِ وَفَضْلِهِ عَلَى خَلْقِهِ، لَا يَسْتَخْرِجُهَا مِنَ النَّظَرِ فِي النُّجُومِ إِلَّا الَّذِينَ يَعْلَمُونَ، أَيْ أَهْلُ الْعِلْمِ بِهَذَا الشَّأْنِ، الَّذِينَ يَقْرِنُونَ الْعِلْمَ بِالِاعْتِبَارِ، وَلَا يَرْضَوْنَ بِأَنْ يَكُونَ مُنْتَهَى الْحَظِّ، مَا تَمَتَّعَ بِهِ اللَّحْظُ، وَلَا غَايَةَ النَّظَرِ وَالْحِسَابِ، أَنَّ يُقَالَ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ.

وَمِنَ الِاعْتِبَارِ قَوْلُ صَاحِبِ الْمُقْتَطَفِ بَعْدَ مَقَالَاتٍ لَخَّصَ فِيهَا بَعْضَ " بِسَائِطِ عِلْمِ الْفَلَكِ " -

ص: 531

وَمِنْهَا الْكَلِمَةُ الْمَذْكُورَةُ آنِفًا - فَإِنَّهُ قَالَ لَمَّا انْتَهَى مِنَ الْكَلَامِ عَلَى النِّظَامِ الشَّمْسِيِّ وَرَجَّحَ أَنَّهُ لَا يَصْلُحُ شَيْءٌ مِنْ سَيَّارَاتِهِ لِحَيَاةِ الْبَشَرِ غَيْرُ الْأَرْضِ، وَأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ سَيَّارَاتُ سَائِرِ الشُّمُوسِ كَذَلِكَ، وَكُلُّهَا أَكْبَرُ مِنْ هَذِهِ الشَّمْسِ، قَالَ:" وَالْإِنْسَانُ أَوْسَعُ هَذِهِ الْمَخْلُوقَاتِ إِدْرَاكًا، وَهُوَ عَلَى سَعَةِ إِدْرَاكِهِ لَا يَعْلَمُ تَرْكِيبَ جِسْمِ النَّمْلَةِ، وَلَا كَيْفِيَّةَ تَجَمُّعِ الدَّقَائِقِ فِي حَبَّةِ الرَّمْلِ، عِلْمٌ وَاسِعٌ وَجَهْلٌ مُطْبِقٌ. وَكِلَاهُمَا نَاطِقٌ بِأَنَّ مُبْدِعَ هَذَا الْكَوْنِ أَعْظَمُ وَأَعْلَمُ وَأَحْكَمُ مِنْ كُلِّ مَا يَتَصَوَّرُ عَقْلُ الْإِنْسَانِ؟ ".

(وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ) بَعْدَ أَنْ ذَكَّرَنَا اللهُ تَعَالَى بِبَعْضِ آيَاتِهِ الْكَوْنِيَّةِ فِي الْأَرْضِ وَفِي السَّمَاءِ ذَكَّرَنَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِبَعْضِ آيَاتِهِ فِي أَنْفُسِنَا. الْإِنْشَاءُ إِيجَادُ الشَّيْءِ وَتَرْبِيَتُهُ أَوْ إِحْدَاثُهُ بِالتَّدْرِيجِ. وَقَدِ اسْتُعْمِلَ فِي التَّنْزِيلِ فِي خَلْقِ الْإِنْسَانِ بِجُمْلَتِهِ وَخَلْقِ أَعْضَائِهِ وَمَشَاعِرِهِ، وَإِيجَادِ الْأَقْوَامِ وَالْقُرُونِ مِنْ أُمَمٍ بَعْضِهَا فِي إِثْرِ بَعْضٍ، وَفِي الْبَعْثِ، وَفِي خَلْقِ الشَّجَرِ وَالْجَنَّاتِ، وَفِي إِحْدَاثِ السَّحَابِ. قَالَ فِي حَقِيقَةِ الْأَسَاسِ: وَأَنْشَأَ حَدِيثًا وَشِعْرًا وَعِمَارَةً انْتَهَى. وَالنَّفْسُ مَا يَحْيَا بِهِ الْإِنْسَانُ وَذَاتُهُ فَيُطْلَقُ عَلَى الرُّوحِ وَعَلَى الْمَرْءِ الْمُرَكَّبِ مِنْ رُوحٍ وَبَدَنٍ. وَالْمُسْتَقَرُّ

(بِفَتْحِ الْقَافِ) حَيْثُ يَكُونُ الْقَرَارُ وَالْإِقَامَةُ. قَالَ تَعَالَى: (وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ) كَمَا قَالَ: (جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا) 27: 61 قَالَ الرَّاغِبُ: قَرَّ فِي مَكَانِهِ يَقِرُّ قَرَارًا إِذَا ثَبَتَ ثُبُوتًا جَامِدًا، وَأَصْلُهُ مِنَ الْقُرِّ وَهُوَ الْبَرْدُ وَهُوَ يَقْتَضِي السُّكُونَ، وَالْحَرُّ يَقْتَضِي الْحَرَكَةَ انْتَهَى. وَالْمُسْتَوْدَعُ مَوْضِعُ الْوَدِيعَةِ وَهُوَ مَا يَتْرُكُهُ الْمَرْءُ عِنْدَ غَيْرِهِ مُؤَقَّتًا لِيَأْخُذَهُ بَعْدُ، فَهِيَ فَعِيلَةٌ مِنْ وَدَعَ الشَّيْءَ إِذَا تَرَكَهُ بِمَعْنَى مَفْعُولَةٍ. وَيَكُونُ كُلٌّ مِنَ الْمُسْتَقَرِّ وَالْمُسْتَوْدَعِ مَصْدَرًا مِيمِيًّا بِمَعْنَى الِاسْتِقْرَارِ وَالِاسْتِيدَاعِ، وَيَكُونُ الثَّانِي اسْمُ مَفْعُولٍ بِمَعْنَى الْوَدِيعَةِ، وَلَا يَكُونُ الْأَوَّلُ كَذَلِكَ لِأَنَّ فِعْلَهُ لَازِمٌ إِلَّا مَا جَاءَ عَلَى طَرِيقَةِ الْحَذْفِ كَقَوْلِ النُّحَاةِ ظَرْفٌ مُسْتَقَرٌّ، أَيْ مُسْتَقَرٌّ فِيهِ.

وَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ، وَهِيَ إِمَّا الرُّوحُ الَّتِي هِيَ الْخَلْقُ الْآخَرُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى بَعْدَ ذِكْرِ أَطْوَارِ خَلْقِ الْجَسَدِ:(ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ) 23: 14 وَإِمَّا الذَّاتُ الْمُرَكَّبَةُ مِنَ الرُّوحِ وَالْجَسَدِ، وَالْمُرَادُ بِهَا الْإِنْسَانُ الْأَوَّلُ الَّذِي تَسَلْسَلَ مِنْهُ سَائِرُ النَّاسِ بِالتَّوَالُدِ بَيْنَ الْأَزْوَاجِ، وَهُوَ عِنْدَنَا وَعِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ آدَمُ عليه السلام وَتَقَدَّمَ مِثْلُ هَذَا فِي أَوَّلِ سُورَةِ النِّسَاءِ مَعَ بَحْثٍ طَوِيلٍ فِي تَفْسِيرِهِ، وَسَيَجِيءُ شِبْهُهُ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ. وَفِي إِنْشَاءِ جَمِيعِ الْبَشَرِ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ عَلَى قُدْرَةِ اللهِ وَعِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ وَوَحْدَانِيَّتِهِ، وَفِي التَّذْكِيرِ بِهِ إِرْشَادٌ إِلَى مَا يَجِبُ مِنْ شُكْرِ نِعْمَتِهِ، وَمِنْ وُجُوبِ التَّعَارُفِ وَالتَّآلُفِ وَالتَّعَاوُنِ

ص: 532

بَيْنَ الْبَشَرِ، وَعَدَمِ جَعْلِ تَفَرُّقِهِمْ إِلَى شُعُوبٍ وَقَبَائِلَ مَدْعَاةً لِلتَّعَادِي وَالتَّقَاتُلِ، وَقَدْ فَصَّلْنَا الْقَوْلَ فِي هَذَا الْمَعْنَى فِي أَوَّلِ تَفْسِيرِ آيَةِ سُورَةِ النِّسَاءِ.

قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو " الْمُسْتَقِرُّ " بِكَسْرِ الْقَافِ وَالْبَاقُونَ بِفَتْحِهَا، وَاخْتُلِفَ فِي الْمُرَادِ بِالْمُسْتَقَرِّ وَالْمُسْتَوْدَعِ، فَرَوَى جُمْهُورُ رُوَاةِ التَّفْسِيرِ وَأَبُو الشَّيْخِ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الْمُسْتَقَرُّ - بِالْفَتْحِ - مَا كَانَ فِي الرَّحِمِ، وَالْمُسْتَوْدَعُ مَا اسْتُودِعَ فِي أَصْلَابِ الرِّجَالِ وَالدَّوَابِّ - وَفِي لَفْظٍ: الْمُسْتَقَرُّ مَا فِي الرَّحِمِ وَعَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ وَبَطْنِهَا مِمَّا هُوَ حَيٌّ وَمِمَّا هُوَ قَدْ مَاتَ - وَفِي لَفْظٍ: الْمُسْتَقَرُّ مَا كَانَ فِي الْأَرْضِ، وَالْمُسْتَوْدَعُ مَا كَانَ فِي الصُّلْبِ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ فِي تَفْسِيرِ الْعِبَارَةِ:" مُسْتَقَرُّهَا " فِي الدُّنْيَا " وَمُسْتَوْدَعَهَا " فِي الْآخِرَةِ، أَيِ النَّفْسِ. وَفِي رِوَايَةِ عَنْهُ: الْمُسْتَقَرُّ الرَّحِمُ، وَالْمُسْتَوْدَعُ الْمَكَانُ الَّذِي يَمُوتُ فِيهِ. وَرُوِيَ مِثْلُهُ عَنِ الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ، وَأَوْرَدَ الرَّازِيُّ قَوْلَ الْحَسَنِ مُفَسِّرًا

لَهُ فَقَالَ: الْمُسْتَقَرُّ حَالُهُ بَعْدَ الْمَوْتِ ; لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ سَعِيدًا فَقَدِ اسْتَقَرَّتْ تِلْكَ السَّعَادَةُ، وَإِنْ كَانَ شَقِيًّا فَقَدِ اسْتَقَرَّتْ تِلْكَ الشَّقَاوَةُ، وَلَا تَبْدِيلَ فِي أَحْوَالِ الْإِنْسَانِ بَعْدَ الْمَوْتِ. وَأَمَّا قَبْلَ الْمَوْتِ فَالْأَحْوَالُ مُتَبَدِّلَةٌ، فَالْكَافِرُ قَدْ يَنْقَلِبُ مُؤْمِنًا وَالزِّنْدِيقُ قَدْ يَنْقَلِبُ صَدِّيقًا، فَهَذِهِ الْأَحْوَالُ لِكَوْنِهَا عَلَى شَرَفِ الزَّوَالِ وَالْفَنَاءِ لَا يَبْعُدُ تَشْبِيهُهَا بِالْوَدِيعَةِ. وَذَكَرَ لِلْأَصَمِّ قَوْلَيْنِ، أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُسْتَقَرَّ مَنْ خُلِقَ مِنَ النَّفْسِ الْأُولَى وَدَخَلَ الدُّنْيَا وَاسْتَقَرَّ فِيهَا، وَالْمُسْتَوْدَعُ الَّذِي لَمَّا يُخْلَقْ بَعْدُ. وَثَانِيهِمَا: الْمُسْتَقَرُّ مَنِ اسْتَقَرَّ فِي قَرَارِ الدُّنْيَا، وَالْمُسْتَوْدَعُ مَنْ فِي الْقُبُورِ حَتَّى يُبْعَثَ. وَإِنَّمَا يَظْهَرُ وَجْهُ هَذَيْنَ الْقَوْلَيْنِ عَلَى قِرَاءَةِ كَسْرِ الْقَافِ أَوِ الْمُسْتَقَرِّ بِفَتْحِ الْقَافِ مَصْدَرًا وَحُكِيَ عَنْ أَبِي مُسْلِمٍ الْأَصْفَهَانِيِّ أَنَّ التَّقْدِيرَ - فَمِنْكُمْ مُسْتَقَرٌّ ذَكَرٌ وَمِنْكُمْ مُسْتَوْدَعٌ أُنْثَى، فَعَبَّرَ عَنِ الذَّكَرِ بِالْمُسْتَقَرِّ ; لِأَنَّ النُّطْفَةَ تَتَوَلَّدُ فِي صُلْبِهِ، وَعَبَّرَ عَنِ الْأُنْثَى بِالْمُسْتَوْدَعِ لِأَنَّ الرَّحِمَ شِبْهَةٌ بِالْمُسْتَوْدَعِ. وَلَعَلَّهُ أَخَذَهُ مِنَ الشَّاعِرِ.

وَإِنَّمَا أُمَّهَاتُ النَّاسِ أَوْعِيَةٌ

مُسْتَوْدَعَاتٌ وَلِلْآبَاءِ أَبْنَاءُ.

وَأَقُولُ: لَيْسَ فِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ مَا نَسْتَعِينُ بِهِ عَلَى تَفْسِيرِ هَذِهِ الْعِبَارَةِ - كَدَأْبِنَا فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ بِالْقُرْآنِ - إِلَّا قَوْلَهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْحَجِّ: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ) 22: 5 الْآيَةَ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ هُودٍ: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) 11: 6 قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: " مُسْتَقَرُّهَا " حَيْثُ تَأَوِي، " وَمُسْتَوْدَعُهَا " حَيْثُ تَمُوتُ. وَقَالَ:" مُسْتَقَرُّهَا " فِي الْأَرْحَامِ، " وَمُسْتَوْدَعُهَا " حَيْثُ تَمُوتُ. فَهَذَا يُرَجِّحُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُسْتَقَرِّ - بِفَتْحِ الْقَافِ - الرَّحِمُ، وَالْمُسْتَوْدَعِ الْقَبْرُ، وَأَمَّا الْمُسْتَقِرُّ - بِكَسْرِ الْقَافِ - فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مَنْ يَطُولُ عُمُرُهُ فِي الدُّنْيَا، كَأَنَّهُ قَالَ: فَمِنْكُمْ مُسْتَقِرٌّ فِي الدُّنْيَا يُعَمَّرُ

ص: 533

عُمُرًا طَوِيلًا، وَمِنْكُمْ مُسْتَوْدَعٌ لَا اسْتِقْرَارَ لَهُ فِيهَا بَلْ تَخْتَرِمُهُ الْمَنِيَّةُ طِفْلًا أَوْ يَافِعًا. وَيُمْكِنُ تَفْسِيرُ قِرَاءَةِ الْفَتْحِ بِهَذَا أَيْ فَمِنْهَا ذُو اسْتِقْرَارٍ وَذُو اسْتِيدَاعٍ. وَآخَرُ مَا خَطَرَ لِي بَعْدَ تَلْخِيصِ أَقْوَالِ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ الْمُسْتَقَرَّ الرُّوحُ - وَهُوَ يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ - وَالْمُسْتَوْدَعَ الْبَدَنُ. وَالْجُمْلَةُ مِمَّا يَتَّسِعُ الْمَجَالُ فِيهِ لِلتَّفْسِيرِ وَالتَّقْدِيرِ وَالْإِيجَازُ مَقْصُودٌ بِهِ.

(قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ) أَيْ قَدْ جَعَلْنَا الْآيَاتِ الْمُبَيِّنَةَ لِسُنَّتِنَا فِي خَلْقِ الْبَشَرِ مُفَصَّلَةً، كُلُّ فَصْلٍ وَنَوْعٍ مِنْهَا يَدُلُّ عَلَى قُدْرَةِ الْخَالِقِ وَإِرَادَتِهِ، وَعِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ، وَفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ، فَصَّلْنَاهَا كَذَلِكَ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ مَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ، أَيْ يَفْهَمُونَ الْمُرَادَ مِنْهُ وَمَرْمَاهُ وَيَفْطَنُونَ لِدَقَائِقِهِ وَخَفَايَاهُ، فَالْفِقْهُ - وَإِنْ فُسِّرَ بِالْعِلْمِ وَبِالْفَهْمِ - أَخَصُّ مِنْهُمَا. قَالَ الرَّاغِبُ: الْفِقْهُ هُوَ التَّوَصُّلُ إِلَى عِلْمٍ غَائِبٍ بِعِلْمٍ شَاهِدٍ فَهُوَ أَخَصُّ مِنَ الْعِلْمِ. وَقَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي النِّهَايَةِ إِنَّ اشْتِقَاقَهُ مِنَ الْفَتْحِ وَالشَّقِّ. وَأَحْسَنُ مِنْهُ قَوْلُ الْحَكِيمِ التِّرْمِذِيِّ: إِنَّ فَقِهَ وَفَقَأَ وَاحِدٌ فَإِنَّ الْإِبْدَالَ بَيْنَ الْهَمْزَةِ وَالْهَاءِ كَثِيرٌ وَفَقَأَ الْبَثْرَةَ شَقَّهَا وَسَبَرَ غَوْرَهَا، فَالْفَقْءُ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْحِسِّيَّاتِ وَالْفِقْهُ فِي الْمَعْنَوِيَّاتِ، وَالْجَامِعُ بَيْنَهُمَا النَّظَرُ فِي أَعْمَاقِ الشَّيْءِ وَبَاطِنِهِ. فَمَنْ لَا يَفْهَمُ إِلَّا ظَوَاهِرَ الْكَلَامِ وَلَا يَفْطَنُ إِلَّا لِمَظَاهِرِ الْأَشْيَاءِ لَا يُقَالُ إِنَّهُ فَقِهَ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ عِلْمُ الشَّرْعِ فِقْهًا لِمَا فِيهِ مِنَ الِاسْتِنْبَاطِ. وَلَمَّا كَانَ اسْتِخْرَاجُ الْحِكَمِ وَالْعِبَرِ مِنْ خَلْقِ الْبَشَرِ يَتَوَقَّفُ عَلَى غَوْصٍ فِي أَعْمَاقِ الْآيَاتِ، وَفِطْنَةٍ فِي اسْتِخْرَاجِ دَقَائِقِ الْحِكَمِ وَالْبَيِّنَاتِ، عَبَّرَ عَنْهَا بِالْفِقْهِ، وَأَمَّا الْعِلْمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ. وَالِاهْتِدَاءُ بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ فَهُوَ مِنَ الْأُمُورِ الظَّاهِرَةِ الَّتِي لَا تَتَوَقَّفُ عَلَى دِقَّةِ النَّظَرِ وَلَا غَوْصِ الْفِكْرِ، وَكَذَلِكَ أَكْثَرُ مَظَاهِرِ عِلْمِ الْفَلَكِ ; فَلِذَلِكَ اكْتَفَى فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ لِهَذِهِ بِالتَّعْبِيرِ بِالْعِلْمِ الشَّامِلِ لِمَا لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ دِقَّةُ الِاسْتِنْبَاطِ كَظَوَاهِرِهِ، وَلِعِبَرِهِ كَدَقَائِقِهِ. وَقَدْ فَطَنَ لِذَلِكَ الزَّمَخْشَرِيُّ - وَمَا أَجْدَرَهُ بِهِ - فَقَالَ:(فَإِنْ قُلْتَ) لِمَ قِيلَ " يَعْلَمُونَ " مَعَ ذِكْرِ النُّجُومِ، وَ (يَفْقَهُونَ) مَعَ ذِكْرِ إِنْشَاءِ بَنِي آدَمَ؟ (قُلْتُ) : لِأَنَّ إِنْشَاءَ الْإِنْسِ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَتَصْرِيفِهِمْ بَيْنَ أَحْوَالٍ مُخْتَلِفَةٍ أَلْطَفُ وَأَدَقُّ صَنْعَةً وَتَدْبِيرًا، فَكَانَ ذِكْرُ الْفِقْهِ الَّذِي هُوَ اسْتِعْمَالُ فِطْنَةٍ وَتَدْقِيقُ نَظَرٍ مُطَابِقًا لَهُ انْتَهَى. وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ الْمُنِيرِ فَزَعَمَ أَنَّ هَذَا كَلَامٌ صِنَاعِيٌّ، وَأَنَّ التَّحْقِيقَ أَنَّ اخْتِلَافَ التَّعْبِيرِ لِلتَّفَنُّنِ. وَذَكَرَ وَجْهًا آخَرَ بِنَاءً عَلَى زَعْمِهِ أَنَّ الْفِقْهَ أَدْنَى دَرَجَاتِ الْعِلْمِ ; لِأَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ مُجَرَّدِ الْفَهْمِ، وَمَا بُنِيَ عَلَى الْفَاسِدِ فَاسِدٌ، وَأَيْنَ هُوَ فِي فَهْمِ أَسْرَارِ اللُّغَةِ مِنَ الزَّمَخْشَرِيِّ؟ وَأَيْنَ الْمُقَلِّدُ لِظَوَاهِرَ بَعْضِ النُّقُولِ مِنَ الْإِمَامِ اللَّوْذَعِيِّ؟ وَأَيُّهُمَا السَّلِيقِيُّ وَالصِّنَاعِيُّ؟ .

(وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا) هَذِهِ الْآيَةُ الْمُنَزَّلَةُ مُرْشِدَةٌ إِلَى نَوْعٍ آخَرَ مِنْ آيَاتِ التَّكْوِينِ وَهُوَ إِيجَادُ الْمَاءِ، وَإِنْزَالُهُ

مِنَ السَّمَاءِ، وَجَعْلُهُ سَبَّبَا لِلنَّبَاتِ، وَجَعْلُ النَّبَاتِ الْمُسَبَّبِ عَنْهُ أَنْوَاعًا كَثِيرَةً،

ص: 534

مُشْتَبِهَةً وَغَيْرَ مُتَشَابِهَةٍ، وَبِذَلِكَ يَلْتَقِي آخِرُ هَذَا السِّيَاقِ بِأَوَّلِهِ. أَيْ وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّحَابِ مَاءً، فَأَخْرَجْنَا بِسَبَبِ هَذَا الْمَاءِ الْوَاحِدِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ مِنْ أَصْنَافِ هَذَا النَّامِي الَّذِي يَخْرُجُ مِنَ الْأَرْضِ، فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ أَيْ مِنَ النَّبَاتِ خَضِرًا أَيْ شَيْئًا غَضًّا أَخْضَرَ بِالْخِلْقَةِ لَا بِالصِّنَاعَةِ، وَهُوَ مَا تَشَعَّبَ مِنْ أَصْلِ النَّبَاتِ الْخَارِجِ مِنَ الْحَبِّ كَسَاقِ النَّجْمِ وَأَغْصَانِ الشَّجَرِ، نُخْرِجُ مِنْهُ أَيْ مِنْ هَذَا الْأَخْضَرِ الْمُتَشَعِّبِ مِنَ النَّبَاتِ آنًا بَعْدَ آنٍ حَبًّا مُتَرَاكِبًا بَعْضُهُ فَوْقَ بَعْضٍ وَهُوَ السُّنْبُلُ - فَهَذَا تَفْصِيلٌ لِنَمَاءِ النَّجْمِ الَّذِي لَا سَاقَ لَهُ مِنَ النَّبَاتِ وَنِتَاجِهِ، وَعَطَفَ عَلَيْهِ حَالَ نَظِيرِهِ مِنَ الشَّجَرِ فَقَالَ (وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ) ، النَّخْلُ الشَّجَرُ الَّذِي يُنْتِجُ التَّمْرَ، يُسْتَعْمَلُ لَفْظُهُ فِي الْمُفْرَدِ وَالْجَمْعِ، وَجَمْعُهُ نَخِيلٌ. وَ (مِنْ طَلْعِهَا) بَدَلٌ مِمَّا قَبْلَهُ، وَطَلْعُهَا أَوَّلُ مَا يَطْلُعُ أَيْ يَظْهَرُ مِنْ زَهْرِهَا الَّذِي يَكُونُ مِنْهُ ثَمَرُهَا، وَقَبْلَ أَنْ يَنْشَقَّ عَنْهُ كَافُورُهُ أَيْ وِعَاؤُهُ، وَمَا يَنْشَقُّ عَنْهُ الْكَافُورُ مِنَ الطَّلْعِ يُسَمَّى الْغَرِيضُ وَالْإِغْرِيضُ، وَالْقِنْوَانُ جَمْعُ قِنْوٍ - بِالْكَسْرِ - وَهُوَ الْعَذْقُ الَّذِي يَكُونُ فِيهِ الثَّمَرُ، وَمِثْلُهُ فِي وَزْنِهِ وَاسْتِوَاءِ مُثَنَّاهُ، وَجَمْعِهِ الصِّنْوُ وَالصِّنْوَانُ وَهُوَ مَا يَخْرُجُ مِنْ أَصْلِ الشَّجَرَةِ مِنَ الْفُرُوعِ. وَالْقِنْوَانُ مِنَ النَّخْلِ كَالْعَنَاقِيدِ مِنَ الْعِنَبِ وَالسَّنَابِلِ مِنَ الْقَمْحِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ طَلْعَ النَّخْلِ قِنْوَانٌ دَانِيَةُ الْقُطُوفِ سَهْلَةُ التَّنَاوُلِ، أَوْ بَعْضُهَا دَانٍ قَرِيبٌ مِنْ بَعْضٍ لِكَثْرَةِ حَمْلِهَا.

(وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ) قَرَأَ الْجُمْهُورُ " جَنَّاتٍ " بِالنَّصْبِ وَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ: وَنُخْرِجُ مِنْهُ - أَيْ مِنْ ذَلِكَ الْخَضِرِ - جَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ. وَقَرَأَهَا أَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ بِالرَّفْعِ وَهُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ عَلِيٍّ الْمُرْتَضَى وَابْنِ مَسْعُودٍ وَالْأَعْمَشِ وَغَيْرِهِمْ. وَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ: وَلَكُمْ جَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ - أَوْ - وَهُنَاكَ جَنَّاتٌ - أَوْ - وَمِنَ الْكَرْمِ جَنَّاتٌ إِلَخْ. وَسَنُبَيِّنُ حِكْمَةَ اخْتِلَافِ الْإِعْرَابِ بَعْدُ

(وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ) أَيْ وَأَخُصُّ مِنْ نَبَاتِ كُلِّ شَيْءٍ الزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ حَالَ كَوْنِهِ مُشْتَبِهًا فِي بَعْضِ الصِّفَاتِ، غَيْرَ مُتَشَابِهٍ فِي بَعْضٍ آخَرَ. قِيلَ: إِنَّ هَذِهِ الْحَالَ مِنَ الرُّمَّانِ وَحْدَهُ فَإِنَّهُ أَنْوَاعٌ تَشْتَبِهُ فِي شَكْلِ الْوَرَقِ وَالثَّمَرِ وَتَخْتَلِفُ فِي لَوْنِ الثَّمَرِ وَطَعْمِهِ، فَمِنْهُ الْحُلْوُ وَالْحَامِضُ وَالَمُزُّ. وَقِيلَ: إِنَّ الْحَالَ مِنْ مَجْمُوعِ الزَّيْتُونِ وَالرُّمَّانِ، أَيْ مُشْتَبِهًا

وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ وَذَلِكَ ظَاهِرٌ مِمَّا قَبْلَهُ. وَصَرَّحُوا بِأَنَّ الْمُشْتَبِهَ وَالْمُتَشَابِهَ هُنَا بِمَعْنًى، إِذْ يُقَالُ: اشْتَبَهَ الْأَمْرَانِ وَتَشَابَهَا كَمَا يُقَالُ اسْتَوَيَا وَتَسَاوَيَا. وَقَدْ قُرِئَ فِي الشَّوَاذِّ " مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ " وَهُوَ مَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ فِي آيَةِ (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ) 141 إِلَخْ. وَسَتَأْتِي، وَالْحَقُّ أَنَّ بَيْنَ الصِّيغَتَيْنِ فَرْقًا فَمَعْنَى اشْتَبَهَا الْتَبَسَ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ مِنْ شِدَّةِ الشَّبَهِ بَيْنَهُمَا، وَمَعْنَى تَشَابَهَا أَشْبَهَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ وَلَوْ فِي بَعْضِ الْوُجُوهِ وَالصِّفَاتِ، فَهَذَا أَعَمُّ مِمَّا قَبْلَهُ. وَلَا شَكَّ فِي أَنَّ بَعْضَ مَا ذَكَرَ يَتَشَابَهُ وَلَا يَشْتَبِهُ، وَبَعْضُهُ يَتَشَابَهُ حَتَّى يَشْتَبِهَ، حَتَّى عَلَى الْبُسْتَانِيِّ الْمَاهِرِ،

ص: 535

كَمَا شَاهَدْنَا ذَلِكَ وَاخْتَبَرْنَاهُ فِي بَعْضِ أَنْوَاعِ الرُّمَّانِ الْحُلْوُ مَعَ الْحَامِضِ، وَهَذَا مِنْ دِقَّةِ تَعْبِيرِ التَّنْزِيلِ فِي تَحْدِيدِ الْحَقَائِقِ.

(انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ) أَيِ انْظُرُوا نَظَرَ تَأَمُّلٍ وَاعْتِبَارٍ إِلَى ثَمَرِ مَا ذُكِرَ إِذَا هُوَ تَلَبَّسَ وَاتَّصَفَ بِالْإِثْمَارِ، وَإِلَى يَنْعِهِ عِنْدَمَا يَيْنَعُ، أَيْ يَبْدُوَا صَلَاحُهُ وَيَنْضَجُ، وَتَأَمَّلُوا صِفَاتِهِ فِي كُلٍّ مِنَ الْحَالَيْنِ وَمَا بَيْنَهُمَا، يَظْهَرُ لَكُمْ مِنْ لُطْفِ اللهِ وَتَدْبِيرِهِ، وَحِكْمَتِهِ فِي تَقْدِيرِهِ، مَا يَدُلُّ أَوْضَحَ الدَّلَالَةِ عَلَى وُجُوبِ تَوْحِيدِهِ (إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) أَيْ فِي ذَلِكُمُ الَّذِي أُمِرْتُمْ بِالنَّظَرِ إِلَيْهِ، وَالنَّظَرُ فِيهِ دَلَائِلُ عَظِيمَةٌ أَوْ كَثِيرَةٌ لِلْمُسْتَعِدِّينَ لِلِاسْتِدْلَالِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بِالْفِعْلِ وَالْمُسْتَعِدِّينَ لِلْإِيمَانِ، وَأَمَّا غَيْرُهُمْ فَإِنَّ نَظَرَهُمْ كَنَظَرِ الطِّفْلِ وَإِنْ كَانُوا مِنَ الْعَالِمِينَ بِأَسْرَارِ عَالَمِ النَّبَاتِ، وَالْغَوَّاصِينَ عَلَى مَا فِيهِ مِنَ الْمَحَاسِنِ وَالنِّظَامِ، لَا يَتَجَاوَزُ هَذِهِ الظَّوَاهِرَ، وَلَا يَعْبُرُهَا إِلَى مَا تَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ وُجُودِ الْخَالِقِ، وَمِنْ إِثْبَاتِ صِفَاتِهِ الَّتِي تَتَجَلَّى فِيهَا، وَوَحْدَتِهِ الَّتِي يَنْتَهِي النِّظَامُ إِلَيْهَا، وَإِنْ كَانُوا يَعْلَمُونَ أَنَّ وَحْدَةَ النِّظَامِ فِي الْأَشْيَاءِ الْمُخْتَلِفَةِ، لَا يُمْكِنُ أَنْ تَصْدُرَ عَنْ إِرَادَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ.

وَمِنْ مَبَاحِثِ الْبَلَاغَةِ فِي الْآيَاتِ، وَاخْتِلَافِ الْإِعْرَابِ وَالتَّرْتِيبِ بَيْنَ الْمُتَنَاسِبَاتِ، أَنَّ هَذَا السِّيَاقَ بُدِئَ بِفَلْقِ الْحَبِّ وَالنَّوَى وَإِخْرَاجِ الْحَيِّ مِنَ الْمَيِّتِ وَعَكْسِهِ. وَقَفَّى عَلَيْهِ بِمَا يُنَاسِبُهُ مِنْ فَلْقِ الْإِصْبَاحِ، وَعَطَفَ عَلَى هَذَا مَا يُقَابِلُهُ مِنْ مُعَاقَبَةِ اللَّيْلِ لِلنَّهَارِ، وَأُشِيرَ إِلَى فَوَائِدِهِمَا وَفَوَائِدِ النَّيِّرَيْنِ، اللَّذَيْنِ هُمَا آيَتَا هَذَيْنِ الْمَلَوَيْنِ، وَنَاسَبَ ذِكْرُ النَّيِّرَيْنِ التَّذْكِيرَ بِخَلْقِ النُّجُومِ، وَالْمِنَّةِ بِالِاهْتِدَاءِ بِهَا وَالْإِيمَاءِ إِلَى مَا فِيهَا مِنْ آيَاتِ الْعُلُومِ، ثُمَّ عُطِفَ عَلَى هَذَا النَّوْعِ مِنَ الْآيَاتِ إِنْشَاؤُنَا مِنْ نَفْسِ وَاحِدَةٍ فَمِنْهَا الْمُسْتَقَرُّ

وَالْمُسْتَوْدَعُ، وَقَفَّى عَلَيْهِ بِإِنْزَالِ الْمَاءِ، وَجَعَلَهُ سَبَبًا لِنَبَاتِ كُلِّ شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْأَحْيَاءِ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا تَفْصِيلٌ لِقَوْلِهِ فِي الْآيَةِ الْأُولَى مِنَ السِّيَاقِ:(يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ) وَقَدْ لَوَّنَ فِي تَفْصِيلِ خَلْقِ النَّبَاتِ الْخِطَابَ، وَتَفَنَّنَ فِي طُرُقِ الْإِعْرَابِ ; لِلتَّنْبِيهِ إِلَى مَا فِيهِ مِنْ أَنْوَاعِ الْأَلْوَانِ، وَتَشَابُهِ مَا فِيهِ مِنَ الثِّمَارِ وَالْأَفْنَانِ، فَبُدِئَتِ الْآيَةُ بِضَمِيرِ الْوَاحِدِ الْغَائِبِ الْمُفْرَدِ تَبَعًا لِسِيَاقِ مَا قَبْلَهَا مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ، وَعَطَفَ عَلَيْهِ ضَمِيرَ الْمُتَكَلِّمِ الْجَمْعِيَّ بِطَرِيقِ الِالْتِفَاتِ. إِذْ قَالَ:(فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ بَعْدَ قَوْلِهِ: (أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً) فَحِكْمَةُ الِالْتِفَاتِ أَنْ تَلْتَفِتَ الْأَذْهَانُ إِلَى مَا يَعْقُبُ ذَلِكَ مِنَ الْبَيَانِ، فَتَتَنَبَّهْ إِلَى أَنَّ هَذَا الْإِخْرَاجَ الْبَدِيعَ، وَالصُّنْعَ السَّنِيعَ، مِنْ فِعْلِ الْحَكِيمِ الْخَلَّاقِ، لَا مِنْ فَلَتَاتِ الْمُصَادَفَةِ وَالِاتِّفَاقِ، وَلَمَّا كَانَ الْمَاءُ وَاحِدًا وَالنَّبَاتُ جَمْعًا كَثِيرًا نَاسَبَ إِفْرَادَ الْفِعْلِ الْأَوَّلِ وَجَمْعَ الْفِعْلِ الْآخِرِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْوَاحِدَ إِذَا قَالَ فَعَلْنَا أَرَادَ إِفَادَةَ تَعْظِيمِ نَفْسِهِ إِذَا كَانَ مَقَامُهُ أَهْلًا لِذَلِكَ كَمَا يَقُولُ الْمَلِكُ أَوِ الْأَمِيرُ - حَتَّى فِي هَذَا الْعَصْرِ - فِي أَوَّلِ مَا يُصْدِرُهُ مِنْ نَحْوِ نِظَامٍ أَوْ قَانُونٍ " أَمَرْنَا بِمَا هُوَ آتٍ " وَنُكْتَةُ الْعُدُولِ عَنِ الْمَاضِي

ص: 536

إِلَى الْمُضَارِعِ فِي قَوْلِهِ: (نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا) تَحْصُلُ بِإِرَادَةِ اسْتِحْضَارِ صُورَتِهِ الْعَجِيبَةِ فِي حُسْنِهَا وَانْتِظَامِهَا، وَتَنَضُّدِ سَنَابِلِهَا وَاتِّسَاقِهَا، وَعَطَفَ عَلَيْهِ مَا يُخْرِجُهُ تَعَالَى مِنْ طَلْعِ النَّخْلِ، مِنَ الْقِنْوَانِ الْمُشَابِهِ لِسَنَابِلِ الْقَمْحِ، فِي تَنَضُّدِ ثَمَرِهِ وَتَرَاكُبِهَا، وَمَنَافِعِهَا وَغَرَائِبِهَا، فَإِنَّ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا أَفْضَلَ غِذَاءٍ لِلنَّاسِ، وَعَلَفٍ للدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ، وَذَكَرَ بَعْدَهُ جَنَّاتِ الْأَعْنَابِ ; لِأَنَّهَا أَشْبَهُ بِالنَّخِيلِ فِي هَذِهِ الْأَبْوَابِ، فَالْعَنَاقِيدُ تُشْبِهُ الْعَرَاجِينَ فِي تَكَوُّنِهَا، وَتَرَاكُبِ حَبِّهَا وَأَلْوَانِ ثَمَرِهَا، كَمَا تُشْبِهُهَا فِي دَرَجَاتِ تَطَوُّرِهَا، فَالْحِصْرِمُ كَالْبُسْرِ، وَالْعِنَبُ كَالرُّطَبِ، وَالزَّبِيبُ كَالتَّمْرِ، وَيَخْرُجُ مِنْ كُلٍّ مِنْهُمَا عَسَلٌ وَخَلٌّ وَخَمْرٌ، ثُمَّ ذَكَرَ الزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مَعْطُوفًا عَلَى نَبَاتِ كُلِّ شَيْءٍ أَوْ مَنْصُوبًا عَلَى الِاخْتِصَاصِ، لَا عَلَى مَا قَبْلَهُ مِنَ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ ; لِأَنَّ مَا بَيْنَهُمَا مِنَ التَّشَابُهِ فِي الصُّورَةِ، مَحْصُورٌ فِي الْوَرَقِ دُونَ الثَّمَرَةِ، وَأَمَّا مَكَانُهُمَا مِنَ الْمَنْفَعَةِ وَالْفَائِدَةِ، فَالْأَوَّلُ فِي الدَّرَجَةِ الثَّالِثَةِ وَالْآخَرُ فِي الدَّرَجَةِ الرَّابِعَةِ، ذَلِكَ بِأَنَّ الزَّيْتُونَ وَزَيْتُهُ غِذَاءٌ فَقَطْ وَلَكِنَّهُ تَابِعٌ لِلطَّعَامِ غَيْرُ مُسْتَقِلٍّ بِالتَّغْذِيَةِ. وَالرُّمَّانُ فَاكِهَةٌ وَشَرَابٌ فَقَطْ وَلَكِنَّهُمَا دُونَ فَوَاكِهِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ وَأَشْرِبَتِهِمَا فِي الْمَرْتَبَةِ، فَنَاسَبَ جَعْلُهُ

بَعْدَهُمَا، وَالْإِشَارَةُ بِاخْتِلَافِ الْإِعْرَابِ إِلَى رُتْبَةِ كُلٍّ مِنْهُمَا، وَبِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِ الْمَرَاتِبِ قَدَّمَ نَبَاتَ الْحَبِّ عَلَى الْجَمِيعِ ; لِأَنَّهُ الْغِذَاءُ الْأَعْظَمُ الْأَعَمُّ لِأَكْثَرِ النَّاسِ وَأَكْثَرِ أَنْوَاعِ الْحَيَوَانِ الْأَهْلِيَّةِ الَّتِي تَقُومُ أَكْثَرُ مَرَافِقِهِمْ وَمَنَافِعِهِمْ بِهَا، فَسُبْحَانَ مَنْ هَذَا كَلَامُهُ.

(وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ.

حَكَى اللهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَاتِ بَعْضَ ضُرُوبِ الشِّرْكِ الَّتِي قَالَ بِهَا بَعْضُ الْعَرَبِ، وَرَوَى التَّارِيخُ كَثِيرًا مِنْ نَوْعِهَا عَنْ أُمَمِ الْعَجَمِ، وَهِيَ اتِّخَاذُ شُرَكَاءِ اللهِ مِنْ عَالَمِ الْجِنِّ الْمُسْتَتِرِ

ص: 537

عَنِ الْعُيُونِ، وَاخْتِرَاعُ نَسْلٍ لَهُ مِنَ الْبَنَاتِ وَالْبَنِينَ، حَكَى هَذَا بَعْدَ تَفْصِيلِ مَا تَقَدَّمَ فِيمَا قَبْلَهُ مِنْ أَنْوَاعِ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى تَوَحُّدِهِ بِالْخَلْقِ وَالتَّدْبِيرِ فِي عَوَالِمِ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتِ، وَتُعْقُّبِهِ بِإِنْكَارِهِ وَتَنْزِيهِ الْخَالِقِ الْمُبْدِعِ عَنْهُ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ عز وجل:

(وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ) أَيْ وَجَعَلَ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ شُرَكَاءَ - وَفَسَّرَ هَؤُلَاءِ الشُّرَكَاءَ بِالْجِنِّ عَلَى طَرِيقِ الْبَدَلِ النَّحْوِيِّ - وَلَمْ يَقُلْ وَجَعَلُوا الْجِنَّ شُرَكَاءَ لِلَّهِ، بَلْ قَدَّمَ وَأَخَّرَ فِي النَّظْمِ لِإِفَادَةِ أَنَّ مَحَلَّ الْغَرَابَةِ وَالنَّكَارَةِ أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ شُرَكَاءُ لَا مُطْلَقَ وُجُودِ الشُّرَكَاءِ. ثُمَّ كَوْنَ الشُّرَكَاءِ مِنَ الْجِنِّ، فَقَدَّمَ الْأَهَمَّ فَالْمُهِمَّ. وَلَوْ قَالَ وَجَعَلُوا الْجِنَّ شُرَكَاءَ لِلَّهِ لَأَفَادَ أَنَّ مَوْضِعَ الْإِنْكَارِ أَنْ يَكُونَ الْجِنُّ شُرَكَاءَ لِلَّهِ لِكَوْنِهِمْ جِنًّا، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، بَلِ الْمُنْكَرُ أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ شَرِيكٌ مِنْ أَيِ جِنْسٍ كَانَ. وَفِي الْمُرَادِ بِالْجِنِّ هُنَا أَقْوَالٌ أَحَدُهَا: أَنَّهُمُ الْمَلَائِكَةُ فَقَدْ عَبَدُوهُمْ، رُوِيَ هَذَا عَنْ قَتَادَةَ وَالسُّدِّيِّ. وَالثَّانِي: أَنَّهُمُ الشَّيَاطِينُ فَقَدْ أَطَاعُوهُمْ فِي أُمُورِ الشِّرْكِ وَالْمَعَاصِي، رُوِيَ عَنِ

الْحَسَنِ وَسَنُشِيرُ إِلَى شَاهِدٍ يَأْتِي لَهُ بَعْدَ عِشْرِينَ آيَةً. وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْمُرَادَ بِالْجِنِّ إِبْلِيسُ، فَقَدْ عَبَدَهُ أَقْوَامٌ وَسَمَّوْهُ رَبًّا، وَمِنْهُمْ مَنْ سَمَّاهُ إِلَهَ الشَّرِّ وَالظُّلْمَةِ، وَخَصَّ الْبَارِي بِأُلُوهِيَّةِ الْخَيْرِ وَالنُّورِ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي الزَّنَادِقَةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ إِنَّ اللهَ تَعَالَى خَالِقُ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَيَوَانِ وَإِبْلِيسَ خَالِقُ السِّبَاعِ وَالْحَيَّاتِ وَالْعَقَارِبِ وَالشَّرِّ، وَرَجَّحَهُ الرَّازِيُّ وَضَعَّفَ مَا سِوَاهُ وَقَالَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالزَّنَادِقَةِ الْمَجُوسُ الَّذِينَ قَالُوا: إِنْ كُلَّ خَيْرٍ فِي الْعَالَمِ فَهُوَ مِنْ (يَزْدَانَ) وَكُلَّ شَرٍّ فَهُوَ مِنْ (أَهْرُمَنَ) أَيْ إِبْلِيسَ، فَأَمَّا كَوْنُ إِبْلِيسَ وَالشَّيَاطِينِ مِنَ الْجِنِّ فَقَطْعِيٌّ، وَأَمَّا كَوْنُ الْمَلَائِكَةِ مِنْهُمْ فَقِيلَ: إِنَّهُ حَقِيقِيٌّ لِأَنَّهُمْ مِنَ الْعَوَالِمِ الْخَفِيَّةِ فَتَصْدُقُ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ الْجِنِّ، وَقِيلَ إِنَّهُ مَجَازِيٌّ، وَفَسَّرُوا الْجِنَّةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:(وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا) 37: 158 بِالْمَلَائِكَةِ، وَقَالَ بَعْضُ الْعَرَبِ: إِنَّهُ تَعَالَى صَاهَرَ إِلَى الْجِنِّ فَوَلَدَتْ سَرَوَاتُهُمْ لَهُ الْمَلَائِكَةَ وَقَدْ يُقَابِلُ الْجِنَّ بِالْمَلَائِكَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي مَوْضُوعِ عِبَادَةِ الْمُشْرِكِينَ لَهُمْ: (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ) 34: 40، 41 فَهَذَا مَعَ آيَةِ الْأَنْعَامِ الْآتِيَةِ:(وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ) 6: 121 مِمَّا يَرُدُّ إِنْكَارَ الرَّازِيِّ لِتَسْمِيَةِ طَاعَةِ الشَّيَاطِينِ عِبَادَةً. (وَخَلَقَهُمْ) أَيْ وَالْحَالُ أَنَّ اللهَ تَعَالَى قَدْ خَلَقَ هَؤُلَاءِ الْجَاعِلِينَ لَهُ الشُّرَكَاءَ وَلَيْسَ لِشُرَكَائِهِمْ فِعْلٌ وَلَا تَأْثِيرٌ فِي خَلْقِهِمْ، أَوْ خَلْقِ الشُّرَكَاءِ الْمَجْعُولِينَ، كَمَا خَلَقَ غَيْرَهُمْ مِنَ الْعَالَمِينَ، فَنِسْبَةُ الْجَمِيعِ إِلَيْهِ وَاحِدَةٌ، وَامْتِيَازُ بَعْضِ الْمَخْلُوقِينَ عَلَى بَعْضٍ فِي صِفَاتِهِ وَخَصَائِصِهِ، أَوْ مَا خُلِقَ مُسْتَعِدًّا لَهُ مِنَ الْأَعْمَالِ الَّتِي يَفْضُلُ بِهَا غَيْرَهُ، لَا يُخْرِجُهُ عَنْ كَوْنِهِ مَخْلُوقًا، وَلَا يَجْعَلُهُ أَهْلًا لِأَنَّ يَكُونُ إِلَهًا أَوْ رَبًّا.

ص: 538

(وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ) أَيْ وَاخْتَلَقُوا لَهُ تَعَالَى بِحَمَاقَتِهِمْ وَجَهْلِهِمْ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ مَا بِذَلِكَ كَمَا سَيَأْتِي، فَسَمَّى مُشْرِكُو الْعَرَبِ الْمَلَائِكَةَ بَنَاتِ اللهِ (وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ) 9: 30 وَهَاكَ بَيَانُ ذَلِكَ: الْخَرْقُ وَالْخَزْقُ وَالْخَرْبُ وَالْخَرْزُ أَلْفَاظٌ فِيهَا مَعْنَى الثَّقْبِ بِإِنْفَاذِ شَيْءٍ فِي الْجِسْمِ، وَقَالَ الرَّاغِبُ: الْخَرْقُ قَطْعُ الشَّيْءِ عَلَى سَبِيلِ الْفَسَادِ مِنْ غَيْرِ تَدَبُّرٍ وَلَا تَفَكُّرٍ، قَالَ تَعَالَى: (أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ

أَهْلَهَا) 18: 71 وَهُوَ ضِدُ الْخَلْقِ، فَإِنَّ الْخَلْقَ هُوَ فِعْلُ الشَّيْءِ بِتَقْدِيرٍ وَرِفْقٍ، وَالْخَرْقُ بِغَيْرِ تَقْدِيرٍ - وَذَكَرَ الْآيَةَ - وَقَوْلُهُ بِغَيْرِ تَقْدِيرٍ، أَيْ بِغَيْرِ نِظَامٍ وَلَا هَنْدَسَةٍ هُوَ الصَّوَابُ، وَقَوْلُهُ قَبْلَهُ: مِنْ غَيْرِ رَوِيَّةٍ وَلَا تَدَبُّرٍ، خَطَأٌ ظَاهِرٌ، وَيُنَاسِبُ هَذَا مِنْ مَعَانِي الْمَادَّةِ الْخُرْقُ " بِالضَّمِّ " وَهُوَ الْحُمْقُ ضِدُّ الرِّفْقِ. يُقَالُ: خَرُقَ زِيدٌ يَخْرُقُ - بِالضَّمِّ فِيهِمَا - فَهُوَ أَخْرَقُ وَهِيَ خَرْقَاءُ. وَقَالَ صَاحِبُ اللِّسَانِ: وَخَرَقَ " مِنْ بَابِ ضَرَبَ " الْكَذِبَ وَتَخَرَّقَهُ وَخَرَّقَهُ كُلَّهُ اخْتَلَقَهُ، وَذَكَرَ الْآيَةَ وَأَنَّ نَافِعًا قَرَأَ " وَخَرَّقُوا " بِالتَّشْدِيدِ وَسَائِرُ الْقُرَّاءِ قَرَءُوا بِالتَّخْفِيفِ، ثُمَّ قَالَ: وَيُقَالُ: خَلَقَ الْكَلِمَةَ وَاخْتَلَقَهَا وَخَرَقَهَا وَاخْتَرَقَهَا إِذَا ابْتَدَعَهَا كَذِبًا انْتَهَى. وَلَعَلَّ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَ الْخَلْقِ وَالْخَرْقِ فِي الْأَفْعَالِ، يَأْتِي نَظِيرُهُ فِي الْأَقْوَالِ، فَالْخَلْقُ الْكَذِبُ الْمُقَدَّرُ الْمُنَظَّمُ، وَالْخَرْقُ الْكَذِبُ الَّذِي لَا تَقْدِيرَ فِيهِ وَلَا نِظَامَ، وَلَا رَوِيَّةَ وَلَا إِنْعَامَ، فَهَاهُنَا يَظْهَرُ التَّقْيِيدُ بِنَفْيِ التَّدَبُّرِ وَالنَّظَرِ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:(بِغَيْرِ عِلْمٍ) قَالَ فِي الْكَشَّافِ: مِنْ غَيْرِ أَنْ يَعْلَمُوا حَقِيقَةَ مَا قَالُوهُ مِنْ خَطَأٍ وَصَوَابٍ، وَلَكِنْ رَمْيًا بِقَوْلٍ عَنْ عَمًى وَجَهَالَةٍ مِنْ غَيْرِ فِكْرٍ وَرَوِيَّةٍ انْتَهَى. وَهُوَ بَيَانٌ وَتَوْكِيدٌ لِمَعْنَى (خَرَقُوا) فَهَذَا التَّعْبِيرُ مِنْ أَدَقِّ بَلَاغَةِ التَّنْزِيلِ، وَهُوَ بَيَانُ مَعْنَى الشَّيْءِ بِمَا يَدُلُّ عَلَى تَزْيِيفِهِ، وَتَنْكِيرُ الْعَلَمِ هُنَا فِي حَيِّزِ النَّفْيِ " بِغَيْرِ " لِلدَّلَالَةِ عَلَى انْسِلَاخِ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ فِي خَرْقِهِمْ هَذَا عَنْ كُلِّ مَا يُسَمَّى عِلْمًا، فَلَا هُمْ عَلَى عِلْمٍ بِمَعْنَى مَا يَقُولُونَ وَلَا عَلَى دَلِيلٍ يُثْبِتُهُ، وَلَا عَلَى عِلْمٍ بِمَكَانِهِ مِنَ الْفَسَادِ وَالْبُعْدِ مِنَ الْعَقْلِ، وَلَا بِمَكَانِهِ مِنَ الشَّنَاعَةِ وَالْإِزْرَاءِ بِمَقَامِ الْأُلُوهِيَّةِ وَالرُّبُوبِيَّةِ، إِذْ لَوْ عَلِمُوا بِذَلِكَ لَمَا ارْتَضَوْهُ لَأَنَّ أَكْثَرَهُمْ مُؤْمِنُونَ بِخَالِقِهِمْ وَخَالِقِ كُلِّ شَيْءٍ، وَهُمْ يَتَقَرَّبُونَ إِلَيْهِ بِمَا اتَّخَذُوهُ لَهُ مِنْ شَرِيكٍ وَوَلَدٍ (سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ) أَيْ هُوَ مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ مُتَعَالٍ عَنْهُ لِأَنَّهُ نَقْصٌ يُنَافِي انْفِرَادَهُ بِالْخَلْقِ وَالتَّدْبِيرِ، وَكَوْنُهُ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ، وَتَقَدَّمَ تَحْقِيقُ مَعْنَى سُبْحَانَ وَالتَّسْبِيحِ وَالتَّقْدِيسِ فِي أَوَاخِرِ سُورَةِ الْمَائِدَةِ، وَالتَّعَالِي الْعُلُوُّ وَالْبُعْدُ عَمَّا لَا يَلِيقُ الَّذِي يَظْهَرُ لِلنَّاظِرِ الْمُتَفَكِّرِ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا عَلَا عَنْهُ وَبَعُدَ عَنْ مُشَابَهَتِهِ مِنَ الْأَشْيَاءِ كُلِّهَا، فَهُوَ مِنْ قَبِيلِ " تَوَافُدِ الْقَوْمِ " فِي الْجُمْلَةِ، وَلَوْ كَانَ لَهُ تَعَالَى وَلَدٌ لَكَانَ لَهُ جِنْسٌ يُعَدُّ جَمِيعُ أَفْرَادِهِ - وَلَا سِيَّمَا أَوْلَادُهُ - نُظَرَاءَ لَهُ فِيهِ، وَهَذَا بَاطِلٌ عَقْلًا وَنَقْلًا عَنْ جَمِيعِ رُسُلِ اللهِ وَجَمِيعِ حُكَمَاءِ الْبَشَرِ

ص: 539

وَعُقَلَائِهِمْ مِنْ جَمِيعِ الْأُمَمِ، وَلَكِنِ الَّذِينَ اخْتَرَعُوا لِلنَّاسِ عَقَائِدَ الْوَثَنِيَّةِ فِي عُصُورِ الظُّلُمَاتِ وَأَزْمِنَةِ التَّأْوِيلَاتِ ذَهَبُوا هَذِهِ الْمَذَاهِبَ مِنَ

الْأَوْهَامِ، وَلَا نَعْرِفُ أَوَّلَ مَنْ جَعَلَ لِلَّهِ وَلَدًا وَلَا مَنْشَأَ اخْتِرَاعِ هَذِهِ الْعَقِيدَةِ، وَأَقْرَبُ الْمَآخِذِ لِذَلِكَ مَا بَيَّنَّاهُ فِي أَوَاخِرِ تَفْسِيرِ سُورَةِ النِّسَاءِ فَيُرَاجَعْ هُنَالِكَ فِي ج 6 تَفْسِيرٍ.

وَأَمَّا عِبَادَةُ الْجِنِّ فَقَدِيمَةٌ فِي الْمِلَلِ الْوَثَنِيَّةِ أَيْضًا. فَفِي الْخُرَافَاتِ الْيُونَانِيَّةِ وَالرُّومَانِيَّةِ يَجْعَلُونَهُمْ ثَلَاثَ مَرَاتِبَ. الْأُولَى: الْآلِهَةُ وَأَوَّلُهُمُ الْمُوَلِّدُ لَهُمْ أَجِينُوسُ وَهُوَ الْخَالِقُ لِكُلِّ شَيْءٍ عِنْدَهُمْ وَهُوَ نَفْسُ (زِفْسَ) أَوْ (جُوبْتِيرَ) . وَالثَّانِيَةُ: تَوَابِعُ الشُّعُوبِ وَالْأَقْطَارِ وَالْبِلَادِ، فَلِكُلٍّ مِنْهَا رَبٌّ مِنَ الْجِنِّ مُدَبِّرٌ لَهُ وَمُتَصَرِّفٌ فِيهِ، وَقَدْ نَصَبَ الرُّومُ لِجِنِّيِّ رُومِيَّةَ تِمْثَالًا مِنَ الذَّهَبِ. وَالثَّالِثَةُ: تَوَابِعُ الْأَفْرَادِ أَيْ قُرَنَاؤُهُمْ. وَالْهُنُودُ الْقُدَمَاءُ يُقَسِّمُونَ الْجِنَّ إِلَى قِسْمَيْنِ أَخْيَارٌ وَأَشْرَارٌ، فَيُسَمُّونَ الْأَخْيَارَ (دِيُوهَ) وَهُمْ عِنْدَهُمْ فِرَقٌ كَالْآلِهَةِ أَشْهَرُهَا (الْكَنَّارَةُ) الَّذِينَ دَأْبُهُمُ التَّرَنُّمُ بِمَدَائِحِ (بُوَاسِيتَا) وَيَلِيهَا (الْيَاكَةُ) الَّذِينَ يُقَسِّمُونَ الثَّرْوَةَ وَالْغِنَى بَيْنَ النَّاسِ وَ (الْغَنْدُورَةُ) وَهُمُ الْعَازِفُونَ لِلشَّمْسِ، وَيَتَأَلَّفُ مِنْهُمْ أَجْوَاقٌ فِي السَّمَاءِ تَدْخُلُ فِيهَا الْكَنَّارَةُ فَيَسْبُونَ الْعُقُولَ بِتَسْبِيحِهِمْ عَلَى مَعَازِفِهِمْ. وَمِنْهُمُ " الْإِبْسَارَةُ " وَهُنَّ إِنَاثٌ يَمْلَأْنَ الْعَالَمَ كُلَّهُ، وَمُخْتَارَاتُهُنَّ فِي سَمَاءِ " أَنْدَرَا " يَرْقُصْنَ الرَّقْصَ الْبَهِجَ تَحْتَ أَشْجَارِ الذَّهَبِ وَالْيَاقُوتِ فِي جَنَّةِ " مِنْدَانَا " وَمِنْهُمْ " الرَّاجِينَةُ " وَهُنَّ قِيَانٌ مُوَكَّلَاتٌ بِالْمَعَازِفِ مَقَامُهُنَّ فِي سَمَاءِ " بِرَهْمَا " وَعَدَدُهُنَّ 16 أَلْفًا وَمِنْهُمُ الْفَعَلَةُ الْإِلَهِيُّونَ وَيُسَمَّوْنَ " الْجِيدَارَةَ " وَهُمُ الَّذِينَ بَنَوْا قَصْرَ الْآلِهَةِ وَأَنْشَأُوا جَمِيعَ الْمَبَانِي الْعَجِيبَةِ فِي الْعَالَمِ. وَيُقَسِّمُونَ الْجِنَّ الْأَشْرَارَ إِلَى طَوَائِفَ أَيْضًا، مِنْهُمْ (الدِّيتِيَّةُ وَالْأَسْوِرَةُ وَالدَّنَارَةُ وَالرَّشَاقَةُ) وَيَقُولُونَ: إِنْ مَقَامَهُمْ فِي الظُّلْمَةِ وَأَنَّهُمْ هَاجَمُوا الْآلِهَةَ لِيُنْزِلُوهُمْ عَنْ عُرُوشِهِمْ فَفَرُّوا مِنْهُمْ إِلَى بِلَادِ السَّاقَةِ وَأَرَادُوا أَنْ يَسْلُبُوهُمْ شَجَرَ الْحَيَاةِ. وَعَقَائِدُ الْمَانَوِيَّةِ مِنَ الْفُرْسِ فِي إِلَهَيِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ مَعْرُوفَةٌ، فِي أَسَاطِيرِ الْفُرْسِ أَنَّ " جِنِّسْتَانَ " أَيْ بِلَادَ الْجِنِّ فِي غَرْبِيِّ إِفْرِيقِيَّةَ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ، وَأَسَاطِيرُ الْأُمَمِ الْقَدِيمَةِ فِي الْجِنِّ كَثِيرَةٌ.

وَأَمَّا أَهْلُ الْكِتَابِ فَقَدْ لَخَّصَ الدُّكْتُورُ جُورْجُ بُوسْتْ فِي آخِرِ الْجُزْءِ الْأَوَّلِ مِنْ قَامُوسِ الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ عَقَائِدِهِمْ فِي الشَّيْطَانِ قَالَ: الشَّيْطَانُ كَائِنٌ حَقِيقِيٌّ وَهُوَ أَعْلَى شَأْنًا مِنَ الْإِنْسَانِ وَرَئِيسُ رُتْبَةٍ مِنَ الْأَرْوَاحِ النَّجِسَةِ " 1: كو 6. 3 " وَيُخْبِرُ الْكِتَابُ الْمُقَدَّسُ بِطَبِيعَتِهِ وَصِفَاتِهِ وَحَالِهِ وَكَيْفِيَّةِ اشْتِغَالِهِ وَأَعْمَالِهِ وَمَقَاصِدِهِ وَنَجَاحِهِ وَنَصِيبِهِ، فَلَنَا فِي شَخْصِيَّتِهِ نَفْسُ الْبَرَاهِينِ الَّتِي لَنَا فِي شَخْصِيَّةِ الرُّوحِ الْقُدُسِ وَالْمَلَائِكَةِ، أَمَّا طَبِيعَةُ

الشَّيْطَانِ فَرُوحِيَّةٌ وَهُوَ مَلَاكٌ يَمْتَازُ بِكُلِّ مَا تَمْتَازُ بِهِ هَذِهِ الرُّتْبَةُ مِنَ الْكَائِنَاتِ إِلَى أَنْ قَالَ بَعْدَ ذِكْرِ كَوْنِهِ عَدُوًّا لِلَّهِ مَطْرُودًا مِنْ وَجْهِهِ - غَيْرَ أَنَّ طَرْدَهُ إِلَى عَالَمِ الظُّلْمَةِ لَا يَمْنَعُ اشْتِغَالَهُ فِي الْأَرْضِ كَإِلَهِ هَذَا الْعَالَمِ وَعَدُوًّا لِلْإِنْسَانِ وَخَالِقِهِ اهـ.

ص: 540

وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ السُّورَةِ كَلَامٌ فِي الْمَلَائِكَةِ وَالْجِنِّ وَالشَّيَاطِينِ مِمَّا يُؤْثَرُ عَنِ الْعَرَبِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَمَا وَرَدَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَبَعْضُ مَا قَالَهُ عُلَمَاؤُنَا فِي ذَلِكَ وَالتَّقْرِيبُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعُلُومِ النَّفْسِيَّةِ وَالْمَادِّيَّةِ، وَعِنْدَنَا أَنَّ مَا يُحْفَظُ مِنْ أَسَاطِيرِ الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ فِي ذَلِكَ لَهُ أَصِلٌ مِنَ الْوَحْيِ إِلَى أَنْبِيَائِهِمْ، خَلَطُوا فِيهِ مِنْ بَعْدِهِمْ وَجَعَلُوا الْحَقِيقَةَ مَجَازًا وَالْمَجَازَ حَقِيقَةً، عَلَى نَحْوِ مَا حَقَّقْنَاهُ فِي تَحْرِيفِهِمْ مَعْنَى كَلِمَةِ اللهِ الَّتِي عَبَّرَ بِهَا عَنِ التَّكْوِينِ فَجَعَلُوهَا ذَاتًا فَاعِلَةً خَالِقَةً وَسَمَّاهَا بَعْضُهُمْ إِلَهًا وَبَعْضُهُمُ " ابْنَ اللهِ " وَتَحْرِيفِهِمْ مَعْنَى رُوحِ الْقُدُسِ كَذَلِكَ، وَكَلِمَةِ " ابْنٍ " الْمَجَازِيَّةِ كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي أَوَاخِرِ تَفْسِيرِ سُورَةِ النِّسَاءِ (ج 3 تَفْسِيرٍ) فَلَا تُتَّخَذُ مُوَافَقَةُ الْوَحْيِ لِبَعْضِ تِلْكَ الْأَسَاطِيرِ شُبْهَةً عَلَى الْوَحْيِ. وَسَنَزِيدُ مَسْأَلَةَ عِبَادَةِ الْجِنِّ بَيَانًا فِي مَوَاضِعَ أُخْرَى إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى.

(بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) هَذَا بَيَانٌ لِمَا قَبْلَهُ مِنْ مَعْنَى تَسْبِيحِ الْبَارِي وَتَعَالِيهِ عَمَّا يَصِفُهُ بِهِ الْمُشْرِكُونَ. الْبَدْعُ - بِالْفَتْحِ - الْإِنْشَاءُ وَالْإِيجَادُ الْمُبْتَدَأُ، أَوِ الْبِدْعُ - بِالْكَسْرِ - وَالْبَدِيعُ الشَّيْءُ الَّذِي يَكُونُ أَوَّلًا كَمَا قَالَ فِي اللِّسَانِ، وَمِنْهُ الْبِدْعَةُ فِي الدِّينِ، وَيُقَالُ: بَدَعَ الشَّيْءَ (مِنْ بَابِ قَطَعَ) وَأَبْدَعَهُ وَابْتَدَعَهُ. وَقَالَ الرَّاغِبُ: الْإِبْدَاعُ إِنْشَاءُ صَنْعَةٍ بِلَا احْتِذَاءٍ وَاقْتِدَاءٍ، وَمِنْهُ قِيلَ رَكِيَّةٌ بَدِيعٌ أَيْ جَدِيدَةُ الْحَفْرِ. وَإِذَا اسْتُعْمِلَ فِي اللهِ تَعَالَى فَهُوَ إِيجَادُ الشَّيْءِ بِغَيْرِ آلَةٍ وَلَا مَادَّةٍ وَلَا زَمَانٍ وَلَا مَكَانٍ وَلَيْسَ ذَلِكَ إِلَّا لِلَّهِ. وَقَالَ صَاحِبُ اللِّسَانِ: وَالْبَدِيعُ الْمُحْدَثُ الْعَجِيبُ، وَالْبَدِيعُ الْمُبْدَعُ، وَأَبْدَعْتُ الشَّيْءَ اخْتَرَعْتُهُ لَا عَلَى مِثَالٍ، وَالْبَدِيعُ مِنْ أَسْمَاءِ اللهِ تَعَالَى لِإِبْدَاعِهِ الْأَشْيَاءَ وَإِحْدَاثِهِ إِيَّاهَا، وَهُوَ الْبَدِيعُ الْأَوَّلُ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى مُبْدِعٍ، أَوْ يَكُونَ مِنْ بَدَعَ الْخَلْقَ أَوْ بَدَأَهُ. وَاللهُ تَعَالَى كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ:(بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) أَيْ خَالِقُهُمَا وَمُبْدِعُهُمَا فَهُوَ سُبْحَانُهُ الْخَالِقُ الْمُخْتَرِعُ لَا عَنْ مِثَالٍ سَابِقٍ انْتَهَى. وَذَكَرَ أَنَّ بَدِيعًا مِنْ بَدَعَ لَا مِنْ أَبْدَعَ، وَهُوَ مَعْرُوفٌ، فَإِنَّ الْأَصْلَ فِي صِيغَةٍ فَعِيلٍ أَنْ تَكُونَ مِنَ الثُّلَاثِيِّ وَقَدْ سُمِعَ وُرُودُهَا مِنَ

الْأَفْعَالِ الرُّبَاعِيَّةِ شُذُوذًا، وَهِيَ تَأْتِي بِمَعْنَى فَاعِلٍ كَقَدِيرٍ، وَبِمَعْنَى مَفْعُولٍ كَقَتِيلٍ، وَهُوَ هُنَا بِمَعْنَى الْفَاعِلِ أَوِ الصِّفَةِ الْمُشَبِّهَةِ.

وَالْمَعْنَى عَلَى اخْتِلَافِ التَّقْدِيرِ - أَنَّ اللهَ هُوَ الَّذِي بَدَعَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، أَوِ الْبَدِيعُ سَمَاوَاتِهِ وَأَرْضِهِ بِمَا كَانَ مِنْ إِبْدَاعِهِ وَاخْتِرَاعِهِ لَهُمَا، أَوِ الْبَدِيعُ فِيهِمَا بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا شِبْهَ لَهُ وَلَا نَظِيرَ فِيهِمَا، وَإِذَا كَانَ هُوَ الْمُبْدِعُ لِلسَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَلَمْ يُوصَفَا بِكَوْنِهِمَا مِنْ وَلَدِهِ فَكَذَلِكَ الْمَلَائِكَةُ، وَأَوْلَى بِهَذَا وَأَجْدَرُ أَنْ يَكُونَ خَلْقُهُ لِلْمَسِيحِ مِنْ أُمٍّ بِغَيْرِ أَبٍ غَيْرَ مُسَوِّغٍ لِجَعْلِهِ وَلَدًا لَهُ إِذْ قُصَارَى ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ إِبْدَاعًا مَا. وَالْإِبْدَاعُ التَّامُّ - وَهُوَ إِيجَادُ مَا لَمْ يَسْبِقْ لَهُ نَظِيرٌ فِي ذَاتِهِ وَلَا فِي وَصْفِهِ وَلَا فِي سَبَبِهِ إِنْ كَانَ لَهُ سَبَبٌ - لَيْسَ وِلَادَةً، وَأَثَرُ هَذَا الْإِبْدَاعِ وَهُوَ الْمُبْدِعُ لَا يُسَمَّى وَلَدًا ; إِذِ الْوِلَادَةُ مَا كَانَ نَاشِئًا عَنِ ازْدِوَاجٍ بَيْنَ ذَكَرٍ وَأُنْثَى

ص: 541

مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ، وَلَيْسَ لَهُ جِنْسٌ فَيَكُونَ لَهُ مِنْهُ زَوْجٌ وَلِذَلِكَ قَالَ:(أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ) أَيْ كَيْفَ يَكُونُ لَهُ - وَهُوَ الْمُبْدِعُ لِكُلِّ شَيْءٍ - وَلَدٌ، وَالْحَالُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ زَوْجٌ يَنْشَأُ الْوَلَدُ مِنِ ازْدِوَاجِهِ بِهَا، وَلَا مَعْنَى لِلْوَلَدِ إِلَّا مَا كَانَ كَذَلِكَ، وَإِنَّمَا صُدُورُ جَمِيعِ الْكَائِنَاتِ السَّمَاوِيَّةِ وَالْأَرْضِيَّةِ عَنْهُ صُدُورُ إِيجَادٍ إِبْدَاعِيٍّ لِلْأُصُولِ الْأُولَى، وَإِيجَادٍ سَبَبِيٍّ كَالْوَالِدِ بَيْنَهَا بِحَسَبِ سُنَنِهِ فِي التَّوَالِي، وَلِذَلِكَ قَالَ:(وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ) خَلْقًا وَلَمْ يَلِدْهُ وِلَادَةً، فَمَا خَرَقْتُمْ لَهُ مِنَ الْوَلَدِ مَخْلُوقٌ لَهُ لَا مَوْلُودٌ مِنْهُ، فَإِنْ خَرَجْتُمْ عَنْ وَضْعِ اللُّغَاتِ وَسَمَّيْتُمْ صُدُورَ الْمَخْلُوقَاتِ عَنْهُ وِلَادَةً فَكُلُّ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَكُونُ مِنْ وَلَدِهِ، وَحِينَئِذٍ يَفُوتُكُمْ مَا أَرَدْتُمْ مِنْ تَخْصِيصِ بَعْضِ الْمَخْلُوقَاتِ بِهَذِهِ الْمَرْتَبَةِ تَفْضِيلًا لَهَا عَلَى غَيْرِهَا، وَلَا يَقُولُ أَحَدٌ مِنْهُمْ بِهَذَا، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافِيَّةٌ مُقَرِّرَةٌ لِإِنْكَارِ نَفْيِ الْوَلَدِ، أَوْ حَالٍ بَعْدَ حَالٍ، وَاسْتِدْلَالٍ بَعْدَ اسْتِدْلَالٍ، وَمَثَلُهَا قَوْلُهُ:(وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) وَبَيَانُهُ أَنَّ عِلْمَهُ بِكُلِّ شَيْءٍ ذَاتِيٌّ لَهُ، وَلَا يَعْلَمُ كُلَّ شَيْءٍ إِلَّا الْخَالِقُ لِكُلِّ شَيْءٍ (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ) 67: 14 وَلَوْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ لَكَانَ هُوَ أَعْلَمَ بِهِ وَلَهَيَّأَ الْعُقُولَ إِلَيْهِ بِآيَاتِ الْوَحْيِ وَدَلَائِلِ الْعِلْمِ، وَلَكِنَّهُ كَذَّبَ الَّذِينَ خَرَقُوهُ لَهُ - بِغَيْرِ عِلْمٍ - بِالْوَحْيِ الْمُؤَيَّدِ بِدَلَائِلَ الْعَقْلِ، قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: وَفِي الْآيَةِ اسْتِدْلَالٌ عَلَى نَفْيِ الْوَلَدِ مِنْ وُجُوهٍ: (الْأَوَّلُ) أَنَّهُ مِنْ مُبْدَعَاتِهِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ، وَهِيَ مَعَ أَنَّهَا مِنْ جِنْسٍ مَا يُوصَفُ بِالْوِلَادَةِ مُبَرَّأَةٌ عَنْهَا لِاسْتِمْرَارِهَا وَطُولِ مُدَّتِهَا، فَهُوَ

أَوْلَى بِأَنْ يَتَعَالَى عَنْهَا، (وَالثَّانِي) أَنَّ الْمَعْقُولَ مِنَ الْوَلَدِ مَا يَتَوَلَّدُ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى مُتَجَانِسَيْنِ، وَاللهُ تَعَالَى مُنَزَّهٌ مِنَ التَّجَانُسِ، (وَالثَّالِثُ) أَنَّ الْوَلَدَ كُفْءٌ لِلْوَالِدِ، وَلَا كُفْءَ لَهُ لِوَجْهَيْنِ، الْأَوَّلُ: أَنَّ كُلَّ مَا عَدَاهُ مَخْلُوقُهُ فَلَا يُكَافِئُهُ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ لِذَاتِهِ عَالِمٌ بِكُلِّ الْمَعْلُومَاتِ وَلَا كَذَلِكَ غَيْرُهُ بِالْإِجْمَاعِ انْتَهَى، وَقَدْ تَقَدَّمَ مِثْلُ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ.

(ذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ) الْخُطَّابُ لِلْمُشْرِكِينَ الْمَحْجُوجِينَ أَوْ لِجَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ، وَالْإِشَارَةُ إِلَى الْأَشْيَاءِ، وَإِحَاطَةُ الْعِلْمِ بِالْجَلِيَّاتِ وَالْخَفِيَّاتِ مِنَ الْمَشْهُودَاتِ وَالْغَائِبَاتِ، أَيْ ذَلِكَ الَّذِي شَأْنُهُ مَا ذَكَرَ هُوَ اللهُ رَبُّكُمْ لَا مَنْ خَرَقُوا لَهُ مِنَ الْأَوْلَادِ، وَأَشْرَكُوا بِهِ مِنَ الْأَنْدَادِ، فَاعْبُدُوهُ إِذًا وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ، فَإِنَّمَا الْإِلَهُ الْمُسْتَحِقُّ لِلْعِبَادَةِ هُوَ الرَّبُّ الْخَالِقُ وَمَا عَدَاهُ مَخْلُوقٌ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَعْبُدَ خَالِقَهُ، فَكَيْفَ يَعْبُدُهُ وَيُؤَلِّهُهُ مَنْ هُوَ مِثْلُهُ فِي ذَلِكَ؟ (وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) أَيْ وَهُوَ مَعَ كُلِّ مَا ذَكَرَ مَوْكُولٌ إِلَيْهِ كُلُّ شَيْءٍ يَتَصَرَّفُ فِيهِ وَيُدَبِّرُهُ بِعِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ، يُقَالُ: فُلَانٌ وَكَيْلٌ عَلَى عَقَارِ فُلَانٍ وَمَالِهِ، وَقِيلَ: إِنَّ الْوَكِيلَ هُنَا بِمَعْنَى الرَّقِيبِ، وَفِي سُورَةِ الْمُؤْمِنِ:

ص: 542

(ذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) 40: 62 قَامَ فِيهِ وَصْفُهُ بِالْخَلْقِ عَلَى كَلِمَةِ التَّوْحِيدِ عَكْسَ مَا هُنَا، لِأَنَّ مَا هُنَا رَدٌّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ فَنَاسَبَ فِيهِ تَقْدِيمُ كَلِمَةِ التَّوْحِيدِ، وَآيَةُ سُورَةِ " الْمُؤْمِنِ " جَاءَتْ بَيْنَ آيَاتٍ فِي خَلْقِ وَنِعَمِ اللهِ فِيهِ فَنَاسَبَ تَقْدِيمُ الْوَصْفِ بِالْخَلْقِ فِيهَا عَلَى التَّوْحِيدِ الَّذِي هُوَ نَتِيجَةٌ لِذَلِكَ وَغَايَةٌ.

(لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ) الْبَصَرُ الْعَيْنُ إِلَّا أَنَّهُ مُذَكَّرٌ، وَأَبْصَرْتُ الشَّيْءَ رَأَيْتُهُ، وَقِيلَ: الْبَصَرُ حَاسَّةُ الرُّؤْيَةِ، ابْنُ سِيدَهْ: الْبَصَرُ حُسْنُ الْعَيْنِ وَالْجَمْعُ أَبْصَارٌ، ذَكَرَهُ فِي اللِّسَانِ وَقَالَ الرَّاغِبُ: الْبَصَرُ يُقَالُ لِلْجَارِحَةِ النَّاظِرَةِ، نَحْوَ قَوْلِهِ:(كَلَمْحِ الْبَصَرِ)(وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ) 33: 10 وَلِلْقُوَّةِ الَّتِي فِيهَا، وَالْإِدْرَاكُ اللِّحَاقُ وَالْوُصُولُ إِلَى الشَّيْءِ، قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ، وَأَتْبَعَ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ بَنِي إِسْرَائِيلَ (فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ) 26: 61 وَيُقَالُ: أَدْرَكَهُ الطَّرْفُ وَالْمَوْتُ وَمِنْهُ (حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ) 10: 90 فِي كُلِّ ذَلِكَ مَعْنَى اللِّحَاقِ بَعْدَ اتِّبَاعٍ حِسِّيٍّ أَوْ مَعْنَوِيٍّ وَالدَّرْكُ - بِالْفَتْحِ - أَقْصَى قَعْرِ

الْبَحْرِ، وَمِنْهُ (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ) 4: 145 قُرِئَ بِالْفَتْحِ وَالتَّحْرِيكِ، وَقَالَ الرَّاغِبُ: الدَّرْجُ كَالدَّرْكِ لَكِنَّ الدَّرْجَ يُقَالُ بِاعْتِبَارِ الصُّعُودِ وَالدَّرْكَ اعْتِبَارًا بِالْحُدُورِ وَأَدْرَكَ بَلَغَ أَقْصَى الشَّيْءِ، وَأَدْرَكَ الصَّبِيُّ بَلَغَ غَايَةَ الصِّبَا وَذَلِكَ حِينَ الْبُلُوغِ، انْتَهَى وَيُقَالُ فِيمَا بَعُدَ أَوْ دَقَّ أَوْ خَفِيَ: لَا يُدْرِكُهُ الطَّرْفُ، فَإِنَّ اجْتِهَادَ النَّظَرِ لِإِدْرَاكِ مَا لَطُفَ وَدَقَّ إِعْمَالُهُ فِي مُحَاوَلَةِ إِبْصَارِ الْبَعِيدِ، فَفِي الْإِدْرَاكِ مَعْنَى اللُّحُوقِ وَمَعْنَى بُلُوغِ غَايَةِ الشَّيْءِ، وَمِنْ هُنَا فَسَّرَ الْجُمْهُورُ الْإِدْرَاكَ فِي الْآيَةِ بِرُؤْيَةِ الْإِحَاطَةِ الَّتِي يُعْرَفُ بِهَا كُنْهُهُ عز وجل فَتَكُونُ بِمَعْنَى (يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا) 20: 110 نَفْيُ إِحَاطَةِ الْعِلْمِ لَا يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ أَصْلِ الْعِلْمِ، وَكَذَلِكَ نَفْيُ إِدْرَاكِ الْبَصَرِ لِلشَّيْءِ لَا يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ رُؤْيَتِهِ إِيَّاهُ مُطْلَقًا، وَهَذَا أَقْوَى مَا جَمَعَ بِهِ أَهْلُ السُّنَّةِ بَيْنَ الْآيَةِ وَالْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ النَّاطِقَةِ بِرُؤْيَةِ الْمُؤْمِنِينَ لِرَبِّهِمْ فِي الْآخِرَةِ مِنْ جِهَةِ اللُّغَةِ، وَمَنْ سَلَّمَ لِلْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ مُنْكِرِي الرُّؤْيَةِ قَوْلَهُمْ إِنَّ الْإِدْرَاكَ هُنَا بِمَعْنَى الرُّؤْيَةِ مُطْلَقًا قَالُوا: إِنَّ النَّفْيَ خَاصٌّ بِحَالِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا الَّتِي يَعْهَدُهَا الْمُخَاطَبُونَ وَلَا يَعْرِفُونَ فِيهَا رُؤْيَةً إِلَّا لِلْأَجْسَامِ وَصِفَاتِهَا مِنَ الْأَشْكَالِ وَالْأَلْوَانِ، وَهِيَ الَّتِي يُشْتَرَطُ فِيهَا مَا ذَكَرُوهُ كَالْمُقَابَلَةِ وَعَدَمِ الْحَائِلِ، وَقَالُوا: إِنَّ عَائِشَةَ كَانَتْ تُثْبِتُ الرُّؤْيَةَ فِي الْآخِرَةِ وَتَنْفِيهَا فِي الدُّنْيَا حَتَّى عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ الَّذِي كَانَ يَرَى مِنْ وَرَاءِهِ كَمَا يَرَى مِنْ أَمَامِهِ لِغَلَبَةِ رُوحِهِ الشَّرِيفَةِ اللَّطِيفَةِ عَلَى جُثَّتِهِ الْمَنِيفَةِ، وَقَدْ جَلَيَّنَا مَسْأَلَةَ رُؤْيَةِ الرَّبِّ فِي الْآخِرَةِ فِي بَابِ الْفَتْوَى مِنْ مُجَلَّدٍ الْمَنَارِ التَّاسِعَ عَشَرَ (ص 282 - 288) وَسَنَعُودُ إِلَيْهَا فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى لِمُوسَى عليه السلام:(لَنْ تَرَانِي) 7: 143

ص: 543

مِنْ سُورَةِ الْأَعْرَافِ إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى، وَهُنَالِكَ نُلِمُّ بِمَسْلَكِ الصُّوفِيَّةِ فِي نَفْيِ الْإِدْرَاكِ وَإِثْبَاتِ الرُّؤْيَةِ لِلرَّبِّ، بِتَجَلِّيهِ تَعَالَى الَّذِي يَكُونُ هُوَ بِهِ بَصَرُ الْعَبْدِ الثَّابِتُ فِي الْحَدِيثِ الْقُدْسِيِّ " وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبَصِرُ بِهِ " الْحَدِيثَ، وَهُوَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ، وَخُلَاصَةُ هَذَا الْمَسْلَكِ أَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الَّذِي يَرَى نَفْسَهُ بِتَجَلِّيهِ فِي بَصَرِ عَبْدِهِ، فَمَا يَرَى اللهُ إِلَّا اللهُ، وِفَاقًا لِقَوْلِهِمْ: لَا يَعْرِفُ اللهَ إِلَّا اللهُ.

وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ) فَمَعْنَاهُ أَنَّ اللهَ تَعَالَى يَرَى الْعُيُونَ الْبَاصِرَةَ أَوْ قُوَى الْإِبْصَارِ الْمُودَعَةَ فِيهَا رُؤْيَةَ إِدْرَاكٍ وَإِحَاطَةٍ، بِحَيْثُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ حَقِيقَتُهَا وَلَا مِنْ عَمَلِهَا شَيْءٌ، وَقَدْ عَرَفَ الْبَشَرُ مِنْ تَشْرِيحِ الْعَيْنِ مَا تَتَرَكَّبُ مِنْهُ طَبَقَاتُهَا وَرُطُوبَاتُهَا وَوَظَائِفَ كُلٍّ مِنْهَا فِي ارْتِسَامِ الْمَرْئِيَّاتِ فِيهَا، وَعَرَفُوا كَثِيرًا مِنْ سُنَنِ اللهِ تَعَالَى فِي النُّورِ وَوَظَائِفِهِ فِي رَسْمِ صُوَرِ الْأَشْيَاءِ فِي الْعَيْنَيْنِ، وَلَكِنْ لَمْ يَعْرِفُوا كُنْهَ الرُّؤْيَةِ وَلَا كُنْهَ قُوَّةِ الْإِبْصَارِ وَلَا حَقِيقَةَ النُّورِ، وَفِي لِسَانِ الْعَرَبِ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ: أَعْلَمَ اللهُ أَنَّهُ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ، وَفِي هَذَا الْإِعْلَامِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ خَلْقَهُ لَا يُدْرِكُونَ الْإِبْصَارَ، أَيْ لَا يَعْرِفُونَ حَقِيقَةَ الْبَصَرِ، وَمَا الشَّيْءُ الَّذِي صَارَ بِهِ الْإِنْسَانُ يُبْصِرُ مِنْ عَيْنَيْهِ دُونَ أَنْ يُبْصِرَ مِنْ غَيْرِهِمَا مِنْ سَائِرِ أَعْضَائِهِ فَاعْلَمْ أَنَّ خَلْقًا مِنْ خَلْقِهِ اللَّطِيفِ الْخَبِيرِ، فَأَمَّا مَا جَاءَ مِنَ الْأَخْبَارِ فِي الرُّؤْيَةِ وَصَحَّ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَغَيْرُ مَدْفُوعٍ، وَلَيْسَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى دَفْعِهَا، لِأَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ إِدْرَاكُ الشَّيْءِ وَالْإِحَاطَةُ بِحَقِيقَتِهِ وَهَذَا مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ اهـ.

(وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) أَيْ وَهُوَ اللَّطِيفُ بِذَاتِهِ، الْبَاطِنُ فِي غَيْبِ وَجُودِهِ بِحَيْثُ تَخْسَأُ الْأَبْصَارُ دُونَ إِدْرَاكِ حَقِيقَتِهِ، عَلَى أَنَّهُ الظَّاهِرُ بِآيَاتِهِ الَّتِي تَعْرِفُهُ بِهَا الْعُقُولُ بِطَرِيقِ الْبُرْهَانِ، الظَّاهِرُ فِي مَجَالِ رُبُوبِيَّتِهِ لِأَهْلِ الْعِرْفَانِ، بِتَجَلِّيَاتِهِ الَّتِي تَكْمُلُ فِي الْآخِرَةِ فَيَكُونُ الْعِلْمُ بِهِ رُؤْيَةَ عَيَانٍ، وَهُوَ فِي كُلٍّ مِنْ بُطُونِهِ وُظُهُورِهِ مُنَزَّهٌ عَنْ مُشَابَهَةِ الْخَلْقِ فَتَعَالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَهُوَ الْخَبِيرُ بِدَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ وَلَطَائِفِهَا، بِحَيْثُ لَا يَعْزُبُ عَنْ إِدْرَاكِهِ أَلْطَفُ أَرْوَاحِهَا وَقُوَاهَا وَلَا أَدَقُّ جَوَاهِرِهَا وَأَعْرَاضِهَا، فَفِي الْآيَةِ لَفٌّ وَنَشْرٌ مُرَتَّبٌ.

اللَّطِيفُ مِنَ الْأَجْرَامِ ضِدُّ الْكَثِيفِ وَالْغَلِيظِ فَيُطْلَقُ عَلَى الدَّقِيقِ مِنْهَا وَالرَّقِيقِ، وَاللَّطِيفُ مِنَ الطِّبَاعِ ضِدُّ الْجَافِي، قَالَ فِي اللِّسَانِ: وَاللَّطِيفُ مِنَ الْأَجْرَامِ وَالْكَلَامِ مَالَا خَفَاءَ فِيهِ، وَجَارِيَةٌ لَطِيفَةٌ ضِدُّ الْجَافِيَةِ، قَالَ فِي اللِّسَانِ: وَاللَّطِيفُ مِنَ الْأَجْرَامِ وَمِنَ الْكَلَامِ.

مَا لَا خَفَاءَ فِيهِ وَجَارِيَةٌ لَطِيفَةُ الْخَصْرِ إِذَا كَانَتْ ضَامِرَةَ الْبَطْنِ، وَاللَّطِيفُ مِنَ الْكَلَامِ مَا غَمُضَ مَعْنَاهُ وَخَفِيَ، وَاللُّطْفُ فِي الْعَمَلِ الرِّفْقُ فِيهِ انْتَهَى، وَكَذَا اللُّطْفُ فِي الْمُعَامَلَةِ هُوَ الرِّفْقُ الَّذِي لَا يَثْقُلُ مِنْهُ شَيْءٌ، وَيُسْتَعْمَلُ فِعْلُهُ

ص: 544

لَازِمًا وَمُتَعَدِّيًا، يُقَالُ: لَطُفَ الشَّيْءُ (بِوَزْنِ حَسُنَ) أَيْ صَغُرَ أَوْ دَقَّ وَصَارَ لَطِيفًا. وَيُقَالُ: لَطَفَ بِهِ وَلَطَفَ لَهُ (بِوَزْنِ نَصَرَ) وَقَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي تَفْسِيرِ اللَّطِيفِ. مِنْ أَسْمَاءِ اللهِ

تَعَالَى: هُوَ الَّذِي اجْتَمَعَ لَهُ الرِّفْقُ فِي الْفِعْلِ وَالْعِلْمُ بِدَقَائِقَ الْمَصَالِحِ وَإِيصَالِهَا إِلَى مَنْ قَدَّرَهَا لَهُ مِنْ خَلْقِهِ انْتَهَى. أَرْجَعَهُ إِلَى صِفَاتِ الْأَفْعَالِ وَإِلَى الْعِلْمِ مِنْ صِفَاتِ الْمَعَانِي. وَهُوَ فِي الْأَوَّلِ أَظْهَرُ وَأَكْثَرُ مِنَ الثَّانِي، فَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْحَجِّ بَعْدَ ذِكْرِ الْإِنْبَاتِ بِالْمَاءِ:(إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ) 22: 63 وَقَوْلُهُ فِي سُورَةِ الشُّورَى: (اللهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ) 42: 19 أَيْ رَفِيقٌ بِهِمْ يُوصِلُ إِلَيْهِمُ الْخَيْرَ وَالرِّزْقَ، بِمُنْتَهَى الْعِنَايَةِ وَالرِّفْقِ. وَفِي سُورَةِ يُوسُفَ حِكَايَةٌ عَنْهُ (إِنَّ رَبِّي لِطَيْفٌ لِمَا يَشَاءُ) 12: 100 فَسَّرُوهُ بِلُطْفِ التَّدْبِيرِ وَالْعِنَايَةِ بِهِ وَبِأَبَوَيْهِ وَإِخْوَتِهِ بِجَمْعِ شَمْلِهِمْ بَعْدَ أَنْ نَزْغَ الشَّيْطَانُ بَيْنَهُمْ. وَعَدَّ بَعْضُهُمْ مِنْ لُطْفِ الْعِلْمِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ لُقْمَانَ حِكَايَةً عَنْهُ (يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِي بِهَا اللهُ إِنَّ اللهَ لِطَيْفٌ خَبِيرٌ) 31: 16 وَالْأَظْهَرُ فِي مَعْنَاهُ هُنَا أَنَّهُ اللَّطِيفُ بِاسْتِخْرَاجِهَا مِنْ كِنِّ خَفَائِهَا الْخَبِيرُ بِمَكَانِهَا مِنْهُ، وَنَزِيدُ عَلَيْهِمْ أَنَّ مِنْ لُطْفِهِ تَعَالَى جَعَلَ أَحْكَامَ دِينِهِ يُسْرًا لَا حَرَجَ فِيهَا وَهِيَ مِنْ صِفَةِ الْكَلَامِ الَّذِي هُوَ مَظْهَرٌ لِعِلْمِهِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ، فِي آخِرِ مَا خَاطَبَ بِهِ نِسَاءَ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْمَوَاعِظِ وَالْحِكَمِ وَالْأَحْكَامِ:(وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا) 33: 34 فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا الشَّاهِدُ عَلَى لُطْفِهِ تَعَالَى فِي ذَاتِهِ، الْمُنَاسِبُ فِي الْكَمَالِ لِلُطْفِهِ فِي صِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ وَأَحْكَامِهِ، وَهُوَ الْآيَةُ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِ تَفْسِيرِهَا لَا يَظْهَرُ فِيهَا غَيْرُهُ.

وَالْمُتَكَلِّمُونَ يَأْبَوْنَ جَعْلَ اللَّطِيفِ مِنْ صِفَاتِ الذَّاتِ لَهُ سُبْحَانَهُ - كَالرَّحِيمِ وَالْحَلِيمِ - وَالْأَثَرِيُّونَ وَالصُّوفِيَّةُ لَا يَأْبَوْنَ مِثْلَ ذَلِكَ بَلْ يُثْبِتُونَهُ، وَقَدْ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي الْآيَةِ كَلِمَةً تُشْبِهُ أَنْ تَكُونَ تَأْيِيدًا لِمَذَاهِبِ أَهْلِ الْأَثَرِ وَالصُّوفِيَّةِ وَهُوَ مُعْتَزِلِيُّ مُبَالِغٌ فِي التَّنْزِيهِ، وَقَدْ تَابَعَهُ عَلَيْهَا الْمُفَسِّرُونَ مِنَ الْأَشَاعِرَةِ وَغَيْرِهِمْ كَالرَّازِيِّ وَالْبَيْضَاوِيِّ وَأَبِي السُّعُودِ وَالْآلُوسِيِّ قَالَ: وَهُوَ لَطِيفٌ يَلْطُفُ عَنْ أَنْ تُدْرِكَهُ الْأَبْصَارُ، الْخَبِيرُ بِكُلِّ لَطِيفٍ فَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ لَا تَلْطُفُ عَنْ إِدْرَاكِهِ، وَهَذَا مِنْ بَابِ اللَّفِّ انْتَهَى. نَقَلُوا هَذَا الْمَعْنَى عَنْهُ وَجَعَلُوا اللَّطِيفَ مُسْتَعَارًا مِنْ مُقَابِلِ الْكَثِيفِ لِمَا لَا يُدْرَكُ بِالْحَاسَّةِ وَلَا يَنْطَبِعُ فِيهَا.

قَالَ الْآلُوسِيُّ: وَيُفْهَمُ مِنْ ظَاهِرِ كَلَامِ الْبَهَائِيِّ - كَمَا قَالَ الشِّهَابُ - أَنَّهُ لَا اسْتِعَارَةَ فِي ذَلِكَ حَيْثُ قَالَ فِي شَرْحِ أَسْمَاءِ اللهِ تَعَالَى الْحُسْنَى: اللَّطِيفُ الَّذِي يُعَامِلُ عِبَادَهُ

بِاللُّطْفِ، وَأَلْطَافُهُ جَلَّ شَأْنُهُ لَا تَتَنَاهَى ظَوَاهِرُهَا وَبَوَاطِنُهَا فِي الْأُولَى وَالْأُخْرَى (وَإِنْ تَعُدُّوَا نِعْمَةَ اللهِ لَا تُحْصُوهَا) 14: 34 وَقِيلَ: اللَّطِيفُ الْعَلِيمُ بِالْغَوَامِضِ وَالدَّقَائِقِ، مِنَ الْمَعَانِي وَالْحَقَائِقِ ; وَلِذَا يُقَالُ لِلْحَاذِقِ فِي صَنْعَتِهِ لِطَيْفٌ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنَ اللَّطَافَةِ الْمُقَابِلَةِ لِلْكَثَافَةِ. وَهُوَ وَإِنْ كَانَ فِي ظَاهِرِ الِاسْتِعْمَالِ مِنْ أَوْصَافِ الْجِسْمِ، لَكِنَّ اللَّطَافَةَ الْمُطْلَقَةَ لَا تُوجَدُ فِي الْجِسْمِ لِأَنَّ الْجِسْمِيَّةَ يَلْزَمُهَا

ص: 545

الْكَثَافَةُ، وَإِنَّمَا لَطَافَتُهَا بِالْإِضَافَةِ، فَاللَّطَافَةُ الْمُطْلَقَةُ لَا يَبْعُدُ أَنْ يُوصَفَ بِهَا النُّورُ الْمُطْلَقُ الَّذِي يَجِلُّ عَنْ إِدْرَاكِ الْبَصَائِرِ فَضْلًا عَنِ الْأَبْصَارِ، وَيَعِزُّ عَنْ شُعُورِ الْإِسْرَارِ فَضْلًا عَنِ الْأَفْكَارِ، وَيَتَعَالَى عَنْ مُشَابَهَةِ الصُّوَرِ وَالْأَمْثَالِ، وَيُنَزَّهُ عَنْ حُلُولِ الْأَلْوَانِ وَالْأَشْكَالِ، فَإِنَّ كَمَالَ اللَّطَافَةِ إِنَّمَا يَكُونُ لِمَنْ هَذَا شَأْنُهُ، وَوَصْفُ الْغَيْرِ بِهَا لَا يَكُونُ عَلَى الْإِطْلَاقِ، بَلْ بِالْقِيَاسِ إِلَى مَا دُونَهُ فِي اللَّطَافَةِ، وَيُوصَفُ بِالْإِضَافَةِ إِلَيْهِ بِالْكَثَافَةِ، انْتَهَى. وَتَعَقَّبَهُ الْآلُوسِيُّ بِقَوْلِهِ: وَالْمُرَجَّحُ أَنَّ إِطْلَاقَ اللَّطِيفِ بِمَعْنَى مُقَابِلِ الْكَثِيفِ - عَلَى مَا يَنْسَاقُ إِلَى الذِّهْنِ - عَلَى اللهِ تَعَالَى لَيْسَ بِحَقِيقَةٍ أَصْلًا كَمَا لَا يَخْفَى اهـ.

وَأَقُولُ: إِنَّ مَا ذُكِرَ فِي هَذَا الْكَلَامِ اللَّطِيفُ مِنْ إِثْبَاتِ اللُّطْفِ بِالذَّاتِ لِلَذَّاتِ الَّتِي لَا تُشْبِهُهَا الذَّوَاتُ، وَمِنَ الْإِشَارَةِ إِلَى تَضْعِيفِ جَعْلِ اللَّطِيفِ بِمَعْنَى الْعَلِيمِ بِالدَّقَائِقِ كِلَاهُمَا مِنْ بَابِ الْحَقَائِقِ، إِذْ مَا فُسِّرَ بِهِ اللَّطِيفَ هُنَا هُوَ مَعْنَى الْخَبِيرِ، وَقَوْلُهُ: إِنَّ اللَّطَافَةَ الْمُطْلَقَةَ لَا تُوجَدُ فِي الْجِسْمِ إِلَخْ، لَهُ وَجْهٌ مِنَ اللُّغَةِ، وَلَكِنَّ الْجِسْمَ فِي عُرْفِ عُلَمَاءِ الْمَعْقُولِ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ وَالْحُكَمَاءِ أَعَمُّ مِنَ الْجِسْمِ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ، وَمَدْلُولِ اشْتِقَاقِهَا. فَالْجِسْمُ فِي اللُّغَةِ مِنَ الْجَسَامَةِ أَيِ الضَّخَامَةِ، وَهُوَ كَمَا فِي اللِّسَانِ وَغَيْرِهِ: جَمَاعَةُ الْبَدَنِ أَوِ الْأَعْضَاءِ مِنَ النَّاسِ وَالْإِبِلِ وَالدَّوَابِّ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْأَنْوَاعِ الْعَظِيمَةِ الْخَلْقِ وَأَمَّا فِي عُرْفِ الْعُلَمَاءِ فَهُوَ الْقَابِلُ لِلْقِسْمَةِ أَوْ مَا لَهُ طُولٌ وَعَرْضٌ وَعُمْقٌ، وَالْمَوْجُودَاتُ الْمَادِّيَّةُ أَعَمُّ مِنْ هَذَا أَيْضًا، وَقَدْ عُرِفَ فِي عُلُومِ الْكَوْنِ وَاتِّسَاعِهَا فِي هَذَا الْعَصْرِ مَا هُوَ أَلْطَفُ مِنْ كُلِّ مَا كَانَ يُعْرَفُ فِي الْعُصُورِ الْخَالِيَةِ الَّتِي كَانَ يُضْرَبُ فِيهَا الْمَثَلُ بِلُطْفِ الْهَوَاءِ أَوِ النَّسِيمِ، إِذْ ثَبَتَ أَنَّ هَذَا النَّسِيمَ اللَّطِيفَ مُرَكَّبٌ مِنْ عُنْصُرَيْنِ كُلٌّ مِنْهَا أَلْطَفُ مِنَ الْمَجْمُوعِ الْمُرَكَّبِ مِنْهُمَا، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ لِلْهَوَاءِ الْمُحِيطِ بِأَرْضِنَا حَدًّا قَرِيبًا، وَأَنْ فِي الْكَوْنِ مَوْجُودًا آخَرَ أَلْطَفُ مِنْهُ وَمِنْ كُلٍّ مِنْ عُنْصُرَيْهِ وَأَمْثَالِهِمَا مِنَ الْعَنَاصِرِ الْبَسِيطَةِ اللَّطِيفَةِ الْخَفِيَّةِ، وَهُوَ الَّذِي يَحْمِلُ النُّورَ وَالْحَرَارَةَ

مِنَ الشُّمُوسِ وَالْكَوَاكِبِ الْمُتَفَاوِتَةِ الْأَبْعَادِ الشَّاسِعَةِ إِلَى هَوَائِنَا فَأَرْضِنَا وَيُسَمُّونَهُ (الْأَثِيرَ) فَهَذَا الْمَوْجُودُ السَّارِي فِي جَمِيعِ الْكَائِنَاتِ، الرَّابِطُ لِبَعْضِهَا بِبَعْضٍ كَمَا يَجْزِمُ بِهِ عُلَمَاءُ الْكَوْنِ نَظَرًا وَاسْتِدْلَالًا، قَدْ لَطُفَ عَنْ أَدْرَاكِ الْعُيُونِ وَعَنْ تَصَرُّفِ أَيْدِي الْكِيمَاوِيِّينَ الَّذِينَ يُرْجِعُونَ الْمَاءَ وَالْهَوَاءَ وَغَيْرَهُمَا مِنَ الْمُرَكَّبَاتِ إِلَى بَسَائِطِهَا اللَّطِيفَةِ الَّتِي لَا تُرَى، وَيَتَصَرَّفُونَ فِيهَا أَنْوَاعًا مِنَ التَّصَرُّفِ، وَيَسْتَعْمِلُونَهَا فِي كَثِيرٍ مِنَ الْمَضَارِّ وَالْمَنَافِعِ، وَيَرَى بَعْضُ الْمُثْبِتِينَ لِاسْتِقْلَالِ الْأَرْوَاحِ الْبَشَرِيَّةِ وَقُدْرَتِهَا عَلَى الشَّكْلِ فِي الْأَشْبَاحِ اللَّطِيفَةِ وَالْكَثِيفَةِ أَنَّهَا تَسْتَعِينُ عَلَى هَذَا التَّشَكُّلِ بِالْأَثِيرِ، فَأَلْطَفُ شَبَحٍ تَتَجَلَّى بِهِ يَتَّخِذُ مِنَ الْأَثِيرِ الْمُكَثَّفِ بَعْضَ التَّكْثِيفِ بِحَيْثُ تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ، وَلَا يَمْنَعُهُ ذَلِكَ مِنَ النُّفُوذِ فِي كَثَائِفِ الْأَجْرَامِ، وَقَدْ تَأْخُذُ شَبَحًا لَهَا مِنْ جِسْمِ بَشَرٍ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ تَنَاسُبٌ كَمُسْتَحْضِرِي. الْأَرْوَاحِ، فَإِذَا خُلِعَتِ الرُّوحُ مِنْ هَذَا الثَّوْبِ امْتَنَعَتْ رُؤْيَتُهَا لِتَنَاهِي لَطَافَتِهَا.

وَإِذَا كَانَ كُلُّ مَوْجُودٍ فِي كُلِّ رُتْبَةٍ مِنْ رُتَبِ الْوُجُودِ، وَكُلِّ صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِ تِلْكَ

ص: 546